تفسير سورة الصف

تفسير مقاتل بن سليمان

تفسير سورة سورة الصف من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الصف مكية، عددها أربع عشرة آية.

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ ﴾ يعني ذكر الله ﴿ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ من الملائكة ﴿ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من شىء من الخلق غير كفار الجن والإنس ﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١] في أمره ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٢]، ثم قال: ﴿ كَبُرَ مَقْتاً ﴾ يعني عظم بغضاً ﴿ عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٣] يعظهم بذلك، وذلك أن المؤمنين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعلمناه، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ﴾ يعني في طاعته ﴿ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ [آية: ٤] يعني ملتصق بعضه في بعض في الصف، فأخبرهم الله بأحب الأعمال إليه بعد الإيمان فكرهوا القتال، فوعظهم الله وأدبهم، فقال: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ نزلت هذه الآية في الأنصار في الأوس والخزرج منهم عبدالله بن رواحة وغيره.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ وهم مؤمنون، وهم الأسباط أثنا عشر سبطاً ﴿ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي ﴾ قالوا: إنه آدر نظيرها في الأحزاب قوله:﴿ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ ﴾[الأحزاب: ٦٩]، ثم رجع إلى مخاطبة موسى، فقال: ﴿ وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ ﴾ يقول: ما لوا عن الحق وعدلوا عنه ﴿ أَزَاغَ ٱللَّهُ ﴾ يعني أمال الله ﴿ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ﴾ إلى دينه من الضلالة ﴿ ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٥] يعني العاصين.
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ ﴾ يعني الذي قبلي ﴿ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ بالسيريانية فار قليطا ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم ﴾ عيسى ﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾ يعني بالعجائب التي كان يصنعها ﴿ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٦] الذي يصنع عيسى سحر مبين.
قوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ يقول: فلا أحد أظلم منه يعني اليهود ﴿ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾ حين زعموا أنه ساحر ﴿ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ ﴾ يعني اليهود ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ﴾ من الضلالة إلى دينه ﴿ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٧] يعني في علمه، قوله: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ ﴾ يعني دين الله ﴿ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ يعني بألسنتهم، وهم اليهود والنصارى، حين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه في التوراة والإنجيل ﴿ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ﴾ يعني مظهر دينه ﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ [آية: ٨] يعني اليهود والنصارى.
ثم قال: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ ﴾ محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ ﴾ يعني الإسلام، يعني دين محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ ﴾ يعني الأديان كلها، ففعل الله هذا تعالى ذلك، وأظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على أهل كل دين، حين قتلهم فأدوا إليه الجزية مثل قوله:﴿ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾[الصف: ١٤].
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ ﴾ [آية: ٩] من العرب يعني كفار قريش، لما نزلت هذه الآية:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾[الصف: ٤]، قال بعضهم: يا رسول الله، فما لنا من الأجر إذا جاهدنا في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ١٠] يعني وجيع، فقال المسلمون: والله، لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأولاد والأهلين. فبين الله لهم ما هذه التجارة؟ يعني التوحيد.
قال: فأنزل الله تعالى: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ يعني تصدقون بتوحيد الله ﴿ وَرَسُولِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبى ورسول ﴿ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ يعني في طاعة الله ﴿ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ ﴾ يعني الإيمان والجهاد ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من غيره ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١١] فإذا فعلتم ذلك ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ﴾ يعني حسنة في منازل الجنة ﴿ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ وجنة عدن قصبة الجنان، وهى أشرف الجنان ﴿ ذَلِكَ ﴾ الثواب هو ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ﴾ ولكم سوى الجنة أيضاً عدة الدنيا ﴿ نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ ﴾ على عدوكم إذا جاهدتم ﴿ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ يعني ونصر عاجل في الدنيا ﴿ وَبَشِّرِ ﴾ بالنصر يا محمد ﴿ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٣] في الدنيا، وبالجنة في الآخرة، فحمد القوم ربهم حين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ ﴾ يعني صيروا أنصاراً لله، يقول: من قاتل في سبيل الله، يريد بقتاله أن تعلو كلمة الله، وهي لا إله إلا الله، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئاً، فقد نصر الله تعالى، يقول: انصروا محمداً صلى الله عليه سلم كما نصر الحواريون عيسى ابن مريم، عليه السلام، وكانوا أقل منكم، وذلك أن عيسى، عليه السلام، مر بهم وهم ببيت المقدس، وهم يقصرون الثياب، والحواريون بالنبطية مبيضو الثياب، فدعاهم إلى الله، فأجابوه، فذلك قوله: ﴿ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ يقول: مع الله، يقول: من يمنعنى من الله ﴿ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ﴾ وهم الذين أجابوا عيسى، عليه السلام.﴿ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ بعيسى، عليه السلام.
﴿ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ ﴾ ثم انقطع الكلام ﴿ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ يقول: قوينا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ﴾ [آية: ١٤] بمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأديان. قوله:﴿ فَلَمَّا جَاءَهُم ﴾عيسى﴿ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾[الصف: ٦] يعني ما كان يخلق من الطين، ويبرى الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، قالت اليهود: هذا الذي يصنع عيسى سحر مبين، يعني بيَّن.
سورة الصف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الصَّفِّ) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات) التي تبدأ بـ{سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (التغابُنِ)، وقد طالبت المؤمنين بأن يكونوا على قلبِ رجلٍ واحد، متَّحِدِين بالتمسك بهذا الكتاب، وواقفين صفًّا واحدًا في الجهاد، والمحافظة على الجماعة ما أمكن، وهو مقصدٌ عظيم من مقاصد هذا الدِّين، ومصدر من مصادر قوة أتباعه.

