تفسير سورة الصف

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني

تفسير سورة سورة الصف من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني.
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الصف
مدنية، وآيها أربع عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (٢) الاستفهام للإنكار. ولما صار الجار والمجرور لشدة الاتصال كشيء واحد حذف منه الألف. مثله: عَمَّ، وبمَ. ويوقف عليه بالإسكان، وبهاء السكت. عن مقاتل: تمنوا أحب الأعمال فنزلت: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا). فلما ولوا يوم أحد عوتبوا بهذه الآية.
وعن قتادة: كانوا يقولون قتلنا ضربنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك. روي أن صهيبا قتل كافراً شديد النكاية في المسلمين، ورآه رسول اللَّه - ﷺ -، فانتحل آخر قتله، فقال عمر: ذلك
لصهيب فقال إنما قتلته للَّه. ويشمل كل قول خالف الفعل. وبه استدل مالك على أن الوعد ملزم، وحمله الجمهور على أمر الآخرة.
(كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (٣) بالغ في تهجينه لما في كبر من معنى التعجب. المراد منه تعظيم الجناية، وإسناده إلى القول أولاً، ثم تمييزه بالمقت، وتقديمه، وجعله عند اللَّه، مع كون المقت أشد البغض.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا... (٤) صافين، فإنه أهْيَبُ في عين العدو، وأشد تقوية لقلب المقاتل. (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) محكم، من الرصاص وهو الآنك. حال من المستكن في الحال.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي... (٥) أي: اذكر للمؤمنين ذلك الوقت.
(وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) والذنب مع العلم أشد. (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) صرفها عنه (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) لا يوفقهم؛ لأنهم أهل الرَّين الذين خلقوا للنار.
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ... (٦) لم يقل يا قوم؛ تذكيراً لهم بأنهم أولاد إسرائيل الذي وصى بنيه أن لا يعبدوا إلا اللَّه، لا أنهم ليسوا من قومه لأنه لا نسب له فيهم؛ لدخوله في ذرية إسرائيل كما تقدم في الأنعام. (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي: أنا على ما عليه سائر الرسل من تقدم ومن تأخر. هذا كقول رسول اللَّه - ﷺ - (مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ). وانتصاب (مُصَدِّقًا) و (وَمُبَشِرًا) على الحال، والعامل فيه معنى الرسالة في [(رَسُولاً)] لا في (إِلَيْكُمْ)؛ لأن حروف الجرّ إذا وقعت صلة ليس فيها معنى الفعل. (اسْمُهُ أَحْمَدُ) قيل: كذا مكتوباً في الإنجيل. ولعل ذلك؛ لما فيه من الإشارة إلى أنه أكمل الرسل. روى البخاري عن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد ".
وعن أبي إسحاق: " أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي ". (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: ما جاء به، أو عيسى؛ مبالغةً، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي (ساَحِرٌ)، والرسم على الأول.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ... (٧) أي: لا أحد أظلم منه إذ لا جناية فوقه، مع عدم العذر وزوال الاشتباه. (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الكاملين في الظلم.
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ... (٨) هم اليهود والذين حرفوا الكلم وبدلوا نعته. مثَّل حالهم بمن يريد إطفاء نور الشمس بنفخ ينفخه في الهواء، والأصل (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) كما في سورة براءة. وإنما جيء باللام، توكيداً للإرادة لما في اللام من معناها.
(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) لا محالة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر منوناً ناصباً ما بعده. (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الساترون نعمة اللَّه.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ... (٩) الذي لا يتطرقه نسخ ولا تبديل. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) إذ لم يأت أَحد بما جاء به. وضع الإصر والأغلال بالحنيفية السمحاء. ولو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعه. (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) عباد الأوثان، واليهود القائلون عزير ابن اللَّه، والنصارى المثلثون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) قرأ ابن عامر بتشديد الجيم وهو أبلغ.
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... (١١) استئناف. كأنهم قالوا: كيف نعمل قال: تؤمنون. وإيثاره على آمِنوا؛ مبالغة في الحث عليه. كأنهم امتثلوا فهو يخبر عنهم. وهذا سبيل كل دعاء أتى بصيغه الإخبار. (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم. أي: لو علمتم لسعيتم في تحصيله ببذل الأموال والأنفس.
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ... (١٢) ما بينكم وبينه. جزم جواباً للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، أو شرط مقدر أي: أن تؤمنوا، أو استفهام أي: هل تتجرون بالإيمان يَغفِر لَكُمْ (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) (ذَلِكَ) المذكور (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا يحيط به الوصف.
(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا... (١٣) أي: ولكم النعمة الأخرى الدنية بالنسبة إلى الأولى، وفي الوصف بالمحبة بعد الدلالة على أنها دون الأولى نوع تعيير لهم. وفي إيثار الاسمية مع العطف
على الفعلية وهي (يَغْفِرْ لَكُمْ)؛ دلالة على أن هذه الدنية أمكن في نفوسهم وهي إليها أميل. (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) بدل، أو بيان. (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) فتح مكة. وعن الحسن: فارس والروم.
(وَبَشِرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على (تُؤْمِنُونَ)؛ لأنه بمعنى آمنوا، وما في البين ليس بأجنبي، كأنهم قالوا: دلنا يا رب على تلك التجارة، فقال: آمنوا وبشر أنت يا محمد. وفيه تنويع الخطاب وإيقاع المظهر موقع المضمر فهو إملاء فائدة من تقدير " فأبشر يا محمد، وبشر. والعطف على " قل " مقدراً، والقول بأن ذاك إنما يحسن إذا أعيد حرف النداء لا سند له، ولو سلم فلعدم تعين المخاطب بدونه وأما إذا تعين فذكره وطيه سيان.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ... (١٤) أنصار دينه. (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) من جندي متوجهاً إلى نصرة دينه. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (أَنْصاَراً) منوناً، والمعنى: كونوا من جملة من ينصر اللَّه، والإضافة أقوى معنى وأخف لفظاً، ولذلك اتفقوا عليه في آل عمران. (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) الإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين، والثانية إضافة الفاعل إلى المفعول، والتشبيه بحسب المعنى. أي: قل لهم كقول عيسى، أو كونوا أيها المؤمنون أنصار اللَّه كالحواريين وقت قول عيسى عليه السلام. كانوا اثني عشر رجلاً قصارين يقصرون الثياب؛ ولذا قيل لهم حواريون. وعنه - ﷺ - " لكل نبي حواري، وحواري الزبير " (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) بعيسى. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) على الكافرين. وإيثار لفظ العدو؛ لإشعاره [بالتشفي]. (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) غالبين بالسيف والحجة غلبة لا خفاء بها.
* * *
157
تمت السورة. والحمد لمن آلاؤه منثورة، والصلاة على من سيره مشكورة، وآله وصحبه الذين آثارهم مشهورة.
* * *
158
سورة الصف
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الصَّفِّ) من السُّوَر المدنية، وهي من (المسبِّحات) التي تبدأ بـ{سَبَّحَ}، نزلت بعد سورة (التغابُنِ)، وقد طالبت المؤمنين بأن يكونوا على قلبِ رجلٍ واحد، متَّحِدِين بالتمسك بهذا الكتاب، وواقفين صفًّا واحدًا في الجهاد، والمحافظة على الجماعة ما أمكن، وهو مقصدٌ عظيم من مقاصد هذا الدِّين، ومصدر من مصادر قوة أتباعه.

