تفسير سورة الفرقان

أحكام القرآن للجصاص

تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص.
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

يَنْصَرِفُونَ عَنْ أَمْرٍ جَامِعٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَسْتَتِرُ بِهِ لِئَلَّا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرِفًا قَوْله تَعَالَى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
مَعْنَاهُ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَدَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرِّ لِجَوَازِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِهِ فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ معناه فبما نقضهم ميثاقهم والهاء فِي أَمْرِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلَّهِ لِأَنَّهُ يَلِيهِ وَحُكْمُ الْكِنَايَةِ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا تَقَدَّمَهَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أوامر الله على الوجوب لأنه ألزم للوم والعقاب يخالفه الْأَمْرِ وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَقْبَلَهُ فَيُخَالِفَهُ بِالرَّدِّ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ وَمُعْتَقِدًا لِلُزُومِهِ فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي أَمْرِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُهُ يُسَمَّى أَمْرُهُ كَمَا قَالَ تعالى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَعْنِي أَفْعَالَهُ وَأَقْوَالَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ بَعْدَ اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً وَهُوَ الَّذِي تَلِيهِ الْكِنَايَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ آخِرُ سُورَةِ النُّورِ.
سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطَّهُورُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ وَتَطْهِيرِ غَيْرِهِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ ضَرُوبٌ وَقَتُولٌ أَيْ يَضْرِبُ وَيَقْتُلُ وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ وَالْوَضُوءُ يسمى طهورا لأنه طهر مِنْ الْحَدَثِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّلَاةِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ
أَيْ بِمَا يُطَهِّرُ
وَقَالَ النبي ﷺ جعلت لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
فَسَمَّاهُ طَهُورًا مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةَ وَقَامَ مَقَامَ الْمَاءِ فِيهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ أَحَدُهَا إذَا خَالَطَ الْمَاءَ غَيْرُهُ مِنْ الأشياء الطاهرة والثاني إذا خالطته نَجَاسَةٌ وَالثَّالِثُ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ لِطَهَارَةِ الْبَدَنِ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى يُزِيلَ عَنْهُ اسْمَ الْمَاءِ مِثْلُ الْمَرَقِ وَمَاءِ الْبَاقِلَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ لِيَكُونَ أَنْقَى لَهُ نَحْوُ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ فَالْوُضُوءُ بِهِ
201
جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ السَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ فَلَا يُجْزِي وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُصْبَغُ بِصَبْغِهِ وَغَيَّرَ لَوْنَهُ فَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي يُبَلُّ فِيهِ الْخُبْزُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا تَوَضَّأَ بزردج أو نشاستج أَوْ بِخَلٍّ أَجْزَأْهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيَّرَ لَوْنَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا بَلَّ فِيهِ خُبْزًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ مُطْلَقٍ حَتَّى يُضَافَ إلَى مَا خَالَطَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الْأُشْنَانُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَشْرُطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْغُسْلِ بِغَيْرِ الْمَاءِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فِيهِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى قَوْلِنَا أَحَدُهُمَا أن قوله فَاغْسِلُوا عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِجَوَازِ إطْلَاقِ اسْمِ الْغُسْلِ فِيهَا وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا فِيهِ مَاءٌ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ مَاءٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَاءٌ اسْمٌ منكر يَتَنَاوَلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ وَإِنْ خَالَطَهُ غَيْرُهُ لِإِطْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِيهِ وَأَبَاحَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَسُؤْرِ الْحَائِضِ وَإِنْ خَالَطَهُمَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِمَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمُدِّ وَالسَّيْلِ مَعَ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ بِمُخَالَطَةِ الطِّينِ لَهُ وَمَا يَكُونُ فِي الصَّحَارَى مِنْ الْحَشِيشِ وَالنَّبَاتِ وَمِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ ذَلِكَ لَهُ يُرَى مُتَغَيِّرًا إلَى السَّوَادِ تَارَةً وَإِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ أُخْرَى فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ مَا خَالَطَهُ الْمَاءُ إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ فَيَسْلُبُهُ اسْمَ الْمَاءِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ لَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ وَلَمْ يَكْفِهِ ثُمَّ اخْتَلَطَ بِهِ غَيْرُهُ فَكَفَاهُ بِاَلَّذِي خَالَطَهُ نَحْوِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ فَقَدْ حَصَلَ بَعْضُ وُضُوئِهِ بِمَا لَا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ مِمَّا لَوْ أَفْرَدَهُ لَمْ يَطْهُرْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِالْمَاءِ وَبَيْنَ إفْرَادِهِ بِالْغُسْلِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ مَا خَالَطَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الطاهرة التي يجوز استعماله لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ إذَا كَانَ قَلِيلًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لِمَا غَلَبَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي خَالَطَهُ مَاءٌ يَسِيرٌ لَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ اللَّبَنِ وَأَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ حب قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ لَا يُقَالُ لَهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا كَانَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْجُزْءُ الَّذِي خَالَطَهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا سَقَطَ حُكْمُهُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرْت فَيَنْبَغِي أَنْ يجوز
202
