ولقد رأوا في القرآن تطابقا مع بعض ما جاء في الأسفار المتداولة في أيديهم فزعموا أنه مقتبس منها بل تواقحوا بدون وازع من منطق وضمير وحياء وواقع فقالوا إن الإسلام صورة ممسوخة أو نسخة مشوهة من اليهودية والنصرانية متجاهلين ما جاء عليه من نقاء وصفاء وانطوى فيه من علوية وروحانية وأتى به من تصحيح لكل انحراف وتحريف عقائدي وأخلاقي ارتكس فيه اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى. ومن مبادئ وتشريعات وأحكام وتلقينات فيها حلّ لكل مشكلة إيمانية واستجابة لكل مطلب حياتي في كل ظرف فجاء فريدا في صفائه ونقائه وروحانيته وعلويته وكماله لينفذ إلى كل ضمير وقلب وعقل وليترشح بذلك ليكون دين الإنسانية العام. وقد فات عنهم بل تعاموا عن قصد أن الكفار هم الذين زعموا هذا حين كانوا يقولون أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: ٥] فردّه القرآن عليهم ردّا قويا شرحناه آنفا بل وتعاموا عن قصد كذلك أن القرآن إلى هذا قد أعلن ذلك التطابق لا على اعتبار أنه مقتبس ولكن على اعتبار أنه وحي منزل من الله كما كان ينزل على النبيين من قبل حيث يقول بأسلوب قوي نافذ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً
[النساء:
١٦٣- ١٦٦] ووَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: ٤٨]
54
بَعْدِهِمْ
«١» لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:
١٤- ١٥] ووَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٣- ٦٥].
وهذه الآيات وأمثالها التي تضع الأمر في نصابه الحقّ من وحي القرآن الرباني ورسالة الإسلام السامية النقية المصححة المتممة والتي من شأنها أن تستولي على قلب وضمير كل عاقل منصف بريء من الهوى وقصد المكابرة والعناد، تظهر عظيم التجنّي والوقاحة والكذب في الأقوال التي يتقوّلها المغرضون من المستشرقين والمبشرين.
ولقد اتكئوا على المباينة بين ما جاء في القرآن في الظاهر لما هو معروف اليوم من وقائع التاريخ القديم فقالوا إنه ملفق من الحكايات المتداولة المشوبة بالخيال والتحريف متجاهلين أن ذلك من الشؤون الوسائلية التي لا تمسّ جوهر الرسالة العلوي الروحاني ولا تخلّ بمدى الوحي القرآني في حال وأن القرآن في قصصه لا يهدف إلى تأريخ الأحداث والوقائع لذاتها وإنما إلى الموعظة والعبرة والتذكير والتمثيل وأن هذا الهدف إنما يتحقق إذا كانت القصص والوقائع معروفة عند السامعين، وليس هناك أي دليل على عكس ذلك. وفي القرآن آيات عديدة تؤيد ذلك مثل آية العنكبوت هذه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وآية سورة الفرقان هذه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ
56
السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وآية سورة الروم هذه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) وآيات سورة الفجر هذه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠). واتكئوا على ما بين القرآن والأسفار من مباينة في الوقائع فقالوا إنه محرّف مع أنه لا يستطيع أحد أن ينفي احتمال ورود ما ورد في القرآن في أسفار وقراطيس أخرى كانت موجودة في زمن النبي ﷺ وضاعت كما لا ينفي احتمال طروء تحريف على ما في الأيدي اليوم من الأسفار.
ونحن نعتقد ذلك. وقد نبهنا في سياق سورة الأعراف إلى ما كان مفقودا من أسفار ذكرت أسماؤها في الأسفار المتداولة وإلى ما هو ملموح في الأسفار المتداولة من تحريف وتغاير وتناقض. وكما وقع هذا وذاك يمكن أن يكون وقع مثله بطبيعة الحال. ونقول من قبيل المساجلة إن النبي ﷺ لا يعقل أن يكون اخترع هذا وذاك لأنه ليس من ضرورة فنية إلى ذلك، والسياق القرآني يظلّ مستقيما بدونه.
ومما قالوه إن محمدا ﷺ قد قام برحلات عديدة فانطبع بذاكرته كثير من الشؤون مع ما انطبع فيها مما سمعه من محتويات الأسفار فألّف القرآن من ذلك.
وهذا كلام متهافت لأن القرآن كما قلنا قبل قليل لم يقصد إلى سرد الوقائع والصور والمشاهد وإنما هو دعوة إلى الله تعالى والعمل الصالح متّحدة في جوهرها مع دعوة الأنبياء الأولين ومتممة لها وصادرة مثلها عن الوحي الرباني ومصححة لما وقع فيها من تحريف وانحراف واختلاف ولا يمكن أن يتناقض هذا أو يخلّ به ما هو مسلّم به من إلمام النبي ﷺ بأحوال وأحداث وقصص العرب والأمم الأخرى ومدوناتها بطبيعة الحال، وما اقتضت حكمة الله بوحيه منها بالأسلوب الذي جاء به هذا للتدعيم والتذكير والعبرة والإنذار والموعظة.
57
وكل ما قالوه تمحّك ومصوّب على الفصول الثانوية والوسائلية دون الجوهري في الرسالة المحمدية القرآنية فضلا عن تهافته. ولقد نبّه القرآن إلى أن الذين يتمحكون بالمتشابهات التي منها القصص والصور والمشاهد ويعمون عن النور الذي يشعّ من خلال المبادئ القرآنية المحكمة إنما يبغون الفتنة ويتلبسون بالنية السيئة والمكابرة كما جاء في آية سورة آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ... [٧].
ومن العجيب أن الذين يقولون هذه الأقوال التي قال معظمها كفّار العرب للنبي ﷺ يزعمون أنهم يعتقدون بنبوّة الأنبياء ومهمتهم، ووحي الله إليهم ثم يناقضون أنفسهم بإنكار ذلك على النبي العربي مع أن دعوته مثل دعوة الأنبياء من قبله إلى وحدة الله وتنزيهه عن كل شائبة ثم إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدل والحق والإحسان والبرّ والتعاون والصدق والرحمة ومساعدة المعوزين والمحبة والسلام والنهي عن الفواحش والخبائث والمنكرات، ومع أن ما أخبر به عن وحي الله إليه مماثل لما كان من وحي الله إلى الأنبياء السابقين الذين يعترف القرآن بهم وبكتبهم ويأمر بالاعتراف والإيمان بهم. والمحكم من القرآن الذي كان يقصد به في بدء الأمر من تعبير (القرآن) على ما شرحناه في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة (ص) يدور على ذلك. ولا يسع أي شخص واع من غير المسلمين إذا تجرّد عن الهوى والغرض والتعصّب والمكابرة أن ينكر أنّ ما احتواه من مبادئ وأسس هي علوية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها تنزيل من حكيم حميد.
وقد تجاهلوا كذلك أن القرآن استشهد بالكتابيين الذين رأوا النبي ﷺ واستمعوا إلى القرآن في العهدين النبويين المكي والمدني. وقد شهد الذين حسنت نواياهم وطابت سرائرهم وتجرّدوا من الغرض والتعصّب والمكابرة والعناد بصدقهما وآمنوا بهما ولم يتمحّكوا بالمتشابهات. وليس هناك أي احتمال لتهمة
58
الضغط والإكراه لعدم إمكان ذلك في تلك الظروف وإنما كان استنادا إلى ما رأوه من صدق أعلام نبوة محمد ﷺ وسمعوه من الحق ثم إلى صفات محمد ﷺ المطابقة لما في كتبهم على ما ذكرته آية الأعراف هذه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [١٥٧] التي أوردنا من الشواهد ما يوضح ما احتوته في سياق تفسيرها وقد سجلت آيات الإسراء [١٠٧- ١٠٩] والقصص [٥١- ٥٢] والأحقاف [١٠] والعنكبوت [٤٧] والأنعام [١١٤] والرعد [٣٦] التي أوردنا نصوصها قبل قليل حركة إيمان وتصديق الكتابيين في مكة وسجلت آيات عديدة مدنية مثل هذه الحركة في المدينة أيضا مثل آية آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) وآيات سورة المائدة هذه:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣).
وإذا كان حقّا قد ظل فريق من أهل الكتاب في الحجاز وبخاصة اليهود في زمن النبي ﷺ يجحدون نبوته والقرآن الذي أنزل عليه فقد كان ذلك بتأثير من أحبارهم ورهبانهم الذين لم يستطيعوا كبت جماح هواهم والتجرد من أنانياتهم ومآربهم وحسدهم، وعموا عن رؤية الحق والهدى واتباعهما على ما ذكرته آيات عديدة هي تسجيل في نفس الوقت لواقع أمرهم، مثل آيات سورة البقرة هذه وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
59
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦) وأَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«١» [٥١- ٥٤].
ونريد أن ننبه إلى أمر مهم في المسألة وهو أن القرآن إنما يقصد بجملة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [آل عمران: ٣] الواردة بنصّها أو قريبا منها في الآيات هو التطابق في الأسس والمبادئ ووحدة المصدر مما تضمّنت تقريره آيات سورة النساء [١٦٣] وسورة الشورى [١٣] التي أوردنا نصّها آنفا. فإذا كان هناك تباين بين ما جاء في القرآن وما جاء في الأسفار فمردّ ذلك إلى ما طرأ على هذه الأسفار من تحريف وتبديل وما كان من علماء الكتابيين الدينيين من سوء تأويل وشذوذ وخلاف وشقاق ونزاع، وما كانوا يخفونه مما في أيديهم من كتب مما نبهت إليه آيات قرآنية عديدة مثل آيات سورة البقرة هذه: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
61
يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وهذه: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وهذه: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) وهذه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) ومثل آيات سورة آل عمران هذه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) وهذه: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ومثل آيات سورة المائدة [١٣- ١٦] وآيات سورة الشورى [١٤- ١٥] وآيات سورة الزخرف [٦٣- ٦٥] التي أوردناها آنفا.
