تفسير سورة ص

تفسير البغوي

تفسير سورة سورة ص من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي.
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون.

سُورَةُ ص مَكِّيَّةٌ (١) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢) ﴾
﴿ص﴾ قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: اسْمُ السُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "ص" مِفْتَاحُ اسْمِ الصَّمَدِ، وَصَادِقِ الْوَعْدِ (٢).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ (٣).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ أَيْ ذِي الْبَيَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذِي الشَّرَفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ" (الزُّخْرُفِ-٤٤)، وَهُوَ قَسَمٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقِسْمِ، قِيلَ: جَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ "ص" أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ صَدَقَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "ص" مَعْنَاهَا: وَجَبَ وَحَقَّ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: "وَالْقُرْآنِ" كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ وَاللَّهِ (٤).
وَقِيلَ: جَوَابُ الْقِسْمِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
(١) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة "ص" بمكة انظر: الدر المنثور: ٧ / ١٤٢.
(٢) انظر: زاد المسير: ٧ / ٩٧.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١١٨.
(٤) انظر: معاني القرآن للفراء: ٢ / ٣٩٦.
قَالَ قَتَادَةُ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ كَمَا قَالَ: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا" (ق-٢).
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا، ﴿فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ [تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ" (ص-١٤)، كَقَوْلِهِ: "تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا" (الشُّعَرَاءِ-٩٧) وَقَوْلِهِ: "وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ -إِنْ كُلُّ نَفْسٍ" (الطَّارِقِ-١: ٣).
وَقِيلَ:] (١) جَوَابُهُ قَوْلُهُ: "إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا" (ص-٥٤).
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ: "إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" (ص-٦٤)، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ أَقَاصِيصُ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: بَلْ لِتَدَارُكِ كَلَامٍ وَنَفْيِ آخَرَ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِـ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عِزَّةِ حَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ وَتَكَبُّرٍ عَنِ الْحَقِّ وَشِقَاقٍ وَخِلَافٍ وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدُ: "فِي عِزَّةٍ" مُعَازِّينَ (٢).
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) ﴾
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ يَعْنِي: مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، ﴿فَنَادَوْا﴾ اسْتَغَاثُوا عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ، ﴿وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ قُوَّةٍ وَلَا فِرَارَ (٣) "وَالْمَنَاصُ" مَصْدَرُ نَاصَ يَنُوصُ، وَهُوَ الْفَوْتُ، وَالتَّأَخُّرُ، يُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَأَخَّرَ، وَبَاصَ يَبُوصُ إذا تقدم، و"لات" بِمَعْنَى لَيْسَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ (٤).
وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هِيَ "لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءُ، كَقَوْلِهِمْ: رُبَّ وَرُبَّتْ وَثَمَّ وَثَمَّتْ، وَأَصْلُهَا هَاءٌ وُصِلَتْ بِلَا فَقَالُوا: "لَاهٍ" كَمَا قَالُوا: ثَمَّةَ، فَجَعَلُوهَا فِي الْوَصْلِ تَاءً، وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ: وَلَاةَ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّاءَ زِيدَتْ فِي "حِينَ" وَالْوَقْفُ عَلَى "ولا" ثم يبتدئ: "تَحِينَ"، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: كَذَلِكَ وُجِدَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَهَذَا كَقَوْلِ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ:
الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْمِعُونَ زَمَانَ مَا مِنْ مُطْعِمٍ (٥)
(١) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٢) في "ب" متعازين.
(٣) في "ب" (ليس حين نزو ولا فرار).
(٤) في هامش "أ": "يقال: ناص، ينوص، نوصا ومناصا، أي: فر وراغ. وقال تعالى: "ولات حين مناص" أي: ليس وقت تأخر وفرار، والمناص أيضا: الملجأ والمفر".
(٥) البيت من شواهد ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (٥٣٠)، والجوهري في الصحاح مادة "حين": ٥ / ٢١٠٦، واللسان: "حين": ١٣ / ١٣٤، والطبري ٢٣ / ١٢٣. قال ابن بري: صوابه..: والمطعون زمان أين المطعم. انظر: "القرطين": ٢ / ٩٨ تعليق (١).
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ بِهَا تَلَانِ إِلَى أَصْحَابِكَ، يُرِيدُ: الْآنَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا فِي الْحَرْبِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصَ، أَيْ: اهْرَبُوا وَخُذُوا حِذْرَكُمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمُ الْعَذَابَ بِبَدْرٍ قَالُوا: مَنَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ" (١) [أَيْ لَيْسَ] (٢) حِينَ هَذَا الْقَوْلِ.
﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) ﴾
﴿وَعَجِبُوا﴾ يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: "بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا" ﴿أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي: رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾.
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَرِحَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِلْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُمُ الصَّنَادِيدُ وَالْأَشْرَافُ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا أَكْبَرُهُمْ سِنًّا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ لَهُمْ: امْشُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَأَتَوْا أَبَا طَالِبٍ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ، وَإِنَّا قَدْ أَتَيْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَسْأَلُونَكَ السَّوَاءَ، فَلَا تَمِلْ كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى قَوْمِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعْكَ وَإِلَهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُعْطُونِي كَلِمَةً وَاحِدَةً تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لِلَّهِ أَبُوكَ لَنُعْطِيَكَهَا وَعَشْرًا أَمْثَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [فَنَفَرُوا] (٣) مِنْ ذَلِكَ وَقَامُوا، وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ كَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ (٤)
﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ أَيْ: عَجِيبٌ، وَالْعَجَبُ وَالْعُجَابُ وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ كَرِيمٌ وَكُرَامٌ، وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ، وَطَوِيلٌ وَطُوَالٌ، وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ.
(١) انظر البحر المحيط: ٧ / ٣٨٤.
(٢) زيادة من "ب".
(٣) في "ب" فتفرقوا.
(٤) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (١٤١) :"ذكره الثعلبي بغير سند". ورواه الترمذي: ٩ / ٩٩-١٠١ وقال: (هذا حديث حسن صحيح) والنسائي في التفسير: ٢ / ٢١٦- ٢١٧، وابن حبان برقم (١٧٥٧) ص (٤٣٥) من موارد الظمآن، والإمام أحمد: ١ / ٢٢٧، وإسحاق، وأبو يعلى، والطبري: ٢٣ / ١٢٥، وابن أبي حاتم وغيرهم من طريق يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الحديث- نحوه" وليس فيه أوله.
وأخرجه أيضًا: البيهقي في السنن ٩ / ١٨٨، وصححه الحاكم: ٢ / ٤٣٢، والواحدي في أسباب النزول ص (٤٢٤).
وانظر: الدر المنثور: ٧ / ١٤٢ - ١٤٣.
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) ﴾
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ﴾ أَيِ: انْطَلَقُوا مِنْ مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ، أَيْ: اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ أَيْ لَأَمْرٌ يُرَادُ بِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَسْلَمَ وَحَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ بِمَكَانِهِ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ مِنْ زِيَادَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَشَيْءٌ يُرَادُ بِنَا.
وَقِيلَ: يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِمُحَمَّدٍ أَنْ يُمَلَّكَ عَلَيْنَا.
﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ، ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: يَعْنُونَ النَّصْرَانِيَّةَ، لِأَنَّهَا آخِرُ الْمَلَلِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ، بَلْ يَقُولُونَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ مِلَّةَ قُرَيْشٍ وَدِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ كذب وافتعال.
﴿أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ الْقُرْآنُ ﴿مِنْ بَيْنِنَا﴾ وَلَيْسَ بِأَكْبَرِنَا وَلَا أَشْرَفِنَا، يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ أَيْ وَحْيِي وَمَا أَنْزَلْتُ، ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ وَلَوْ ذَاقُوهُ لَمَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ.
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ﴾ أَعِنْدَهُمْ، ﴿خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ أَيْ: نِعْمَةُ رَبِّكَ يَعْنِي: مَفَاتِيحَ النُّبُوَّةِ يعطونها من شاؤوا، نَظِيرُهُ: "أَهُمْ يقسمون رحمة ١٠٠/أرَبِّكَ" (الزُّخْرُفُ -٣٢) أَيْ نُبُوَّةَ رَبِّكَ، ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ، الْوَهَّابِ] (١) وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".
﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢) ﴾
﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ أَيْ: إِنِ ادَّعَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، وَلْيَأْتُوا مِنْهَا بِالْوَحْيِ إِلَى مَنْ يَخْتَارُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرَادَ بِالْأَسْبَابِ: أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَطُرُقَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَابٍ أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ سَبَبُهُ، وَهَذَا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ.
﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ جند هنالك، و"ما" صِلَةٌ، ﴿مَهْزُومٌ﴾ مَغْلُوبٌ، ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْنَادِ، يَعْنِي: قُرَيْشًا.
قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جُنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (الْقَمَرُ-٤٥) فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ (١)، و"هنالك" إِشَارَةٌ إِلَى بَدْرٍ وَمَصَارِعِهِمْ، "مِنَ الْأَحْزَابِ" أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَتَجَمَّعُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّكْذِيبِ، فَقُهِرُوا وَأُهْلِكُوا. ثُمَّ قَالَ مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ذُو الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، وَقِيلَ: أَرَادَ ذُو الْمُلْكِ الشَّدِيدِ الثَّابِتِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هُمْ فِي عِزٍّ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ دَائِمٌ شَدِيدٌ.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ (٢)
فَأَصْلُ هَذَا أَنَّ بُيُوتَهُمْ كَانَتْ تُثَبَّتُ بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذُو الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: ذُو الْجُنُودِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَوُّونَ أَمْرَهُ، وَيَشُدُّونَ مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ، وَسُمِّيَتِ الْأَجْنَادُ أَوْتَادًا لِكَثْرَةِ الْمَضَارِبِ الَّتِي كَانُوا يَضْرِبُونَهَا وَيُوَتِّدُونَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(١) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٣٠ وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٤٧ أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(٢) البيت في غريب القرآن لابن قتيبة: ٢ / ١٠٠ من "القرطين"، معاني القرآن للنحاس: ٦٠ / ٨٥، البحر المحيط: ٧ / ٣٦٧.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: "الْأَوْتَادُ" جَمْعُ الْوَتَدِ، وَكَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ يُعَذِّبُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَدٍ مَدَّهُ مُسْتَلْقِيًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، وَشَدَّ كُلَّ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْهُ إِلَى سَارِيَةٍ، وَيَتْرُكُهُ كَذَلِكَ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْأَرْضِ، يَشُدُّ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَرَأْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ وَيَشُدُّهُ بِالْأَوْتَادِ وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ (١).
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَأَرْسَانٌ وَمَلَاعِبُ يُلْعَبُ عَلَيْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ (٢).
﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥) ﴾
﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِزْبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابِ.
﴿إِنْ كُلٌّ﴾ مَا كُلٌّ، ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ عَذَابِي. ﴿وَمَا يَنْظُرُ﴾ يَنْتَظِرُ ﴿هَؤُلَاءِ﴾ يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ وَهِيَ نَفْخَةُ الصُّورِ، ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالضَّمُّ لُغَةُ تَمِيمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مِنْ رُجُوعٍ، أَيْ: مَا يُرَدُّ ذَلِكَ الصَّوْتُ فَيَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَظْرَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ صَرْفٌ وَرَدٌّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ مِيعَادُ عَذَابِهِمْ إِذَا جَاءَتْ لَمْ تُرَدَّ وَلَمْ تُصْرَفْ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْجَوَابِ مِنَ الْإِجَابَةِ، ذَهَبَا بِهَا إِلَى إِفَاقَةِ الْمَرِيضِ مَنْ عِلَّتِهِ، وَالْفُوَاقُ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تُحْلَبَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُتْرَكَ سَاعَةً حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ، فَمَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ فُوَاقٌ، أَيْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يُمْهِلُهُمْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ (٣).
وَقِيلَ: هَمَا أَيْضًا مُسْتَعَارَتَانِ مِنَ الرُّجُوعِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يَعُودُ إِلَى الضِّرْعِ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَإِفَاقَةُ الْمَرِيضِ:
(١) انظر البحر المحيط: ٧ / ٣٨٦.
(٢) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٣٠.
(٣) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٤٠٠، مجاز القرآن لأبي عبيدة: ٢ / ١٧٩.
رُجُوعُهُ إِلَى الصِّحَّةِ.
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦) ﴾
﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) ﴾