إذَا كَانَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَوْ انْفَرَدَ عَمَّا خَالَطَهُ كَانَ كَافِيًا لِطَهَارَتِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ انْفِرَادِ الْمَاءِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبَيْنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ فَإِذَا كَانَ لَوْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ مُنْفَرِدًا عَمَّا خَالَطَهُ مِنْ اللبن وماء الورد وَنَحْوِهِ وَكَانَ طَهُورًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِك وَهَدْمِ أَصْلِك وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ تُجِيزَهُ إذْ أَكْثَرُ غَسْلِ أَعْضَائِهِ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَعْمَلَ مِنْ الْمَاءِ في أعضاء الوضوء ما لو انفرد نفسه كَانَ كَافِيًا فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فَجَعَلَ الْمَاءَ الْمُنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ طَهُورًا فَإِذَا خَالَطَهُ غَيْرُهُ فَلَيْسَ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا قِيلَ لَهُ مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ هُوَ الْمُنَزَّلُ مِنْ السَّمَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ اخْتِلَاطَ الطِّينِ بِمَاءِ السَّيْلِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِيهِ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ مُخَالِطًا لِلطِّينِ وَكَذَلِكَ مَاءُ الْبَحْرِ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْوُضُوءُ بِهِ جَائِزٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَاءُ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ فَهُوَ إذًا مَعَ اخْتِلَاطِ غَيْرِهِ بِهِ مُتَطَهِّرٌ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَسَمَّاهُ طَهُورًا فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا جَوَازُ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الَّذِي خالطته نجاسة يسيرة لأنه لم يخرج بمخالطة النَّجَاسَةَ إيَّاهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَاءُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ قِيلَ لَهُ الْمَاءُ الْمُخَالِطُ لِلنَّجَاسَةِ هُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَصِرْ نَجِسَ الْعَيْنِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُخَالَطَةُ غَيْرِهِ لَهُ لَمَا مَنَعْنَا الْوُضُوءَ بِهِ وَلَكِنَّا مَنَعْنَا الطَّهَارَةَ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَاءً مُنْزَلًا مِنْ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ مَحْظُورٌ فَإِنَّمَا مَنَعْنَا اسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورٍ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَإِنْ خَالَطَتْ الْمَاءَ فَإِذَا حَصَلَ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ جَازَ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءِ الْقَرَاحِ ثُمَّ مَسَحَ وَجْهَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ بِمَاءِ الزَّعْفَرَانِ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ طَهَارَتَهُ وَقَدْ أَجَازَ الشافعى الوضوء بما ألقى فيه كافور وعنبر وهو بوجد مِنْهُ رِيحُهُ وَبِمَا خَالَطَهُ وَرْدٌ يَسِيرٌ وَإِنْ وَقَعَ مِثْلُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ فَلَيْسَ قِيَاسُ النَّجَاسَةِ قِيَاسَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا خَالَطَتْ الْمَاءَ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُك أَنْ تُجِيزَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الَّذِي يُخَالِطُهُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إذَا كَانَ الْمَاءُ لَوْ انْفَرَدَ كِفَاءً لِوُضُوئِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ جَازَ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْزَلُ مِنْ السَّمَاءِ فِي حَالِ الْمُخَالَطَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ حَتَّى سَلَبَهُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَاءِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أن
203
غَلَبَةَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ يَنْقُلُهُ إلَى حُكْمِهِ وَيَسْقُطُ حُكْمُ الْقَلِيلِ مَعَهُ بِدَلَالَةِ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ خمر لو وقعت في حق مَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقَلْ إنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ
الْحَدُّ وَلَوْ أن خمر أصب فيها مَاءٌ فَمُزِجَتْ بِهِ فَكَانَ الْخَمْرُ هُوَ الْغَالِبُ لإطلاق النَّاسُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ وَكَانَ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ حُكْمَ شَارِبِهَا صَرْفًا غَيْرَ مَمْزُوجَةٍ وَأَمَّا مَاءُ الْوَرْدِ وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَعُصَارَةُ الرَّيْحَانِ وَالشَّجَرِ فَلَمْ يُمْنَعْ الْوُضُوءُ بِهِ مِنْ أَجْلِ مُخَالَطَةِ غَيْرِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إلَّا بِتَقْيِيدٍ كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَنِيَّ مَاءً بِقَوْلِهِ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ وَقَالَ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَاءِ الْمَفْرُوضِ بِهِ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ وَأَمَّا مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ فِي إجَازَتِهِ الْوُضُوءَ بِالْخَلِّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إجَازَتُهُ بِالْمَرَقِ وَبِعَصِيرِ الْعِنَبِ لَوْ خَالَطَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَاءٍ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ التَّيَمُّمُ بالدقيق والأشنان قياسا على التراب.
(فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا تَيَقَّنَّا فيه جزء مِنْ النَّجَاسَةِ أَوْ غَلَبَ فِي الظَّنِّ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْبِئْرِ وَالْغَدِيرِ وَالْمَاءُ الرَّاكِدُ وَالْجَارِي لِأَنَّ مَاءَ الْبَحْرِ لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْجَارِي وَأَمَّا اعْتِبَارُ أَصْحَابِنَا لِلْغَدِيرِ الَّذِي إذَا حُرِّكَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّكْ الطَّرَفُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي جِهَةِ تَغْلِيبِ الظَّنِّ فِي بُلُوغِ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ وَلَيْسَ هَذَا كَلَامًا فِي أَنَّ بَعْضَ الْمِيَاهِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَبَعْضَهَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي الْمَاءِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ فَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ غَدِيرٍ يُطْرَحُ فِيهِ الْمَيْتَةُ وَالْحَيْضُ فَقَالَ تَوَضَّئُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَخْبُثُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْجُنُبِ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً فِي الْمَاءِ تَرِدُهُ السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ فَقَالَ الْمَاءُ لَا يَتَنَجَّسُ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَقَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ فِي الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ بِرِيحٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رِوَايَةً لا يخبث
204
