تفسير سورة الصف

تفسير ابن جزي

تفسير سورة سورة الصف من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي.
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة الصف مدنية وآياتها ١٤ نزلت بعد التغابن.

سورة الصف
مدنية وآياتها ١٤ نزلت بعد التغابن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة الحواريين) لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سببها ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن عباس أن جماعة قالوا: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية والآخر أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية زجرا لهم والثالث أنها نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف، لأنه خاطبهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم، وفيما يظهرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول: أخاف من مقت الله، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها، وانتصب مقتا على التمييز وأن تقولوا فاعل وقيل: فاعل كبر محذوف تقديره: كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال، وقال بعض الناس: قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان، لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف، خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفس التراص، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض. وقيل: هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى [٦٩] وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي
370
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ
هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم، وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هذه عقوبة على الذنب بذنب، وزيغ القلب هو ميله عن الحق وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إنما قال موسى يا قوم، وقال عيسى يا بني إسرائيل، لأنه لم يكن له فيهم أب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ معناه مذكور في [البقرة: ٤١] في قوله مصدقا لما معكم ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار اسْمُهُ أَحْمَدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي «١» وأحمد مشتق من الحمد، ويحتمل أن يكون فعلا سمي به، أو يكون صفة سمي بها كأحمد، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ «٢» يحتمل أن يريد عيسى أو محمدا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله، ويؤيد الثاني قوله وهو يدعى إلى الإسلام لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد ﷺ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «٣» ذكر في براءة [٣٢] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية تفسير للتجارة المذكورة، قال الأخفش: هو عطف بيان عليها يَغْفِرْ لَكُمْ جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر، وقد قرأه ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر لأنه يقتضي التحضيض وَأُخْرى تُحِبُّونَها ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره:
ولكم نعمة أخرى، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: ويمنحكم أخرى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ تفسير لأخرى فهو بدل منها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري عطف على تؤمنون
(١). رواه البخاري في كتاب المناقب ص ١٦٢ ج ٤ عن جبير بن مطعم.
(٢). بقية الآية: سحر مبين: قرأها حمزة والكسائي: ساحر مبين.
(٣). بقية الآية: متم نوره، قرأ نافع وأبو عمرو وغيرهما: والله متمّ نوره بالتنوين.
371
﴿ لم تقولون ما لا تفعلون ﴾ في سببها ثلاثة أقوال :
أحدها : قول ابن عباس أن جماعة قالوا : وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية.
والآخر : أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ويقولون : فعلنا وصنعنا وذلك كذب فنزلت الآية زجرا لهم.
والثالث : أنها نزلت في المنافقين لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف لأنه خاطبهم بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم وفيما يظهرون ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل.
﴿ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول أخاف من مقت الله والمقت هو البغض لريبة أو نحوها وانتصب مقتا على التمييز ﴿ وأن تقولوا ﴾ فاعل وقيل : فاعل كبر محذوف تقديره كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر.
﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ﴾ ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال، وقال بعض الناس : قتال الرجال أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان قاله ابن عطية وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفس التراص، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال.
﴿ كأنهم بنيان مرصوص ﴾ المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض، وقيل : هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.
﴿ وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني ﴾ كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب ﴿ لا تكونوا كالذين آذوا ﴾[ الأحزاب : ٦٩ ].
﴿ وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ﴾ هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق.
﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ هذه عقوبة على الذنب بذنب وزيغ القلب هو ميله عن الحق.
﴿ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل ﴾ إنما قال موسى يا قوم وقال عيسى : يا بني إسرائيل لأنه لم يكن له فيهم أب ﴿ مصدقا لما بين يدي من التوراة ﴾ معناه مذكور في البقرة في قوله :﴿ مصدقا لما معكم ﴾ [ البقرة : ٤١ ].
﴿ ومبشرا برسول ﴾ عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا من أمة قال : نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار.
﴿ اسمه أحمد ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي "، وأحمد مشتق من الحمد ويحتمل أن يكون فعلا سمي به أو يكون صفة سمي بها كأحمد ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد.
﴿ فلما جاءهم بالبينات ﴾ يحتمل أن يريد عيسى أو محمد عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله ويؤيد الثاني قوله :﴿ وهو يدعى إلى الإسلام ﴾ لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ يريدون ليطفئوا نور الله ﴾ ذكر في براءة.
﴿ تؤمنون بالله ﴾ الآية : تفسير للتجارة المذكورة قال الأخفش : هو عطف بيان عليها.
﴿ يغفر لكم ﴾ جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر وقد قرأه ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر لأنه يقتضي التحضيض.
﴿ وأخرى تحبونها ﴾ ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره ولكم نعمة أخرى أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره ويمنحكم أخرى.
﴿ نصر من الله ﴾ تفسير ﴿ لأخرى ﴾ فهو بدل منها.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾ قال الزمخشري : عطف على تؤمنون بالله لأنه في معنى الأمر.
بالله لأنه في معنى الأمر
كونوا أنصارا لله «١» جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج، سماهم الله به وليس ذلك المراد هنا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره: كونوا أنصار الله كقول عيسى والمعنى: كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقد ذكر في آل عمران [٥٢] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قيل: إنهم ظهروا بالحجة، وقيل: إنهم غلبوا الكفار بالقتال بعد رفع عيسى عليه السلام، وقيل: إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(١). كونوا أنصار الله: قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو كونوا أنصارا لله.
سورة الصف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الصَّفِّ) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات) التي تبدأ بـ{سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (التغابُنِ)، وقد طالبت المؤمنين بأن يكونوا على قلبِ رجلٍ واحد، متَّحِدِين بالتمسك بهذا الكتاب، وواقفين صفًّا واحدًا في الجهاد، والمحافظة على الجماعة ما أمكن، وهو مقصدٌ عظيم من مقاصد هذا الدِّين، ومصدر من مصادر قوة أتباعه.

