تفسير سورة مريم

التفسير القيم

تفسير سورة سورة مريم من كتاب التفسير القيم
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون : نعم. هذا الموت، ثم يقال : يا أهل النار، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون، ويقولون : نعم. هذا الموت. قال : فيؤمر به فيذبح. قال : ثم يقال : يا أهل الجنة، خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ﴾ متفق عليه.
وفي «الصحيحين » أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يدخل أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم، فيقول : يا أهل الجنة، لا موت، ويا أهل النار، لا موت. كل خالد فيما هو فيه ».
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار، أتي بالموت، حتى يجعل بين النار والجنة. ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة، لا موت ويا أهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا. ويزداد أهل النار حزنا ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي بالموت مُلَبَّبًا، فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة وأهل النار، ثم يقال : يا أهل الجنة، فيطَّلعون خائفين. ثم يقال : يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة. فيقال لأهل الجنة وأهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيقول هؤلاء و هؤلاء : قد عرفناه، هو الموت الذي وُكِّلَ بنا، فيضجع فيذبح ذبحا على السور، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت » رواه النسائي والترمذي، وقال : حديث حسن صحيح.
وهذا الكبش والإضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل، كما أخطأ فيه بعض الناس خطا قبيحا. وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم، فضلا عن أن يذبح.
وهذا لا يصح. فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح، كما ينشئ من الأعمال صورا يثاب بها صاحبها ويعاقب، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها. وينشئ من الأجسام أعراضا، كما ينشئ سبحانه وتعالى من الأعراض أعراضا. ومن الأجسام أجساما.
فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى، ولا يستلزم جمعا بين النقيضين، ولا شيئا من المحال، ولا حاجة إلى تكلف من قال : إن الذبح لملك الموت، فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله و رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن التأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل، وسببه : قلة الفهم لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، فظن هذا القائل : أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح.
وظن غالط آخر : أن العرض يعدم ويزول، ويصير مكانه جسم يذبح، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساماً ويجعلها مادة لها، كما في «الصحيح » عنه صلى الله عليه وسلم قال :«تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان – الحديث » فهذه هي القراءة التي ينشئ منها الله سبحانه وتعالى غمامتين. وكذلك قوله في الحديث الآخر :«ما تذكرون من جلال الله : من تسبيحه وتحميده وتهليله ؟ يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرن بصاحبهن » ذكره أحمد.
وكذلك قوله في عذاب القبر ونعيمه للصورة التي يراها المقبور :«فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح، وأنا عملك السيء » وهذا حقيقة لا خيال، ولكن الله سبحانه أنشأ له من عمله صورة حسنة وللفاجر من عمله صورة قبيحة.
وهل النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلا نفس إيمانهم ؟ أنشأ الله سبحانه لهم منه نورا يسعى بين أيديهم ؟ فهذا أمر معقول، وإن لم يرد به النص، فورود النص به من باب تطابق العقل والسمع.
وقال سعيد عن قتادة : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن المؤمن إذا خرج من قبره صور الله له عمله في صورة حسنة وبشارة حسنة، فيقول له : من أنت ؟ فوالله إني لأراك أمرا صدق، فيقول : أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. وأما الكافر فإذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة، وبشارة سيئة، فيقول : من أنت فوالله إني لأراك أمرا سوء، فيقول له : أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار »، وقال مجاهد مثل ذلك.
وقال ابن جريج : يمثل له عمله في صورة حسنة، وريح طيبة، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك، فيجعل له نورا بين يديه، حتى يدخله الجنة، فذلك قوله :﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ [ يونس : ٩ ] والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويليه، حتى يقذفه في النار.
وقال ابن المبارك : حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن أنه ذكر هذه الآية ﴿ أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمعذبين ﴾ [ الصافات : ٥٨. ٥٩ ] قال : علموا أن كل نعيم بعده الموت : أنه يقطعه، فقالوا : أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ؟ قيل : لا، قالوا : أن هذا لهو الفوز العظيم.
وكان يزيد الرقاشي يقول في كلامه : أمن أهل الجنة من الموت، فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام، فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام، ثم يبكي حتى تجري دموعه على لحيته.
سورة مريم
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