ومن هنا تبدو حكمة الله ورحمته أن بعث الله محمدا ﷺ رسولا للناس جميعا كتابيين وأمّيين وأنزل عليه القرآن ليكمّل به للإنسانية دينها ويصبح الإسلام بذلك دين الإنسانية العام كما جاء في آيات كثيرة منها آيات سورة التوبة هذه:
62
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) وليصحح ما طرأ على المبادئ التي تضمنتها الكتب الأولى من تحريف وتبديل وسوء تأويل وليكون عليها مهيمنا ولتلك المبادئ مرجعا كما ذكر ذلك في آيات عديدة أوردنا كثيرا منها آنفا، ومنها آية سورة المائدة هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) وآية سورة المائدة أيضا هذه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [٤٨] وآيات سورة النمل هذه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) ويتمثل في ذلك كله فحوى ومدى آية سورة الأنبياء هذه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧).
دلالة تعبيري اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ
هذا، وتعبيرا اكْتَتَبَها وتُمْلى عَلَيْهِ الواردان في الآية الخامسة ينطويان على دلالة قرآنية على أن النبي ﷺ لم يكن يقرأ ويكتب كما هو المتبادر.
وهذه الدلالة صريحة أكثر في آية سورة العنكبوت هذه: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨).
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
63
(١) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي.
(٢) فلا يستطيعون سبيلا: فلا يجدون طريقا أو حجة إلى إبطال أمر النبي ﷺ بما يضربونه من أمثال، أو يوردونه من تعجيزات أو يقولونه من أقوال، أو إنهم ضلّوا عن الحق فلا يستطيعون تبيّنه بمثل تلك الأمثال.
في الآيات حكاية لأقوال أخرى كان الكفار يقولونها حيث كانوا يبدون دهشتهم لدعوى النبي ﷺ برسالة الله تعالى ويقولون كيف يكون رسولا من الله تعالى ثم هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق كما يفعل سائر الناس، وحيث كانوا يطلبون ما يدعم دعواه هذه ويتحدّونه بإنزال ملك يؤيده أو إلقاء كنز عليه ينفق منه أو خلق جنة يأكل منها، وحيث كانوا يقولون للمصدقين المؤمنين إنكم إنما تتّبعون رجلا يقول ما يقول ويدعو إلى ما يدعو تحت تأثير السحر.
وقد احتوت الآيتان الأخيرتان ردّا تسفيهيا فيه خطاب تطميني للنبي ﷺ في الوقت ذاته، فإنهم بمثل هذه الأقوال والتحدّيات قد ضلّوا عن طريق الحق والهدى فلن يستطيعوا تبيّنها، وإن الله قادر لو شاء أن يجعل له من القصور والجنات أفضلها وأعظمها فهو خالق الأكوان ولا يعجزه شيء من ذلك بطبيعة الحال.
ولقد روى الطبري أن الآيتين الأولى والثانية نزلتا في مناسبة اجتماع تمّ بين زعماء المشركين والنبي ﷺ جادلوه وتحدّوه بمطالب متعددة. والذي يتبادر لنا من انسجام المجموعة وعطفها على ما سبقها أن تحدّي الكفّار قد كان قبل نزول هذه الآيات والتي قبلها وأن المجموعتين نزلتا معا أو واحدة بعد أخرى لتحكي أقوالهم وتردّ عليهم وتندّد بهم وتقرّر حقيقة الرسالة النبويّة وهدفها وتثبّت النبي وتؤيده في موقفه معهم.
64
تعليق على تحدّي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم
وحكاية طلب الكفار باستنزال ملك يؤيد النبي ﷺ ويكون معه نذيرا تحكى عنهم هنا لأول مرة. وقد تكررت حكاية ذلك عنهم في هذه السورة وفي سور أخرى حيث يبدو أن هذا كان من مظاهر تحدّيهم التي رأوها هامة ورأوا تكرارها من آن لآخر. وحيث يؤيد هذا ما نبهنا عليه في سورتي المدثّر والنجم من اعتقادهم بوجودهم وصلتهم بالله تعالى وحظوتهم لديه. وقيامهم بخدمات متنوعة له حتى اعتقدوا أنهم بناته وعبدوهم على سبيل الاستشفاع بهم.
تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر
والآية السابعة تشير إلى ما كان يفرضه العرب في
«النبي» من طبيعة غير طبيعة البشر ومن قوّة ومواهب فوق قوى البشر ومواهبهم، ثم إلى سبب من أسباب وقوفهم من النبي ﷺ موقف المكذّب المرتاب وهو طبيعته البشرية التي لم يكن فيها أي فارق عن سائر الناس فكان هذا مما جعلهم يطلبون المؤيدات لدعواه الصلة بالله تعالى، وقد تكرر هذا منهم في آيات ومواقف عديدة أوردناها في سياق تفسير سورة المدثر. وكانت الآيات تردّ عليهم ردّا مماثلا لما احتوته الآيات التي نحن في صددها دون إجابة إلى تحدّيهم لأن الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق لا تحتاج إلى مؤيدات خارقة لمن يدعو إليها مع ترديدها تقرير بشرية النبي ﷺ في كل شيء وكونه لا يملك لأحد ضرّا ولا رشدا وكونه لا يجيره من الله أحد وكونه لا يعلم الغيب ولا يستطيع دفع ضرر عن نفسه وجلب خير له إلّا ما شاء الله كما جاء في آيات سورة الأعراف [١٨٨] وسورة الجن [٢١- ٢٢] اللتين سبقتا هذه السورة وآية سورة الكهف هذه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠) وأمثالها.
65
تعليق على تعبير انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا
والآية التاسعة في تقريرها ضلال الكفار فيما يبدو منهم من أقوال ويضربونه من أمثال ويتحدونه من تحدّيات قد تضمنت تقرير كون مواقفهم هذه هي مواقف عناد ومكابرة وليست صادرة عن نيّة حسنة ورغبة في الحق، وتقرير كون من كانت مواقفه ناشئة عن ذلك لا يستطيع أن يتبيّن الحق والهدى فيما يسمع ويشاهد.
واستعمال كلمة فَضَلُّوا قد تفيد بالإضافة إلى ما قلناه أن إنكار الكفار ومكابرتهم وتساؤلهم وتحدّياتهم ناتجة عن ضعف إدراكهم الذي أدّى بهم إلى الظنّ بأن الرسل يجب أن يكونوا من غير البشر أو أن تكون لهم مواهب تفوق مواهب البشر. وهذا المعنى جاء بصراحة في آيات أخرى منها آيات سورة الإسراء هذه:
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (٩٤). وقد يفيد كذلك أن من الضلال أن يظنّ أن دعوة الناس إلى دين الله وطريق الحق تقتضي أن يقوم بها شخص فوق البشر في حين أن الخصائص التي يقتضي أن يمتاز بها الرسول ليست مما يخرجه من الطبيعة البشرية وإنما هي في الخلق والنفس والروح والعقل.
وفي كل ما تفيده الآية تلقينات جليلة مستمرة المدى في تقبيح المكابرة والشذوذ وعدم تدبّر الأمور، والانحراف عن مقتضى الحق والمنطق وعدم التسليم بهما عند ظهور حجتهما والتحمّل في ما لا طائل من ورائه بسبيل هذا الانحراف.
66
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
. (١) أعتدنا: أعددنا وهيأنا.
(٢) تغيظا: هياجا وغليانا شديدين.
(٣) زفيرا: كناية عن الصفير الذي يخرج من النار إذا اشتدّ ضرامها واستعارها.
(٤) مقرنين: مقرون بعضهم إلى بعض أو مقيدون بالقيود.
(٥) ثبورا: هلاكا ومعنى دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً تمنوا الهلاك وطلبوه.
في الآية الأولى تقرير لواقع أمر الكفار وبواعث مكابرتهم وعنادهم وهو تكذيبهم اليوم الآخر حيث أدّى ذلك إلى عدم مبالاتهم بما ينذرون ويوعدون وإنذار لهم ولأمثالهم المكذبين المنكرين بالنار التي أعدّها الله لهم.
أما الآيات التالية لها فقد جاءت استطرادية لتصف هذه النار وما يلقى المكذّبون المنكرون فيها. فلسوف تكون شديدة الاستعار والالتهاب والهياج، ولسوف يكون لها من الزفير المدوي ما تهلع له القلوب. ولسوف يساقون إليها مقيدين بالأغلال ويحشرون فيها حشرا من شدّة الضيق والزحام ولسوف يتمنون الموت والهلاك ويطلبونه لشدّة ما يلقون من عذاب فلا ينالونه بل يقال لهم على سبيل السخرية إنكم لسوف تطلبونه كثيرا.
ووصف عذاب المكذبين رهيب وأسلوب الآية الأخيرة لاذع ومن شأن ذلك إثارة الرعب في السامعين وبخاصة للمكذبين وهو مما استهدفته الآيات كما هو المتبادر.
وواضح أن الآيات متصلة بالسياق السابق واستمرار له.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
. (١) الخلد: قيل إنها علم على جنة خاصة من جنات الآخرة كما قيل إنها صفة للجنة الأخروية بمعنى الخالدة.
في هذه الآيات استطراد بأسلوب الأمر للنبي ﷺ بسؤال الناس عمّا إذا كان المصير الرهيب الذي سيكون للمكذبين خيرا أم جنة الخلد التي وعد بها المؤمنون المتقون بعملهم الصالح والتي يكون لهم فيها ما يشاءون من النعيم الخالد.
وفي السؤال ينطوي جواب إيجابي بأن جنة الخلد هي الأفضل وأن الإيمان والتقوى هما اللذان يستحق بهما أصحابهما هذا النعيم الخالد. وينطوي فيه كذلك معنى تبكيتي لمن يسخف فيختار بتكذيبه وكفره وفجوره السعير على جنة الخلد.
والصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة واضحة. وقد استهدفت فيما استهدفته ترهيب المكذبين ليرعووا عن ضلالهم وترغيب المؤمنين المتّقين ليطمئنوا ويثبتوا على طريق الحق والهدى الذي اختاروه وسلكوا فيه.
تعليق على تعبير
كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا وتعبير كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا من التعابير القرآنية الحاسمة التي تقرّر أن جزاء الآخرة ونعيمها وعذابها هو رهن بأعمال الناس وسلوكهم واختيارهم. فقد وعد الله من آمن واتّقى بالنعيم الخالد ومن كذّب وفجر بالسعير وهو موف وعده.
