تفسير سورة الفرقان

المحرر في أسباب نزول القرآن

تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن.
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة الفرقان
١٢٩ - قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ) ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
وفي لفظ لمسلم والبخاري وأبي داود عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية بمكة: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى قوله (مُهَانًا) فقال المشركون: وما يغني عنا الإسلامُ وقد عدلنا باللَّه، وقد قتلنا النفس التي حرم الله
761
وأتينا الفواحش؟ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا.. ) إلى آخر الآية.
٢ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال سألت أو سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيُّ الذنب عند الله أكبر؟ قال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قلت: ثم أيٌّ؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك) قال: ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ).
وفي لفظ للترمذي وأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وتلا هذه الآية: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ... ) ولم يقل: ونزلت.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذين الحديثين عند تفسيرها، واقتصروا على ذلك منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
762
قال الطبري: (وقد ذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل قوم من المشركين أرادوا الدخول في الإسلام ممن كان منه في شركه هذه الذنوب، فخافوا أن لا ينفعهم مع ما سلف منهم من ذلك إسلام فاستفتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، يعلمهم أن اللَّه قابلٌ توبة من تاب منهم). اهـ ثم ساق الحديثين.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا صلة له بالنزول.
قال أبو العباس القرطبي: (ظاهر هذا أن هذه الآية نزلت بسبب هذا الذنب الذي ذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس كذلك؛ لأن الترمذي قد روى هذا الحديث وقال فيه: وتلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) بدل فأنزل اللَّه وظاهره: أنه - عليه الصلاة والسلام - قرأ بعد ذكر هذا الحديث ما قد كان أُنزل منها، على أن الآية تضمنت ما ذكره في حديثه بحكم عمومها) اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن قول القرطبي صحيح ويؤيده أمران:
الأول: أن السورة مكية عند جمهور العلماء، والشرك كان واسعاً في الناس ذلك الوقت، وهذا يوافق قول ابن عبَّاسٍ: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا... الحديث.
فبين الحديث وسياق الآيات قدر من التطابق والمماثلة.
أما حديث ابن مسعود فليس كذلك لأنه حصر القتل في الولد خشية الطعام وحصر الزنا بحليلة الجار، وهذا الحصر لا يوافق العموم في الآية.
الثاني: أنه جاء في حديث ابن مسعود: (ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وبيان ذلك:
أن يقال: إن القرآن إما أن ينزل ابتداءً أو على سبب وليس ثمةَ قسم ثالث اسمه نزول القرآن لتصديق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينطق عن اللَّه،
763
كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤). فكيف يُصدِّق هذا بهذا؟
فإن قال قائل: الفائدة من هذا النزول هو التوكيد.
فالجواب: أن يقال: الأصل في الكلام الشرعي، إذا كان دائراً بين التوكيد والتأسيس أن يحمل على التأسيس لأنه يحمل معنى زائداً على مجرد التوكيد.
وهذا بعينه يتحقق في حديث ابن عبَّاسٍ، دون ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. الذي لا يُفيد جديداً.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآيات الكريمة حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لموافقته سياق القرآن وصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لأقوال المفسرين. والله أعلم.
* * * * *
764
سورة القصص
765
سورة الفرقان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الفُرْقان) من السُّوَر المكِّية التي تحدَّثتْ عن معجزةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وما أيَّده اللهُ به؛ وهو هذا القرآنُ الكريم، ودلَّلت السورة على أن هذا الكتابَ جاء فُرْقانًا بين الحق والباطل؛ فلم يترُكْ خيرًا إلا دلَّ عليه، ولم يترُكْ شرًّا إلا حذَّر منه، وقد جاءت هذه السورة بشُبهاتِ الكفار والمعانِدين، ورَدَّتْها بما يؤيد صِدْقَ رسالته صلى الله عليه وسلم، وقد أقامت الحُجَّةَ على كلِّ مَن ترك الحقَّ ومال إلى الباطل؛ لأن اللهَ أوضَحَ طريقَ الحق، وأبانه أيَّما بيانٍ؛ فللهِ الحُجَّةُ البالغة!