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] (١) : يَعْنِي كِتَابَنَا، و"القط" الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَحْصَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ فِي الْحَاقَّةِ: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" (الْحَاقَّةُ -١٩)، "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ" (الْحَاقَّةُ-٢٥) قَالُوا اسْتِهْزَاءً: عَجِّلْ لَنَا كِتَابَنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. [وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ] (٢) : يَعْنُونَ حَظَّنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَقُولُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي عُقُوبَتَنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ.
[وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَهُ] (٣) النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ" (٤) (الْأَنْفَالُ: ٣٢).
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "قِطَّنَا" حِسَابَنَا، وَيُقَالُ لِكِتَابِ الْحِسَابِ قِطٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: "الْقِطُّ": الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ (٥).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [أَيْ عَلَى مَا يَقُولُهُ] (٦) الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِكَ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ
(١) ساقط من "ب".
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٤) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٤٨ لعبد بن حميد.
(٥) ذكر الطبري أكثرهذه الأقوال: ٢٣ / ١٣٤-١٣٥ ثم قال مرجحا: "وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا ربهم تعجيل صكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشر-الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة-قبل يوم القيامة في الدنيا استهزاء بوعيد الله".
(٦) ساقط من "أ".
إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ" (١).
وَقِيلَ: ذُو الْقُوَّةِ فِي الْمُلْكِ.
﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطِيعٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَبِّحٌ بِلُغَةِ الْحَبَشِ.
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠) ﴾
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ﴾ كَمَا قَالَ: "وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ" (الْأَنْبِيَاءُ-٧٩) ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ بِتَسْبِيحِهِ، ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. وَالْإِشْرَاقُ: هُوَ أَنْ تُشْرِقَ الشمس ويتناهى ضوؤها وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِصَلَاةِ الضُّحَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ نُصَيْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا أَدْرِي ما هي ١٠٠/ب حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، فَقَالَ: "يَا أَمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ" (٢).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالطَّيْرَ﴾ أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ، ﴿مَحْشُورَةً﴾ مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ مَعَهُ، ﴿كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ مُطِيعٌ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَتِهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: أَوَّابٌ مَعَهُ أَيْ مُسَبِّحٌ.
﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ أَيْ: قَوَّيْنَاهُ بِالْحَرَسِ وَالْجُنُودِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا، كَانَ يَحْرُسُ مِحْرَابَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ.
(١) أخرجه البخاري في التهجد، باب: من نام عند السحر: ٣ / ١٦، ومسلم في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر برقم: (١١٥٩) ٢ / ٨١٦، والمصنف في شرح السنة: ٤ / ٦٠.
(٢) رواه ابن مردويه، والثعلبي، والواحدي، والطبراني، كلهم من رواية أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس، حدثتني أم هانئ ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحارث موقوفا على ابن عباس: ٤ / ٣٥ وفيه: ثم قال ابن عباس: هذه صلاة الإشراق. قال ابن حجر: "هذا موقوف وهو أصح". قال الهيثمي: فيه حجاج بن نصير، ضعفه ابن المديني وجماعة، ووثقه ابن معين وابن حبان. انظر: الكافي الشاف ص (١٤٢)، مجمع الزوائد: ٢ / ٢٣٨.
76
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (١) أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعْدَى (٢) عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ عِنْدَ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ -أَنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا، فَسَأَلَهُ دَاوُدُ فَجَحَدَ، فَقَالَ لِلْآخَرِ: الْبَيِّنَةُ؟ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي اسْتَعْدَى (٣) عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أَعْجَلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ تَأْتِيَهُ الْعُقُوبَةُ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ وَاللَّهِ لِأُنْفِذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، قَالَ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى أُخْبِرَكَ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ وَالِدَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ، فَلِذَلِكَ أُخِذْتُ، فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ، فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ، وَاشْتَدَّ بِهِ مُلْكُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" (٤).
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ يَعْنِي: النُّبُوَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ، ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَانَ الْكَلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: عُلِّمَ الْحُكْمَ وَالتَّبَصُّرَ فِي الْقَضَاءِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لِأَنَّ كَلَامَ الْخُصُومِ يَنْقَطِعُ وَيَنْفَصِلُ بِهِ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "فَصْلُ الْخِطَابِ": الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ (٥). وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
(١) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: ٣ / ٣٢ "ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا". راجع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة ص (٢٦٤-٢٧٠) وهو في الصحيح بغير هذا السياق، انظر: البخاري، كتاب التهجد: ٣ / ٥١، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: ١ / ٤٩٨.
(٢) في "ب" ادعى.
(٣) في "ب" ادعى.
(٤) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٣٨-١٣٩ وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٥٣ أيضا لعبد بن حميد والحاكم.
(٥) انظر الطبري: ٢٣ / ١٤٠ معاني القرآن: ٢ / ٤٠١.
77
وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: "أَمَّا بَعْدُ" (١) إِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي كَلَامٍ آخَرَ، وَأَوَّلُ [مَنْ قَالَهُ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ ] (٢) هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قِصَّةِ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي سَبَبِهِ:
فَقَالَ قَوْمٌ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَنَّى يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مَنْزِلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ كَمَا امْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ مَا أَعْطَاهُمْ.
فَرَوَى السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: عَنْ أَشْيَاخِهِمْ قَدْ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، قَالُوا: كَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَّمَ الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمًا لِنِسَائِهِ وَأَشْغَالِهِ، وَكَانَ يَجِدُ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى الْخَيْرَ كُلَّهُ وَقَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّهُمُ ابْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ تُبْتَلَ بِهَا فَصَبَرُوا عَلَيْهَا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِنُمْرُودَ وَبِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ (٣) بِالذَّبْحِ وَبِذَهَابِ بَصَرِهِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِالْحُزْنِ عَلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ صَبَرْتُ أَيْضًا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنَّكَ مُبْتَلًى فِي شَهْرِ كَذَا وَفِي يَوْمِ كَذَا فَاحْتَرِسْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ دَخَلَ دَاوُدُ مِحْرَابَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الزَّبُورَ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ حَسَنٍ -وَقِيلَ: كَانَ جَنَاحَاهَا مِنَ الدُّرِّ وَالزَّبَرْجَدِ -فَوَقَعَتْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهَا وَيُرِيَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَنْظُرُوا إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا قَصَدَ أَخْذَهَا طَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤَيِّسَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا، فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى وَقَعَتْ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا، فَطَارَتْ مِنَ الْكُوَّةِ، فَنَظَرَ دَاوُدُ أَيْنَ تَقَعُ فَيَبْعَثُ مَنْ يَصِيدُهَا، فَأَبْصَرَ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ عَلَى شَطِّ بِرْكَةٍ لَهَا تَغْتَسِلُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. (٤)
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: رَآهَا تَغْتَسِلُ عَلَى سَطْحٍ لَهَا فَرَأَى امْرَأَةً مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ خَلْقًا، فَعَجِبَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِهَا وَحَانَتْ مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَقَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى بَدَنَهَا، فَزَادَهُ ذَلِكَ إِعْجَابًا بِهَا فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ هِيَ تَيْشَايِعُ بِنْتُ شَايِعَ امْرَأَةُ أُورِيَّا بْنِ حَنَانَا، وَزَوْجُهَا فِي غَزَاةٍ بِالْبَلْقَاءِ مَعَ أَيُّوبَ بْنِ صُورِيَا ابْنِ أُخْتِ دَاوُدَ.
(١) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٤٠ وانظر: معاني القرآن: ٢ / ٤٠١.
(٢) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٣) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
(٤) هذه الروايات ضعيفة، راجع ما نقله السيوطي عن ابن حجر في الدر المنثور: ٨ / ٧٠٠ - ٧٠١.
78
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَقْتُلَ أُورِيَّا وَيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، فَكَانَ ذَنْبُهُ هَذَا الْقَدْرَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ دَاوُدُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَيُّوبَ أَنِ ابْعَثْ أُورِيَّا إِلَى مَوْضِعِ كَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، وَكَانَ مَنْ قُدِّمَ عَلَى التَّابُوتِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَرَاءَهُ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ يَسْتَشْهِدَ، فَبَعَثَهُ وَقَدَّمَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا أَشَدَّ مِنْهُ بَأْسًا، فَبَعَثَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ، فَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (١).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ ذَنْبَ دَاوُدَ أَنَّهُ الْتَمَسَ مِنَ الرَّجُلِ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُمْ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا رَغْبَةٍ في الدنيا، وازديادًا لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي سَبَبِ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَزَّأَ الدَّهْرَ أَجْزَاءً، يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يُذَاكِرُهُمْ وَيُذَاكِرُونَهُ وَيُبْكِيهِمْ وَيُبْكُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَكَّرُوهُ فَقَالُوا: هَلْ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا، فَأَضْمَرَ دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُطِيقُ ذَلِكَ (٢).
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِتْنَةَ النِّسَاءِ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ في نفسه ١٠١/أأَنَّهُ إِنِ ابْتُلِيَ اعْتَصَمَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِبَادَتِهِ أَغْلَقَ أَبْوَابَهُ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ عَلَى التَّوْرَاةِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ إِذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَكَانَ قَدْ بَعَثَ زَوْجَهَا عَلَى بَعْضِ جُيُوشِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا إِذَا سَارَ إِلَيْهِ قُتِلَ، فَفَعَلَ فَأُصِيبَ فَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ.
قَالُوا: فَلَمَّا دَخَلَ دَاوُدُ بِامْرَأَةِ أُورِيَّا لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ فَتَسَوَّرَا الْمِحْرَابَ عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ، يُقَالُ: كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ خَبَرُ الْخَصْمِ، ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ صَعَدُوا وَعَلَوْا، يُقَالُ: تَسَوَّرْتُ الْحَائِطَ وَالسُّورَ إِذَا عَلَوْتَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْفِعْلَ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّ الْخَصْمَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ
(١) انظر الطبري: ٢٣ / ١٤٧.
(٢) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٤٨، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٥٨ - ١٥٩ أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر.
79
وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ هَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" (التَّحْرِيمُ -٤).
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣) ﴾
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ خَافَ مِنْهُمَا حِينَ هَجَمَا عَلَيْهِ فِي مِحْرَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ، ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ﴾ [أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ] (١) ﴿بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ جِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَا "بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ" وَهُمَا مَلَكَانِ لَا يَبْغِيَانِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَرَأَيْتَ خَصْمَيْنِ بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْبَغْيِ مِنْ أَحَدِهِمَا.
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ﴾ أَيْ لَا تَجُرْ، يُقَالُ: شَطَّ الرَّجُلُ شَطَطًا وَأَشَطَّ إِشْطَاطًا (٢) إِذَا جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَمَعْنَاهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ وَأَشَطَّتْ، إِذَا بَعُدَتْ ﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ أَرْشِدْنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَالْعَدْلِ، فَقَالَ دَاوُدُ لَهُمَا: تَكَلَّمَا.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ أَيْ: عَلَى دِينِي وَطَرِيقَتِي، ﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ [يَعْنِي امْرَأَةً] ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أَيِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بِالنَّعْجَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ (٣)، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَعْرِيضٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّفْهِيمِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِعَاجٌ وَلَا بَغْيٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَوِ اشْتَرَى بَكْرٌ دَارًا، وَلَا ضَرْبَ هُنَالِكَ وَلَا شِرَاءَ.
﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: انْزِلْ لِي عَنْهَا. وَحَقِيقَتُهُ: ضُمَّهَا إِلَيَّ فَاجْعَلْنِي كَافِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: طَلِّقْهَا لِأَتَزَوَّجَهَا،.
﴿وَعَزَّنِي﴾ وَغَلَبَنِي ﴿فِي الْخِطَابِ﴾ أَيْ: فِي الْقَوْلِ. وَقِيلَ: قَهَرَنِي لِقُوَّةِ مُلْكِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لَهُ لِضَعْفِي فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِأَمْرِ
(١) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(٢) في أ: شطاطا.
(٣) راجع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة: ص (٢٦٦ - ٢٧٠).
دَاوُدَ مَعَ أُورِيَّا زَوْجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ حَيْثُ كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلِأُورِيَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ.
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤) ﴾
﴿قَالَ﴾ دَاوُدُ ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾ أَيْ: بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَوْلَ صَاحِبِهِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِرَافِ صَاحِبِهِ بِمَا يَقُولُ.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ﴾ الشُّرَكَاءِ، ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا. ﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ أَيْ: قَلِيلٌ هُمْ، و"ما" صِلَةٌ يَعْنِي: الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ قَلِيلٌ.
قَالُوا: فَلَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا دَاوُدُ نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
﴿وَظَنَّ دَاوُدُ﴾ أَيْقَنَ وَعَلِمَ، ﴿أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أَنَّمَا ابْتَلَيْنَاهُ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا قَالَ: "هَذَا أَخِي" الْآيَةَ، قَالَ دَاوُدُ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ لِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَعْجَةً وَلِأَخِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَهَا مِنْهُ فَأُكْمِلَ نِعَاجِي مِائَةً، قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ، إذًا لَا نَدَعُكَ وَإِنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا، يَعْنِي: طَرَفَ الْأَنْفِ وَأَصْلَهُ وَالْجَبْهَةَ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِأُورِيَّا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، فَلَمْ تَزَلْ تُعَرِّضُهُ لِلْقَتْلِ حَتَّى قُتِلَ وَتَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهَ، فَنَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ مَا وَقَعَ فِيهِ (١).
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِتَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ ذَنْبَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ أَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ أُورِيَّا حَلَالًا لَهُ، فَاتَّفَقَ غَزْوُ أُورِيَّا وَتَقَدُّمُهُ فِي الْحَرْبِ وَهَلَاكُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلُهُ دَاوُدَ لَمْ يَجْزَعْ عَلَيْهِ كَمَا جَزِعَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ جُنْدِهِ إِذَا هَلَكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ
(١) انظر الطبري: ٢٣ / ١٤٧.
81
وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقِيلَ: كَانَ ذَنْبُ دَاوُدَ أَنَّ أُورِيَّا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا غَابَ فِي غَزَاتِهِ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَتَزَوَّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَّا، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ لِخَاطِبِهَا وَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: وَمِمَّا يُصَدِّقُ مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ أَنَّ الْمُعَافَى بْنَ زَكَرِيَّا الْقَاضِيَ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصيرفي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-حِينَ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَهَمَّ أَنْ يُجْمِعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ فَقَرِّبْ فُلَانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ وَبِمَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ فَقُتِلَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلِكَانِ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَأَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ وهو يقول ١٠١/ب فِي سُجُودِهِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ، وَلَمْ تَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: إِنَّ الرَّبَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَمِيلُ، فَكَيْفَ بِفُلَانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَا سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَعَرَجَ جِبْرِيلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِيهِ، فَقَالَ: قُلْ لِدَاوُدَ إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ عِوَضًا عَنْهُ (١).
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ فَقَضَى عَلَى نَفْسِهِ، فَتَحَوَّلَا فِي صُورَتَيْهِمَا فَعَرَجَا وَهُمَا يَقُولَانِ: قَضَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّمَا عُنِيَ بِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَلِوَقْتِ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ،
(١) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٥٠- ١٥١ وعزاه السيوطي للحكيم الترمذي وابن أبي حاتم بسند ضعيف، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وابن لهيعة اختلط. وراجع: تفسير ابن كثير: ٤ / ٣٢، والإسرائيليات والموضوعات لأبي شهبة: (٢٦٥ - ٢٦٨).
82
ثُمَّ يَعُودُ سَاجِدًا تَمَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ يَبْكِي حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ حَوْلَ رَأْسِهِ وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَبْتَلِي الْخَلْقَ بِمَا يَشَاءُ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، سُبْحَانَ الْحَائِلِ بَيْنَ الْقُلُوبِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنْتَ خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي إِبْلِيسَ فَلَمْ أَقُمْ لِفِتْنَتِهِ إِذْ نَزَلَتْ بِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَكَانَ مِنْ سَابَقِ عِلْمِكَ مَا أَنَا إِلَيْهِ صَائِرٌ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي الْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا كُشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ، فَيُقَالُ: هَذَا دَاوُدُ الْخَاطِئُ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي بِأَيِّ عَيْنٍ أَنْظُرُ إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الظَّالِمُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ، [سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ] (١) إِلَهِي بِأَيِّ قَدَمٍ أَمْشِي أَمَامَكَ وَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْكَ يَوْمَ تَزُولُ أَقْدَامُ الْخَاطِئِينَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي مِنْ أَيْنَ يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنَا الَّذِي لَا أُطِيقُ حَرَّ شَمْسِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ حَرَّ نَارِكَ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنَا الَّذِي لَا أُطِيقُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ سَوْطَ جَهَنَّمَ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي الْوَيْلُ لِدَاوُدَ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَصَابَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي قَدْ تَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ عُذْرِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي بِرَحْمَتِكَ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَلَا تُبَاعِدْنِي مِنْ رَحْمَتِكَ لِهَوَايَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مِنْ ذُنُوبِي الَّتِي أَوْبَقَتْنِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِذُنُوبِي وَاعْتَرَفْتُ بِخَطِيئَتِي فَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَانِطِينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ الدِّينِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ. (٢)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا سَاجِدًا لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى نَبَتَ الْمَرْعَى مِنْ دُمُوعِ عَيْنِهِ حَتَّى غَطَّى رَأْسَهُ، فَنُودِيَ: يَا دَاوُدُ أَجَائِعٌ فَتُطْعَمُ؟ أَوْ ظَمْآنٌ فَتُسْقَى؟ أَوْ عَارٍ فَتُكْسَى؟ فَأُجِيبُ فِي غَيْرِ مَا طَلَبَ، قَالَ: فَنَحَبَ نَحْبَةً هَاجَ لَهَا الْعُودُ فَاحْتَرَقَ مِنْ حَرِّ جَوْفِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ. (٣)
قَالَ وَهْبٌ: إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ نِدَاءٌ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تَظْلِمُ أَحَدًا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَبْرِ أُورِيَّا فَنَادِهِ، فَأَنَا أُسْمِعُهُ نِدَاءَكَ فَتَحَلَّلَ مِنْهُ، قَالَ: فَانْطَلَقَ وَقَدْ لَبِسَ الْمُسُوحَ حَتَّى جَلَسَ عِنْدَ قَبْرِهِ، ثُمَّ نَادَى يَا أُورِيَّا فَقَالَ: لَبَّيْكَ مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَنِّي لَذَّتِي وَأَيْقَظَنِي؟ قَالَ: أَنَا دَاوُدُ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حَلٍّ مِمَّا كَانَ مِنِّي إِلَيْكَ، قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْكَ إِلَيَّ؟ قَالَ: عَرَّضْتُكَ لِلْقَتْلِ: قَالَ: عَرَّضْتَنِي لِلْجَنَّةِ فَأَنْتَ فِي حَلٍّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي حَكَمٌ عَدْلٌ لَا أَقْضِي بِالْعَنَتِ، أَلَا أَعْلَمْتَهُ أَنَّكَ قَدْ تَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَنَادَاهُ
(١) ساقط من "أ".
(٢) ليس في الآيات الكريمة شيء من هذه الروايات، ولا في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعول.
(٣) انظر: الطبري: ٢٣ / ١٥٠.
83
فَأَجَابَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَلَيَّ لَذَّتِي؟ قَالَ: أَنَا دَاوُدُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ؟ قال: نَعَمْ وَلَكِنْ إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ لِمَكَانِ امْرَأَتِكَ وَقَدْ تَزَوَّجْتُهَا، قَالَ: فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ، وَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ نَادَى: الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِدَاوُدَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، وَالْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لَهُ حِينَ يُؤْخَذُ بِذَقَنِهِ فَيُدْفَعُ إِلَى الْمَظْلُومِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، الْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لَهُ حِينَ يُسْحَبُ عل وَجْهِهِ مَعَ الْخَاطِئِينَ إِلَى النَّارِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، فَأَتَاهُ نِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ: يَا دَاوُدُ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ذَنْبَكَ وَرَحِمْتُ بُكَاءَكَ وَاسْتَجَبْتُ دُعَاءَكَ وَأَقَلْتُ عَثْرَتَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَصَاحِبِي لَمْ يَعْفُ عَنِّي؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ أُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنَاهُ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنَاهُ، فَأَقُولُ لَهُ: رَضِيَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ عَمَلِي؟ فَأَقُولُ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ عَبْدِي دَاوُدَ فَأَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ فَيَهَبُكَ لِي، قَالَ: يَا رَبِّ الْآنَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي (١). فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ أَيْ سَاجِدًا، عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِيهِ انْحِنَاءٌ.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: "وَخَرَّ رَاكِعًا" هَلْ يُقَالُ لِلرَّاكِعِ: خَرَّ؟ قُلْتُ: لَا وَمَعْنَاهُ، فَخَرَّ بَعْدَمَا كَانَ رَاكِعًا، أَيْ: سَجَدَ ﴿وَأَنَابَ﴾ أَيْ: رَجَعَ وَتَابَ.
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) ﴾
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ يَعْنِي: ذَلِكَ الذَّنْبَ، ﴿وَإِنَّ لَهُ﴾ بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ ﴿عِنْدَنَا﴾ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿لَزُلْفَى﴾ لقربة ومكانة، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أَيْ: حُسْنُ مَرْجِعٍ وَمُنْقَلَبٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ (٢) : إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَكَانَ أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَقَسَّمَ الدَّهْرَ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ: يَوْمٌ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمٌ لِنِسَائِهِ، وَيَوْمٌ يَسْبَحُ فِي الْفَيَافِي وَالْجِبَالِ وَالسَّوَاحِلِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِي دَارٍ لَهُ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِحْرَابٍ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ فَيَنُوحُ مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نِيَاحَتِهِ يخرج في ١٠٢/أالْفَيَافِي فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ [الشَّجَرُ وَالرِّمَالُ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ دُمُوعِهِمْ مِثْلَ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى الْجِبَالِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ] (٣) الْجِبَالُ وَالْحِجَارَةُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ، حَتَّى تَسِيلَ مِنْ بُكَائِهِمُ الْأَوْدِيَةُ، ثُمَّ يَجِيءُ
(١) انظر: الدر المنثور: ٧ / ١٦٠- ١٦١.
(٢) وخبر وهب أيضًا من الإسرائيليات في هذه القصة كما سبق.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".
84
إِلَى السَّاحِلِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَتَبْكِي مَعَهُ الْحِيتَانُ وَدَوَابُّ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْمَاءِ وَالسِّبَاعُ، فَإِذَا أَمْسَى رَجَعَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ نَادَى مُنَادِيهِ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ نَوْحِ دَاوُدَ عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَحْضُرْ مَنْ يُسَاعِدُهُ، فَيَدْخُلُ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْمَحَارِيبُ، فَيُبْسَطُ لَهُ ثَلَاثَةُ فُرُشٍ مُسُوحٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَجِيءُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ وَفِي أَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ، فَيَجْلِسُونَ فِي تِلْكَ الْمَحَارِيبِ ثُمَّ يَرْفَعُ دَاوُدُ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَرْفَعُ الرُّهْبَانُ مَعَهُ أَصْوَاتَهُمْ، فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى تَغْرَقَ الْفُرُشُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَيَقَعَ دَاوُدُ فِيهَا مِثْلَ الْفَرْخِ يَضْطَرِبُ، فَيَجِيءُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَيَحْمِلُهُ فَيَأْخُذُ دَاوُدُ مِنْ تِلْكَ الدُّمُوعِ بِكَفَّيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا تَرَى، فَلَوْ عُدِلَ بُكَاءُ دَاوُدَ بِبُكَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَعَدَلَهُ.
وَقَالَ وَهْبٌ: مَا رَفَعَ دَاوُدُ رَأْسَهُ حَتَّى قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَوَّلُ أَمْرِكَ ذَنْبٌ وَآخِرُهُ مَعْصِيَةٌ، ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَمَكَثَ حَيَاتَهُ لَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِهِ، وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بَلَّهُ بِدُمُوعِهِ.
