ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الواحدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما عير المشركون رسول الله - ﷺ - بالفاقة، وقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حزن رسول الله - ﷺ -، فنزل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ...﴾ الآية. وأخرج ابن جرير نحوه من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿تَبَارَكَ﴾؛ أي: تزايد وتكاثر خير الإله وإحسانه، الذي من أجله وأعظمه إرسال الرسول، وإنزال القرآن. ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾؛ أي: أنزل القرآن إنزالًا متكررًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ محمد - ﷺ -. ﴿لِيَكُونَ﴾ ذلك العبد أو إنزال القرآن. ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾؛ أي: للمكلفين من الثقلين. ﴿نَذِيرًا﴾؛ أي: مخوفًا من عذاب الله تعالى. أو المعنى (١): تعالى الله الذي نزل القرآن على عبده الأخلص، ونبيه الأخص، وحبيبه الأعلى، وصفيه الأولى محمد المصطفى - ﷺ - في ذاته وصفاته وأفعاله. فتعالت ذاته من جواز التغير والفناء، وعن مشابهة شيء من الممكنات. وتعالت صفاته عن الحدوث، وأفعاله عن العبث. ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن، المنطوي علي جميع الخيرات الدينية والدنيوية. وفي الإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد - ﷺ -، في أقصى مراتب العبودية، وتشريف له بالعبدية المطلقة، وتفضيل له بها على جميع الأنبياء، فإنه تعالى لم يسم أحدًا منهم بالعبد مطلقًا، كقوله تعالى: ﴿عَبْدَهُ زَكَرِيَّا﴾ وتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدًا للمرسل، ردًا على النصارى. ولذا قدم في التشهد عبده على رسوله.
قال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير. وقال الفراء: إنَّ تبارك وتقدس في العربية واحد. ومعناهما العظمة. وقيل: المعنى: تبارك عطاؤه؛ أي: زاد وكثر. وقيل: المعنى؛ أي: دام وثبت. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة.
قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، وخص في هذا الموضع بالذكر، لأن ما بعده أمر عظيم، وهو القرآن المشتمل على معاني جميع كتب الله تعالى.
والفرقان القرآن، سمي فرقانًا، لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه، أو بين المحق والمبطل؛ أي: بين المؤمن والكافر، أو لأنه نزل مفرقًا في أوقات كثيرة. ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق. ثم علل التنزيل بقوله: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾؛ أي: ليكون (٢) العبد منذرًا بالقرآن للإنس والجن ممن عاصره، أو جاء بعده مخوفًا لهم من عذاب الله، وموجبات سخطه. والمراد بعبده محمد - ﷺ - كما مر. وبالعالمين هنا الإنس والجن. لأن النبي - ﷺ - مرسل إليهما فقط. فإن الملائكة، وإن كانوا من جملة أجناس العالم، إلا أن النبي - ﷺ - لم يكن رسولًا إليهم، فلم يبق من العالمين المكلفين إلا الجن والإنس، فهو رسول إليهما جميعًا، فتكون الآية وقوله عليه السلام: "أرسلت للخلق كافة" من العام المخصوص. ولم يبعث نبي غيره - ﷺ - إلا إلى قوم معينين. وأما نوح عليه السلام، فإنه وإن كان له عموم بعثة، لكن رسالته ليست بعامة لمن بعده. وأما سليمان عليه السلام، فإن كونه مبعوثًا إلى الجن وما كان له من التسخير العام.. لا يستلزم عموم الدعوة.
(٢) روح البيان.
وفي "المراغي": وإنما ذكر الإنذار ولم يذكر التبشير، مع أن الرسول مرسل بهما، من قبل أن السورة بصدد بيان حال المعاندين، المتخذين لله ولدًا، والطاعنين في كتبه ورسله واليوم الآخر. والنذير المنذر؛ أي: ليكون محمدًا منذرًا، أو ليكون إنزال القرآن منذرًا. ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة؛ أي: ليكون إنزاله إنذارًا، أو ليكون محمد إنذارًا. وجعل الضمير للنبي - ﷺ - أولى؛ لأن صدور الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز. والحمل على الحقيقة أولى. ولكونه أقرب مذكور. وقيل: إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.
وقرأ الجمهور (١): ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ بالإفراد، وهو محمد - ﷺ -. وقرأ ابن الزبير ﴿عَلَى عِبَادِهِ﴾؛ أي: الرسول وأمته، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ وقال: ﴿وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ وقرأ ابن الزبير: ﴿للعالمين الجن والإنس﴾ وهو تفسير للعالمين.
وخلاصة ذلك (٢): تعالى الله عما سواه، في ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن المعجز الناطق بعلو شأنه، وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم، والمصالح على عبده محمد - ﷺ - لينذر به الناس، ويخوفهم بأسه ووقائعه بمن خلا قبلهم من الأمم. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ﴾.
فائدة: لفظة تبارك (٣) كلمة لا تستعمل إلا لله تعالى بلفظ الماضي، وذكرت
(٢) المراغي.
(٣) فتح الرحمن.
الأول: عند ذكر الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾.
والثاني: عند ذكر النبي - ﷺ -: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾.
والثالث: عند ذكر البروج: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾.
ومثل هذه الآيات قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. ﴿تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ وخصت مواضعها بذكرها لعظم ما بعدها:
الأول: ذكر الفرقان، وهو القرآن المشتمل على معاني كتب الله تعالى.
والثاني: ذكر النبي - ﷺ -، ومخاطبة الله تعالى له فيه.
وفي الأثر: "لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات" وفي "كشف الخفاء": "لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك". قال الصغاني: هذا حديث موضوع. وكذلك قال "الشوكاني". قال العجلوني بعد ذكره الأثر. وأقول: لكن معناه صحيح، وإن لم يكن حديثًا.
والثالث: ذكر البروج والشمس والقمر والليل والنهار، ولولاها لما وجد في الأرض حيوان ولا نبات.
٢ - ثم وصف سبحانه نفسه بأربع صفات، من صفات الكبرياء:
الأولى: ذكرها بقوله: ﴿الَّذِي﴾ بدل من الموصول الأول، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الذي ﴿لَهُ﴾ خاصة دون غيره استقلالًا أو اشتراكًا ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الملك التصرف بالأمر والنهي في الجمهور؛ أي: له السلطان القاهر عليهما، فله القدرة التامة فيهما وفيما حوياه إيجادًا وإعدامًا، وأمرًا ونهيًا بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
والصفة الثانية: ذكرها بقوله: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾؛ أي: لم ينزل أحدًا منزلة ولد، فهو عطف على الصلة. وهذا رد على اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب؛ أي: ولم يكن له ولد ليرث ملكه؛ لأنه حي لا يموت، كما زعم الذين
والصفة الثالثة: ذكرها بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ﴾ سبحانه ﴿شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾؛ أي: في ملك السماوات والأرض، لينازعه أو ليعاونه في الإيجاد. فهو تأكيد لقوله: ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية، وأهل الشرك الخفي؛ أي: وما كان لله سبحانه شريك في ملكه وسلطانه، يصلح أن يعبد من دونه، فأفردوا له العبادة، وأخلصوها له دون كل ما تعبدون من دونه من الآلهة والملائكة والجن والإنس. وفيه أيضًا رد على المشركين العرب، القائلين في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو ملك.
والصفة الرابعة: ذكرها بقوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ من الموجودات؛ أي: أحدث (١) وأوجد كل موجودات، من مواد مخصوصة على صور معينة، ورتب فيه قوى وخواص مختلفة الأحكام والآثار ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾؛ أي: فهيأه لما أراده منه، من الخصائص والأفعال اللائقة به، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، ومزاولة الأعمال المختلفة. وهكذا أحوال سائر الأنواع.
والمعنى: أي (٢) وأوجد كل شيء بحسب ما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة، وهيأه لما أراد به من الخصائص، والأفعال التي تليق به، فأعد الإنسان للإدراك والفهم والتدبر، في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصناعات المختلفة، والانتفاع بما في ظاهر الأرض وباطنها. وأعد صنوف الحيوان للقيام بأعمال مختلفة تليق بها ولإدراكها.
(٢) المراغي.
وفي "فتح الرحمن" إن قلت: الخلق (١) هو التقدير. ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾ فكيف جمع بينهما؟
قلت: الخلق من الله هو إيجاد، فصح الجمع بينه وبين التقدير.. ولو سلم أنه التقدير، لساغ الجمع بينهما لاختلافهما لفظًا. كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ انتهى.
٣ - ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان. فقال: ﴿وَاتَّخَذُوا﴾؛ أي: واتخذ المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه؛ أي: واتخذوا لأنفسهم وجعلوا لها ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى ﴿آلِهَةً﴾؛ أي: معبودات يعبدونها من دونه تعالى؛ أي: جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله آلهة. ﴿لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا﴾؛ أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء أصلًا. والجملة في محل نصب صفة لآلهة، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح.
﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم مخلوقون لله سبحانه وتعالى، فكيف تُتخذ آلهة؟ وقيل: عبر عن الآلهة بضمير العقلاء، جريًا على اعتقاد الكفار، أنها تضر وتنفع. وقيل معنى: ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أن عبدتهم يصورونهم. وقال (٢) هنا: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ بالضمير، وفي مريم ويس ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ بلفظ الجلالة. حيث قال في مريم: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)﴾ وفي يس: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤)﴾ موافقة لما قبله في المواضع الثلاثة.
ثم لما وصف الله سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة.. وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ. فقال: ﴿وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: لا يستطيعون ﴿ضَرًّا﴾؛
(٢) فتح الرحمن.
وفي "فتح الرحمن": قدم (١) الضر على النفع لمناسبة ما بعده، من تقديم الموت على الحياة. انتهى. ثم زاد في بيان عجزهم، فنصَّصَ على هذه الأمور. فقال: ﴿وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾؛ أي: لا يقدرون على إماتة الأحياء. وإحيائهم أولًا وبعثهم ثانيًا. ومن كان كذلك، فبمعزل عن الألوهية، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها.
وفيه (٢) تنبيه على أن الإله، يجب أن يكون قادرًا على البعث والجزاء، يعني أن الضار والنافع والمميت والمحيي والباعث هو الله سبحانه، فهو المعبود الحقيقي، وما سواه فليس بمعبود بل عابد لله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣)﴾.
وفي الآية إشارة إلى الأصنام المعنوية، وهم المشايخ المدعون، والدجاجلة المضلون، فإنهم ليسوا بقادرين على إحياء القلوب، وإماتة النفوس، فالتابعون لهم في حكم عابدي الأصنام. فليحذر العاقل من اتخاذ أهل الهوى متبوعًا، فإن الموت الأكبر الذي هو الجهل، إنما يزول بالحياة الأشرف الذي هو العلم. فإن كان للعبد مدخل في إفادة الخلق، العلم النافع، ودعاؤهم إلى الله على بصيرة.. فهو الذي رقى غيره من الجهل إلى المعرفة، وأنشأه نشأة أخرى، وأحياه حياة طيبة بإذن الله تعالى. وهي رتبة الأنبياء ومن يرثهم من العلماء العاملين. وأما من سقط عن هذه الرتبة، من الجهلة الذين اتخذهم الناس سادةً، لنسبهم إلى العلماء، فليس الاستماع إلى كلامه إلا كاستماع بني إسرائيل إلى صوت العجل.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾؛ أي: كونوا في جملة الصادقين ومصاحبين لهم وبعضهم ولذا قالوا يلزم المرء أن يختار من البقاء أحسنها دينًا،
(٢) روح البيان.
اللهم بحق الفرقان اجعلنا مع الصادقين من الإخوان.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى (١) بين ما بآلهتهم من النقائص من وجوه متعددة:
الأولى: أنها لا تخلق شيئًا. والإله يكون قادرًا على الخلق والإيجاد.
والثاني: أنها مخلوقة. والمخلوق محتاج. والإله يجب أن يكون غنيًا عن كل ما سواه.
والثالث: أنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، فضلًا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك، فلا فائدة في عبادته وإجلاله وتعظيمه.
والرابع: أنها لا تقدر على التصرف في شيء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى، وبعثهم من قبورهم. ومن كان كذلك، فكيف يسمى إلهًا، وتعطى له خصائص الآلهة، من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله.
وعلى الجملة (٢) فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق، المالك لكل شيء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه. وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله، من له مسكنه من عقل، ولا أثارة من علم.
٤ - ولما فرغ الله سبحانه من بيان التوحيد، وتزييف مذاهب المشركين.. شرع في ذكر شبه منكري النبوة. فالشبهة الأولى: ما حكاه عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة، كنضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ومن تابعهم ﴿إِنْ هَذَا﴾؛ أي: ما هذا القرآن ﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾؛ أي (٣): كذب مصروف
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿وَأَعَانَهُ﴾؛ أي: وأعان محمدًا ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على اختلاقه ﴿قَوْمٌ آخَرُونَ﴾؛ أي: قوم غير قومه؛ أي: اليهود فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم الماضية، وهو يعبر عنها بعبارته. قال الكلبي (١) ومقاتل: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، فهو الذي قال هذا القول. وقال: أعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضري، وجبر مولى عامر، وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرأون التوراة، ويحدثون أحاديث منها في مكة، فلما أسلموا، كان النبي - ﷺ - يتعهدهم، ويختلف إليهم، فزعم النضر وأصحابه، أنهم يلقون إليه - ﷺ - أخبار الأمم الماضية، وهو - ﷺ - يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى إعانتهم له، فمن أجل ذلك قال النضر ما قال. فرد الله تعالى ذلك بقوله: ﴿فَقَدْ جَاءُوا﴾؛ أي: قائلوا هذه المقالة؛ أي: فعلوا بما قالوا ظلمًا وزورًا.
والمعنى: أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله تعالى، بل اختلقه محمد - ﷺ -، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب، ممن أسلموا وكان يتعهدهم، ويختلف إليهم (تقدم ذكر أسمائهم) فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته، وأسلوبه الخاص، فرد الله عليهم مقالهم فقال: ﴿فَقَدْ جَاءُوا﴾؛ أي: فعلوا بما قالوا، فإن جاؤوا أتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته ﴿ظُلْمًا﴾ عظيمًا بجعل الكلام المعجز إفكًا مختلفًا مفتعلًا من اليهود، يعني: وضعوا الإفك في غيره. ﴿وَزُورًا﴾؛ أي: كذبًا كبيرًا، حيث نسبوا إليه - ﷺ - ما هو
٥ - وبعد أن حكى عنهم قولهم في الافتراء، بإعانة قوم آخرين عليه.. حكى عنهم طريق تلك الإعانة بقوله: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وهذه هي الشبهة الثانية؛ أي: وقال الذين كفروا في حق القرآن، وهذا القرآن الذي جاء به محمد - ﷺ -، أساطير الأولين؛ أي: ما سطره (٢) وكتبه المتقدمون من الخرافات والأباطيل والأحاديث التي لا نظام لها مثل حديث رستم واسفنديار. ﴿اكْتَتَبَهَا﴾؛ أي: انتسخها محمد - ﷺ -، من جبر ويسار وعداس؛ أي: أمر أن تكتب له؛ لأنه - ﷺ - كان لا يكتب، وهو كاحتجم وافتصد إذا أمر بذلك؛ أي: أمرهم بكتابتها له، وقراءتها عليه ليحفظها، لأنه أمي. ﴿فهي﴾؛ أي: فتلك الأساطير. ﴿تُمْلَى عَلَيْهِ﴾؛ أي: تلقى على محمد - ﷺ -، وتقرأ عليه، بعد اكتتابها وانتساخها، ليحفظها من أفواه من يمليها عليه، لكونه أميًا، لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة والإملاء في الأصل حكاية القول لمن يكتبه. وهنا القراءة عليه من المكتوب.
﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾؛ أي: أول النهار وآخره؛ أي: دائمًا أو خفيةً قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم.
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): اكتتبها له كاتب؛ لأنه كان أميًا لا يكتب. ثم حذفت اللام، فأفضي الفعل إلى الضمير، فصار اكتتبها إياه، ثم بني الفعل للضمير الذي هو إياه، فانقلب مرفوعًا مستترًا، بعد أن كان منصوبًا بارزًا، كذا قال في "الكشاف". واعترضه أبو حيان. وقرأ (٣) طلحة وعيسى ﴿فهي تتلى﴾ بالتاء بدل الميم.
والمعنى: أي (٤) وقال المشركون: الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى؛ أي: ما هذا الذي يقرأه محمد - ﷺ - إلا أحاديث الأولين، الذين كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها من اليهود، فهي تستنسخ منهم، وتقرأ عليه ليحفظها غدوةً وعشيًا؛ أي: قبل انتشار الناس، وحين يأتون إلى مساكنهم. وقد عنوا بذلك، أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾. وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائمًا.
٦ - ثم أمره الله سبحانه وتعالى، بإجابتهم عمّا قالوا بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد - ردًا وتحقيقًا للحق -، ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين، بل هو أمر سماوي. ﴿أَنْزَلَهُ﴾ الإله ﴿الَّذِي يَعْلَمُ السِّرّ﴾ والغيب ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لا يعزب عن علمه شيء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته. كما أخبركم فيه بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة، لا يعلمها إلا عالم الأسرار ولا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير، فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟
وخص السر (٥) إشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة، لا تبلغ
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
(٥) الشوكاني.
واعلم: أن الله تعالى أنزل القرآن على وفق الحكمة الأزلية في رعاية مصالح الخلق؛ ليهتدي به أهل السعادة، وليضِلَّ به أهل الشقاوة، وينسبوه إلى الإفك، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ والقرآن لا يدرك إلا بنور الإيمان. والكفر ظلمة. وبالظلمة لا يرى إلا الظلمة، فبظلمة الكفر؛ أي: الكفار القرآن النوراني القديم كلامًا مخلوقًا ظلمانيًا من جنس كلام البشر، فكذلك أهل البدعة.. لما رأوا القرآن بظلمة البدعة، رأوا كلامًا مخلوقًا ظلمانيًا بظلمة الحدوث، وظلموا أنفسهم بوضع القرآن في غير موضعه من كلام البشر. وفي الحديث: "القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، فمن قال بكونه مخلوقًا فقد كفر بالذي أنزله". نسأل الله العصمة والحفظ من الإلحاد وسوء الاعتقاد.
٧ - ولما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن.. ذكر ما طعنوا به على رسول الله - ﷺ -، وذكر هنا أن المشركين ذكروا خمس صفات للنبي - ﷺ -، تمنع النبوة في زعمهم. ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: وقال المشركون من أشراف قريش، كأبي جهل وعتبة وأمية وعاص وأمثالهم. وذلك حين اجتماعهم عند ظهر الكعبة. ﴿ما﴾ استفهامية، بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، في محل الرفع على الابتداء خبرها قوله: ﴿لهَذَا الرَّسُولِ﴾ وجدت اللام مفصولة عن الهاء في المصحف، واتباعه سنة.
وما هذا (١) منهم إلا لضعف عقولهم، وقصور إدراكهم، فإن الرسل لم يمتازوا بأمور حسية، بل بصفات روحية، وفضائل نفسية، فطرهم الله تعالى عليها. توجب صفاء عقولهم وطهارة نفوسهم يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
قال بعضهم (٢): ليس بَمَلكٍ، ولا مَلِكٍ، وذلك؛ لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، والملوك لا يتسوقون ولا يبتذلون، فعجبوا أن يكون مثلهم في الحال، ولا يمتاز من بينهم بعلو المحل والجلال لعدم بصيرتهم وقصور نظرهم على المحسوسات، فإن تمييز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية، وإنما هو بأحوال نفسانية، فالبشرية مركب الصورة. والصورة مركب القلب. والقلب مركب العقل. والعقل مركب الروح. والروح مركب المعرفة، والمعرفة قوة قدسية صدرت عن كشف عين الحق.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أن الكفار صم بكم عمي، فهم لا يعقلون؛ لأنهم نظروا إلى الرسول بنظر الحواس الحيوانية، وهم بمعزل من الحواس الروحانية والربانية. فما رأوا منه إلا ما يرى من الحيوان، وما رأوه بنظر يرى به النبوة والرسالة، ليعرفوه أنه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
وقالوا أيضًا: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾، ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلا؛
(٢) روح البيان.
قرأ الجمهور: بالنصب، وقرىء ﴿فتكون﴾ بالرفع، حكاه أبو معاذ عطفًا على ﴿أنزل﴾؛ لأن ﴿أنزل﴾ في موضع رفع، وهو ماض وقع موقع المضارع؛ أي: هلا ينزل إليه ملك، أو هو جواب التحضيض على إضمار هو؛ أي: فيكون ذلك الملك ﴿مَعَهُ﴾؛ أي: مع محمد - ﷺ - ﴿نَذِيرًا﴾؛ أي: منذرًا للناس مخوفًا لهم من عذاب الله تعالى، معينًا له في الإنذار، معلومًا صدقه بتصديقه.
٨ - ﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ﴾ معطوف على ﴿أنزل﴾، ولا يجوز عطفه على ﴿فيكون﴾؛ أي: أو هلا يلقى إلى محمد - ﷺ - كنز ومال كثير من السماء، يستظهر به ويستغنى به عن المشي في الأسواق لتحصيل المعاش، والكنز: المال المكنوز؛ أي: المجموع المحفوظ.
﴿أَوْ﴾ هلا ﴿تَكُونُ لَهُ﴾؛ أي: لمحمد - ﷺ - ﴿جَنَّةٌ﴾ وبستان ﴿يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ من ثمارها، ويعيش من غلته كما يعيش المياسير من الناس؛ أي: إن لم يلق إليه كنز، فلا أقل من أن يكون له بستان يتعيش بغلته كما لأهل الغنى والقرى.
قال صاحب "الكشاف": إنهم طلبوا أن يكون الرسول ملكًا، ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك يعينه، ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودًا بكنز. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل ويرزق منه. اهـ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وتكون له جنة﴾ بالتاء الفوقية. وقرأ الأعمش وقتادة ﴿يكون﴾ بالتحتية؛ لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي وابن وثاب وطلحة والأعمش: ﴿نَّأْكُلُ مِنْهَا﴾ بنون الجمع؛ أي: يأكلون هم من ذلك البستان فينفقون به في دنياهم ومعاشهم، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: ﴿يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ بياء الغيبة، يعنون الرسول - ﷺ -؛ أي:
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنبه بن الحجاج، اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعتذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله - ﷺ - فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعتذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث، تطلب مالًا، جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف، فنحن نسودك، وإن كنت تريد ملكًا، ملكناك. فقال رسول الله - ﷺ -: "ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن بعثني إليكم رسولًا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به.. فهو حظكم في الدنيا والآخرة. وإن تردوه علي.. أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم". قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا، مما عرضناه عليك.. فسل لربك وسل لنفسك أن يبعث معك ملكًا يصدقك فيما تقول، ويراجعنا عنك. وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش، كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولًا كما تزعم. فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا"، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر.
وبعد أن (١) حكى عنهم أولًا أنهم يثبتون له كمال العقل، ولكنهم ينتقصونه
قال بعض أهل الحقائق: كانوا يرون قبح حالهم في مرآة النبوة، وهم بحسبون أنه حال النبي عليه السلام. وقيل: ذا سُحْرُ، وهي الرئة؛ أي: بشرًا له رئة لا ملكًا، والمعنى: أي: ما تتبعون إلا رجلًا سُحِرَ فاختل عقله، فهو لا يعني ما يقول، ومثله لا يطاع له رأي. وهذا منهم ترق في انتقاصه، وأنه لا يصلح للنبوة بحال.
٩ - ولما ذكر ضلالاتهم.. التفت إلى رسوله - ﷺ - مسليًا له بقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: أنظر واعجب لهم يا محمد، كيف ضربوا لك، وقالوا فيك تلك الأمثال الفاسدة، والأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الأحوال الشاذة البعيدة عن الوقوع، ليتوصلوا بها إلى تكذيبك. وذلك من جهلهم بحالك، وغفلتهم عن جمالك.
والأمثال: هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هنا ﴿فَضَلُّوا﴾ بسببها عن الحق، ضلالًا بعيدًا، فلا يجدون طريقًا إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاؤوا بهذه المقالات الزائغة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزًا. ولهذا قال تعالى: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ إلى الهدى ومخرجًا عن ضلالتهم. قال بعضهم: وقد أبطلوا الاستعداد بالاعتراض والإنكار على النبوة،
والمعنى: أي (١) انظر واعجب لهم كيف جرؤوا على التفوه بتلك الأقاويل العجيبة، فاخترعوا لك صفات وأحوالًا بعيدة كل البعد عن صفاتك التي أنت عليها، فضلوا بذلك عن طريق الهدى، وصاروا حائرين لا يدرون ماذا يقولون، ولا يقدحون به في نبوتك إلا مثل السخف والهذر.
والخلاصة: أن ما أتوا به لا يصلح أن يكون قادحًا في نبوتك، ولا مطعنًا فيك، فإن كان لهم مطعن في المعجزات التي أتيت بها فليفعلوا، ولكن أنى لهم ذلك.
١٠ - ثم رد على ما اقترحوه من الجنة والكنز بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ أي تزايد وكثر خير ربك الذي ﴿إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ﴾ أي وهب لك في الدنيا، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة ﴿خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾؛ أي: إعطاءً خيرًا مما قالوا أو اقترحوا من إلقاء الكنز وجعل الجنة، ولكن أخره إلى الآخرة؛ لأنه خير وأبقى.
وخص (٢) هذا الموضع بذكر تبارك؛ لأن ما بعده من العظائم حيث ذكر النبي - ﷺ - والله خاطبه بقوله: "لولاك يا محمد ما خلقت الكائنات" كذا في "برهان القرآن". قلت: هذا الأثر من الموضوعات لا أصل له كما مر.
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ بدل من خيرًا، ومحقق لخيريته مما قالوا؛ لأن ذلك كان مطلقًا، عن قيد التعدد وجريان الأنهار. ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ﴾ في الدنيا ﴿قُصُورًا﴾؛ أي: بيوتًا مشيدة؛ أي: رفيعة كقصور الجنة. وجملة ﴿يجعل﴾ معطوفة على محل الجزاء الذي هو جعل، وهو الجزم وبجزم يجعل.
قرأ الجمهور (٣): نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو قالوا عطفًا على موضع جعل؛ لأن التقدير: إن يشأ يجعل. وقرأ ابن كثير وابن عامر، وأبو بكر ومجاهد وحميد ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع على أنه مستأنف، وقد تقرر في علم
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط والشوكاني.
وقرىء بإدغام لام ﴿يجعل﴾ في لام لك، لاجتماع المثلين. وقرىء بترك الإدغام، لأن الكلمتين منفصلتان.
والحاصل: أنه قرىء ﴿يجعل﴾ بالجزم والرفع والنصب. ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة:
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُوْ قَابُوْسَ يَهْلِكْ | رَبِيْعُ النَّاسِ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ |
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ | أَجَبِّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سِنَامُ |
والمعنى: أي كثر (١) خير ربك، فإن شاء وهب لك في الدنيا خيرًا مما اقترحوا، فان أراد جعل لك في الدنيا مثل ما وعدك به في الآخرة، فأعطاك جنات تجري من تحتها الأنهار، وآتاك القصور الشامخة، والصياصي التي لا يصل إلى مثلها أكثرهم مالًا وأعزهم نفرًا، ولكن الله لم يشأ ذلك؛ لأنه أراد أن عطاءه لك في الدار الباقية الدائمة، لا في الدار الزائلة الفانية. وإنما كانت خيرًا مما ذكروا لكثرتها، وجريان الأنهار من تحت أشجارها، وبناء المساكن الرفيعة فيها، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصرًا.
تنبيه: وفي قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ...﴾ الآية. إشارة إلى أنه تعالى يعطي العباد على حسب المصالح، فيفتح على بعضهم أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا. ويفتح على آخرين أبواب الرزق، ويحرمه لذة الفهم والعلم، ولا اعتراض عليه؛ لأنه فعال لما يريد.
والمعنى: أي (٢) ما أنكر هؤلاء المشركون ما جئتهم به من الحق، وتقولوا عليك ما تقولوا، إلا من قبل أنهم لا يوقنون بالبعث، ولا يصدقون بالثواب والعقاب.
والخلاصة: أنهم أتوا بأعجب من هذا كله، وهو تكذيبهم بالساعة، ومن ثم فهم لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها. ثم توعدهم وبين عاقبة أمرهم وما كتب لمثلهم من الخيبة والخذلان. فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾؛ أي: هيأنا وأحضرنا. وأصله أعددنا ﴿لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ﴾؛ أي: بالبعث والحشر والنشر والحساب والجزاء. وضع (٣) الظاهر موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع.
﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا عظيمة شديدة الاشتعال تسعر وتتقد عليهم. قال بعضهم: سعير الآخرة، إنما سعرت من سعير الدنيا وهي حرص العبد على الدنيا، وملاذها
١٢ - ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾ صفة للسعير؛ أي: إذا (٤) كانت تلك السعير بمرأىً منهم، وقابلتهم بحيث صاروا بإزائها، كقولهم داري تنظر دارك؛ أي: تقابلها، فأطلق الملزوم، وهو الرؤية وأريد اللازم، وهو كون الشيء بحيث يرى، والانتقال من الملزوم إلى اللازم مجاز.
والمعنى: إذا قابلتهم تلك السعير، أو المعنى: إذا رأتهم رؤية حقيقية بعينها، كما جاء في حديث: "أن لها عينين" ولا مانع منه. اهـ. "شيخنا".
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
فإن قلت (١): كيف تتصور الرؤية من النار، وهو قوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾؟
قلت: يجوز أن يخلق الله لها حياةً وعقلًا ورؤيةً ونطقًا فالبنية ليست شرطًا. قال بعضهم: وهذا هو الحق، كما يدل عليه، قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ فلا حاجة إلى تأويل أمثال هذا المقام.
﴿سَمِعُوا لَهَا﴾؛ أي: للنار ﴿تَغَيُّظًا﴾؛ أي: غليانًا ﴿وَزَفِيرًا﴾؛ أي: صوتًا كصوت الحمار. وقيل: تغيظًا؛ أي: صوت تغيظ وغضب على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ؛ أي: الغضبان إذا غلى صدره من الغيظ، فعند ذلك يهمهم. والهمهمة ترديد الصوت في الصدر.
فإن قلت: كيف يسمع التغيظ الذي هو بمعنى الغضب؟
قلت: في الكلام تقديم وتأخير وتقدير. والمعنى: إذا رأتهم سمعوا لها زفيرًا، وعلموا لها تغيظًا. نظير قول الشاعر:
وَرَأيْتُ زَوْجَكِ فِيْ الْوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا |
أخرج ابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال: إن جهنم لتزفر زفرةً، لا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام، ليحثوا على ركبتيه. ويقول رب، لا أسألك اليوم إلا نفسي.
١٣ - ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا﴾؛ أي: من السعير ﴿مَكَانًا﴾؛ أي: في مكان. ومنها بيان
واعلم: أنه تضيق عليهم جهنم، كما تضيق حديدة الرمح على الرمح، أو تكون لهم كحال الوتد في الحائط، فيضم العذاب، وهو الضيق الشديد إلى العذاب، وذلك لتضيق قلوبهم في الدنيا حتى لم تسع فيها للإيمان.
أي: وإذا ألقوا وطرحوا في مكان ذا ضيق منها حالة كونهم ﴿مُقَرَّنِينَ﴾؛ أي: حالة كونهم قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم مشدودة إليها بسلسلة، أو مقرنين مع شياطينهم سلسلة في سلسلة. والتقرين تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق في السلاسل. اهـ. "صاوي".
﴿دَعَوْا هُنَالِكَ﴾؛ أي: نادوا في ذلك المكان الضيق الهائل والحالة الفظيعة ﴿ثُبُورًا﴾ هلاكًا؛ أي: يتمنون هلاكًا وينادونه، فيقولون: يا ثبوراه، يا ويلاه، يا هلاكاه، تعال فهذا أوانك.
١٤ - فيقول الله تعالى لهم، أو فيقال لهم على ألسنة الملائكة، تنبيهًا على خلود عذابهم: ﴿لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا﴾؛ أي: لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد، أي على مرة واحدة. ﴿وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾؛ أي: بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد.
والمعنى (٢): لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحدًا، وادعوه أدعية كثيرة، فإنَّ ما أنتم فيه من العذاب، أشد من ذلك لطول مدته، وعدم تناهيه، ومستوجب لتكرير الدعاء في كل آن.
وقيل: هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك، من غير أن يكون هناك قول.
وقيل: إن المعنى أنكم وقعتم فيما أليس ثبوركم فيه واحدًا، بل هو ثبور كثير؛ لأن العذاب أنواع. والأولى أن يقال: إن المراد بهذا الجواب عليهم
(٢) الشوكاني.
وقرأ ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو (١): ﴿ضيقًا﴾. عن ابن عطية، وقرأ أبو شيبة صحاب معاذ بن جبل (مقرنون) بالواو، وهي قراءة شاذة. والوجه قراءة الجمهور ونسبها ابن خالويه إلى معاذ بن جبل، ووجهها أن يرتفع على البدل من ضمير ألقوا بدل نكرة من معرفة. وقرأ عاصم الجحدري وابن السميقع وعمرو بن محمد ﴿ثبورًا﴾، بفتح الثاء المثلثة في ثلاثتها. وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو البتول.
والمعنى: أي (٢) وإذا ألقوا منها، في مكان ضيق، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل.. استغاثوا، وقالوا: يا ثبوراه؛ أي: يا هلاكنا احضر فهذا وقتك. فيقال لهم: لا تنادوا هلاكًا واحدًا وادعوا هلاكًا كثيرًا؛ أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم واحدًا، إنما ثبوركم منه كثير، لأن العذاب ألوان وأنواع، ولكل منها ثبور لشدته وفظاعته.
وخلاصة ذلك: أن الله سبحانه، قد أعد لمن كذب بالساعة نارًا مستعرة، وإذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد.. سمعوا صوت غليانها، وإذا طرحوا في مكان ضيق، وهم مقرنون في السلاسل والأغلال.. تمنوا الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه. كما قيل: أشد من الموت ما يتمنى منه الموت، فيقال لهم حينئذٍ: لا تدعوا هلاكًا واحدًا، فإنه لا يخلصكم، بل اطلبوا هلاكًا كثيرًا لتخلصوا به. والمقصد من ذلك تيئيسهم مما علقوا به أطماعهم من الهلاك. وتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص لهم منه.
وروى (٣) أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أول من يكسى من أهل النار، يوم القيامة، إبليس، يكسى حلة من النار فيضعها على حاجبيه، ويسحبها
(٢) المراغي.
(٣) زاد المسير.
١٥ - وبعد أن وصف سبحانه عقاب المكذبين بالساعة.. أردفه ما يؤكد حسرتهم وندامتهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المكذبين توبيخًا لهم وتقريعًا ﴿أَذَلِكَ﴾ العذاب المذكور من النار المسعرة الموصوفة بالصفات السابقة. والإشارة بقوله: ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات الفظيعة؛ أي: أتلك السعير ﴿خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ والدوام ﴿الَّتِي وُعِدَ﴾ ها ﴿الْمُتَّقُونَ﴾ خير؛ أي: المتصفون بمطلق التقوى، التي هي اجتناب الشرك، فالمؤمن، وإن كان عاصيًا فهو متق لاتقائه الشرك. وجنة الخلد هي الدار التي لا ينقطع نعيمها، ولا ينقل عنها أهلها، وإضافة (١) الجنة إلى الخلد للمدح، وإلا فالجنة اسم للدار المخلدة. ويجوز أن تكون الجنة اسمًا يدل على البستان الجامع لوجوه البهجة، ولا يدخل الخلود في مفهومها، فأضيفت إليه للدلالة على الخلود، فإن قيل: كيف يتصور الشك في أنه أيهما خير، حتى يحسن الاستفهام والترديد، وهل يجوز للعاقل أن يقول السكر أحلى أم الصبر، وهو دواء مر؟ قلت: يقال: ذلك في معرض التقريع والتهكم والتحسير على ما فات. وفي "الوسيط" هذا للتنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين، لا على أن في السعير خيرًا. اهـ.
وقال بعضهم: هذا على المجاز، وإن لم يكن في النار خير. والعرب تقول العافية خير من البلاء، وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم. وقيل: ليس (٢) هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن كما قال الشاعر:
أَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ | فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ |
(٢) الشوكاني.
فإن قلت (١): كيف قال: في وصف الجنة، كانت لهم جزاءً، بصيغة الماضي، مع أنها لم تكن حينئذٍ جزاءً ومصيرًا؟
قلت: إنما قال ذلك؛ لأن ما وعد الله به، فهو في تحققه كأنه قد كان، فلا بد من وقوعه، أو لأنه كان في اللوح المحفوظ أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
والمعنى: قل يا محمد (٢) لهؤلاء المكذبين تهكمًا بهم، وتحسيرًا لهم على ما فاتهم، أهذه النار التي وصفت لكم خيرًا أو جنة الخلد التي يدوم نعيمها ولا يبيد وقد وعدها من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما به أمره أو نهاه. ثم حقق أمرها تأكيدًا للبشارة بقوله: ﴿كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا﴾؛ أي: كانت تلك الجنة لهم جزاء أعمالهم في الدنيا بطاعته، وثوابًا لهم على تقواه، ومرجعًا لهم ينتقلون إليه في الآخرة.
١٦ - ثم وصف مقدار تنعمهم فيها بقوله: ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك المتقين ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في جنة الخلد ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾؛ أي: ما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ونحو ذلك، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فإن قلت (٣): قد يشتهي الإنسان شيئًا، وهو لا يحصل في الجنة، كأن يشتهي الولد ونحوه، وليس هو في الجنة؟
قلت: إن الله سبحانه يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيها من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيرها. أو المعنى: لهم (٤) فيها ما يشاؤونه من أنواع النعيم واللذات مما يليق بمرتبتهم، فإنهم بحسب نشأتهم لا يريدون درجات من فوقهم، فلا يلزم تساوي مراتب أهل
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
(٤) روح البيان.
والحاصل: أن عموم الآية، إنما هو بالنسبة إلى المتعارف، ولذا قال بعضهم: في الآية دليل، على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة، ولما لم تكن اللواطة مرادًا في الدنيا للطيبين، فكذا في الآخرة حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾ فيها أبدًا بلا انقطاع ولا زوال. حال من الهاء في لهم، أو من الواو في يشاؤون. قيد بالخلود، لأن من تمام النعيم أن يكون دائمًا، إذ لو انقطع لكان مشوبًا بضرب من الغم. وأنشد في المعنى:
أَشَدُّ الْغَمَّ عِنْدِيْ فِيْ سُرُوْرٍ | تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ |
١٧ - وقوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ كلام متصل في المعنى بقوله: في أول السورة: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ الخ وتعلق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد؛ أي: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم، يحشر الله سبحانه وتعالى فيه، والذين اتخذوا من دونه آلهة، ويجمعهم ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ من
أي: واذكر يوم يحشر الله العابدين لغير الله، ومعبوديهم، ويجمعهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة ﴿فَيَقُولُ﴾ الله سبحانه وتعالى للمعبودين ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ﴾ العابدين لكم عن عبادتي، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وأمرتموهم بها ﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ الحق؛ أي: تركوها وعبدوكم بهوى أنفسهم؛ أي: أخطؤوا عن الطريق المستقيم بأنفسهم، لإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن المرشد النصيح، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ والأصل إلى السبيل، أو للسبيل، والاستفهام (١) في قوله: ﴿أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ للتوبيخ والتقريع.
والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم، وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم، لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق، والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن كثير وحفص عن عاصم (٢) ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾ و ﴿فَيَقُولُ﴾ بالياء فيهما. واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام على ربك. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر؛ بالنون فيهما على التعظيم. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ﴿نحشرهم﴾ بالنون ﴿فَيَقُولُ﴾ بالياء. وقرأ الأعرج (٣) ﴿نحشرهم﴾ بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وهذا ليس كما ذكروا، بل فعل المفتوح المتعدي الصحيح، جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولا حلقي عين، ولا لام، فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرًا، فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع، وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا، خير فيهما، سُمع للكلمة أو لم يُسمع.
١٨ - وقوله: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المعبودون، كلام مستأنف، واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل: قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ هو تعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة، أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل؛ أي: تعجبًا مما قيل فينا ونسب إلينا، أوتنزيه لله تعالى عن الأنداد؛ أي: تنزيهًا لك يا إلهنا عن الشركاء. ﴿مَا كَانَ﴾ الشأن. ﴿يَنْبَغِي﴾ ويستقيم ﴿لَنَا﴾ ويليق بنا، ويصح منا ﴿أَنْ نَتَّخِذَ﴾ ونجعل لأنفسنا ﴿مِنْ دُونِكَ﴾؛ أي: متجاوزين إياك ﴿مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: آلهة نعبدهم.
أي (١): ما كان ينبغي لنا أن نتخذ لأنفسنا آلهة من دونك، فكيف ندعوا عبادك إلى عبادتنا نحن، مع كوننا لا نعبد غيرك، فدل هذا الجواب، على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وهذا معنى الآية على قراءة الجمهور ﴿نَتَّخِذَ﴾ مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن جبير والحسن وقتادة وأبو جعفر وابن يعمر وعاصم الجحدري وأبو الدرداء وزيد بن ثاب وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر ومكحول وحفص وعبيد والنخعي والزعفراني وغيرهم ﴿أن نتخذ﴾ بضم النون وفتح الخاء مبنيًا للمفعول. والمعنى عليه؛ أي: ما كان ينبغي لنا، أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك.
قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة. ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. وقال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة، لأن الله
وفي "الروح": إنَّ ﴿مِنْ﴾ الثانية زائدة، لتأكيد النفي، وأولياء مفعول به لـ ﴿نَتَّخِذَ﴾. وهو من اتخذ الذي يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾.
والمعنى (١): ما كان ينبغي لنا، أن نتخذ من دونك معبودين، نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له، وهي العصمة، أو عدم القدرة، فأنى يتصور أن نحمل غيرنا، أن يتخذ وليًا غيرك، فضلًا عن أن يتخذنا وليًا. قال ابن الشيخ: جعل قولهم: ما كان ينبغي لنا... إلخ كناية عن استبعاد، أن يدعوا واحدًا إلى اتخاذ ولي دونه؛ لأن نفس قولهم: بصريحه لا يفيد المقصود، وهو نفي ما نسب إليهم، من إضلال العباد، وحملهم على اتخاذ الأولياء، من دون الله تعالى.
وفي "التأويلات النجمية": نزهوا الله عن أن يكون له شريك، ونزهوا أنفسهم عن أن يتخذوا وليًا غير الله، ويرضوا لغيرهم، أن يعبدوا غير الله.
ثم حكى عنهم سبحانه، بأنهم بعد هذا الجواب، ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان، فقال: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ﴾؛ أي: ما أضللناهم، ولكن جعلتهم وآباءهم متمتعين منتفعين بالغمر الطويل، وأنواع النعم ليعرفوا حقها، ويشكروها، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها. ﴿حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾؛ أي: غفلوا عن ذكرك، وتركوا ما وعظوا به، أو غفلوا عن التذكر لآلائك، والتدبر في آياتك، فجعلوا أسباب الهداية بسوء اختيارهم ذريعة إلى الغواية، وفي هذا نسبة الضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم وإسناد له إلى ما فعل الله بهم، فحملهم عليه
والمعنى (١): ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم، ومتعت آبائهم بالنعم، ووسعت لهم العمر، حتى غفلوا عن ذكرك، ونسوا موعظتك، والتدبر لكتابك، والنظر في عجائب صنعك، وغرائب مخلوقاتك. ﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: وكان هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزلي ﴿قَوْمًا بُورًا﴾؛ أي: هالكين، فاسدي القلوب، خاسرين في الدنيا والآخرة. جمع بائر. مأخوذ من البوار، وهو الهلاك.
١٩ - فيقول الله سبحانه وتعالى للعابدين: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾؛ أي: فقد كذبكم المعبودون، أيها العابدون ﴿بِمَا تَقُولُونَ﴾؛ أي: في قولكم إنهم آلهة، والباء بمعنى في ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ﴾؛ أي: فما تملكون أيها العابدون ﴿صَرْفًا﴾؛ أي: دفعًا للعذاب عنكم، بوجه من الوجوه، لا بالذات ولا بالواسطة. ﴿وَلَا نَصْرًا﴾؛ أي: ولا فردًا من أفراد النصر، لا من جهة أنفسكم، ولا من جهة غيركم مما عبدتم، وقد كنتم زعمتم أنهم يدفعون عنكم العذاب وينصرونكم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بِمَا تَقُولُونَ﴾ بالتاء من فوق. وقرأ أبو حيوة وابن الصلت عن قنبل وسعيد بن جبير ومجاهد ومعاذ القارىء ﴿بما يقولون﴾ والمعنى: فقد كذبكم أيها العابدون المعبودون بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا﴾ إلخ.. وهذا (٣) قول الأكثرين. وقال ابن زيد الخطاب للمؤمنين. فالمعنى: فقد كذبكم المشركون أيها المؤمنون بما تقولون؛ أي: في قولكم: إن محمدًا رسول الله - ﷺ -.
وقرأ حفص وأبو حيوة والأعمش وطلحة: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ﴾ بتاء الخطاب للعابدين، ويؤيد هذه القراءة، أن الخطاب في كذبوكم للعابدين. وقرأ الجمهور: ﴿فما يستطيعون﴾ بالياء من تحت. وفيه وجهان:
(٢) البحر المحيط.
(٣) زاد المسير.
والثاني: فما يستطيع العابدون صرفًا، لعذاب الله عنهم، ولا نصرًا لأنفسهم. وفي هذه القراءة التفات. وذكر (١) عن ابن كثير وأبي بكر أنهما قرأوا، ﴿بما يقولون﴾ ﴿فما يستطيعون﴾ بالياء فيهما. والمعنى عليه: فقد كذبكم المعبودون، أيها العابدون بما يقولون؛ أي: بقولهم: ﴿سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا﴾ فما يستطيع المعبودون صرفًا عنكم، ولا نصرًا لكم.
والحاصل: أنه إن كان الخطاب في ﴿كَذَّبُوكُمْ﴾ للعابدين.. فالتاء جارية على ذلك، والياء التفات، وإن كان الخطاب للمعبودين، فالتاء التفات، والياء جارية على ضمير ﴿كَذَّبُوكُمْ﴾ المرفوع. وإن كان الخطاب للمؤمنين، أمة الرسول عليه السلام، في قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾.. فالمعنى أنهم شديدوا الشكيمة في التكذيب، فما تستطيعون أنتم صرفهم عما هم عليه من ذلك. وبالياء فما يستطيعون صرفًا لأنفسهم عما هم عليه، أو ما يستطيعون صرفكم عن الحق، الذي أنتم عليه، ولا نصرًا لأنفسهم، من البلاء الذي استوجبوه بتكديبهم. وحكى الفراء: أنه يجوز أن يقرأ: ﴿فقد كذبوكم﴾ مخففًا ﴿بما يقولون﴾؛ أي: كذبوكم في قولهم.
﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ﴾ والظاهر أن الخطاب فيه عام لكل ظالم، ويدخل تحته الذين فيهم، السياق، دخولًا أوليًا. وقيل: خطاب للمؤمنين. وقيل: خطاب للكافرين. والظلم هنا الشرك. قاله: ابن عباس؛ أي: ومن يشرك منكم أيها المكلفون. كما دل عليه قوله: ﴿نُذِقْهُ﴾؛ أي: نذق ذلك الظالم ﴿عَذَابًا كَبِيرًا﴾؛ أي: عذابًا شديدًا، هو النار والخلود فيها، فإن ما يترتب عليه العذاب الكبير، ليس إلا الظلم العظيم الذي هو الشرك. وفيه وعيد أيضًا لفساق المؤمنين، وهذه الآية وأمثالها، مقيدة بعدم التوبة.
والمعنى: أي (٢) ومن يكفر منكم أيها المكلفون، فيعبد مع الله إلهًا آخر،
(٢) المراغي.
وقرأ عاصم الجحدري والضحاك وأبو الجوزاء وقتادة (١): ﴿يذقه﴾ بياء الغيبة؛ أي: الله، كما هو الظاهر، أو الظلم المفهوم من الفعل، على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب.
٢٠ - ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله، موضحًا لبطلان قولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ﴾ يا محمد أحدًا ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا﴾ رسلًا قيل فيهم: ﴿إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ فلم يكن ذلك منافيًا لرسالتهم، فأنت لا تكون بدعًا منهم. وكسرت همزة ﴿إن﴾ لوقوعها بعد قول محذوف وقع صفة لموصوف محذوف، كما قدرناه، وإن تكسر بعد القول قاعدةً مطردةً. هذا ما ظهر لي في هذا المقام.
والمعنى: أي إن (٢) جميع من سبقك من الرسل، كانوا يأكلون الطعام للتغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة. ولم يقل: أحد إن ذلك نقص لهم، يغض من كرامتهم، ويزري بهم، ولم يكن لهم امتياز عن سواهم في هذا، وإنما امتازوا بصفاتهم الفاضلة، وخصائصهم السامية، وآدابهم العالية، وبما ظهر على أيديهم من خوارق العادات وباهر المعجزات، مما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة نافذة، على صدق ما جاؤوا به من عند ربهم، فمحمد - ﷺ - ليس بدعًا من الرسل، إذ يأكلُ ويمشي في الأسواق، وليس هذا بذم له، ولا مطعن في صدق رسالته، كما تزعمون. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾
وإن (٣) مكسورة باتفاق العشرة، و (اللام): لام الابتداء زيدت في الخبر.
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين، إلا آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف، لأن في قوله: من المرسلين دليلًا عليه نظيره ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)﴾؛ أي: وما منا أحد. وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول، محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم ليأكلون الطعام. والضمير في ﴿إِنَّهُمْ﴾ وما بعده، راجع إلى ﴿مِنَ﴾ المقدرة، وقال الزجاج: هذا خطأ، لأن ﴿مِنَ﴾ الموصلة لا يجوز حذفها.
وقرىء (١): أنهم بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية، والتقدير: إلا أنهم يأكلون الطعام؛ أي: ما جعلناهم رسلًا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم في الأكل والمشي. وقرأ الجمهور: ﴿يمشون﴾ مضارع مشى خفيفًا. وقرأ علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله: يمشون مشددًا مبنيًا للمفعول؛ أي: يمشيهم حوائجهم والناس. وقال الزمخشري: ولو قرىء: يمشون، لكان أوجه لولا الرواية. انتهى. وقد قرأ كذلك أبو عبد الرحمن السلمي مشددًا مبنيًا للفاعل، وهي بمعنى يمشون. قراءة الجمهور.
والخطاب في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ عام لجميع الناس، المؤمن والكافر؛ أي (٢): وجعلنا بعضكم أيها الناس فتنة؛ أي: ابتلاء ومحنة لبعض آخر. الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم، ومناصبتهم لهم العداوة وأذاهم لهم، والسقماء بالأصحاء، والأسافل بالأعالي، والرعايا بالسلاطين، والموالي بذوي الأنساب، والعميان بالبصراء، والضعفاء بالأقوياء. قال الواسطي
(٢) روح البيان.
فالمريض يقول (١): لم لم أجعل كالصحيح، وكذا كل صاحب آفة. والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره والغني مبتلى بالفقير يواسيه والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله.
وقيل المراد بالآية، أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم ببعض. واختار هذا القول الفراء والزجاج، ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء وإن كانوا سبب النزول فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
ثم قال سبحانه، بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمكم. والاستفهام فيه للتقرير، وهو (٢) علة للجعل المذكور.
والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أتصبرون على الابتلاء، أم تجزعون عنه.
أو حث على الصبر، على ما افتتنوا به؛ أي: اصبروا على ابتلائكم ولا تجزعوا. وقال أبو الليث: اللفظ لفظ الاستفهام. والمراد الأمر، يعني اصبروا على الابتلاء. كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ﴾؛ أي: توبوا. وقوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾؛ أي: انتهوا.
ثم وعد الله الصابرين بقوله: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾؛ أي: بكل من يصبر، ومن لا يصبر، فيجازي كلا منهما بما يستحقه.
والمعنى: أي (٣) وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، فجعلنا هذا نبيًا
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
والخلاصة: لو شئت أن أجعل الدنيا، مع رسلي، حتى لا يخالفوا.. لفعلت، لكني أردت أن ابتلي العباد بهم، وابتليهم بالعباد، فينالهم منهم الأذى، ويناصبوهم العداء، فاصبروا على البلاء، فقد علمتم ما وعد الله به الصابرين ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾؛ أي: وربك أيها الرسول، بصير بمن يجزع، وبمن يصبر، على ما امتحن به من المحن، ويجازي كلا بما يستحق من عقاب أو ثواب.
وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، يبلغ به النبي - ﷺ - قال: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم، فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم". هذا لفظ البخاري، ولمسلم "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم".
واعلم: أن العبد، لا بد له من السكون إلى قضاء الله تعالى، في حال فقره وغناه، ومن الصبر على كل أمر يرد عليه من مولاه، فإنه تعالى بصير بحاله، مطلع عليه في كل فعاله، وربما يشدد المحنة عليه بحكمته، ويمنع مراده عنه، مع كمال قدرته.
الإعراب
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾.
﴿تَبَارَكَ﴾: فعل ماض جامد. ﴿الَّذِي﴾: فاعل. والجملة مستأنفة استئنافًا
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾.
﴿الَّذِي﴾: بدل من الموصول الأول، أو عطف بيان منه، أو خبر لمبتدأ محذوف، أو منصوب على المدح. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السماوات. والجملة صلة الموصول. ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾. جازم وفعل مجزوم، وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به معطوف على جملة الصلة. ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿له﴾: خبر مقدم لـ ﴿يَكُنْ﴾. ﴿شَرِيكٌ﴾: اسمها مؤخر. ﴿فِي الْمُلْكِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَرِيكٌ﴾. والجملة معطوفة على جملة الصلة أيضًا. ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الموصول، ومفعول به. والجملة معطوفة على جملة الصلة. وهذه الجملة بمنزلة العلة لما قبلها. ﴿فَقَدَّرَهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قدره﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿تَقْدِيرًا﴾: مفعول مطلق. والجملة معطوفة على جملة خلق.
﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (٣)﴾.
﴿وَاتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان ما عليه الكفار من
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل. والجملة مستأنفة، مسوقة لحكاية أباطيلهم، المتعلقة بالمنزل. والمنزل عليه معًا، وإبطالها. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿إِنْ﴾ نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿إِفْكٌ﴾: خبر ﴿هَذَا﴾. والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿افْتَرَاهُ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿إِفْكٌ﴾. ﴿وَأَعَانَهُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿قَوْمٌ﴾: فاعل. ﴿آخَرُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٌ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿افْتَرَاهُ﴾. ﴿فَقَدْ جَاءُوا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، لكون ما قبلها علة لما بعدها. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءُوا﴾: فعل وفاعل. وجاء هنا، بمعنى فعل، يتعدى إلى مفعول. ﴿ظُلْمًا﴾: مفعول به. ﴿وَزُورًا﴾: معطوف عليه. وجملة ﴿جاء﴾ معطوفة على جملة ﴿قال﴾ على كونها مفرعة عليها. وفي "الفتوحات" ﴿الفاء﴾: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة، بل على أن
﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على قال الذين. ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو؛ أي: هذا القرآن أساطير الأولين، أو مبتدأ. وجملة ﴿اكْتَتَبَهَا﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول قالوا ﴿اكْتَتَبَهَا﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة الفعلية في محل النصب حال، من أساطير الأولين على الوجه الأول، وعلى الوجه الثاني خبر له. ﴿فَهِيَ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع. ﴿هي﴾: مبتدأ. ﴿تُمْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الأساطير. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُمْلَى﴾. ﴿بُكْرَةً﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تُمْلَى﴾. ﴿وَأَصِيلًا﴾: معطوف على ﴿بُكْرَةً﴾. وجملة ﴿تُمْلَى﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿اكتتبها﴾.
﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿أَنْزَلَهُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿الَّذِي﴾: فاعل ﴿أنزل﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الموصول. ﴿السِّرَّ﴾: مفعول به. والجملة صلة الموصول. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور حال من السر. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على الله. ﴿غَفُورًا﴾: خبر أول لـ ﴿كَانَ﴾. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أو مستأنفة
﴿أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨)﴾.
﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتقسيم. ﴿يُلْقَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق به. ﴿كَنْزٌ﴾: نائب فاعل ليلقى. والجملة معطوفة على جملة ﴿أُنْزِلَ﴾، وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنه بمعنى المضارع، إذ التقدير: لولا ينزل إليه ملك، أو يلقى إليه كنز. ﴿أَوْ تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص.
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (١٠)﴾.
﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد. والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام، للاستفهام التعجبي في محل النصب على الحال من فاعل ﴿ضَرَبُوا﴾ معلقة ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿ضَرَبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَكَ﴾: متعلق به. ﴿الْأَمْثَالَ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية في محل النصب، مفعول ﴿انْظُرْ﴾ معلقة عنها باسم الاستفهام. ﴿فَضَلُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ضَرَبُوا﴾. ﴿فَلَا﴾ الفاء: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿ضلوا﴾. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿شَاءَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الموصول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول، في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية صلة الموصول. ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿خَيْرًا﴾ مفعول أول له. ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾. ﴿جَنَّاتٍ﴾: بدل من خيرًا منصوب بالكسرة. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل ﴿تَجْرِي﴾ وجملة ﴿تَجْرِي﴾ في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿وَيَجْعَلْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الموصول، معطوف على محل ﴿جَعَلَ﴾ الواقع جوابًا للشرط. ﴿لَكَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني لـ ﴿يجعل﴾. ﴿قُصُورًا﴾: مفعول أول له.
﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب، أضرب بها عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى، للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة من فنون العذاب. اهـ. "أبو السعود". ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِالسَّاعَةِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أو مستأنفة. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أعتدنا﴾. ﴿كَذَّبَ﴾: فعل وفاعل مستتر على ﴿من﴾. والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿بِالسَّاعَةِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿سَعِيرًا﴾: مفعول ﴿أعتدنا﴾. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿رَأَتْهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿السعير﴾، ومفعول به. ﴿مِنْ مَكَانٍ﴾: جار ومجرور حال من المفعول، أو من الفاعل. ﴿بَعِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿مَكَانٍ﴾. والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذَا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿سَمِعُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهَا﴾: حال من ﴿تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿تَغَيُّظًا﴾: مفعول به. ﴿وَزَفِيرًا﴾: معطوف عليه. والجملة جواب ﴿إذَا﴾. وجملة ﴿إذَا﴾ الشرطية في محل النصب صفة لـ ﴿سَعِيرًا﴾.
﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (١٤)﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: ظرف مضمن معنى الشرط. ﴿أُلْقُوا﴾: فعل ونائب فاعل. والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿مِنْهَا﴾: حال من مكانًا؛ لأنه في الأصل، صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مَكَانًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أُلْقُوا﴾. ﴿ضَيِّقًا﴾: صفة لـ ﴿مَكَانًا﴾. ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: حال من الواو في ﴿أُلْقُوا﴾. ﴿دَعَوْا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿هُنَالِكَ﴾: اسم إشارة في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بـ ﴿دَعَوْا﴾. ﴿ثُبُورًا﴾: مفعول به
﴿قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (١٥) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (١٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿أَذَلِكَ﴾: الهمزة فيه للاستفهام التقريعي التهكمي. ﴿ذلك خيرٌ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَمْ﴾: عاطفة. ﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾: معطوف على ﴿ذلك﴾. ﴿الْخُلْدِ﴾: مضاف إليه. ﴿الَّتِي﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾. ﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وعدها المتقون. ﴿كَانَتْ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على الجنة. ﴿لَهُمْ﴾: حال من ﴿جَزَاءً﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿جَزَاءً﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿وَمَصِيرًا﴾: معطوف على ﴿جَزَاءً﴾. وجملة ﴿كَانَتْ﴾ في محل النصب حالة من ﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾، أو من الضمير المستكن في الظرف. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر. وجملة ﴿يَشَاءُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ما يشاؤونه. وجملة ﴿كَانَ﴾ حال ثانية من ﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من الهاء في لهم، أو من الواو في ﴿يَشَاءُونَ﴾. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿مَا يَشَاءُونَ﴾، أو على الوعد المفهوم من ﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾. ﴿عَلَى رَبِّكَ﴾: حال من ﴿وَعْدًا﴾. ﴿وَعْدًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مَسْئُولًا﴾: صفة لـ ﴿وَعْدًا﴾. وجملة
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكروا يوم يحشرهم. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله. والجملة في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾. ﴿وَمَا﴾: اسم موصول في محل النصب، معطوف على ضمير المفعول، أو منصوب على المعية. ﴿يَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: وما يعبدونه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿يَعْبُدُونَ﴾. ﴿فَيَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾. ﴿أَأَنْتُمْ﴾: الهمزة: للاستفهام التوبيخي. ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿أَضْلَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿عِبَادِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿هَؤُلَاءِ﴾: بدل من ﴿عِبَادِي﴾، أو صفة له؛ أي: المشار إليهم وجملة ﴿أَضْلَلْتُمْ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿يقول﴾. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف. ﴿هم﴾: مبتدأ. وجملة ﴿ضَلُّوا﴾: خبره. والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿السَّبِيلَ﴾: منصوب بنزع الخافض، لأن أصله ضلوا عن السبيل.
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (١٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿سُبْحَانَكَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: نسبحك سبحانًا. والجملة المحذوفة في محل النصب مقول قالوا. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير الشأن مستتر فيها. ﴿يَنْبَغِي﴾: فعل مضارع. ﴿لَنَا﴾: متعلق به. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿نَتَّخِذَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب. بـ ﴿أَن﴾. ﴿مِنْ دُونِكَ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل وفاعل. والجملة مستأنفة مسوقة لتسليته - ﷺ -. ﴿قَبْلَكَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ أيضًا، أو بمحذوف صفة لمفعول محذوف، تقديره: أحدًا من المرسلين. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، والمستثنى محذوف، تقديره: إلا رسلًا قيل فيهم: إنهم ليأكلون الطعام إلخ، ﴿رسلًا﴾: مستثنى منصوب على الاستثناء. قيل: فعل ماض مغير الصيغة. فيهم: جار ومجرور نائب فاعل لقيل. وجملة قيل: في محل النصب صفة لرسلًا، المحذوف الواقع مستثنى. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَيَأْكُلُونَ﴾: (اللام): حرف ابتداء زحلقت إلى الخبر. ﴿يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي قدرناه. ﴿وَيَمْشُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿لَيَأْكُلُونَ﴾. ﴿فِي الْأَسْوَاقِ﴾: متعلق بـ ﴿يمشون﴾. وقد تلاطمت أقوال العلماء في إعراب هذا المقام، فراجعها. ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿لِبَعْضٍ﴾: حال من ﴿فِتْنَةً﴾؛ لأنه كان في الأصل صفة لـ ﴿فِتْنَةً﴾ قدمت عليها. كقول الشاعر: لمية موحشًا طلل. أصله لمية طلل موحش. ﴿فِتْنَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، أو مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ -. ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري. ﴿تصبرون﴾: فعل وفاعل. والجملة لفظها لفظ الاستفهام. ومعناها الأمر، إنشائية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها بمعنى ﴿اصبروا﴾ كقوله تعالى: ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ معناه: أسلموا. ﴿وَكَانَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية. ﴿كان ربك بصيرًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. والجملة معطوفة على جملة ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ﴾ أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾ من البركة، وهي كثرة الخير لعباده، بإنعامه عليهم وإحسانه إليهم. ثم إن تبارك: فعل ماض جامد لا ينصرف، فلا يأتي منه مضارع ولا اسم فاعل، ولا مصدر. ولا يستعمل في غير الله تعالى.
فائدة في بحث فعل الجامد: والفعل الجامد: هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردًا عن الزمان، والحدث المعتبرين في سائر الأفعال، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير بلفظ واحد، فهو لا يقبل التحول من صيغة إلى صيغة أخرى، بل يلزم صيغة واحدة، ماضيًا كان أو مضارعًا أو أمرًا، مثل عسى وليس ويهيط وهب، بمعنى: أحسب من أخوات ظن، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر. وأما هب المشتق من الهبة فإنه فعل أمر متصرف، فماضيه وهب، ومضارعه يهب. والفعل الجامد ثلاثة أقسام ما يلازم صيغة الماضي. مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله سبحانه. وما يلازم صيغة المضارع، مثل: يهيط ومعناه: يصيح ويفح، يقال: ما زال منذ اليوم يهيط هيطًا، وهو مضارع لا ماضي له، كما في "لسان العرب" و"تاج العروس". ويقال: ما زال في هيط وميط بفتح أولهما، وفي هياط ومياط بكسر أولهما؛ أي: ضجاج وشر جلبة. وقيل: في هياط ومياط، في دنو وتباعد. والهياط: الإقبال والميط الإدبار، والهائط: الجائي، والمائط: الذاهب.
والمهايطة والهياط: الصياح والجلبة، وما يلازم صيغة الأمر. نحو هب بمعنى: أحسب وهات وتعال وهلم، على لغة تميم؛ لأنه عندهم: فعل يقبل علامته، فتلحقه الضمائر. أما في لغة الحجاز، فهي اسم فعل أمر؛ لأنها عندهم تكون بلفظ واحد للجميع، ومن الأفعال الجامدة قل بصيغة الماضي للنفي المحض، وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل، فلا يليه حينئذٍ إلا الفعل، ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي، نحو قلما فعلت كذا، وقلما أفعله؛ أي: ما فعلته ولا أفعله. ومثل قلما في عدم التصرف طالما وكثر ما وقصر ما، وشدما، فإن ما فيهن زائدة للتوكيد، كافة لهن عن العمل فلا فاعل لهن ولا يليهن إلا
﴿الْفُرْقَانَ﴾: القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل. وقيل: لأنه نزل مفرقًا في أوقات كثيرة، بحسب الوقائع. وفي "المصباح" فرقت بين الشيئين فرقًا. من باب قتل، فصلت أبعاضه، وفرقت بين الحق والباطل فصلت أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، في قوله تعالى: ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ وفي لغة، من باب ضرب، وقرأ بها بعض التابعين. قال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين، فافترقا، مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا، مثقل، فجعل المخفف في المعاني، والمثقل في الأعيان، والذي حكاه غيره أنهما بمعنى، والتثقيل مبالغة.
﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ قال الإِمام الراغب: العالم اسم للفلك، وما يحويه من الجواهر والأعراض، وهو في الأصل اسم لما يعلم به، كالطابع والخاتم لما يطبع ويختم به. وجعل بناؤه على هذه الصيغة لسكونه كالآلة، فالعالم آلة في الدلالة على صانعه. وأما جمعه، فلأن كل نوع قد يسمى عالمًا، فيقال: عالم الإنسان وعالم الماء، وعالم النار. وأما جمعه جمع السلامة فلكون الناس في جملتهم، والإنسان إذا شارك غيره في اللفظ غلب حكمه، انتهى. قال ابن الشيخ: جمع بالواو والنون؛ لأن المقصود استغراق أفراد العقلاء، من جنس الجن والأنس، فإن جنس الملائكة، وإن كان من جملة أجناس العالم، إلا أن النبي - ﷺ - لم يكن رسولًا إلى الملائكة فلم يكن من العالمين، المكلفين إلا الجن والإنس، فهو رسول إليهما جميعًا، انتهى.
﴿نَذِيرًا﴾ النذير، بمعنى: المنذر، والإنذار: إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير إخبار فيه سرور. ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ قال في "المفردات": تخذ بمعنى أخذ، واتخذ افتعل منه. والولد المولود. ويقال: الواحد والجمع والصغير والكبير والذكر والأنثى.
﴿فَقَدْ جَاءُوا﴾؛ أي: أتوا وفعلوا. ﴿ظُلْمًا﴾: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى ما هو مبرأ منه. والزور الكذب. قال الراغب: قيل: للكذب زور لكونه مائلًا عن جهته؛ لأن الزور ميل في الزور؛ أي: وسط الصدر، والأزور المائل الزور.
﴿اكْتَتَبَهَا﴾؛ أي: أمر غيره بكتابتها ونسخها؛ لأنه - ﷺ - كان أميًا لا يقرأ الخط ولا يكتب باعترافهم. وقال في "المفردات": الاكتتاب متعارف في الاختلاف.
﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ جمع أسطار جمع سطر، أو جمع أسطورة كأحدوثة وأحاديث وأعجوبة وأعاجيب. قال في "القاموس": السطر الصف من الشيء، الكتاب والشجر وغيره. والخط والكتابة والقطع بالسيف، ومنه الساطر للقصاب، وأسطره كتبه والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها.
﴿تُمْلَى عَلَيْهِ﴾؛ أي: تقرأ عليه، فليس المراد بالإملاء هنا معناه الأصلي، لأن الإملاء في الأصل، عبارة عن إلقاء الكلام على الغير ليكتبه. ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾؛ أي: صباحًا ومساءً والمراد دائمًا. وفي ضرام السقط أول اليوم الفجر، ثم الصباح، ثم الغداة، ثم البكرة، ثم الضحى، ثم الضحوة، ثم الهجيرة، ثم الظهر، ثم الرواح، ثم المساء، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم العشاء الأولى، ثم العشاء الأخيرة عند مغيب الشفق اهـ.
﴿السِّرَّ﴾؛ أي: الغيب؛ أي: ما غاب عنا. ﴿الطَّعَامَ﴾: وهو كل ما يتناول من الغذاء كما مر. و ﴿الْأَسْوَاقِ﴾ جمع سوق، وهو الموضع الذي يجلب إليه المتاع، ويساق. سمي سوقًا لقيامهم فيها على سوقهم.
﴿الْأَمْثَالَ﴾: الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال. قال بعضهم: مثلوك بالمسحور، والفقير الذي لا يصلح أن يكون رسولًا، والناقص عن القيام بالأمور، إذ طلبوا أن يكون معك مثلك.
﴿قُصُورًا﴾؛ أي: بيوتًا رفيعة في الدنيا، كقصور الجنة. قال الراغب: يقال: قصرت كذا، ضممت بعضه إلى بعض. ومنه سمي القصر. انتهى.
﴿سَعِيرًا﴾ والسعير: النار الشديدة الاشتعال. وفي "المصباح" وسعرت النار سعرًا من باب نفع، وأسعرتها إسعارًا أو قدتها فاستعرت اهـ. وفي "المختار": سعر النار والحرب: هيجها وألهبها. وبابه قطع. قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢)﴾ قرىء مخففًا ومشددًا. والتشديد للمبالغة، واستعرت النار وتسعرت توقدت، والسعير: النار. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)﴾ قال الفراء: في عناء وعذاب السعر: الجنون. اهـ.
﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾؛ أي: إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد، من قولهم: (دور تتراءى)؛ أي: تتناظر. ومنه قوله - ﷺ -: "إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما"؛ أي: لا تتقاربان، بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى، إذ يجب على المؤمن مجانبة الكافر والمشرك في أمور الدين.
﴿تَغَيُّظًا﴾ التغيظ: إظهار الغيظ الذي هو الغضب الكامن في القلب، كما قاله الشهاب. وفي "المفردات" التغيظ: إظهار الغيظ، وهو أشد الغضب، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع، والغضب: هو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
﴿وَزَفِيرًا﴾ والزفير: إخراج النفس بعد مدة. وفي "السمين" قوله: {سَمِعُوا لَهَا
أحدها: أنه على حذف مضاف؛ أي: صوت تغيظها.
والثاني: أنه على حذف تقديره: سمعوا ورأوا تغيظًا وزفيرًا، فيرجع كل واحد إلى ما يليق به؛ أي: رأوا تغيظًا وسمعوا زفيرًا.
والثالث: أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين؛ أي: أدركوا لها تغيظًا وزفيرًا اهـ.
﴿مُقَرَّنِينَ﴾؛ أي: مصفدين قد قرنت؛ أي: جمعت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. يقال: قرنت البعير بالبعير، جمعت بينهما، وقرنته بالتشديد على التكثير. ويقال: قرنت الأسارى في الحبال. وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب. قرنا الشيء بالشيء سنده به ووصل إليه. وقرن الثورين، جعلهما في نير واحد. وقرن البعيرين جمعهما في حبل. وهي في قوله تطالى: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ تفيد شيئين: التصفيد؛ أي: تقييد الأرجل وجمع الأيدي، والأعناق بالسلاسل.
﴿ثُبُورًا﴾ هلاكًا، يقال: ثبره الله، أهلكه هلاكًا دائمًا لا ينتعش بعده. ومن ثم يدعو أهل النار: واثبوراه. وما ثبرك عن حاجتك ما ثبطك، وهذا مثبر فلانة لمكان ولادتها، حيث يثبرها النفاس.
﴿جَنَّةُ الْخُلْدِ﴾ هي التي لا ينقطع نعيمها ولا ينقل عنها أهلها، فإن الخلود، هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها.
﴿جَزَاءً﴾؛ أي: ثوابًا، والجزاء: الغنى والكفاية. فالجزاء: ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ. والجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، وتسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
﴿وَمَصِيرًا﴾؛ أي: مرجعًا، والفرق بين المصير والمرجع أن المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، ولا كذلك المرجع.
﴿حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ والذكر، ما ذكر به الناس على ألسنة أنبيائهم. ﴿بُورًا﴾؛ أي: هالكين، جمع بائر. كما في "المفردات". أو مصدر وصف به الفاعل مبالغة، ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع. يقال: رجل بائر، وقوم بور، وهو الفاسد الذي لا خير فيه. قال الراغب: البوار فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبر البوار عن الهلاك.
﴿صَرْفًا﴾؛ أي: دفعًا للعذاب. ﴿وَمَنْ يَظْلِمْ﴾؛ أي: يكفر. ﴿فِتْنَةً﴾؛ أي: بلية ومحنة.
﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ قال الإِمام الغزالي: البصير: هو الذي يشاهد ويرى، حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وإبصاره أيضًا، منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان، فمن ارتكب معصية، فهو يعلم أن الله سبحانه يراه، فما أجسره فأخسره، ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾ ذكره بهذا الوصف، ولم يذكره باسمه؛ لأن العبودية أشرف أوصاف الإنسان، وليس للمؤمن صفة أتم، ولا أشرف من العبودية، لأنها غاية التذلل، ولقد أحسن القاضي عياض في نظمه، حيث قال:
وَمِمَّا زَادَنِيْ شَرَفًا وَتِيْها | وَكِدْتُ بِأَخْمُصِيْ أَطَأُ الثُّرَيَّا |
دُخُوْليْ تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِيْ | وَأَنْ صَيَّرْتَ أحْمَدَ لِي نَبِيَّا |
أَلاَ أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ | إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ |
ألاَ يَا رَجَائِيْ أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ | فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ |
فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَرَاهُ مُبَلِّغِيْ | عَلَى الزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ |
أتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ | وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ |
رَأَيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا | أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى وَهُوَ لاَ يَدْرِيْ |
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْت | نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوْت |
جَزَى اللَّهُ خِيرًا مَنْ تَأمَّلَ صَنْعَتِي | وَقَابَلَ مَا فِيها مِنَ السَّهْوِ بالعَفْوِ |
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطأْتُ فِيه بفَضْلِه | وفطْنَته أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِى |
إِنْ تَجِدَ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلا | جَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيهِ وعَلاَ |
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى | وَكُلُّ خَيْرٍ بهِ يَكُونُ |
وَرُبَّما نيْلَ بِاصْطِبَارِ | مَا قِيلَ هَيْهات لاَ يكُوْنُ |
السبَاقَ السباقَ قولًا وفِعْلًا | حَذَّرِ النَّفْسَ حَسْرَة المَسْبُوقِ |
رَأيْتُ أخَا الدنْيا وَإِنْ كان ثَاوِيَا | أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي |
إِنَّما الدُّنْيَا كَبَيْتٍ | نَسْجُهُ مِنْ عَنْكَبُوتٍ |
سُبْحانَكَ لاَ عِلْمَ لنَا إلَّا | مَا عَلَّمْتَ وَأَلْهَمْتَ لَنَا إِلْهَامًا |
إِلهِي رَبِّ سَامِعَا | عَلِّمْنَا عِلْمًا نَافِعَا |
وَفَّقْنَا يَسَارًا وَيُسرًا | جَنِّبْنا إِعْسَارًا وَعُسْرًا |
وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ | رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لاَ يَرَى |
(٢) المراغي.
وفي "الأسئلة المقحمة" (١): فإذا كان رؤية الله جائزة، فكيف وبخهم على سؤالهم لها؟ قلنا: التوبيخ بسبب أنهم طلبوا ما لم يكن لهم طلبه؛ لأنهم بعد أن عاينوا الدليل قد طلبوا دليلًا آخر، ومن طلب الدليل بعد الدليل.. فقد عتا عتوًا ظاهرًا، ولأنهم كلفوا الإيمان بالغيب فطلبوا رؤية الله، وذلك خروج عن موجب الأمر وعن مقتضاه، فإن الايمان عند المعاينة لا يكون إيمانًا بالغيب، فلهذا وصفهم بالعتو.
وانتصاب ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾ بفعل محذوف؛ أي: واذكر لهم يا محمد أهوال يوم يرى الكفار الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو يوم القيامة.
ثم أخبر، فقال: ﴿لَا بُشْرَى﴾؛ أي: لا بشارة بالمغفرة ودخول الجنة ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم يرى الكفار الملائكة ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: للكافرين، وهذا إظهار في مقام الإضمار، أي: لا بشرى لهم.
ويجوز (٢) أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله: ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ والمعنى: لا يبشر المجرمون يوم يرون الملائكة. و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ مؤكد لـ ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾ والمعنى: أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم، أو لا توجد لهم البشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. والمراد بالملائكة: ملائكة العذاب. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع هم الذين اجترموا الكفر بالله واقترفوه أيًا كانوا، لا خصوص القائلين الذين سبق ذكرهم.
(٢) زاد المسير.
﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: يقول الكفرة المجرمون عند مشاهدة الملائكة، وهو معطوف على ما ذكر من الفعل المنفي المقدر المعلوم من ﴿لَا بُشْرَى﴾؛ أي: لا يبشر المجرمون يومئذ، ويقولون: إذا رأوا الملائكة، وفزعوا منهم عند الموت ويوم القيامة: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾؛ أي: استعاذة مستعاذة منكم، وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول الشدة، ويضعونها موضع الاستعاذة، والحجر: المنع. والمحجور: الممنوع، جعل صفة لحجر؛ لقصد التأكيد كيوم أيَوْمٍ. وَليل أَلَيْلٍ. والمعنى نسأل الله تعالى أن يحجر المكروه عنا حجرًا، ويمنع شركم عنا منعًا أكيدًا بحيث لا يلحقنا شركم وتعذيبكم إيانا. وقيل (٢): معنى ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ بعدًا بعيدًا بيننا وبينكم.
ويقال: إن قريشًا كانوا إذا استقبلهم أحد بشر يقولون: حاجورًا حاجورًا، حتى يعرف أنهم من الحرم، فيكف عنهم، فأخبر تعالى أنهم يقولون يوم القيامة، فلا ينفعهم. وقيل: الضمير في ﴿يَقُولُونَ﴾ يعود إلى الملائكة. قال ابن عباس:
(٢) تنوير المقياس.
وقرأ الجمهور: ﴿حِجْرًا﴾ - بكسر الحاء -، وقرأ أبو رجاء والحسن والضحاك وقتادة ومعاذ القارئ: ﴿حُجرا﴾ - بضم الحاء -، وقرىء أيضًا بفتحها كما في "المراح". والمعنى؛ أي: (٢) يوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة، فلا بشرى لهم بخير؛ إذ يقولون لهم: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾؛ أي: محرم عليكم البشرى بالغفران والجنة؛ أي: جعلهما الله تعالى حرامًا عليكم؛ إذ هما لا يكونان إلّا لمن أعترف بوحدانية الله تعالى، وصدق رسوله.
والخلاصة: لا بشرى يومئذ للكافرين، وتقول لهم الملائكة: حرام أن نبشركم بما نبشر به المتقين.
٢٣ - ثم بين السبب في وبالهم وخسرانهم، فقال: ﴿وَقَدِمْنَا﴾؛ أي: عمدنا وقصدنا ﴿إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾؛ أي: إلى ما عمل الكفار في الدنيا من أعمال الخير التي لو عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها من صلة رحم وإغاثة ملهوف، وقرى ضيف وفك أسير، وإكرام يتيم مثلًا؛ أي: قصدنا إلى إبطالها في الآخرة ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾؛ أي: فجعلنا عملهم ذلك ﴿هَبَاءً﴾؛ أي: غبارًا ﴿مَنْثُورًا﴾؛ أي: مفرقًا؛ أي: كالهباء المنثور في الحقارة وعدم الانتفاع بها؛ أي: تعلقت إرادتنا أزلًا بإبطال ثوابها، فأظهرنا بطلانها في الآخرة. والقدوم في الأصل عبارة عن مجيء المسافر بعد مدة ولكن المراد هنا إراد الله سبحانه. والهباء: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، فلا يمس بالأيدي، ولا يرى في الظل. والمنثور: المفرق المنعدم كما سيأتي. ووصفه بالمنثور؛ لأن الهباء تراه منتظمًا مع الضوء، فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب.
(٢) المراغي.
٢٤ - وبعد أن بين سبحانه حال الكافرين يومئذ.. ذكر حال أضدادهم المؤمنين، فقال: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ وهم المؤمنون ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ يرون الملائكة ويقولون: حجرًا محجورًا، وهو يوم القيامة ﴿خَيْرٌ﴾ من المجرمين ﴿مُسْتَقَرًّا﴾: تمييز؛ أي: من جهة المكان الذي (٢) يكونون فيه في أكثر أوقاتهم يتجالسون ويتحادثون فيه ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾؛ أي: من جهة المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم، ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استراحتهم إلى الحور مقيلًا على طريق التشبيه، وروي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وفي لفظ الأحسن تهكم بهم، قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون العسل أحلى من الخل.
فإن قلت (٣): كيف يكون أصحاب الجنة خيرًا مستقرًا من أهل النار ولا خير في النار، ولا يقال: العسل أحلى من الخل؟
قلتُ: إنه من قبيل التقريع والتهكم كما في قوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي (٢) إن منازل أهل الجنة خير من منازل أولئك المشركين الذين يفتخرون بأموالهم وما أوتوا من الترف والنعيم في الدنيا، وأحسن فيها قرارًا حين القائلة من مثلها لهم في الدنيا؛ لما يتزين به مقيلهم من حسن الصور وجمال التنوق والأبّه والزخرف وغيرها من المحاسن التي لا يوجد مثلها في الدنيا في بيوت المترفين، ولما فيه من نعيم لا يشوبه كدر ولا تنغيص، بخلاف مقيل الدنيا.
والمراد بالمقيل هنا المكان الذي ينزل فيه للاستراحة بالأزواج، والتمتع بمغازلتهن؛ أي: محادثتهن ومراودتهن، وإلا فليس في الجنة حر ولا نوم، بل استراحة مطلقة من غير غفلة، ولا ذهاب حس من الحواس، وكذا ليس في النار مكان استراحة ونوم للكفار، بل عذاب دائم وألم باق، وإنما سمي بالمقيل؛ لما روي أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنون مساكنهم في الجنة، وأهل النار في النار، وأما المحبوسون من العصاة، فتطول عليهم المدة مقدار خمسين ألف سنة من سني الدنيا. والعياذ بالله تعالى. ثم في ﴿أَحْسَنُ﴾ رمز إلى أن مقيل أهل الجنة مزين بفنون الزين والزخارف كبيت العروس في الدنيا.
وفي الحديث: "من سعادة المرء المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء"، وسئل بعضهم عن الغنى، فقال: سعة البيت ودوام القوت. ثم
(٢) المراغي.
٢٥ - ثم ذكر سبحانه بعض حوادث يوم القيامة، فقال: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ﴾ منصوب بـ اذكر مقدرًا، وهو معطوف على ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾، وكذا قوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ...﴾ إلخ؛ أي: واذكر يا محمد لهم أهوال يوم تشقق وتتقطع وتتخرق فيه السماء؛ أي: كل سماء ﴿بِالْغَمَامِ﴾؛ أي: بسبب ثقل الغمام، وهو سحاب (١) أبيض مثل الضباب فوق السموات السبع، ثخنه كثخن السموات السبع، وثقله كثقل السموات السبع، فينزل على السماء السابعة، فيخرقها بثقله ويشققها، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض وفيه الملائكة؛ أي: ملائكة كل سماء، فينزل أولًا ملائكة الدنيا، وهم أزيد من أهل الأرض من إنس وجن، ثم ملائكة السماء الثانية، وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا، وهكذا، ثم ينزل الكروبيون، وإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجوع في المحشر صفًا، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفًا آخر، وهكذا حتى تصير الصفوف سبعة، كلهم يحرسون أهل المحشر من الفرار والهرب. قال الإِمام النسفي - رحمه الله تعالى -: الغمام فوق السموات السبع، وهو سحاب أبيض غليظ كغلظ السموات السبع، ويمسكه الله سبحانه اليوم بقدرته، وثقله أثقل من ثقل السموات، فإذا أراد الله سبحانه أن يشقق السموات ألقى ثقله عليها فانشقت، فذلك قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾؛ أي: بثقل الغمام، فيظهر الغمام، ويخرج منها، وفيه الملائكة كما قال تعالى: ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾؛ أي: تنزيلًا عجيبًا غير معهود.
فإن قيل (٢): قد ثبت بالنقل أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة، وهكذا سماء الدنيا بالنسبة إلى السماء الثانية، وهكذا إلى السماء السابعة،
(٢) روح البيان بتصرف.
