ﰡ
[تفسير سورة ص]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ص مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَهِيَ سِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً. وَقِيلَ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ آيَةً.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)قَوْلُهُ تَعَالَى:" ص" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" ص" بِجَزْمِ الدَّالِ عَلَى الْوَقْفِ، لِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مِثْلَ:" الم" وَ" المر". وقرا أبي بن عب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر ابن عَاصِمٍ" صَادِ" بِكَسْرِ الدَّالِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ. وَلِقِرَاءَتِهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عارض، ومنه" فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى" [عبس: ٦] أَيْ تَعَرَّضُ. وَالْمُصَادَاةُ الْمُعَارَضَةُ، وَمِنْهُ الصَّدَى وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ. فَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ، أَيْ عَارِضْهُ بِعَمَلِكَ وَقَابِلْهُ بِهِ، فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيهِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ يُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ قِرَاءَتَهُ رِوَايَةً صَحِيحَةً. وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى اتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ. وَالْمَذْهَبُ
يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بمنكبيه | وكما ابترك الخليع على القداح «١» |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٤٣ طبعه ثانية.
(٣). النزو: ضرب من العدو.
أَمِنْ ذِكْرِ لَيْلَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ «١»
يُقَالُ: نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا أَيْ فَرَّ وَزَاغَ. النَّحَّاسُ: وَيُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَقَدَّمَ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَالنَّوْصُ الْحِمَارُ الْوَحْشِيُّ. وَاسْتَنَاصَ أَيْ تَأَخَّرَ، قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَتَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِي" وَلاتَ حِينَ" وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَكَثَّرَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ وَكُلُّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا يَسِيرًا مَرْدُودٌ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ:" لَاتَ" مُشَبَّهَةٌ بِلَيْسَ وَالِاسْمُ فِيهَا مُضْمَرٌ، أَيْ لَيْسَتْ أَحْيَانُنَا حِينَ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَرْفَعُ بِهَا فَيَقُولُ: وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ. وَحَكَى أَنَّ الرَّفْعَ قَلِيلٌ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا كَمَا كَانَ الِاسْمُ مَحْذُوفًا فِي النصب، أي ولات حين مناص لنا. وا لقف عَلَيْهَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ" وَلاتَ" بِالتَّاءِ ثُمَّ تَبْتَدِئُ" حِينَ مَناصٍ" هُوَ قَوْلُ ابْنُ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ: وَالْقَوْلُ كما قال سيبويه، لأن شَبَهَهَا بِلَيْسَ فَكَمَا يُقَالُ لَيْسَتْ يُقَالُ لَاتَ. وَالْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ وَلَاهٍ. وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ. وَحَكَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ، كَمَا يُقَالُ ثُمَّهْ وَرُبَّهْ. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَدْ يُقَالُ ثمت بعني ثُمَّ، وَرُبَّتْ بِمَعْنَى رُبَّ، فَكَأَنَّهُمْ زَادُوا فِي لَا هَاءً فَقَالُوا لَاهْ، كَمَا قَالُوا فِي ثُمَّهْ عِنْدَ الْوَصْلِ صَارَتْ تَاءً. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَ" لَاتَ حِينَ" مَفْتُوحَتَانِ كأنهما
فتقصر عنها خطوة وتبوص
والبوص بالباء الموحدة التقدم.
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ | وفأجبنا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
تَذَكَّرَ حب ليلى لات حينا | ووأمسى الشيب فقطع الْقَرِينَا |
فَلَتَعْرِفَنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً | وَلَتَنْدَمَنَّ وَلَاتَ سَاعةِ مَنْدَمِ |
العاطفون تحين ما من عاطف | ووالمطعمون زمان ابن الْمَطْعَمُ |
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ | فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ |
نُوَلِّي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا | وَصِلِينَا كَمَا زعمت تلانا |
إن خير الموصلين صفا | - من يوافي خليله حيث كانا. |
وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمَ عِيشَةٍ | فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ |
لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جُذَيْلًا وَاتِدَا | وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا |
[سورة ص (٣٨): الآيات ١٥ الى ١٦]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً"" يَنْظُرُ" بِمَعْنَى يَنْتَظِرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ" [الحديد: ١٣]." هؤُلاءِ" يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ." إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً"
(٢). راجع ج ١٣ ص ١٣٤ وما بعده طبعه أولى أو ثانية.