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِثْلَ عَيْنَيْ دَاوُدَ كَقِرْبَتَيْنِ تَنْطِفَانِ مَاءً، وَلَقَدْ خَدَّتِ الدُّمُوعُ فِي وَجْهِهِ كَخَدِيدِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ" (١).
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ قَالَ: يَا رَبِّ غَفَرْتَ لِي فَكَيْفَ لِي أَنْ لَا أَنْسَى خَطِيئَتِي فَأَسْتَغْفِرَ مِنْهَا وَلِلْخَاطِئِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَوَسَمَ اللَّهُ خَطِيئَتَهُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى، فَمَا رَفَعَ فِيهَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا بَكَى إِذَا رَآهَا، وَمَا قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ إِلَّا بَسَطَ رَاحَتَهُ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ لِيَرَوْا وَسْمَ خَطِيئَتِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ إِذَا دَعَا فَاسْتَغْفَرَ لِلْخَاطِئِينَ قَبْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ دَاوُدُ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ لَا يُجَالِسُ إِلَّا الْخَاطِئِينَ، يَقُولُ: تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَاطِئِ فَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ يَجْعَلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ الْيَابِسِ فِي قَصْعَةٍ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي عَلَيْهِ حَتَّى يَبْتَلَّ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ يَذَرُ عَلَيْهِ الْمِلْحَ وَالرَّمَادَ فَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: هَذَا أَكْلُ الْخَاطِئِينَ، قَالَ: وَكَانَ دَاوُدُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مَا كَانَ، صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ وَقَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ.
وَقَالَ ثَابِتٌ: كَانَ دَاوُدُ إذ ذَكَرَ عِقَابَ اللَّهِ تَخَلَّعَتْ أَوْصَالُهُ، فَلَا يَشُدُّهَا إِلَّا الْأَسْرُ، وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ اللَّهِ تَرَاجَعَتْ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ الْوُحُوشَ وَالطَّيْرَ كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ كَانَتْ لَا تُصْغِي
(١) ضعيف أخرجه الإمام أحمد في الزهد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول. انظر: الدر المنثور: ٧ / ١٦٣.
85
إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا دَاوُدُ ذَهَبَتْ خَطِيئَتُكَ بِحَلَاوَةِ صَوْتِكَ (١).
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو النُّعْمَانِ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا" (٢).
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ؟ قَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: "وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ" إِلَى "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ" (الْأَنْعَامِ: ٨٤ -٩٠) وَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٣).
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي جَدُّكَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ [مِثْلَ ذَلِكَ] (٤) مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قول الشجرة" (٥)
(١) قال القاضي عياض في كتابه "الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى" ٢ / ٨٢٧ - ٨٢٨ "لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله المفسرون، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص الله عليه في قصة داود: قوله (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت.. وقال الداوودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم".
(٢) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب: سجدة (ص) ٢ / ٥٥٣.
(٣) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة (ص) ٨ / ٥٤٤.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) أخرجه الترمذي في الجمعة، أبواب السفر، باب: ما جاء في ما يقول في سجود القرآن: ٣ / ١٨١، قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: سجود القرآن برقم (١٠٥٣) ١ / ٣٣٤، والحاكم: ١ / ٢١٩ - ٢٢٠ وصححه ووافقه الذهبي. قال الحافظ ابن حجر في التلخيص ٢ / ٨: "رواه الشافعي في الأم عن ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. ورواه في القديم عن سفيان عن عمر بن ذر عن أبيه قال: سجدها داود، قال البيهقي: وروي من وجه آخر عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موصولا وليس بالقوي. قلت: - ابن حجر - رواه النسائي من حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا، ورواه الدارقطني من حديث عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذر بنحوه، وأعله ابن الجوزي به، وقد توبع، وصححه ابن السكن، وفي البخاري عن عكرمة عن ابن عباس (ص) ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد فيها". وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (٢٧١٠).
86
﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦) ﴾
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) ﴾
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ تُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ بِأَمْرِنَا، ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ بِالْعَدْلِ، ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ أَيْ بِأَنْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، أَيْ: تَرَكُوا الْقَضَاءَ بِالْعَدْلِ.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا لِثَوَابٍ وَلَا لِعِقَابٍ. ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الذين ظنوا أنهما خلقا لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾.
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (١) ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [أَيِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْكُفَّارِ] (٢) وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمُتَّقِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا نَجْعَلُ ذَلِكَ.
(١) انظر البحر المحيط: ٧ / ٣٩٥.
(٢) زيادة من "ب".
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩) وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١) ﴾
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، ﴿مُبَارَكٌ﴾ كَثِيرٌ خَيْرُهُ وَنَفْعُهُ، ﴿لِيَدَّبَّرُوا﴾ أَيْ: لِيَتَدَبَّرُوا، ﴿آيَاتِهِ﴾ وَلِيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "لِتَدَبَّرُوا" بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ، قَالَ الْحَسَنُ: تَدَبُّرُ آيَاتِهِ: اتِّبَاعُهُ ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ﴾ لِيَتَّعِظَ، ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.
قَوْلُهُ عز وجل: ١٠٢/ب ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَزَا سُلَيْمَانُ أَهْلَ دِمَشْقَ وَنَصِيبِينَ، فَأَصَابَ مِنْهُمْ أَلْفَ فَرَسٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ أَلْفَ فَرَسٍ (١).
وَقَالَ عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا أُخْرِجَتْ مِنَ الْبَحْرِ لَهَا أَجْنِحَةٌ (٢).
[قَالُوا:] (٣) فَصَلَّى سُلَيْمَانُ الصَّلَاةَ الْأُولَى، وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَهِيَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةٍ، فَتَنَبَّهَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ غَرَبَتْ، وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ هَيْبَةً لِلَّهِ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، حَيْثُ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ طَاعَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْنَا، كَمَا أُبِيحَ لَنَا ذَبْحُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَبَقِيَ مِنْهَا مِائَةُ فَرَسٍ، فَمَا بَقِيَ فِي أَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْخَيْلِ يُقَالُ مِنْ نَسْلِ تِلْكَ الْمِائَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمَّا عَقَرَ الْخَيْلَ أَبْدَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا وَأَسْرَعَ، وَهِيَ الرِّيحُ تَجْرِي بِأَمْرِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.
[وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ، لَهَا أَجْنِحَةٌ] (٤).
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ﴾ و"الصَّافِنَاتُ": هِيَ الْخَيْلُ الْقَائِمَةُ
(١) انظر: البحر المحيط: ٧ / ٣٩٦.
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٧٧ لعبد بن حميد وابن المنذر.
(٣) زيادة من "ب".
(٤) ما بين القوسين زيادة من "ب".
عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَقَامَتْ وَاحِدَةً عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ يَصْفِنُ صُفُونًا: إِذَا قَامَ عَلَى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ، وَقَلَبَ أَحَدَ حَوَافِرِهِ. وَقِيلَ: الصَّافِنُ فِي اللُّغَةِ الْقَائِمُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (١). أَيْ قِيَامًا وَالْجِيَادُ: الْخِيَارُ السِّرَاعُ، وَاحِدُهَا جَوَادٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْخَيْلَ السَّوَابِقَ.
﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣) ﴾
﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ أَيْ: آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، فَتَقُولُ: خَتَلْتُ الرَّجُلَ وَخَتَرْتُهُ، أَيْ: خَدَعْتُهُ، وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ (٢)، قَالَ مُقَاتِلٌ: حُبُّ الْخَيْرِ يَعْنِي: الْمَالَ، فَهِيَ الْخَيْلُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ. ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ يَعْنِي: عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ أَيْ: تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ (٣) اسْتَتَرَتْ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ، يُقَالُ: الْحَاجِبُ جَبَلٌ دُونَ قَافٍ، بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ.
﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾ أَيْ: رُدُّوا الْخَيْلَ عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا، ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ، مِثْلُ: مَا زَالَ يَفْعَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ: الْقَطْعُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ، وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (٤) وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ، لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَقْدَمُ عَلَى مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَتُوبُ عَنْ ذَنْبٍ بِذَنْبٍ آخَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَنِّفْهُ اللَّهُ عَلَى عَقْرِ الْخَيْلِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ فَرِيضَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(١) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في قيام الرجل للرجل: ٨ / ٩٢ - ٩٣، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل: ٨ / ٣٠ وقال: "هذا حديث حسن" والإمام أحمد: ٤ / ١٠٠ والطبراني في الكبير: ١٩ / ٣٥١ - ٣٥٢ وابن أبي شيبة في المصنف: ٨ / ٥٨٦، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: ٣ / ١٣٣٢.
(٢) أخرج البخاري: ٦ / ٥٤، ومسلم: ٣ / ١٤٩٤ عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البركة في نواصي الخيل" وأخرج مسلم: ٣ / ١٩٤٣ عن جرير رضي الله عنه - مرفوعا -: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة: الأجر والغنيمة".
(٣) قال الحافظ ابن حجر: الثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير من الصحابة ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله: (ردوها عليَّ) للخيل والله أعلم.
(٤) انظر: الطبري: ٢٣ / ١٥٦ وزاد المسير: ٧ / ١٣١، معاني القرآن للفراء: ٢ / ٤٠٥، القرطين لابن مطرف: ٢ / ١٠٢، معاني القرآن للنحاس: ٦ / ١١٢، تفسير ابن كثير: ٤ / ٣٥.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَبَحَهَا ذَبْحًا وَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذَّبْحُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتِهِ (١).
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَبَسَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَوَى سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِكَيِّ الصَّدَقَةِ (٢).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ، يَكْشِفُ الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ (٣) وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: "رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَقُولُ سُلَيْمَانُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ: "رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَعْنِي: الشَّمْسَ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ اخْتَبَرْنَاهُ وَابْتَلَيْنَاهُ بِسَلْبِ مُلْكِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَدِينَةٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا صَيْدُونَ، بِهَا مَلِكٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، لَمْ يَكُنْ للناس إليه سبيلا لِمَكَانِهِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَى سُلَيْمَانَ فِي مُلْكِهِ سُلْطَانًا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ، إِنَّمَا يَرْكَبُ إِلَيْهِ الرِّيحَ، فَخَرَجَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، حَتَّى نَزَلَ بِهَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَاسْتَوْلَى وَاسْتَفَاءَ وَسَبَى مَا فِيهَا، وَأَصَابَ فِيمَا أَصَابَ بِنْتًا لِذَلِكَ الْمَلِكِ، يُقَالُ لَهَا: جَرَادَةُ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَدَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَتْ عَلَى جَفَاءٍ مِنْهَا وَقِلَّةِ فِقْهٍ، وَأَحَبَّهَا حُبًّا لَمْ يُحِبَّهُ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ عَلَى مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ لَا يَذْهَبُ حُزْنُهَا وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا هَذَا الْحُزْنُ الَّذِي لَا يَذْهَبُ، وَالدَّمْعُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ؟ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَذْكُرُهُ وَأَذْكُرُ مُلْكَهُ وَمَا كَانَ فِيهِ وَمَا أَصَابَهُ فَيُحْزِنُنِي ذَلِكَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَدْ أَبْدَلَكِ اللَّهُ بِهِ مُلْكًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِهِ، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَهَدَاكِ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
(١) انظر: معاني القرآن للنحاس: ٦ / ١١٣.
(٢) رجحه أبو حيان في البحر المحيط: ٧ / ٣٩٦ وقال: هذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
(٣) رواه الطبري ٢٣ / ١٥٦ عن ابن عباس ورجحه قائلا: وهذا القول أشبه بتأويل الآية، لأن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن- إن شاء الله - ليعذب حيوانًا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.
90
ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا ذَكَرْتُهُ أَصَابَنِي مَا تَرَى مِنَ الْحُزْنِ، فَلَوْ أَنَّكَ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ فَصَوَّرُوا صُورَتَهُ فِي دَارِي الَّتِي أَنَا فِيهَا أَرَاهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَرَجَوْتُ أَنْ يُذْهِبَ ذَلِكَ حُزْنِي، وَأَنْ يُسَلِّيَ عَنِّي بَعْضَ مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ، فَقَالَ: مَثِّلُوا لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فِي دَارِهَا حَتَّى لَا تُنْكِرَ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَثَّلُوهُ لَهَا حَتَّى نَظَرَتْ إِلَى أَبِيهَا بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ حِينَ صَنَعُوهُ فَأَزَّرَتْهُ وَقَمَّصَتْهُ وَعَمَّمَتْهُ وَرَدَّتْهُ بِمِثْلِ ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُ، ثُمَّ كَانَ إِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ [مِنْ دَارِهَا] (١) تَغْدُو عَلَيْهِ فِي وَلَائِدِهَا حَتَّى تَسْجُدَ لَهُ، وَيَسْجُدْنَ لَهُ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِهِ فِي مُلْكِهِ، وَتَرُوحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَسُلَيْمَانُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَبَلَغَ ذَلِكَ آصَفَ بْنَ بَرَخْيَا، وَكَانَ صِدِّيقًا، وَكَانَ لَا يُرَدُّ عَنْ أَبْوَابِ سُلَيْمَانَ، أَيَّ سَاعَةٍ أَرَادَ دُخُولَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ دَخَلَ، حَاضِرًا كَانَ سُلَيْمَانُ أَوْ غَائِبًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَنَفِدَ عُمْرِي، وَقَدْ حَانَ مِنِّي الذَّهَابُ، فَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَقُومَ مَقَامًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَذْكُرُ فِيهِ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ بِعِلْمِي فِيهِمْ، وَأُعَلِّمُ النَّاسَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَقَالَ: افْعَلْ، فَجَمْعَ لَهُ سُلَيْمَانُ النَّاسَ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَثْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا فِيهِ، فَذَكَرَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا أَحْلَمَكَ في صغرك، ١٠٣/أوَأَوْرَعَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَفْضَلَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَحْكَمَ أَمْرِكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَبْعَدَكَ مِنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ فِي صِغَرِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَلَأَهُ غَضَبًا، فَلَمَّا دَخَلَ سُلَيْمَانُ دَارَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا آصَفُ ذَكَرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِمْ خَيْرًا فِي كُلِّ زَمَانِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا ذَكَرْتَنِي جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ بِخَيْرٍ فِي صِغَرِي، وَسَكَتَّ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي فِي كِبَرِي؟ فَمَا الَّذِي أَحْدَثْتُ فِي آخِرِ أَمْرِي؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيُعْبَدُ فِي دَارِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فِي هَوَى امْرَأَةٍ، فَقَالَ: فِي دَارِي؟ فَقَالَ: فِي دَارِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ مَا قُلْتَ الَّذِي قَلْتَ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ بَلَغَكَ، ثُمَّ رَجَعَ سُلَيْمَانُ إِلَى دَارِهِ وَكَسَرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ، وَعَاقَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَوَلَائِدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثِيَابِ الطُّهْرَةِ فَأُتِيَ بِهَا وَهِيَ ثِيَابٌ لَا يَغْزِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَنْسِجُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَغْسِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، لَمْ تَمْسَسْهَا امْرَأَةٌ قَدْ رَأَتِ الدَّمَ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَحْدَهُ، فَأَمَرَ بِرَمَادٍ فَفُرِشَ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ وَتَمَعَّكَ فِيهِ بِثِيَابِهِ تَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَضَرُّعًا إِلَيْهِ يَبْكِي وَيَدْعُو، وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا كَانَ فِي دَارِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يَوْمَهُ حَتَّى أَمْسَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الْأَمِينَةُ، كَانَ إِذَا دَخَلَ مَذْهَبَهُ أَوْ أَرَادَ إِصَابَةَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ، وَكَانَ لَا يَمَسُّ خَاتَمَهُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فَوَضَعَهُ يَوْمًا عِنْدَهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَذْهَبَهُ فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ، عَلَى صُورَةِ سُلَيْمَانَ لَا تُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: خَاتَمِي أَمِينَةُ! فَنَاوَلَتْهُ إِيَّاهُ، فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ سُلَيْمَانَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَأَتَى الْأَمِينَةَ وَقَدْ غُيِّرَتْ حَالُهُ، وَهَيْئَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَقَالَ: يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي، قَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَتْ: كَذَبْتَ فَقَدْ جَاءَ سُلَيْمَانُ فَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّ خَطِيئَتَهُ قَدْ أَدْرَكَتْهُ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى الدَّارِ مِنْ دُوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، فَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَسُبُّونَهُ، وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى الْبَحْرِ، فَكَانَ يَنْقُلُ الْحِيتَانَ لِأَصْحَابِ الْبَحْرِ إِلَى السُّوقِ فَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ، فَإِذَا أَمْسَى بَاعَ إِحْدَى سَمَكَتَيْهِ بِأَرْغِفَةٍ وَشَوَى الْأُخْرَى فَأَكَلَهَا، فَمَكَثَ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عِدَّةَ مَا كَانَ عُبِدَ الْوَثَنُ فِي دَارِهِ، فَأَنْكَرَ آصَفُ وَعُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكْمَ عَدُوِّ اللَّهِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ آصَفُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ رَأَيْتُمُ اخْتِلَافَ حُكْمِ ابْنِ دَاوُدَ مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ فَأَسْأَلُهُنَّ فَهَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْهُ فِي خَاصَّةِ أَمْرِهِ مَا أَنْكَرْنَاهُ فِي عَامَّةِ أَمْرِ النَّاسِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالَ: وَيَحَكُنَّ هَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْ أَمْرِ ابْنِ دَاوُدَ مَا أَنْكَرْنَا؟ فَقُلْنَ: أَشَدُّهُ مَا يَدَعُ مِنَّا امْرَأَةً فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا فِي الْخَاصَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْعَامَّةِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُونَ صَبَاحًا طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَقَذَفَ الْخَاتَمَ فِيهِ، فَبَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَهَا بَعْضُ الصَّيَّادِينَ، وَقَدْ عَمِلَ لَهُ سُلَيْمَانُ صَدْرَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ أَعْطَاهُ سَمَكَتَيْهِ وَأَعْطَاهُ السَّمَكَةَ الَّتِي أَخَذَتِ الْخَاتَمَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بِسَمَكَتَيْهِ، فَبَاعَ الَّتِي لَيْسَ فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ بِالْأَرْغِفَةِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى السَّمَكَةِ الْأُخْرَى فَبَقَرَهَا لِيَشْوِيَهَا فَاسْتَقْبَلَهُ خَاتَمُهُ فِي جَوْفِهَا، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ، وَوَقَعَ سَاجِدًا، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَعَرَفَ الَّذِي كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَقَالَ: ائْتُونِي بِصَخْرٍ فَطَلَبَتْهُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى أَخَذَتْهُ، فأتي به وجاؤوا لَهُ بِصَخْرَةٍ فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَهُ فِيهَا ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى، ثُمَّ أَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ. هَذَا حَدِيثُ وَهْبٍ (٢).
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى نِسَائِهِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ هِيَ آثَرُ نِسَائِهِ وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَأْتَمِنُهَا عَلَى خَاتَمِهِ إِذَا أَتَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا: إِنَّ أَخِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ خُصُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ إِذَا جَاءَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَابْتُلِيَ بِقَوْلِهِ، فَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ وَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ (٣) فَأَخَذَهُ وَجَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهَا خَاتَمَهُ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ قَالَ: لَا وَخَرَجَ مَكَانَهُ وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ حُكْمَهُ، فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَاؤُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَبَكَى النِّسَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِ، ونشروا التوراة فقرؤوها فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ، وَالْخَاتَمُ مَعَهُ، ثُمَّ طَارَ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ، فَوَقَعَ الْخَاتَمُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ وَهُوَ جَائِعٌ قَدِ اشْتَدَّ جُوعُهُ، فَاسْتَطْعَمَهُ مِنْ صَيْدِهِ، وَقَالَ: إِنِّي أَنَا سُلَيْمَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ دَمَهُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي ضَرَبَهُ، وَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ (٤) عِنْدَهُمْ، فَشَقَّ بُطُونَه
91
الْجَسَدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا" فَأَقَامَ آصَفُ فِي مُلْكِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَأَعَادَ الْخَاتَمَ فِي يَدِهِ فَثَبَتَ (١).
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: احْتَجَبَ سُلَيْمَانُ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ احْتَجَبْتَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ فَلَمْ تَنْظُرْ فِي أُمُورِ عِبَادِي؟ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَذَكَرَ حَدِيثَ الْخَاتَمِ وَأَخْذَ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ كَمَا رَوَيْنَا.
وَقِيلَ: قَالَ سُلَيْمَانُ يَوْمًا لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي كُلِّهِنَّ، فَتَأْتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ بِابْنٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَجَامَعَهُنَّ فَمَا خَرَجَ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا شِقُّ مَوْلُودٍ، فَجَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشَقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أجمعون" (٢)
وقال طاووس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ. وَأَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ الْجَسَدَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ هُوَ صَخْرٌ الْجِنِّيُّ (٣)، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ أَيْ رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمَّا رَجَعَ.
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) ﴾
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يُرِيدُ هَبْ لِي مُلْكًا لَا تَسْلُبْنِيهِ فِي آخر عمري، وتعطيه غَيْرِي كما استلبته في ما مَضَى مِنْ عُمُرِي.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ قِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آيَةً لِنُبُوَّتِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى رِسَالَتِهِ، وَمُعْجِزَةً.
(١) قال ابن الجوزي في زاد المسير: ٧ / ١٣٣: وهذا لا يصح، ولا ذكره من يوثق به.
(٢) أخرجه البخاري في الأيمان، باب: كيف كانت يمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ١١ / ٥٢٤، ومسلم في الأيمان، باب الاستثناء برقم (١٦٥٤) ٣ / ١٢٧٦، والمصنف في شرح السنة: ١ / ١٤٧.
(٣) راجع تعليق (١) المتقدم وما قاله ابن الجوزي فيه.
وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ حَيْثُ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَدَّ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَزَادَ فِيهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" تَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ "رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا" (١).
﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً﴾ لَيِّنَةً لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، ﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ [حَيْثُ أَرَادَ] (٢) تَقُولُ الْعَرَبُ: أَصَابَ الصَّوَابَ [فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ، تُرِيدُ أَرَادَ الصَّوَابَ] (٣).
﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ أَيْ: وَسَخَّرَنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ، ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ، ﴿وَغَوَّاصٍ﴾ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ اللَّآلِئَ مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ اللُّؤْلُؤَ مِنَ الْبَحْرِ.
﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ﴾ مَشْدُودِينَ فِي الْقُيُودِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ آخَرِينَ، يَعْنِي: مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ.
﴿هَذَا عَطَاؤُنَا﴾ [أَيْ قُلْنَا لَهُ هَذَا عَطَاؤُنَا] (٤) ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الْمَنُّ: هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثْنِيهِ، مَعْنَاهُ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَأَمْسِكْ عَمَّنْ شِئْتَ، بِغَيْرِ حِسَابٍ لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً إِلَّا عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، إِلَّا سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ أَعْطَى أُجَرُ، وَإِنْ
(١) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله تعالى: "ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب" ٦ / ٤٥٧ - ٤٥٨، ومسلم في المساجد، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه، وجواز العمل القليل برقم: (٥٤١) ١ / ٣٨٤ والمصنف في شرح السنة: ٣ / ٢٦٩.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) زيادة من "ب".
(٤) ساقط من "ب".
لَمْ يُعْطِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ، يَعْنِي: خَلِّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ فِي وِثَاقِكَ، لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيمَا تَتَعَاطَاهُ.
﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) ﴾
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) ﴾
﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ بِمَشَقَّةٍ وَضُرٍّ.
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "بِنُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِنُصْبٍ فِي الْجَسَدِ، وَعَذَابٍ فِي الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ أَيُّوبَ وَمُدَّةَ بَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (١).
فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ بَلَائِهِ قِيلَ لَهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ اضْرِبْ بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ﴾ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً، فَرَكَضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْأُخْرَى، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى، مَاءٌ عَذْبٌ بَارِدٌ، فَشَرِبَ مِنْهُ، فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ، فَقَوْلُهُ: "هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ" يَعْنِي: الَّذِي اغْتَسَلَ مِنْهُ، ﴿وَشَرَابٌ﴾ أَرَادَ الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ.
﴿وَوَهْبنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ وَهُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ، ﴿فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ فِي يَمِينِكَ، وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ، وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً
(١) راجع فيما سبق تفسير الآيتين (٨٣ - ٨٤) من سورة الأنبياء. ٥ / ٣٣٨ وما بعدها.
وَاحِدَةً، ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾.
﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) ﴾
﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "عَبْدَنَا" عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "عِبَادَنَا" بِالْجَمْعِ، ﴿إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولِي الْقُوَّةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى (١) ﴿وَالْأَبْصَارِ﴾ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، أَيِ: الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ (٢).
﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ﴾ اصْطَفَيْنَاهُمْ ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ قرأ ١٠٤/أأَهْلُ الْمَدِينَةِ: "بِخَالِصَةِ" مُضَافًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ، فَمَنْ أَضَافَ فَمَعْنَاهُ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالذِّكْرَى: بِمَعْنَى الذِّكْرِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعْنَا مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا، وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذِكْرِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ (٣).
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ فَمَعْنَاهُ: بِخُلَّةٍ خَالِصَةٍ، وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ، فَيَكُونُ "ذِكْرَى" الدَّارِ بَدَلًا عَنِ الْخَالِصَةِ.
وَقِيلَ: "أَخْلَصْنَاهُمْ": جَعَلْنَاهُمْ مُخْلَصِينَ، بِمَا أَخْبَرْنَا عَنْهُمْ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ.
(١) انظر: الطبري: ٢٣ / ١٧٠.
(٢) أخرجه االطبري: ٢٣ / ١٧٠، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٧ / ١٩٨ أيضا لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(٣) ذكرهذه الأقوال ابن كثير في تفسيره: ٤ / ٤١.
﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرٌ، أَيْ: شَرَفٌ، وَذِكْرٌ جَمِيلٌ تُذْكَرُونَ بِهِ ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾.
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) ﴾
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ أَيْ أَبْوَابُهَا [مُفَتَّحَةً لَهُمْ] (١).
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ مُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ، بَنَاتُ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَاحِدُهَا تَرْبٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ (٢).
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يُوعَدُونَ" بِالْيَاءِ هَاهُنَا، وَفِي "ق" أَيْ: مَا يُوعَدُ الْمُتَّقُونَ، وَافَقَ أَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، أَيْ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مَا تُوعَدُونَ، ﴿لِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [أَيْ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ] (٣).
﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ فَنَاءٍ وَانْقِطَاعٍ.
﴿هَذَا﴾ أَيِ الْأَمْرُ هَذَا ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ لِلْكَافِرِينَ ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ مَرْجِعٍ.
﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ يَدْخُلُونَهَا (٤) ﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾.
﴿هَذَا﴾ أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، ﴿فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ.
(١) زيادة من "ب".
(٢) ذكره الطبري: ٢٣ / ١٧٥ دون إسناد.
(٣) زيادة من "ب".
(٤) زيادة من "ب".
"وَغَسَّاقٌ": قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "وَغَسَّاقٌ" (١) حَيْثُ كَانَ بِالتَّشْدِيدِ، وَخَفَّفَهَا الْآخَرُونَ، فَمَنْ شَدَّدَ جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَّالٍ، نَحْوَ: الْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَالٍ نَحْوَ الْعَذَابِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْغَسَّاقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يَحْرُقُهُمْ بِبَرْدِهِ، كَمَا تَحْرُقُهُمُ النَّارُ بَحَرِّهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي انْتَهَى بَرْدُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْتِنُ بِلُغَةِ التُّرْكِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يَغْسِقُ أَيْ: مَا يَسِيلُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، وَلُحُومِهِمْ، وَفُرُوجِ الزُّنَاةِ، مِنْ قَوْلِهِ: غَسَقَتْ عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ الِانْصِبَابُ.
﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) ﴾
﴿وَآخَرُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "وَأُخَرُ" بِضَمِّ الْأَلِفِ عَلَى جَمْعِ أُخْرَى، مِثْلَ: الْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ نَعَتَهُ بِالْجَمْعِ، فَقَالَ: أَزْوَاجٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُشْبَعَةً عَلَى الْوَاحِدِ، ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾ مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلُ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، ﴿أَزْوَاجٌ﴾ أَيْ: أَصْنَافٌ أُخَرُ مِنَ الْعَذَابِ.
﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "هَذَا" هُوَ أَنَّ الْقَادَةَ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمُ الْأَتْبَاعُ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لِلْقَادَةِ (٢) هَذَا يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ، فَوْجٌ: جَمَاعَةٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمُ النَّارَ، أَيْ: دَاخِلُوهَا كَمَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمُوهَا: وَالْفَوْجُ: الْقَطِيعُ مِنَ النَّاسِ وَجَمْعُهُ أَفْوَاجٌ، وَالِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ رَمْيًا بِنَفْسِهِ فِيهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُمْ يُضْرَبُونَ بِالْمَقَامِعِ حَتَّى يُوقِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي النَّارِ، خَوْفًا مِنْ تِلْكَ الْمَقَامِعِ، فَقَالَتِ الْقَادَةُ: ﴿لَا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ يَعْنِي: بِالْأَتْبَاعِ، ﴿إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ﴾ أَيْ: دَاخِلُوهَا كَمَا صَلَيْنَا.
﴿قَالُوا﴾ فَقَالَ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ وَالْمَرْحَبُ، وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا أَيْ: أَتَيْتَ رَحْبًا وَسِعَةً، وَتَقُولُ: لَا مَرْحَبًا بِكَ، أَيْ: لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ الْأَرْضُ. ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا﴾ يَقُولُ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ بِالْكُفْرِ قَبْلَنَا، وَشَرَعْتُمْ وَسَنَنْتُمُوهُ لَنَا. وَقِيلَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ هَذَا الْعَذَابَ لَنَا، بِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الْكُفْرِ، ﴿فَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ أَيْ: فَبِئْسَ دَارُ الْقَرَارِ جَهَنَّمُ (٣).
(١) ساقط من "أ".
(٢) في "ب" للكفار.
(٣) زيادة من "ب".
﴿قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١) ﴾
﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) ﴾
﴿قَالُوا﴾ يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ ﴿رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا﴾ أَيْ: شَرَعَهُ وَسَنَّهُ لَنَا، ﴿فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾ أَيْ: ضَعِّفْ عَلَيْهِ الْعَذَابَ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي حَيَّاتٍ وَأَفَاعِي.
﴿وَقَالُوا﴾ يَعْنِي صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي النَّارِ، ﴿مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ﴾ فِي الدُّنْيَا، ﴿مِنَ الْأَشْرَارِ﴾ يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ: عَمَّارًا، وَخَبَّابًا، وَصُهَيْبًا، وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالُوا:
﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيَّا﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "مِنَ الْأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ" وَصْلٌ، وَيَكْسِرُونَ الْأَلِفَ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (١).
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أُولَى؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِفْهَامُ، وَتَكُونُ "أَمْ" عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى "بَلْ" وَمَنْ فَتَحَ الْأَلِفَ قَالَ: هُوَ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى لِيُعَادِلَ "أَمْ" فِي قَوْلِهِ ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعَجُّبُ "أَمْ زَاغَتْ" أَيْ، مَالَتْ "عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ" وَمَجَازُ الْآيَةِ: مَا لَنَا لَا نَرَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا لَمْ يَدْخُلُوا مَعَنَا النَّارَ؟ أَمْ دَخَلُوهَا فَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا، فَلَمْ نَرَهُمْ حِينَ دَخَلُوهَا.
وَقِيلَ: أَمْ هُمْ فِي النَّارِ وَلَكِنِ احْتَجَبُوا عَنْ أَبْصَارِنَا؟
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَمْ كَانُوا خَيْرًا مَنَّا وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَكَانَتْ أَبْصَارُنَا تَزِيغُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَا نَعُدُّهُمْ شَيْئًا. ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الَّذِي ذَكَرْتُ ﴿لَحَقٌّ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: ﴿تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ أَيْ: تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ لَحَقٌّ.
﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ مُخَوِّفٌ (٢) ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
(١) تتمة العبارة في معاني القرآن (٢ / ٤١١) فهو يجوز بالاستفهام وبطرحه.
(٢) زيادة من "ب".
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) ﴾
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾.
﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ، ﴿هُوَ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، ﴿نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَقِيلَ: يَعْنِي: الْقِيَامَةَ كَقَوْلِهِ: "عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ" (النَّبَأِ: ١ -٢).
﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ يَعْنِي: فِي شَأْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا" (الْبَقَرَةِ: ٣٠).
﴿إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "أَنَّمَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ (١).
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "إِنَّمَا" بِكَسْرِ الْأَلِفِ، لِأَنَّ الْوَحْيَ قَوْلٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانَيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عبد الرحمن بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ مَرَّ بِنَا خَالِدُ بْنُ اللَّجْلَاجِ، فدعاه مكحول ١٠٤/ب فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ حَدِّثْنَا حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَيْ رَبِّ، مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ "وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الْأَنْعَامِ: ٧٥) ثُمَّ قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قُلْتُ: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ أَمَاكِنَهُ فِي الْمَكَارِهِ، قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، وَيَكُنْ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ،
(١) في "معاني القرآن" للفراء: (٢ / ٤١٢) إلا لأني نذير ونبي.
وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَأَنْ يَقُومَ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَتَتُوبَ عَلَيَّ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَلَّمُوهُنَّ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُنَّ لَحَقٌّ" (١).
﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسٌ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ﴾. أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ الْمُتَكَبِّرِينَ. اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: أَسْتَكْبَرْتَ بِنَفْسِكَ حَتَّى أَبَيْتَ السُّجُودَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فَتَكَبَّرْتَ عَنِ السُّجُودِ لِكَوْنِكَ مِنْهُمْ؟.
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ، وقيل: من السموات. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: أَيْ مِنَ الْخِلْقَةِ الَّتِي أَنْتِ فِيهَا. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ إِبْلِيسَ تَجَبَّرَ وَافْتَخَرَ بِالْخِلْقَةِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ خِلْقَتَهُ، فَاسْوَدَّ وَقَبُحَ بَعْدَ حُسْنِهِ، ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ مَطْرُودٌ.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾، وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى.
(١) أخرجه الدارمي: ٢ / ١٢٦، والمصنف في شرح السنة: ٤ / ٣٥ و٣٧، وأشار إليه الترمذي: ٩ / ١٠٦. وانظر: مجمع الزوائد: ١ / ٢٣٨، اختيار الأولى في حديث اختصام الملأ الأعلى ص (٥-٧) مسند الإمام أحمد: ١ / ٣٦٨.
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) ﴾
﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨) ﴾
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: "فَالْحَقُّ" بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَنَصْبُ الثَّانِيَةِ أَيْ: وَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِمَا، قِيلَ: نَصْبُ الْأُولَى عَلَى الْإِغْرَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ، وَالثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَيْ: أَقُولُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَسَمٌ، أَيْ: فَبِالْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَانْتُصِبَ بِنَزْعِ [الْخَافِضِ، وَهُوَ] (١) حَرْفُ الصِّفَةِ، وَانْتِصَابُ الثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الثَّانِي تَكْرَارُ الْقَسَمِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ.
﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ جُعْلٍ، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ الْمُتَقَوِّلِينَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: "قل ما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" (٢).
قَوْلُهُ ﴿إِنْ هُوَ﴾ مَا هُوَ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ مَوْعِظَةٌ، ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ أَنْتُمْ يَا كُفَّارَ مَكَّةَ، ﴿نَبَأَهُ﴾ خَبَرَ صِدْقِهِ، ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ بَقِيَ عَلِمَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلَا وَمَنْ مَاتَ عَلِمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ (٣).
(١) ساقط من "أ".
(٢) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة (ص) - باب: (ما أنا من المتكلفين) ٨ / ٥٤٧، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب الدخان برقم (٢٧٩٨) ٤ / ٢١٥٦ - ٢١٥٧.
(٣) أخرجه الطبري: ٢٣ / ١٨٩، وذكره السيوطي في الدر المنثور، ٧ / ٢٠٩.
سورة ص
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (ص) من السُّوَر المكِّية، افتُتِحت بالإشارة إلى عظمةِ القرآن، وما كان من الكفار مِن تعجُّبٍ وتعنُّتٍ واستكبار، وقد ذكَّرهم اللهُ بما نال أسلافَهم من العذاب؛ تحذيرًا لهم، ودعوةً إلى الإيمان بالله والرُّجوع إلى الحق، كما جاءت السورةُ على ذِكْرِ قصص الأنبياء، وبيانِ مهمة الأنبياء، مختتمةً بذِكْرِ خَلْقِ الله لآدمَ وإكرامِه.