وهذا التعبير من التعابير التي يتشادّ عليها أصحاب المذاهب الكلامية حيث يقول المعتزلة إن تعذيب الكفار ونعيم المؤمنين المتّقين قرّره الله تعالى وقطعه على نفسه وعدا وحيث يستبشع الأشاعرة هذا القول ويقررون أن الله تعالى ليس عليه
واجب. ولا شك أن في القول بشاعة إذا قصد به أن الله ملزم بالمعنى الذي يكون فيه انتقاص من واجب الاعتقاد بمطلق تصرفه في كونه وخلقه سبحانه وتعالى.
ونحن نستبعد أن يكون مقصد المعتزلة ذلك. فهم مؤمنون مخلصون يعظمون الله وينزّهونه في كل قول لهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
. (١) بورا: هالكين بضلالهم.
(٢) صرفا: بمعنى دفعا للعذاب.
(٣) نصرا: بمعنى انتصارا على الله في مواجهته لهم.
(٤) ومن يظلم: بمعنى ومن يجرم ويتمرّد.
في الآيات أسلوب آخر في صدد إفحام المكذبين المشركين وتسفيههم وإنذارهم. فالله تعالى سيحشرهم يوم القيامة مع معبوداتهم التي اتخذوها من دون الله فيسأل المعبودات عما إذا كانوا هم الذين أضلوا عباده وزينوا لهم عبادتهم أم هم الذين ضلوا عن طريق الحق وزاغوا باختيارهم فيجيبونه متنصلين مقررين أنهم لا يمكنهم أن يجرأوا على ذلك ويتخذوا أولياء من دونه أو يفرضوا عبادتهم على الغير ولكن الضالين استغرقوا في متع الحياة وشهواتها هم وآباؤهم من قبلهم حتى نسوا ذكر الله تعالى واختاروا الضلال على الهدى. وحينئذ يوجه الخطاب الرباني إلى الكفار بأسلوب تبكيتي بأن الذين اتخذوهم معبودات من دون الله قد تنصلوا منهم وكذبوهم، وبأنهم في حالة العجز واليأس من دفع العذاب عن أنفسهم أو
69
الانتصار في الموقف العصيب الذي يواجهونه. وانتهت الآية الأخيرة بإنذار عام للناس بأن من يظلم نفسه وينحرف عن طريق الحق يصير إلى شر مصير ويذوق العذاب الأليم.
والآيات استمرار للسياق ومتصلة به كما هو المتبادر وليس في الآيات تصريح بهوية المعبودات المقصودة. وقد قال المفسرون إنهم الملائكة أو المسيح عليه السلام أو العزيز ومنهم من قال إنهم الأصنام يأتي بهم الله فينطقهم
«١». والذي نرجّحه أنهم الملائكة. وفي سورة سبأ آيات مشابهات للآية [١٧] احتوت تصريحا بالملائكة مما يؤيد هذا الترجيح وهي: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١).
ومشركو العرب إنما كانوا يعبدون الملائكة ويتّخذونهم شفعاء عند الله على ما حكته آيات عديدة أوردنا نصوصها في سياق سورة المدثر وسورة النجم. وهذا مما يقوي ترجيحنا.
والحوار الذي احتوته الآيات إنما أريد به تصوير ما سوف يكون في الآخرة أو حكاية مسبقة له. وفيه معنى تبكيتي وتسفيهي وإنذاري. واستهدف فيما استهدفه تقرير عجز المعبودات عن تحقيق ما يؤمّله المشركون فيهم وكونهم هم أنفسهم عباد الله الذين يخضعون له كل الخضوع ويخافونه كل الخوف مما يتضمن تدعيم ذلك المعنى. وقد استهدف كذلك فيما استهدف حمل المشركين على الارعواء عن الضلال والسخف وإثارة الخوف في نفوسهم.
وفي الآيات بيان سبب من أسباب ضلال الناس وانصرافهم عن واجباتهم وعن التدبّر في آيات الله وحكمته يضاف إلى السبب الذي ذكرته الآيات السابقة أي إنكار الآخرة وهو استغراقهم في متع الحياة الدنيا وشهواتها استغراقا يميت
70
ضمائرهم ويعمي أبصارهم وينسيهم ذكر الله وواجباتهم نحوه ونحو الناس.
وينطوي في هذا تحذير من ذلك بطبيعة الحال.
تعليق على تعبير مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ
وقد توهم عبارة مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ في جواب المعبودات أنها توجه المسئولية في ضلال الناس إلى الله سبحانه وتعالى بما يسهّله لهم من متع الحياة حتى يستغرقوا فيها. وفي الآيات ما يزيل هذا الوهم. فهي في صدد تصويري لتنصّل المعبودات من عابديهم وإظهار خضوعهم لله. والإشارة إلى استغراق الناس، ذلك الاستغراق الذي ينسيهم ربّهم وواجباتهم هي بسبيل التنديد بعقيدة المشركين وإسرافهم في الاستغراق. ويمكن أن يقال في هذا المقام إن في تمكّن الناس من المتع الدنيوية مظهرا من مظاهر الانطباق على النواميس التي أودعها الله في كونه وخلقه. ومن هذه النواميس أن يكون الناس متمتعين بجميع مشاعرهم وقابلياتهم وقواهم ليكونوا أحرارا في اختيار ما يختارون وترك ما يتركون فيستحقوا جزاءهم وفق اختيارهم. وفي الآية الأخيرة قرينة على هذا المعنى حيث احتوت وعيدا لمن (يظلم) ولا يتحقق معنى هذه الكلمة إلّا في من كان في قدرته أن يظلم. والإسراف وسوء القصد في الاختيار والانحراف عن طريق الحق والهدى ظلم، ولذلك أوعد الله سبحانه وتعالى صاحبه بالعذاب الأليم. وهذه الآية بهذا المعنى مزيلة للوهم الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن من العبارة والله أعلم.
تعليق على ما في قرآن من تكرار التنديد بالظالمين ووعيدهم وإنذارهم
والظلم في الآية الأخيرة يعني على ما يتبادر من مقامها الإجرام والبغي والانحراف عن الحق. ونفس المعنى مندمج في الكلمة التي جاءت في الآية الثامنة من هذه السورة. وبهذه المناسبة نقول إن هذه الكلمة ومشتقاتها قد وردت في
71
القرآن نيفا وثلاثمائة مرة حيث يدلّ هذا على ما أوّلته حكمة التنزيل من اهتمام عظيم لمعالجة ما انطوى في هذه الكلمة التي تتجسّد فيها معان عديدة على ما تفيده وتلهمه الآيات التي وردت فيها كالجور الذي هو ضدّ العدل والانحراف عن طريق الحقّ والجناية على النفس والإضرار بالنفس والغير والعدوان على حريّات الناس وحقوقهم وأموالهم ودمائهم وبخاصة الضعفاء واستغلالهم والتحكّم فيهم والاستكبار عن دين الله وسبيله والصدّ عنهما ومناوأة رسل الله ودعاة الإصلاح والهدى والكيد لهم واقتراف الآثام وبخس الحق. وبكلمة واحدة كل المنكرات والفواحش. ومعظم الآيات التي جاءت فيها والتي تغني كثرتها وإثباتها في معظم السور عن التمثيل لها هي بسبيل التنديد بالظلم والظالمين على اختلاف مدلول الكلمة والحملة عليهم ولعنتهم وبيان ما سوف يلقونه من الخزي وانفصال وسوء العاقبة والمنقلب في الدنيا والآخرة. والتعريض بهم والتحريض عليهم وإيجاب مكافحتهم ومقاومتهم بكل وسيلة. وعدم الإذعان لهم والسكوت عنهم وتلقين ما في ذلك من عزّة وكرامة وحق ونصر لدين الله ومصلحة المسلمين العامة وطمأنينة المجتمع وتلقين ما في مخالفة ذلك من إثم ومنكر وذلّ ومهانة وتشجيع على الظلم واستشرائه. وفي كل ذلك ينطوي هتاف قرآني داو ضدّ الظلم والظالمين ودعوة داوية إلى اجتنابه ومقاومته. وهذا وذاك بقوته وشموله من الخصوصيات التي انفرد بها القرآن.
وهناك آيات عديدة تذكر أن الله يأخذ القرى أيضا إذا كانت ظالمة وأن الله لا يهلك التي تظلم إذا كان أهلها مصلحين وأن الله قد يهمل الظالمين أمدا ولكنه لا بدّ من أن يأخذهم بعذابه وبأسه مثل الآيات التالية:
١- وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:
١٠٢].
٢- وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود:
١١٧].
72
٣- وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج: ٤٨]
«١».
وإذا لوحظ أنه لا يكون عادة جميع أهل القرى ظالمين أو صالحين وإنما يكون ذلك حالة بعضهم فيكون قد انطوى في الآيات سنّة ربانية وهي شمول البلاء أو الرحمة إذا ما كانت حالة الظلم أو حالة الصلاح هي الغالبة. وقد أمر الله المسلمين بالاتقاء من الفتن التي إذا حدثت لا ينحصر شرّها في الذين اقترفوها بل يعمّ كما جاء في آية سورة الأنفال هذه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥).
وفي سورة الإسراء آية من هذا الباب تفيد أن سيطرة المترفين الفاسقين على قرية تكون سببا لتدميرها وهي: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
(١٦).
ولما كان هناك آيات كثيرة تقرر أن الله لا يظلم أحد فينبغي أن يفرض أن غير الظالمين رضوا أو سكتوا عن ظلم الظالمين فعمهم الله ببلائه. وآية سورة الأنفال قويّة التأييد لذلك لأنها تأمر باتقاء الفتنة حتى لا يصيب بلاؤها الجميع واتقاؤها هو بالتضامن على منعها وضرب مثيريها.
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة في مثل ذلك منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال:
«الظلم ظلمات يوم القيامة» «٢». وحديث رواه الشيخان وأحمد عن ابن عمر كذلك عن النبي ﷺ قال:
«من أخذ من الأرض شبرا بغير حقّ خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين» «٣»، وفي رواية «من أخذ شبرا
73
من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين». وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:
«من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل ألّا يكون دينار ولا درهم. إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه» «١».
وحديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال:
«المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» «٢». وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:
«لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» «٣». وحديث رواه أبو داود عن جبير بن مطعم عن النبي ﷺ قال:
«ليس منّا من دعا إلى عصبيّة وليس منّا من قاتل على عصبيّة وليس منّا من مات على عصبيّة. عن واثلة بن الأسقع قال قلت يا رسول الله ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم» «٤».
