تفسير سورة الصف

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه

تفسير سورة سورة الصف من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عِنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين﴾الآية:
قال قتادة: هي منسوخةٌ بقولِه تعالى: ﴿اقتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥]، فعمَّ جميعَهُم.
وقيل: (هي منسوخةٌ بقوله) ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ﴾.
(إلى) قوله تعالى: ﴿حَتَى يُعْطُوا الجِزْيَةَ﴾.
وقال ابن زيد: نَسَخَها قولُه: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤمِنُونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِيُوَادُّونَ من حَادَّ اللهَ ورَسُولَه﴾ [المجادلة: ٢٢] - الآية -.
وقال مجاهد: هي محكمةٌ غَيْرُ منسوخةٍ، لَكِنَّها مخصوصةٌ يُرادُبها الَّذين لَم يُقاتِلوا المؤمنين وآمنوا وأقاموا بمكَّةَ ولم يُهاجروا.
وقال الحسنُ: هِيَ محكمةٌ غَيْرُ مخصوصةٍ نَزَلَت في قوم بينَهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدٌ، وهم خُزاعة وبنو عبد الحارث بن عبد مناف: أمر اللهالمسلمين أَنْ يُوَفُّوا لهم بالعهد وأَنْ يَبَرُّوهم.
وَمِمَّا يَدُلُّ على أنها مُحْكَمةٌ أَنَّ قولَه تعالى: ﴿اقْتُلوا المُشْرِكينَ حَيْثُوَجَدتُمُوهُم﴾ ليس بعامٍّ في كُلِّ مُشْرِكٍ لأَنَّ أهلَ الكتابِ مِنَ المشركين قبلَ أَن يُعْطوا الجزيةَ؛ إذ قد وصَفَهُم الله بصفات المشركين في قوله تعالى:﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ باللهِ ولاَ باليَوْمِ الآخِرِ﴾[التوبة: ٢٩] - الآية - فقال فيها: ﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾ [التوبة: ٢٩]، وقال عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبَاباًمِن دُونِ اللهِ والمَسِيحَ ابنَ مَرْيَم﴾ [التوبة: ٣١]، أي واتخذوا المسيحَ بنَ مريم ربّاً ولاشركَ أَعظَم من اتخاذ رَبٍّ دون الله، فإذا كانت الآيةُ في قتل المشركين حيثُوجدوا غيرَ عامّة جاز خروجُ هذه الآية منها أيضاً، فقوله: ﴿اقْتُلُواالمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥] مُخَصَّصٌ ومُبَيَّنٌ بقولِه: ﴿حَتَّى يُعْطُواالجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون﴾ في أهل الكتاب؛ إِذْ هُم من المشركينومُخَصَّصٌ أيضاً ومُبَيَّنٌ بقوله: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَن الذينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين﴾ [الممتحنة: ٨] - الآية - فهي إذاً محكمةٌ مخصوصةٌ في قوم آمنوا ولم يُهاجروا، أو في قوم لَهم عهدٌ على ما ذكرنا، وهي أيضاً مُخَصَّصَةٌ بآية براءةفهي غيرُ منسوخة.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