ترتيبها المصحفي
38
نوعها
مكية
ألفاظها
736
ترتيب نزولها
38
العد المدني الأول
86
العد المدني الأخير
86
العد البصري
86
العد الكوفي
88
العد الشامي
86

* سورة (ص):

سُمِّيت سورةُ (ص) بهذا الاسم؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ.

* هي السُّورة التي سجَد لسماعها الشَّجَرُ واللَّوح، والدَّواةُ والقلم:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رأَيْتُ كأنِّي نائمٌ إلى جَنْبِ شجرةٍ وأنا أقرَأُ سورةَ {صٓ}، فلمَّا بلَغْتُ إلى قولِه تعالى: {وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩} [ص: 24]، سجَدتُّ، فرأَيْتُ الشَّجرةَ سجَدتْ، وقالت: يا ربِّ، أعظِمْ بها أجري، واجعَلْها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلْتَ مِن عبدِك داودَ». قال ابنُ عباسٍ: «رأيتُ النبيَّ ﷺ سجَدَ، وقال في سجودِه ما قال ذلك الرَّجُلُ حاكيًا عن تلكَ الشجرةِ». "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1 /353).
وقريبٌ منه ما جاء عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، قال: «رأيتُ رُؤْيا وأنا أكتُبُ سورةَ {صٓ}، قال: فلمَّا بلَغْتُ السَّجْدةَ، رأَيْتُ الدَّواةَ والقلَمَ وكلَّ شيءٍ بحَضْرتي انقلَبَ ساجدًا، قال: فقصَصْتُها على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلم يَزَلْ يسجُدُ بها». أخرجه أحمد (11799).