ترتيبها المصحفي
61
نوعها
مدنية
ألفاظها
226
ترتيب نزولها
109
العد المدني الأول
14
العد المدني الأخير
14
العد البصري
14
العد الكوفي
14
العد الشامي
14

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]:

عن عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ رضي الله عنه، قال: «جلَسْتُ في نَفَرٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ: أيُّكم يأتي رسولَ اللهِ ﷺ فيَسألَه: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: فهِبْنا أن يَسألَه منَّا أحدٌ، قال: فأرسَلَ إلينا رسولُ اللهِ ﷺ يُفرِدُنا رجُلًا رجُلًا يَتخطَّى غيرَنا، فلمَّا اجتمَعْنا عنده، أومأَ بعضُنا إلى بعضٍ: لِأيِّ شيءٍ أرسَلَ إلينا؟ ففَزِعْنا أن يكونَ نزَلَ فينا، قال: فقرَأَ علينا رسولُ اللهِ ﷺ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]، قال: فقرَأَ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها»، ثم قرَأَ يحيى مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، ثم قرَأَ الأَوْزاعيُّ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، وقرَأَها الوليدُ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها. أخرجه ابن حبان (٤٥٩٤).

* سورة (الصَّف):

وجهُ تسمية سورة (الصَّفِّ) بهذا الاسم: هو وقوعُ كلمةِ {صَفّٗا} فيها؛ قال تعالى: {إِنَّ اْللَّهَ يُحِبُّ اْلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٞ مَّرْصُوصٞ} [الصف: 4].

* سورة (الحَوَاريِّين):

ووجهُ تسميتِها بهذا الاسم: هو ورود لفظ {اْلْحَوَارِيُّونَ} فيها مرتين في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اْللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى اْبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـۧنَ مَنْ أَنصَارِيٓ إِلَى اْللَّهِۖ قَالَ اْلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اْللَّهِۖ} [الصف: 14].

1. مطابقة القول والعمل في شأن الجهاد (١-٤).

2. موقف الكفار من دعوة الأنبياء (٥- ٩).

3. التِّجارة الرابحة (١٠-١٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /127).

مقصدُ سورة (الصَّفِّ) بيِّنٌ في اسمها؛ وهو الاجتماعُ، والوَحْدة، والتمسك بحبلِ الله المتين؛ ليكونَ المؤمنون صفًّا واحدًا في قلوبهم وأبدانهم.

وفي ذلك يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على الاجتهاد التام، والاجتماعِ على قلبٍ واحد، في جهادِ مَن دعت (الممتحنةُ) إلى البراءة منهم؛ بحَمْلِهم على الدِّين الحق، أو مَحْقِهم عن جديد الأرض؛ تنزيهًا للملكِ الأعلى عن الشرك، وصيانةً لجَنابه الأقدس عن الإفك، ودلالةً على الصِّدق في البراءة منهم، والعداوة لهم.

وأدلُّ ما فيها على هذا المقصدِ: الصفُّ؛ بتأمُّل آيته، وتدبُّر ما له من جليلِ النفع في أوله وأثنائه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /81).