أجيب: بأن الله سبحانه وتعالى يمد الأرض يوم القيامة مد الأديم، فتتسع مع أن السموات مقبية، فكلما زالت واحدة منها ونزلت تتسع الأرض بقدرها، فيكفي لملائكتها أطرافها، وقد ثبت أن الملائكة أجسام لطيفة رقيقة، فلا تتصور بينهم المزاحمة كمزاحمة الناس.
وقرأ الحرميان (١) - نافع وابن كثير - وابن عامر: ﴿تشّقّق﴾ بتشديد الشين، فأدغموا التاء في الشين؛ لأن أصله تتشقق، قرؤوا كذلك هنا وفي قَ، وباقي السبعة بحذف تلك التاء: ﴿تَشَقَّقُ﴾ بلا تشديد الشين.
وقرأ الجمهور: ﴿وَنُزِّلَ﴾ ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول. وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء ﴿ونزل﴾ ماضيًا مشددًا مبنيًا للفاعل، وعنه أيضًا: ﴿وأنزل﴾ مبنيًا للفاعل، وجاء مصدره تنزيلًا، وقياسه إنزالًا؛ لأنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدًا جاز مجيء مصدر أحدهما للآخر. وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية ﴿وأنزل﴾ ماضيًا رباعيًا مبنيًا للمفعول، مضارعه ينزل. وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو ﴿ونزل﴾ ثلاثيًا مخففًا مبنيًا للفاعل. وقرأ هارون عن أبي عمرو ﴿وتنزل﴾ بالتاء من فوق مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو ﴿ونزل الملائكة﴾ بضم النون وشد الزاي، أسقط النون من ﴿وننزل﴾. وفي بعض المصاحف ﴿وننزل﴾ بالنون مضارع نزل مشددًا مبنيًا للفاعل، ونسبها ابن عطية لابن كثير وحده، قال: وهي قراءة أهل مكة، ورويت عن أبي عمرو. وعن أبي أيضًا ﴿وتنزلت﴾، وقرأ أبي: ﴿ونزلت﴾ ماضيًا مشددًا مبنيًا للمفعول بتاء التأنيث. وقال صاحب "اللوامح" عن الخفاف عن أبي عمرو ﴿ونزل﴾ مخففًا مبنيًا للمفعول. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ رفعًا، والوجه في هذه القراءة أن يكون مثل: زكم الرجل وجن، فإنه لا يقال إلا: أزكمه الله وأجنه، فهذه إحدى عشرة قراءة.
والمعنى (٢): إن السلطة القاهرة والاستيلاء الكلي العام صورة ومعنى بحيث لا زوال له أصلًا ثابت للرحمن يومئذ؛ أي: يوم إذ تشقق السماء بالغمام. وفائدة التقييد أن ثبوت الملك المذكور له تعالى خاصة يوم القيامة، وأما ما عداه من أيام الدنيا، فيكون غيره أيضًا له تصرف صوري في الجملة ﴿وَكَانَ﴾ ذلك اليوم ﴿يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا﴾؛ أي: يومًا شديدًا هوله على الكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيرًا بفضل الله تعالى، وقد جاء في الحديث: "أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا"؛ أي: وكان (٣) هذا اليوم مع كون الملك فيه لله وحده شديدًا على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأما على المؤمنين فهو يسير غير عسير لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة.
والحاصل: أن الكافرين يرون ذلك اليوم عسيرًا عظيمًا من دخول النار وحسرة فوات الجنان بعدما كانوا في اليسير من نعيم الدنيا، وأهل الإيمان والجد والاجتهاد يرون فيه اليسر من نعيم الجنان ولقاء الرحمن بعد أن كانوا في الدنيا راضين بالعسر، تاركين لليسر، موقنين أن مع العسر يسرًا. وقيل للشبلي - رحمه الله تعالى - في الدنيا أشغال، وفي الآخرة أهوال، فمتى النجاة؟ قال: دع أشغالها تأمن من أهوالها، فلله در قوم فرغوا عن طلب الدنيا وشهواتها، ولم يغتروا بجمعها، ولم يلتفتوا إليها، نسأل الله سبحانه وتعالى الوقوف عند الأمر إلى حلول الأجل وانتهاء العمر.
٢٧ - والظرف في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ منصوب بمحذوف كسابقه تقديره: واذكر لهم يا محمد لهؤلاء المشركين أهوال يوم يأكل الكافر يديه إلى
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) الشوكاني.
والمراد بالظالم: كل ظالم يرد ذلك المكان، وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص، وهو عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كما مر في الأسباب، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وحاصل قصة عقبة بن أبي معيط: أنه كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعامًا، وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أراد، وكان يكثر مجالسة النبي - ﷺ -، ويعجبه حديثه، فقدم ذات يوم من سفره، وصنع طعامًا، ودعا رسول الله - ﷺ - إلى طعامه، فأتاه رسول الله - ﷺ -، فلما قدم الطعام إليه أبى أن يأكل، فقال: "ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحد قبل أن يأكل شيئًا، فألح عليه بأن يأكل، فلم يأكل، فشهد بذلك عقبة، فأكل رسول الله - ﷺ - من طعامه، وكان أبي بن خلف الجمحي غائبًا، وكان صديق عقبة، فلما قدم أخبر بما جرى بين عقبة وبين رسول الله - ﷺ -، فأتاه فقال: صبوت يا عقبة؛ أي: ملت عن دين آبائك إلى دين حادث؟ فقال: لا والله ما صبوت، ولكن دخل علي رجل، فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى منك أبدًا حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتشتمه وتكذبه - نعوذ بالله تعالى - فأتاه، فوجده ساجدًا في دار الندوة، ففعل ذلك - والعياذ بالله تعالى - فقال رسول الله - ﷺ - لعقبة: "لا ألقاك خارجًا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف" فأسر يوم بدر، فأمر عليه السلام عليًا
حال كون ذلك الظالم ﴿يَقُولُ﴾: حال من فاعل ﴿يَعَضُّ﴾ ﴿يا﴾ هؤلاء، فالمنادى محذوف، ويجوز أن تكون ﴿يا﴾ لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه؛ أي: يا قوم ﴿لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ﴾ في الدنيا ﴿مَعَ الرَّسُولِ﴾ محمد - ﷺ - ﴿سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقًا إلى النجاة عن هذه الورطات؛ أي: صاحبته في اتخاذ سبيل الهدى؛ أي: واذكر يوم يعض المشرك بربه على يديه ندمًا وأسفًا على ما فرط في جنب الله، وعلى ما أعرض عنه من الحق الواضح الذي جاء به رسوله حالة كونه يقول: ليتني اتخذت مع الرسول طريقًا إلى النجاة، ولم تتشعب بي طرق الضلالة.
٢٨ - ﴿يَا وَيْلَتَى﴾؛ أي: يا هلكتي تعالي واحضري لأتعجب منك، فهذا أوان حضورك، والنداء وإن كان أصله لمن يتأتى منه الإقبال؛ وهم العقلاء إلا أن العرب تتجوز وتنادي ما لا يعقل إظهارًا للتحسر ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا﴾ كأبي بن خلف ﴿خَلِيلًا﴾؛ أي: صديقًا، من الخلة وهي المودة لأنها تتخلل النفس؛ أي: تتوسطها والمراد من أصله في الدنيا كائنًا من كان من شياطين الإنس والجن، فيدخل فيه أبي المذكور؛ أي: لم أتخذ فلانًا الذي أضلني وصرفني عن طريق الهدى خليلًا وصديقًا.
وهذا (١) دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضلَّه في الدنيا. وفلان: كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أهل اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية، لا يقال: جاءني فلان، ولكن يقال:
فِيْ لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاَنًا عَنْ فُلِ
وفل (١): كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل، وهو مختص بالنداء، وفلة بمعنى يا امرأة كذلك، ولام فل ياء أو واو على الخلاف فيه، وليس مرخمًا من فلان، خلافًا للفراء. وَوهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم: فل كناية عن العلم كفلان. وفي كتاب سيبويه: ما قلناه بالنقل عن العرب.
وقرأ الحسن وابن قطيب ﴿يا ويلتي﴾ بكسر التاء والياء الصريحة، فالياء فيه ياء المتكلم، وهو الأصل. وقرأ الدوري وجماعة بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن؛ لأن أصل هذه اللفظة الياء، فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفًا فرارًا من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فرّ منه.
٢٩ - والله ﴿لَقَدْ أَضَلَّنِي﴾ وصرفني ﴿عَنِ الذِّكْرِ﴾؛ أي: عن القرآن المذكر لكل مرغوب ومرهوب، وعن موعظة الرسول ﴿بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي﴾ الذكر من ربي بواسطة الرسول، وتمكنت من العمل به، وعمرت ما يتذكر فيه من تذكر.
وهاهنا (٢) تم الكلام، ثم قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: إبليس الحامل بوسوسته على مخالة المضلين ومخالفة الرسول وهجر القرآن ﴿لِلْإِنْسَانِ﴾ المطيع له ﴿خَذُولًا﴾؛ أي: كثير الخذلان له، ومبالغًا في حبه، يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه، وكذا حال من حمله على صداقته. والخذلان: ترك النصرة ممن يظن به أن ينصر. وفي وصفه بالخذلان إشعار بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة.
(٢) روح البيان.
٣٠ - ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ﴾ محمد - ﷺ - شكاية لله مما صنع قومه، وفي هذا (٢) تخويف لقومه؛ لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ وما بينهما اعتراض؛ أي: قالوا: كيت وكيت، وقال الرسول محمد - ﷺ - إثر ما شاهد منهم غاية العتوّ، ونهاية الطغيان بطريق البث والشكوى ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي﴾ قريشًا ﴿اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾؛ أي: متروكًا بالكلية، ولم يؤمنوا به، وصدّوا عنه، ولم يتأثروا بتخويفه ووعيده. والمعنى (٣): إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به إليهم، وأمرتني بإبلاغه، وأرسلتني به مهجورًا متروكًا لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه. وقيل: هو من هجر إذا هذى، والمعنى: إنهم اتخذوه هجرا وهذيانا. وقيل:
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
وفي هذه الآية (١): تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن؛ أي: التحفظ والقراءة كل يوم وليلة كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. وفي الحديث: "من تعلم القرآن وعلق مصحفًا لم يتعاهده ولم ينظر فيه.. جاء يوم القيامة متعلقًا به، يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورًا اقض بيني وبينه". ومن أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل آية من القرآن أو سورة ثم ينساها. والنسيان: أن لا يمكنه القراءة من المصحف كما في "القنية". وفي الحديث: "إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: وما جلاؤها؟ قال: "تلاوة القرآن وذكر الله".
٣١ - ثم سلى رسوله - ﷺ - على ما يلاقيه من الشدائد والأهوال بأن له في سلفه من الأنبياء قبله أسوة بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أي: كما جعلنا لك يا محمد أعداء من مجرمي قومك كأبي جهل وأضرابه ﴿جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾ من الأنبياء المتقدمين ﴿عَدُوًّا﴾؛ أي: أعداء، فإنه يحتمل الواحد والجمع ﴿مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: من مجرمي قومهم كنمروذ لإبراهيم، وفرعون لموسى، واليهود لعيسى، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
والمعنى (٢): أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك ما يتقولون من الترهات والأباطيل، ويفعلون من السخف ما يفعلون، جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سلفوا وأوتوا من الشرائع ما فيه هدى للبشر أعداء لهم من
(٢) المراغي.
ثم وعده بالهداية والنصر والتأييد وغلبته لأعدائه، فقال: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾؛ أي: كفاك ربك. والباء صلة لتأكيد ﴿هَادِيًا﴾: تمييز؛ أي: من جهة هدايته لك إلى كافة مطالبك، ومنها انتشار شريعتك وكثرة الآخذين بها ﴿وَنَصِيرًا﴾؛ أي: ومن جهة نصرته لك على جميع أعدائك، فلا تبال بمن يعاديك وسيبلغ حكمك إلى أقطار الأرض وأكناف الدنيا. ويصح أن يكون: ﴿هَادِيًا﴾ حالًا من ﴿ربك﴾؛ أي: حالة كونه هاديًا لك، وناصرًا لك.
والمعنى (١): أي وكفاك ربك هاديًا لك إلى مصالح الدين والدنيا، وسيبلغك أقصى ما تطلب من الكمال، وسينصرك على أعدائك، وستكون لك الغلبة عليهم آخرًا، فلا يهولنك كثرة عَددهم وعُددهم، فإني لا محالة جاعل كلمة الله هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى، فاصبر لأمري وامض لتبليغ رسالتي حتى يبلغ الكتاب أجله.
دلت الآية (٢) بالعبارة والإشارة على أن لكل نبي وولي عدوًا يمتحنه الله به، ويظهر شرف اصطفائه. قال أبو بكر بن طاهر رحمه الله تعالى: رفعت درجات الأنبياء والأولياء بامتحانهم بالمخالفين والأعداء، وفي الخبر: "لو أن مؤمنًا ارتقى على ذروة جبل لقيض الله إليه منافقًا يؤذيه فيؤجر عليه"، ثم لم يغادر الله المجرم المعاند العدو لوليه حتى أذاقه وبال ما استوجبه على معاداته، كما قال في الحديث الرباني: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب"، وقال: "وأنا أنتقم لأوليائي كما ينتقم الليث الجريء لجروه".
(٢) روح البيان.
أي: وقال الذين كفروا من أهل مكة في تعنتاتهم: هلا أنزل هذا القرآن على محمد - ﷺ - حالة كونه جملة واحدة في مرة واحدة كسائر الكتب السالفة إن كان من عند الله تعالى، وما له أنزل على التفاريق؟. وهذا (١) اعتراض فاسد، لأنهم تحدوا بالإتيان بسورة واحدة من أصغر السور، فأبرزوا صفحة عجزهم، حتى لاذوا بالمناصبة، وفزعوا إلى المحاربة، وبذلوا المهج ومالوا إلى الحجج. وقيل: المراد بالذين كفروا هنا اليهود، والمعنى عليه: أي (٢): وقال اليهود: هلا أنزل القرآن على محمد دفعة واحدة كما أنزلت الكتب السالفة على الأنبياء كذلك. وهذا زعم باطل ودعوى داحضة، فإن هذه الكتب نزلت متفرقة، فقد أنزلت التوراة منجمة في ثماني عشرة سنة، كما تدل عليه نصوص التوراة، وليس هناك دليل قاطع على خلاف ذلك من كتاب أو سنة كما نزل القرآن، لكنهم معاندون أو جاهلون لا يدرون كيف نزلت كتب الله على أنبيائه، وهو اعتراض بما لا طائل تحته؛ لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقًا فرد الله عليهم ما قالوا، وأشار إلى السبب الذي لأجله نزل القرآن منجمًا، فقال: ﴿كَذَلِكَ﴾ والكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف (٣) مؤكد معلل بما بعده، و ﴿ذلك﴾: إشارة إلى ما يفهم من كلامهم؛ أي: مثل ذلك التنزيل المفرق الذي
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وبالجملة: فإن إنزال القرآن منجمًا فضيلة خص بها نبينا - ﷺ - من سائر النبيين، فإن المقصود من إنزاله أن يتخلق قلبه المنير بخلق القرآن ويتقوى بنوره، ويتغذى بحقائقه وعلومه، وهذه الفوائد إنما تكمل بإنزاله مفرقًا، ألا ترى أن الماء لو نزل من السماء جملة واحدة لما كانت تربية الزروع به مثلها إذا نزل مفرقًا إلى أن يستوي الزرع.
وقيل: إن هذه الكلمة أعني: ﴿كَذَلِكَ﴾ هي من تمام كلام المشركين؛ أي: وقال الذين كفروا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك؛ أي: كالتوراة والإنجيل والزبور، فيوقف على قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾، ثم يبتدىء بقوله: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ على معنى أنزلناه عليك متفرقًا لغرض تثبيت فؤادك. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن. قال النحاس: وكان ذلك؛ أي: إنزال القرآن منجمًا من أعلام النبوة؛ لأنهم لا يسألونه عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتًا لفؤاده وأفئدتهم.
وقوله: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ معطوف على ذلك الفعل المقدر. والترتيل (١): التفريق ومجيء الكلمة بعد الأخرى بسكوت يسير دون قطع النفس، وأصله في
خلاصة تلك الفوائد (١):
١ - أنه عليه الصلاة والسلام كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فلو أنزل عليه القرآن جملة واحدة كان من الصعب عليه أن يضبطه، وجاز عليه السهو والغلط.
٢ - أنه أنزل هكذا ليكون حفظه له أكمل، ويكون أبعد عن المساهلة وقلة التحصيل.
٣ - أنه لو أنزل جملة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة عليهم، ولا يخفى ما في ذلك من حرج عليهم بكثرة التكاليف مرة واحدة، ولكن بإنزاله منجمًا جاء التشريع رويدًا رويدًا، فكان احتمالهم له أيسر، ومرانهم عليه أسهل.
٤ - أنه - ﷺ - إذا شاهد جبريل الفينة بعد الفينة قوي قلبه على أداء ما حمّل به، وعلى الصبر على أعباء النبوة، وعلى احتمال أذى قومه، وقدر على الجهاد الذي استمر عليه طول حياته الشريفة.
٥ - أنه أنزل هكذا بحسب الأسئلة والوقائع، فكان في ذلك زيادة بصر لهم في دينهم.
٦ - أنه لما نزل هكذا، وتحداهم بنجومه وبما ينزل منه، وعجزوا عن معارضته.. كان عجزهم عن معارضته جملة أجدر وأحق في نظر الرأي الحصيف.
٧ - أن بعض أحكام الشريعة جاء في بدء التنزيل على وفق حال القوم الذين أنزلت عليهم، وبحسب العادات التي كانوا يألفونها، فلما أضاء الله بصائرهم
٣٣ - ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان، مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة، فقال: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ﴾ يا محمد ﴿بِمَثَلٍ﴾؛ أي: (١) بسؤال عجيب وكلام غريب، كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في حقك وحق القرآن ﴿إِلَّا جِئْنَاكَ﴾ في مقابلته، فالباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ للتعدية أيضًا؛ أي: بالجواب الحق الثابت المبطل لما جاؤوا به، القاطع لمادة القيل والقال ﴿وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ عطف على ﴿الحق﴾. والتفسير: تفعيل من الفسر؛ وهو كشف ما غطي.
والمعنى: وبما هو أحسن بيانًا وتفصيلًا لما هو الحق والصواب ومقتضى الحكمة، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته، لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة، وهذا أحسن منه، لأن سؤالهم مثل في البطلان، فكيف يصح له حسن، اللهم إلا أن يكون بزعمهم. يعني: لما كان السؤال حسنًا بزعمهم.. قيل: الجواب أحسن من السؤال. والمعنى؛ أي (٢): لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة إلا جئناك في مقابلة مثلهم وسؤالهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاؤوا به من المثل ويدمغه ويدفعه، فالمراد بالمثل هنا السؤال والاقتراح، وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته، ويبطل شبهته، ويحسن مادته.
والاستثناء في قوله (٣): ﴿إِلَّا جِئْنَاكَ﴾ مفرغ، محله النصب على الحالية؛ أي: لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا حال إتياننا إياك بالحق الذي لا محيد عنه، وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئلة، وبصحة جميع الأجوبة،
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وحاصل المعنى (١): ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح في نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم، ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانًا مما يقولون، ونحو الآية قوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾.
والخلاصة: أنهم لا يقترحون اقتراحًا من فاسد مقترحاته إلا أتيناك بما يدفعه، ويوضح بطلانه.
٣٤ - وبعد أن وصفوا رسوله بتلك الأوصاف السالفة تحقيرًا له.. سلاه على ذلك، وطلب إليه أن يقول لهم: ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول ﴿يُحْشَرُونَ﴾ يوم القيامة، ويسحبون ﴿عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ ويجرون ﴿إِلَى جَهَنَّمَ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان ﴿شَرٌّ﴾: خبر المبتدأ الثاني ﴿مَكَانًا﴾؛ أي: مكانة ومنزلة، أو مسكنًا ومنزلًا في الآخرة ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ أي: أخطأ طريقًا عن الحق والهدى من كل أحد في الدنيا.
والمعنى: أي إني لا أقول لكم كما تقولون، ولا أصفكم بمثل ما تصفونني به، بل أقول لكم: إن الذين يسحبون إلى جهنم، ويجرون بالسلاسل والأغلال هم شر مكانًا، وأضل سبيلًا، فانظروا بعين الإنصاف، وفكروا من أولى بهذه الأوصاف منا ومنكم؛ لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا، وسبيلكم أضل من سبيلنا، وهذا على نسق قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)﴾، ويسمون هذا الأسلوب في المناظرة بـ إرخاء العنان للخصم؛ ليسهل إفحامه وإلزامه.
والمراد أن الملائكة تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم، أو كون
ولما استكبر الكفار واستعلوا حتى لم يخروا ساجدين لله تعالى.. حشرهم الله تعالى على وجوههم، ولما تواضع المؤمنون.. رفعهم الله على النجائب، فمن هرب عن المخالفة، وأقبل إلى الموافقة نجا، ومن عكس هلك، وأين يهرب العاصي والله تعالى مدركه.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
٣٥ - واللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ موطئة للقسم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد آتينا موسى التوراة؛ أي: أنزلناها عليه بعد إغراق فرعون وقومه.
واعلم: أن الله سبحانه ذكر هنا طرفًا من قصص الأولين تسلية له - ﷺ - بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين بالله، وليس ذلك بخاص بمحمد - ﷺ -. وفي "الإرشاد": والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم، ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الآيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال، ونيله نهاية الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملك فرعون، وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام ﴿وَجَعَلْنَا مَعَهُ﴾؛ أي: مع موسى، والظرف متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾ ﴿أَخَاهُ﴾ الشقيق، مفعول أول له ﴿هَارُونَ﴾ بدل من ﴿أَخَاهُ﴾، أو عطف بيان وهو اسم أعجمي، ولم يرد في شيء من كلام العرب. ﴿وَزِيرًا﴾ مفعول ثان؛ أي: معينًا يوازره ويعاونه في الدعوة إلى الله وإعلاء الكلمة، فإن الموازرة المعاونة كما سيأتي في مبحث اللغة.
أي (١): ولقد أنزلنا على موسى التوراة كما أنزلنا عليك الفرقان، وجعلنا معه أخاه هارون معينًا وظهيرًا له، ولا تعارض بين هذه الآية وقوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (٥٣)﴾ فإنه وإن كان نبيًا فالشريعة لموسى عليه السلام، وهو تابع له فيها، كما أن الوزير متبع لسلطانه.
وفي "الروح" (٢): فإن قلت: كون هارون وزيرًا كالمنافي لكونه شريكًا له في النبوة؛ لأنه إذا صار شريكًا له خرج عن كونه وزيرًا؟
قلتُ: لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة؛ لأن المتشاركين في الأمر متوازران عليه، وقد كان هارون في أول الأمر وزيرًا لموسى، ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما: اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا.
٣٦ - ثم ذكر ما أمرا به من تبليغ الرسالة مع بيان أن النصر لهما آخرًا على أعدائهما بقوله: ﴿فَقُلْنَا﴾ لهما ﴿اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ الإلهية (٣)؛ وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده تعالى بالملك والعبادة، حيث عبدوا فرعون، فذهبا إليهم، فأرياهم الآيات التسع كلها؛ وهي آيات النبوة، فكذبوها حيث أنكروا رسالتهما كما كذبوا الآيات الإلهية ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾؛ أي: أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكًا عجيبًا؛ أي: فقلنا لهما: اذهبا إلى فرعون
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
وقوله: ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ قبله حذف تقديره: فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا فكذبوهما تكذيبًا مستمرًا، فأهلكناهم إثر ذلك التكذيب المستمر إهلاكًا عجيبًا هائلًا لا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة؛ أي: أولها وآخرها اكتفاء بما هو المقصود منها؛ وهو إلزام الحجة ببعثة الرسل والتدمير بالتكذيب، والفاء للتعقيب باعتبار نهاية التكذيب؛ أي: باعتبار استمراره، وإلا فالتدمير متأخر عن التكذيب بأزمنة متطاولة. وقيل: إن المراد بالتدمير هنا الحكم؛ لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده بمدة. وقرأ (٢) علي والحسن ومسلمة بن محارب: ﴿فدمراهم﴾ على الأمر لموسى وهارون. وعن علي كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضًا: ﴿فدمرا بهم﴾ أمرًا لهما بزيادة باء الجر. ومعنى
(٢) البحر المحيط.
قصة قوم نوح عليه السلام
٣٧ - ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ منصوب بفعل مضمر وجوبًا، يدل عليه ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ﴾؛ أي: ودمرنا قوم نوح ﴿لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾؛ أي: نوحًا ومن قبله من الرسل كشيث وإدريس، أو نوحًا وحده؛ لأن تكذيبه تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد والإسلام. ويقال: إن نوحًا كان يدعو قومه إلى الإيمان به وبالرسل الذين بعده، فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل، كما ثبت أن كل نبي أخذ العهد من قومه أن يؤمنوا بخاتم النبيين إن أدركوا زمنه. وقيل: معطوف على الهاء في: ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ﴾.
﴿أَغْرَقْنَاهُمْ﴾ بالطوفان؛ أي: أهلكناهم بمائه، والإغراق السفول في الماء كما سيأتي. وهو استئناف مبين لكيفية تدميرهم ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾؛ أي: وجعلنا إغراقهم، أو قصتهم ﴿لِلنَّاسِ آيَةً﴾ عظيمة يعتبر بها كل من شاهدها أو سمعها، وهو مفعول ثان لـ ﴿جعلنا﴾ و ﴿لِلنَّاسِ﴾ ظرف لغو له؛ أي: جعلنا قصتهم عبرة لكل الناس على العموم، يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾؛ أي: أعددنا وهيأنا في الآخرة ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لهم؛ أي: للمغرقين من قوم نوح، والإظهار في موضع الإضمار للتسجيل بظلمهم، والايذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب. فالمراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص، ويجوز أن يكون المراد بهم كل من سلك مسلكهم في التكذيب: ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: وجيعًا سوى ما حل بهم من عذاب الدنيا.
وحاصل معنى الآية: أي (١) وكذلك فعلنا بقوم نوح حين كذبوا رسولنا نوحًا عليه السلام، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله، ويحذرهم نقمته ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ فأغرقناهم، ولم نترك منهم أحدًا إلا
وفي قوله: ﴿كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ وهم لم يكذّبوا إلا رسولًا واحدًا؛ وهو نوح إيماء إلى أن من كذب رسولًا واحدًا.. فقد كذب جميع الرسل؛ إذ لا فرق بين رسول وآخر؛ إذ جميعهم يدعون إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والأوثان، قاله الزجاج.
ثم ذكر مآل المكذبين، فقال: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: وأعددنا لكل من كفر بالله، ولم يؤمن برسله عذابًا أليمًا في الآخرة. وفي ذلك رمز إلى أن قريشًا سيحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة مثل ما حل بأولئك المكذبين إذا لم يرعووا عن غيهم.
قصص عاد وثمود وأصحاب الرس وغيرهم
٣٨ - وانتصاب ﴿وَعَادًا﴾ بالعطف على ﴿قومَ﴾. وقيل: على محل ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾. وقيل: على المفعول الأول لـ ﴿جعلنا﴾؛ أي: وأهلكنا عادًا قوم هود ﴿وَثَمُودَ﴾ قوم صالح. قرأ حمزة وحفص وعبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى ﴿وَثَمُودَ﴾ غير مصروف على تأويل القبيلة، وقرأ غيرهم ﴿وثمودًا﴾ بالصرف على تأويل الحي ﴿و﴾ أهلكنا ﴿أَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير مطوية. وأصحاب الرس هم قوم يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم شعيبًا عليه السلام فكذبوه، فبينما هم حول الرس؛ أي: بئرهم الغير المبنية التي يشربون منها ويسقون مواشيهم انهارت، فخسف بهم وبديارهم. قاله الكلبي ووهب. وقيل: الرس: قرية بفلج اليمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبي، فقتلوه، فأهلكوا. وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان عليه السلام، ابتلاهم بطير عظيم، فيها من كل لون تسمى بالعنقاء لطول عنقها فتخطف صبيانهم وعُرَسَهُمْ - أي طعامهم -، فدعا عليها حنظلة، فأصابتها الصاعقة، فكفوا شرها،
وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي - ﷺ -: أن أهل الرس أخذوا نبيهم، فرسوه في بئر، وأطبقوا عليه صخرة، فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر، فيعينه الله تعالى على تلك الصخرة فيقلعها، فيعطيه ما يغذيه به، ثم يرد الصخرة، إلى أن ضرب الله يومًا على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة، وأخرج أهل القرية نبيهم، فآمنوا؛ به في حديث طويل. قال الطبري: فيمكن (١) أنهم كفروا بعد ذلك، فذكرهم في هذه الآية، وكثر الاختلاف في أصحاب الرس، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه.
