هذه السورة مكية،
ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون :
﴿ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين ﴾، لأخلصوا العبادة لله. وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به.
« وروي أنه لما مرض أبو طالب، جاءت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال : يا ابن أخي، ما تريد من قومك ؟ فقال : يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إليهم الجزية بها العجم.
قال : وما الكلمة ؟ قال : كلمة واحدة، قال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله، قال فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ »
قال : فنزل فيهم القرآن :﴿ ص والقرآن ذي الذكر ﴾، حتى بلغ، ﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾.
ﰡ
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ١٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
لَاتَ: هِيَ لَا، أُلْحِقَتْ بِهَا التَّاءُ كَمَا أُلْحِقَتْ فِي ثُمَّ وَرُبَّ، فَقَالُوا: ثُمَّتْ وَرُبَّتْ، وَهِيَ تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَعَمَلَ إِنَّ فِي مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ. فَإِنِ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَهَا، فَعَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَهُ وَلَهَا أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنْهَا هُنَا عِنْدَ ذِكْرِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي فِيهَا. وَالْمَنَاصُ: الْمَنْجَا وَالْغَوْثُ، يُقَالُ نَاصَهُ يَنُوصَهُ: إِذَا فَاتَهُ. قَالَ الفراء: النوص: التأخير، يُقَالُ نَاصَ عَنْ قَرْنِهِ يَنُوصُ نَوْصًا وَمَنَاصًا: أَيْ فر وزاغ، وأنشد لا مرىء القيس:
أم ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ كنوص | وَاسْتَنَاصَ طَلَبَ الْمَنَاصَ |
غَمَرَ الْجِرَاءُ إِذَا قَصَرْتُ عِنَانَهُ | بِيَدِي اسْتَنَاصَ وَرَامَ جَرْيَ الْمِسْحَلِ |
لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جَذِيلًا وَاتِدًا | وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفْهَا الْمُوَاعِدَا |
تُخْرِجُ الْوَدَّ إِذَا ما أشحذت | وَتُوَارِيهِ إِذَا مَا تَشْتَكِرُ |
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ، كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ، مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ:
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ «١»، لَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَتَاهُمُ الذِّكْرُ فَكَفَرُوا بِهِ. بَدَأَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ الذِّكْرُ الَّذِي جَاءَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَأَنَّهُمْ فِي تَعَزُّزٍ وَمَشَاقَّةٍ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ الَّتِي شَاقَّتِ الرُّسُلَ لِيَتَّعِظُوا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ
يَا ابْنَ أَخِي، مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّمَا أُرِيدَ مِنْهُمْ كَلِمَةً تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ بِهَا الْعَجَمُ. قَالَ: وَمَا الْكَلِمَةُ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ فَقَامُوا وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ قَالَ: فَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، حَتَّى بَلَغَ، إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: ص، بِسُكُونِ الدَّالِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو السَّمَّالِ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ: صَادِ، بِكَسْرِ الدَّالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كُسِرَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَهُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ المعجم نحو: ق وَنُونٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَمْرٌ مِنْ صَادَى، أَيْ عَارَضَ، وَمِنْهُ الصَّدَى، وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ، أَيْ عَارِضٌ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: صَادَيْتُ: حَادَثْتُ، أَيْ حَادَثَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَمَحْبُوبٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَفِرْقَةٌ: صَادَ، بِفَتْحِ الدَّالِ، وَكَذَا قَرَأَ: قَافَ وَنُونَ، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالنُّونِ، فَقِيلَ: الْفَتْحُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ وَقِيلَ: انْتَصَبَ عَلَى أَنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ الْقَسَمِ نَحْوُ قَوْلِهِ: أَللَّهَ لَأَفْعَلَنَّ، وَهُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقَدْ صَرَفَهَا مَنْ قَرَأَ صَادٍ بِالْجَرِّ وَالتَّنْوِينِ عَلَى تَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالتَّنْزِيلِ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: صَادٌ، بِضَمِّ الدَّالِ، فَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هَذِهِ ص، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ السَّمَيْفَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ وَقَرَأَ ق وَنُونُ، بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ حَرْفٌ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى مِنْ فِعْلٍ أَوْ مِنِ اسْمٍ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مِفْتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ صَادِقُ الْوَعْدِ صَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ: ذِي الذِّكْرِ: ذِي الشَّرَفِ الْبَاقِي الْمُخَلَّدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي التَّذْكِرَةِ، لِلنَّاسِ وَالْهِدَايَةِ لَهُمْ. وَقِيلَ: ذِي الذِّكْرِ، لِلْأُمَمِ وَالْقَصَصِ وَالْغُيُوبِ وَالشَّرَائِعِ وَجَوَابُ الْقَسَمِ، قِيلَ: مَذْكُورٌ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ «١». وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا نَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا فِي الْعَرَبِيَّةِ لِتَأَخُّرِهِ جِدًّا عَنْ قَوْلِهِ:
وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، وَقَالَ قَوْمٌ: كَمْ أَهْلَكْنا، وَحَذَفَ اللَّامَ أَيْ لَكُمْ، لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ كَمَا حُذِفَتْ فِي وَالشَّمْسِ «٢»، ثُمَّ قَالَ:
(٢) سورة الشمس: ٩١/ ١.
صَدَقَ مُحَمَّدٌ وَصَدَقَ اللَّهُ. وَكَوُنُ صَادٍ جَوَابَ الْقَسَمِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقَدُّمِ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَاعْتِقَادُ أَنَّ الصَّادَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: لَقَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ وَنَحْوُهُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لَمُعْجِزٌ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: مَا الْأَمْرُ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ التَّقْدِيرِ. وَنُقِلَ أَنَّ قَتَادَةَ وَالطَّبَرِيَّ قَالَا: هُوَ مَحْذُوفٌ قَبْلَ بَلِ، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدَّرَهُ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّرَ مَا أُثْبِتَ هُنَا جَوَابًا لِلْقُرْآنِ حِينَ أَقْسَمَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «٢»، وَيُقَوِّي هَذَا التَّقْدِيرَ ذِكْرُ النِّذَارَةِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقَالَ هُنَاكَ:
لِتُنْذِرَ قَوْماً «٣»، فالرسالة تنضمن النِّذَارَةَ وَالْبِشَارَةَ، وَبَلْ لِلِانْتِقَالِ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ وَالْمُقَسَمِ عَلَيْهِ إِلَى حَالَةِ تَعَزُّزِ الْكُفَّارِ وَمَشَاقِّهِمْ فِي قَبُولِ رِسَالَتِكَ وَامْتِثَالِ مَا جِئْتَ بِهِ، وَاعْتِرَافٍ بِالْحَقِّ.
وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، وَسَوْرَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ، وَمَيْمُونُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ: فِي غِرَّةٍ، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ، أَيْ فِي غَفْلَةٍ وَمَشَاقَّةٍ. قَبْلِهِمْ:
أَيْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ ذَوِي الْمَنَعَةِ الشَّدِيدَةِ وَالشِّقَاقِ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ. فَنادَوْا: أَيِ اسْتَغَاثُوا وَنَادَوْا بِالتَّوْبَةِ، قَالَهُ الْحَسَنُ أَوْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، يُقَالُ: فُلَانٌ أَنْدَى صَوْتًا: أَيْ أَرْفَعُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، فَلَمْ يَكُ وَقْتَ نَفْعٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلاتَ حِينَ، بِفَتْحِ التَّاءِ وَنَصْبِ النُّونِ، فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، عَمِلَتْ عَمَلَ لَيْسَ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَاتَ الْحِينُ حِينَ فَوَاتٍ وَلَا فِرَارٍ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ: يَكُونُ حِينَ اسْمَ لَاتَ، عَمِلَتْ عَمَلَ إِنَّ نَصَبَتِ الِاسْمَ وَرَفَعَتِ الْخَبَرَ، وَالْخَبَرُ محذوف تَقْدِيرُهُ: وَلَاتَ أَرَى حِينَ مَنَاصٍ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: وَلَاتُ حِينُ، بِضَمِّ التَّاءِ وَرَفْعِ النُّونِ فَعَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: حِينَ مَنَاصٍ اسْمُ لَاتَ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَعَلَى قَوْلِ الْأَخْفَشِ: مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: وَلَاتِ حِينِ، بِكَسْرِ التَّاءِ وَجَرِّ النُّونِ، خَبَرٌ بَعْدَ لَاتَ، وَتَخْرِيجُهُ مُشْكِلٌ، وَقَدْ تَمَحَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَخْرِيجِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ:
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ حِينِ أَوَانٍ | فَأَجَبْنَا أَنْ لَاتَ حِينِ بَقَاءِ |
(٢) سورة يس: ٣٦/ ١- ٣.
(٣) سورة يس: ٣٦/ ٦.
وَلَتَنْدَمُنَّ وَلَاتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ وَخَرَّجَ الْأَخْفَشُ وَلَاتَ أَوَانٍ عَلَى إِضْمَارِ حِينَ، أَيْ وَلَاتَ حِينَ أَوَانٍ، حَذَفَ حِينَ وَأَبْقَى أَوَانَ عَلَى جَرِّهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَلَاتَ أَوَانِنَا، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْرَبَ، وَكَسَرَهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي قَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أَخَذَهُ مِنْ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ، وَأَنْشَدَهُ الْمُبَرِّدُ: وَلَاتَ أَوَانٌ بِالرَّفْعِ. وَعَنْ عِيسَى: وَلَاتَ حِينٌ، بِالرَّفْعِ، مَنَاصَ: بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ بَنَى حِينَ عَلَى الضَّمِّ، فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَأَجْرَاهُ مُجْرَى قَبْلُ وَبَعْدُ فِي الْغَايَةِ، وَبَنَى مَنَاصَ عَلَى الْفَتْحِ مَعَ لَاتَ، عَلَى تَقْدِيرِ: لَاتَ مَنَاصَ حِينَ، لَكِنْ لَا إِنَّمَا تَعْمَلُ فِي النَّكِرَاتِ فِي اتِّصَالِهَا بِهِنَّ دُونَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا ظَرْفٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ مَعْنًى لَا أَعْرِفُهُ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ عِيسَى أَيْضًا: وَلَاتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَحِينَ بِنَصْبِ النُّونِ، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ نَصْبِ حِينَ.
وَلَاتَ رُوِيَ فِيهَا فَتْحُ التَّاءِ وَضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالتَّاءِ، قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَالزَّجَّاجِ، وَوَقَفَ الْكِسَائِيُّ وَالْمُبَرِّدُ بِالْهَاءِ، وَقَوْمٌ عَلَى لَا، وَزَعَمُوا أَنَّ التَّاءَ زِيدَتْ فِي حِينَ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَذَكَرَ أنه رَآهُ فِي الْأَمَامِ مَخْلُوطًا تَاؤُهُ بِحِينَ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ بِقَوْلِهِ:
وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ، وَلَاتَ أَوَانٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصٌ، أَيْ عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ قَالُوا: مَنَاصٌ، فَقَالَ اللَّهُ: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَنَادَوْا مَنَاصُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ لَيْسَ الْوَقْتُ وَقْتَ نِدَائِكُمْ بِهِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَحَكُّمٍ، إِذْ كُلُّ مَنْ هَلَكَ مِنَ الْقُرُونِ يَقُولُ مَنَاصٌ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: أَيْ فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، أَيْ سَاعَةَ
فَنادَوْا. انْتَهَى. وَكَوْنُ أَصْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: فَنَادَوْا حِينَ لَا مَنَاصَ، وَأَنَّ حِينَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ:
فَنادَوْا دَعْوَى أَعْجَمِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِنَظْمِ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى عَلَى نَظْمِهِ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، فَنَادَوْا وَهُمْ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، أَيْ لَهُمْ.
وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ، أَرْدَفَ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ كَلِمَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ، مِنْ نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ السِّحْرَ وَالْكَذِبَ. وَوَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ، أَيْ: وَقَالُوا تَنْبِيهًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْعَجَبَ، حَتَّى نَسَبُوا مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ إِلَى السِّحْرِ وَالْكَذِبِ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ إِلَهٌ وَاحِدٌ يَرْزُقُ الْجَمِيعَ وَيَنْظُرُ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ؟ وَجَعَلَ: بِمَعْنَى صَيَّرَ فِي الْقَوْلِ وَالدَّعْوَى وَالزَّعْمِ، وَذَكَرَ عَجَبَهُمْ مِمَّا لَا يُعْجَبُ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي وَعَجِبُوا لَهُمْ، أَيِ اسْتَغْرَبُوا مَجِيءَ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عُجابٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالِغَةٍ، كَرَجُلٍ طُوَالٍ وَسُرَاعٍ فِي طَوِيلٍ وَسَرِيعٍ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعِيسَى، وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِشَدِّ الْجِيمِ
، وَقَالُوا: رَجُلٌ كُرَّامٌ وَطَعَّامٌ طَيَّابٌ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ فُعَالٍ الْمُخَفَّفِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُجَابٌ لُغَةُ أَزْدِ شَنُوءَةَ. وَالَّذِينَ قَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، وَهُمْ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: الظَّاهِرُ انْطِلَاقُهُمْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي طَالِبٍ، حِينَ اجْتَمَعُوا هُمْ وَالرَّسُولُ عِنْدَهُ وَشَكَوْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ وَيَكُونُ ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
يَتَحَاوَرُونَ. أَنِ امْشُوا، وَتَكُونُ أَنْ مُفَسِّرَةً لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَامْشُوا أَمْرٌ بِالْمَشْيِ، وَهُوَ نَقْلُ الْأَقْدَامِ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَنْ بِمَعْنَى أَيْ، لِأَنَّ الْمُنْطَلِقِينَ عَنْ مَجْلِسِ التَّقَاوُلِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمُوا وَيَتَفَاوَضُوا فِيمَا جَرَى لَهُمْ، فَكَانَ انْطِلَاقُهُمْ مُضَمَّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ وَالْأَمْرِ بِالْمَشْيِ، أَيْ بَعْضُهُمْ أَمَرَ بَعْضًا. وَقِيلَ: أَمَرَ الْأَشْرَافُ أَتْبَاعَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنِ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ وَانْطَلَقُوا بِقَوْلِهِمُ امْشُوا، وَقِيلَ: الِانْطِلَاقُ هُنَا الِانْدِفَاعُ فِي الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ، وَأَنْ مُفَسِّرَةٌ عَلَى هَذَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَشْيِ لَا يُرَادُ بِهِ نَقْلُ الْخُطَا، إِنَّمَا مَعْنَاهُ:
سِيرُوا على طريقتكم ودوموا عَلَى سِيرَتِكُمْ. وَقِيلَ: امْشُوا دُعَاءٌ بِكَسْبِ الْمَاشِيَةِ، قِيلَ:
وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مَقْطُوعَةً، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: أَمْشَى الرَّجُلُ إِذَا صَارَ صَاحِبَ مَاشِيَةٍ وَأَيْضًا فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِي الْآيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا أَيْ ظُهُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُلُوَّهُ بِالنُّبُوَّةِ، لَشَيْءٌ يُرادُ:
أَيْ يُرَادُ مِنَّا الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، أَوْ يُرِيدُهُ اللَّهُ وَيَحْكُمُ بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا الصَّبْرُ، أَوْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَيْءٌ مِنْ نَوَائِبِ الدَّهْرِ مُرَادٌ مِنَّا، فَلَا انْفِكَاكَ عَنْهُ، وَأَنَّ دِينَكُمْ لَشَيْءٌ يُرَادُ، أَيْ يُطْلَبُ لِيُؤْخَذَ مِنْكُمْ وَتُغْلَبُوا عْلِيهِ، احْتِمَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ. وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَذِهِ كَلِمَةٌ تُذْكَرُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ، الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ تقرير لِلدِّينِ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْنَا، فَيَحْكُمَ فِي أَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا بِمَا يُرِيدُ. مَا سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُقَاتِلٌ: مِلَّةُ النَّصَارَى، لِأَنَّ فِيهَا التَّثْلِيثَ، وَلَا تُوَحِّدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مِلَّةُ الْعَرَبِ: قُرَيْشٌ وَنَجْدَتُهَا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ، وَالزَّجَّاجُ: مِلَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، أَشْرَكَتِ الْيَهُودُ بِعُزَيْرٍ، وَثَلَّثَ النَّصَارَى. وَقِيلَ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ الَّتِي كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ، كَانَ النَّاسُ يَسْتَشْعِرُونَ خُرُوجَ نَبِيٍّ وَحُدُوثِ مِلَّةٍ وَدِينٍ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَحْبَارِ أُولِي الصَّوَامِعِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الْكُهَّانِ شِقٍّ وَسُطَيْحٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمَا كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَعْتَقِدُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، أَيْ لَمْ نَسْمَعْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْكُهَّانِ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ تَوْحِيدُ اللَّهِ. إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ: أَيِ افْتِعَالٌ وَكَذِبٌ.
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا: أَنْكَرُوا أَنْ يَخْتَصَّ بِالشَّرَفِ مِنْ بَيْنِ أَشْرَافِهِمْ وَيَنْزِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، وهذا الإنكار هو ناشىء عَنْ حَسَدٍ عَظِيمٍ انْطَوَتْ عَلَيْهِ صُدُورُهُمْ فَنَطَقَتْ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي: أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي يَرْتَابُونَ فِيهِ، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ يَقْتَضِي كَذِبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ: أَيْ بَعْدُ، فَإِذَا ذَاقُوهُ عَرَفُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ وَزَالَ عَنْهُمُ الشَّكُّ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ: أَيْ لَيْسُوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، فيعطون ما شاؤوا، ويمنعون من شاؤوا ما شاؤوا، وَيَصْطَفُونَ لِلرِّسَالَةِ مَنْ أَرَادُوا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا الْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْوَهَّابِ: مَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ.
لَمَّا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ فِي قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ تَصَرُّفِهِمْ فِي خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّكَ، أَتَى بِالْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ بِانْتِفَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ
أَيْ أَلَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلْيَصْعَدُوا، فِي الْأَسْبابِ، الموصلة إِلَى السَّمَاءِ، وَالْمَعَارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى تَدْبِيرِ الْعَالَمِ، فَيَضَعُونَ الرِّسَالَةَ فِيمَنِ اخْتَارُوا. ثُمَّ صَغَّرَهُمْ وَحَقَّرَهُمْ، فأخبر بما يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْخَيْبَةِ. قِيلَ: وَمَا زَائِدَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ بِهِمْ، أَوِ التحقير، لأن مال الصِّفَةَ تُسْتَعْمَلُ عَلَى هَذَيْنِ المعنيين. وهُنالِكَ: ظَرْفُ مَكَانٍ يُشَارُ بِهِ لِلْبَعِيدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشَارُ بِهِ لِلْمَكَانِ الَّذِي تَفَاوَضُوا فِيهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ مَكَّةُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِخْبَارًا بِالْغَيْبِ عَنْ هَزِيمَتِهِمْ بِمَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مَهْزُومِينَ بِمَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَقِيلَ: هُنالِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى الِارْتِقَاءِ فِي الْأَسْبَابِ، أَيْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِنْ رَامُوا ذَلِكَ جُنْدٌ مَهْزُومٌ. وَقِيلَ: أُشِيرُ بِهُنَالِكَ إِلَى جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَعَضُدِهَا، أَيْ هُمْ جُنْدٌ مَهْزُومٌ فِي هَذِهِ السَّبِيلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانَ غَيْبًا، أَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى حَصْرِ عَامِ الْخَنْدَقِ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُنَالِكَ، إِشَارَةٌ إِلَى حَيْثُ وَضَعُوا فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الِانْتِدَابِ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْعَظِيمِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لِمَنْ يَنْدُبُهُ لِأَمْرٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، لَسْتَ هنالك. انتهى. وهُنالِكَ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الصفة لجند، أَيْ كَائِنٌ هُنَالِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بمهزوم، وَجُنْدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُمْ جُنْدٌ، وَمَهْزُومٌ خَبَرُهُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: جُنْدٌ مُبْتَدَأٌ، وَمَا زَائِدَةٌ، وَهُنَالِكَ نَعْتٌ، وَمَهْزُومٌ الْخَبَرُ. انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ لِفَصْلِهِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمَعْنَى مِنَ الْأَحْزابِ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَعَصَّبُوا فِي الْبَاطِلِ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ قَبْلَ قُرَيْشٍ قُرُونًا كَثِيرَةً لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، سَرَدَ مِنْهُمْ هُنَا مَنْ له تعلق بعرفانه. وذُو الْأَوْتادِ: أَيْ صَاحِبُ الْأَوْتَادِ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَبَاتِ الْبَيْتِ الْمُطْنَبِ بِأَوْتَادِهِ. قَالَ الْأَفْوَهُ الْعَوْذِيُّ:
وَالْبَيْتُ لَا يُبْتَنَى إِلَّا عَلَى عُمُدٍ | وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادٌ |
فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَأَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَخَشَبٌ يَلْعَبُ بِهَا وَعَلَيْهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَقْتُلُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، وَيُسَمِّرُهُمْ فِي الْأَرْضِ بِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ الْمَبَانِيَ الْعَظِيمَةَ الثَّابِتَةَ. وَقِيلَ: عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَخْبِيَتِهِ
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ: فَوَجَبَ عِقَابُهُمْ. كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ، آذَوْا نُوحًا فَأُغْرِقُوا وَقَوْمُ هُودٍ فَأُهْلِكُوا بِالرِّيحِ وَفِرْعَوْنُ فَأُغْرِقَ وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ وَالْأَيْكَةُ بِعَذَابِ الظُّلَّةِ. وَمَعْنَى إِنْ كُلٌّ: مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ وَجَبَ عِقَابُهُمْ، فَكَذَلِكَ يَحِقُّ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالرَّسُولِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ، قَصَدَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ الْأَحْزَابَ الَّذِينَ جَعَلَ الْجُنْدَ الْمَهْزُومَ هُمْ هُمْ، وَأَنَّهُمُ الَّذِينَ وُجِدَ مِنْهُمُ التَّكْذِيبُ، وَلَقَدْ ذكرت تَكْذِيبَهُمْ أَوَّلًا فِي الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ جَاءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، فَأَوْضَحَهُ فِيهَا بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْزَابِ كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَذَّبُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَدْ كَذَّبُوا جَمِيعًا، وَفِي تَكْرِيرِ التَّكْذِيبِ وَإِيضَاحِهِ بَعْدَ إِبْهَامِهِ، وَالتَّنْوِيعِ فِي تَكْرِيرِهِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ أَوَّلًا، وَبِالِاسْتِثْنَاءِ ثَانِيًا، وَمَا فِي الِاسْتِثْنَائِيَّةِ مِنَ الْوَضْعِ عَلَى وَجْهِ التَّوْكِيدِ وَالتَّخْصِيصِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ الْمُسَجَّلَةِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَأَبْلَغِهِ. ثُمَّ قَالَ: فَحَقَّ عِقابِ: أَيْ فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ أُعَاقِبَهُمْ حَقَّ عِقَابِهِمْ. انتهى.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٥ الى ٤٠]
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لَا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْعِبَادَةُ قَدْرُ فَوَاقِ النَّاقَةِ».
وَأَفَاقَتِ النَّاقَةُ إِفَاقَةً: اجْتَمَعَتِ الْفِيقَةُ فِي ضَرْعِهَا فَهِيَ مُفِيقٌ وَمُفِيقَةٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَالْفِيقَةُ: اللَّبَنُ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَيُجْمَعُ عَلَى
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتَهُ | بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ |
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَمَا | يُجْبَى إِلَيْهِمْ بِهَا وَالْقِطُّ وَالْعِلْمُ |
عَلَا أَعْلَاهُ. وَالسُّورُ: حَائِطُ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. الشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَتَخَطِّي الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَطَطْتُ عَلَى فُلَانٍ وَأَشْطَطْتُ: جُرْتُ فِي الْحُكْمِ. التِّسْعُ: رُتْبَةٌ مِنَ الْعَدَدِ مَعْرُوفَةٌ، وكسر التاء أشهر من الْفَتْحِ. النَّعْجَةُ: الْأُنْثَى مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَمِنَ الضَّأْنِ، وَيُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
هُمَا نَعْجَتَانِ مِنْ نِعَاجِ تِبَالَةٍ | لِذِي جُؤْذَرَيْنِ أَوْ كَبَعْضٍ لَدَى هَكِرِ |
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هُنَّهْ | رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ |
وَنَعْجَتِي خَمْسًا تُوَفِّيهُنَّهْ | إِلَّا فَتًى سَجْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ |
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ | تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ |
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ | مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا |
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ لَهُ صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
، أَيْ يَدِيمُونَ لَهُ الْقِيَامَ، حَكَاهُ قُطْرُبٌ.