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن جابر:
«أنّ النبي ﷺ قال لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره» «٥».
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال:
«إنّ الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «٦». وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي بكر قال:
«سمعت رسول الله ﷺ يقول إنّ الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب» «٧». وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول
74
تعليق على جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
ولقد تعددت الأقوال والتأويلات في جملة وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ منها أن الله ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم العداء ونيلهم بأنواع الأذى وطلب منهم الصبر الجميل، وسيق لتأييد هذا القول حديث ورد في صحيح مسلم جاء فيه:
«يقول الله تعالى إنّي مبتليك ومبتل بك» ومنها أن الله جعل الأغنياء فتنة للفقراء، أو الزعماء فتنة للضعفاء لينظر هل يصبر الناس على حكمته في إغناء أناس وإفقار أناس أو جعل أناس أقوياء وآخرين ضعفاء. ومنها أن الجملة نزلت في أبي جهل وأصحاب له من زعماء قريش إذ قالوا حينما رأوا أن الذين آمنوا بالنبي ﷺ من الفقراء والأرقّاء ساخرين: كيف نؤمن بمحمد ونجلس معه مع هؤلاء، أو انظروا إلى هؤلاء الذين اتّبعوا محمدا وهم موالينا وأراذلنا
«١».
وعلى كل حال فالجملة احتوت تقريرا لحكمة من حكم الله وهي جعله بعض الناس وسيلة لامتحان واختبار البعض الآخر ليرى من منهم الصابر على الابتلاء، الناجح عند الاختبار وينطوي في ذلك تقرير كون الله سبحانه وتعالى يفعل ذلك لاختبار الناس في صبرهم على الابتلاء واستعمال قابلياتهم للتمييز بين الخير والشرّ والهدى والضلال والطيب والخبيث لتقوم الحجة عليهم من أعمالهم واختيارهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
76
(١) لا يرجون لقاءنا: هنا بمعنى لا يعتقدون بالبعث ولا يخافونه.
(٢) عتوا: تمردوا.
(٣) حجرا محجورا: أصل كلمة الحجر السدّ أو المنع أو التحريم. والجملة من تعابير العرب ومعناها حراما محرما. وكانوا يقولونها إذا لقي أحد منهم غريمه في الأشهر الحرم يعنون أن دمهم محرّم فيها. ومعنى الآية التي فيها التعبير أن الكافرين يوم يرون الملائكة لا يسمعون بشرى منهم ويقولون لهم إن البشرى والجنة عليكم حرام محرم أو أنهم حينما لا يسمعون بشرى وترحيبا من الملائكة يقولون الجملة بقصد الاستعاذة بهم وطلب الامتناع عن سوقهم إلى العذاب.
(٤) مقيلا: منزلا أو مقاما.
(٥) تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا: تتشقق وتنفرج عن الغمام فينزل الملائكة.
في الآيات حكاية لأقوال ومواقف أخرى للكفار وردود ووعيد رباني، وتصوير لما سوف يلقونه يوم القيامة. وهي متصلة بالسياق السابق واستمرار له كما هو واضح.
وأسلوب الآية الأولى يلهم أن اقتراح الكفار- الذين ينكرون البعث- استنزال الملائكة أو تمكينهم من رؤية الله كان من باب التحدي والتعجيز مع الإنكار والاستهزاء. والآيات التالية ردّ مقابل لذلك، فإنهم سوف يرون الملائكة حيث يتشقّق عنهم الغمام فينزلون من السماء ولكن يوم نزولهم ورؤياهم لهم يكون هو اليوم الموعود الذي يكون فيه المجرمون في شرّ حال بينما يكون المؤمنون أصحاب الجنة في خير حال. ولن يكون للمجرمين فيه بشرى ولا أمل، ويهتف
77
بهم الملائكة أن كل ذلك حرام عليكم، وسيرون الله قد أحبط جميع أعمالهم في الدنيا فذهبت هباء منثورا لا فائدة لهم منها. وسيتحققون حينئذ أن الملك الحق لله وحده سبحانه وسيلقى الظالم من شدة ذلك اليوم وعسره ما يجعله يعضّ بنان الندم ويتمنى أن لو استجاب إلى النبي ﷺ ووصل نفسه به وقدّم معه اليد التي تنفعه أو لو لم يكن اتخذ فلانا خليلا حيث أضلّه عن الحق وجعله يغفل عن ذكر الله ويتصامم عن الدعوة إليه. وقد انتهت الآيات بتذكير رباني بأن الشيطان إنما شأنه أن يخذل الإنسان ويتنصل منه بعد أن يكون قد أضلّه وأغواه.
والآيات قوية التصوير والوعيد. من شأنها أن تثير الهلع في المكذبين والرهبة في السامعين وتحملهم على الارعواء والتدبّر وهم في متسع من الوقت وفيها في الوقت ذاته بشرى وتطمين للمسلمين. وكلّ هذا مما استهدفته على ما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون
«١» أن آية وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلخ نزلت في عقبة بن أبي معيط الذي أسلم فلما أنّبه أميّة بن خلف وهدّده ارتدّ واشتدّ في أذى النبي ﷺ حتى إنه ألقى روثا عليه وهو يصلّي، وأن (فلانا) المذكور في الآية التي بعدها عنت أمية. وقد يكون وقوع الحادث صحيحا، غير أن انسجام الآيات وتسلسلها يلهمان أنها بسبيل وعيد الكفار المكذبين بالبعث والتنديد بهم بصورة عامة، ومن المحتمل أنها نزلت في الظرف الذي وقع فيه الحادث المذكور آنفا فروى الرواة أنها نزلت بسببه.
وتعبير الشَّيْطانُ يطلق على إبليس كما يطلق على البغاة العتاة المضلّين من الناس على ما تفيده آية الأنعام هذه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) والكلمة في الآية الأخيرة تحتمل أن يكون المقصود فيها إبليس كما تحتمل أن يكون المقصود هو الشخص المضلّ الذي اتّخذه الضالّ خليلا فأضلّه
78
كما هو المتبادر، ولقد جاء ذكر القرآن في الآية التالية وحكاية لتحدّي الكافرين في صدده وقد يكون ذلك هو المناسبة القريبة للآيتين.
تعليق على جملة جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ
وتعبير وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قد يوهم أن الله هو الذي جعل المجرمين يقفون من أنبيائه موقف العداء. وقد تكرر مثل هذا التعبير وما يدخل في بابه كثيرا في سياقات ومناسبات مماثلة. وقد مرّ مثل منه في آية سورة الأعراف [٢٧] وعلّقنا عليها بما يزيل الوهم من فحواها وفحوى ما قبلها وبعدها.
وما قيل هناك يقال هنا، إجمالا والتعبير أسلوبي. والمتبادر أنه قصد به تقرير واقع أمر النظام الذي أقام الله المجتمع البشري عليه من أنه لا بد من أن يقف في وجه الأنبياء فريق من المنحرفين المجرمين على سبيل تطمين النبي ﷺ وتسليته بكون ما يراه من قومه ليس بدعا. ولا يمكن أن يكون قصد به معناه الحرفي لأن في ذلك تناقضا يتنزّه الله سبحانه وتعالى عنه وما جاء في الآية التي ورد فيها التعبير من نعت الكفار بالمجرمين وبأعداء الأنبياء قرينة على هذا التوجيه كما أن في ما احتوته الآيات السابقة واللاحقة من تحميل تبعة الإجرام والكفر على أصحابهما ونعت الكفار بأنهم قد ضلّوا السبيل قرائن قوية على صوابه.
ولقد رأى بعضهم
«١» في شكوى النبي ﷺ من قومه لإعراضهم عن القرآن تحذيرا للمسلمين عن الإعراض عنه وعدم التمسّك بأحكامه وتدبّره والاستهانة به عند تلاوته. وهذا وجيه بل بدهي لأن كل هذا واجب لازب على كل مسلم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
80
(١) لولا: هنا بمعنى هلّا للتحدي.
(٢) رتلناه ترتيلا: جعلناه رتلا بعد رتل أي قسما بعد قسم وقيل فصّلناه تفصيلا أو بينّاه تبيينا. والتأويل الأول هو الأوجه والمتّسق مع مضمون الآية.
(٣) أحسن تفسيرا: هنا بمعنى أحسن بيانا وجوابا على ما يورده الكفار من أسئلة وتعجيزات وتحدّيات. وكلمة تفسير من جذر فسّر بمعنى وضح وبان وتعبير (تفسير القرآن) هي في أصله كشف وتوضيح النواحي اللغوية. أما التوسع في مدى التعبير فقد صار بالممارسة إن صحّ التعبير حيث صار يطلق على كشف وتوضيح معاني الكلمات والجمل القرآنية.
احتوت الآيات حكاية قول آخر من أقوال الكفار حيث قالوا على سبيل التحدّي: هلا أنزل القرآن على النبي ﷺ دفعة واحدة وقد ردّت عليهم ردّا قويّا فيه تثبيت وتوضيح وإنذار. فالله تعالى إنما أنزل القرآن مرتّلا قسما بعد قسم لتثبيت قلب النبي ﷺ ودعوته وجعل الناس يحسنون استيعابه، وإن الكفار لا يأتون بمثل أو حجة يظنون فيها تعجيزا أو إشكالا أو إحراجا إلّا أنزل الله في صدده ما فيه الحق والتفسير الأفضل والحجة الدامغة المفحمة، وأن الذين يظلون في كفرهم ومكابرتهم بعد ذلك سيحشرون إلى جهنّم على وجوههم وسيعلمون حينئذ أنهم الأضل سبيلا والأسوأ مصيرا. والزيادة التي ذكرناها في صدد تنزيل القرآن مقسما مستمدة من آية الإسراء هذه: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦).
والآيات استمرار في السياق الذي احتوى منذ أول السورة فصولا مماثلة من حيث حكاية مواقف الكفار وأقوالهم والردّ عليهم وإنذارهم.
ولقد روى الشيخان عن أنس في سياق تفسير الآية [٣٤] حديثا جاء فيه: «إنّ رجلا قال يا نبيّ الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: أليس الذي
81
أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة: بلى وعزّة ربنا»
«١».