وملخص هذه الأقوال: أنهم قوم أهلكهم الله تعالى بتكذيب من أرسل إليهم، والله سبحانه أعلم بمن هم.
﴿وَقُرُونًا﴾؛ أي: وأهلكنا أيضًا أهل قرون وأزمنة. جمع قرن؛ وهم القوم المقترنون في زمن واحد. قيل: القرن: مئة سنة. وقيل: مئة وعشرون سنة. وقيل: القرن أربعون سنة. وفي "القاموس": الأصح أنه مئة سنة؛ لقوله - ﷺ - لرجل: "عش قرنًا، فعاش مئة سنة" ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ المذكور من الطوائف والأمم من قوم نوح وما بعده ﴿كَثِيرًا﴾ صفة لـ ﴿قرونا﴾. والإفراد باعتبار الجمع، أو العدد كقوله: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا﴾، أو لأن فعيلًا يستوي فيه المفرد والجمع؛ أي: وأهلكنا أقوامًا كثيرًا بين هؤلاء الأمم المذكورة لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.
والمعنى: أي (٢) ودمرنا عادًا قوم هود عليه السلام بالريح الصرصر العاتية، وثمود قوم صالح بالصيحة، وأهلكنا أصحاب الرس الذين كانوا باليمامة أو
(٢) المراغي.
٣٩ - ثم ذكر أنه أنذر أولئك المكذبين، وحذرهم قبل أن يوقع بهم، فقال: ﴿وَكُلًّا﴾: منصوب بمضمرٍ يفسره ما بعده؛ أي: ذكرنا وأنذرنا وخوفنا كل واحد من الأمم المذكورين المهلكين ﴿ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ﴾؛ أي: بينا له الأشباه والقصص العجيبة الغريبة التي تشبه الأمثال في الغرابة، الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل ﴿وَكُلًّا﴾؛ أي: وكل واحد منهم بعد التكذيب والإصرار ﴿تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾؛ أي: أهلكنا إهلاكًا عجيبًا هائلًا. والتتبير (١): الإهلاك بالعذاب، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. قال المؤرخ والأخفش: معنى: ﴿تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ دمرنا تدميرًا، أبدلت التاء والباء من الدال والميم.
٤٠ - ثم ذكر مشركي مكة بما يرونه من العبر في حلهم وترحالهم، وما يشاهدونه مما حل بأولئك الأمم المكذبة من المثلات، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أتى قوم قريش في متاجرهم إلى الشام ومروا ﴿عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ وهي (٢) قرية سدوم - بالدال المهملة، وقيل: بالذال المعجمة - وهي عظمى قرى قوم لوط، أمطرت عليها الحجارة، وأهلكت، فإن أهلها كانوا يعملون العمل الخبيث. واعلم أن قرى قوم لوط خمس، ما نجا منها إلا واحدة؛ وهي أصغرها؛ لأن أهلها كانوا لا يعملون العمل الخبيث، وسدوم من التي أهلكت. وتخصيصها هنا؛ لكونها في ممر تجار قريش، وكانوا في مرورهم بها يرونها مؤتفكة ولا يعتبرون. وانتصاب (٣) ﴿مطر﴾ على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد، كما قيل في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والمعنى: والله لقد مر هؤلاء المكذبون في رحلة الصيف على سدوم عظمى قرى قوم لوط، وقد أهلكها الله سبحانه بأن أمطر عليها حجارة من سجيل؛ لأن قومها كانوا يعملون الخبائث، وحذرهم لوط، فما أغنت عنهم الآيات والنذر، ثم وبخهم على تركهم التذكر حين مشاهدة ما يوجبه، فقال: ﴿أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا﴾؛ أي: أفلم يكونوا يرون آثارها وآثار ما حل بأهلها؟ والاستفهام فيه: للتقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه؛ وهو ما بعد النفي؛ أي: ليقروا بأنهم رأوها حتى يعتبروا بها. اهـ. وفي "أبي السعود" (١): والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها، أو أكانوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرونها في مرات مرورهم؛ ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب، فالمنكر في التقدير الأول: ترك النظر وعدم الرؤية معًا، والمنكر في التقدير الثاني: عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها" اهـ.
والمعنى: ألم يكونوا ينظرون إليها، فلم يكونوا يرون ما نزل بتلك القرية من عذاب الله تعالى بتكذيب أهلها رسول ربهم، فيعتبروا ويتذكروا ويراجعوا التوبة من كفرهم وتكذيبهم لرسوله؟ ثم أبان سبحانه أن عدم التذكر لم يكن سببه عدم الرؤية، بل منشؤه إنكار البعث والنشور، فقال: ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾؛ أي: بعثًا. وهذا إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة، وإما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى
والمعنى: أي أنهم ما كذبوا محمدًا - ﷺ - فيما جاءهم به من عند الله تعالى؛ لأنهم لم يكونوا رأوا ما حل بالقرية التي وصفت، بل كذبوه من قبل أنهم قوم لا يخافون نشورًا بعد الممات، ولا يوقنون بعقاب، ولا ثواب، فيردعهم ذلك عما يأتون من معاصي الله تعالى؛ أي (٢): فإنهم ينكرون النشور المستتبع للجزاء الأخروي، ولا يرون لنفس من النفوس نشورًا وبعثًا أصلًا مع تحققه حتمًا، وشموله للناس عمومًا، واطراده وقوعًا، فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك، وإنما يحملونه على الاتفاقات.
واعلم: أن النشور لا ينكره إلا الكفور، وقد جعل الله في الدنيا شاهدًا له، ومشيرًا لوقوعه، وفي الخبر: "إذا رأيتم الربيع فاذكروا النشور". والربيع مثل يوم النشور؛ لأن الربيع وقت إلقاء البذر، ويكون الزارع قلبه معلقًا إلى ذلك الوقت أيخرج أم لا؟ فكذلك المؤمن يجتهد في طاعته وقلبه يكون معلقًا بين الخوف والرجاء إلى يوم القيامة، أيقبل الله تعالى منه أم لا؟ ثم إذا خرج الزرع وأدرك يحصد ويداسى ويذرى، ثم يطحن ويخبز، وإذا خرج من التنور بلا احتراق يصلح للخوان، ولو احترق ضاع عمله وبطل سعيه، وكذلك العبد يصلي ويصوم ويزكي ويحج، فإذا جاء ملك الموت، وحصد روحه بمنجل الموت، وجعلوه في القبر يكون فيه إلى يوم القيامة، وإذا جاء يوم القيامة وخرج من قبره، ووقع الحشر والنشور أمر به إلى الصراط، فإذا جاوز الصراط سالمًا فقد صلح للرؤية، وإلا
(٢) روح البيان.
٤١ - ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ﴾؛ أي: وإذا أبصرك يا محمد هؤلاء المشركون الذين قصصت عليك قصصهم يعني: قريشًا كأبي جهل وأصحابه ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ ﴿إِنْ﴾: نافية؛ أي: ما يتخذونك ﴿إِلَّا هُزُوًا﴾؛ أي: إلا موضع هزْءٍ وسخرية؛ أي: إلا مهزوءًا بك؛ أي: يستهزئون بك قائلين بطريق الاستحقار والتهكم: ﴿أَهَذَا﴾ الإنسان هو ﴿الذي بعثـ﴾ ـه ﴿اللَّهُ﴾ إلينا حالة كونه ﴿رَسُولًا﴾، ليثبت الحجة علينا يعني (١): أنهم لم يقتصروا على ترك الإيمان، وإيراد الشبهات الباطلة، بل زادوا عليه الاستخفاف والاستهزاء إذا رأوه؛ وهو قول أبي جهل لأبي سفيان، وهذا نبي بني عبد مناف. والاستفهام فيه للتعجب المضمن للإنكار والتهكم.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن أهل الحس لا يرون النبوة والرسالة بالحسّ الظاهر؛ لأنها تدرك بنظر البصيرة المؤيدة بنور الله عز وجل، وهم عميان بهذا البصر، فلما سمعوا منه ما لم يهتدوا به من كلام النبوة والرسالة ما اتخذوه إلا هزوًا، وقالوا مستهزئين: أهذا الذي بعث الله رسولًا وهو بشر مثلنا محتاج إلى الطعام والشراب.
٤٢ - ﴿إِنْ كَادَ﴾ ﴿إِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف؛ أي: إنه كاد، واللام في ﴿لَيُضِلُّنَا﴾ هي الفارقة بين النافية والمخففة؛ أي: إنه كاد محمد وقارب أن يضلنا ويصرفنا ﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾؛ أي: عن عبادتها صرفًا كليًا بحيث يبعدنا عنها؛ أي ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده، والدعاء إلى التوحيد، وكثرة ما يورده مما يسبق إلى الذهن أنه حجج ومعجزات ﴿لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا﴾ وثبتنا ﴿عَلَيْهَا﴾؛ أي: على آلهتنا، واستمسكنا بعبادتها، وحبسنا أنفسنا عليها، وجواب ﴿لولا﴾ معلوم مما قبله؛ أي: لولا صبرنا على عبادتها وثباتنا على ديننا كاد ليضلنا عن آلهتنا.
١ - أنه - ﷺ - قد بلغ من الاحتفال في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات، وإقامة الحجج والبينات مبلغًا شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط عنادهم وتناهي عتوهم ولجاجهم.
٢ - الدلالة على تناقضهم واضطرابهم، فإن في استفهامهم السابق ما يدل على التحقير له، وفي آخر كلامهم ما يدل على قوة حجته ورجاحة عقله، فذكره تحميق لهم، وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه.
وبعد أن حكى مقالتهم سفّه آراءهم من وجوه ثلاثة:
١ - ﴿وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ البتة وإن تراخى ﴿حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾ الذي يستوجبه كفرهم، ومن العذاب عذاب بدر أيضًا؛ أي: سوف يعلمون حين يرون العذاب في الآخرة عيانًا ﴿مَنْ﴾ هو ﴿أَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ أي: من هو أبعد طريقًا عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ نسبوه - ﷺ - إلى الضلال في ضمن الإضلال، فإن أحدًا لا يضل غيره إلا إذا كان ضالًا في نفسه، واعلم أنه لا يهملهم وإن أمهلهم. ووصف السبيل بالضلال مجازًا. والمراد سالكوها، و ﴿مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ جملة استفهامية معلقة لـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾، فهي سادة مسد مفعوليه.
أي (٢): إنهم حين يشاهدون العذاب الذي استوجبوه بكفرهم وعنادهم يعلمون من الضال ومن المضل؛ وفي هذا رد لقولهم: ﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾ كما أن فيه وعيدًا شديدًا على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.
٤٣ - ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى، فقال معجبًا لرسوله - ﷺ -:
٢ - ﴿أَرَأَيْتَ﴾ يا محمد، أو أيها المخاطب. كلمة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ تستعمل تارة للإعلام، وتارة للسؤال، وهاهنا للتعجب من جل من هذا وصفه {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أرأيت يا محمد من جعل هواه إلهًا لنفسه بأن أطاعه، وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة والبرهان بالكلية، كأنه قيل: ألا تعجب ممن جعل هواه بمنزلة الإله في التزام طاعته وعدم مخالفته، فانظر إليه وتعجب منه. وهذا الاستفهام للتقرير والتعجيب. قال أبو سليمان - رحمه الله تعالى -: من أتبع نفسه هواها فقد سعى في قتلها؛ لأن حياتها بالذكر، وموتا وقتلها بالغفلة، فإذا غفل اتبع الشهوات، وإذا اتبع الشهوات صار في حكم الأموات.
﴿أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾؛ أي: حفيظًا تمنعه عن الشرك والمعاصي، وحاله هذا؛ أي: الاتخاذ. والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير؛ أتطمع في هدايته، فتكون عليه وكيلًا؛ أي: لست موكلًا على حفظه، بل أنت منذر، وليس هذا نهيًا عن دعائه إياهم، بل الإعلام بأنه قد قضى ما عليه من الإنذار والإعذار. وقال بعض المفسرين: هذه الآية منسوخة بآية السيف.
والمعنى: أي انظر في حال هذا الذي جعل هواه إلهه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه، وأعرض عن استماع الحجة الباهرة والبرهان الجلي الواضح، واعْجب ولا تأبه به، فإنك لن تكون حفيظًا على مثل هذا، تزجره عما هو عليه من الضلال، وترشده إلى الصراط السوي.
وخلاصة ذلك: كأنه سبحانه يقول لرسوله: إن هذا الذي لا يرى معبودًا له
٣ - ٤٤ ﴿أَمْ تَحْسَبُ﴾ ﴿أَمْ﴾: منقطعة تقدر بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أتظن يا محمد ﴿أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أن أكثر هؤلاء المشركين ﴿يَسْمَعُونَ﴾ ما يتلى عليهم من الآيات حق سماع؛ أي: سماع تفهم وتدبر واعتبار واتعاظ ﴿أَوْ﴾ أنهم ﴿يَعْقِلُونَ﴾ ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن، فتهتم بشأنهم، وتطمع في إيمانهم، لا تحسبنّ ذلك. وتخصيص (٢) الأكثر؛ لأنه كان منهم من آمن ومنهم من عقل الحق وكابر استكبارًا وخوفًا على الرسالة.
قال ابن عطاء - رحمه الله -: لا تظن أنك تسمع نداءك، إنما تسمعهم إن سمعوا نداء الأزل، وإلا فإن نداءك لهم ودعوتك لا تغني عنهم شيئًا، وإجابتهم دعوتك هو بركة جواب نداء الأزل ودعوته، فمن غفل وأعرض فإنما هو لبعده عن محل الجواب في الأزل ﴿إِنْ هُمْ﴾؛ أي: ما هم في عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التدبر فيما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات ﴿إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾؛ أي: إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة، وعلم في الضلالة.
وفي "التأويلات النجمية": ليس لهم نهمة إلا في الأكل والشرب واستجلاب حظوظ النفس كالبهائم التي نهمتها الأكل والشرب ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ وأجهل وأخطأ ﴿سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقًا موصلًا إلى مصالحهم من الأنعام؛ لأنها تنقاد لمن يقودها، وتميز من يحسن إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها،
(٢) روح البيان.
وقيل: إنما كانوا أضل من الأنعام؛ لأنه لا حساب عليها، ولا عقاب لها. وقيل: إنما كانوا أضل؛ لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك بخلاف هؤلاء، فإنهم اعتقدوا البطلان عنادًا ومكابرة وتعصبًا وغمطًا للحق.
واعلم: أن (١) الله تعالى خلق الملائكة وعلى العقل جبلهم، وخلق البهائم وركب فيها الشهوة، وخلق الإنسان، وركب فيه الأمرين؛ أي: العقل والشهوة، فمن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم، ولذا قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾؛ لأن الإنسان بقدمي العقل المغلوب والهوى الغالب ينقل إلى أسفل دركة لا تبلغ البهائم إليها بقدم الشهوة فقط، ومن غلب عقله هواه؛ أي: شهوته، فهو بمنزلة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن كان غالبًا على أمره فهو خير من الملائكة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧)﴾، فعلى العاقل الاحتراز عن الأفعال الحيوانية، فإنها سبب لزوال الجاه الصوري والمعنوي، فمدار الخلاص هو ترك الراحة، والعمل بسبب مخالفة النفس والطبيعة.
وحاصل معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)﴾؛ أي (٢): بل أتظن يا محمد أن أكثرهم
(٢) المراغي.
٤٥ - ولما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم.. أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد، مع ما فيها من عظيم الإنعام، وحاصل ما ذكره منها خمسة: الأول منها: مد الظل، والثاني: جعل الليل لباسًا، والثالث: إرسال الرياح، والرابع: مرج البحرين، والخامس: خلق البشر من الماء.
فأولها: الاستدلال بأحوال الظل، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ﴾ الخطاب (١) لرسول الله - ﷺ -، ولكن المراد منه العموم؛ لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى
وعبارة أبي السعود: ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾؛ أي (١): كيف أنشأ ظلًا لأي مظل كان من جبل، أو بناء، أو شجر، عند ابتداء طلوع الشمس ممتدًا، لا أنه تعالى مده بعد أن لم يكن كذلك كما بعد نصف النهار إلى غروبها، فإن ذلك مع خلوه عن التصريح يكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم، وأما ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وأنه أطيب الأوقات فغير سديد؛ إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته فيما يشاهدونه، فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف، مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضَحِّ الشمس، وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلًا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلًا، ولا يصفونه بأوصافه المعهودة" اهـ باختصار.
والمراد (٢): أن الشمس تنسخ الظل وتزيله شيئًا فشيئًا إلى الزوال، ثم ينسخ الظل ضوء الشمس، ويزيله من وقت الزوال إلى الغروب، فالظل الآخذ في التزايد الناسخ لضوء الشمس يسمى فيئًا؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب، فهو من الزوال إلى الغروب، والظل من الطلوع إلى الزوال.
(٢) روح البيان.
والمعنى (٢): ولو شاء الله سبحانه سكونه ودوامه لجعله ساكنًا ثابتًا دائمًا مستقرًا، لا تنسخه الشمس. وقيل: المعنى: لو شاء لمنع الشمس من الطلوع. والأول أولى، والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ، ومنه قولهم: سكن فلان بلد كذا إذا أقام به واستقر فيه. وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، اعترض بها للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل فيما ذكر من المد للأسباب العادية، وإنما المؤثر فيه المشيئة والقدرة.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ معطوف على قوله: ﴿مَدَّ الظِّلَّ﴾، داخل في حكمه ولم يقل: دالة؛ لأن المراد ضوء الشمس؛ أي: ثم جعلنا طلوع الشمس دليلًا على ظهور الظل، ومشاهدته للحسّ والعيان، والأشياء تستبين بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة ما عرف النور.
والمعنى (٣): جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعًا حسبما نطقت به الشرطية المعترضة، وذلك لأن
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
٤٦ - ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ﴾ معطوف أيضًا على ﴿مَدَّ﴾، داخل في حكمه. و ﴿ثُمَّ﴾ للتراخي الزماني؛ أي: ثم أزلنا ذلك الظل الممدود بعدما أنشأناه ممتدًا، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه، من غير أن يكون له تأثير في ذلك أصلًا، وإنما عبر عنه بالقبض المنبىء عن جمع المنبسط وطيه؛ لما أنه قد عبر عن إحداثه بالمد الذي هو البسط طولًا، وقوله: ﴿إِلَيْنَا﴾ تنصيص على كون مرجعه إلى الله تعالى، كما أن حدوثه عنه عز وجل. وقيل: معنى ﴿إِلَيْنَا﴾: علينا؛ أي: ﴿قَبْضًا يَسِيرًا﴾ سهلًا علينا؛ أي: محوًا يسيرًا؛ أي: على مهل وتدريج قليلًا قليلًا بحسب ارتفاع دليله؛ أي: الشمس يعني أنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب، فلو قبضه الله تعالى دفعة.. لتعطلت منافع الظل والشمس، فقبضه يسيرًا يسيرًا لتبقى منافعهما والمصالح المتعلقة بهما.
والمعنى (١): أي ثم أزلناه بضوء الشمس يسيرًا يسيرًا، ومحوناه على مهل جزءًا جزءًا بحسب سير الشمس.
٤٧ - وثاني الأدلة: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: الله تعالى وحده ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ أيها العباد، ﴿اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾؛ أي: كاللباس يستركم بظلامه كما يستر اللباس لابسه، فشبه ظلامه باللباس في الستر، قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشبيهًا له من حيث إنه يستر الأشياء ويغشاها. واللام متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾.
فإن قلت (٢): إذا كانت ظلمة الليل لباسًا فلا حاجة إلى ستر العورة في صلاة الليل؟
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): وجعل النوم الذي يقع في الليل غالبًا راحة للأبدان بقطع المشاغل والأعمال المختصة بحال اليقظة، أو المعنى: جعل النوم موتًا، فعبر عن القطع بالسبات الذي هو الموت؛ لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع الحياة، وعليه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ فالموت والنوم من جنس واحد، خلا أن الموت هو الانقطاع الكلي؛ أي: انقطاع ضوء الروح عن ظاهر البدن وباطنه، والنوم هو الانقطاع الناقص؛ أي: انقطاع ضوء الروح عن ظاهره دون باطنه، والمسبوت: الميت لانقطاع الحياة عنه، والمريض: المغشي عليه لزوال عقله وتمييزه، وعليه قولهم: مثل المبطون والمفلوج والمسبوت ينبغي أن لا يبادر إلى دفنه حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق موتهم.
﴿وَجَعَلَ﴾ لكم ﴿النَّهَارَ نُشُورًا﴾ والنهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، وهو في الشرع ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي الأصل ما بين طلوع الشمس إلى غروبها. والنشور؛ إما من الانتشار؛ أي: وجعل النهار ذا نشور؛ أي: انتشار، ينتشر فيه الناس لطلب المعاش وابتغاء الرزق، كما قال: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أو من نشر الميت إذا عاد حيا؛ أي: وجعل النهار زمان بعث من ذلك السبات، والنوم كبعث الموتى، فو على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور،
فائدة: والحكمة في النوم أن الروح القدسي، أو اللطيفة الربانية، أو النفس الناطقة غريبة جدًّا في هذا الجسم السفلي، مشغولة بإصلاحه وجلب منافعه، ودفع مضارّه، محبوسة فيه ما دام المرء يقظان، فإذا نام ذهب إلى مكانه الأصلي ومعدنه الذاتي، فيستريح بواسطة لقاء الأرواح ومعرفة المعاني والغيوب مما يتلقى في حين ذهابه إلى عالم الملكوت من المعاني التي يراها بالأمثلة في عالم الشهادة، وهو السر في تعبير الرؤيا كذا قال في "الروح" والله أعلم.
ومعنى الآية: أي (١) ومن أثار قدرته وروائع رحمته الفائضة على خلقه أن جعل لنفعكم الليل كاللباس، يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، وجعل النوم كالموت؛ لتعطيله الحواس ووظائفها المختلفة، وجعل النهار زمان بعث من ذلك الموت.
٤٨ - وثالث الأدلة: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: الله سبحانه وحده الإله ﴿الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾؛ أي: أطلقها وبعثها حالة كونها ﴿بُشْرًا﴾ لكم؛ أي: مبشرات لكم بمجيء المطر؛ أي: أرسلها ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: قدام رحمته ومطره سبحانه وتعالى؛ لأنه أولًا تكون ريح، ثم سحاب، ثم مطر. والإرسال: التسخير. والريح معروفة؛ وهي فيما قيل: الهواء المتحرك، وقيل في الرحمة: رياح بلفظ الجمع؛ لأنها تجمع الجنوب والشمال والصبا، وقيل في العذاب: ريح؛ لأنها واحدة؛ وهي الدبور التي أهلكت عادًا، وهو عقيم لا يلقح، ولذا ورد في الحديث: "اللهم اجعلها لنا رياحًا، ولا تجعلها ريحًا". والمعنى؛ أي: والله الذي أرسل الرياح مبشرات بقدوم الأمطار.
(٢) المراح.
وقال ابن عطية (٢): وقراءة الجمع أوجه؛ لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة، فإنما هي رياح؛ لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرق، وتأتي ليِّنة، وتأتي من هاهنا وهاهنا، وشيئًا إثر شيء، وريح العذاب تخرج لا تتداءب، وإنما تأتي جسدًا واحدًا، ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه، قال الرماني: جمعت رياح الرحمة؛ لأنها ثلاثة: لواقح الجنوب والصبا والشمال. وأفردت ريح العذاب؛ لأنها واحدة لا تلقح؛ وهي الدبور انتهى. ولا يسوغ أن يقال: هذه القراءة أوجه؛ لأن كلاً من القراءتين متواترة.
﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ بعظمتنا. والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بالإنزال؛ لأنه نتيجة إرسال الرياح ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من جهة الفوق يعني: من السحاب ﴿مَاءً طَهُورًا﴾؛ أي: بليغًا في الطهارة، وهو الذي يكون طاهرًا في نفسه، ومطهرًا لغيره من الحدث والنجاسة. والطهور اسم لما يتطهر به كالوقود لما توقد به النار، والوضوء لما يتوضأ به؛ أي: وأنزلنا من السحاب ما تتطهرون به في غسل ملابسكم وأجسامكم، وتنتفعون به في طبخ مطاعمكم، وتشربونه عذبًا فراتًا، روي أن النبي - ﷺ - قال في البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أخرجه أبو داود والترمذي.
قال في "فتح الرحمن" الطهور: هو الباقي على أصل خلقته من ماء المطر والبحر والعيون والآبار، على أي صفة كان من عذوبة، وملوحة، وحرارة،
(٢) البحر المحيط.
فإن قلت: لم (١) وصف الماء بالطهور مع أن وصف الطهارة لا دخل له في ترتيب الأحياء والسقي على إنزال الماء؟
قلتُ: وصفه بالطهارة إشعارًا بزيادة النعمة؛ لأن وصف الطهارة نعمة زائدة على إنزال ذات الماء، وتتميمًا للمنة المستفادة من قوله: ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ﴾؛ ﴿وَنُسْقِيَهُ﴾ فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه مما يزيل طهوريته، وتنبيهًا على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها كانت بواطنهم بذلك أولى؛ لأن باطن الشيء أولى بالحفظ عن التلوث من ظاهره، وذلك لأن نظر الحق جل جلاله إلى باطن الإنسان، لا ظاهره.
٤٩ - ثم ذكر سبحانه علة الإنزال، فقال ﴿لِنُحْيِيَ بِهِ﴾؛ أي: بما أنزلنا من السماء من الماء الطهور ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾؛ أي: أرضًا يابسة، لا أشجار فيها ولا ثمار ولا مرعى، وإحياؤها: بإنبات النبات من المكان الذي لا نبات فيه. والمراد بالبلدة؛ القطعة من الأرض، عامرة كانت أو غيرها. والتذكير حيث لم يقل: بلدة ميتة؛ لأنه بمعنى البلد، أو الموضع، أو المكان، ولأنه غير جار على الفعل بأن يكون على صيغة اسم الفاعل، أو المفعول، فأجري مجرى الجامد.
وقرأ عيسى وأبو جعفر ﴿ميّتا﴾ بالتشديد ﴿وَنُسْقِيَهُ﴾؛ أي: نسقي ذلك الماء
والمعنى: أي وأنزلناه لنحيي به أرضًا طال انتظارها للغيث، فهي هامدة لا نبات فيها، وبذلك الماء يزدهر الشجر والنبات والأزهار، وذلك أشبه بالحياة للإنسان والحيوان، وأنزلناه ليشرب منه الحيوان والإنسان.
﴿مِمَّا خَلَقْنَا﴾ متعلق بـ ﴿نسقيه﴾ ﴿أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا﴾ بدل (٢) من محل الجار والمجرور؛ أي: ولنسقي ذلك الماء بعض خلقنا من الأنعام والأناسي، ويجوز أن يكون ﴿أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ﴾ مفعول ﴿نُسقيه﴾، و ﴿مِمَّا خَلَقْنَا﴾ متعلق بمحذوف حال من: ﴿أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها؛ أي: ولنسقيه أنعامًا وأناسي كثيرًا كائنات مما خلقنا. والأنعام: جمع نعم؛ وهي الأموال الراعية. والأناسي جمع إنسان كما سيأتي بسطه. و ﴿كَثِيرًا﴾: صفة ﴿أناسي﴾؛ لأنه بمعنى بشرًا، والمراد بهم أهل البوادي الذين يعيشون بالمطر، ولذا نكر الأنعام والأناسي، يعني: أن التنكير للإفراد النوعي، وتخصيصهم بالذكر؛ لأن أهل المدن والقرى يقيمون بقرب الأنهار والمنابع، فلا يحتاجون إلى سقيا السماء، وسائر الحيوانات من الوحوش والطيور تبعد في طلب الماء، فلا يعوزها الشرب غالبًا.
يقال: أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه.
وخص الأنعام بالذكر (٣)؛ لأنها قنية للإنسان؛ أي: يقتنيها ويتخذها لنفسه، لا لتجارة، وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها، فلذا قدّم سقيها على سقيهم،
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وفي "المراح": قوله: ﴿كَثِيرًا﴾ إما راجع للـ ﴿أناسي﴾، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار وينابيع الماء، فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي، فلا يجدون المياه للشرب إلّا عند نزول المطر، وإما راجع إلى ﴿نسقيه﴾، وذلك لأن الحيوان يحتاج الماء حالًا بعد حال ما دام حيًا، وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعض ذلك.. لكان أقرب إلى الضرر، اهـ. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري وأبو مجلز والضحاك وأبو العالية وعاصم الجحدري (١): ﴿وأناسِيْ﴾ بتخفيف الياء، ورويت عن الكسائي.