ترتيبها المصحفي
25
نوعها
مكية
ألفاظها
897
ترتيب نزولها
42
العد المدني الأول
77
العد المدني الأخير
77
العد البصري
77
العد الكوفي
77
العد الشامي
77

* قوله تعالى: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «سألتُ أو سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ: أيُّ الذَّنْبِ عند اللهِ أكبَرُ؟ قال: «أن تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: «ثم أن تقتُلَ ولَدَك خشيةَ أن يَطعَمَ معك»، قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: أن تُزَانِيَ بحَلِيلةِ جارِك»، قال: ونزَلتْ هذه الآيةُ تصديقًا لقولِ رسولِ اللهِ ﷺ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]». أخرجه البخاري (٤٧٦١).

وفيها سببٌ آخَرُ:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّرْكِ كانوا قد قتَلوا وأكثَروا، وزَنَوْا وأكثَروا، فأتَوْا مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحسَنٌ، لو تُخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً؛ فنزَلَ: {وَاْلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اْللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ اْلنَّفْسَ اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَۚ} [الفرقان: 68]، ونزَلتْ: {قُلْ ‌يَٰعِبَادِيَ ‌اْلَّذِينَ ‌أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ} [الزمر: 53]». أخرجه البخاري (٤٨١٠).

* قوله تعالى: {إِلَّا ‌مَن ‌تَابَ ‌وَءَامَنَ ‌وَعَمِلَ ‌عَمَلٗا ‌صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ اْللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ اْللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]:

عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قال ابنُ أَبْزَى: سَلِ ابنَ عباسٍ عن قولِه تعالى: {وَمَن ‌يَقْتُلْ مُؤْمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا} [النساء: 93]، وقولِه: {وَلَا ‌يَقْتُلُونَ ‌اْلنَّفْسَ ‌اْلَّتِي حَرَّمَ اْللَّهُ إِلَّا بِاْلْحَقِّ} [الفرقان: 68] حتى بلَغَ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ} [الفرقان: 70]،  فسألْتُه، فقال: لمَّا نزَلتْ، قال أهلُ مكَّةَ: فقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النَّفْسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ، وأتَيْنا الفواحشَ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا} إلى قولِه: {غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الفرقان: 70]». أخرجه البخاري (٤٧٦٥).

* سورة (الفُرْقان):

سُمِّيت سورةُ (الفُرْقان) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ (الفُرْقان) في افتتاحها، وهو اسمٌ من أسماء القرآن الكريم.

تضمَّنتْ سورةُ (الفُرْقان) عِدَّة موضوعات؛ جاءت على النحو الآتي:

1. صفات الإلهِ الحقِّ، وعَجْزُ الآلهة المزيَّفة (١-٣).

2. شُبهاتهم حول القرآن، وردُّها (٤-٦).

3. شُبهاتهم حول الرسول، وردُّها (٧-١٠).

4. الدوافع الحقيقية وراء تكذيبهم (١١-١٩).

5. سُنَّة الله في اختيار المرسَلين، وعادة المكذِّبين (٢٠-٢٩).

6. شكوى الرسول من قومه، وتَسْليتُه (٣٠-٤٠).

7. الاستهزاء والسُّخْريَّة سلاح العاجز (٤١-٤٤).

8. الحقائق الكونية في القرآن من دلائل النُّبوة (٤٥-٥٥).

9. مهمة الرسول ونهجُه في دعوة المعانِدين (٥٦-٦٢).

10. ثمرات الرسالة الربانية (٦٣-٧٧).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /270).

مقصدُ السُّورة الأعظم: إظهارُ شَرَفِ الداعي صلى الله عليه وسلم؛ بإنذارِ المكلَّفين عامةً بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التامِّ، المدلول عليه بهذا القرآنِ المبين، المستلزم لأنه لا موجودَ على الحقيقة سِوى مَن أنزله؛ فهو الحقُّ، وما سِواه باطلٌ.

وتسميتُها بـ(الفُرْقان) واضحُ الدَّلالة على ذلك؛ فإن الكتابَ ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبِسات، وتمييزِ الحقِّ من الباطل؛ ليَهلِكَ مَن هلَك عن بيِّنة، ويَحيَى مَن حَيَّ عن بيِّنة؛ فلا يكون لأحدٍ على الله حُجَّةٌ، وللهِ الحُجَّة البالغة!

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /317).