تعليق على تحدّي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة
وقد قال المفسرون في سياق الآيات إن الكفار كانوا يتحدّون النبي ﷺ بإنزال القرآن جملة واحدة كما أنزلت الكتب السماوية التوراة والإنجيل والزبور جملة واحدة. وعلّلوا نزول القرآن على النبي ﷺ مفرقا بأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب فكان لا بد له من التلقين والحفظ اللذين يقتضيان إنزال القرآن مفرّقا في حين كان الأنبياء الأولون يقرأون ويكتبون فنزلت عليهم جملة واحدة ومكتوبة
«٢».
وقد يكون ما قاله المفسرون عن سبب تحدّي الكفار صحيحا، وأن يكون هؤلاء سمعوا من الكتابيين أن التوراة والإنجيل والزبور نزلت على موسى وعيسى وداود عليهم السلام جملة واحدة. غير أننا لا نستطيع موافقتهم على أخذهم ذلك كقضية مسلّم بها وتعليلهم إياه بأمّية النبي صلى الله عليه وسلم. فباستثناء الألواح التي ذكرت آية الأعراف [١٤٥] أن الله أنزلها مكتوبة على موسى لم يرد في القرآن صراحة أن الله أنزل الكتب الأخرى مكتوبة ودفعة واحدة. والأسفار المنسوبة إلى موسى والعائدة إلى عهده وحياته والمتداولة اليوم تذكر أن الله إنما أمر موسى بإحضار لوحين وتكرر كذلك أن موسى كتب كلام الربّ في سفر وسلّمه للاويين لحفظه في تابوت العهد في بيت الربّ وتفيد أن معظم ما احتوته من تعليمات وتشريعات نزل مفرّقا وفي فترات ومناسبات عديدة وفق سير الظروف بالنسبة لموسى عليه السلام وبالنسبة لبني إسرائيل
«٣». والزبور الذي هو على الأرجح سفر المزامير مقاطع متتالية فيها
82
تسبيح وتقديس وابتهال بلسان داود عليه السلام. ويتبادر منها أنها لم توح إلى داود مرة واحدة. وليس في اليد إنجيل منسوب إلى عيسى عليه السلام ولم يرو أحد أنه اطّلع على مثل ذلك. والأناجيل المتداولة هي ترجمة لحياته تضمّنت كثيرا من أقواله وتعاليمه التي عليها سمة الوحي. غير أنها كانت تمثل وقائع ومجالس مختلفة فلا يمكن أن تكون نزلت دفعة واحدة. وكل هذا هو شأن القرآن بطبيعة الحال.
ولقد عاد بعض المفسّرين
«١» إلى القول في سياق هذه الآية إن الله تعالى قد أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وأنه صار ينزل منجما على النبي من هذه السماء حسب الوقائع والحوادث. ولقد أوردنا هذا في سياق سورة القدر وعلّقنا عليه بما يغني عن التكرار.
هذا، ومع أن تعبير (القرآن) أصبح علما على جميع ما أوحى الله تعالى للنبي ﷺ من الفصول والمجموعات القرآنية المحكمة والمتشابهة فإن هذه الآية وأمثالها مما تكرر في القرآن ومن ذلك الآية السابقة [٣٠] تؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة المزمل من أن أصل مفهوم القرآن هو السور والفصول المحكمة التي احتوت مبادئ الدعوة وتدعيماتها الرئيسية كما تؤيد أن هذا هو الذي فهمه العرب وأن ما جاء في سياق التدعيم والتأييد من قصص وأمثال وحجج وجدل وردود وحملات وحكاية أقوال الكفّار وتحدّياتهم ومشاهد الآخرة مما يصحّ أن يسمّى من المتشابهات لم يكن في الأصل مما عناه التعبير وفهمه العرب وأن شمول التعبير لكل ما احتواه المصحف من ذلك أيضا إنما كان بسبب أنه من وحي الله وتنزيله مثل ذلك الأصل وهو ما عنته آية آل عمران هذه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [٧].
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
83
(١) وزيرا: مؤازرا وعضدا.
(٢) دمرنا: حطمنا أو هدمنا.
(٣) تبّرنا: أهلكنا.
(٤) القرية التي أمطرت مطر السوء: كناية عن مساكن قوم لوط التي أرسل الله عليها رجوما وحاصبا وجعل عاليها سافلها كما وصف ذلك في آيات أخرى مرّت أمثلة منها.
(٥) نشورا: هنا أيضا بمعنى البعث بعد الموت.
احتوت الآيات إشارات مقتضبة إلى ما كان من إرسال الله الرسل إلى أقوامهم وإلى مواقف هذه الأقوام التكذيبية. وما كان من تدمير الله ونكاله فيهم بسبب هذه المواقف. وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. والأسماء التي ذكرت فيها قد ذكرت في مناسبات سابقة وعرّفناها بما لا حاجة إلى تكراره هنا.
وقد جاء هذا الفصل جريا على أسلوب النظم والتنزيل القرآني حيث يعقب حكاية مواقف كفّار العرب تذكير بما كان من أخبار الأمم السابقة استهدافا للارعواء والاعتبار والاتعاظ والإنذار. والآيات على هذا متصلة بالسياق وغير منفصلة عنه.
والضمير في وَلَقَدْ أَتَوْا عائد إلى الكفار السامعين، وفيه توكيد لهذا الاتصال بالآيات السابقة فهي تعني مساكن قوم لوط. وقد ذكرت آيات في سورة الصافات أن العرب كانوا يمرون ببلاد قوم لوط المدمّرة وهي هذه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨).
84
وقد انتهت الآيات بتقرير كون الكفار إنما يقفون مواقفهم الإنكارية والعنادية لأنهم لا يصدقون بالبعث الأخروي وأنهم مطمئنون بأنهم لن يصيبهم الشرّ والعذاب.
وهذا التقرير قد تكرر في هذه السورة وغيرها كثيرا. وتكراره يظهرنا على الحكمة في التوكيد المستمرّ بالبعث وبالبرهنة على قدرة الله عليه كما هو المتبادر.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
. (١) اتخذ إلهه هواه: جعل هواه إلها له.
في هذه الآيات حكاية لموقف وقول آخر من مواقف الكفار وأقوالهم، حيث كانوا يتخذون النبي ﷺ حينما يرونه موضوع هزء واستخفاف ويتساءلون تساؤل الهازئ المستخفّ قائلين: هل هذا الذي بعثه الله رسولا ثم يأخذون يتفاخرون بما أبدوه من صبر وثبات على عقائدهم ومعبوداتهم وتمسك بتقاليدهم ويقولون إنه كاد أن يضلّنا عنها لكثرة ما يبذله من جهد ويبديه من نشاط لو لم نبد ما أبديناه من صبر وتمسّك. وقد ردّت عليهم الآيات منذرة منددة مسفّهة. فلسوف يلقون عذاب الله على أقوالهم ومواقفهم ولسوف يعلمون حينئذ من هو الضالّ عن سبيل الحقّ. ثم وجهت الخطاب إلى النبي ﷺ متسائلة تساؤل المقرّر عما إذا كان يريد أن يجعل نفسه وكيلا ومسؤولا عمّن اتخذ هواه إلها له وعما إذا كان يظن أن أكثر الكفار يسمعون أو يعقلون، ومقررة أنهم في حالتهم التي هم عليها كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا لأن الأنعام تعرف بالغريزة ما يضرّها فتحذره وما ينفعها فتقبل عليه.
وقد روى بعض المفسرين أن قائل الأقوال وفاعل الأفعال التي ذكرت في
85
الآيات هو أبو جهل
«١». ومع احتمال أن أبا جهل كان يفعل ذلك ويقوله فالآيات تلهم أن آخرين غيره كانوا يفعلون ويقولون ذلك وأن الحكاية قد جاءت في معرض التنديد والتقريع ببغاة الكفار وإنذارهم مطلقا. ولا سيما أنها فصل من فصول متسلسلة متماثلة وليست مستقلّة تحكي موقفا خاصا مستقلا. ويكاد الزمخشري ينفرد في الرواية فإننا لم نرها في الطبري وغيره من قدماء المفسرين.
ويتبادر من أسلوب الآية الأولى ومضمونها أنها لا تفيد أن الكفار كانوا يحتقرون النبي ﷺ وينتقصون من قدره وأخلاقه، وإنما تقصد تصوير موقفهم الاستخفافي بدعوته. وفيها بالإضافة إلى ذلك قرينة على ما كان يداخلهم من خوف من نجاح دعوته. ودليل على عظم ما بذله النبي ﷺ من جهد بدون كلل أو فتور وما كان من استغراقه الشديد في الدعوة.
وفي الآيتين [٤٣- ٤٤] ينطوي معنى التسلية للنبي ﷺ على ما يلقاه من مواقف الكفار وعنادهم وعلى ما يبذله من جهد عظيم ضائع معهم فكأنما أريد أن يقال له إن من يتخذ إلهه هواه لا يكون هو مسؤولا عنه ولا وكيلا ولا مطلوبا منه أن يبذل المستحيل لتغييره عمّا هو عليه. فهم لا يسمعون ولا يعقلون وأضلّ من الأنعام فلا ينبغي أن يغتمّ من مواقفهم وعنادهم. وهذا ما تكرر كثيرا. وقد علّلناه في سياق سورة (ق) بما يغني عن الإعادة.
وفي عبارة اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تقريع لاذع للكفار وتقرير بأن ما هم عليه ليس ناتجا عن تدبّر وتعقل وإنما هو تعصب أعمى لعقائد باطلة وتمسك بالهوى دون الحق. ونفس التقريع اللاذع منطو في الآية الأخيرة التي تصفهم بأنهم كالأنعام بل أضلّ.
تلقين الآيتين [٤٣ و ٤٤] أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وما بعدهما
والوصف الذي احتوته الآيتان هو وصف لحالة مألوفة في كثير من الناس في
86
كلّ زمن ومكان حيث يتعصبون لأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم تعصّبا أعمى قائما على الهوى والأنانية فلا يطيقون أن يسمعوا كلاما ضدّها ولا يتدبّرون فيما هو موجه إليها من نقد وتجريح وحجّة دامغة، وفي الآيات والحال هذه تلقين قرآني جليل مستمر المدى ضدّ هذه الحالة وتقبيحها وإهابة بالمسلمين بألّا يتّصفوا بها.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
. (١) الظلّ: معظم المفسرين يؤولون الظلّ هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أي يعتبرونه وقتا من أوقات النهار ويروون ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم من علماء الصحابة والتابعين فحيث كان هذا الوقت من النهار الذي لا شمس فيه اعتبر ظلا على ما هو المتبادر. وقد رأينا الزمخشري يؤوله بالظلّ المعتاد أي المكان الذي يكون فيه ظل في أثناء النهار والشمس ساطعة.