٥٠ - ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كرّرنا هذا القول الذي هو إنشاء السحاب، وإنزال المطر لما مرّ من الغايات الجليلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾؛ أي: ليتفكروا ويعرفوا كمال القدرة وحق النعمة في ذلك، ويقوموا بشكره حق القيام. وأصله: ﴿ليتذكروا﴾ من التذكر؛ وهو التفكر ﴿فَأَبَى﴾ وامتنع ﴿أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ ممن سلف وخلف ﴿إِلَّا كُفُورًا﴾؛ أي: كفران النعمة وقلة المبالاة بشأنها، فإن حقها أن يتفكر فيها، ويستدل بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها، وأعظم الكفر جحود الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة.
وأكثر المفسرين (٢): على أن الضمير في ﴿صَرَّفْنَاهُ﴾ راجع إلى نفس الماء
(٢) روح البيان.
والأنواء أمارات بجعل الله تعالى، والأنواء النجوم التي يسقط واحد منها في جانب المغرب وقت طلوع الفجر، ويطلع رقيبه في جانب المشرق من ساعته، والعرب كانت تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل: إلى الطالع منها؛ لأنّه في سلطانه. وقيل: الضمير راجع إلى القرآن، والمعنى: ولقد كررنا هذا القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به، ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم إلّا كفورًا به. وقيل: راجع إلى الريح. وقرأ عكرمة (١): ﴿صَرَفناه﴾ مخففًا، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ حمزة والكسائي ﴿ليَذْكُروا﴾ مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر.
ومعنى الآية: وعزتي وجلالي لقد صرفنا المطر بين الناس على أوضاع شتى، فلا تمر ساعة في ليل ولا نهار إلَّا كان فيه دليل على آثار قدرتنا، فننزله على قوم ونحجبه عن آخرين، فنحن صرفناه بينهم، كما صرّفنا الليل والنهار، فالشمس تجري من عند قوم، وتذهب إلى الآخرين ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ أي: إلا أن الماء قد يكون جامدًا يشبه الحجر، وسائلا يشبه الزيت وسائر المائعات، وحينًا بخاريًا يشبه الهواء، وهو أيضًا غاد ورائح في الجو، وفي
٥١ - ثم بين منّته على رسوله، وأنه كلفه الأحمال الثقال من أعباء النبوة؛ ليزداد شرفًا ويعظم قدرًا، فقال: ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾؛ أي: ولو (١) أردنا أن نرسل رسولًا إلى أهل كل قرية ﴿لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا﴾؛ أي: لأرسلنا في كل مصر ومدينة نذيرًا؛ أي: نبيًا ينذر أهلها، وخفت عنك أعباء النبوة، ولكن بعثناك إلى القرى كلها، وحمّلناك ثقل النذارة؛ لتستوجب بصبرك ما أعددناه لك من الكرامة والمنزلة الرفيعة، فقابل ذلك بشكر النعمة، وبالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، كما قال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾، وثبت في "الصحيحين": "بعثت إلى الأحمر والأسود"؛ أي: إلى العجم والعرب.
والخلاصة: أنا عظّمناك بهذا الأمر، وجعلناك مثقلًا بأعبائه؛ لتحوز ما ادخر لك من عظيم جزائه وكبير مثوبته، فعليك بالمجاهدة والمصابرة، ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإعراض والمشاكسة
٥٢ - ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: لا توافقهم فيما ندبوك إليه من عبادة الآلهة واتباع دين الآباء، وأغلظ عليهم ولا تداهنهم، واثبت على الدعوة وإظهار الحق ﴿وَجَاهِدْهُمْ﴾؛ أي: جادلهم ودافعهم عن الدين الحق ﴿بِهِ﴾؛ أي: بالقرآن؛ أي: بتلاوة ما في تضاعيفه من المواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة لرسلها ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾؛ أي: عظيمًا تامًا شديدًا، لا يخالطه فتور، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. وإنما لم يحمل المجاهدة على القتال بالسيف؛ لأنه إنما ورد الإذن فيه بعد الهجرة بزمان، والسورة مكية، قال بعضهم: ويجوز أن يكون الجهاد بالألسنة بترك المداهنة في حقهم وإغراء الناس على دفع فسادهم، كما أن الجهاد بالأموال بالدفع إلى من يحاربهم ويستأصلهم.
والخلاصة: أنك مبعوث إلى الناس كافة لتنذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم، فاجتهد في دعوتك، ولا تتوان فيها، ولا تحفل بوعيدهم، فإن الله ناصرك عليهم ومظهر دينك على الدين كله ولو كره المشركون.
٥٣ - ورابع الأدلة: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: خلاهما (١) وأرسلهما، وأجراهما في مجاريهما متلاصقين بحيث لا يتمازجان، ولا يلتبس أحدهما بالآخر.
وجملة قوله: ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾ إما مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف مرجهما؟ فقيل: هذا عذب، وهذا ملح، أو في محل نصب على الحال من ﴿الْبَحْرَيْنِ﴾ بتقدير القول؛ أي: هو الذي مرج البحرين حال كونهما مقولًا في حقهما: ﴿هَذَا﴾؛ أي: أحدهما ﴿عَذْبٌ﴾؛ أي: حلو طيب ﴿فُرَاتٌ﴾؛ أي: سائغ قاطع للعطش لغاية عذوبته صفة ﴿عَذْبٌ﴾ والتاء فيه أصلية وهذا أي: الآخر ﴿مِلْحٌ﴾؛ أي: مرّ ﴿أُجَاجٌ﴾؛ أي: زعاق بليغ الملوحة، صفة ﴿مِلْحٌ﴾، وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي ﴿مَلِح﴾ بفتح الميم وكسر اللام، وكذا في فاطر ﴿وَجَعَلَ﴾: عطف على الصلة ﴿بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: بين البحرين العذب والملح ﴿بَرْزَخًا﴾؛ أي: حاجزًا وحائلًا من قدرته سبحانه غير مرئي ﴿وَحِجْرًا﴾؛ أي: سترًا ﴿مَحْجُورًا﴾؛ أي: ممنوعًا به تغيير أحدهما طعم الآخر، وهو صفة مؤكدة لـ ﴿حِجْرًا﴾ كليل أليل ويوم أيوم. وقيل: هذه كلمة استفادة كما سبق في هذه السورة. والمعنى هاهنا على التشبيه؛ أي: تنافرًا بليغًا، كأن كلاً منهما يتعوذ من الآخر
واعلم: أن أكثر المفسرين حمل البحرين على بحري فارس والروم، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط، وموضع التقائهما هو مجمع البحرين المذكور في الكهف، ولكن يلزم على هذا أن يكون البحر الأول عذبًا، والثاني ملحًا، مع أنهم قالوا: لا وجود للبحر العذب هناك، وذلك لأنهما في الأصل خليجان من المحيط، وهو مرّ، والأوجه أن يمثّل البحران بالنيل المبارك والبحر الأخضر، وهو بحر فارس الذي هو شعبة من البحر الهندي الذي يتصل بالبحر المحيط، وبحر فارس مر، وذلك أن بحر النيل يدخل في البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط به، وهو معنى المرج، ولولا اختلاطه بملوحته.. لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته كما في "إنسان العيون".
والمعنى: أي (١) ومن آثار نعمته على خلقه أن خلى البحرين متجاورين متلاصقين، وجعلهما لا يمتزجان، ومنع الملح من تغيير عذوبة العذب وإفساده إياه، وحجزه عنه بقدرته، فكأن بينهما حاجزًا يمنع أحدهما إفساد الآخر، وكأن بينهما ساترًا يجعله لا يبغي عليه.
والخلاصة (٢): أنه تعالى جعل البحرين مختلطين في مرأى العين، منفصلين في التحقيق بقدرته تعالى بحيث لا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح، ولا يتغير طعم أحدهما بالآخر ولا يفسده، ونحو الآية قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٢١)﴾.
٥٤ - وخامس الأدلة: ما ذكره بقوله: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾؛ أي (٣): من ماء الذكر والأنثى؛ وهو النطفة، أو من الماء الذي خمّر به طينة آدم عليه السلام ﴿بَشَرا﴾؛ أي: آدميًا، والبشرة ظاهر
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾؛ أي: مبالغًا في القدرة حيث قدر أن يخلق من مادة واحدة بشرًا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة عجيبة الصنع، بديع الخلق، كبير العقل، عظيم التفكير، سخر ما علي ظاهر الأرض وباطنها لنفعه وفائدته ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾، وجعله قسمين متقابلين، وربما يخلق من مادة واحدة توءمين ذكرًا وأنثى.
الإعراب
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١)﴾.
﴿وَقَالَ﴾ الواو: استئنافية. ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلّا. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْنَا﴾: متعلق به. ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿أُنْزِلَ﴾، والجملة التحضيضية مقول ﴿قال﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف. ﴿نَرَى رَبَّنَا﴾: فعل
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف تقديره: اذكر لهم أهوال يوم يرون الملائكة، أو يمنعون البشرى يوم يرون الملائكة، وليس متعلقًا بالبشرى؛ لأن المصدر لا يعمل فيما قبله. ﴿يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿لا﴾: نافية للجنس تعمل عمل إنّ. ﴿بُشْرَى﴾: في محل النصب اسمها. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر ﴿لا﴾، أو تأكيد لفظي لـ ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾ على التقدير الثاني. ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿لا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ مقول لقول محذوف وقع حالًا من ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين: لا بشرى للمجرمين يومئذ. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَرَوْنَ﴾، فالضمير فيه للكفار. ﴿حِجْرًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبًا تقديره: حجرنا من شركم أيها الملائكة ومنعنا منه حجرًا. ﴿مَحْجُورًا﴾: صفة مؤكدة لـ ﴿حِجْرًا﴾. ﴿وَقَدِمْنَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿قدمنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قدمنا﴾. ﴿عَمِلُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: عملوه. ﴿مِنْ عَمَلٍ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَا﴾ الموصولة، أو من العائد المحذوف. ﴿فَجَعَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول
﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (٢٥)﴾.
﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مكان إلى مثله متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿مُسْتَقَرًّا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل والجملة مستأنفة ﴿وَأَحْسَنُ﴾: معطوف على ﴿خَيْرٌ﴾. ﴿مَقِيلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب بـ ﴿أحسن﴾. ﴿وَيَوْمَ﴾: منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر يوم، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿تَشَقَّقُ السَّمَاءُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿بِالْغَمَامِ﴾: في هذه الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للسببية؛ أي: بسبب الغمام، يعني: بسبب طلوعه منها، ونحوه قوله تعالى: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾، كأنه الذي تشقق به السماء، فيتعلق الجار والمجرور بـ ﴿تَشَقَّقُ﴾.
وثانيها: أنها للملابسة، فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال.
والثالث: أنها بمعنى عن؛ أي: عن الغمام كقوله: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ﴾، فتتعلق بـ ﴿تَشَقَّقُ﴾ أيضًا اهـ "سمين". ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿تَشَقَّقُ﴾. ﴿تَنْزِيلًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿نُزِّلَ﴾.
﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (٢٧)﴾.
﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف مضاف لمثله متعلق بـ ﴿الْمُلْكُ﴾. ﴿الْحَقُّ﴾: صفة لـ ﴿الْمُلْكُ﴾. ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾ خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿وَكَانَ﴾: الواو: عاطفة. ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود
﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٩)﴾.
﴿يَا وَيْلَتَى﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿ويلتي﴾: منادى مضاف منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف، وياء المتكلم المنقلبة ألفًا للتخفيف في محل الجر مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. ﴿لَيْتَنِي﴾: ناصب واسمه ونون وقاية. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿أَتَّخِذْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على المتكلم. ﴿فُلَانًا﴾: مفعول أول. ﴿خَلِيلًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿ليت﴾، وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَضَلَّنِي﴾: فعل
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (٣٠) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (٣١)﴾.
﴿وَقَالَ الرَّسُولُ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾. ﴿يَا رَبِّ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إِنَّ قَوْمِي﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل ﴿هَذَا﴾: في محل النصب مفعول أول. ﴿الْقُرْآنَ﴾: بدل من اسم الإشارة ﴿مَهْجُورًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَكَذَلِكَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿كذلك﴾: الكاف اسم بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف، ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه في محل المفعول الثاني. ﴿عَدُوًّا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿عَدُوًّا﴾، والتقدير: وجعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين جعلًا مثل ذلك الجعل الذي جعلنا لك، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله - ﷺ -. ﴿وَكَفَى﴾ الواو: عاطفة. ﴿كفى﴾: فعل ماض. ﴿بِرَبِّكَ﴾: فاعل ﴿كفى﴾، والباء زائدة. ﴿هَادِيًا﴾: حال من ﴿ربك﴾. ﴿وَنَصِيرًا﴾: معطوف عليه؛ أي: حالة كونه هاديًا لك للطريق التي ستنتصر بها عليهم كالغزو. اهـ شيخنا، أو تمييز له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَا﴾.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان شبهة منهم. تتعلق بالقرآن. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿لَوْلَا﴾: تحضيضية بمعنى هلا. ﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، والجار والمجرور متعلق به. ﴿الْقُرْآنُ﴾: نائب فاعل. ﴿جُمْلَةً﴾: حال من القرآن؛ أي: مجتمعًا. ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة ﴿جُمْلَةً﴾، والجملة التحضيضية في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، والعالم فيه محذوف تقديره: نزلناه عليك تنزيلًا مثل ذلك التنزيل المرتل، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿لِنُثَبِّتَ﴾: اللام: حرف جر وتعليل، ﴿نثبت﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله تقديره: نحن. ﴿بِهِ﴾: متعلق به ﴿فُؤَادَكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بالفعل المحذوف، والتقدير: نزلناه عليه تنزيلًا مثل ذلك التنزيل لتثبيت فؤادك به. ﴿وَرَتَّلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿تَرْتِيلًا﴾: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣)﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَأْتُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِمَثَلٍ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. ﴿جِئْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من مفعول يأتونك؛ أي: ولا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إياك بالحق وبما هو أحسن تفسيرًا. ﴿وَأَحْسَنَ﴾: معطوف على ﴿الحق﴾، مجرور بالفتحة؛ لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل. ﴿تَفْسِيرًا﴾: تمييز.
﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٣٤)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿يُحْشَرُونَ﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول،
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (٣٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: الواو: استئنافية، واللام موطئة لقسم محذوف، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾، والواو لا تفيد ترتيبًا كما مر في مبحث التفسير. ﴿مَعَهُ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿أَخَاهُ﴾: مفعول أول. ﴿هَارُونَ﴾: بدل من ﴿أَخَاهُ﴾: أو عطف بيان له. ﴿وَزِيرًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿فَقُلْنَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قلنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿اذْهَبَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى الْقَوْمِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قلنا﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، ﴿دمرناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿تَدْمِيرًا﴾: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة محذوفة تقديرها: فذهبا إليهم، فكذبوهما، فدمرناهم تدميرًا.
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (٣٨)﴾.
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾: مفعول لفعل محذوف وجوبًا يفسره ما بعده، فهو من باب الاشتغال تقديره: وأغرقنا قوم نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَا﴾، ولك أن تعطفه على الهاء في ﴿دمرناهم﴾؛ أي: ودمرنا قوم نوح. ﴿لَمَّا﴾: حينية في
﴿وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (٣٩)﴾.
﴿وَكُلًّا﴾: الواو: عاطفة. ﴿كلا﴾: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يلاقي ﴿ضَرَبْنَا﴾ في المعنى تقديره: خوفنا كلا، أو أنذرنا كلا، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَعَادًا﴾. ﴿ضَرَبْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُ﴾: متعلق به، ﴿الْأَمْثَالَ﴾: مفعول به، والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَكُلًّا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿تَبَّرْنَا﴾؛ لأنه فارغ له لم يشتغل بضميره. ﴿تَبَّرْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿تَتْبِيرًا﴾: مفعول مطلق، والجملة معطوفة على جملة ﴿دمرنا﴾.
﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (٤٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: الواو: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف
﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿رَأَوْكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿يَتَّخِذُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أو. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُزُوًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَتَّخِذُونَكَ﴾، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة.
فائدة: ويرد على هذا الجواب بأنه منفي بإن، والجواب المنفي يجب قرنه بالفاء؟ ويجاب بأن إذا اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء. اهـ، شيخنا، وفي "السمين": واختصت إذا بأن جوابها إذا كان منفيًا بما، أو إن، أو لا يحتاج إلى الفاء، بخلاف غيرها من أدوات الشرط، اهـ.
﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢)﴾.
﴿إِنْ﴾: مخففة من الثقيلة، اسمها محذوف؛ أي: إنه. ﴿كَادَ﴾: فعل ماضٍ ناقص من أفعال المقاربة، واسمها ضمير مستتر يعود على ﴿الرسول﴾. ﴿لَيُضِلُّنَا﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿يضلنا﴾: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على ﴿الرسول﴾. ﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يضلنا﴾، وجملة ﴿يضلنا﴾ في محل النصب خبر ﴿كَادَ﴾، وجملة ﴿كَادَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنْ﴾: المخففة، وجملة ﴿إِنْ﴾: المخففة في محل النصب ومن تتمة المقول للقول المحذوف. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿صَبَرْنَا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَن﴾: المصدرية. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿صَبَرْنَا﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا تقديره: لولا صبرنا عليها موجود. وجواب ﴿لَوْلَا﴾: محذوف تقديره: لولا صبرنا موجود لصرفنا عنها، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ في محل النصب من تتمة المقول للقول المحذوف. ﴿وَسَوْفَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس واستقبال. ﴿يَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم من الله تعالى. ﴿حِينَ﴾: ظرف زمان متعلق بـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾. ﴿يَرَوْنَ الْعَذَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه. لـ ﴿حِينَ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَضَلُّ﴾: خبره. ﴿سَبِيلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة الاسمية في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿يَعْلَمُونَ﴾ التي علقت بالاستفهام عن العمل في لفظه.
﴿أَرَأَيْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الاستخباري، ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل بمعنى أخبرني. ﴿مَنِ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿رأيت﴾. ﴿اتَّخَذَ﴾: فعل ماض ناسخ من أخوات ظن وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾. ﴿إِلَهَهُ﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتَّخَذَ﴾: قدم على الأول اهتمامًا به. ﴿هَوَاهُ﴾: مفعول به أول، وجملة ﴿اتَّخَذَ﴾ صلة ﴿مَنِ﴾ الموصولة. ﴿أَفَأَنْتَ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري للتيئيس من إيمانهم، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿أنت﴾: مبتدأ. ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على محمد. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَكِيلًا﴾. ﴿وَكِيلًا﴾: خبر ﴿تَكُونُ﴾، وجملة تكون في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة تقديره: أأنت تحرص على إيمانه فأنت تكون عليه وكيلًا، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأيت﴾. ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. ﴿تَحْسَبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة ﴿تَحْسَبُ﴾: مستأنفة. ﴿أَنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَسْمَعُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾. ﴿أَوْ يَعْقِلُونَ﴾: معطوف على ﴿يَسْمَعُونَ﴾، وجملة ﴿أَن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿تَحْسَبُ﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿كَالْأَنْعَامِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿بَلْ﴾: حرف عطف وإضراب وابتداء. ﴿هُمْ أَضَلُّ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿سَبِيلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ منصوب باسم التفضيل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (٤٥)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع، وفاعله مستتر مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: متعلق به،
﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (٤٩)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للتفاضل بين الأمور الثلاثة، وهي: مد الظل وسكونه وقبضه، كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم منهما. ﴿قَبَضْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿جَعَلْنَا﴾. ﴿إِلَيْنَا﴾: متعلق بـ ﴿قَبَضْنَاهُ﴾. ﴿قَبْضًا﴾: مفعول مطلق. ﴿يَسِيرًا﴾: صفة ﴿قَبْضًا﴾. ﴿وَهُوَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبره، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان دليل آخر من أدلة التوحيد. ﴿جَعَلَ﴾: فعل وفاعل مستتر صلة الموصول. ﴿لَكُمُ﴾: حال من ﴿لِبَاسًا﴾. ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول أول. ﴿لِبَاسًا﴾: مفعول ثان. ﴿وَالنَّوْمَ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾. ﴿سُبَاتًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعولان، معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ الأول. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر معطوف على
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٥٠) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (٥١)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿صَرَّفْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿صرفنا﴾، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يذكروا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة في تأوبل مصدر مجرور باللام؛ أي: لتذكرهم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿صرفنا﴾. ﴿فَأَبَى﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أبى أكثر الناس﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿صرفنا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿كُفُورًا﴾: مفعول به. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لو﴾: حرف شرط. ﴿شِئْنَا﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿لَبَعَثْنَا﴾: ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿بعثنا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿لو﴾. ﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾: جار ومجرور
﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (٥٤)﴾.
﴿فَلَا تُطِعِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أدلة التوحيد المذكورة، وبلغتها إليهم، فأبوا عليك، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿لا تطع﴾: ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَجَاهِدْهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿تُطِعِ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بجاهد. ﴿جِهَادًا﴾: مفعول مطلق. ﴿كَبِيرًا﴾: صفة لـ ﴿جِهَادًا﴾. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على الجمل السابقة. ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به صلة الموصول. ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿فُرَاتٌ﴾: خبر ثان، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من ﴿الْبَحْرَيْنِ﴾، تقديره: حالة كونهما مقولًا فيهما: هذا عذب فرات. ﴿وَهَذَا مِلْحٌ﴾: مبتدأ وخبر أول. ﴿أُجَاجٌ﴾: خبر ثان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر معطوف على ﴿مَرَجَ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿جعل﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له. ﴿بَرْزَخًا﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَحِجْرًا﴾: معطوف على ﴿بَرْزَخًا﴾. ﴿مَحْجُورًا﴾: صفة مؤكدة لـ ﴿حِجْرًا﴾. ﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر معطوف على الجمل السابقة. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر صلة الموصول. ﴿مِنَ الْمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿بَشَرًا﴾: مفعول به. ﴿فَجَعَلَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿نَسَبًا﴾: مفعول ثان. ﴿وَصِهْرًا﴾: معطوف على ﴿نَسَبًا﴾، والجملة معطوفة على ﴿خَلَقَ﴾. ﴿وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة.
﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: أصل الرجاء ظن يقتضي حصول ما فيه مسرة، وملاقاة الله عبارة عن القيامة، وعن المصير إليه تعالى بالبعث؛ أي: الرجوع إلى حيث لا حاكم ولا مالك سواه. وأصل اللقاء: مقابلة الشيء ومصادفته.
﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا﴾: الاستكبار أن يشبع، فيظهر من نفسه ما ليس له. ذكره في "الروح".
﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا﴾ وأصل العتو الغلو والنبو عن الطاعة. وأصل عتوا عتووا بواوين أولاهما مضمومة، فيقال: تحركت ﴿الواو﴾ وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، ثم حذفت الألف لبقاء دالها فصار عتوا، فالمحذوفة واو لام الكلمة، وأصل عتيا عتووًا بوزن فعول بواوين الأولى ساكنة، فكسرت التاء، فيقال: سكنت ﴿الواو﴾ إثر كسرة فقلبت ياء فصار عتيو، ثم يقال: اجتمعت ﴿الواو﴾ والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت ﴿الواو﴾ ياء، وأدغمت الياء في الياء فصارت عتيا. اهـ شيخنا. وأمَّا أصل عتوًا عتووًا فكرهوا توالي المثلين، فأدغمت ﴿الواو﴾ في ﴿الواو﴾ فصار عتوًا. والعتو هنا معناه: تجاوز الحد في الظلم تجاوزًا بلغ أقصى الغاية حيث كذبوا الرسول الذي جاء بالوحي، ولم يكترثوا بالمعجزات التي أتاهم بها.
﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾ الحجر: مصدر حجره إذا منعه، والمحجور: الممنوع، وهو صفة ﴿حِجْرًا﴾ إرادة للتأكيد كيوم أيوم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو، أو هجوم نازلة هائلة يقصدون بها الاستعاذة من وقوع ذلك الخطب الذي يلحقهم، والمكروه الذي يلم بدارهم؛ أي: نسأل الله أن يمنع ذلك منعًا ويحجره حجرًا.
﴿وَقَدِمْنَا﴾ القدوم: عبارة عن مجيء المسافر بعد مدة كما مر.
﴿هَبَاءً﴾ والهباء: الغبار الذي يرى في شعاع الشمس، يطلع من الكوة من الهبوة؛ وهو الغبار، قال في "القاموس" و"تاج العروس" الهباء: الغبار ودقائق
﴿مَنْثُورًا﴾: صفته، بمعنى مفرقًا.
﴿مُسْتَقَرًّا﴾ المستقر: اسم مكان من استقر السداسي، والمستقر: المكان الذي يجلس فيه المرء في أكثر الأوقات للجلوس والمحادثة.
﴿مَقِيلًا﴾ المقيل: المكان الذي يؤوى إليه للاستمتاع بالأزواج والتمتع بحديثهن، سمي بذلك؛ لأن التمتع به يكون وقت القائلة غالبًا، والمقيل أيضًا: موضع القيلولة، والقيلولة: الاستراحة نصف النهار في الحر، يقال: قلت قيلولة نمت نصف النهار، والمراد هنا المعنى الأول. وفي "السمين": ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ في أفعل هنا قولان:
أحدهما: أنه على بابه من التفضيل، والمعنى: أن للمؤمنين في الآخرة مستقرًا خيرًا من مستقر الكفار وأحسن مقيلًا من مقيلهم، لو فرض أن يكون لهم ذلك، أو على أنهم خير في الآخرة منهم في الدنيا.
والثاني: أن يكون لمجرد الوصف من غير مفاضلة، اهـ.
﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ أصله: تتشقق بتاءين، أولاهما تاء المضارعة والثانية تاء المطاوعة، فحذفوا إحدى التاءين كما في تلظى. والغمام هو السحاب، سمي به؛ لكونه ساترًا لضوء الشمس، والغم ستر الشي؛ أي: بسبب طلوع الغمام منها؛ وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾.
﴿يَعَضُّ الظَّالِمُ﴾ وفي "المصباح": عضضت اللقمة، وبها، وعليها أمسكتها بالأسنان، وهو من باب تعب في الأكثر، لكن المصدر ساكن، ومن باب نفع لغة قليلة، وفي أفعال ابن القطاع: من باب ردّ، اهـ.
﴿خَذُولًا﴾ يقال: يخذله بوزن نصره ينصره، وهو في المعنى ضده، والمصدر الخذلان، وهو ترك النصرة بعد الموالاة والمعاونة.
﴿مَهْجُورًا﴾؛ أي: متروكًا؛ أي: تركوه وصدّوا عن الإيمان به. وقيل: هو من هجر إذا هذى؛ أي: جعلوه مهجورًا فيه، فحذف الجار، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين:
أحدهما: أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين.
وثانيهما: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، فهو إما من الهجر بالفتح؛ أي: ضد الوصل وإما من الهجر بالضم، وهو الهذيان وفحش القول، ثم المهجور إما اسم مفعول، وإما مصدر بمعنى الهجر، أطلق على القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر بمعنى الجلد والعقل واليسر والإعسار.
﴿جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾؛ أي: دفعة واحدة. ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾؛ أي: لنقوّي به قلبك. ﴿وَرَتَّلْنَاهُ﴾؛ أي: أتينا ببعضه إثر بعض على تؤدة ومهل لنيسّر حفظه وفهمه، من قولهم: ثغر مرتل؛ أي: متفلج الأسنان.
﴿بِمَثَلٍ﴾؛ أي: بنوع من الكلام، جار مجرى المثل في تنميقه وتحسينه،
﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾ التدمير: إدخال الهلاك على الشيء، والدمار الاستئصال بالهلاك، والدمور الدخول بالمكروه. ﴿أَغْرَقْنَاهُمْ﴾ والإغراق والغرق الرسوب في الماء؛ أي: السفول فيه إلى قعره كما مر. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾ أي: هيأنا، أصله أعددنا، قلبت الدال الأولى تاء.
﴿وَأَصْحَابَ الرَّسِّ﴾ الرس: البئر، وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجرّ فهو رس، كما قال في "الكشاف": الرس: البئر الغير المطوية؛ أي: المبنية انتهى. وفي "القاموس": "الرس: بئر كانت لبقية من ثمود، كذبوا نبيهم ورسّوه في بئر" انتهى. أي: دسّوه وأخفوه فيها، فنسبوا إلى فعلهم بنبيهم، فالرس مصدر، ونبيهم هو حنظلة بن صفوان، كان قبل موسى على ما ذكره ابن كثير، وحين دسوه فيها غار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعًا، وتبدلوا بعد الأنس الوحشة، وبعد الاجتماع الفرقة، لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام.