قولُه تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءكُمُ المؤمِنَاتُ مُهَاجِراتٍفامْتَحِنُوهُنَّ﴾.
قال قوم: هذا ناسخٌ لما كان النّبيّ - عليه السلام - كَتَبَ للمشركين؛ إذْهادنَهم على أَنْ يَرُدَّ عليهم مَنْ جاءَ إليه من عندهم مُسْلِماً، وكان النبيُّ - عليه السلام - فعلَ ذلك بالحديبية مع أَهل مكة؛ إذ صَدُّوه عن البيت، فعاقدَهُمعلى أن من جاء إليه مِن عندهم مُسْلِماً ردَّهُ إليهم، فلما ختمَ الكتاب (الذي فيه العهد) جاءته سبيعة بنتُ الحارث مُسْلِمَةً وجاء زوجُها وقال يا محمد: رُدَّها عليّ، فإن ذلك في شرطنا عليك، وهذه طينةُ كتابنا لم تَجِفّ، فنزلت: ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّار﴾، فنسخ ما عقَدَ لهم، فلم يَرُدَّهاإليه وأعطاه مهرَهُ الذي كانَ دفعَ إليها.
وهذا وشبهُه يَدُلُّ على أن القرآنَ يَنْسَخُ السُّنَّةَ.
(ثم نسخَ اللهُ هذا) الحكمَ في ردِّ المهر لأن السَّبَبَ الذي أَوجَبَه قدزال فَنُسِخَ بزوال العِلَّةِ فلا يُرَدُّ إليهم مهرٌ ولا غيرُه.
ولا يجوزُ أن نهادِنَهُم على أن مَنْ جاء مِنْ عَندِهُم مُسْلِماً رَدَدْناهإليهم.
وقد قال ابنُ الماجشون في الرسول يأتينا برسالةٍ من عندِ المشركين، وبيننا وبينهُم عهدٌ، فيُسْلِم، أنه لا يُرَدُّ إِليهِم لأَنَّهُم يقتُلونه.
وعن ابن القاسم أنه يُرَدُّ إِليهِم.
قولُه تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِر﴾ [الممتحنة: ١٠]:
قيل هو عامٌّ في كُلِّ كافرةٍ. لَكِنَّهُ مُخَصَّصٌ بإباحةِ إِمساكِ الكتابياتِ زوجاتٍ، فالآيةُ في الكوافر غيرِ الكتابيَّات.
وقيل: هو منسوخٌ بإباحةِ إمساكِ الكتابيَّةِ زوجةً، فَنُسِخَ بقوله: ﴿والمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾ [المائدة: ٥]، والأَوَّلُ أَولى وأَحسَن، فيكونُالحكمُ فيمَن كانت له امرأةٌ بِمكَّةَ مِمَّن هاجرَ مُسْلِماً إلى المدينةِ وهيكافرةٌ بمكة فإنَّ العصمةَ منقطعةٌ بينهما، فإن كانت كتابيةً (فإن العصمةَ تبقىبينهما).
قولُه تعالى: ﴿واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ، وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا﴾ [الممتحنة: ١٠]:
هذا حكمٌ أَمَرَ الله [به المؤمنينَ] في وقتِ المهادنةِ، فلما زالت تلكَ المهادنةُ زال هذا الحكمُ وبقي رسمُه مَتْلُوَّاً، فهو منسوخٌ بزوالِ العِلَّة التي منأجلِها وجبَ الحكم.

﴿ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿وإِن فَاتَكُمْ شَيءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكُفَّارِ﴾ الآية:
أَمر اللهُ المؤمنينَ أن يَدْفعوا لمن ذهَبَتْ زوجتُه من المسلمين إلىالمشركين ما دفع إليها مِمَّا يغنمون من أموال الكفار، وهذا حُكْمٌ حَكَمَبه الله وأمر به في وقت المهادنة، فلما زالت زالَ الحُكْمُ وبَقِيَ الرَّسْمُمَتْلُوَّاً منسوخاً حُكْمُه بزوال العِلَّة. ويجوزُ أن يكونَ منسوخاً بقوله: ﴿واعْلَمُواأَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شيءٍ فأَنَّ لِلِّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١] - الآية - فبين ما يصنع في الغنيمة، ولا شيءَ فيها لمن ذهبت زوجتُه إلى الكفار، ولا يجوزُ اليومَ أن نهادِنَ المشركين على شيء من هذه الشروط، إنما هو السيفُ أو الإِيمانُ، أوالصُّلْحُ على غير شرطٍ لا يجوزُ في الدين.
فأما الهدنةُ مع أهل الكتابِ والمجوسِ فجائزةٌ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أَهلِ الكتاب".
وقد قيل إن قوله: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُم﴾ [التوبة: ٥] ناسخٌللهدنَةِ بيننا وبين مشركي العرب.
ولمَّا قال في أهل الكتاب: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ﴾ [التوبة: ٢٩]، جازت الهدنةُ بيننا وبينَهُم، وجَرَت المجوسُ مَجراهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سُنُّوا بِهِمسُنَّةَ أَهلِ الكتاب".
فَنَسَخَت آيةُ السَّيْفِ (إِعطاءَ المشركين) صَدُقاتِ مَنْ جاءنا مننسائهم مُسْلِمَةً، ونَسَخَ زوالَ زمانِ الهدنة وآيةُ الأنفال إعطاءَ المسلمينمهورَ نسائهم اللواتي رجَعْنَ إلى الكفار [من الغنيمةِ أو من الفيءِ، وهوقوله: ﴿وإِن فَاتَكُمْ شَيءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكُفَّارِ﴾] فعاقبتُم: أي أَصبتُمعُقْبى (بمعنى): غنيمة أو فيء، فآتوا الذينَ ذَهَبَتْ أزواجُهُم مِثْلَ ماأنفقوا.
وقد قيل: إنَّ المحنةَ المذكورةَ في آخر السُّورَةِ منسوخةٌ أيضاً بِذَهابِزمانِ الهدنة.
وقيل: هيَ مُحْكَمَةٌ، وإذا (تباعدت) الدَّارُ واحتيج إلى المحنة كانذلك إلى الإِمام.
وقد قالَ ابنُ زيدٍ: نسَخَتْ هذه الأحكامَ التي في هذه السورة براءةُإذ أَمَر اللهُ تعالى نبيَّه (أَنْ يَنْبذَ إلى) كل ذي عهد (عهدَه)، (ويُقْتَلواحيثُ وُجدوا) (وقاله قتادةُ، وأُمِرَ بقتال) أهل الكتاب حتَّى يُعْطوا الجزيةَ(عن يدٍ) - الآية -.