(٢) ساكنا: أوّلها معظم المفسرين بمعنى دائم لا يزول. وهذا تبعا للتأويل الأول للظلّ، والذين أوّلوا الظلّ بالتأويل الأول هم الذين أوّلوا كلمة ساكن بذلك، أما الزمخشري فأوّل الكلمة بمعناها المعتاد تبعا لتأويله الظلّ.
(٣) ثم جعلنا الشمس عليه دليلا: قال الذين أوّلوا كلمتي الظلّ وساكن بالتأويل الأول في تأويل هذه الجملة إن الشمس حينما تشرق يزول الظلّ وهو شيء لا يدرك إلّا بضدّه. ومن هنا كانت الشمس عليه دليلا. أما الزمخشري فقد قال إن الناس يستدلّون على أحوال الظلّ وكونه زائلا من مكان ومتقلصا أو واسعا أو
87
موجودا في مكان من مسير الشمس. ولذلك تكون الشمس عليه دليلا.
(٤) ثم قبضناه إلينا قبضنا يسيرا: في تأويل الأولين الضمير في قبضنا عائد إلى الشمس ومعنى الجملة إننا نقبض الشمس فيعود الظلّ والفيء ثانية. وكلمة يَسِيراً في تأويلهم بمعنى شيء بعد شيء أي إن القبض لا يكون دفعة واحدة ولكن متدرجا. أما الزمخشري فقد جعل الضمير عائدا إلى الظلّ وأوّل الجملة بأن الله لو أزال الظّل دفعة واحدة لتعطلت مصالح الناس ولكنه أزاله على مهل.
(٥) جعل الليل لباسا: من باب تشبيه الظلام الذي لا ترى فيه الأشياء باللباس الذي يستر الأجسام حتى لا ترى، أي جعل الليل ستارا حاجبا للناس.
(٦) سباتا: راحة وانقطاعا عن العمل.
(٧) نشورا: بمعنى الانتشار حيث يكون النهار مجال انتشار الناس ونشاطهم.
(٨) طهورا: الماء الطهور في اصطلاح الفقهاء هو الطاهر بنفسه المطهّر لغيره.
جاءت هذه الآيات تعقيبا على أقوال الكفار ومكابرتهم في ربوبية الله تعالى والدعوة إليه ومناوأة رسوله وتعجيزه وإنكار البعث والحساب جريا على أسلوب النظم القرآني للبرهنة على وجود الله تعالى وعظمته وقدرته بما في نواميس الكون من إتقان وإبداع ومنافع. فهي متصلة بالسياق أيضا.
وقد احتوت تنبيها إلى النواميس التي جعلها الله في حركة الشمس والظلّ والليل والنهار مما فيه مصالح ومنافع متنوعة للناس ثم إلى إرساله الرياح مبشّرة برحمته وإنزاله الماء الطهور الذي يحيي الأرض الميتة والذي يشرب منه الناس والأنعام الذين خلقهم.
وبرغم اختلاف المفسرين في تأويل الظلّ والسكون في الآيتين الأوليين فإن الذي نرجحه أن سامعي القرآن العرب قد فهموا المقصد منهما بقرينة الصيغة الاستفهامية التي فيها معنى التقرير ولفت النظر لأمر أو مشهد مسلّم به على سبيل الاستشهاد والاستدلال على قدرة الله.
88
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
. (١) جاهدهم به: أي ابذل الجهد في حجاجهم وإنذارهم. وضمير بِهِ عائد إلى القرآن على ما روي عن ابن عباس. والمفسرون الذين صرفوا الضمير في جملة صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ قالوا إن ضمير بِهِ عائد إلى القرآن أيضا وهذا ما جعلنا نرجّح انصراف الضمير في صَرَّفْناهُ إلى القرآن أيضا.
وتفيد أقوال معظم المفسرين
«١» في تأويل الآية الأولى أنها من قبيل تسلية النبي ﷺ وتثبيته في مهمته والتنويه بقدره، فالله لو شاء لأرسل إلى كل قرية ومدينة رسولا فخفّف عنه العبء وكفاه مؤونة الجهد العظيم الذي حمّله إيّاه لإبلاغ الرسالة إلى جميع العالم، ولكنه اختصّه بذلك لعظم منزلته ورفعة شأنه عنده، وقالوا
«٢» في تأويل الآية الثانية ما يفيد أنها استمرار لما في الآية الأولى من مقصد حيث تهيب بالنبي ﷺ وقد حمّله الله الرسالة العظمى العامة أن يجاهد بالقرآن جهادا كبيرا متواصلا وألّا يطيع الكافرين أو يتهاون معهم.
وهذا التأويل يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة لها كما هو المتبادر.
على أنه تبادر لنا من الآية الأولى أنها جواب على سؤال أو تحدّ صدر عن الكفار حيث تساءلوا عن سبب عدم إرسال الله تعالى رسلا إلى المدن الأخرى، وقد تضمّن الجواب أنّ ذلك في نطاق قدرة الله وإنه إذا لم يفعله فلأن النبي الذي اصطفاه وأرسله هو أهل للاضطلاع بالمهمة على أوسع شمولها، وقد تبادر لنا كذلك من الآية الثانية أنها في صدد عروض عرضها الكفار على النبي ﷺ من مسايرة أو مداهنة مما تكرر صدوره منهم وتكررت الإشارات القرآنية إليه على ما
في الآيتين الأوليين عود إلى التذكير بآيات الله وقدرته ونواميسه في كونه، ومنافع الناس منها مما يمكن أن يقال إن الآيات الثلاث التي قبلها جاءت كجملة استطرادية، إما لتسلية النبي ﷺ وتقويته والتنويه به كما قال المفسرون وإما لذكر أقوال ومواقف أخرى للكفار كما تبادر لنا. وعلى كل حال فالصلة قائمة بين هذه الآيات والسياق السابق.
وقد احتوت الآيتان الأولى والثانية إشارة إلى مخالطة الماء الحلو بالماء المالح عند ملتقى البحرين أي البحر والنهر وعدم طغيان المالح على الحلو مع ذلك كأن بينهما برزخا وسدّا، وإلى خلق الله تعالى البشر من نطف مائية فكان منهم النسل الذي منه النسيب ومنه الصهر مما فيه البرهان على قدرة الله تعالى واستحقاقه وحده للعبودية والخضوع. أما الآية الثالثة فقد نحت باللائمة على الكفار وسخفهم. فهم لا يتدبرون في عظمة الله وحكمه ونعمه فيعبدون غيره ما لا ينفعهم ولا يضرهم فيكونون في ذلك مظاهرين على ربهم الحقيقي وواقفين ضده.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)
. في الآيات تسلية وتطمين للنبي ﷺ إزاء ما يلقاه من قومه من مناوأة وتحدّ وتعجيز احتوت الفصول السابقة صورا عديدة منه حيث تقول إن الله تعالى لم يرسله إلّا مبشرا ونذيرا وليس هو مسؤولا عن عنادهم وإيمانهم وكفرهم وليس عليه إلّا الدعوة إلى الله ومجاهدة الناس بالقرآن دون تهاون ولا تراخ، وعليه أن يقول للناس إني لا أطلب منكم ولا أنتظر أجرا ولا مكافأة وكل ما أريده أن يهتدي من كان صادق الرغبة في الحق والهدى ويسير في سبيل الله ورضائه، وعليه بعد ذلك أن يجعل اعتماده وتوكله على الله الحي الذي لا يموت وأن يسبّح بحمده فهو الذي
92
خلق السموات والأرض وما بينهما الملك المسيطر على كونه العظيم الخبير المحيط بذنوب عباده وتصرّفهم والقادر عليهم والكافي لهم.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له كما هو المتبادر. ومحتواها وما فيها من قصد التسلية للنبي ﷺ قد تكرر كثيرا، لأن ظروف الدعوة وسيرها كانت تقتضي ذلك على ما شرحناه في سياق سورة (ق).
وتعبير فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الذي انتهت به الآيات من تعابير العرب الأسلوبية في صدد توكيد صحة ما يصدر من القائل والمتكلم. وقد جاء هنا لمثل هذا التوكيد.
ولقد سبق القول في موضوع استواء الله على العرش وخلقه السموات والأرض في ستة أيام في سياق تفسير سورتي (ق والأعراف) بما فيه الكفاية.
والآية هنا كما هي في السور الأخرى في صدد التنويه بقدره الله وعظمته وسعة كونه وعلمه وشمول ملكه. على ما يلهمه مضمونها وسياقها. وهو المقصد الجوهري فيما احتوته هنا وفي الأماكن الأخرى.
ولعلّ ورود هذه الآيات التي تنفي طلب النبي ﷺ أجرا بعد الآيات السابقة التي تأمره بعدم طاعة الكفار ومجاهدتهم بالقرآن مما يؤيد صحة ما تبادر لنا من الآيتين والله أعلم.
وقد قال المفسرون
«١» في صدد جملة إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إنها بسبيل تقرير أن ما يدعو النبي ﷺ إليه من الإنفاق والزكاة إنما هو في سبيل القربى إلى الله وليس له خاصة. والتأويل الذي أوّلنا به الجملة هو الأكثر اتساقا مع روح الآيات وظرف نزولها وصلتها مع الفصول السابقة كما هو المتبادر.
تعليق على الأمر بالتوكل على الله
وبمناسبة الأمر الوارد في الآية للنبي ﷺ بالتوكل على الله تعالى نقول إن في القرآن آيات كثيرة مكية ومدنية يبلغ عددها نحو سبعين فيها تكرار لمثل هذا الأمر
93
للنبي وللمؤمنين وحكاية لقول الأنبياء بأنهم يتوكلون على الله وإيذان بأن التوكّل على الله هو من شأن عباد الله المؤمنين وبأن من شأن ذلك أن يحقّق الله أمل المتوكّل عليه وبأن الله هو وحده الأهل للتوكل عليه وهو حسب من يتوكل عليه وبأن الله يحب المتوكلين عليه حيث يدلّ هذا على ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الأمر من حفاوة. وفيما يلي طائفة من الآيات على سبيل المثال:
١- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٢٢].