أَرْبَعِينَ دَلْوًا شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْحَوْضُ لَا يَغْتَسِلُ فِيهِ جُنُبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَرْبَعُونَ غَرْبًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ وَقَالَ مَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ إذَا كَانَ الْمَاءُ كَرًّا لَمْ ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير رواية الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إذَا كَانَ قَدْرَ ثَلَاثِ قِلَالٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ مُسْكِرٍ قُطِرَتْ فِي قِرْبَةٍ مِنْ الْمَاءِ لَحُرِّمَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى أَهْلِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيِّ لَا يَفْسُدُ الْمَاءُ بِالنَّجَاسَةِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ مَسَائِلُ فِي مَوْتِ الدَّجَاجَةِ فِي الْبِئْرِ أَنَّهَا تُنْزَفُ إلَّا أَنْ تَغْلِبَهُمْ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَنْ تَوَضَّأَ به مادام فِي الْوَقْتِ وَهَذَا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَصْحَابُهُ إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ مَالِكٌ إنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ هُوَ اسْتِحْبَابٌ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَقَالَ فِي الْحَوْضِ إذَا اغْتَسَلَ فِيهِ جنب أفسده وهذا أيضا عنده استحباب ترك اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ أَجْزَأَهُ وَكَرِهَ اللَّيْثُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْبِئْرِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَغْتَسِلَ الْجُنُبُ في الماء الراكد الكثير القائم في الهر وَالسَّبْخَةِ وَكَرِهَ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ بِالْفَلَاةِ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الْكُرِّ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْكُرُّ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رِطْلٍ وَمِائَتَا رِطْلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ بِقِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ يَتَنَجَّسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ وَاَلَّذِي يُحْتَجُّ بِهِ لِقَوْلِ أَصْحَابِنَا قَوْله تَعَالَى وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَالنَّجَاسَاتُ لَا مَحَالَةَ مِنْ الْخَبَائِثِ وَقَالَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَقَالَ فِي الْخَمْرِ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ
وَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ أَمَّا أَحَدُهُمَا كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْآخَرُ كَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ
فَحَرَّمَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ انْفِرَادِهَا وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَاءِ فَوَجَبَ تَحْرِيمُ اسْتِعْمَالِ كُلِّ مَا تَيَقَّنَّا فِيهِ جُزْءًا مِنْ النَّجَاسَةِ وَيَكُونُ جِهَةَ الْحَظْرِ مِنْ طَرِيقِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِبَاحَةِ فَجِهَةُ الْحَظْرِ أَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا فِيهَا مِائَةُ جُزْءٍ وَلِلْآخَرِ جُزْءٌ وَاحِدٌ أَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْإِبَاحَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطْؤُهَا فَإِنْ قِيلَ لِمَ غُلِّبَتْ جِهَةُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ إذَا لَمْ تَجِدْ
205
مَاءً غَيْرَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ إذَا لَزِمَهُ فَرْضُ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وإنما اجتمع هاهنا جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ قِيلَ لَهُ قَوْلُك إنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ جِهَةُ الْحَظْرِ وَجِهَةُ الْإِيجَابِ خَطَأٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ فِيهِ فَأَمَّا مَا فِيهِ نجاسة فلم يلزمه استعماله فإن قيل إما يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ مُتَجَرِّدَةً بِنَفْسِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُخَالِطَةً لِلْمَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا قِيلَ لَهُ عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيِ وَالسُّنَنِ قَاضٍ بِلُزُومِ اجْتِنَابِهَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَالِاخْتِلَاطِ وَمَنْ ادَّعَى تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ لَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا فَالْحُكْمُ لِلْحَظْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ وَاجِدًا لِمَاءٍ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الْآيِ الْحَاظِرَةِ لِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الحظر قد تناولها في فِي حَالِ اخْتِلَاطِهَا بِهِ كَهُوَ فِي حَالِ انْفِرَادِهَا وَالثَّانِي أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ وَبَيْنَهُ إذَا لَمْ يجد غيره فإذا صح لنا ذَلِكَ فِي حَالِ وُجُودِ مَاءٍ غَيْرِهِ كَانَتْ الحال الأخرى مثله لا تفاق الْجَمِيعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَوَجْهٌ آخَرُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي هِيَ فِيهِ لعموم قوله فَاغْسِلُوا إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً غَيْرَهُ وَهُوَ أَنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا مِنْ نَجَاسَةٍ إلَّا وَعَلَيْنَا اجْتِنَابُهَا وَتَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا إذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً وَالْمَاءُ الَّذِي لَا نَجِدُ غَيْرَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ لُزُومُ الِاسْتِعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ إنْسَانٌ مَاءً غَيْرَهُ أَوْ غَصَبَهُ فَتَوَضَّأَ بِهِ كَانَتْ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةً فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَرْضُ طَهَارَتِهِ بذلك وتعين على حَظْرُ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَارَ لِلُزُومِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَزِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي لَا يجد غيره إذا كانت فيه النجاسة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْمُوجِبُ لَاجْتِنَابِهَا أَوْلَى وَأَيْضًا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان والخل ونحوه أن حُكْمَ الْيَسِيرِ فِي ذَلِكَ كَحُكْمِ الْكَثِيرِ وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ وَالدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لُزُومُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ بِالْعُمُومِ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي حَالِيِّ الْمُخَالَطَةِ وَالِانْفِرَادِ وَالْآخَرُ أَنَّ حُكْمَ الحظر وهو النجاسات كان أغلب من حُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الَّذِي خَالَطَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ
206
الطَّاهِرَةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي خَالَطَهُ مِنْ ذَلِكَ مَاءٌ أَوْ غَيْرُهُ إذْ كَانَ عُمُومُ الْآيِ وَالسُّنَنِ شَامِلَةً له وإذ كَانَ الْمَعْنَى وُجُودَ النَّجَاسَةِ فِيهِ حُظِرَ اسْتِعْمَالُهُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ لَا يُغَيِّرُ طَعْمَهُ وَلَا لَوْنَهُ وَلَا رَائِحَتَهُ وَمَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا مَنَعَ الْبَوْلَ الْقَلِيلَ لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكَثُرَ حَتَّى يَتَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ فَيَفْسُدُ قِيلَ لَهُ ظَاهِرُ نَهْيِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَلِيلُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عنه لنفسه وإنما مُنِعَ لِئَلَّا يُفْسِدَ لِغَيْرِهِ إثْبَاتُ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَإِسْقَاطُ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ وَعَلَى أَنَّهُ مَتَى حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ زَالَتْ فَائِدَتُهُ وَسَقَطَ حُكْمُهُ لَعَلِمْنَا بِأَنَّ مَا غَيَّرَ مِنْ النَّجَاسَاتِ طَعْمَ الماء أو لونه أو رائحته محظورا اسْتِعْمَالُهُ بِغَيْرِ هَذَا الْخَبَرِ مِنْ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِهِ رَأْسًا
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