سورة الصف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الصَّفِّ) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات) التي تبدأ بـ{سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (التغابُنِ)، وقد طالبت المؤمنين بأن يكونوا على قلبِ رجلٍ واحد، متَّحِدِين بالتمسك بهذا الكتاب، وواقفين صفًّا واحدًا في الجهاد، والمحافظة على الجماعة ما أمكن، وهو مقصدٌ عظيم من مقاصد هذا الدِّين، ومصدر من مصادر قوة أتباعه.

ترتيبها المصحفي
61
نوعها
مدنية
ألفاظها
226
ترتيب نزولها
109
العد المدني الأول
14
العد المدني الأخير
14
العد البصري
14
العد الكوفي
14
العد الشامي
14

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]:

عن عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ رضي الله عنه، قال: «جلَسْتُ في نَفَرٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ: أيُّكم يأتي رسولَ اللهِ ﷺ فيَسألَه: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: فهِبْنا أن يَسألَه منَّا أحدٌ، قال: فأرسَلَ إلينا رسولُ اللهِ ﷺ يُفرِدُنا رجُلًا رجُلًا يَتخطَّى غيرَنا، فلمَّا اجتمَعْنا عنده، أومأَ بعضُنا إلى بعضٍ: لِأيِّ شيءٍ أرسَلَ إلينا؟ ففَزِعْنا أن يكونَ نزَلَ فينا، قال: فقرَأَ علينا رسولُ اللهِ ﷺ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]، قال: فقرَأَ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها»، ثم قرَأَ يحيى مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، ثم قرَأَ الأَوْزاعيُّ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، وقرَأَها الوليدُ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها. أخرجه ابن حبان (٤٥٩٤).

* سورة (الصَّف):

وجهُ تسمية سورة (الصَّفِّ) بهذا الاسم: هو وقوعُ كلمةِ {صَفّٗا} فيها؛ قال تعالى: {إِنَّ اْللَّهَ يُحِبُّ اْلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٞ مَّرْصُوصٞ} [الصف: 4].

* سورة (الحَوَاريِّين):

ووجهُ تسميتِها بهذا الاسم: هو ورود لفظ {اْلْحَوَارِيُّونَ} فيها مرتين في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اْللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى اْبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـۧنَ مَنْ أَنصَارِيٓ إِلَى اْللَّهِۖ قَالَ اْلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اْللَّهِۖ} [الصف: 14].

1. مطابقة القول والعمل في شأن الجهاد (١-٤).

2. موقف الكفار من دعوة الأنبياء (٥- ٩).

3. التِّجارة الرابحة (١٠-١٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /127).

مقصدُ سورة (الصَّفِّ) بيِّنٌ في اسمها؛ وهو الاجتماعُ، والوَحْدة، والتمسك بحبلِ الله المتين؛ ليكونَ المؤمنون صفًّا واحدًا في قلوبهم وأبدانهم.

وفي ذلك يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على الاجتهاد التام، والاجتماعِ على قلبٍ واحد، في جهادِ مَن دعت (الممتحنةُ) إلى البراءة منهم؛ بحَمْلِهم على الدِّين الحق، أو مَحْقِهم عن جديد الأرض؛ تنزيهًا للملكِ الأعلى عن الشرك، وصيانةً لجَنابه الأقدس عن الإفك، ودلالةً على الصِّدق في البراءة منهم، والعداوة لهم.

وأدلُّ ما فيها على هذا المقصدِ: الصفُّ؛ بتأمُّل آيته، وتدبُّر ما له من جليلِ النفع في أوله وأثنائه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /81).