حَتَّى إِذَا فيقة في ضرعها اجتمعت | وجاءت لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لَوْ رَضَعَا |
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وهم يرضعونها | وأفاويق حَتَّى مَا يُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ «١» |
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، خَرَّجَهُ عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ وَغَيْرُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ" قَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابَنَا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. الْحَسَنُ: نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ لِنَتَنَعَّمَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. وقاله سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ لِلنَّصِيبِ قِطٌّ وَلِلْكِتَابِ الْمَكْتُوبِ بِالْجَائِزَةِ قِطٌّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْقِطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ. وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ قِطٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ وَالْجَمْعُ الْقُطُوطُ، قَالَ الْأَعْشَى
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ | وبغبطته يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ |
قوم لهم ساحة العراق وما | ويجبى إلى يه والقط والقلم |
إِذَا الْقَوْسُ وَتَّرَهَا أَيِّدٌ | ورمى فَأَصَابَ الْكُلَى وَالذُّوَا |
من أن تبدلت بادى آدا
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يؤوب | ووغائب الموت لا يؤوب |
[سورة ص (٣٨): آية ١٨]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ"" يُسَبِّحْنَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ذَكَرَ تَعَالَى مَا آتَاهُ مِنَ الْبُرْهَانِ وَالْمُعْجِزَةِ وَهُوَ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ مَعَهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ ذَكَرَتِ الْجِبَالُ مَعَهُ، وَكَانَ يَفْقَهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" يُسَبِّحْنَ" يُصَلِّينَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا مُعْجِزَةً إِذَا رَآهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أُوتِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا يَكُونُ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، وَمَا تُصْغِي لِحُسْنِهِ الطَّيْرُ «٢» وَتُصَوِّتُ مَعَهُ، فَهَذَا تَسْبِيحُ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ. وَقِيلَ: سَخَّرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِتَسِيرَ مَعَهُ فَذَلِكَ تَسْبِيحُهَا، لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي" سَبَأٍ" «٣» وَفِي" سُبْحَانَ" «٤» عِنْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" [الإسراء: ٤٤] وَأَنَّ ذَلِكَ تَسْبِيحُ مَقَالٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ." بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" الْإِشْرَاقُ أَيْضًا ابْيِضَاضُ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِهَا. يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ. فَكَانَ دَاوُدُ يُسَبِّحُ إِثْرَ صَلَاتِهِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا. الثَّانِيَةُ- رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ:" بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ" وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها،
(٢). زيادة يقتضيها المعنى.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٢٦٥ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٦٨ طبعه أولى أو ثانيه.
[سورة ص (٣٨): الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً" مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوْ قُرِئَ" وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ" لَجَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ الْفِعْلُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ فَسَبَّحَتْ مَعَهُ. فَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ حَشْرُهَا. فَالْمَعْنَى وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ اللَّهَ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَيْ وَسَخَّرْنَا الرِّيحَ لِتَحْشُرَ الطُّيُورَ إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ مَعَهُ. أَوْ أَمَرْنَا الْمَلَائِكَةَ تَحْشُرُ الطُّيُورَ." كُلٌّ لَهُ" أَيْ لِدَاوُدَ" أَوَّابٌ" أَيْ مُطِيعٌ، أَيْ تَأْتِيهِ وَتُسَبِّحُ مَعَهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَشَدَدْنا مُلْكَهُ" أَيْ قَوَّيْنَاهُ حَتَّى ثَبَتَ. قِيلَ: بِالْهَيْبَةِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ مِنْهُ فِي الْقُلُوبِ. وَقِيلَ: بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ. وَقِيلَ: بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً | وترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ |
(٢). راجع ج ٤ ص ٧١ وج ١١ ص ٨٤ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة | وإذا آثر الأخبار جلاس قصاص |
(٢). راجع ج ٥ ص ١٩ طبعه أولى أو ثانية.