٢- فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: ١٥٩].
٣- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: [١٧٣- ١٧٤].
٤- وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: ٨١].
٥- قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ٥١].
٦- فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: ١٢٩].
٧- وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: ٤١- ٤٢].
٨- إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: ٩٩- ١٠٠].
94
٩- فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: ٧٩].
١٠- وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق: ٣].
وما احتوته الآيات وأمثالها من تقرير وحثّ هو حقّ. ويجب على المؤمن بالله أن لا يجعل اعتماده في كل أمر وموقف على غير الله وأن يكون توجهه في كل شيء إليه وحده وأن يؤمن بأن الله تعالى يساعد المتوكّل عليه ويحقّق له أمله في دفع الضرّ وجلب النفع المشروع كما جاء في الآيات. وبالإضافة إلى هذا فإن روح الآيات وسياقها يلهمان أنها أيضا بسبيل بثّ الروح والقوّة في عباد الله الصالحين وبخاصة في المواقف العصيبة التي تحزّ بهم والمصاعب التي يواجهونها وبمعنى آخر فيها معالجة روحية للمؤمن. وهو ما انطوى في كثير من الآيات مما مرّ منه أمثلة عديدة ويأتي منه أمثلة عديدة أخرى.
وهناك أحاديث نبوية تتساوق في تلقينها مع الآيات شأن كل أمر. من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال:
«يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكلون» «١». وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن عمر عن النبي ﷺ قال:
«لو أنكم توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» «٢». وحديث رواه الترمذي عن أبي معبد الجهني قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من تعلّق شيئا وكل إليه» «٣».
وهناك من يتوهم أن فكرة التوكل في الإسلام تشلّ حيوية المسلم ونشاطه أو تجعله قليل الحذر والاستعداد لمواجهة مصاعب الحياة. وروح الآيات والأحاديث التي أوردناها بل وفحواها تجعل هذه الفكرة غير واردة وتبرز أن هدفها هو بثّ
95
الأمل والاعتماد على الله وحده ومواجهة الأحداث بذلك.
ويلفت النظر إلى آية آل عمران [١٥٩] ففيها ما ينفي ذلك بصراحة وقوة حيث تأمر النبي ﷺ بمشاورة المسلمين واتخاذ الرأي الأفضل ثم العزيمة على السير به والاتكال على الله في تحقيقه. وفي حديث عمر أيضا نفي صريح حيث يذكر أن الطير لا يقعد عن الحركة في سبيل الرزق بل يسعى إليه فييسره الله له. وهذا يكون شأن المسلم الذي يتوكّل على الله حقّ توكله. وهناك حديثان مؤيدان لذلك أيضا.
واحد رواه الترمذي عن أنس جاء فيه:
«إن رجلا قال يا رسول الله أعقلها وأ توكل أو أطلقها وأ توكل؟ قال: اعقلها وتوكّل» «١». وحديث رواه الأربعة عن علي قال:
«كان رسول الله ﷺ جالسا ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال ما منكم من نفس إلّا وقد علم بمنزلها من الجنّة والنار. قالوا يا رسول الله فلم العمل. أفلا نتّوكل قال اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له. ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل: ٥- ١٠] » «٢».
وهذا أمر طبيعي لا يتحمل إسهابا. والآيات والأحاديث التي لا تحصى كثرة شاهدة عليه فقد أودع الله في الناس العقل والتمييز وجعل فيهم قابلية النشاط والعمل والكسب وأمرهم به والسعي إليه وقرر أنه خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا وأمرهم بالتسابق في الخيرات. وحثهم على العمل الصالح مطلقا وهو يعلم أنهم يطيقونه وحذّرهم من العمل السيء مطلقا وهو يعلم أنهم يطيقون اجتنابه بما أودعه فيهم من قابلية العمل والتمييز والاختيار وجعل كل نفس رهينة بما كسبت وكل هذا أيضا ينفي ذلك الوهم كما هو المتبادر ويجعل مدى التوكل في نطاق ما شرحناه.
والله أعلم.
96
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٦٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
. المتبادر أن هذه الآية جاءت استطرادية. فقد وصف الله تعالى نفسه بالرحمن في الآية السابقة لها مباشرة. فاستطردت هذه إلى التنديد بالكفّار الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن تساءلوا تساؤل المنكر المستكبر عن هذا الرحمن وقالوا بأسلوب المتهكم: كيف نسجد لما تأمرنا وازدادوا نفورا وانصرافا عن الدعوة.
تعليق على اسم الرحمن
ولقد ذكر المفسرون
«١» في سياق هذه الآية أن مسيلمة النبي الكذّاب الذي ظهر في أواخر عهد النبي ﷺ في اليمامة كان يتسمّى باسم الرحمن، وأنه أنشأ حديقة سمّاها حديقة الرحمن، أو أنه كان له صنم يسميه بهذا الاسم أقامه في الحديقة، وأن تساؤل الكفار متّصل بذلك حيث التبس عليهم الأمر فظنوا أن النبي ﷺ يأمرهم بالسجود له.
وفي سورة الرعد آية متصلة بهذا المعنى وهي: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) حيث ينطوي فيها حكاية موقف آخر للمشركين إزاء اسم الرحمن. وقد روى المفسرون في صدد هذه الآية أن أبا جهل سمع النبي ﷺ يقول يا رحمن فقال إن محمدا يدعو إلها آخر اسمه الرحمن ولا نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة
«٢».
ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن أسلوب الآيتين قد يدلّ على أن المشركين كانوا يقفون موقفا خاصا عند ذكر القرآن والنبي لهذا الاسم لسبب ما.
وهذا الاسم هو أكثر أسماء الله الحسنى ورودا في القرآن بعد اسم الجلالة
وفي القرآن غير هذه الآيات آيات كثيرة تنبّه الناس إلى السماء ونجومها وشمسها وقمرها وتسخير الله لها وما في ذلك من دلائل عظمة الله وقدرته. فهذا من أكثر ما يفكر الناس فيه ويرون فيه أعظم مشاهد كون الله ويجعلهم يشعرون تجاهه بالرهبة والذهول. والآيات القرآنية استهدفت ذلك فيما استهدفته لأن الشعور به عام عند جميع الناس في كل زمان ومكان. ومن الواجب الوقوف في ذلك عند هذا الهدف دون توسع ولا تزيد.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٧٦]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢)
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
. (١) هونا: بالتواضع والسكينة والوقار ومما روي في معناها عدم التكبّر والتجبّر والظلم والفساد.
99
(٢) الجاهلون: السفهاء والأشرار ويمكن أن يكون عني بها الكفار.
(٣) غراما: متداركا وملما وغير مفارق. والكلمة تعني شدّة العذاب واستمراره.
(٤) وكان ذلك قواما: وسطا لا إسراف ولا تقتير.
(٥) أثاما: عقوبة وجزاء.
(٦) تاب: أصل معنى الكلمة رجع، وصارت تطلق على من كفّ عن الخطأ والإثم.
(٧) لا يشهدون الزور: معنى الزور الكذب والافتراء، وقد أوّل المفسرون الجملة بمعنى شهادة الزور المعتادة وبمعنى شهود مجالس الباطل والشرك والمعصية.
(٨) وإذا مروا باللغو مروا كراما: اللغو هو الكلام التافه أو الباطل أو الذي لا نفع ولا فائدة منه. وقد أوّل المفسرون الجملة بأنهم إذا سمعوا باطلا وقيلا وقالا أو إذا رأوا معصية أو أمرا مستقبحا نزّهوا أنفسهم وانصرفوا عنه ولم يشاركوا فيه.
(٩) خرّ: وقع وطأطأ وأكبّ.
(١٠) قرّة أعين: يقال للعين التي تدمع دمعا باردا قريرة من القرّ، وهذا الدمع لا يأتي إلّا في حالة السرور والرضاء، وتستعمل الجملة للدلالة على هذه الحالة، ومن مشتقاتها أقرّ الله عينك.
(١١) إماما: مقتدى به.
(١٢) الغرفة: العليّة أو المسكن العالي.
روى الشيخان والترمذي عن عبد الله قال:
«سألت أو سأل رسول الله أيّ الذنب عند الله أكبر قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك. قلت ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، قال ونزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ» «١».
100
وروى البخاري وأبو داود عن ابن عباس قال:
«لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى آخر الآية قال أهل مكة قد عدّلنا بالله وقتلنا النفس التي حرّم الله وأتينا الفواحش. فأنزل الله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً إلى آخر الآية» «١».
ومقتضى هذين الحديثين أن الآيتين نزلتا لحدّتهما ولمناسبات طارئة. مع أن المتبادر المستلهم من روح الآيات جميعها أنها فصل واحد منسجم مع بعضه أشدّ الانسجام. وأنها جاءت بمثابة استطراد لوصف من أراد أن يتذكر أو أراد شكورا الذي ورد في الفقرة الأخيرة من الآيات السابقة. وفيها في ذات الوقت تعقيب على ما حكته الآيات السابقة من تمرّد الكفّار عن السجود للرحمن بحيث يصحّ القول إنها استمرار للسياق السابق.
وإزاء الصحة التي يتّسم بها الحديثان يمكن القول إن ما جاء فيهما قد كان قبل نزول السياق فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون في هذه الآيات جواب في سياق ما اقتضته من وصف عباد الرحمن الاستطرادي.