فَمُنِعَ الْبَائِلُ الِاغْتِسَالَ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالِ التَّغَيُّرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْإِنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ
فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ احْتِيَاطًا مِنْ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهَا إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ لَمْ يُغَيِّرْهُ وَلَوْلَا أَنَّهَا تُفْسِدُهُ لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهَا مَعْنًى
وَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم بنجاسة ولوغ الكلاب بِقَوْلِهِ طَهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَ سَبْعًا وَهُوَ لَا يُغَيِّرُهُ
فإن قيل قوله تعالى فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ- إلى قوله تعالى- فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وقَوْله تَعَالَى وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى حَتَّى تَغْتَسِلُوا أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَهُ بِمَاءٍ حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ وَبِمَا لَمْ تَحِلَّهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ قَوْله تَعَالَى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ إذَا كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَهَذَا يُعَارِضُ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ فِي حَظْرِ اسْتِعْمَالِهِ مَاءً خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ قِيلَ لَهُ لَوْ تَعَارَضَ العمومان لَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى مِنْ تَضَمُّنِهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ مَتَى اجْتَمَعَا كَانَ الْحُكْمُ لِلْحَظْرِ وَعَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَظْرِ اسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ قَاضٍ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْعُمُومِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مَأْمُورًا بِمَاءٍ لَا نَجَاسَةَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا غَيَّرَتْهُ كَانَ مَحْظُورًا وَعُمُومُ إيجَابِ الْحَظْرِ مستعمل فيه
207
دُونَ عُمُومِ الْأَمْرِ بِالْغُسْلِ وَكَمَا قَضَى حَظْرَهُ لِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قَوْلِهِ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ فإن كان ماحله مِنْهَا يَسِيرًا كَذَلِكَ وَاجِبٌ أَنْ يُقْضَى عَلَى قوله تعالى فَاغْسِلُوا وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً وَقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ
وَصْفُهُ إيَّاهُ بِالتَّطْهِيرِ يَقْتَضِي تَطْهِيرَ مَا لَاقَاهُ فَيُقَالُ لَهُ مَعْنَى قَوْلِهِ طَهُورًا يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا رَفْعُ الْحَدَثِ وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ وَالْآخَرُ إزَالَةُ الْإِنْجَاسِ فَأَمَّا نَجَاسَةٌ مَوْجُودَةٌ فِيهِ لَمْ تُزِلْهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُطَهِّرًا لَهَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ طَهُورًا أَنَّهُ يَجْعَلُ النجاسة غير نجاسة وهذا محال لأن ماحله مِنْ أَجْزَاءِ الدَّمِ وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْخَبَائِثِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إنْجَاسًا كَمَا أَنَّهَا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَعْيَانُهَا نَجِسَةً وَلَمْ يَكُنْ لِمُجَاوَرَةِ الْمَاءِ إيَّاهَا حُكْمٌ فِي تَطْهِيرِهَا فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ فَالْحُكْمُ لِلْمَاءِ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنْ لَبَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَائِعَاتِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ حُكْمُ الْمَاءِ لِوُجُودِ الْغَلَبَةِ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ مَغْمُورَةٌ مُسْتَهْلَكَةٌ فَحُكْمُ النَّجَاسَةِ إذَا حَلَّتْ الْمَاءَ حُكْمُ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهُ قِيلَ لَهُ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْمَائِعَاتِ كُلَّهَا لَا يختلف حكما فِيمَا تُخَالِطُهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ مِنْهَا دُونَ الْمُسْتَهْلَكَاتِ الْمَغْمُورَةِ مِمَّا خَالَطَهَا وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ النَّجَاسَةِ الْيَسِيرَةِ لِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ تُفْسِدُهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْغَلَبَةِ مَعَهَا حُكْمٌ بَلْ كَانَ الْحُكْمُ لَهَا دُونَ الْغَالِبِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا فَكَذَلِكَ الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِلنَّجَاسَةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يُطَهِّرَهَا بِالْمُجَاوَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَامِرًا لَهَا وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا لَهَا مِنْ أَجْلِ غُمُورِهِ لَهَا وَغَلَبَتِهِ عَلَيْهَا فَقَدْ يَكُونُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ إذَا خَالَطَتْهَا نَجَاسَةٌ غَامِرَةٌ لَهَا وَغَالِبَةٌ عَلَيْهَا وَكَانَ الْحُكْمُ مَعَ ذَلِكَ لِلنَّجَاسَةِ دُونَ مَا غَمَرَهَا وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا نَصِلُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنْ النَّجَاسَةِ وَأَيْضًا الْعِلْمُ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِيهِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا كَمَا أَنَّ عِلْمَنَا بِوُجُودِهَا فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ كَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا بِظُهُورِهَا وَكَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهَا كَمُشَاهَدَتِهَا وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ
بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم سئل عن بئر بضاعة وهي تُطْرَحُ فِيهِ عُذْرَةُ النَّاسِ ومحائض النِّسَاءِ وَلُحُومُ الْكِلَابِ فَقَالَ إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
وَبِحَدِيثِ أَبِي بُصْرَةَ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَانْتَهَيْنَا إلَى غَدِيرٍ فِيهِ
208
جِيفَةٌ فَكَفَفْنَا وَكَفَّ النَّاسُ حَتَّى أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ اسْتَقُوا فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ فَاسْتَقَيْنَا وَارْتَوَيْنَا
وَبِمَا
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ كَانَتْ طَرِيقًا لِلْمَاءِ إلَى الْبَسَاتِينِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا حَامِلًا لِمَا يَقَعُ فيه من الأنجاس وينفله وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نُظِّفَتْ مِنْ الْأَخْبَاثِ فَأَخْبَرَ بِطَهَارَتِهَا بَعْدَ النَّزْحِ وَأَمَّا قِصَّةُ الْغَدِيرِ فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْجِيفَةُ كَانَتْ فِي جَانِبٍ مِنْهُ فَأَبَاحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي اعْتِبَارِ الْغَدِيرِ وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ فَقَالَتْ لَهُ إنِّي كُنْت جُنُبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ
وَالْمُرَادُ أَنَّ إدْخَالَ الْجُنُبِ يَدَهُ فِيهِ لَا يُنَجِّسُهُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده اللَّفْظِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْنَا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحُكْمَ بِتَنْجِيسِ الْمَاءِ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ أَنَّ زِنْجِيًّا مَاتَ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ فَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِنَزْحِهَا وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّمَا يُنَجِّسُ الْحَوْضَ أَنْ تَقَعَ فِيهِ فَتَغْتَسِلُ وَأَنْتَ جُنُبٌ فَأَمَّا إذَا أَخَذْت بِيَدِك تَغْتَسِلُ فَلَا بَأْسَ وَلَوْ صَحَّ أَيْضًا هَذَا اللَّفْظُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي قِصَّةِ بِئْرِ بُضَاعَةَ فَحُذِفَ ذِكْرُ السَّبَبِ وَنُقِلَ لَفْظُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا فَإِنَّ
قَوْلَهُ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَلَيْسَ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْمَاءَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَاسْتَعْمَلُوهُ حَتَّى تَحْتَجَّ بِهِ لِقَوْلِك فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْت يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَتِهِ قِيلَ لَهُ قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُك بِالظَّاهِرِ إذًا وَصِرْت إلَى أَنْ تَسْتَدِلَّ بِغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِك تَخْلِيَةٌ مِنْ الْفَائِدَةِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِنْ الْفَوَائِدِ غَيْرَ مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَنَقُولُ إنَّهُ أَفَادَ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمُجَاوَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ وَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ وَاسْتَفَدْنَا بِهِ أَنَّ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ إذَا أَصَابَتْهُمَا نَجَاسَةٌ فَأُزِيلَتْ بِمُوَالَاةِ صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي فِي الثَّوْبِ لَيْسَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الَّذِي جَاوَرَهُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَيَلْحَقُهُ حُكْمُهَا لأنه إنما جاور ما ليس «١٤- احكام م»
209
بنجس فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ بِمُجَاوَرَتِهِ لَهَا وَلَوْلَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ لِلنَّجَاسَةِ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ فَيُنَجِّسُ مَا جَاوَرَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْمَاءِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى الْعَاشِرِ وَأَكْثَرُ من ذلك في كون جميعه نجاسا فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الظَّنَّ وَأَفَادَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي لَحِقَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ وَأَفَادَنَا أَيْضًا أَنَّ الْبِئْرَ إذَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأُخْرِجَتْ أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ إنَّمَا لَحِقَ مَا جَاوَرَ الْفَأْرَةَ دُونَ ما جاور هذا الماء وإن الفأرة تَجْعَلْهُ بِمَنْزِلَةِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ فَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِتَطْهِيرِ بَعْضِ مَا بِهَا فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْت لَمْ يَكُنْ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
إلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ مَعْنًى لِأَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ لِلنَّجَاسَةِ لَيْسَ نجس فِي نَفْسِهِ مَعَ ظُهُورِ النَّجَاسَةِ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا أَيْضًا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت وَاسْتَفَدْنَا بِهِ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حَالِ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ وَسُقُوطِ حُكْمِ الْمَاءِ مَعَهَا فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ فِي حُكْمِ أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ وَأَفَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ كَمَا تَقُولُ فِي الْمَاءِ إذَا مَازَجَهُ اللَّبَنُ أَوْ الْخَلُّ إنَّ الْحُكْمَ للأغلب منهما وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته هاهنا.
(فَصْلٌ) وَأَمَّا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَالشَّافِعِيَّ لَا يُجِيزُونَ الْوُضُوءَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ مَا هُوَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْ مَالِكٍ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا
رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ وَتَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وَضُوءِ الرَّجُلِ وَلْيَفْتَرِقَا
وَفَضْلُ الطَّهُورِ يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ مَا يَسِيلُ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُغْتَسِلِ وَالْآخَرُ مَا يَبْقَى في الإناء بعد الغسل وعمومه ينتظمهما فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِأَنَّهُ فَضْلُ طَهُورٍ وَأَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ
وَرَوَى بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِأَسْلَمَ حِينَ أَكَلَ مِنْ تَمْرِ الصدقة أرأيت
210
لَوْ تَوَضَّأَ إنْسَانٌ بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ فَدَلَّ تَشْبِيهُ الصَّدَقَةِ حِينَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ بِغُسَالَةِ أَيْدِي النَّاسِ أَنَّ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا أُزِيلَ بِهِ الْحَدَثُ مُشْبِهٌ لِلْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجَاسَةُ مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ الصَّلَاةَ بِهِمَا فَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ النَّجَاسَةُ كَذَلِكَ مَا أُزِيلَ بِهِ الْحَدَثُ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ قَدْ أَكْسَبَهُ إضَافَةً سَلَبَهُ بِهَا إطْلَاقَ الِاسْمِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي امْتَنَعَ فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَاءِ بِمُخَالَطَةِ غَيْرِهِ لَهُ وَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ أَوْ حُصُولِ قُرْبَةٍ فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ اسْتَعْمَلَهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ لِلطَّهَارَةِ كَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَهُ لِلطَّهَارَةِ قِيلَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَمْنَعْ إطْلَاقَ الِاسْمِ فِيهِ إذْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَهُوَ كَاسْتِعْمَالِهِ فِي غَسْلِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً وَقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ قَالَ فَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا وَلَمْ تُجَاوِرْهُ نَجَاسَةٌ وَجَبَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْحَالِ الأولى والثاني أن قوله طَهُوراً يَقْتَضِي جَوَازَ التَّطْهِيرِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَيُقَالُ لَهُ إنَّ بَقَاءَهُ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بَعْدَ الطَّهَارَةِ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَمَا ذَكَرْت مِنْ الْعُمُومِ فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يُسْتَعْمَلْ فَيَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ فَأَمَّا مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مُقَيَّدًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعُمُومُ وَأَمَّا قَوْلُك إنَّ كَوْنَهُ طَهُورًا يَقْتَضِي جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ أَوْ التَّطْهِيرِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّكْرَارِ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ ضَرُوبٌ بِالسَّيْفِ وَيُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوَصْفِ بِالضَّرْبِ وَلَيْسَ الْمُقْتَضَى فِيهِ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَيُقَالُ رَجُلٌ أَكُولٌ إذَا كَانَ يأكل كثيرا وإن كان أكله فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَا يُرَادُ بِهِ تَكْرَارُ الْأَكْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا وقَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ أَصْلَ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِ وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وَقَوْلُهُ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النُّطْفَةَ الَّتِي خَلَقَ مِنْهَا وَلَدَ آدَمَ وَقَوْلُهُ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً قَالَ طَاوُسٌ الرَّضَاعَةُ مِنْ الصِّهْرِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ رِوَايَةً النَّسَبُ الرَّضَاعُ وَالصِّهْرُ الْخُتُونَةُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ النَّسَبُ الَّذِي لَا يَحِلُّ نِكَاحُهُ وَالصِّهْرُ النَّسَبُ الَّذِي يَحِلُّ نِكَاحُهُ كَبَنَاتِ الْعَمِّ وَقِيلَ إنَّ النَّسَبَ مَا رَجَعَ إلَى وِلَادَةٍ قَرِيبَةٍ وَالصِّهْرَ خَلْطَةٌ تُشْبِهُ الْقَرَابَةَ وَقَالَ الضَّحَّاكُ النَّسَبُ
211
سَبْعَةُ أَصْنَافٍ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله وَبَناتُ الْأُخْتِ وَالصِّهْرُ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إلَى قَوْلِهِ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قال أبو بكر والتعارف فِي الْأَصْهَارِ أَنَّهُمْ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ مَنْ أُضِيفَ إلَيْهِ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى لِأَصْهَارِ فُلَانٍ أَنَّهُ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِنِسَاءِ فُلَانٍ وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ النَّاسِ قَالَ وَالْأَخْتَانُ أَزْوَاجُ الْبَنَاتِ وَكُلُّ ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْخَتْنِ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ أَيْضًا وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الصِّهْرُ فِي مَوْضِعِ الْخَتْنِ فَيُسَمُّونَ الْخَتْنَ صِهْرًا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَمَّيْتهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ وَالْقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زمِّيت
فَأَقَامَ الصِّهْرَ مَقَامَ الْخَتْنِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الْآيَةَ رَوَى شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ سلمة قال جاء رجل إلى عمر ابن الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فَقَالَ أَبْدِلْ مَا فَاتَك مِنْ لَيْلِك فِي نَهَارِك فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُمَا أَخْبَرَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِي قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من نَامَ عَنْ جُزْئِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ
وقال الحسن جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً جَعَلَ أَحَدَهُمَا خِلْفَةً لِلْآخَرِ إنْ فَاتَ مِنْ النَّهَارِ شَيْءٌ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا فِي نحو قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ في قوله خِلْفَةً أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ وَقِيلَ يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا وَيَجِيءُ الْآخَرُ
وقَوْله تَعَالَى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ هَوْناً قَالَ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً قَالَ سِدَادًا وَعَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً حُلَمَاءُ لَا يَجْهَلُونَ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِمْ حَلَمُوا قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ كَأَنَّهُمْ الْقِدَاحُ هَذَا نَهَارُهُمْ يَنْتَشِرُونَ بِهِ فِي النَّاسِ
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قَالَ هَذَا لَيْلُهُمْ إذَا دَخَلَ يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَطْرَافِهِمْ فَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَعَنْ ابْنِ عباس يمشون عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قَالَ بِالتَّوَاضُعِ لَا يَتَكَبَّرُونَ
وقَوْله
تَعَالَى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قال من أنفق در هما فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُسْرِفٌ وَلَمْ يَقْتُرُوا الْبُخْلُ مَنْعُ حَقِّ اللَّهِ وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً قَالَ الْقَصْدُ وَالْإِنْفَاقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ السَّرَفُ إنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ
وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الْآيَةَ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ أَنْ تزنى بِحَلِيلَةِ جَارِكَ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله أَثاماً
قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ عن أبى حنيفة الزور الغنا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَةَ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قَالَ الْغِنَاءُ وَكُلُّ لَعِبٍ وَلَهْوٍ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ وَصَوْتٍ عِنْدَ نَغْمَةِ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرِ شَيْطَانٍ
وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ الْخَمْرَ وَالْكُوبَةَ وَالْغِنَاءَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا في قوله لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَنْ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَحْتَمِلُ أن يريد به الغنا عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا الْقَوْلَ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَائِلِ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ قَوْله تَعَالَى وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ إذَا أُوذُوا مَرُّوا كِرَامًا صَفَحُوا وَرَوَى أَبُو مَخْزُومٍ عَنْ سنان إذا مروا باللغو مروا كراما قَالَ إذَا مَرُّوا بِالرَّفَثِ كَنَوْا وَقَالَ الْحَسَنُ اللغو كله الْمَعَاصِي قَالَ السُّدِّيُّ هِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي أَنَّهُ قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وقوله تعالى إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً قِيلَ لَازِمًا مُلِحًّا دَائِمًا وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ والحاجة وَإِنَّهُ لَمُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ أَيْ مُلَازِمٌ لَهُنَّ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَقَالَ الْأَعْشَى:
إنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي وقال بشر بن أبى حازم:
سورة الفرقان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفُرْقان) من السُّوَر المكِّية التي تحدَّثتْ عن معجزةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وما أيَّده اللهُ به؛ وهو هذا القرآنُ الكريم، ودلَّلت السورة على أن هذا الكتابَ جاء فُرْقانًا بين الحق والباطل؛ فلم يترُكْ خيرًا إلا دلَّ عليه، ولم يترُكْ شرًّا إلا حذَّر منه، وقد جاءت هذه السورة بشُبهاتِ الكفار والمعانِدين، ورَدَّتْها بما يؤيد صِدْقَ رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت الحُجَّةَ على كلِّ مَن ترك الحقَّ ومال إلى الباطل؛ لأن اللهَ أوضَحَ طريقَ الحق، وأبانه أيَّما بيانٍ؛ فللهِ الحُجَّةُ البالغة!