وَأَنْشَدَ النَّابِغَةُ:
لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفَنَائِهَا | عِتَاقُ الْمَهَارَى وَالْجِيَادِ الصَّوَافِنِ |
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ | إِلَى ضَوْءِ نَارٍ فِي بِقَاعٍ تُحَرَّقُ |
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، بِنَصْبِهِمَا، عَطْفًا عَلَى الْجِبَالِ يُسَبِّحْنَ، عَطْفَ مَفْعُولٍ عَلَى مَفْعُولٍ، وَحَالٍ عَلَى حَالٍ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُ هِنْدًا مجردة، ودعدا لا بسة. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ، بِرَفْعِهِمَا، مبتدأ وخبر، أو جاء مَحْشُورَةً بِاسْمِ الْمَفْعُولِ،
الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ، أَيْ مُسَبِّحٌ مُرْجِعٌ لِلتَّسْبِيحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَشَدَدْنا، مُخَفَّفًا: أَيْ قَوَّيْنَا، كَقَوْلِهِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «١». وَالْحَسَنُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِشَدِّ الدَّالِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ شَامِلَةٌ لِمَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قُوَّةٍ وَجُنْدٍ وَنِعْمَةٍ، فَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَظْهَرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِالْجُنُودِ. قِيلَ:
كَانَ يَبِيتُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُسْلِمٍ يَحْرُسُونَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ وَقِيلَ: بِهَيْبَةٍ قَذَفَهَا اللَّهُ لَهُ فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ. والْحِكْمَةَ هُنَا: النُّبُوَّةُ، أَوِ الزَّبُورُ، أَوِ الْفَهْمُ فِي الدِّينِ، أَوْ كُلُّ كَلَامٍ، وَلَقْنُ الْحَقِّ أَقْوَالٌ. وَفَصْلَ الْخِطابِ،
قَالَ عَلِيٌّ وَالشَّعْبِيُّ: إِيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: الْقَضَاءُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَإِصَابَتُهُ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَلِمَةُ أَمَّا بَعْدُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا وَفَصَلَ بَيْنَ كَلَامَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ يَفْتَتِحُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَحْمِيدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَرَضِ الْمَسُوقِ إِلَيْهِ، فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا بَعْدُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْخِطَابِ: الْقَصْدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِيهِ اخْتِصَارٌ مُخِلٌّ، وَلَا إِشْبَاعٌ مُمِلٌّ وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصْلٌ لَا نَذِرٌ وَلَا هَذِرٌ. انْتَهَى. وَلَمَّا كَانَ تَعَالَى قَدْ كَمَّلَ نَفْسَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بِالْحِكْمَةِ، أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ خَلْقِهِ فِي النُّطْقِ وَالْعِبَادَةِ فَقَالَ: وَفَصْلَ الْخِطابِ.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ: لَمَّا أَثْنَى تَعَالَى عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا أَثْنَى، ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَذِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ مِثْلَ قِصَّتِهِ لَا يَقْدَحُ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالتَّعْظِيمِ لِقَدْرِهِ، وَإِنْ تَضَمَّنَتِ اسْتِغْفَارَهُ رَبَّهُ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مَا يُشْعِرُ بِارْتِكَابِ أَمْرٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهُ، وَمَا زَالَ الِاسْتِغْفَارُ شِعَارَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ. وَمَجِيءُ مِثْلِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَابَةِ مَا يَجِيءُ مَعَهُ مِنَ الْقَصَصِ، كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى «٢»، فَيَتَهَيَّأُ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَيُصْغِي لِذَلِكَ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَشْيَاءَ لَا تُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، ضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَلْفَاظِ الْآيَةِ. وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ، فَالْخَبَرُ أصله
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٩.
وَخَصْمٍ يُعِدُّونَ الدُّخُولَ كَأَنَّهُمْ | قُرُومٌ غَيَارَى كَلُّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ |
وَقِيلَ: الْخَصْمُ هُنَا اثْنَانِ، وَتَجَوَّزَ فِي الْعِبَارَةِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا إِخْبَارَ مَا زَادَ عَلَى اثْنَيْنِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي التَّثْنِيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى خَصْمَانِ: فَرِيقَانِ، فَيَكُونُ تَسَوَّرُوا وَدَخَلُوا عَائِدًا عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ الْفَرِيقَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَصْمَانِ بِمَعْنَى فَرِيقَانِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: بَغَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَقَالَ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «١»، بِمَعْنَى: فَأَمَّا إِنَّ هَذَا أَخِي. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَيْهِ مَلَكَانِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ التَّحَاكُمَ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْحَبَهُمَا غَيْرُهُمَا. وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ خَصْمٌ، وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ خَصْمَانِ، لِأَنَّ مَنْ جَاءَ مَعَ مُتَخَاصِمٍ لِمُعَاضَدَةٍ فَهُوَ في سورة خَصْمٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُطْلَقَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةُ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ، وَهُوَ إِذْ أَتَاكَ، قَالَهُ الْحَوْفِيُّ وَرَدَ بِأَنَّ إِتْيَانَ النَّبَأِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي عَهْدِهِ، لَا فِي عَهْدِ دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ نَبَأٌ وَرُدَّ بِمَا رُدَّ بِهِ مَا قَبْلُهُ أَنَّ النَّبَأَ الْوَاقِعَ فِي عَهْدِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا أَرَدْتَ بِالنَّبَأِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَكُنْ نَاصِبًا. وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَهَلْ أَتَاكَ تَخَاصُمُ الْخَصْمِ؟ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِالْخَصْمِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَإِذْ دَخَلُوا بَدَلٌ مِنْ إِذْ الْأُولَى وَقِيلَ: يَنْتَصِبُ بِتَسَوَّرُوا.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَاهُ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَمَنَعَهُمَا، فَتَسَوَّرَا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، فَلَمْ يَشْعُرْ إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَّأَ زَمَانَهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ: يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ، وَيَوْمًا لِلِاشْتِغَالِ بِخَوَاصِّ أُمُورِهِ، وَيَوْمًا لِجَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَعِظُهُمْ وَيُبْكِيهِمْ.
فَجَاءُوهُ فِي غَيْرِ الْقَضَاءِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْقٍ، وَفِي يَوْمِ الِاحْتِجَابِ، وَالْحَرَسُ حَوْلَهُ لَا يَتْرُكُونَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَخَافَ أَنْ يُؤْذُوهُ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَزَعُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
وَلَكِنَّ الْفَتَى حَمْلَ بْنَ بَدْرٍ | بَغَى وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيَمُ |
إِنَّ هَذَا أَخِي: هُوَ قَوْلُ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا، وَأَخِي عَطْفُ بَيَانٍ عِنْدَ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَبَدَلٌ أَوْ خَبَرٌ لَإِنَّ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَالْأُخُوَّةُ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ، إِذْ هُمَا مَلَكَانِ، لَكِنَّهُمَا لَمَّا ظَهَرَا فِي صُورَةِ إِنْسَانَيْنِ تَكَلَّمَا بِالْأُخُوَّةِ، وَمَجَازُهَا أَنَّهَا إِخْوَةٌ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الصُّحْبَةِ وَالْمُرَافَقَةِ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الشَّرِكَةِ وَالْخُلْطَةِ لِقَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخَوَاتِ تَقْتَضِي مَنْعَ الِاعْتِدَاءِ، وَيُنْدَبُ إِلَى الْعَدْلِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، بِكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نَعْجَةً، بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ هُرْمُزَ: بِكَسْرِ النُّونِ، وَهِيَ لُغَةٌ لبعض بني تميم.
قِيلَ: وَكَنَّى بِالنَّعْجَةِ عَنِ الزَّوْجَةِ. فَقالَ أَكْفِلْنِيها: أَيْ رُدَّهَا فِي كَفَالَتِي. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: اجْعَلْهَا كِفْلِي، أَيْ نَصِيبِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا وَعَنْهُ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:
تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: ضُمَّهَا إِلَيَّ حَتَّى أَكْفُلَهَا. وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قَالَ
أحسن به فهز إِلَيْهِ شُوسُ وَرُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ. وَقَرَأَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: وَعَازَّنِي، بِأَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ: أَيْ وَغَالَبَنِي. وَالظَّاهِرُ إِبْقَاءُ لَفْظِ النَّعْجَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ كَوْنِهَا أُنْثَى الضَّأْنِ، وَلَا يُكَنَّى بِهَا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ كَانَ صَادِرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، عَلَى سَبِيلِ التَّصْوِيرِ لِلْمَسْأَلَةِ وَالْفَرْضِ لَهَا مَرَّةً غَيْرَ تَلَبُّسٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَمَثَّلُوا بِقِصَّةِ رَجُلٍ لَهُ نَعْجَةٌ، وَلِخَلِيطِهِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، فَأَرَادَ صَاحِبُهُ تَتِمَّةَ الْمِائَةِ، فَطَمِعَ فِي نَعْجَةِ خَلِيطِهِ، وَأَرَادَ انْتِزَاعَهَا مِنْهُ وَحَاجَّهُ فِي ذَلِكَ مُحَاجَّةَ حَرِيصٍ عَلَى بُلُوغِ مُرَادِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ وَالتَّمْثِيلُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ وَأَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ.
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ: لَيْسَ هَذَا ابْتِدَاءً مِنْ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِثْرَ فَرَاغِ لَفْظِ الْمُدَّعِي، وَلَا فُتْيَا بِظَاهِرِ كَلَامِهِ قَبْلَ ظُهُورِ مَا يَجِبُ، فَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ، أَيْ لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُ، لَقَدْ ظَلَمَكَ. وَقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ فَأَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ اعْتِرَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا، إِذْ لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ إِلَّا بَعْدَ إِجَابَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُدَّعِي مَخَايِلَ الضَّعْفِ وَالْهَضِيمَةِ، فَحَمَلَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ، كَمَا تَقُولُ، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعْجَلَ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ ظَلَمَكَ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الشَّاكِي قَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟
فَأَقَرَّ فَقَالَ لَهُ: لَئِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْحَقِّ لَأَكْسِرَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَقَالَ لِلثَّانِي: لَقَدْ
فَتَبَسَّمَا عِنْدَ ذَلِكَ وَذَهَبَا، وَلَمْ يَرَهُمَا لِحِينِهِ، وَرَأَى أَنَّهُمَا ذَهَبَا نَحْوَ السَّمَاءِ بِمَرْأًى مِنْهُ.
وَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَضَمَّنَ السُّؤَالَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَيْ بِإِضَافَةِ نَعْجَتِكِ عَلَى سَبِيلِ السُّؤَالِ وَالطَّلَبِ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِإِلَى.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: هَذَا مِنْ كَلَامِ دَاوُدَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَمَانَهُ كَانَ فِيهِ الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ كَثِيرًا. وَالْخُلَطَاءُ: الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ خَلَطُوا أَمْوَالَهُمْ، الْوَاحِدُ خَلِيطٌ. قَصَدَ دَاوُدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ، وَالتَّرْغِيبَ فِي إِيثَارِ عَادَةِ الْخُلَطَاءِ الصُّلَحَاءِ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْقِلَّةِ، وَأَنْ يُكَرِّهَ إِلَيْهِمُ الظُّلْمَ، وَأَنْ يُسَلِّيَ الْمَظْلُومَ عَنْ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِنْ خَلِيطِهِ، وَأَنَّ لَهُ فِي أَكْثَرِ الْخُلَطَاءِ أُسْوَةً. وقرىء: لَيَبْغِيَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ النُّونِ الْخَفِيفَةِ، وَأَصْلُهُ: لَيَبْغِيَنْ، كَمَا قَالَ:
أَضْرِبَ عَنْكَ الْهُمُومَ طَارِقَهَا يُرِيدُ: اضْرِبَنْ، وَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ذَلِكَ القسم، وجوابه خبر لأن. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، يَكُونُ ليبغي خبرا لأن. وقرىء: لَيَبْغِ، بِحَذْفِ الْيَاءِ كَقَوْلِهِ:
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ أَيْ: تَفِدِي عَلَى أحد القولين. وقَلِيلٌ: خبره مقدّم، وما زَائِدَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ، وَهُمْ مُبْتَدَأٌ. وَظَنَّ داوُدُ: لَمَّا كَانَ الظَّنُّ الْغَالِبُ يُقَارِبُ الْعِلْمَ، اسْتُعِيرَ لَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَعَلِمَ دَاوُدُ وَأَيْقَنَ أَنَّا ابْتَلَيْنَاهُ بِمُحَاكَمَةِ الْخَصْمَيْنِ. وَأَنْكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَجِيءَ الظَّنِّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَقَالَ: لَسْنَا نَجِدُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ بَيْنَ مُعْتَقَدَيْنِ غَلَبَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَتُوقِعُهُ الْعَرَبُ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى الْحَوَاسِّ وَدَلَالَةِ الْيَقِينِ التَّامِّ، وَلَكِنْ يَخْلِطُ النَّاسُ فِي هَذَا وَيَقُولُونَ: ظَنَّ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، وَطَوَّلَ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَتَنَّاهُ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو رجاء، والحسن:
بخلاف عنه، شَدُّ التَّاءِ وَالنُّونِ مُبَالَغَةً وَالضَّحَّاكُ: أَفْتَنَّاهُ، كَقَوْلِهِ:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ يُخَفِّفُ التَّاءَ وَالنُّونَ، وَالْأَلِفُ ضَمِيرُ الْخَصْمَيْنِ.