ولقد احتوت الآيات تقرير ما يلي:
إذا كان الكفّار يتمرّدون على الرحمن ويتصاممون عن الدعوة إليه ولا يشكرونه على نعمه ولا يتدبرون في آياته فإن للرحمن عبادا إذا مشوا على الأرض مشوا متواضعين في سكينة ووقار من غير تكبّر ولا تجبّر ولا ظلم. وإذا اعترضهم السفهاء والجاهلون ردّوا عليهم بالتي هي أحسن وقالوا نحن نريد السلام، وهم دائمو السجود والقيام لربهم متضرعين إليه بأن يقيهم عذاب جهنم الشديد الرهيب، وهم إذا أنفقوا اعتدلوا فلا يسرفون ولا يقترون، وهم لا يشركون مع الله في الدعاء والعبادة أحدا ولا يقتلون النفس التي حرّم الله باستثناء ما يكون قد حقّ القتل عليه قصاصا، ولا يزنون لأنّ من يفعل ذلك يستحقّ العقاب والإهانة ويضاعف له
101
العذاب يوم القيامة ويخلّد فيه، ويبتعدون عن الزور والإفك والبغي قولا وعملا وشهودا، وإذا سمعوا كلاما باطلا لا خير فيه أو فيه أذيّة ومعصية كرموا أنفسهم وانصرفوا عنه، وهم إذا ذكّروا بآيات الله ونعمه لا يتلقون ذلك تلقي الأعمى والأصم، بل تلقي الواعي المعتبر والشاكر المتذكّر، ويتمنون على الله أن يسرهم ويقرّ أعينهم في أزواجهم وذرياتهم بأن يكونوا على غرارهم في طاعة الله ومرضاته، كما يدعون الله بأن يجعلهم خير قدوة وأحسن أسوة للمتقين. فهؤلاء يجزيهم الله الغرف العالية في الجنة على ما ساروا عليه من سبيل الحق والهدى والخير وصبروا وثبتوا فيه، ويجدون فيها من الله التكريم والترحيب والتحية والسلام وتكون لهم نعم المستقرّ والمقام.
وقد تخلّل الآيات آيتان جاءتا معترضتين فيهما ذكر للتوبة بعد ذكر استحقاق الذين يدعون مع الله إلها آخر ويقتلون النفس التي حرّم الله ويزنون لعذاب الله وسخطه حيث استثنى فيهما الذين يتوبون إلى الله ويؤمنون به ويعملون الصالحات، وحيث قرر فيهما أن الله يبدّل سيئات هؤلاء التائبين حسنات لأنه غفور رحيم، ولأن الذي يتوب ويعمل صالحا فإنه يكون قد اعتراف بما كان منه من إثم وندم عليه ورجع إلى الله رجوعا تاما.
تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها
ويتبادر لنا أن الآيات احتوت- بالإضافة إلى ما احتوته من وصف عباد الله الصالحين وصفا مطلقا- صورة لما كان عليه المسلمون السابقون في مكة من فضائل وأخلاق مستحبة ونقاء قلب وسريرة وإنابة تامة إلى الله، ثم لما كان يقفه الكفار منهم من مواقف البغي والأذى ويوجهونه إليهم من قارص الكلام وعبارات السخرية، ولما كان من محاولات المسلمين من تجنّب الاشتباك مع الكفار والدخول معهم في نزاع ومهاترات حيث كانوا يلتزمون الوقار والسكينة والتواضع، ويدفعون السفهاء بالتي هي أحسن، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو والباطل والاندماج فيهما.
وكل هذا من دون ريب أثر من آثار الهدى القرآني والنبوي رضوان الله عليهم.
102
وبالإضافة إلى هذا وذاك مما فيه صور من السيرة النبوية وظروف الدعوة في العهد المكي فإن إطلاق العبارة في الآيات يجعلها شاملة مستمرة التلقين، وفي ما احتوته من التنويه بفضائل الأخلاق مثل التواضع وحبّ السلام والابتعاد عن التجبّر والتكبّر والمشاتمات والمهاترات وتكريم النفس عن مستوى الجهلاء والأشرار والتزام الاعتدال وعدم العدوان على دماء الناس وأعراضهم وعدم الاندماج في الزور والباطل قولا وعملا وحضورا وعدم التدخل فيما لا يعني، وتوجيه أفراد الأسرة زوجة وأولادا إلى كل ما فيه الخير والفضيلة، وتحلّي المسلم إجمالا بكل ما يجعله قدوة صالحة وأسوة حسنة للناس- تلقينات أخلاقية واجتماعية جليلة رائعة من شأنها أن توجّه المسلم إلى أقوم سبل الخير والحق، وأفضل الأخلاق والسلوك في بيته ومجتمعه وخصوصياته وعمومياته. ولذلك فإن السلسلة من أروع الكلم القرآنية المحكمة.
ويتبادر لنا من فحوى وروح الآيتين [٧٠- ٧١] ومجيئهما بعد الإنذار الرهيب الموجّه لكل من يشرك بالله ويزني ويقتل أنهما عامتا الخطاب لكل مشرك ومجرم. وأنهما أسلوب من أساليب الدعوة ودعامة لها حيث تؤذنان السامعين على اختلافهم أن الإيمان بالله والتوبة إليه يطهران فاعلهما من الأدران والخبائث ويوجهانه في طريق عباد الله الصالحين ويخلّقانه بأخلاقهم. وأن ما اقترفوه ليس مانعا لهم من الرجوع إلى الله والتوبة إليه حيث يجدونه غفورا رحيما وحيث تتبدل بسلوكه الجديد سيئاته بحسنات. وفي هذا ما فيه من روعة وقوّة تلقين.
ولقد شرحنا موضوع التوبة شرحا وافيا في سياق سورة البروج فنكتفي بهذه الإشارة في هذا المقام.
ولقد روى مسلم عن سعيد بن جبير قال:
«قلت لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا. فتلوت عليه آية الفرقان إِلَّا مَنْ تابَ فقال هذه الآية مكيّة نسختها آية مدنية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً [النساء: ٩٣] الآية» «١».
103
ولقد ذكرنا هذا وتوقفنا في التسليم به وعلّقنا عليه في سياق شرح موضوع التوبة في سورة البروج بما يغني عن التكرار.
ولقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في تأويل جملة يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ في الآية [٧٠] فهناك من قال إن معناها:
«إن الذين يتوبون إلى الله ويؤمنون ويعملون العمل الصالح يكونون بذلك قد تبدّلت أعمالهم السيئة التي كانوا يمارسونها بالأعمال الحسنة التي صاروا يمارسونها، وأن الله يبدّلهم بقبائح أعمالهم في الشرك ومحاسن الأعمال في الإسلام». وهناك من قال:
«إن معناها أن الله يمحو السيئات التي اقترفوها قبل الإيمان والتوبة ويثبت لهم بدلها حسنات».
وهناك من خرّج ذلك:
«بأن التائب من الذنوب التي عملها قد قارن كل ذنب منها ندما عليه وكفّ نفسه عنه وعزم على ترك معاودته، وهذه حسنات بلا ريب وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم وهو حسنة، وبهذا تبدّلت السيئة بالحسنة» «١» وكل من هذه الأقوال وجيه.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٧٧]
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
. (١) ما يعبأ بكم ربي: يعبأ بمعنى يهيئ أو يكترث. وقد أوّل بعض المفسرين الجملة بمعنى (ما الذي يصنعه ربي لكم ويهيئه لكم بعد تكذيبكم) وأوّلها بعضهم بمعنى (لا يكترث ربي بكم ولا يبالي بعد تكذيبكم).
(٢) لزاما: لازما لا بدّ منه. وأكثر المفسرين على أن جملة فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧) بمعنى سوف يكون عذابكم واقعا ولا زما لكم لا بدّ منه.
جاءت الآية خاتمة للسورة، والمتبادر من روحها ومضمونها أنها عود على بدء بسبيل إنذار الكفار وتقريعهم، وأنها ليست استمرارا للآيات السابقة لها مباشرة
104
التي تضمنت وصف عباد الرحمن والثناء عليهم، فبعد أن انتهت تلك الآيات جاءت هذه الآية تلتفت ثانية إلى الكفار الذين كانوا موضوع الكلام السابق وتأمر النبي ﷺ بأن يقول لهم: إن الله لم يكن ليعتدّ بكم ويهتم لأمركم لولا دعاؤكم، وبالرغم من ذلك فقد كذّبتم بما جاءكم فاستحققتم العذاب وصار لازما عليكم لا معدى لكم عنه.
تعليق على تعبير لَوْلا دُعاؤُكُمْ
وأكثر المفسرين أوّلوا جملة لَوْلا دُعاؤُكُمْ بما يفيد أن الله تعالى ما كان ليكترث بكم ويهتم لأمركم لولا حرصه على دعوتكم إليه وإيمانكم به وعبادتكم له، وهو تأويل وجيه
«١». ومن المفسرين من أرجع ضمير المخاطب في دُعاؤُكُمْ إلى عباد الرحمن وأرجع الضمائر الأخرى في الآية إلى الكفار وهو غريب
«٢».
ومما يتبادر لنا أن جملة لَوْلا دُعاؤُكُمْ هي بسبيل الإشارة إلى اعتراف المشركين بالله الخالق البارئ ربّ الأكوان ودعائهم إيّاه وحده حينما يصيبهم الضرّ مما حكته آيات عديدة مثل آية سورة الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) وآية الزخرف هذه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وآيات سورة النحل هذه: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) وآية سورة العنكبوت هذه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) أو بسبيل الإشارة إلى ما كانوا يتمنونه على الله ويدعونه بإرسال نذير بكتاب عربي ليؤمنوا به ويسيروا على هواه مما
105
حكته آية سورة فاطر هذه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) وآيات سورة الأنعام هذه:
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ
«١» فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)، وكون هذا وذاك هو الذي جعل الله سبحانه يعبأ بهم ويرسل إليهم رسولا وينزل عليه كتابا بلغتهم ليسيروا على هداه، وكأن الآية تقول لهم إنكم بعد أن كذّبتم بما جاءكم وتمرّدتم على الله وتصاممتم عن دعوته وناوأتم رسوله بعد أن تمنيتم ذلك وطلبتموه فقد صار العذاب لزاما عليكم، وكأنها تأمر النبي ﷺ بأن يقول لهم ذلك مشهدا عليهم أنفسهم مخلصا لهم الإعذار والإنذار.
ولما كانت الفصول السابقة التي حكت أقوال الكفار ومواقفهم وردّت عليهم مقرعة مكذّبة منذرة من جهة، ومبرهنة على ربوبية الله عزّ وجلّ واستحقاقه وحده للعبادة من جهة، ومثنية على الذين استجابوا للدعوة واصفة ما كان من أثر ذلك في أخلاقهم من جهة هي بمثابة فصول حجاجية بين النبي ﷺ وبين الكفار فتكون الآية قد جاءت إنهاء قويّا لهذه الفصول.
106