ترتيبها المصحفي
61
نوعها
مدنية
ألفاظها
226
ترتيب نزولها
109
العد المدني الأول
14
العد المدني الأخير
14
العد البصري
14
العد الكوفي
14
العد الشامي
14

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]:

عن عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ رضي الله عنه، قال: «جلَسْتُ في نَفَرٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ: أيُّكم يأتي رسولَ اللهِ ﷺ فيَسألَه: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: فهِبْنا أن يَسألَه منَّا أحدٌ، قال: فأرسَلَ إلينا رسولُ اللهِ ﷺ يُفرِدُنا رجُلًا رجُلًا يَتخطَّى غيرَنا، فلمَّا اجتمَعْنا عنده، أومأَ بعضُنا إلى بعضٍ: لِأيِّ شيءٍ أرسَلَ إلينا؟ ففَزِعْنا أن يكونَ نزَلَ فينا، قال: فقرَأَ علينا رسولُ اللهِ ﷺ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]، قال: فقرَأَ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها»، ثم قرَأَ يحيى مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، ثم قرَأَ الأَوْزاعيُّ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، وقرَأَها الوليدُ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها. أخرجه ابن حبان (٤٥٩٤).

* سورة (الصَّف):

وجهُ تسمية سورة (الصَّفِّ) بهذا الاسم: هو وقوعُ كلمةِ {صَفّٗا} فيها؛ قال تعالى: {إِنَّ اْللَّهَ يُحِبُّ اْلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٞ مَّرْصُوصٞ} [الصف: 4].

* سورة (الحَوَاريِّين):

ووجهُ تسميتِها بهذا الاسم: هو ورود لفظ {اْلْحَوَارِيُّونَ} فيها مرتين في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اْللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى اْبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـۧنَ مَنْ أَنصَارِيٓ إِلَى اْللَّهِۖ قَالَ اْلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اْللَّهِۖ} [الصف: 14].

1. مطابقة القول والعمل في شأن الجهاد (١-٤).

2. موقف الكفار من دعوة الأنبياء (٥- ٩).

3. التِّجارة الرابحة (١٠-١٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /127).

مقصدُ سورة (الصَّفِّ) بيِّنٌ في اسمها؛ وهو الاجتماعُ، والوَحْدة، والتمسك بحبلِ الله المتين؛ ليكونَ المؤمنون صفًّا واحدًا في قلوبهم وأبدانهم.

وفي ذلك يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على الاجتهاد التام، والاجتماعِ على قلبٍ واحد، في جهادِ مَن دعت (الممتحنةُ) إلى البراءة منهم؛ بحَمْلِهم على الدِّين الحق، أو مَحْقِهم عن جديد الأرض؛ تنزيهًا للملكِ الأعلى عن الشرك، وصيانةً لجَنابه الأقدس عن الإفك، ودلالةً على الصِّدق في البراءة منهم، والعداوة لهم.

وأدلُّ ما فيها على هذا المقصدِ: الصفُّ؛ بتأمُّل آيته، وتدبُّر ما له من جليلِ النفع في أوله وأثنائه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /81).