﴿وَكُلًّا تَبَّرْنَا﴾؛ أي: فتّتنا، من التتبير، وهو التفتيت والتكسير والتقطيع. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة قبل أن يصاغا، فإذا صيغا فهما ذهب وفضة.
﴿بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾؛ أي: لا يتوقعون بعثًا للحساب والجزاء. وحقيقة الرجاء انتظار الخير، وظن حصول ما فيه مسرة، وليس النشور - أي: إحياء الميت - خيرًا مؤديًا إلى المسرة في حق الكافر، فهو مجاز عن التوقع، والتوقع يستعمل في الخير والشر، فأمكن أن يتصور النسبة بين الكافر وتوقع النشور.
﴿أَلَمْ تَرَ﴾؛ أي: لم تنظر ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾؛ أي: إلى صنعه ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾؛ أي: بسطه، أصل المد الجزء من المدة للوقت الممتد، والظل ما يحدث من مقابلة جسم كثيف كجبل، أو بناء، أو شجر للشمس من حين ابتداء طلوعها حتى غروبها. ﴿سَاكِنًا﴾؛ أي: ثابتًا على حاله في الطول والامتداد بحيث لا يزول ولا تذهبه الشمس. ﴿دَلِيلًا﴾؛ أي: علامة. ﴿قَبَضْنَاهُ﴾؛ أي: محوناه. ﴿يَسِيرًا﴾؛ أي: على مهل قليلًا قليلًا بحسب سير الشمس في فلكها. ﴿لِبَاسًا﴾ وأصل اللبس ستر الشيء؛ أي: ساترًا لكم بظلامه.
﴿وَالنَّوْمَ﴾ النوم استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد كما مر بسطه. ﴿سُبَاتًا﴾ والسبات: الموت لما في النوم من زوال الإحساس، وفي "المصباح": والسبات - وزان غراب -: النوم الثقيل، وأصله الراحة، يقال منه: سبت يسبت من باب قتل، اهـ. وفي "القاموس": أنه من بابي قتل وضرب، ثم قال: والسبات النوم، أو خفيفه، أو ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب، اهـ. وسبت الرأس إذا حلقه، والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد، وجمعه أسبت وسبوت، والسبت أيضًا النوّام، والفرس الجواد، والرجل الداهية.
﴿نُشُورًا﴾؛ أي: ذا نشور؛ أي: انتشار، ينتشر الناس فيه للمعاش، اهـ
﴿أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾؛ أي: المبشرات؛ وهي الصبا والجنوب والشمال، بخلاف الدبور؛ فإنها ريح العذاب التي أهلكت بها عاد، اهـ شيخنا. يقال: أرسلت الطائر، وأرسلت الكلب المعلّم. وفي "المفردات": قد يكون الإرسال للتسخير كإرسال الريح، والريح معروفة، وهي فيما قيل الهواء المتحرك. وفي "المصباح": والريح أربع:
الأولى: الشمال وتأتي من ناحية الشام.
والثانية: الجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية.
والثالثة: الصبا وتأتي من مطلع الشمس، وهي القبول أيضًا.
والرابعة: الدبور وتأتي من ناحية المغرب. والريح مؤنثة على الأكثر، فيقال: هي الريح، وقد تذكر على معنى الهواء، فيقال: هو الريح وهب الريح، نقله أبو زيد. وقال ابن الأنباري: "الريح مؤنثة لا علامة فيها، وكذلك سائر أسمائها إلَّا الإعصار فإنه مذكر.
﴿طَهُورًا﴾ الطهور له استعمالان في العربية: صفة واسم غير صفة، فالصفة قولك: ماء طهور كقولك: طاهر. والاسم قولك لما يتطهر به: طهور كالوضوء لما يتوضأ به، والوقود لما توقد به النار، كقولك: وضوءًا حسنًا؛ ذكره سيبويه.
﴿وَنُسْقِيَهُ﴾ وسقى وأسقى لغتان بمعنى. قال الإِمام الراغب: السقي والسقيا أن تعطيه ماء ليشربه، والإسقاء أن تعجل له ذلك حتى يتناوله كيف يشاء، والإسقاء أبلغ من السقي؛ لأن الإسقاء هو أن تجعل له ماء يستقي منه ويشرب، كقوله: أسقيته نهرًا. فالمعنى: مكناهم من أن يشربوه ويسقوا منه أنعامهم.
﴿أَنْعَامًا﴾ جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. وقال في "المغرب": الأنعام: الأزواج الثمانية في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا
﴿وَأَنَاسِيَّ﴾: جمع إنسان عند سيبويه على أن أصله: أناسين، أبدلت النون ياءً وأدغمت فيها الياء التي قبلها. وقال الفرّاء والمبرد والزجاج: إنَّه جمع إنسي. وفيه نظر؛ لأن فعاليّ إنما يكون جمعًا لما فيه ياء مشددة لا تدل على نسب نحو كراسيّ في جمع كرسي، فلو أريد بكرسي النسب لم يجز جمعه على كراسي، ويبعد أن يقال: إن الياء في إنسي ليست للنسب، وكان حقه أن يجمع على أناسية نحو مهالية في جمع المهلي، كذا في "حواشي ابن الشيخ". وقال الراغب: الإنسي منسوب إلى الأنس، يقال ذلك لمن كثر أنسه، ولكل ما يؤنس به، وجمع الإنسي أناسي. وقال في الكرسي: "إنه في الأصل منسوب إلى الكرسي؛ أي: التلبد، ومنه الكراسة للمتلبد من الأوراق"، انتهى.
قوله: ﴿كَثِيرًا﴾: صفة ﴿أناسي﴾؛ لأنه بمعنى بشر كما سبق. ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ أصله: ليتذكّروا، والتذكّر التفكر. ﴿فَأَبَى﴾ الإباء: شدة الامتناع، ورجل أبيّ ممتنع من تحمل الضيم. ﴿إِلَّا كُفُورًا﴾ والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا كما في "المفردات"، والمعنى؛ أي: إلّا كفرنًا للنعمة، وإنكارًا لها. ﴿لَبَعَثْنَا﴾ قال الراغب: البعث: إثارة الشيء وتوجيهه.
﴿فِي كُلِّ قَرْيَةٍ﴾ القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. ﴿نَذِيرًا﴾؛ أي: منذرًا، والإنذار: إخبار فيه تخويف. ﴿وَجَاهِدْهُمْ﴾ والجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ من مرج الدابة خلاها وأرسلها ترعى، ومرج أمرهم اختلط. والبحر: الماء الكثير الذي لا قعر له، عذبًا كان أو ملحًا عند الأكثر. وأصله: المكان الواسع الجامع للماء الكثير كما في "المفردات". وفي "المصباح": المرج: أرض ذات نبات ومرعى، والجمع
﴿عَذْبٌ فُرَاتٌ﴾ عذب؛ أي: طيب حلو من عذب الماء - من باب ظرف - إذا حلا، ولم يكن ذا ملوحة. فرات؛ أي: شديد العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة. والتاء فيه أصلية لام الكلمة، ووزنه فعال كغراب، وبعض العرب يقف عليها هاء، ويقال: سمي الماء العذب فراتًا؛ لأنه يفرت العطش؛ أي: يشقه ويقطعه. وفي "المصباح": الفرات: الماء العذب، يقال: فرت الماء فروته - وزان سهل سهولة - إذا عذب ولا يجمع إلّا نادرًا على فرتان كغربان. والفرات أيضًا: نهر عظيم بالكوفة، عذب طيب، مخرجه من أرمينية. وفي "الملكوت": أصله في قرية من جابلقا ينحدر إلى الكوفة، وآخر مصبّه بعضًا في دجلة، وبعضًا في بحر فارس، اهـ من "الروح".
﴿مِلْحٌ﴾ قال الراغب: الملح الماء الذي تغير طعمه التغير المعروف وتجمد، ويقال: ملح إذا تغير طعمه وإن لم يتجمد، فيقال: ماء ملح، وقلما تقول العرب: ماء مالح.
﴿أُجَاجٌ﴾: بليغ الملوحة، صفة الملح. وقيل: البالغ في الحرارة. وقيل: البالغ في المرارة. وفي الأساس: وماء أجاج يحرق بملوحته. وفي "القاموس": أجّ الماء يؤجّ صار أجاجًا؛ أي: ملحًا مرّا.
قالوا: إن الله تعالى خلق ماء البحر مرّا زعاقا؛ أي: مرّا غليظا بحيث لا يطاق شربه، وأنزل من السماء ماء عذبًا، فكل ماء عذب من بئر أو نهر أو عين فمن ذلك المنزل من السماء، وإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكًا معه طست لا يعلم عظمه إلّا الله تعالى، جمع تلك المياه، فردها إلى الجنة.
واختلفوا في سبب ملوحة ماء البحر: فزعم قوم أنه لما طال مكثه وأحرقته الشمس صار مرًا ملحًا، واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية صفته الأرض من الرطوبة، فغلظ لذلك. وزعم آخرون أن في البحر عروقًا تغير ماء
﴿بَرْزَخًا﴾؛ أي: حاجزًا خلفيًا لا يحس، بل بمحض قدرة الله تعالى يمنع من اختلاط أحدهما بالآخر. ﴿وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾: تقدم تفسيرهما.
﴿نَسَبًا﴾ قال الإِمام الراغب: النسب اشتراك من جهة الأبوين، وذلك ضربان: نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء. ونسب بالعرض كالنسبة بين الإخوة وبني العم. وقيل: فلان نسيب فلان؛ أي: قريبه، انتهى.
﴿وَصِهْرًا﴾ الصِهر - بالكسر - القرابة كما في "القاموس" والختن. وجمعه: أصهار. وفي "المصباح": الصهر جمعه أصهار. قال الخليلى: الصهر أهل بيت المرأة. وقال: ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعًا أصهارًا. وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم، كالأبوين والإخوة وأولادهم والأعمام والأخوال والخالات، فهؤلاء أصهار زوج المرأة، ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضًا. وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهم الأحماء، ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان، ويجمع الصنفين الأصهار. وصاهرت إليهم، ولهم، وفيم إذا تزوجت منهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: هلّا أنزل علينا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا﴾؛ وقوله: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾.
ومنها: المبالغة بنفي الجنس في قوله: ﴿لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ ومعناه: لا يبشر يومئذ المجرمون، وإنما عدل عنه للمبالغة.
ومنها: تكرير ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ لتأكيد ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿لِلْمُجْرِمِينَ﴾؛ لأن الإجرام في الأصل قطع الثمرة من الشجرة، ثم استعير لاكتساب كل مكروه.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿حِجْرًا مَحْجُورًا﴾؛ لأنه وصف الحجر بالمحجور؛ لقصد التأكيد كيوم أيوم.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾ مثل سبحانه وتعالى حالهم وحال أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من صلة رحم، وإغاثة ملهوف مثلًا بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه، فقصد إلى ما تحت أيديهم من الدور والعقار ونحوهما، فمزّقها وأبطلها - اهـ "روح" بالكلية، ولم يبق لها أثرًا.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾؛ أي: كالغبار المنثور في الجو، شبّه أعمالهم المحبطة بالغبار في الحقارة وعدم الجدوى، ثم بالمنثور منه في الانتشار بحيث لا يمكن نظمه، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، فصار بليغًا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ كنى بالمستقر عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن قضائهم وقت الاستجمام، والاستراحة مع أزواجهم.
ومنها: الكناية اللطيفة في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ﴾ فإنه كناية عن الندم والحسرة، كما أن لفظة فلان كناية عن الخليل الذي أضله.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾.
ومنها: تنزيل غير العاقل منزلة العاقل وندائه إظهارًا للتحسر والندامة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿شَرٌّ مَكَانًا﴾؛ لأنَّ الضلال لا ينسب إلى المكان، ولكن إلى أهله.
ومنها: قوة اللفظ لقوة المعنى في قوله: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾؛ لأن: لفظة رتّل على وزن فعل الدال على التكثير نظير قتل، ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة، وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي، وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة الحسنة المخصوصة من القراءة، كذا في إعراب القرآن.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان في كل؛ لأن أكثر الأمثال أمور متخيلة.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿فَقُلْنَا اذْهَبَا﴾ إلى قوله: ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾؛ لأن تقدير الكلام: فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا، فذهبا إليهم فكذبوهما، فدمرناهم تدميرًا، وفيه أيضًا جناس الاشتقاق أعني في قوله: ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ﴾. للتسجيل بظلمهم، والإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب.
ومنها: التجوز بالرجاء عن التوقع في قوله: ﴿لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾؛ لأن حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه سرور، والكفار ليس لهم خير في نشورهم فينتظرونه.
ومنها: الاستفهام للتهكم والاستهزاء والاستحقار، في قوله: {أَهَذَا الَّذِي
ومنها: الاستفهام التعجيزي في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾؛ وفيه أيضًا تقديم المفعول الثاني على الأول اعتناءً بالأمر المتعجب منه، والأصل: اتخذ هواه إلهًا له.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ وهو أن يذكر الشيء ليكون مثالًا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه، كأنهم لثبوتهم على الضلالة بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أضل سبيلًا؛ لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أي: كاللباس الذي يغطي البدن ويستره، حذف منه الأداة ووجه الشبه، فأصبح بليغًا.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين الليل والنهار، والنوم والانتشار، في قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ استعار اليدين لما يكون أمام الشيء وقدامه، كما تقول: بين يدي الموضوع أو السورة.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم للتعظيم في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾ بعد قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾؛ أي: نهاية في الحلاوة، ونهاية في الملوحة.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا﴾؛ وقوله: ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ﴾ أستعير فيها لفظة المشبه به، وهو البعد والتراخي للمشبه، وهو تفاضل الأمور.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (٥٩) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (٦٠) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (٦٢) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (٧١) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بسط (١) أدلة التوحيد،
قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) وصف الكافرين بالإعراض عن عبادته، والنفور من طاعته، والسجود له سبحانه.. ذكر هنا أوصاف خلّص عباده المؤمنين، وبيّن ما لهم من فاضل الصفات وكامل الأخلاق التي لأجلها استحقوا جزيل الثواب من ربهم، وأكرم لأجلها مثواهم، وقد عدّ من ذلك تسع صفات مما تشرئبّ إليها أعناق العاملين، وتتطلع إليها نفوس الصالحين الذين يبتغون المثوبة، ونيل النعيم كفاء ما اتصفوا من كريم الخلال، وأتوا به من جليل الأعمال.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود قال (٢): سألت رسول الله - ﷺ -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن
(٢) لباب النقول.
وأخرج الشيخان وغيرهما أيضًا عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا - ﷺ -، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنا لما عملنا كفارة، فنزلت: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ ونزل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...﴾ الآية، ولا مانع أن تكون الآية نزلت للسببين معًا، والله أعلم.
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ...﴾ الآية، قال مشركوا مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وأتينا الفواحش، فنزلت: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ...﴾ الآية.
وأخرج البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزي قال: سئل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما؟ ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ فسألت ابن عباس، فقال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركوا أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾، وأما التي في "النساء": أن الرجل إذا عرف الإِسلام وشرائعه، ثم قتل فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، فذكرته لمجاهد، فقال: إلَّا من ندم.
التفسير وأوجه القراءة
٥٥ - ولما ذكر سبحانه وتعالى دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم، فقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾؛ أي: ويعبد هؤلاء المشركون حالة كونهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: متجاوزين عبادة الله تعالى: ﴿مَا لَا يَنْفَعُهُمْ﴾ في الدنيا، ولا
والمعنى: أي (٢) ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله آلهة لا تنفعهم إذا هم عبدوها، ولا تضرهم إن تركوا عبادتها، فهم عبدوها لمجرد التشهي والهوى، وتركوا عبادة من أنعم عليهم بهذه النعم التي لا كفاء لأدناها، ومن ذلك ما ذكره قبل بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ...﴾ إلى آخر الآيات.
ثم ذكر لهم جرمًا آخر، فقال: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ﴾ بشركه وعدوانه للحق ﴿عَلَى رَبِّهِ﴾ الذي رباه بنعمته، متعلق بقوله: ﴿ظَهِيرًا﴾؛ أي: عونًا للشيطان، فالظهير بمعنى المظاهر؛ أي: المعين، والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه، قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله تعالى؛ لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. والمراد (٣) بالكافر الجنس، أو أبو جهل، فإنه أعان الشيطان على الرحمن في إظهار المعاصي، والإصرار على عداوة الرسول، وتشجيع الناس على محاربته ونحوها. وقال أبو عبيدة: المعنى: وكان الكافر على ربه هينًا ذليلًا.
والمعنى: أي وكانوا مظاهرين للشيطان على معصية الرحمن، وذلك دأبهم وديدنهم، فهم يعاونون المشركين، ويكونون أولياء لهم على رسوله، وعلى المؤمنين بمساعدتهم على الفجور وارتكاب الآثام، وخذلان المؤمنين إذا أرادوا منعها والتنفر منها كما قال: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ﴾.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
تَمِيْمَ ابْنَ قَيْسٍ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِيْ | بِظَهْرٍ فَلاَ يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا |
٥٦ - ثم بين عظم حمقهم ونفورهم ممن جاء لجلب الخير لهم، ودفع الأذى عنهم فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ حال كونك ﴿مُبَشِّرًا﴾ للمؤمنين بالجنة والرحمة. والتبشير: إخبار فيه سرور ﴿وَنَذِيرًا﴾ أي: منذرًا ومخوفًا للكافرين بالنار والغضب. والإنذار: إخبار فيه تخويف.
والمعنى: أي كيف تطلبون العون على الله ورسوله، والله قد أرسل رسوله لنفعكم؛ إذ قد بعثه ليبشركم على فعل الطاعات، وينذركم على فعل المعاصي، فتستحقوا الثواب، وتبتعدوا عن العقاب.
وخلاصة ذلك: لا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء من يرجو نفعه في دينه ودنياه، وفي هذا تسلية لرسوله حتى لا يحزن على عدم إيمانهم.
٥٧ - ثم أمر رسوله أن يبين لهم أنه مع كونه يريد نفعهم لا يبغي لنفسه نفعًا، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿مَا أَسْأَلُكُمْ﴾ أيها المشركون ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على تبليغ الرسالة التي ينبىء عنها الإرسال، أو على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أقوال ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ وجعل من جهتكم، فتقولوا: إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه، فلا نتبعه، والأجر ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ﴾؛ أي: إلا فعل من يريد ﴿أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾؛ أي: أن يجعل لنفسه سبيلًا موصلًا إلى ربه؛ أي: يريد أن يتقرب إلى ربه ويطلب الزلفى عنده
والظاهر: أن الاستثناء منقطع، والمعنى عليه: لا أطلب من أموالكم جعلًا لنفسي، لكن من شاء إنفاقه لوجه الله تعالى فليفعل، فإني لا أمنعه عنه. وقيل: هو متصل، والمعنى عليه: إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود الحصول.
وفي "الفتوحات المكية": مذهبنا أن للواعظ أخذ الأجرة على وعظ الناس، وهو من أحل ما يأكل، وإن كان ترك ذلك أفضل. وإيضاح ذلك أن مقام الدعوة إلى الله يقتضي الإجارة، فإن ما من نبي دعا إلى الله إلا قال: إن أجرى إلّا على الله، فأثبت الأجر على الدعاء، ولكن اختار أن يأخذه من الله، لا من المخلوق انتهى.
وأفتى المتأخرون بصحة الأجرة للأذان والإقامة، والتذكير والتدريس والحج والغزو، وتعليم القرآن والفقه وقراءتهما؛ لفتور الرغبات اليوم، ولو كانت الإجارة على أمر واجب، كما إذا كان المعلم والإمام والمفتي واحدًا، فإنها لا تصح إجماعًا كما في الكرماني وغيره. وكذا إذا كان الغسّال في القرية واحدًا، فإنه يتعين عليه غسل الميت، ولا يجوز له طلب الأجرة.
والمعنى: أي (٢) قل يا محمد لمن أرسلت إليهم: لا أسألكم على ما جئت به من عند ربي أجرًا، فتقولوا إنما يدعونا ليأخذ أموالنا، ومن ثم لا نتبعه حتى لا يكون له في أموالنا مطمع ﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾؛ أي: لكن من شاء منكم أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد وغيره، ويتخذ ذلك سبيلًا إلى رحمته وقيل ثوابه فليفعل.
وخلاصة ذلك: لا أسألكم عليه أجرًا لنفسي، وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم لنيل مثوبته ومغفرته.
(٢) المراغي.
وأصل التوكل (١): أن يعلم العبد بأن الحادثات كلها صادرة من الله تعالى، ولا يقدر أحد على الإيجاد غيره تعالى، فيفوض أمره إلى الله تعالى فيما يحتاج إليه، وهذا القدر فرض، وهو من شرط الإيمان، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه الكمال. كذا في "التأويلات النجمية".
والحاصل: أن معنى التوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور، والأسباب وسائط أمرنا باتباعها من غير اعتماد عليها، ومثل الآية قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
﴿وَسَبِّحْ﴾؛ أي: نزّهه تعالى عن صفات النقصان، وعن كل ما يرد على الوهم والخيال حال كونك متلبسًا ﴿بِحَمْدِهِ﴾ تعالي؛ أي: مثنيًا عليه بنعوت الكمال طالبًا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابقه، وفي الحديث: "من قال كل يوم: سبحان الله وبحمده مئة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"، وهما الكلمتان الخفيفتان على اللسان، الثقيلتان في الميزان. وقيل: معنى ﴿سبحْ﴾ صلّ، والصلاة تسمى تسبيحًا.
والمعنى: أي وتوكل على ربك الدائم الباقي رب كل شيء ومليكه، واجعله
وفي قوله: ﴿الْحَيِّ﴾ إيماء إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل على من لم يتصف بالحياة من صنم أو وثن، ولا على من لا بقاء له ممن يموت؛ لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه، وحكي عن بعض السلف أنه قرأ هذه الآية فقال: لا ينبغي لذي لب أن يثق بعدها بمخلوق.
ثم أنذرهم وحذّرهم بأن ربهم محص أعمالهم عليهم، ومجازيهم عليها يوم القيامة، فقال: ﴿وَكَفَى بِهِ﴾ سبحانه. الباء زائدة للتأكيد؛ أي: حسبك الحي الذي لا يموت، وقوله: ﴿بِذُنُوبِ عِبَادِهِ﴾ ما ظهر منها وما بطن متعلق بقوله: ﴿خَبِيرًا﴾؛ أي: مطلعًا عليها بحيث لا يخفى عليه شيء منها، فيجزيهم جزاء وافيًا، أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم.
والمعنى: أي وحسبك بالحي الذي لا يموت حالة كونه خبيرًا بذنوب خلقه ما ظهر منها وما بطن، فهو لايخفى عليه شيء منها، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم عليها، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا، وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ - ووعيد لأولئك الكافرين على سوء أفعالهم وإعراضهم عن اتباع رسوله ومناصبته العداء، وكأنه قيل: إذا أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة، وفي "الأخبار": كفى بك ظفرًا أن يكون عدوك عاصيًا. وهي كلمة يراد بها المبالغة، تقول: كفى بالعلم جمالًا، وكفى بالأدب مالًا؛ أي: هو حسبك لا تحتاج معه إلى غيره؛ لأنه خبير بأحوالهم، قادر على مكافأتهم.
٥٩ - ولما أمره بالتوكل والتسبيح، وذكر صفة الحياة الدائمة.. ذكر ما دل على القدرة التامة؛ وهو إيجاد هذا العالم، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ محل
أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قَيْسٍ | وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَا |
فائدة: وأيام الأسبوع سبعة، وأسماؤها الجارية على الألسنة تسمية إسلامية، وقد كان لها أسماء عند العرب؛ وهي الأحد: الأوْهَلُ، والاثنين: أَوْهَنُ، والثلاثاء: جَبَارُ، والأربعاء: دَبَارُ، والخميس: مُؤْنِسْ، والجمعة: عَرُوبَةُ، والسبت: شَيَارُ.
﴿ثُمَّ﴾ بعد فراغه من خلق السموات والأرض وما بينهما ﴿اسْتَوَى﴾ وارتفع سبحانه استواء يليق به، نثبته ونعتقده، لا نكيّفه ولا نمثله ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ العظيم الذي هو أعظم المخلوقات. فإن قيل (٢): يلزم من نظم القرآن أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات والأرض كما تفيده ﴿ثُمَّ﴾؟ يقال: إن كلمة ﴿ثُمَّ﴾ لم تدخل على خلق العرش، بل على استوائه سبحانه على العرش. والأولى أن يقال: إن ﴿ثُمَّ﴾ هنا لا تفيد الترتيب الزماني.
(٢) الشوكاني بتصرف.
﴿فَاسْأَلْ بِهِ﴾: متعلق بما بعده، وهو ﴿خَبِيرًا﴾ كما في قوله: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ونظائره، والباء على معناه، والضمير في ﴿بِهِ﴾ يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش؛ أي: فاسأل يا محمد خبيرًا بما ذكر من الخلق والاستواء. والمراد بالخبير الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، كما قال: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ وقيل: الباء بمعنى عن، متعلقة بالسؤال. والضمير أيضًا يعود إلى ما ذكر من الخلق والاستواء. أي (٢): فاسأل يا محمد عما ذكر من الخلق والاستواء خبيرًا يخبرك بحقيقته، وهو الله تعالى، أو جبريل، أو من وجده في الكتب المتقدمة؛ ليصدقك فيه.
وقيل: الضمير في ﴿بِهِ﴾ للرحمن، والباء بمعنى عن؛ أي: إن أنكر هؤلاء
(٢) البيضاوي.
قال ابن جرير: يجوز أن تكون الباء في ﴿بِهِ﴾ زائدة، والضمير للرحمن، و ﴿خَبِيرًا﴾ حال من الضمير؛ أي: فاسأل الرحمن عما ذكر من الخلق والاستواء حال كونه خبيرًا بما ذكر. وقال الشوكاني: وأقرب هذه الوجوه الأول. وفي الصاوي: قوله: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرًا﴾، قدم (١) لرعاية الفاصلة، والمعنى: اسأل يا محمد خبيرًا بصفاته تعالى، وليس خبيرًا بصفاته إلا هو سبحانه وتعالى. ويصح أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بـ ﴿اسأل﴾، والباء بمعنى عن، والمعنى: اسأل عنه خبيرًا؛ أي: عالمًا بصفاته يطلعك على ما خفي عليك، والخبير حينئذ يختلف باختلاف السائل، فإن كان السائل النبي - ﷺ - فالخبير هو الله تعالى، وإن كان السائل أصحابه فالخبير هو النبي - ﷺ -، وإن كان السائل التابعين فالخبير هو الصحابة، وإن كان السائل العوام فالخبير هو العلماء، والمعنى: فاسأل يا محمد، أو فاسأل أيها الإنسان.
وخلاصة ذلك (٢): توكلوا على من لا يموت؛ وهو رب كل شيء، وخالقه وخالق السموات السبع على ارتفاعها واتساعها، وما فيها من عوالم لا يعلم كنهها إلا هو، وخالق الأرضين السبع على ذلك الوضع البديع في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر ويقضي الحق ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾؛ أي: فاسأل عن خلق ما ذكر خبيرًا به يخبرك بحقيقته، وهو الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، فالأيام التي تم فيها الخلق إنما هي أطوار ستة، سار عليها طورًا بعد طور، وحالًا بعد حال، كما يرشد إلى ذلك قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا
(٢) المراغي.
وفي "الفتوحات المكية" (١): لما كان الحق تعالى هو السلطان الأعظم، ولا بد للسلطان من مكان يكون فيه، حتى يقصد بالحاجات مع أنه تعالى لا يقبل المكان اقتضت المرتبة أن يخلق عرشًا، ثم ذكر أنه استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج منه، كل ذلك رحمة للعباد، وتنزلًا لعقولهم، ولولا ذلك لبقي العبد حائرًا، لا يدري أين يتوجه بقلبه، وقد خلق الله تعالى القلب ذا جهة فلا يقبل إلا ما كان له جهة، وقد نسب الحق تعالى لنفسه الفوقية من سماء وعرش، وإحاطة بالجهات كلها بقوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وبقوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"، وبقوله: "إن الله في قبلة أحدكم".
وحاصله: أن الله تعالى خلق الأمور كلها للمراتب، لا للأعيان انتهى.
٦٠ - ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: لهؤلاء المشركين؛ أي: إذا قال لهم محمد - ﷺ - ﴿اسْجُدُوا﴾؛ أي: صلوا، وعبر عن الصلاة بالسجدة؛ لأنها من أعظم أركانها ﴿لِلرَّحْمَنِ﴾ الذي برحمته أوجد الموجودات ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المشركون لمحمد - ﷺ -: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾؛ أي: (٢) أي شيء هو، أو من هو؟؛ لأن وضع ﴿ما﴾ أعم، وهو سؤال عن المسمى بهذا الاسم؛ لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله، ولا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، وإن كان مذكورًا في الكتب المتقدمة أنه من أسمائه تعالى، أو لأنهم كانوا يعرفون كونه تعالى مسمى بهذا الاسم، إلا أنهم يزعمون أنه قد يراد به غيره تعالى؛ وهو مسيلمة الكذاب باليمامة، فإنه يقال له: رحمان اليمامة، وكان المشركون يكذّبونه، ولذلك غالطوا بذلك وقالوا: إن محمدًا يأمرنا بعبادة رحمان اليمامة.