. وَالْبَغْيُ التَّعَدِّي وَالْخُرُوجُ عَنِ الْوَاجِبِ. يُقَالُ: بَغَى الْجُرْحُ إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَتَرَامَى، إِلَى مَا يَفْحُشُ، وَمِنْهُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتِ الْفَاحِشَةُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ" أَيْ لَا تَجُرْ، قَالَهُ السدي. وحكى أبو عبيد: شططت عليه شططت أَيْ جُرْتُ. وَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ:" إِنَّكَ لشاطئ" أَيْ جَائِرٌ عَلَيَّ فِي الْحُكْمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَمِلْ. الْأَخْفَشُ: لَا تُسْرِفْ. وَقِيلَ: لَا تُفْرِطْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ الْبُعْدُ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ أَيْ بَعُدَتْ، شَطَّتِ الدَّارُ تَشِطُّ وَتَشُطُّ شَطًّا وَشُطُوطًا بَعُدَتْ. وَأَشَطَّ فِي الْقَضِيَّةِ أَيْ جَارَ، وَأَشَطَّ فِي السَّوْمِ وَاشْتَطَّ أَيْ أَبْعَدَ، وَأَشَطُّوا فِي طَلَبِي أَيْ أَمْعَنُوا. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلِّ شي. وَفِي الْحَدِيثِ:" لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ" أَيْ لَا نُقْصَانَ وَلَا زِيَادَةَ. وفي التنزيل:" لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً" [الكهف: ١٤] أَيْ جَوْرًا مِنَ الْقَوْلِ وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ." وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ" أَيْ أَرْشِدْنَا إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ. الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" أَيْ قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ أُورِيَّا" إِنَّ هَذَا أَخِي" أَيْ عَلَى دِينِي، وَأَشَارَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَخِي أَيْ صَاحِبِي." لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً" وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَةً" بِفَتْحِ التَّاءِ فِيهِمَا وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ الصَّحِيحَةُ مِنْ قِرَاءَةِ الْحَسَنِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْمَرْأَةِ بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاةِ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُونِ وَالْمَعْجِزَةِ وَضَعْفِ الْجَانِبِ. وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحِجْرَةِ وَالنَّاقَةِ، لِأَنَّ الْكُلَّ مَرْكُوبٌ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هنه | ورابعة في البيت صغرا هنه |
ونعجتي خمسا توفيهنه | وألا فَتًى سَمْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ |
طَيُّ النَّقَا فِي الْجُوعِ يطويهنه | وويل الرَّغِيفِ وَيْلَهُ مِنْهُنَّهْ |
يَا شَاةَ مَا قَنَصَ لِمَنْ حلت له | وحرمت عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ |
فَبَعَثْتُ جَارِيَتِي فَقُلْتُ لها اذهبي | فتجسسي أخبارها لي واعلم |
قالت رأيت من الأعادي غرة | ووالشاة مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ |
فَكَأَنَّمَا الْتَفَتَتْ بِجِيدِ جداية | ورشإ مِنَ الْغِزْلَانِ حُرٍّ أَرْثَمِ |
فَرَمَيْتُ غفلة عينه عن شاته | وفأصبت حَبَّةَ قَلْبِهَا وَطِحَالَهَا |
(٢). قوله:" إنه وتلد زنى" أولى بقول سعد بن أبى وقاص. راجع الحديث في" الموطأ" ج ٦ ص ٤ طبعه السلطان عبد الحفيظ.
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فباتت | وتجاذبه وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ |
فَخَرَّ عَلَى وجهه راكعا | ووتاب إِلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبِ |
، وَتَرْتَجُّ الْأَصْوَاتُ حَوْلَ مِنْبَرِهِ وَالْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ وَالطَّيْرُ عُكَّفٌ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ مِنْبَرِهِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْعَوِيلِ وَالنَّوْحِ، وَأَثَارَتِ الْحُرُقَاتُ مَنَابِعَ دُمُوعِهِ، صَارَتِ الْجَمَاعَةُ ضَجَّةً وَاحِدَةً نَوْحًا وَبُكَاءً، حَتَّى يَمُوتَ حَوْلَ مِنْبَرِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَمَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا قِيلَ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً، أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَهُوَ يَصْعَدُ فِي مِحْرَابِهِ وَيَنْزِلُ،
[سورة ص (٣٨): آية ٢٦]
يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ" أَيْ مَلَّكْنَاكَ لِتَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَتَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الصَّالِحِينَ وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» الْقَوْلُ فِي الخليفة وأحكامه. مستوفى والحمد لله.
(٢). راجع ج ١ ص ٢٦٣ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
(٢). يفلج على صاحبه: نظفر ويفون.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا" أَيْ هَزْلًا وَلَعِبًا. أَيْ ما خلقنا هما إِلَّا لِأَمْرٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى قُدْرَتِنَا." ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا" أَيْ حُسْبَانُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمَا بَاطِلًا." فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ" ثم ونجهم فَقَالَ:" أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ" وَالْمِيمُ صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ، أَنَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ" فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يكون المفسد ما لصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا:" أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ" أَيْ أَنَجْعَلُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَالْكُفَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ هُوَ عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّارِ الْكَافِرِينَ وَهُوَ أَحْسَنُ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شي واحد.
قَلْبِي إِلَيْهِ مُشْرِفُ الْأَلُبِّ
وَرُبَّمَا أَظْهَرُوا التَّضْعِيفَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، قَالَ الْكُمَيْتُ:
إِلَيْكُمْ ذَوِي آل النبي تطلعت | ونوازع من قلبي ظماء وألبب |
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" لَمَّا ذَكَرَ دَاوُدَ ذَكَرَ سُلَيْمَانَ وَ" أَوَّابٌ" مَعْنَاهُ مُطِيعٌ." إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ" يَعْنِي الْخَيْلَ جَمْعُ جَوَادٍ لِلْفَرَسِ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْحَضَرِ، كَمَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ جَوَادٌ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْعَطِيَّةِ غَزِيرَهَا، يُقَالُ: قَوْمٌ أَجُوَادٌ وَخَيْلٌ جِيَادٌ، جَادَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَادٌ، وقوم جود مثال
(٢). وفي الألوسي أن عليا قرأ" ليتدبروا" بتاء بعد الياء آخر الحروف وكذا في البحر لأبى حيان.