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رَاكِعًا: حَالٌ، وَالْخُرُورُ: الْهَوَى إِلَى الْأَرْضِ. فَإِمَّا أَنَّهُ عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، وَإِمَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَ أَحْوَالِ الْخُرُورِ، أَيْ رَاكِعًا لِيَسْجُدَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ سَاجِدًا حَتَّى يَرْكَعَ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَخَرَّ مِنْ رُكُوعِهِ، أَيْ
وَنُؤْثِرُ حُكْمَ الْعَقْلِ فِي كُلِّ شُبْهَةٍ | إِذَا آثَرَ الْأَخْبَارَ جُلَّاسُ قَصَّاصِ |
جَعْلُهُ تَعَالَى دَاوُدَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يَدُلُّ عَلَى مَكَانَتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُ وَاصْطِفَائِهِ، وَيَدْفَعُ فِي صَدْرِ مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ. وَاحْتَمَلَ لَفْظُ خَلِيفَةٍ أَنْ
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي بَرِّيَّتِهِ | حَقَّتْ بِذَاكَ الْأَقْلَامُ وَالْكُتُبُ |
وَلَمَّا ذِكْرُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ الْإِضْلَالُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ذَكَرَ عِقَابَ الضَّالِّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَضِلُّونَ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَضَلَّهُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى صَارُوا ضَالِّينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمَا وَأَبُو حَيْوَةَ: بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ لَا يضل إلا ضال فِي نَفْسِهِ وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ أوضح. وبِما نَسُوا: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَنَسُوا: تَرَكُوا، ويَوْمَ: يجوز أن يكون منصوب بِنَسُوا، أَوْ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَهُمْ، وَيَكُونَ النِّسْيَانُ عِبَارَةً عَنْ ضَلَالِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْتَصَبَ باطِلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ خَلْقًا بَاطِلًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُبْطِلِينَ، أَوْ ذَوِي بَاطِلٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ. مَعْنًى بَاطِلًا: عَبَثًا.
ذلِكَ: أَيْ كَوْنُ خَلْقِهَا بَاطِلًا، ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ مَظْنُونُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينِ بِأَنَّ خالق السموات وَالْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُمْ مِنْ حَيْثُ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ظَانُّونَ أَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ، وَأَنَّ خَلْقَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَبَثٌ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ «١». فَنَبَّهَ عَلَى المعاد
وَلَمَّا انْتَفَتِ التَّسْوِيَةُ، بَيْنَ مَا تَصْلُحُ بِهِ لِمُتْبِعَةِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ، وَارْتِفَاعُهُ عَلَى إضمار متبدأ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
مُبارَكٌ، عَلَى الصِّفَةِ. وقرىء: مُبَارَكًا، عَلَى الْحَالِ اللَّازِمَةِ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الدَّالِ، وَأَصْلُهُ لِيَتَدَبَّرُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ بِهَذَا الْأَصْلِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا، وَالْأَصْلُ: لِتَتَدَبَّرُوا بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهَا، أَهِيَ تَاءُ الْمُضَارَعَةِ أَمِ التَّاءُ الَّتِي تَلِيهَا؟ وَاللَّامُ فِي لِيَدَّبَّرُوا لَامُ كَيْ، وَأَسْنَدَ التَّدَبُّرَ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ التَّفَكُّرُ فِي الْآيَاتِ، وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأَشْيَاءِ. وَأَسْنَدَ التَّذَكُّرَ إِلَى أُولِي الْعُقُولِ، لِأَنَّ ذَا الْعَقْلِ فِيهِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى الْحَقِّ وَهُوَ عَقْلُهُ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَّا إِلَى مَا يُذَكِّرُهُ فَيَتَذَكَّرَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: نِعْمَ الْعَبْدُ هُوَ، أَيْ سُلَيْمَانُ. وقرىء: نَعِمْ عَلَى الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ:
نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْقَوْمِ الشُّطُرُ أَثْنَى تَعَالَى عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، أَوْ لِكَثْرَةِ تَسْبِيحِهِ. إِذْ عُرِضَ، النَّاصِبُ لِإِذْ، قِيلَ: أَوَّابٌ، وَقِيلَ: اذْكُرْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: عُرِضَتْ عَلَيْهِ آلَافٌ مِنَ الْخَيْلِ تَرَكَهَا أَبُوهُ لَهُ، وَقِيلَ: أَلْفٌ وَاحِدٌ، فَأُجْرِيَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ عَشِيًّا، فَتَشَاغَلَ بِحُسْنِهَا وَجَرْيِهَا وَمَحَبَّتِهَا عَنْ ذِكْرٍ لَهُ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ. فَطَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسَّيْفِ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ أَسْرَعَ مِنْهَا الرِّيحَ. وَقَالَ قَوْمٌ،
عُدِّيَ بِعَنْ فَضَمِنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِهَا، أَيْ أَنَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، أَوْ جَعَلْتُ حُبَّ الْخَيْرِ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْحِ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التِّبْيَانِ أَنَّ أَحْبَبْتُ بِمَعْنَى:
لَزِمْتُ، مِنْ قَوْلِهِ:
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: أَحْبَبْتُ: سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَبَّ الْبَعِيرُ إِذَا أُعْيِيَ وَسَقَطَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَبَّ الْبَعِيرُ: بَرَكَ، وَفُلَانٌ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: بَعِيرٌ مُحِبٌّ، وَقَدْ أَحَبَّ إِحْبَابًا، إِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ، فَلَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ. قَالَ ثَعْلَبٌ:
يُقَالُ لِلْبَعِيرِ الْحَسِيرِ مُحِبٌّ، فَالْمَعْنَى: قَعَدْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي. وَحُبَّ الْخَيْرِ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي تَوارَتْ عَائِدٌ عَلَى الصَّافِناتُ، أَيْ دَخَلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، فَهِيَ الْحِجَابُ. وَقِيلَ: حتى تورات فِي الْمُسَابَقَةِ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ النَّظَرِ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ لِدَلَالَةِ الْعَشِيِّ عَلَيْهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عُرِضَ عَلَى سُلَيْمَانَ الْخَيْلُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِّي فِي صَلَاتِي، فَأَزَالُوهَا عَنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِي الِاصْطَبْلَاتِ فَقَالَ هُوَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ، أَيِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ بِسَبَبِ ذِكْرِ رَبِّي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَشَغَلَنِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَةِ الْخَيْلِ حَتَّى أُدْخِلَتِ اصْطَبْلَاتِهَا، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ يَمْسَحُ أَعْرَافَهَا وَسُوقَهَا مَحَبَّةً لَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ: مَسْحُهُ بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ لَمْ يَكُنْ بِالسَّيْفِ بَلْ بِيَدَيْهِ تَكْرِيمًا لَهَا وَمَحَبَّةً، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ غَسْلًا بِالْمَاءِ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: إِنَّ هَذَا الْمَسْحَ كَانَ فِي السُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ بِوَسْمِ حَبْسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ، لَا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِلْجُمْهُورِ، فَإِنَّ فِي قِصَّتِهِ مَا لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بالنسبة للأنبياء.
وحَتَّى تَوارَتْ: غَايَةٌ، فَالْفِعْلُ يَكُونُ قَبْلَهَا مُتَطَاوِلًا حَتَّى تَصِحَّ الْغَايَةُ، فَأَحْبَبْتُ:
مَعْنَاهُ أَرْدْتُ الْمَحَبَّةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ؟ قُلْتُ:
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَسَحْتُ بِرَأْسِهِ وَرَأْسَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَائِدَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالسُّوقِ، بِغَيْرِ هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلٍ، وَهُوَ جَمْعُ سَاقٍ، عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، كَأُسْدٍ وَأَسَدٍ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالْهَمْزِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ وَجْهُهَا فِي الْقِيَاسِ أَنَّ الضَّمَّةَ لَمَّا كَانَتْ تَلِي الْوَاوَ وَقُدِّرَ أَنَّهَا عَلَيْهَا فَهُمِزَتْ، كَمَا يَفْعَلُونَ بِالْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ. وَوَجْهُ هَمْزِ السُّوقِ مِنَ السَّمَاعِ أَنَّ أَبَا حَبَّةَ النُّمَيْرِيَّ كَانَ يَهْمِزُ كُلَّ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ، وَكَانَ يَنْشُدُ:
حُبُّ الْمُؤْقِدِينَ إِلَى مُؤْسَى انْتَهَى. وَلَيْسَتْ ضَعِيفَةً، لِأَنَّ السَّاقَ فِيهِ الْهَمْزَةُ، وَوَزْنُ فَعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا الْوَاوُ، رَوَاهُمَا بَكَّارٌ عَنْ قُنْبُلٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالسَّاقِ مُفْرَدًا، اكْتَفَى بِهِ عَنِ الْجَمْعِ لِأَمْنِ اللَّبْسِ. وَمِنْ غَرِيبِ الْقَوْلِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي رُدُّوهَا عَائِدٌ عَلَى الشَّمْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ الْخَيْلِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَكَاذِبَةٍ، سَوَّدُوا الْوَرَقَ بِذِكْرِهَا.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً: نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَإِلْقَاءِ الْجَسَدِ أَقْوَالًا يَجِبُ بَرَاءَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا، يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ، وَهِيَ مِمَّا لا يحل نقلها، وأما هِيَ مِنْ أَوْضَاعِ الْيَهُودِ وَالزَّنَادِقَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ الْفِتْنَةَ مَا هِيَ، وَلَا الْجَسَدَ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِتْنَةِ كَوْنُهُ لَمْ يَسْتَثْنِ
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَجَاءَتْهُ بِشِقِّ رَجُلٍ»
. قال
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُوَ هَذَا، وَالْجَسَدُ الْمُلْقَى هُوَ الْمَوْلُودُ شِقُّ رَجُلٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَرِضَ سُلَيْمَانُ مَرَضًا كَالْإِغْمَاءِ حَتَّى صَارَ عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا كَأَنَّهُ بِلَا رُوحٍ.
وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُ كَفَّارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ، أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ وَقِصَّةَ سُلَيْمَانَ وَقِصَّةَ أَيُّوبَ لِيَتَأَسَّى بِهِمْ، وَذَكَرَ مَا لَهُمْ عِنْدَهُ مِنَ الزُّلْفَى وَالْمَكَانَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَذْكُرَ مَنْ يَتَأَسَّى بِهِ مِمَّنْ نَسَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَيْهِ مَا يَعْظُمُ أَنْ يُتَفَوَّهَ بِهِ وَيَسْتَحِيلَ عَقْلًا وُجُودُ بَعْضِ مَا ذَكَرُوهُ، كَتَمَثُّلِ الشَّيْطَانِ بِصُورَةِ نَبِيٍّ، حَتَّى يَلْتَبِسَ أَمْرُهُ عند الناس، ويعتقدون أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَصَوِّرَ هُوَ النَّبِيُّ، وَلَوْ أَمْكَنَ وُجُودُ هَذَا، لَمْ يُوثَقْ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ، وَإِنَّمَا هَذِهِ مَقَالَةٌ مُسْتَرَقَةٌ مِنْ زَنَادِقَةِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ سَلَامَةَ أَذْهَانِنَا وَعُقُولِنَا مِنْهَا. ثُمَّ أَنابَ: أَيْ بَعْدِ امْتِحَانِنَا إِيَّاهُ، أَدَامَ الْإِنَابَةَ وَالرُّجُوعَ.
