تفسير سورة الفرقان

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه

تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾

قولُه تعالى: ﴿وإذَا خَاطَبَهُم الجاهِلونَ قَالُوا سَلاَماً﴾:
أَكثرُ الناس على أن هذا منسوخ بالأمر بالقتال والقتل، وكان هذا بمكةَقبل أن يؤمروا بالقتال. وليس قولُهم: سلاماً، من السلام الذي هوالتحية، إنما هو من السلام الذي هو التَّبَرُّأ، فالمعنى أنهم كانوا إذاخاطبهم الكفار قالوا: (سلاماً) منكم، أي: براءةً منكم.
فإن قيل: إن لفظ هذا خبر فكيف أجزتَ فيه النسخ؟
فالجواب: أن هذا ليس من الخبر الذي لا يجوز نسخُه، لأنه ليس فيهخبرٌ من الله لنا عن شيء يكون أو شيء كان فَنُسِخَ بأنه لا يكون، أو بأنه لميكن - هذا الذي لا يجوز فيه النسخ - وإنما هذا خبرٌ من الله لنا أن هذا الأمرَكان مِن فعل هؤلاء الذين هُم عبادُ الرَّحمن قبل أن يؤمروا بالقتال، وأَعْلَمَنافي موضعٍ آخر نزل بعد فعلهم ذلك، أَنه أَمَر بقتالِهم وقتلِهِم فنسخَاللهُ ما كانوا عليه، ولو أَعْلَمَنا الله في موضع آخر عن عباد الله أنهملم يكونوا يقولون للجاهلين سلاماً، لكان ذلك نسخاً للخبر الأول، وهذا لايجوز وهو نسخ الخبر بعينه، والله يتعالى عن ذلك. فإذا كان الخبر (بعينه)حكايةً عن فعل قومٍ جازَ نسخُ ذلك (الفعل) الذي أخبرنا الله تعالى بهعنهم بأن يأمرنا أن لا نَفْعَلَه، ولا يجوز نسخُ الخبر والحكايةِ بعينها، بأنهالم تكن أو (كانت) على خلاف ما (أخبرنا به) أولاً، فاعرف الفرق في ذلك.
قال أبو محمد: وقد تقدَّمَ القول (في ذلك) في قوله تعالى:﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ﴾، وذكرنا قولَ من قال: إنه منسوخٌ بقوله تعالى:﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾ - الآية - وقولُ مَنْ قال: إنه مُحْكَم، وبيَّنا ذلككُلَّه في سورة النساء، عند قوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً﴾. الآية -.

سورة الفرقان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفُرْقان) من السُّوَر المكِّية التي تحدَّثتْ عن معجزةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وما أيَّده اللهُ به؛ وهو هذا القرآنُ الكريم، ودلَّلت السورة على أن هذا الكتابَ جاء فُرْقانًا بين الحق والباطل؛ فلم يترُكْ خيرًا إلا دلَّ عليه، ولم يترُكْ شرًّا إلا حذَّر منه، وقد جاءت هذه السورة بشُبهاتِ الكفار والمعانِدين، ورَدَّتْها بما يؤيد صِدْقَ رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت الحُجَّةَ على كلِّ مَن ترك الحقَّ ومال إلى الباطل؛ لأن اللهَ أوضَحَ طريقَ الحق، وأبانه أيَّما بيانٍ؛ فللهِ الحُجَّةُ البالغة!

ترتيبها المصحفي
25
نوعها
مكية
ألفاظها
897
ترتيب نزولها
42
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
77
العد الكوفي
77
العد الشامي
77

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «سألتُ أو سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الذَّنْبِ عند اللهِ أكبَرُ؟ قال: «أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم أن تقتُلَ ولَدَك خشيةَ أن يَطعَمَ معك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: أن تُزَانِيَ بحَلِيلةِ جارِك»، قال: ونزَلتْ هذه الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]». أخرجه البخاري (٤٧٦١).

وفيها سببٌ آخَرُ:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّرْكِ كانوا قد قتَلوا وأكثَروا، وزَنَوْا وأكثَروا، فأتَوْا مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحسَنٌ، لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً؛ فنزَلَ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]، ونزَلتْ: {قُلْ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌اْلَّذِينَ ‌أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ} [الزمر: 53]». أخرجه البخاري (٤٨١٠).

* قوله تعالى: {إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ ‌وَءَامَنَ ‌وَعَمِلَ ‌عَمَلٗا ‌صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ اْللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ اْللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قال ابنُ أَبْزَى: سَلِ ابنَ عباسٍ عن قولِه تعالى: {وَمَن ‌يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا} [النساء: 93]، وقولِه: {وَلَا ‌يَقْتُلُونَ ‌اْلنَّفْسَ ‌اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ} [الفرقان: 68] حتى بلَغَ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ} [الفرقان: 70]،  فسألْتُه، فقال: لمَّا نزَلتْ، قال أهلُ مكَّةَ: فقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأتَيْنا الفواحشَ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا} إلى قولِه: {غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]». أخرجه البخاري (٤٧٦٥).

* سورة (الفُرْقان):

سُمِّيت سورةُ (الفُرْقان) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (الفُرْقان) في افتتاحها، وهو اسمٌ من أسماء القرآن الكريم.

تضمَّنتْ سورةُ (الفُرْقان) عِدَّة موضوعات؛ جاءت على النحو الآتي:

1. صفات الإلهِ الحقِّ، وعَجْزُ الآلهة المزيَّفة (١-٣).

2. شُبهاتهم حول القرآن، وردُّها (٤-٦).

3. شُبهاتهم حول الرسول، وردُّها (٧-١٠).

4. الدوافع الحقيقية وراء تكذيبهم (١١-١٩).

5. سُنَّة الله في اختيار المرسَلين، وعادة المكذِّبين (٢٠-٢٩).

6. شكوى الرسول من قومه، وتَسْليتُه (٣٠-٤٠).

7. الاستهزاء والسُّخْريَّة سلاح العاجز (٤١-٤٤).

8. الحقائق الكونية في القرآن من دلائل النُّبوة (٤٥-٥٥).

9. مهمة الرسول ونهجُه في دعوة المعانِدين (٥٦-٦٢).

10. ثمرات الرسالة الربانية (٦٣-٧٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /270).

مقصدُ السُّورة الأعظم: إظهارُ شَرَفِ الداعي صلى الله عليه وسلم؛ بإنذارِ المكلَّفين عامةً بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التامِّ، المدلول عليه بهذا القرآنِ المبين، المستلزم لأنه لا موجودَ على الحقيقة سِوى مَن أنزله؛ فهو الحقُّ، وما سِواه باطلٌ.

وتسميتُها بـ(الفُرْقان) واضحُ الدَّلالة على ذلك؛ فإن الكتابَ ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبِسات، وتمييزِ الحقِّ من الباطل؛ ليَهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة، ويَحيَى مَن حَيَّ عن بيِّنة؛ فلا يكون لأحدٍ على الله حُجَّةٌ، وللهِ الحُجَّة البالغة!

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /317).