ترتيبها المصحفي
61
نوعها
مدنية
ألفاظها
226
ترتيب نزولها
109
العد المدني الأول
14
العد المدني الأخير
14
العد البصري
14
العد الكوفي
14
العد الشامي
14

* قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]:

عن عبدِ اللهِ بن سَلَامٍ رضي الله عنه، قال: «جلَسْتُ في نَفَرٍ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقلتُ: أيُّكم يأتي رسولَ اللهِ ﷺ فيَسألَه: أيُّ الأعمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: فهِبْنا أن يَسألَه منَّا أحدٌ، قال: فأرسَلَ إلينا رسولُ اللهِ ﷺ يُفرِدُنا رجُلًا رجُلًا يَتخطَّى غيرَنا، فلمَّا اجتمَعْنا عنده، أومأَ بعضُنا إلى بعضٍ: لِأيِّ شيءٍ أرسَلَ إلينا؟ ففَزِعْنا أن يكونَ نزَلَ فينا، قال: فقرَأَ علينا رسولُ اللهِ ﷺ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اْلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي اْلْأَرْضِۖ وَهُوَ اْلْعَزِيزُ اْلْحَكِيمُ ١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 1-2]، قال: فقرَأَ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها»، ثم قرَأَ يحيى مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، ثم قرَأَ الأَوْزاعيُّ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها، وقرَأَها الوليدُ مِن فاتحتِها إلى خاتمتِها. أخرجه ابن حبان (٤٥٩٤).

* سورة (الصَّف):

وجهُ تسمية سورة (الصَّفِّ) بهذا الاسم: هو وقوعُ كلمةِ {صَفّٗا} فيها؛ قال تعالى: {إِنَّ اْللَّهَ يُحِبُّ اْلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٞ مَّرْصُوصٞ} [الصف: 4].

* سورة (الحَوَاريِّين):

ووجهُ تسميتِها بهذا الاسم: هو ورود لفظ {اْلْحَوَارِيُّونَ} فيها مرتين في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ اْللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى اْبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـۧنَ مَنْ أَنصَارِيٓ إِلَى اْللَّهِۖ قَالَ اْلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اْللَّهِۖ} [الصف: 14].

1. مطابقة القول والعمل في شأن الجهاد (١-٤).

2. موقف الكفار من دعوة الأنبياء (٥- ٩).

3. التِّجارة الرابحة (١٠-١٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /127).

مقصدُ سورة (الصَّفِّ) بيِّنٌ في اسمها؛ وهو الاجتماعُ، والوَحْدة، والتمسك بحبلِ الله المتين؛ ليكونَ المؤمنون صفًّا واحدًا في قلوبهم وأبدانهم.

وفي ذلك يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: الحثُّ على الاجتهاد التام، والاجتماعِ على قلبٍ واحد، في جهادِ مَن دعت (الممتحنةُ) إلى البراءة منهم؛ بحَمْلِهم على الدِّين الحق، أو مَحْقِهم عن جديد الأرض؛ تنزيهًا للملكِ الأعلى عن الشرك، وصيانةً لجَنابه الأقدس عن الإفك، ودلالةً على الصِّدق في البراءة منهم، والعداوة لهم.

وأدلُّ ما فيها على هذا المقصدِ: الصفُّ؛ بتأمُّل آيته، وتدبُّر ما له من جليلِ النفع في أوله وأثنائه وغايته». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /81).