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي: هَذَا أَدَبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ هَضْمًا لِلنَّفْسِ وَإِظْهَارًا لِلذِّلَّةِ وَالْخُشُوعِ وَطَلَبًا لِلتَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
، وَالِاسْتِغْفَارُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ مَا يَطْلُبُ الْمُسْتَغْفِرُ بِطَلَبِ الْأَهَمِّ فِي دِينِهِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَمْرُ دُنْيَاهُ، كَقَوْلِ نُوحٍ فِي مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «١» الْآيَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَلَبَ الْمُلْكِ كَانَ بَعْدَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ أَقَامَ فِي مُلْكِهِ عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ هَذَا الِابْتِلَاءِ، وَأَقَامَ بَعْدَهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَيُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ فِي مُلْكٍ قَبْلَ الْمِحْنَةِ، ثُمَّ سَأَلَ بَعْدَهَا مُلْكًا مُقَيَّدًا بِالْوَصْفِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقَيْدِ، فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَتَادَةُ: إِلَى مُدَّةِ حَيَاتِي، لَا أَسْلُبُهُ ويصير إلى غيري. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ قَصْدًا جَائِزًا، لِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَرْغَبَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِيمَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ، لَا سِيَّمَا بِحَسَبِ الْمَكَانَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْبَغِي، إِنَّمَا هِيَ لَفْظَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لَيْسَتْ تَقْطَعُ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطِي اللَّهُ نَحْوَ ذَلِكَ الْمُلْكِ لِأَحَدٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشِئًا فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ وَوَارِثًا لَهُمَا فَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ مُعْجِزَةً، فَطَلَبَ عَلَى حَسَبِ إِلْفِهِ مُلْكًا زائدا على الممالك
وَقِيلَ: كَانَ مُلْكًا عَظِيمًا، فَخَافَ أَنْ يُعْطَى مِثْلَهُ أَحَدٌ، فَلَا يُحَافِظُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ فِيهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةِ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ «١». وَقِيلَ: مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ، وَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرِي مَقَامِي. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمَ اللَّهُ فِيمَا اخْتَصَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُلْكِ الْعَظِيمِ مَصَالِحَ فِي الدِّينِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ بِأَحْبَابِهِ غَيْرُهُ، وَأَوْجَبَتِ الْحِكْمَةُ اسْتِيهَابَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَوْهِبَهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ اللَّهُ أَنْ لَا يَضْبُطَهُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ عِبَادِهِ. أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: مُلْكًا عَظِيمًا، فَقَالَ:
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَسَعَتِهِ، كَمَا تَقُولُ لِفُلَانٍ:
مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَالِ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلنَّاسِ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّكَ تُرِيدُ تَعْظِيمَ مَا عِنْدَهُ. انْتَهَى.
وَلَمَّا بَالَغَ فِي صِفَةِ هَذَا الْمُلْكِ الَّذِي طَلَبَهُ، أَتَى فِي صِفَتِهِ تَعَالَى بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فَقَالَ: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: أَيِ الْكَثِيرُ الْهِبَاتِ، لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَهُ هِبَةٌ. وَلَمَّا طَلَبَ الْهِبَةَ الَّتِي اخْتَصَّ بِطَلَبِهَا، وَهَبَهُ وَأَعْطَاهُ مَا ذَكَرَ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِفْرَادِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: الرِّيَاحُ بِالْجَمْعِ، وَهُوَ أَعَمُّ لِعَظَمِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْرَدُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ. تَجْرِي: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةً حَالِيَّةً، أَيْ جَارِيَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَفْسِيرِيَّةً لِقَوْلِهِ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ.
بِأَمْرِهِ أَيْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إِذَا أَرَادَ جَرْيَهَا. رُخاءً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: مُطِيعَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَيِّبَةً. حَيْثُ أَصابَ: أَيْ حَيْثُ قَصَدَ وَأَرَادَ، حَكَى الزَّجَّاجُ عَنِ الْعَرَبِ. أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ: أَيْ قَصَدَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فقال: هَذِهِ طَلِبَتُنَا. وَيُقَالُ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا، وَأَنْشَدَ الثَّعْلَبِيُّ:
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ | فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ |
أَلَا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ | قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ |
وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ | يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ |
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ | كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى الرُّشْدِ |
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ مُعَاقَبَةً | تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ |
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَهَبَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَأَقْدَرَهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِمَاعِهِنَّ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ هُنَا ذِكْرُ النِّسَاءِ، وَلَا مَا أُوتِيَ مِنَ الْقُدْرَةِ على ذلك، وبِغَيْرِ حِسابٍ: فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَطاؤُنا، أَيْ هَذَا عَطَاؤُنَا جَمًّا كَثِيرًا لَا تَكَادُ تَقْدِرُ عَلَى حَصْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حِسابٍ مِنْ تَمَامِ فَامْنُنْ. أَوْ أَمْسِكْ: أَيْ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي إِعْطَاءِ مَنْ شِئْتَ أَوْ حِرْمَانِهِ، وَفِي إِطْلَاقِ مَنْ شِئْتَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ إِيثَاقِهِ.
وَخَتَمَ تَعَالَى قِصَّتَهُ بِمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ وَالِدِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَحُسْنَ مَآبٍ، بالنصب عطفا على الزلفى. وقرأ الحسن،
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٨٨]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
وَأَسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةً قَدْ رَبَطْتُهَا | وَأَلْقَيْتُ ضِغْثًا مِنْ خَلًى مُتَطَيِّبِ |
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ، وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ.
لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ، وَذَكَرَ ابْتِلَاءَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا، ذَكَرَ مَنْ كَانَ أَشَدَّ ابْتِلَاءٍ مِنْهُمَا، وَأَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّبْرِ، بِحَيْثُ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَأَيُّوبُ: عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ
وَلَا يُنَاسِبُ مَنَاصِبَ الْأَنْبِيَاءِ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنِ أَنَّ أَيُّوبَ كَانَتْ مِنْهُ طَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا وَسْوَسَ بِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِمَا مَسَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ، وَلَا أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ فَلَمْ يُغِثْهُ، وَلَا أَنَّهُ دَاهَنَ كَافِرًا، وَلَا أَنَّهُ أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَوْا أَنَّ الشَّيْطَانَ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى أَذْهَبَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْبَشَرِ إِلَّا بِإِلْقَاءِ الْوَسَاوِسِ الْفَاسِدَةِ لِغَيْرِ الْمَعْصُومِ. وَالَّذِي نَقُولُهُ:
أَنَّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَسَدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ.
وَرَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ أَيُّوبَ بَقِيَ فِي مِحْنَتِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً يَتَسَاقَطُ لَحْمُهُ حَتَّى مَلَّهُ الْعَالَمُ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ
، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا تَوَالِيَ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِعِلَّتِهِ. وَأَمَّا إِسْنَادُهُ الْمَسَّ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْتَدَّ أَحَدُهُمْ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ، فَحِينَئِذٍ قَالَ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ، نَزَّلَ لِشَفَقَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
مَسَّ الشَّيْطَانِ ذَلِكَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى ارْتَدَّ مَنْزِلَةَ مَسِّهِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ الْخَيِّرَ يَتَأَلَّمُ بِرُجُوعِ الْمُؤْمِنِ الْخَيِّرِ إِلَى الْكُفْرِ وَلِذَلِكَ جَاءَ بَعْدَهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، حَتَّى يَغْتَسِلَ وَيَذْهَبَ عَنْهُ الْبَلَاءُ، فَلَا يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ طُولِ بَلَائِهِ، وَتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ. وَقِيلَ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ إِلَى تَعْرِيضِهِ لِامْرَأَتِهِ، وَطَلَبِهِ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، وَكَأَنَّهُ بِتَشَكِّي هَذَا الْأَمْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ مَرَضِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
بِنُصْبٍ، بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، قِيلَ: جَمْعُ نَصْبٍ، كَوُثْنٍ وَوَثْنٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو عُمَارَةَ عَنْ حَفْصٍ، وَالْجُعْفِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو مُعَاذٍ عَنْ نَافِعٍ: بِضَمَّتَيْنِ،
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَذَلِكَ كُلٌّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعْنَاهُ الْمَشَقَّةُ، وَكَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ النُّصْبُ فِي مَشَقَّةِ الْإِعْيَاءِ. وَفَرَّقَ بَعْضُ النَّاسِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنًى مِنْ قولهم: أنصبني الأمر، إذ شَقَّ عَلَيَّ انْتَهَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
بِنُصْبٍ فِي الْجَسَدِ وَعَذَابٍ فِي الْمَالِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَقُلْنَا:
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، فَرَكَضَ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ، فَاغْتَسَلَ فَبَرِأَ، وَوَهَبْنا لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَحْذُوفَاتِ مَعْنَى الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الرَّكْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ: كَانَ ذَلِكَ بِأَرْضِ الْجَابِيَةِ مِنَ الشَّأْمِ.
وَمَعْنَى هَذَا مُغْتَسَلٌ: أَيْ مَا يُغْتَسَلُ بِهِ، وَشَرابٌ، أَيْ مَا تَشْرَبُهُ، فَبِاغْتِسَالِكَ يَبْرَأُ ظاهرك، وبشر بك يَبْرَأُ بَاطِنُكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ كَانَ وَاحِدًا، وَالْعَيْنُ الَّتِي نَبَعَتْ لَهُ عَيْنَانِ، شَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى.
وَقِيلَ: ضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ حَارَّةٌ فَاغْتَسَلَ. وَبِالْيُسْرَى، فَنَبَعَتْ بَارِدَةٌ فَشَرِبَ مِنْهَا
، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ:
مُغْتَسَلٌ بارِدٌ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاءٌ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: أُمِرَ بِالرَّكْضِ بِالرِّجْلِ، لِيَتَنَاثَرَ عَنْهُ كُلُّ دَاءٍ بِجَسَدِهِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْمُغْتَسَلُ: الْمَاءُ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ مَشَى نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، ثُمَّ رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا.
قِيلَ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّهُ رَكَضَ رَكْضَتَيْنِ، فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنَانِ، شَرِبَ مِنْ إِحْدَاهُمَا، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْأُخْرَى.
وَالْجُمْهُورُ:
عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَا لَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَافَى الْمَرْضَى، وَجَمَعَ عَلَيْهِ مَنْ شُتِّتَ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: رَزَقَهُ أَوْلَادًا وَذُرِّيَّةً قَدْرَ ذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا، وَلَمْ يَرُدَّ أَهْلَهُ الَّذِينَ هَلَكُوا بِأَعْيَانِهِمْ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَنَّهَا فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ ذَلِكَ وَعْدٌ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْهَيْئَةُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ:
وَهَبَهُ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْهُمْ، وَعَافَاهُ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَأَرْغَدَ لَهُمُ الْعَيْشَ، فَتَنَاسَلُوا حَتَّى تَضَاعَفَ عددهم وصار مثلهم.
وَمَحْصُولُ أَقْوَالِهِمْ هُوَ تَمَثُّلُ الشَّيْطَانِ لَهَا فِي صُورَةِ نَاصِحٍ أَوْ مُدَاوٍ. وَعَرَضَ لَهَا شِفَاءَ أَيُّوبَ عَلَى يَدَيْهِ عَلَى شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ مِنْ مُؤْمِنٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي عَرَضَ لَهَا هُوَ الشَّيْطَانُ، وَغَضِبَ لِعَرْضِهَا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَحَلَفَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ. فَحَلَّلَ اللَّهُ يَمِينَهُ بِأَهْوَنِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، لِحُسْنِ خِدْمَتِهَا إِيَّاهُ وَرِضَاهُ عَنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ فِي الْإِسْلَامِ.
أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُخْدَجٍ قَدْ خَبُثَ بِأَمَةٍ فَقَالَ: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً».
وَقَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَيْمَانِ، قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يُصِيبَ الْمَضْرُوبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمِائَةِ، إِمَّا أَطْرَافُهَا قَائِمَةٌ، وَإِمَّا أَعْرَاضُهَا مَبْسُوطَةٌ، مَعَ وُجُودِ صُورَةِ الضَّرْبَةِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَرْكِ الْقَوْلِ فِي الْحُدُودِ، وَأَنَّ الْبِرَّ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِتْمَامِ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ. وَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ. وَقَدْ قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ «١»، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا تُنَافِي الْوَصْفَ بِالصَّبْرِ.
وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ عَلَى أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ الشِّفَاءَ خِيفَةً عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُوَسْوِسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يُبْتَلَ، وَتَأَلُّفًا لِقَوْمِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَبَلَغَ أَمْرُهُ فِي الْبَلَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ: إِلَهِي قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ لِسَانِي قَلْبِي، وَلَمْ يَتْبَعْ قَلْبِي بَصَرِي، وَلَمْ يَمْنَعْنِي مَا مَلَكَتْ يَمِينِي، وَلَمْ آكُلْ إِلَّا وَمَعِي يَتِيمٌ، وَلَمْ أَبِتْ شَبْعَانًا وَلَا كَاسِيًا وَمَعِي جَائِعٌ أَوْ عُرْيَانٌ، فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ مَكَّةَ، عبدنا على الإفراد، وإبراهيم بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَمْعِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الثَّلَاثَةِ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُولِي الْأَيْدِي، بِالْيَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِحْسَانُهُمْ فِي الدِّينِ وَتَقَدُّمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى عَمَلِ صِدْقٍ، فَهِيَ كالأيدي،
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَعْمَالِ تُبَاشَرُ بِالْأَيْدِي غَلَبَتْ، فَقِيلَ فِي كُلِّ عَمَلٍ:
هَذَا مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ عَمَلًا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمُبَاشَرَةُ بِالْأَيْدِي، أَوْ كَانَ الْعُمَّالُ جَذْمًا لَا أَيْدِيَ لَهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ قَوْلُهُ عَزَّ وَعَلَا: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، يُرِيدُ: أُولِي الْأَعْمَالِ وَالْفِكْرِ كَأَنَّ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ، وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي اللَّهِ وَلَا يُفَكِّرُونَ أَفْكَارَ ذَوِي الدِّيَانَاتِ، وَلَا يَسْتَبْصِرُونَ فِي حُكْمِ الزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إِعْمَالِ جَوَارِحِهِمْ، وَالْمَسْلُوبِي الْعُقُولِ الَّذِينَ لَا اسْتِبْصَارَ بِهِمْ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عُمَّالِ اللَّهِ، وَلَا مِنَ الْمُسْتَبْصِرِينَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَتَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِهِمُ الْمُجَاهَدَةَ وَالتَّأَمُّلَ مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَمَكِّنِينَ مِنْهَا. انْتَهَى، وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْيَدُ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ، وَالْبَصَرُ آلَةٌ لِأَقْوَى الْإِدْرَاكَاتِ، فَحَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ، وَعَنِ الْإِدْرَاكِ بِالْبَصَرِ.
وَالنَّفْسُ النَّاطِقَةُ لَهَا قُوَّتَانِ: عَامِلَةٌ وَعَالِمَةٌ، فَأُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِشَارَةٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْحَسَنُ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ: الْأَيْدِ بِغَيْرِ يَاءٍ، فَقِيلَ: يُرَادُ الْأَيْدِي حَذَفَ الْيَاءِ اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ أَلْ تُعَاقِبُ التَّنْوِينَ، حُذِفَتِ الْيَاءُ مَعَهَا، كَمَا حُذِفَتْ مَعَ التَّنْوِينِ، وَهَذَا تَخْرِيجٌ لَا يُسَوَّغُ، لِأَنَّ حَذْفَ هَذِهِ الْيَاءِ مَعَ وُجُودِ أَلْ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الضَّرَائِرِ. وَقِيلَ: الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْبَصَائِرِ الَّتِي يُبْصِرُونَ بِهَا الْحَقَائِقَ وَيَنْظُرُونَ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَفْسِيرُ الْأَيْدِي مِنَ التَّأْيِيدِ قَلَقٌ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ قَلَقًا عِنْدَهُ لِعَطْفِ الْأَبْصَارِ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّقَ، لِأَنَّهُ فَسَّرَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ بِقَوْلِهِ: يُرِيدُ أُولِي الْأَعْمَالِ وَالْفِكْرِ. وقرىء: الْأَيَادِي، جَمْعُ الْجَمْعِ، كَأَوْطَفٍ وَأَوَاطِفَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَهِشَامٌ: بِخَالِصَةٍ، بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، أُضِيفَتْ إِلَى ذِكْرَى. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالتَّنْوِينِ، وذِكْرَى بَدَلٌ مِنْ بِخالِصَةٍ. وَقَرَأَ الأعمش، وطلحة: بخالصتهم، وأَخْلَصْناهُمْ: جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يُحْتَمَلُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ عبر بِهِ عَنْ مَزِيَّةٍ أَوْ رُتْبَةٍ أَوْ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ لَا شَوْبَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، كَالْعَاقِبَةِ، فَيَكُونُ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ الْفَاعِلُ، أَيْ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ أَخْلَصُوا ذِكْرَى الدَّارِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى مَفْعُولًا، أَوْ بِأَنْ أَخْلَصْنَا لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، أَوْ يَكُونُ الْفَاعِلُ ذِكْرَى، أَيْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّارِ، وَالدَّارُ فِي كل وجه في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِذِكْرَى، وَذِكْرَى
وَالْعَمَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَبْنَا لَهُمْ أَفْضَلَ مَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالدَّارِ دَارَ الدُّنْيَا، عَلَى مَعْنَى ذِكْرِ الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ مِنَ النَّاسِ، وَالْحَمْدُ الْبَاقِي الَّذِي هُوَ الْخُلْدُ الْمَجَازِيُّ، فَتَجِيءُ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لِسانَ صِدْقٍ «١»، وَقَوْلِهِ: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «٢». انْتَهَى. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ قَوْلًا فَقَالَ: وَقِيلَ ذِكْرَى الدَّارِ: الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الدُّنْيَا وَلِسَانُ الصِّدْقِ. انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي بِخَالِصَةٍ بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ وَبِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، وَيُعَضِّدُهُ قراءة بخالصتهم. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ الْمُخْتَارِينَ مِنْ بَيْنِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ، الْأَخْيارِ: جَمْعُ خَيِّرٍ، وَخَيِّرٌ كَمَيِّتٍ وَمَيِّتٌ وَأَمْوَاتٌ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْيَسَعَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَذَا الْكِفْلِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ. وَعِنْدَنَا ظَرْفٌ مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُصْطَفَيْنَ، أَيْ وَإِنَّهُمْ مُصْطَفَوْنَ عِنْدَنَا، أَوْ مَعْمُولٌ لِلْمُصْطَفَيْنَ، وَإِنْ كَانَ بِأَلْ، لِأَنَّهُمْ يَتَسَمَّحُونَ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَا لَا يَتَسَمَّحُونَ فِي غَيْرِهِمَا، أَوْ عَلَى التَّبْيِينِ، أَيْ أَعْنِي عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَنَا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَيَعْنِي بِالْعِنْدِيَّةِ: الْمَكَانَةُ، وَلَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ: فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ ثَانٍ لِوُجُودِ اللَّامِ، لَا يَجُوزُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ لَمُنْطَلِقٌ، وَكُلٌّ:
أَيْ وَكُلُّهُمْ، مِنَ الْأَخْيَارِ.
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ، مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ، وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنا مَا لَهُ مِنْ نَفادٍ، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ، هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ، قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ، قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هَذَا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ، وَقالُوا مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ، أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ٧٨ و ١٠٨ و ١١٩ و ١٢٩.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَنَّاتِ بِالنَّصْبِ، وَهُوَ بَدَلٌ، فَإِنْ كَانَ عَدْنٍ عَلَمًا، فَبَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ نَكَرَةٍ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً، فَبَدَلُ نَكِرَةٍ مِنْ نَكِرَةٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَنَّاتِ عَدْنٍ مَعْرِفَةٌ لِقَوْلِهِ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ «١»، وَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا عطف بيان بحسن مآب، ومفتحة حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَا فِي الْمُتَّقِينَ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ. وَفِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرُ الْجَنَّاتِ، وَالْأَبْوَابُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ تَقْدِيرُهُ:
مُفَتَّحَةً هِيَ الْأَبْوَابُ لِقَوْلِهِمْ: ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ وَالرِّجْلُ، وَهُوَ مِنْ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. انْتَهَى. وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ مَعْرِفَةً بِالدَّلِيلِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي، لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الَّتِي صِفَةٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي بَدَلًا مِنْ جَنَّاتِ عَدْنٍ. أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي وَالَّتِي وَجُمُوعَهُمَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ، فَتَلِي الْعَوَامِلَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً؟ وَأَمَّا انْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا عَطْفُ بَيَانٍ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّحْوِيِّينَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَعَارِفِ، فَلَا يَكُونُ عَطْفُ الْبَيَانِ إِلَّا تَابِعًا لِمَعْرِفَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّكِرَاتِ، فَيَكُونُ عَطْفُ الْبَيَانِ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ، كَمَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ فِيهِ تَابِعَةً لِمَعْرِفَةٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ، وَتَبِعَهُمُ الْفَارِسِيُّ. وَأَمَّا تَخَالُفُهُمَا فِي التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ فَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ أَحَدٌ سِوَى هَذَا الْمُصَنِّفِ. وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مَقامِ إِبْراهِيمَ «٢»، فَأَعْرَبَهُ عَطْفَ بَيَانٍ تَابِعًا لِنَكِرَةٍ، وَهُوَ آياتٍ بَيِّناتٍ «٣»، ومَقامِ إِبْراهِيمَ مَعْرِفَةٌ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرُ الْجَنَّاتِ، فَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ أَعْرَبُوا الْأَبْوَابَ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَجَاءَ أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ. مِنَ الْحَالِيَّةِ إِنْ أَعْرَبَ مُفَتَّحَةً حَالًا، أَوْ مِنَ النَّعْتِ إِنْ أَعْرَبَ نعتا لجنات عَدْنٍ، فَقَالَ: فِي مُفَتَّحَةً ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْجَنَّاتِ حَتَّى تَرْتَبِطَ الْحَالُ بِصَاحِبِهَا، أو النعت بمنعوته،
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٩٧.
ضُرِبَ زَيْدٌ الْيَدُ وَالرِّجْلُ، فَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَبْوَابَ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ، كَمَا أَنَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ بَدَلٌ مِنَ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ زَيْدٌ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُفَتَّحَةً نَعْتٌ لِجَنَّاتِ عَدْنٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مُفَتَّحَةً حَالٌ، وَالْعَامِلُ فِيهَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: يَدْخُلُونَهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُفَيْعٍ، وَأَبُو حَيْوَةَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مُفَتَّحَةٌ، بِرَفْعِ التَّاءَيْنِ: مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا خبر مبتدأ محذوف، أي هُوَ جَنَّاتُ عَدْنٍ هِيَ مُفَتَّحَةٌ.
وَالِاتِّكَاءُ: مِنْ هَيْئَاتِ أَهْلِ السَّعَادَةِ يَدْعُونَ فِيهَا، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمْ مَنْ يَسْتَخْدِمُونَهُ فِيمَا يَسْتَدْعُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «١».
وَلَمَّا كَانَتِ الْفَاكِهَةُ يَتَنَوَّعُ وَصْفُهَا بِالْكَثْرَةِ، وَكَثْرَتُهَا بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَكَثْرَةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا وَلَمَّا كَانَ الشَّرَابُ نَوْعًا وَاحِدًا وَهُوَ الْخَمْرُ، أُفْرِدَ: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ. قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، أَتْرابٌ: أَيْ أَمْثَالٌ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ، وَأَصْلُهُ فِي بَنِي آدَمَ لِكَوْنِهِمْ مَسَّ أَجْسَادَهُمُ التُّرَابُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَالْأَقْرَانُ أَثْبَتُ فِي التَّحَابِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ هُوَ بَيْنَهُنَّ، وَقِيلَ: بَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ، أَسْنَانُهُنَّ كَأَسْنَانِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْآدَمِيَّاتِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: حُورٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: هذا مَا يُوعَدُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، إِذْ قَبْلَهُ وَعِنْدَهُمْ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْمَعْنَى: هَذَا مَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ. إِنَّ هَذَا: أَيْ مَا ذُكِرَ لِلْمُتَّقِينَ مِمَّا تَقَدَّمَ، لَرِزْقُنا دَائِمًا:
أَيْ لَا نَفَادَ لَهُ.