ترتيبها المصحفي
25
نوعها
مكية
ألفاظها
897
ترتيب نزولها
42
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
77
العد الكوفي
77
العد الشامي
77

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «سألتُ أو سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الذَّنْبِ عند اللهِ أكبَرُ؟ قال: «أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم أن تقتُلَ ولَدَك خشيةَ أن يَطعَمَ معك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: أن تُزَانِيَ بحَلِيلةِ جارِك»، قال: ونزَلتْ هذه الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]». أخرجه البخاري (٤٧٦١).

وفيها سببٌ آخَرُ:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّرْكِ كانوا قد قتَلوا وأكثَروا، وزَنَوْا وأكثَروا، فأتَوْا مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحسَنٌ، لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً؛ فنزَلَ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]، ونزَلتْ: {قُلْ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌اْلَّذِينَ ‌أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ} [الزمر: 53]». أخرجه البخاري (٤٨١٠).

* قوله تعالى: {إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ ‌وَءَامَنَ ‌وَعَمِلَ ‌عَمَلٗا ‌صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ اْللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ اْللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قال ابنُ أَبْزَى: سَلِ ابنَ عباسٍ عن قولِه تعالى: {وَمَن ‌يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا} [النساء: 93]، وقولِه: {وَلَا ‌يَقْتُلُونَ ‌اْلنَّفْسَ ‌اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ} [الفرقان: 68] حتى بلَغَ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ} [الفرقان: 70]،  فسألْتُه، فقال: لمَّا نزَلتْ، قال أهلُ مكَّةَ: فقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأتَيْنا الفواحشَ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا} إلى قولِه: {غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]». أخرجه البخاري (٤٧٦٥).