اشتمَلتْ سورةُ (ص) على الموضوعات الآتية:

1. موقف الكافرين من القرآن (١-١١).

2. تذكير الكافرين بما نال أسلافَهم من العذاب (١٢-١٦).

3. قصص الأنبياء (١٧-٥٤).

4. قصة داودَ (١٧-٢٦).

5. الحِكْمة من خَلْقِ الأكوان، وإنزالِ القرآن (٢٧-٢٩).

6. قصة سُلَيمانَ (٣٠-٤٠).

7. قصة أيُّوبَ (٤١-٤٤).

8. قصة إبراهيمَ وذُرِّيته (٤٥-٥٤).

9. عقاب الطاغين الأشقياء (٥٥-٦٤).

10. مهمة الرسول، ووَحْدانية الله (٦٥-٧٠).

11. خَلْقُ آدمَ وإكرامُه (٧١-٨٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /439).

مقصدُ سورة (ص) هو بيانُ موقفِ الكفار من هذا الكتابِ، وتعنُّتِهم واستكبارهم، وخِذْلانِ الله لهم، وكذلك بيان نُصْرةِ الله لجنده، وعِزَّةِ المؤمنين وقُوَّتهم بعد ضَعْفٍ، وإعلائهم بمَعِيَّةِ الله لهم.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /416).