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ الْأَمْرُ هَذَا، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الْخَبَرِ، أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ، والطاغون هنا:
حَتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ فِي غَلَسٍ | وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيُّ وَمَحْصُودُ |
وَقَائِلَةٍ خَوْلَانُ فَانْكِحْ فتاتهم وَالْغَسَّاقُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّمْهَرِيرُ وَعَنْهُ أَيْضًا، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَا يَجْرِي مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَنْ كَعْبٍ: عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ تَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَةُ كُلِّ ذِي حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، يُغْمَسُ فِيهَا فَيَتَسَاقَطُ الْجِلْدُ وَاللَّحْمُ عَنِ الْعَظْمِ وَعَنِ السُّدِّيِّ: مَا يَسِيلُ مِنْ دُمُوعِهِمْ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الْقَيْحُ يَسِيلُ مِنْهُمْ فَيُسْقَوْنَهُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَالْفَضْلُ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بِتَشْدِيدِ السِّينِ. فَإِنْ كَانَ صِفَةً، فَيَكُونُ مِمَّا حُذِفَ مَوْصُوفُهَا، وَإِنْ كَانَ اسْمًا، فَفَعَّالٌ قَلِيلٌ فِي الْأَسْمَاءِ، جَاءَ مِنْهُ: الْكَلَّاءُ، وَالْجَبَّانُ، وَالْفَنَّادُ، وَالْعَقَّارُ، وَالْخَطَّارُ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِتَخْفِيفِ السِّينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَآخَرُ عَلَى الْإِفْرَادِ، فَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ آخَرُ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:
أَزْواجٌ مبتدأ، ومِنْ شَكْلِهِ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ. وَآخَرُ، وَقِيلَ: خَبَرُهُ أَزْوَاجٌ، وَمِنْ شَكْلِهِ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَجَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِالْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَرَجَاتٌ، وَرُتَبٌ مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ سَمَّى كُلَّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْآخَرِ بِاسْمِ الْكُلِّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَآخَرُ، أَيْ وَعَذَابٌ آخَرُ، أَوْ مَذُوقٌ آخَرُ وَأَزْوَاجٌ صِفَةُ آخَرَ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرُوبًا أَوْ صِفَةً لِلثَّلَاثَةِ، وَهِيَ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ إِعْرَابٌ أَخَذَهُ مِنَ الْفَرَّاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعِيسَى، وَأَبُو عَمْرٍو: وَأُخَرُ عَلَى الْجَمْعِ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، مِنْ قَوْلِ رُؤَسَائِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَالْفَوْجُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ: أَيِ النَّارَ، وَهُمُ الْأَتْبَاعُ، ثُمَّ دَعَوْا عليهم بقولهم: مَرْحَباً بِهِمْ، لِأَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا رَأَى الْخَسِيسَ قَدْ قُرِنَ مَعَهُ فِي الْعَذَابِ، سَاءَهُ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ التَّسَاوِي فِي الْعَذَابِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ السَّالِمُ مِنَ الْعَذَابِ وَأَتْبَاعُهُ فِي الْعَذَابِ.
ومرحبا مَعْنَاهُ: ائْتِ رَحْبًا وَسَعَةً لَا ضَيِّقًا، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ يَجِبُ إِضْمَارُهُ، وَلِأَنَّ عُلُوَّهُمْ بَيَانٌ لِلْمَدْعُوِّ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا فَوْجٌ، مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ خَزَنَةِ النَّارِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْفَوْجِ وَالتَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ، مِنْ كَلَامِهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ، مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَالدُّعَاءُ عَلَى الْفَوْجِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ مِنْ كَلَامِ الرُّؤَسَاءِ الْمَتْبُوعِينَ. قالُوا أَيِ الْفَوْجُ: لَا مَرْحَباً بِكُمْ، رَدٌّ عَلَى الرُّؤَسَاءِ مَا دَعَوْا بِهِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَصَلْيِ النَّارِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَا أَلْقَيْتُمْ إِلَيْنَا وَزَيَّنْتُمُوهُ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَأَنَّكُمْ قَدَّمْتُمْ لَنَا الْعَذَابَ أَوِ الصَّلْيَ. وَإِذَا كَانَ لَا مَرْحَباً بِهِمْ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ، فَلَمْ يجىء التَّرْكِيبُ: قَالُوا بَلْ هَؤُلَاءِ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، بَلْ جَاءَ بِخِطَابِ الْأَتْبَاعِ لِلرُّؤَسَاءِ، لِتَكُونَ الْمُوَاجَهَةُ لِمَنْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُوَاجَهَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَبِيحٍ أَشَفَى لِصُدُورِهِمْ، حَيْثُ تَسَبَّبُوا فِي كُفْرِهِمْ، وَأَنْكَى لِلرُّؤَسَاءِ. فَبِئْسَ الْقَرارُ: أَيِ النَّارُ وَهَذِهِ الْمُرَادَةُ وَالدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها «١». وَلَمْ يَكْتَفِ الْأَتْبَاعُ بِرَدِّ الدُّعَاءِ عَلَى رُؤَسَائِهِمْ، وَلَا بِمُوَاجَهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، حَتَّى سَأَلُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزِيدَ رُؤَسَاءَهُمْ ضِعْفًا مِنَ النَّارِ، وَالْمَعْنَى: مَنْ حَمَلَنَا عَلَى عَمَلِ السُّوءِ حَتَّى صَارَ جَزَاءُنَا النَّارَ، فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِ الْأَتْبَاعِ: رَبَّنا آتِهِمْ، أَيْ سَادَاتَهُمْ، ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ «٢»، رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «٣».
وَلَمَّا كَانَ الرُّؤَسَاءُ ضُلَّالًا فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ، ناسب أن يدعو عليهم بأن
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٦٨.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ٣٨.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الضِّعْفُ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ. وَقالُوا: أَيْ أَشْرَافُ الْكُفَّارِ، مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ: أَيِ الْأَرْذَالِ الَّذِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَيْسُوا عَلَى دِينِنَا، كَمَا قَالَ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «١». وَرُوِيَ أَنَّ الْقَائِلِينَ مِنْ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وأمية بن خلف، وأصحاب الْقَلِيبِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَرَوْهُمْ:
عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسَلْمَانُ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. قِيلَ: يَسْأَلُونَ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ أَيْنَ صُهَيْبٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ يَعُدُّونَ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَالُ لَهُمْ: أُولَئِكَ فِي الْفِرْدَوْسِ.
وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ، وَحَمْزَةُ: اتَّخَذْنَاهُمْ وَصْلًا، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: صِفَةٌ لِرِجَالٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِثْلُ قَوْلِهِ: كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
حَالٌ، أَيْ وَقَدِ اتَّخَذْنَاهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، لِتَقْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى هَذَا، عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لَهَا. وَالْأَسَفِ، أَيِ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، وَلَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَصْحَابُهُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَنَافِعٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سُخْرِيًّا، بِضَمِّ السِّينِ، وَمَعْنَاهَا: مِنَ السُّخْرَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِكَسْرِ السِّينِ، وَمَعْنَاهَا: الْمَشْهُورُ مِنَ السُّخْرِ، وَهُوَ الْهُزْءُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِّي أَتَانِي لِسَانٌ لَا أُسَرُّ بِهَا | مِنْ عَلْوَ لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا سَخَرُ |
وَإِنَّ أَبْصَارَنَا كَانَتْ تَعْلُو عَنْهُمْ وَتَقْتَحِمُ. وَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِلِاسْتِسْخَارِ وَالزَّيْغِ جَمِيعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوا، اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُهُمْ مُحَقِّرَةً لَهُمْ. وَأَنَّ اتَّخَذْنَاهُمْ لَيْسَ اسْتِفْهَامًا، فَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ، وَيَجُوزُ أن تكون
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ: مَا لَنا لَا نَرى رِجالًا، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ أَوَّلًا دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعَهُ، ثُمَّ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ، وَلَكِنَّ أَبْصَارَهُمْ لَمْ تَرَهُمْ. إِنَّ ذلِكَ: أَيِ التَّفَاوُضُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ، لَحَقٌّ: أَيْ ثَابِتٌ وَاقِعٌ لَا بُدَّ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
تَخاصُمُ بِالرَّفْعِ مُضَافًا إِلَى أَهْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ مِنْ لَحَقٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
بَيَّنَ مَا هُوَ فَقَالَ: تَخَاصُمُ مُنَوَّنًا، أَهْلُ رُفِعَا بِالْمَصْدَرِ الْمُنَوَّنِ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ الْفَرَّاءُ، وَيُجِيزُهُ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيُّونَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَخَاصُمَ أَهْلِ، بِنَصْبِ الْمِيمِ وَجَرِّ أَهْلِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِذَلِكَ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْإِشَارَةِ تُوصَفُ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: وَلَوْ نُصِبَ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ، لَجَازَ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَرَأَ ابْنُ السميفع:
تَخَاصُمُ: فِعْلًا مَاضِيًا، أَهْلُ: فَاعِلًا، وَسَمَّى تَعَالَى تِلْكَ الْمُفَاوَضَةَ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ رُؤَسَاءِ الْكُفَّارِ وَأَتْبَاعِهِمْ تَخَاصُمًا، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَا مَرْحَباً بِهِمْ، وَقَوْلَ الْأَتْبَاعِ: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ، هُوَ مِنْ بَابِ الْخُصُومَةِ، فَسَمَّى التَّفَاوُضَ كُلَّهُ تَخَاصُمًا لِاسْتِعْمَالِهِ عَلَيْهِ.
قُلْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ: أَيْ مُنْذِرُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ، وَأَنَّ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ مَالِكُ الْعَالَمِ، عُلْوِهِ وَسُفْلِهِ، الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُغَالَبُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ لِدِينِهِ.
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ، قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ، قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْقُرْآنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: قَصَصُ آدَمَ وَالْإِنْبَاءُ بِهِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنْ أَحَدٍ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: سِيَاقُ الْآيَةِ وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مُنَاظَرَةِ أَهْلِ النَّارِ وَمُقَاوَلَةِ الْأَتْبَاعِ مَعَ السَّادَاتِ، لِأَنَّهُ مِنْ أحوال البعث، وقريش كَانْتَ تُنْكِرُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْعِقَابَ، وَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُعْرِضُونَ. وَقَوْلُهُ: مَا كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ: احْتِجَاجٌ عَلَى قُرَيْشٍ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. فَإِنَّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مَا لَهُ عِلْمٌ بِمَنْ فِي السَّمَاءِ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ الْمُغَيَّبَاتِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمُهُ بِأَحْوَالِ أَهْلِ النَّارِ، وَابْتِدَاءِ خَلْقِ آدَمَ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ فَإِخْبَارُهُ بِذَلِكَ هُوَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِقِصَّةِ آدَمَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْبَشَرِ خَلْقًا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَزْمَانٌ مُتَقَادِمَةٌ وَقُرُونٌ سَالِفَةٌ. انْتَهَى، وَفِي آخِرِهِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ.
ثُمَّ احْتَجَّ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، بِأَنَّ مَا ينبىء بِهِ عَنِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَاخْتِصَامِهِمْ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ مِنْ عِلْمٍ قَطُّ. ثُمَّ عَلِمَهُ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَسْلُكُهُ الْمُتَعَلِّمُونَ، بَلْ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ من الوحي، وبالملأ متعلق بعلم، وإذ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِمَحْذُوفٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى:
مَا كان لي من علم بِكَلَامِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَقْتَ اخْتِصَامِهِمْ. وإِذْ قالَ بَدَلٌ مِنْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ عَلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ قُرَيْشٌ، وَاخْتِصَامُ الْمَلَائِكَةِ فِي أَمْرِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ فِي جَعْلِهِمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «١». قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ خَلْقًا كُنَّا أَكْرَمَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ. وَقِيلَ:
فِي الْكَفَّارَاتِ وَغَفْرِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً اخْتَلَفَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي قَدْرِ ثَوَابِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بِمَا يَشَاءُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ لَهُ رَبُّهُ فِي نَوْمِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: فِي الْكَفَّارَاتِ وَفِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي السَّرَّاتِ وَنَقْلِ الْخُطَا إِلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانَتْ مُقَاوَلَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ، وَكَانَ الْمُقَاوِلُ في الحقيقة
إِنْ يُوحى إِلَيَّ: أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ، إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ: أَيْ لِلْإِنْذَارِ، حَذَفَ اللَّامَ وَوَصَلَ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، الْمَعْنَى، أَيْ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ هُوَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَأُقِيمَ إِلِيَّ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِلَّا إِنَّمَا، بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّمَا عَلَى الْحِكَايَةِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَأَنْ قِيلَ لَهُ: أَنْتَ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَحَكَى هُوَ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَنَا عَالِمٌ، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْتَ إِنَّكَ عَالِمٌ، فَيُحْكَى الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء إِنَّمَا بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، أي إلا هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَا أَدَّعِي شَيْئًا آخَرَ. انْتَهَى. فِي تَخْرِيجِهِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَيْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، فَظَاهِرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ إِنِّي نَذِيرٌ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ هُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ، وَأَنْ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَيَتَعَارَضَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ، إِذْ قَالَ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَخْتَصِمُونَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ مَنْ يُسْتَخْلَفُ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِاذْكُرْ.
وَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ، خَالَفُوا الرَّسُولَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ. ذَكَرَ حَالَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِيَزْدَجِرَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً، وَمَا عَرَفُوا مَا الْبَشَرُ وَلَا عَهِدُوا بِهِ قَبْلُ؟ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي خَالِقٌ خَلْقًا مِنْ صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَلَكِنَّهُ حِينَ حَكَاهُ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ. انْتَهَى. وَالْبَشَرُ هُوَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ:
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «١»، وَفِي الْحِجْرِ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «٢»، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ:
مِنْ عَجَلٍ «٣» وَلَا مُنَافَاةَ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ الْبَعِيدَةِ، وَهِيَ التُّرَابُ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ وَهُوَ الطِّينُ،
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٢٦.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٧.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي الْحِجْرِ، وَهُنَا اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَفِي الْبَقَرَةِ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ «١»، وَفِي الْأَعْرَافِ: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ «٢»، وَفِي الْحِجْرِ: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «٣»، وَفِي الْإِسْرَاءِ:
قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً «٤»، وَفِي الْكَهْفِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «٥». وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، فَتَارَةً أَكَّدَ بِالنَّفْيِّ الْمَحْضِ، وَتَارَةً ذَكَرَ إِبَايَتَهُ عَنِ السُّجُودِ، وَهِيَ الْأَنَفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَارَةً نَصَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ كَانَ سَبَبُهُ الِاسْتِكْبَارَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أُرِيدَ بِهِ كُفْرُهُ ذلك الوقت، وإن لم يَكُنْ قَبْلَهُ كَافِرًا وَعُطِفَ عَلَى اسْتَكْبَرَ، فَقَوِيَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِكْبَارَ عَنِ السُّجُودِ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ وَقْتَ الْأَمْرُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْهُ بِسَبْقِ كُفْرِهِ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ، وَفِي الْأَعْرَافِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «٦»، فَدَلَّ أَنْ تَسْجُدَ هُنَا، عَلَى أَنَّ لَا فِي أَنْ لَا تسجد زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفْهِمُ إِلَّا عَنِ الْمَانِعِ مِنَ السُّجُودِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبِيخٍ. وَمَا فِي لِما خَلَقْتُ، اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ يُجِيزُ إِطْلَاقَ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ، وَأَوَّلَ بِأَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ يُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، لَا حَقِيقَةُ الْمَصْدَرِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: لَمَّا بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْجُمْهُورُ: عَلَى التثنية وقرىء بِيَدَيَّ، كَقِرَاءَةِ بِمُصْرِخِيَّ وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «٧» بِالْجَمْعِ، وَكُلُّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ، وَعَبَّرَ بِالْيَدِ، إِذْ كَانَ عِنْدَ الْبَشَرِ مُعْتَادًا أَنَّ الْبَطْشَ وَالْقُوَّةَ بِالْيَدِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ إِلَى أَنَّ الْيَدَ صِفَةُ ذَاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْتَكْبَرْتَ، بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، فَأَمْ مُتَّصِلَةٌ عَادَلَتِ الْهَمْزَةَ. قال
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١١.
(٣) سورة الحجر: ١٥/ ٣١.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٦١.
(٥) سورة الكهف: ١٨/ ٥٠.
(٦) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
(٧) سورة يس: ٣٦/ ٧١.
انْتَهَى. فَعَادَلَ بِأَمِ الْأَلِفَ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ. مِنَ الْعالِينَ: مِمَّنْ عَلَوْتَ وَفُقْتَ. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مِنَ الْعَالِينَ، حَيْثُ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: أَسْتَكْبَرْتَ الْآنَ، أَوْ لَمْ تَزَلْ مُذْ كُنْتَ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ؟ وَمَعْنَى الْهَمْزَةِ: التَّقْرِيرُ. انْتَهَى. وَقَرَأَتْ فَرِقَةٌ، مِنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ:
اسْتَكْبَرْتَ، بِصِلَةِ الْأَلِفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَيْسَتْ فِي مَشْهُورِ ابْنِ كَثِيرٍ، فَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ حُذِفَتْ لِدَلَالَةِ أَمْ عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ:
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا خَاطَبَهُ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ، وَأَمْ تَكُونُ مُنْقَطِعَةً، وَالْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ مِنَ الْعَالِينَ عِنْدَ نَفْسِكَ اسْتِخْفَافًا بِهِ. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَعْرَافِ. قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها إِلَى قَوْلِهِ:
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْحِجْرِ، إِلَّا أَنَّ هُنَا لَعْنَتِي وَهُنَاكَ اللَّعْنَةُ «١» أَعَمُّ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «٢» ؟
وَأَمَّا بِالْإِضَافَةِ، فَالْعُمُومُ فِي اللَّعْنَةِ أَعَمُّ، وَاللَّعَنَاتُ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ جِهَةِ أن عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ كَانَتْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ كُلِّ لَاعِنٍ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَأَمَّا بِاللَّفْظِ فَيَقْتَضِي التَّخْصِيصَ. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ: أَقْسَمَ إِبْلِيسُ هُنَا بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ «٣»، وَفِي الْحِجْرِ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ «٤». وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَإِنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْبَاءَ فِي: بِمَا أَغْوَيْتَنِي، وَفِي: فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَيْسَتْ بَاءَ الْقَسَمِ. فَإِنْ كَانَتْ بَاءَ الْقَسَمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي موطئين: فَهُنَا: لَأُغْوِيَنَّهُمْ، وَفِي الْأَعْرَافِ: لَأَقْعُدَنَّ، وَفِي الْحِجْرِ: لَأُزَيِّنَنَّ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَالْحَقَّ وَالْحَقَّ،
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٥٩.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٦. [.....]
(٤) سورة الحجر: ١٥/ ٣٩.
فَالْحَقُّ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيِ فالزموا الحق، وَلَأَمْلَأَنَّ: جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِكَ: حَقًّا لَا شَكَّ، وَوُجُودُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَطَرْحُهُمَا سَوَاءٌ، أَيْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ حَقًّا. انْتَهَى. وَهَذَا الْمَصْدَرُ الْجَائِي تَوْكِيدًا لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ، وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي جُزْآهَا مَعْرِفَتَانِ جَامِدَتَانِ جُمُودًا مَحْضًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْبَسِيطِ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ نَكِرَةً، قَالَ: وَالْمُبْتَدَأُ يَكُونُ ضَمِيرًا نَحْوَ: هُوَ زَيْدٌ مَعْرُوفًا، وهو الحق بيننا، وَأَنَا الْأَمِيرُ مُفْتَخِرًا وَيَكُونُ ظَاهِرًا كَقَوْلِكَ:
زِيدٌ أَبُوكَ عَطُوفًا، وَأَخُوكَ زَيْدٌ مَعْرُوفًا. انْتَهَى. وَقَالَتِ الْعَرَبُ: زَيْدٌ قَائِمٌ غَيْرَ ذِي شَكٍّ، فَجَاءَتِ الْحَالُ بَعْدَ جُمْلَةٍ، وَالْخَبَرُ نَكِرَةً، وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَكَأَنَّ الْفَرَّاءَ لَمْ يَشْتَرِطْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ كَوْنِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَعْرُوفَيْنِ جَامِدَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تَأْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَبَيْنَ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ فَالْحَقُّ الْحَقُّ، أَيْ أَفْعَلُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْأَعْمَشُ: بِالرَّفْعِ فِيهِمَا، فَالْأَوَّلُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، قِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَالْحَقُّ أَنَا، وَقِيلَ: فَالْحَقُّ مِنِّي، وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ فَالْحَقُّ قَسَمِي، وَحُذِفَ كَمَا حُذِفَ فِي: لَعَمْرُكَ لَأَقُومَنَّ، وَفِي: يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا، أَيْ لَعَمْرُكَ قَسَمِي وَيَمِينُ اللَّهِ قَسَمِي، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ جُمْلَةُ الْقَسَمِ وَجَوَابُهُ: لَأَمْلَأَنَّ. وَأَمَّا وَالْحَقَّ أَقُولُ فَمُبْتَدَأٌ أَيْضًا، خَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «٢». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِمَّا الْأَوَّلُ فَرُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: لَأَمْلَأَنَّ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ أَمْلَأَ. انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ لَأَمْلَأَنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً، فَلَا يَتَقَدَّرُ بِمُفْرَدٍ. وَأَيْضًا لَيْسَ مَصْدَرًا مُقَدَّرًا بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وَالْفِعْلِ حَتَّى يَنْحَلَّ إِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَحَّ لَهُ إِسْنَادُ مَا قُدِّرَ إِلَى الْمُبْتَدَأِ، حُكِمَ أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقَرَأَ الحسن، وعيسى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: بِجَرِّهِمْ، وَيَخْرُجُ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَجْرُورٌ بِوَاوِ الْقَسَمِ مَحْذُوفَةً تَقْدِيرُهُ: فَوَالْحَقِّ، وَالْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: والله والله لأقومن، وأقوال اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْحَقَّ أَقُولُ: أَيْ وَلَا أَقُولُ إِلَّا
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٥.
سورة ص
سورةُ (ص) من السُّوَر المكِّية، افتُتِحت بالإشارة إلى عظمةِ القرآن، وما كان من الكفار مِن تعجُّبٍ وتعنُّتٍ واستكبار، وقد ذكَّرهم اللهُ بما نال أسلافَهم من العذاب؛ تحذيرًا لهم، ودعوةً إلى الإيمان بالله والرُّجوع إلى الحق، كما جاءت السورةُ على ذِكْرِ قصص الأنبياء، وبيانِ مهمة الأنبياء، مختتمةً بذِكْرِ خَلْقِ الله لآدمَ وإكرامِه.
ترتيبها المصحفي
38نوعها
مكيةألفاظها
736ترتيب نزولها
38العد المدني الأول
86العد المدني الأخير
86العد البصري
86العد الكوفي
88العد الشامي
86* سورة (ص):
سُمِّيت سورةُ (ص) بهذا الاسم؛ لافتتاحِها بهذا اللفظ.
* هي السُّورة التي سجَد لسماعها الشَّجَرُ واللَّوح، والدَّواةُ والقلم:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، رأَيْتُ كأنِّي نائمٌ إلى جَنْبِ شجرةٍ وأنا أقرَأُ سورةَ {صٓ}، فلمَّا بلَغْتُ إلى قولِه تعالى: {وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩} [ص: 24]، سجَدتُّ، فرأَيْتُ الشَّجرةَ سجَدتْ، وقالت: يا ربِّ، أعظِمْ بها أجري، واجعَلْها لي عندك ذُخْرًا، وتقبَّلْها منِّي كما تقبَّلْتَ مِن عبدِك داودَ». قال ابنُ عباسٍ: «رأيتُ النبيَّ ﷺ سجَدَ، وقال في سجودِه ما قال ذلك الرَّجُلُ حاكيًا عن تلكَ الشجرةِ». "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1 /353).
وقريبٌ منه ما جاء عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، قال: «رأيتُ رُؤْيا وأنا أكتُبُ سورةَ {صٓ}، قال: فلمَّا بلَغْتُ السَّجْدةَ، رأَيْتُ الدَّواةَ والقلَمَ وكلَّ شيءٍ بحَضْرتي انقلَبَ ساجدًا، قال: فقصَصْتُها على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلم يَزَلْ يسجُدُ بها». أخرجه أحمد (11799).
اشتمَلتْ سورةُ (ص) على الموضوعات الآتية:
1. موقف الكافرين من القرآن (١-١١).
2. تذكير الكافرين بما نال أسلافَهم من العذاب (١٢-١٦).
3. قصص الأنبياء (١٧-٥٤).
4. قصة داودَ (١٧-٢٦).
5. الحِكْمة من خَلْقِ الأكوان، وإنزالِ القرآن (٢٧-٢٩).
6. قصة سُلَيمانَ (٣٠-٤٠).
7. قصة أيُّوبَ (٤١-٤٤).
8. قصة إبراهيمَ وذُرِّيته (٤٥-٥٤).
9. عقاب الطاغين الأشقياء (٥٥-٦٤).
10. مهمة الرسول، ووَحْدانية الله (٦٥-٧٠).
11. خَلْقُ آدمَ وإكرامُه (٧١-٨٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /439).
مقصدُ سورة (ص) هو بيانُ موقفِ الكفار من هذا الكتابِ، وتعنُّتِهم واستكبارهم، وخِذْلانِ الله لهم، وكذلك بيان نُصْرةِ الله لجنده، وعِزَّةِ المؤمنين وقُوَّتهم بعد ضَعْفٍ، وإعلائهم بمَعِيَّةِ الله لهم.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /416).