صناع بإشفاها حصان بشكرها | وجواد بِقُوتِ الْبَطْنِ وَالْعِرْقُ زَاخِرُ |
لنا قبة مضروبة بفنائها | وعتاق الْمَهَارَى وَالْجِيَادُ الصَّوَافِنُ |
ألف الصفون فما يزال كأنه | ومما يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا «٢» |
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ | - مُقَلَّدَةً أَعِنَّتَهَا صُفُونَا |
(٢). ورد في اللسان في مادة صفن أن قوله مما يقوم لم يرد من قيامه، وإنما أراد من الجنس الذي يقوم على الثلاث، وجعل" كسيرا" حالا من ذلك النوع الزمن لا من الفرس المذكور.
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إذ أحبا
حلت عليه بالقفيل ضربا
والقفيل السوط. وفي كتب اللغة: ضرب بعير السوء... إلخ.
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يدا في كافر | ووأجن عورات الثغور ظلامها |
وهو فِي غَيْرِ الْمُوَطَّأِ مُسْنَدٌ مُتَّصِلٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ" «١» قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَكْفَالِهَا" وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقَهَا وَسُوقَهَا بِالسُّيُوفِ. قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشِّبْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ فِي تَقْطِيعِ ثِيَابِهِمْ وَتَخْرِيقِهَا بِفِعْلِ سُلَيْمَانَ، هَذَا. وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى نَبِيٍّ مَعْصُومٍ أَنَّهُ فَعَلَ الْفَسَادَ. وَالْمُفَسِّرُونَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَسَحَ عَلَى أَعْنَاقِهَا وَسُوقِهَا إِكْرَامًا لَهَا وَقَالَ: أَنْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا إِصْلَاحٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَرْقَبَهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَذَبْحُ الْخَيْلِ وَأَكْلُ لَحْمِهَا جَائِزٌ. وَقَدْ مَضَى فِي" النَّحْلِ" «٢» بَيَانُهُ. وَعَلَى هَذَا فَمَا فَعَلَ شَيْئًا عَلَيْهِ فِيهِ جُنَاحٌ. فَأَمَّا إِفْسَادُ ثَوْبٍ صَحِيحٍ لَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ سُلَيْمَانَ جَوَازُ مَا فَعَلَ، وَلَا يَكُونُ فِي شَرْعِنَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ بِإِبَاحَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ لَهُ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَسْحَهُ إِيَّاهَا وَسْمُهَا بِالْكَيِّ وَجَعْلُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ السُّوقَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْوَسْمِ بِحَالٍ. وَقَدْ يُقَالُ: الْكَيُّ عَلَى السَّاقِ عِلَاطٌ، وَعَلَى الْعُنُقِ وِثَاقٌ. وَالَّذِي فِي الصِّحَاحِ لِلْجَوْهَرِيِّ: عَلَطَ الْبَعِيرَ عَلْطًا كَوَاهُ فِي عُنُقِهِ بِسِمَةِ الْعِلَاطِ. وَالْعِلَاطَانِ جَانِبَا الْعُنُقِ. قُلْتُ: وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْهَاءَ فِي" رُدُّوهَا" تَرْجِعُ لِلشَّمْسِ فَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ مِثْلَ ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَلِيٍّ، فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَصَلَّيْتَ يَا عَلِيُّ" قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْسَ" قَالَتْ أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعد ما غَرَبَتْ طَلَعَتْ عَلَى الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَرَ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَهَذَانَ الْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، ورواتهما ثقات.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٧٦ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٣٤ الى ٤٠]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ" قِيلَ: فُتِنَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ مَا مَلَكَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَلَكَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ عِشْرِينَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَ" فَتَنَّا" أَيِ ابْتَلَيْنَا وَعَاقَبْنَا. وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ جَرَادَةَ امْرَأَةِ سُلَيْمَانَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا فَهَوَى أَنْ يَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُمْ، ثُمَّ قَضَى بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ عُقُوبَةً لِذَلِكَ الْهَوَى. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَبَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَقْضِي بَيْنَ أَحَدٍ، وَلَا يُنْصِفُ مَظْلُومًا مِنْ ظَالِمٍ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ:" إِنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْكَ لِتَحْتَجِبَ عَنْ عِبَادِي وَلَكِنْ لِتَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَتُنْصِفَ مظلومهم".
صِفَةُ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ وَمُلْكِهِ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يُوضَعُ لَهُ سِتُّمِائَةِ كُرْسِيٍّ، ثم يجئ أَشْرَافُ النَّاسِ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَأْتِي أَشْرَافُ الْجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْسَ، ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتُقِلُّهُمْ، وَتَسِيرُ بِالْغَدَاةِ الْوَاحِدَةِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَقَالَ وَهْبٌ وَكَعْبٌ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ، أَمَرَ بِاتِّخَاذِ كُرْسِيٍّ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ، وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ بَدِيعًا مَهُولًا بِحَيْثُ إِذَا رَآهُ مُبْطِلٌ أَوْ شَاهِدُ زُورٍ ارْتَدَعَ وَتَهَيَّبَ، فَأَمَرَ أَنْ يُعْمَلَ مِنْ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ مُفَصَّصَةٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَأَنْ يُحَفَّ بِنَخِيلِ الذَّهَبِ، فَحُفَّ بِأَرْبَعِ نَخَلَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، شَمَارِيخُهَا الْيَاقُوتُ الْأَحْمَرُ وَالزُّمُرُّدُ الْأَخْضَرُ، عَلَى رَأْسِ نخلتين منهما طاوسان مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِ نَخْلَتَيْنِ نِسْرَانِ مِنْ ذَهَبٍ بَعْضُهَا مُقَابِلٌ لِبَعْضٍ، وَجَعَلُوا مِنْ جَنْبَيِ الْكُرْسِيِّ أَسَدَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمُودٌ مِنَ الزُّمُرُّدِ الْأَخْضَرِ.
مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: إِنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ دُخُولًا الْجَنَّةَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَكَانِ مُلْكِهِ فِي الدُّنْيَا. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقُوتِ وَهُوَ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كان عطاؤه لَا تَبِعَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِنَّةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:" وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ". وَفِي الصَّحِيحِ:" لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعَوْتَهُ" الْحَدِيثُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فَجَعَلَ لَهُ مِنْ قَبْلِ السُّؤَالِ حَاجَةً مَقْضِيَّةً، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" أَيْ أَنْ يَسْأَلَهُ. فَكَأَنَّهُ سَأَلَ مَنْعَ السُّؤَالِ بَعْدَهُ، حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ أَمَلُ أَحَدٍ، وَلَمْ يَسْأَلْ مَنْعَ الْإِجَابَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ سُؤَالَهُ مُلْكًا لَا ينبغي
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يستطع | وفأخطأ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ |
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ | قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ |
وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ | - يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعُمُدِ |
فَآبَوْا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا | - وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا |
" فَامْنُنْ" مِنَ الْمَنِيِّ، يُقَالُ: أَمْنَى يُمْنِي وَمَنَى يَمْنِي لُغَتَانِ، فَإِذَا أَمَرْتَ مَنْ أَمْنَى قُلْتَ أَمْنِ، وَيُقَالُ: مِنْ مَنَى يَمْنِي فِي الْأَمْرِ امْنِ، فَإِذَا جِئْتَ بِنُونِ الْفِعْلِ نُونِ الْخَفِيفَةِ قلت امنن. ومن
(٢). هو عمرو بين كلثوم والبيت من معلقنه.
(٣). قال أبو حيان في تفسيره: ولعله لا يصح عن ابن عباس لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتى من القدرة على ذلك.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٤١ الى ٤٣]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ" أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ." أَيُّوبَ" بَدَلٌ." إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ" وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ" إِنِّي" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ قَالَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَجْمَعَتِ الْقُرَّاءُ عَلَى أَنْ قَرَءُوا" بِنُصْبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالتَّخْفِيفِ. النَّحَّاسُ: وَهَذَا غَلَطٌ وَبَعْدَهُ مُنَاقَضَةٌ وَغَلَطٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ: أَجْمَعَتِ الْقُرَّاءُ عَلَى هَذَا، وَحَكَى بَعْدَهُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْقَعْقَاعِ أَنَّهُ قَرَأَ:" بِنَصَبٍ" بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ فَغَلِطَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ، وَإِنَّمَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ:" بِنُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، كَذَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ. فَأَمَّا" بِنَصَبٍ" فَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ الْجَحْدَرِيِّ وَيَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَقَدْ حُكِيَ" بِنَصْبٍ" بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّحْوِيِّينَ بِمَعْنَى النَّصَبِ فَنُصْبٌ وَنَصَبٌ كحزن وحزن. وقد يجوزان يكون نصب جمع نصب كو، ثن وَوَثَنٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُصْبٌ بِمَعْنَى نُصُبٍ حُذِفَتْ مِنْهُ الضَّمَّةُ، فَأَمَّا" وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" [المائدة: ٣] فَقِيلَ: إِنَّهُ جَمْعُ نِصَابٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: النُّصُبُ الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ. وَالنَّصَبُ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى:" أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ" أَيْ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لَا غَيْرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ
(٢). الزيادة من قصص الأنبياء للثعلبي.
(٣). زيادة يقتضيها السياق.
. وَاخْتُلِفَ كَمْ بَقِيَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ سَاعَاتٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَصَابَ أَيُّوبَ الْبَلَاءُ سَبْعَ سِنِينَ، وَتُرِكَ يُوسُفُ، فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ،
[سورة ص (٣٨): آية ٤٤]
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- كَانَ أَيُّوبُ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَفِي سَبَبِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ لَقِيَهَا فِي صُورَةِ طَبِيبٍ فَدَعَتْهُ لِمُدَاوَاةِ أَيُّوبَ، فَقَالَ أُدَاوِيهِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَرِئَ قَالَ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، لَا أُرِيدُ جَزَاءً سِوَاهُ. قَالَتْ: نَعَمْ فَأَشَارَتْ عَلَى أَيُّوبَ بِذَلِكَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. وَقَالَ: وَيْحَكِ ذَلِكَ الشَّيْطَانُ. الثَّانِي- مَا حَكَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهَا جَاءَتْهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا كَانَتْ تَأْتِيهِ مِنَ الْخُبْزِ، فَخَافَ خِيَانَتَهَا فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا. الثَّالِثُ- مَا حَكَاهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَغْوَاهَا أَنْ تَحْمِلَ أَيُّوبَ عَلَى أَنْ يَذْبَحَ سَخْلَةً تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ يَبْرَأُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا إِنْ عُوفِيَ مِائَةً. [الرَّابِعُ [قِيلَ: بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا بِرَغِيفَيْنِ إِذْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَحْمِلُهُ إِلَى أَيُّوبَ، وَكَانَ أَيُّوبُ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ، فَلِهَذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يأخذ ضغثا فيضرب به،
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٢٣ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٢). كذا في الأصل وفى بعض النسخ" بالمخاد" بالخاء المعجمة. [..... ]
(٢). راث: أبطأ.