أشارت فاتحةُ سورةِ (مَرْيَمَ) إلى عظمةِ هذا الكتاب، ونبَّهتْ بعد ذلك على مِحوَرِ السُّورةِ؛ وهو رحمةُ الله عزَّ وجلَّ بأنبيائه؛ فقد بدأت بذِكْرِ رحمة الله عز وجل بزكريَّا ويحيى عليهما السلام، ثم رحمتِه تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام، ثم رحمتِهِ تعالى بإبراهيمَ عليه السلام، ثم رحمتِه تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام، ثمَّ رحمتِه تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام، وجُلُّ رحمةِ الله بعباده المؤمنين ستكون يومَ القيامة عندما يُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوْا من النَّار، ويذَرُ الظالمين فيها جِثِيًّا.

ترتيبها المصحفي
19
نوعها
مكية
ألفاظها
972
ترتيب نزولها
44
العد المدني الأول
98
العد المدني الأخير
99
العد البصري
98
العد الكوفي
98
العد الشامي
98

 * قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ لجِبْريلَ: «ألَا تَزُورُنا أكثَرَ ممَّا تَزُورُنا؟»، قال: فنزَلتْ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] الآيةَ. أخرجه البخاري (٣٢١٨).

* قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا} [مريم: 77]:

عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه، قال: «كنتُ رجُلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصِ بنِ وائلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُه أتقاضاه، فقال لي: لا أَقضِيك حتى تكفُرَ بمُحمَّدٍ، قال: قلتُ: لن أكفُرَ به حتى تموتَ، ثم تُبعَثَ، قال: وإنِّي لمبعوثٌ مِن بعدِ الموتِ؟! فسوف أَقضِيك إذا رجَعْتُ إلى مالٍ وولَدٍ، قال: فنزَلتْ: {أَفَرَءَيْتَ اْلَّذِي كَفَرَ بِـَٔايَٰتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالٗا وَوَلَدًا ٧٧ أَطَّلَعَ اْلْغَيْبَ أَمِ اْتَّخَذَ عِندَ اْلرَّحْمَٰنِ عَهْدٗا ٧٨ كَلَّاۚ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُۥ مِنَ اْلْعَذَابِ مَدّٗا ٧٩ وَنَرِثُهُۥ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدٗا} [مريم: 77-80]». أخرجه البخاري (٤٧٣٥).

* سورة (مَرْيَمَ):

وجهُ تسميةِ سورة (مَرْيَمَ) بهذا الاسم: أنَّها بُسِطتْ فيها قصةُ (مَرْيَمَ)، وابنِها، وأهلِها.

* جاء في فضلِ سورة (مَرْيَمَ): أنها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي»: يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).


اشتملت سورةُ (مَرْيَمَ) على الموضوعات الآتية:

1. رحمته تعالى بزكريا ويحيى عليهما السلام (١-١٥).

2. رحمته تعالى بمَرْيَمَ وعيسى عليه السلام (١٦- ٤٠).

3. رحمته تعالى بإبراهيمَ عليه السلام (٤١ -٥٠).

4. رحمته تعالى بموسى وهارونَ عليهما السلام (٥١ -٥٣).

5. رحمته تعالى بإسماعيلَ وإدريسَ عليهما السلام (٥٤-٥٨).

6. طريق النجاة (٥٩-٦٥).

7. جَوْلات مع شُبَه الكافرين وأباطيلهم (٦٦-٩٥).

8. محبته تعالى لأوليائه، مهمة القرآن (٩٦-٩٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /414).

مقصدُ السورةِ الأعظَمُ هو بيانُ اتِّصافه سبحانه بشمول الرحمة؛ بإضافةِ جميع النِّعَم على جميع خَلْقه، المستلزِم للدَّلالة على اتصافِه بجميع صفات الكمال، المستلزِم لشمول القدرة على إبداعِ المستغرَب، المستلزِم لتمام العلم، المُوجِب للقدرة على البعث، والتنزُّه عن الولد؛ لأنه لا يكون إلا لمحتاجٍ، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سَمِيَّ له سبحانه، فضلًا عن مثيلٍ له سبحانه وتعالى.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /256).