* سورة (الفُرْقان):

سُمِّيت سورةُ (الفُرْقان) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (الفُرْقان) في افتتاحها، وهو اسمٌ من أسماء القرآن الكريم.

تضمَّنتْ سورةُ (الفُرْقان) عِدَّة موضوعات؛ جاءت على النحو الآتي:

1. صفات الإلهِ الحقِّ، وعَجْزُ الآلهة المزيَّفة (١-٣).

2. شُبهاتهم حول القرآن، وردُّها (٤-٦).

3. شُبهاتهم حول الرسول، وردُّها (٧-١٠).

4. الدوافع الحقيقية وراء تكذيبهم (١١-١٩).

5. سُنَّة الله في اختيار المرسَلين، وعادة المكذِّبين (٢٠-٢٩).

6. شكوى الرسول من قومه، وتَسْليتُه (٣٠-٤٠).

7. الاستهزاء والسُّخْريَّة سلاح العاجز (٤١-٤٤).

8. الحقائق الكونية في القرآن من دلائل النُّبوة (٤٥-٥٥).

9. مهمة الرسول ونهجُه في دعوة المعانِدين (٥٦-٦٢).

10. ثمرات الرسالة الربانية (٦٣-٧٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /270).

مقصدُ السُّورة الأعظم: إظهارُ شَرَفِ الداعي صلى الله عليه وسلم؛ بإنذارِ المكلَّفين عامةً بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التامِّ، المدلول عليه بهذا القرآنِ المبين، المستلزم لأنه لا موجودَ على الحقيقة سِوى مَن أنزله؛ فهو الحقُّ، وما سِواه باطلٌ.

وتسميتُها بـ(الفُرْقان) واضحُ الدَّلالة على ذلك؛ فإن الكتابَ ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبِسات، وتمييزِ الحقِّ من الباطل؛ ليَهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة، ويَحيَى مَن حَيَّ عن بيِّنة؛ فلا يكون لأحدٍ على الله حُجَّةٌ، وللهِ الحُجَّة البالغة!

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /317).