(٣). التمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص.
(٤). السحل الانصباب المتواصل.
(٥). الأندر: الموضع الذي يدرس فيه القمح وغيره.
(٦). القطاني: الحبوب التي تدخر كالمحص والعدس واللوبيا وما شاكلها. قوله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ
[سورة ص (٣٨): الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ" وقرا ابْنُ عَبَّاسٍ:" عَبْدَنَا" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَحُمَيْدٍ وَابْنِ مُحَيْصِنٍ وَابْنِ كَثِيرٍ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ" إِبْرَاهِيمَ" بَدَلًا مِنْ" عَبْدَنَا" وَ" إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ" عَطْفٌ. وَالْقِرَاءَةُ بِالْجَمْعِ أَبْيَنُ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ، وَيَكُونُ" إِبْرَاهِيمَ" وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْبَدَلِ. النَّحَّاسُ: وَشَرْحُ هَذَا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ أَصْحَابَنَا زَيْدًا وَعَمْرًا وَخَالِدًا، فَزَيْدٌ وَعَمْرٌو وَخَالِدٌ بَدَلٌ وَهُمُ الْأَصْحَابُ، وَإِذَا قُلْتَ رَأَيْتُ صَاحِبَنَا زَيْدًا وَعَمْرًا وَخَالِدًا فَزَيْدٌ وَحْدَهُ بَدَلٌ وَهُوَ صَاحِبُنَا، وَزَيْدٌ وَعَمْرٌو عَطْفٌ عَلَى صَاحِبِنَا وَلَيْسَا بِدَاخِلَيْنِ فِي الْمُصَاحَبَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ:" وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ" دَاخِلٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ لَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ" الْإِعْلَامِ بِمَوْلِدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ"." أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ" قَالَ النَّحَّاسُ: أَمَّا" الْأَبْصارِ" فَمُتَّفَقٌ عَلَى تَأْوِيلِهَا أَنَّهَا الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ. وَأَمَّا" الْأَيْدِي" فَمُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهَا، فَأَهْلُ التَّفْسِيرِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا الْقُوَّةُ فِي الدِّينِ. وَقَوْمٌ يَقُولُونَ:" الْأَيْدِي" جَمْعُ يَدٍ وَهِيَ النِّعْمَةُ، أَيْ هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ، أَيِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ أَحْسَنُوا وَقَدَّمُوا خَيْرًا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ." وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ" أَيِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ. وَمُصْطَفَيْنَ جَمْعُ مُصْطَفَى وَالْأَصْلُ مُصْتَفَى وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «١» عِنْدَ قَوْلِهِ:" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ"" والْأَخْيارِ" جَمْعُ خَيِّرٍ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وعبد لوارث والحسن
[سورة ص (٣٨): الآيات ٤٨ الى ٥٤]
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
ونأخذ بعده بذناب عيش | واجب الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ «٥» |
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٢٧ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). تقدمت هذه الرواية في ج ٩ ص ٣١١ بهذا اللفظ وهى توافق ما في تفسير الطبري وغيره عن عبد الله بن عمرو، ولفظ الأصل هنا" جنة عدن قصر في الجنة" إلخ.
(٤). الحبرة" بكسر الحاء المهملة وفتحها" ضرب من البرود اليمنية مخطط.
(٥). البيت للنابغة والشاهد فيه نصب الظهر بأجب على نية التنوين، وقد وصف مرض النعمان بن المنذر وأنه إن هلك صار الناس في أسوإ حال وأضيق عيش، وتمسكوا منه بمثل ذنب بعير أجب وهو الذي لا سنام له من الهزال.
(٦). راجع ص ٨٠ من هذا الجزة.
من القاصرات الطرف لو دب محول | ومن الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا «١» |
الْمُهِينِينَ مَا لهم لزمان | والسوء حَتَّى إِذَا أَفَاقَ أَفَاقُوا |
[سورة ص (٣٨): الآيات ٥٥ الى ٦١]
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ" لَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ مَا لِلطَّاغِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ:" هَذَا" خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مَحْذُوفٌ أَيِ الْأَمْرُ هَذَا فَيُوقَفُ عَلَى" هَذَا" قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:" هَذَا" وَقْفٌ حَسَنٌ. ثُمَّ تَبْتَدِئُ" وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ" وهم الذين كذبوا الرسل.
حَتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ» فِي غَلَسٍ | - وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ |
لَهَا مَتَاعٌ وَأَعْوَانٌ غَدَوْنَ به | وقتب وَغَرْبٌ إِذَا مَا أُفْرِغَ انْسَحَقَا |
(٢). قائله زهير بن أبى سلمى يصف الناقة. الى يستقى عليها. وقتب وغرب للمتاع. والقتب أداة السانية، الغرب الدلو العظيمة. وانسحقا أي مضى وبعد سيلانه.
إِذَا مَا تَذَكَّرْتُ الْحَيَاةَ وَطِيبَهَا | إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنَ اللَّيْلِ «١» غَاسِقُ |
لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلَا أَهْلًا به | وإن كان تفريق الأحبة في غد |
[سورة ص (٣٨): الآيات ٦٢ الى ٦٤]
وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا" يَعْنِي أَكَابِرُ الْمُشْرِكِينَ" مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ أَبُو جَهْلٍ: أَيْنَ بِلَالٌ أَيْنَ صُهَيْبٌ أَيْنَ عَمَّارٌ أُولَئِكَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَاعَجَبًا لِأَبِي جَهْلٍ مِسْكِينٌ، أَسْلَمَ ابْنُهُ عِكْرِمَةُ، وَابْنَتُهُ جُوَيْرِيَةُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّهُ، وَأَسْلَمَ أَخُوهُ، وَكَفَرَ هُوَ، قَالَ:
وَنُورًا أَضَاءَ الْأَرْضَ شَرْقًا وَمَغْرِبًا | - وَمَوْضِعُ رِجْلِي مِنْهُ أَسْوَدُ مُظْلِمُ |
[سورة ص (٣٨): الآيات ٦٥ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ" أَيْ مُخَوِّفٌ عِقَابَ اللَّهِ لِمَنْ عَصَاهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ." وَما مِنْ إِلهٍ" أَيْ مَعْبُودٍ" إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ" الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ"
(٢). راجع ص ١٢ وما بعدها من هذا الجزء.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٧١ الى ٧٤]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ"" إِذْ" مِنْ صِلَةِ" يَخْتَصِمُونَ" الْمَعْنَى، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى حِينَ يَخْتَصِمُونَ حِينَ" قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ". وَقِيلَ:" إِذْ قالَ" بَدَلٌ مِنْ" إِذْ يَخْتَصِمُونَ" وَ" يَخْتَصِمُونَ" يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِكَلَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقْتَ اخْتِصَامِهِمْ." فَإِذا سَوَّيْتُهُ"" إِذَا" تَرُدُّ الْمَاضِيَ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّهَا تُشْبِهُ حُرُوفَ الشَّرْطِ وَجَوَابُهَا كَجَوَابِهِ، أَيْ خَلَقْتُهُ." وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي" أَيْ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَمْلِكُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرِي. فَهَذَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا فِي" النِّسَاءِ" «٢» فِي قَوْلِهِ في عيسى" وَرُوحٌ مِنْهُ" [النساء: ١٧١]." فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ" نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَهَذَا سُجُودُ تَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" «٣»." فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ" أَيِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ وَسَجَدُوا لَهُ خُضُوعًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلَّهِ بِتَعْظِيمِهِ" إِلَّا إِبْلِيسَ" أَنِفَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ جَهْلًا بِأَنَّ السُّجُودَ لَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ، وَالْأَنَفَةُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ اسْتِكْبَارًا كُفْرٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي، هَذَا فِي" الْبَقَرَةِ" «٤» مستوفى.
(٢). راجع ج ٦ ص ٢٢ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٩٣ طبعه ثانيه أو ثالثه.
(٤). راجع ج ١ ص ٢٩٦ وما بعدها طبعه ثانيه أو ثالثه.
[سورة ص (٣٨): الآيات ٧٥ الى ٨٣]
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ" أَيْ صَرَفَكَ وَصَدَّكَ" أَنْ تَسْجُدَ" أَيْ عَنْ أَنْ تَسْجُدَ" لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" أَضَافَ خَلْقَهُ إِلَى نَفْسِهِ تَكْرِيمًا لَهُ، وَإِنْ كان خالق كل شي وَهَذَا كَمَا أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ الرُّوحَ وَالْبَيْتَ وَالنَّاقَةَ وَالْمَسَاجِدَ. فَخَاطَبَ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَهُ فِي تَعَامُلِهِمْ، فَإِنَّ الرَّئِيسَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَا يُبَاشِرُ شَيْئًا بِيَدِهِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ وَالتَّكَرُّمِ، فَذِكْرُ الْيَدِ هُنَا بِمَعْنَى هَذَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: اليد ها هنا بمعنى التأكيد وَالصِّلَةِ، مَجَازُهُ لِمَا خَلَقْتُ أَنَا كَقَوْلِهِ:" وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ" [الرحمن: ٢٧] أَيْ يَبْقَى رَبُّكَ. وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ فِي الْيَدِ فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: أَرَادَ باليد القدرة، يقال: مالي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدٌ. وَمَا لِي بِالْحَمْلِ الثَّقِيلِ يَدَانِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِالْقُدْرَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَحَمَّلْتُ مِنْ عفراء «١» ما ليس لي به | - لا لِلْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ يَدَانِ |
[سورة ص (٣٨): الآيات ٨٤ الى ٨٨]
قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ" هَذِهِ قِرَاءَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيِّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ وحمزة برفع الأول. وأجاز الفراء فيه
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٨ طبعه أولى أو ثانيه.
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ
" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ" أَيْ مِنْ نفسك وذريتك" وَمِمَّنْ تَبِعَكَ" مِنْ بَنِي آدَمَ" أَجْمَعِينَ". قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ" أَيْ مِنْ جُعْلٍ عَلَى تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَكَنَّى بِهِ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ. وَقِيلَ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ:" أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا" [ص: ٨]." وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" أَيْ لَا أَتَكَلَّفُ وَلَا أَتَخَرَّصُ مَا لَمْ أُومَرْ بِهِ. وَرَوَى مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
فألهيتها عن ذى تمائم محول
[..... ]
(٢). راجع ج ١٣ ص ٤٥ طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١ ص ٣٢١ وما بعدها طبعه ثانية أو ثالثة.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣٦٠ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
سورة ص
سورةُ (ص) من السُّوَر المكِّية، افتُتِحت بالإشارة إلى عظمةِ القرآن، وما كان من الكفار مِن تعجُّبٍ وتعنُّتٍ واستكبار، وقد ذكَّرهم اللهُ بما نال أسلافَهم من العذاب؛ تحذيرًا لهم، ودعوةً إلى الإيمان بالله والرُّجوع إلى الحق، كما جاءت السورةُ على ذِكْرِ قصص الأنبياء، وبيانِ مهمة الأنبياء، مختتمةً بذِكْرِ خَلْقِ الله لآدمَ وإكرامِه.
ترتيبها المصحفي
38نوعها
مكيةألفاظها
736ترتيب نزولها
38العد المدني الأول
86العد المدني الأخير
86العد البصري
86العد الكوفي
88العد الشامي
86* سورة (ص):
سُمِّيت سورةُ (ص) بهذا الاسم؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ.
* هي السُّورة التي سجَد لسماعها الشَّجَرُ واللَّوح، والدَّواةُ والقلم:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رأَيْتُ كأنِّي نائمٌ إلى جَنْبِ شجرةٍ وأنا أقرَأُ سورةَ {صٓ}، فلمَّا بلَغْتُ إلى قولِه تعالى: {وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩} [ص: 24]، سجَدتُّ، فرأَيْتُ الشَّجرةَ سجَدتْ، وقالت: يا ربِّ، أعظِمْ بها أجري، واجعَلْها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلْتَ مِن عبدِك داودَ». قال ابنُ عباسٍ: «رأيتُ النبيَّ ﷺ سجَدَ، وقال في سجودِه ما قال ذلك الرَّجُلُ حاكيًا عن تلكَ الشجرةِ». "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1 /353).
وقريبٌ منه ما جاء عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، قال: «رأيتُ رُؤْيا وأنا أكتُبُ سورةَ {صٓ}، قال: فلمَّا بلَغْتُ السَّجْدةَ، رأَيْتُ الدَّواةَ والقلَمَ وكلَّ شيءٍ بحَضْرتي انقلَبَ ساجدًا، قال: فقصَصْتُها على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلم يَزَلْ يسجُدُ بها». أخرجه أحمد (11799).
اشتمَلتْ سورةُ (ص) على الموضوعات الآتية:
1. موقف الكافرين من القرآن (١-١١).
2. تذكير الكافرين بما نال أسلافَهم من العذاب (١٢-١٦).
3. قصص الأنبياء (١٧-٥٤).
4. قصة داودَ (١٧-٢٦).
5. الحِكْمة من خَلْقِ الأكوان، وإنزالِ القرآن (٢٧-٢٩).
6. قصة سُلَيمانَ (٣٠-٤٠).
7. قصة أيُّوبَ (٤١-٤٤).
8. قصة إبراهيمَ وذُرِّيته (٤٥-٥٤).
9. عقاب الطاغين الأشقياء (٥٥-٦٤).
10. مهمة الرسول، ووَحْدانية الله (٦٥-٧٠).
11. خَلْقُ آدمَ وإكرامُه (٧١-٨٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /439).
مقصدُ سورة (ص) هو بيانُ موقفِ الكفار من هذا الكتابِ، وتعنُّتِهم واستكبارهم، وخِذْلانِ الله لهم، وكذلك بيان نُصْرةِ الله لجنده، وعِزَّةِ المؤمنين وقُوَّتهم بعد ضَعْفٍ، وإعلائهم بمَعِيَّةِ الله لهم.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /416).