أي: وما نعرف الرحمان إلا مسيلمة الكذاب؛ أي: فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى؛ أي: وإذا قيل لهؤلاء الذين
(٢) روح البيان.
ثم عجبوا أن يأمرهم بذلك، وأنكروه عليه بقوله: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾؛ أي: أنسجد للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا هو، وهو استفهام إنكاري؛ أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بسجودنا له. وقرأ (١) ابن مسعود والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي ﴿يأمرنا﴾ بالياء من تحت؛ أي: يأمرنا محمد بالسجود له، وقرأ باقي السبعة بالتاء، خطابًا للرسول - ﷺ -.
ثم بين أنه كلما أمرهم بعبادته ازدادوا عنادًا واستكبارًا، فقال: ﴿وَزَادَهُمْ﴾؛ أي: وزاد أولئك المشركين هذا الأمر بالسجود للرحمن ﴿نُفُورًا﴾ وبعدًا مما دعوا إليه من الإيمان، وقد كان من حقه أن يكون باعثًا لهم على القبول ثم الفعل. روى الضحاك أن أصحاب رسول الله - ﷺ - سجدوا، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين.
فمن (٢) جهل وجود الرحمن أو علم وجوده، وفعل فعلًا، أو قال قولًا لا يصدر إلا من كافر فكافر بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن"، وذلك كما إذا سجد للصنم، أو ألقى المصحف في المزابل، أو تكلم بالكفر يكفر بلا خلاف لكونه علامة التكذيب.
فصل
وهذه السجدة من عزائم السجدات، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند
(٢) روح البيان.
واختلفوا في سجود الشكر عند تجدد النعمة أو اندفاع النقمة، فقال: أبو حنيفة ومالك: يكره، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان. وقال الشافعي وأحمد: يسن، وحكمه عندهما كسجود التلاوة، لكنه لا يفعل في الصلاة. كذا في "فتح الرحمن". قال الشافعي: فيكبر مستقبل القبلة، ويسجد فيحمد الله تعالى ويشكره ويسبح، ثم يكبر فيرفع رأسه، أما السجود بغير سبب فليس بقربة ولا مكروه؛ وأما ما يفعل عقب الصلاة فمكروه؛ لأن الجهال يعتقدونها سنة أو واجبة، وكل مباح يؤدي إليه فمكروه، انتهى.
قال السرخسي (١): السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر، وما يفعلونه من تقبيل الأرض بين يدي العلماء فحرام. وذكر الصدر الشهيد: لا يكفر بهذا السجود؛ لأنه يريد به التحية، انتهى. لكنه يلزم عليه أن لا يفعل ذلك؛ لأنه شريعة منسوخة، وهي شريعة يعقوب عليه السلام، فإن السجود في ذلك الزمان كان يجري مجرى التحية كالتكرمة بالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الناشئة في التعظيم والتوقير، ويدل عليه قوله تعالى في حق إخوة يوسف وأبيه: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، وأما الانحناء للسلطان أو لغيره فمكروه؛ لأنه يشبه فعل اليهود، كما أن تقبيل يد نفسه بعد المصافحة فعل المجوس.
٦١ - ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾؛ أي: تكاثر خير الإله الفياض. قال في "برهان القرآن": خص هذا الموضع بذكر ﴿تَبَارَكَ﴾ لأنه من عظائم الأمور، حيث ذكر البروج والسيارات والشمس والقمر والليل والنهار، ولولاها ما وجد في الأرض حيوان ولا نبات ﴿جَعَلَ﴾ بقدرته الكاملة ﴿فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾؛ أي: منازل وطرقًا تسير فيها الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم:
زُحَلٌ شَرَى مَرِّيْخَهُ مِنْ شَمْسِهِ | فَتَزَاهَرَتْ لِعُطَارِدَ الأقْمَارُ |
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ | وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَ الْمِيْزَانِ |
وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ | نَزَحَ الدَّلْوُ بُرْكَةَ الْحِيْتَانِ |
أَوَّلُهَا الْشَرُطَيْنُ ثُمَّ الْبُطَيْنُ | ثُمَّ الثُّرَيَّا الْوَاضِحُ الْمُسْتَبِيْنُ |
وَدَبْرَانِ هَقْعَةٌ وَهَنْعَةْ | ذِرَاعُ نَثْرَةٍ وَطَرْفُ جَبْهَةْ |
وَالْخَرْتَانِ زُبْرَةٌ تُسَمَّى | وَالصَّرْفَةُ الْعَوًا السِّمَاكُ ثُمَا |
غَفْرٌ زُبَانَا إِكْلِيْلٌ قَلْبٌ بَعْدَةْ | وَشَوْلَةٌ نَعَايِمُ وَبَلْدَةْ |
سَعْدٌ ذَابِحٌ سَعْدُ بَلْعَةْ | سَعْدٌ سُعُودٌ سَعْدُ الأَخْبِيَةْ |
وَالْفَرْعُ ذُو التَّقْدِيمِ وَالْفَرْعُ الأَخِيْرُ | وَبَطْنُ حُوْتٍ وَالرِّشَا فِيْهِ شَهِيْرُ |
﴿وَجَعَلَ فِيهَا﴾؛ أي (١): في تلك البروج، لا في السماء؛ لأن البروج أقرب مذكرر، فعود الضمير إليها أولى ﴿سِرَاجًا﴾؛ أي: شمسًا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سِرَاجًا﴾ بالإفراد؛ وهو الشمس. وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش وحمزة والكسائي ﴿سُرُجا﴾ - بضمتين بالجمع -؛ أي: النجوم العظام الوقادة. ورجح القراءة الأولى أبو عبيد. قال الزجاج في تأويل قراءة حمزة
(٢) البحر المحيط.
﴿وَقَمَرًا﴾؛ أي: وجعل فيها كوكبًا يسمى قمرًا، وهو الهلال بعد ثلاث ليال سمي قمرًا لبياضه كما في "المختار"، أو لا بيضاض الأرض به، والأقمر: الأبيض كما في "كشف الأسرار". وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم ﴿وقُمْرا﴾ - بضم القاف وسكون الميم - وهي قراءة ضعيفة شاذة، فالظاهر أنه لغة في القمر، كالرشد والرشد، والعَرب والعرب ﴿مُنِيرًا﴾؛ أي: مضيئًا بالليل. قال في "نفائس المجالس": في الآية دلالة على كمال قدرته تعالى، فإن هذه الأجرام العظام والنيرات من آثار قدرته سبحانه. ومعنى الآية؛ أي (١): تقدس ربنا الذي جعل في السماء نجومًا كبارًا، عدَّها المتقدمون نحو ألف، وعدها علماء العصر الحاضر بعد كشف آلات الرصد الحديث - التلسكوبات - أكثر من مئتي ألفِ ألفٍ، ولا يزال البحث يكشف كل حين منها جديدًا. وجعل فيها شمسًا متوقدة وقمرًا مضيئًا.
٦٢ - ثم ذكر آية أخرى من آيات قدرته، وفيها الدليل على وحدانيته تعالى، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه الإله ﴿الَّذِي جَعَلَ﴾ بحكمته التامة ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ الخلفة (٢): مصدر للنوع، فلا يصلح أن يكون مفعولًا ثانيًا لـ ﴿جعل﴾، ولا حالًا من مفعوله، فلا بد من تقدير المضاف، ويستعمل بمعنى كان خليفته، أو بمعنى جاء بعده:
فالمعنى على الأول: جعلهما ذوي خلفة يخلف كل واحد منهما عن الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، فمن فرط في عمل أحدهما قضاه الآخر، فيكون توسعة على العباد في نوافل العبادات والطاعات، ويؤيد هذا المعنى قول النبي - ﷺ - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد فاتته قراءة القرآن: "يا ابن الخطاب لقد أنزل تعالى فيك آية قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
(٢) روح البيان.
والمعنى على الثاني: وهو الذي جعلهما ذوي اعتقاب يجيء الليل ويذهب النهار، ويجيء النهار ويذهب الليل، ولم يجعل نهارًا لا ليل له، وليلًا لا نهار له؛ ليعلم الناس عدد السنين والحساب، وليكون للانتشار في المعاش وقت معلوم، وللاستقرار والاستراحة وقت معلوم. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان، ففي الآية تذكير لنعمته، وتنبيه على كمال حكمته وقدرته.
﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾؛ أي (١): أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه، فيعلم أن لا بد له من صانع حكيم واجب بالذات، رحيم على العباد، فالمراد بـ ﴿من﴾ هو الكافر. ثم أشار إلى المؤمن بقوله: ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ - بضم الشين - مصدر بمعنى الشكر؛ أي: أراد أن يشكر الله بطاعته على ما فيهما من النعم، فتكون ﴿أَوْ﴾ على حالها، فتكون للتقسيم والتنويع، وهي مانعة خلوٍّ، فتجوّز الجمع، اهـ شيخنا. ويجوز أن تكون بمعنى ﴿الواو﴾، فالمعنى: جعلناهما خلفة ليكونا وقتين للذاكرين والشاكرين، من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر، ووجه التعبير بـ (أو) التنبيه على استقلال كل واحد منهما بكونه مطلوبًا من الجعل المذكور، ولو عطف بالواو؛ لتوهم أن المطلوب مجموع الأمرين. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة: ﴿يذْكر﴾ - خفيفة الذال، مضمومة الكاف - مضارع ذكر الثلاثي، وهو في معنى يتذكر.
واعلم: أن الشكر ثلاثة أضرب: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على النعمة، وشكر سائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها.
والمعنى: أي وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين، يخلف أحدهما الآخر، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتّعظ باختلافهما، ويتذكر آلاء الله
٦٣ - ثم وصف الله سبحانه عباده المخلصين بصفات تسع:
الأولى: ما ذكره بقوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، دون عباد الدنيا والشيطان والنفس والهوى، فإنهم وإن كانوا عبادًا بالإيجاد، لكنهم ليسوا بأهل لإضافة التشريف والتفضيل من حيث عدم اتصافهم بالصفات الآتية التي هي آثار رحمته تعالى الخاصة المفاضة على خواص العباد، والمعنى: وعباد الرحمن المقبولون؛ وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ﴾؛ أي: هم الذين يمشون ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾ التي هي غاية في الطمأنينة والسكون والتحمل، حال كونهم ﴿هَوْنًا﴾؛ أي: هيّنين ليّني الجانب من غير فظاظة، أو يمشون مشيًا هينًا على أنه مصدر وصف به، والمعنى: أنهم يمشون بسكينة وتواضع، لا بفخر وفرح ورياء وتجبر، ولا يضربون بأقدامهم الأرض، ولا يخفقون بنعالهم، وذلك لما طالعوا من عظمة الحق وهيبته، وشاهدوا من كبريائه وجلاله، فخشعت لذلك أرواحهم، وخضعت نفوسهم وأبدانهم.
والمعنى: أي (١) وعباد الله الذين حق لهم الجزاء والمثوبة من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم، ولا يخفقون بنعالهم أشرًا
التقلّع رفع الرجل بقوة، والتكفؤ الميل إلى سنن القصد، والهون الرفق والوقار، والذريع الواسع الخطا؛ أي: أنه كان يرفع رجله بسرعة في مشيه، ويمد خطوه خلاف مشية المختال، وكل ذلك برفق وتثبّت دون عجلة، ومن ثم قيل: كأنما ينحط من صبب، قاله القاضي عياض في "الشفاء". وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع في مشيه جبلة لا تكلّفًا.
وخلاصة هذا: أنهم لا يتكبرون، ولا يتجبرون، ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا.
وثاني الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾؛ أي: وإذا كلّمهم السفهاء مواجهة بالكلام القبيح ﴿قَالُوا﴾ في جوابهم قولًا ﴿سَلَامًا﴾؛ أي: سدادًا يسلمون فيه من الأذى والإثم، فسلامًا صفة لمصدر محذوف، وعليه أكثر المفسرين، ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه، فلا يجهلون مع من يجهل، ولا يسافهون أهل السفه، أو منصوب بفعل مضمر كما في "المفردات". أي: نطلب منكم سلامة، أو إنا سلمنا من إثمكم، وأنتم سلمتم من شرنا كما في "إحياء العلوم". والمعنى؛ أي: وإذا سفه عليهم السفهاء بالقول السيء لم يقابلوهم بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، وكان رسول الله - ﷺ - لا تزيده شدة الجاهل عليه إلّا حلمًا. وعن الحسن البصري: هم حلماء لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم؟ خير ليل، صفوا أقدامهم، وأجروا دموعهم، يطلبون إلى الله جل ثناؤه
٦٤ - وثالث الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ﴾ عطف على الموصول الأول ﴿لِرَبِّهِمْ﴾ لا لحظ أنفسهم، وهو متعلق بما بعده، والتقديم للتخصيص مع مراعاة الفاصلة ﴿سُجَّدًا﴾ جمع ساجد؛ أي: ساجدين على وجوههم. وقرأ أبو البرهشيم: ﴿سجودًا﴾ على وزن قعود ﴿وَقِيَامًا﴾ جمع (١) قائم مثل نيام ونائم، أو مصدر أجري مجراه؛ أي: قائمين على أقدامهم. وتقديم السجود على القيام مع أنه مؤخر طبعًا لرعاية الفواصل، وليعلم أن القيام في الصلاة مقدّم مع أن السجدة أحق بالتقديم لما ورد: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، والكفرة يستكبرون عنها، حتى قال بعضهم: لا أفعلها لأني لا أحب أن تعلو رأسي أستيَ. والمعنى: والذين يكونون في الليل ساجدين لربهم على وجوههم، وقائمين على أقدامهم طلبًا لرضاه سبحانه؛ أي: يحيون الليل كلاً أو بعضًا بالصلاة، كما قال في حق المتقين: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧)﴾.
وتخصيص البيتوتة؛ لأن العبادة بالليل أشقّ وأبعد من الرياء، وهو بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم، ووصف ليلهم بعد وصف نهارهم. قال ابن عباس: من صلى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدًا وقائمًا. وروى مسلم عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة".
فإن قلت: ما معنى هذا الحديث، فإنه يرفع مؤنة قيام الليل؟
قلت: هذا الحديث ترغيب في الجماعة، وبيان للرخصة وتأثير النية، فإن من نوى وقت العشاء أن يقيم الفجر بجماعة كان كمن انتظرها في المسجد، فرب همة عالية تسبق الأقدام، ولكن العمل مع النية أفضل من النية المجردة، والعزيمة
ومن حرم قيام الليل كسلًا وفتورًا في العزيمة، أو تهاونًا بقلة الاعتداد بذلك، أو اغترارًا بحاله.. فليبك عليه، فقد قطع عليه طريق كثير من الخير، والذي يخل بقيام الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا، وكثرة أشغال الدنيا، وإتعاب الجوارح، والامتلاء من الطعام، وكثرة الحديث واللهو واللغط، وإهمال القيلولة، والموفق من يغتنم وقته، ويعرف داءه ودواءه، ولا يهمل فيهمل، واعلم أن الأصل في كل عمل هو تحقيق النية وتصحيح الإخلاص، وجهنا الله وإياكم إلى وجهه.
٦٥ - ورابع الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ في أعقاب صلواتهم وأدبارها، أو في عامة أوقاتهم ﴿رَبَّنَا اصْرِفْ﴾ واردد ﴿عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ وشديد آلامها ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾؛ أي: شرًا دائمًا، وهلاكًا لازمًا غير مفارق لمن عذب به من الكفار، والعذاب الإيجاع الشديد. قال محمد بن كعب القرظي: إن الله سبحانه سأل الكفار شكر نعمته فلم يؤدوها إليه فأغرقهم، فأدخلهم النار، وقال: كل غريم مفارق غريمه إلّا جهنم؛ أي: والذين يدعون ربهم أن يصرف عنهم عذاب جهنم وشديد آلامها.
٦٦ - وقوله: ﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)﴾ تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حالها في أنفسها إثر تعليله بسوء حال عذابها، فهو من تمام كلامهم، ويجوز أن يكون من كلامه تعالى. وانتصاب (١) ﴿مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ على الحال، أو التمييز، قيل: هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما لاختلاف لفظيهما. وقيل: بل هما مختلفان معنى، فالمستقر للعصاة، فإنهم يخرجون، والمقام للكفار، فإنهم يخلدون فيها. وساءت من أفعال الذم بمعنى: بئست. والضمير (٢) فيها لا يعود إلى اسم ﴿إن﴾ وهو جهنم، ولا إلى شيء آخر بعينه، بل هو ضمير مبهم يفسّره ما بعده من التمييز، وهو ﴿مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾، وذلك لأن فاعل أفعال الذم يجب أن
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مقاما﴾ بضم الميم، وقرأت فرقة بفتحها وفي "السمين": يجوز أن يكون ﴿سَاءَتْ﴾ بمعنى: أحزنت، فتكون متصرفة ناصبة للمفعول، وهو هنا محذوف؛ أي: أنها؛ أي: جهنم أحزنت أصحابها وداخليها حالة كونها مستقرًا ومقامًا لهم، أو من جهة كونها مستقرًا ومقامًا لهم. وفي الآية إيذان بأنهم مع حسن معاملتهم من الخلق، واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له يخافون عذابه، ويبتهلون إليه في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كما قال في شأنهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)﴾.
يعني يجتهدون غاية الجهد، ويستفرغون نهاية الوسع، ثم عند السؤال ينزلون منزلة العصاة، ويقفون موقف أهل الاعتذار، ويخاطبون بلسان التذلل كما قيل:
وَمَا رُمْتُ الدُّخُوْلَ عَلَيْهِ حَتَّى | حَلَلْتُ مَحِلَّةَ الْعَبْدِ الذَّلِيْلِ |
٦٧ - وخامس الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا﴾ أموالهم على أنفسهم
(٢) روح البيان.
﴿وَكَانَ﴾ إنفاقهم (٢) المدلول عليه بقوله: أنفقوا كائنًا ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾؛ أي: بين ما ذكر من الإسراف والتقتير، وهو خبر ﴿كان﴾ كما قدرنا، وقوله: ﴿قَوَامًا﴾ خبر بعد خبر، أو هو الخبر، و ﴿بين ذلك﴾ ظرف لغو لـ ﴿كان﴾ على رأي من يرى إعمالها في الظرف؛ أي: وسطًا عدلًا، سمي به لاستقامة الطرفين واعتدالهما بحيث لا ترجح لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه لكونه وسطًا بينهما كمركز الدائرة، فإنه يكون نسبة جميع الدائرة إليه على السواء. وقرأ (٣) حسان بن عبد الرحمن: ﴿قواما﴾ بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل: هما بمعنى، وقيل: القوام بالكسر ما يدوم عليه الشيء ويستقر، وبالفتح العدل والاستقامة، قاله ثعلب، وقيل: بالفتح العدل بين الشيئين، وبالكسر ما يقام به الشيء، لا يفضل عنه ولا ينقص، وقيل: بالكسر السداد والمبلغ.
والمعنى: أي (٤) والذين هم ليسوا بالمبذرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجة، ولا ببخلاء على أنفسهم وأهليهم، فيقصّرون فيما يجب نحوهم، بل ينفقون عدلًا وسطًا، وخير الأمور أوسطها. وقد قيل:
وَلاَ تَغْلُ فِيْ شَيْءٍ مِنَ الأَمْرِ وَاقْتَصِدْ | كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيْمُ |
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
إِذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّ مَا اشْتَهَتْ | وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إِلَى كُلِّ بَاطِلِ |
وَسَاقَتْ إِلَيْهِ الإِثْمَ وَالْعَارَ بِالَّذِيْ | دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَلاَوَةِ عَاجِلِ |
٦٨ - وسادس الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ﴾ ولا يعبدون ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿إِلَهًا آخَرَ﴾ كالصنم فيجعلونه شريكًا له تعالى؛ أي: والذين لا يعبدون مع الله سبحانه إلهًا آخر، فيشركون في عبادتهم إياه، بل يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة.
يقال: الشرك ثلاثة (١):
أولها: أن يعبد غيره تعالى.
والثاني: أن يطيع مخلوقًا بما يأمره من المعصية.
والثالث: أن يعمل لغير وجه الله تعالى. فالأول كفر، والآخران معصية.
وفي "التأويلات النجمية": يعني لا يرفعون حوائجهم إلى الأغيار، ولا يتوهمون منهم المسارّ والمضارّ، وأيضًا لا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة، ولا يطلبون مع الله مطلوبًا، ولا يحبون معه محبوبًا، بل يطلبون الله من الله، ويحبونه
وقد نفى (٢) عنهم هذه القبائح مع أن وصفهم بالصفات السالفة من حسن معاملتهم للناس، ومزيد خوفهم من الله، وإحياء الليل يقتضي نفيها عنهم تعريضًا بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم، وتنبيهًا إلى الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة المشركين، فكأنه قيل: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر وأنتم تدعون، ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون وأنتم تزنون.
ثم توعد سبحانه من يفعل مثل هذه الأفعال بشديد العقاب، فقال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين؛ أي: فعل شيئًا من الأفعال الثلاثة: عبادة غير الله تعالى، والقتل، والزنا ﴿يَلْقَ أَثَامًا﴾؛ أي (٣): جزاء إثمه وعقوبته، والأثام كالوبال والنكال وزنًا ومعنى، يقال: أثمه يأثمه أثامًا جازاه على ذنبه وعاقبه عليه. وفي "القاموس": الأثام كسحاب، واد في جنهم، والعقوبة. وقال أبو مسلم: الأثام الإثم والذنب. ومعناه: يلق جزاء آثامه، فأطلق اسم الشيء على جزائه.
وقرِىء (٤): ﴿يَلْقَ﴾ بضم الياء وفتح اللام والقاف المشددة، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء ﴿يلقى﴾ بألف، كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرّ الألف، وقرأ ابن مسعود ﴿أيّاما﴾ جمع يوم يعني شدائد، يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِيْ دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا |
والضمير في قوله: ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ﴾ عائد إلى العذاب المضاعف؛ أي: يخلد في العذاب المضاعف حالة كونه ﴿مُهَانًا﴾؛ أي: ذليلًا حقيرًا، جامعًا للعذاب الجسماني والروحاني لا يغاث. وقرأ (١) نافع وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ﴾ مبنيًا للمفعول وبألف ﴿وَيَخْلُدْ﴾ مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك، إلّا أنهم شددوا العين، وطرحوا الألف، وقرأ أبو جعفر أيضًا وشيبة وطلحة بن مصرف ﴿يضاعِف﴾ بالياء مبنيًا للفاعل ﴿العذاب﴾ بالنصب وقرأ طلحة بن سليمان ﴿نضعّف﴾ بضم النون والعين المشددة بالجزم ﴿وتخلد﴾ بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعًا؛ أي: وتخلد أيها الكافر، وقرأ أبو حيوة ﴿ويخلّد﴾ مبنيًا للمفعول مشدد اللام مجزومًا، ورويت عن أبي عمرو، وعنه كذلك مخففًا، وقرأ أبو بكر عن عاصم ﴿يضاعف ويخلد﴾ بالرفع فيهما، وكذا ابن عامر، والمفضّل عن عاصم ﴿يضاعف ويخلد﴾ مبنيًا للمفعول مرفوعًا مخففًا، وقرأ الأعمش بضم الياء مبنيًا للمفعول مشددًا مرفوعًا، فالرفع على الاستئناف،
والمعنى (١): ومن يفعل خصلة من خصال الفجور السالفة يلق في الآخرة جزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه، بل يضاعف له ربه العذاب يوم القيامة، ويجعله خالدًا أبدًا في النار مع المهانة والاحتقار، فيجتمع له العذاب الجسمي والعذاب الروحي.
٧٠ - وبعد أن أتم تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه بترغيب الأبرار في التوبة والرجوع إلى حظيرة المتقين، فيفوزون بجنات النعيم، فقال: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ من الشرك والقتل والزنا ﴿وَآمَنَ﴾؛ أي: صدّق بوحدانية الله تعالى، ورسالة رسوله - ﷺ -: ﴿وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ ذكر (٢) الموصوف هنا مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به، وللتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة. والاستثناء من الجنس؛ لأن المقصود الإخبار بأن من فعل ذلك فإنه يحل به ما ذكر إلّا أن يتوب، وأما إصابة أصل العذاب وعدمها فلا تعرض لها في الأية. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ الثلاثة المذكورة في الدنيا ﴿حَسَنَاتٍ﴾؛ أي: يبدلهم الإيمان عن الشرك، وقتل الكافرين عن قتل المؤمنين، والعفة والإحصان عن الزنا، أو (٣) يوفّقهم للمحاسن بعد القبائح، أو يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات الإيمان والطاعة، ولم يرد به أن السيئة بعينها تكون حسنة، ولكن المراد ما ذكرنا.
قال الزجاج: ليس المراد أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن المراد أن السيئة تمحى بالتوبة، وتكتب الحسنة مع التوبة. انتهى. وعبارة "أبي السعود":
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
وفي "القرطبي" قال النحاس: من أحسن ما قيل في التبديل أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع، قال الحسن: وقوم يقولون: التبديل في الآخرة. وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا، يبدلهم الله إيمانًا من الشرك، وإخلاصًا من الشك، وإحصانًا من الفجور. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران؛ أي: يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أنه يبدلها حسنات. قلت: ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحّت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال - ﷺ - لمعاذ: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، اهـ. وقرأ (١) البرجمي ﴿يُبْدِلُ﴾ مخففًا.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿غَفُورًا﴾ لمن تاب من الشرك والمعاصي، ولذلك بدل السيئات حسنات، ﴿رَحِيمًا﴾ له، ولذلك أثاب على الحسنات، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من التبديل.
٧١ - ﴿وَمَنْ تَابَ﴾؛ أي رجع عن المعاصي مطلقًا بتركها بالكلية والندم عليها ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ بتدارك به ما فرّط منه، أو المعنى: ومن تاب؛ أي: خرج عن المعاصي، وعمل صالحًا؛ أي: دخل في الطاعات ﴿فَإِنَّهُ﴾ بما فعل ﴿يَتُوبُ﴾ ويرجع ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بعد الموت ﴿مَتَابًا﴾؛ أي: رجوعًا حسنًا، عظيم الشأن، مرضيًا عنده تعالى، ماحيًا للعقاب، محصّلًا للثواب، فلا يتحد الشرط والجزاء؛ لأن في الجزاء معنى زائدًا على ما في الشرط، فإن الشرط هو التوبة بمعنى الرجوع عن المعاصي، والجزاء هو الرجوع إلى الله تعالى بعد
والتوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرّط، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة، قال ابن عطاء: التوبة الرجوع من كل خلق مذموم، والدخول في كل خلق محمود، وهي توبة الخواص. وقال بعضهم: التوبة أن يتوب من كل شيء سوى الله تعالى، وهي توبة الأخص، فعليكم أيها الإخوان بالتوبة والاستغفار، فإنها صابون الأوزار.
والمعنى: أي ومن تاب عن المعاصي التي فعلها، وندم على ما فرط منه، وزكّى نفسه بصالح الأعمال، فإنه يتوب إلى الله توبة نصوحًا مقبولة لديه، ماحية للعقاب، محصّلة لجزيل الثواب، إلى أنه ينير قلبه بنور من عنده يهديه إلى سواء السبيل، ويوفقه للخير، ويبعده عن الضير، وفي هذا تعميم لقبول التوبة من جميع المعاصي بعد أن ذكر قبولها من أمهاتها، نسأل الله تعالى توبة نصوحا ومن آثار رحمته فيضًا ونوالًا وفتوحًا.
٧٢ - وسابع الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾؛ أي (١): لا يحضرون مواضع الكذب، فإن حضور مجامع الفسّاق مشاركة لهم في تلك المعصية، ولأن النظر إليها دليل الرضا بها. وقيل: معنى ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ لا يشهدون (٢) أعياد المشركين واليهود والنصارى. وقيل: لا يشهدون مواضع النوح والندب. وقيل: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم. وقيل: لا يشهدون مواضع اللهو واللعب والغناء. قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. والأولى التعميم، فيقال: لا يشهدون مواضع المعاصي كلها، أيًا كانت. أو المعنى: لا يشهدون الشهادة الكاذبة.
والحاصل: أنَّ ﴿يَشْهَدُونَ﴾ إن كان من الشهادة بمعنى الإخبار.. ففي
(٢) الخازن.
واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور (١): فقال أبو حنيفة: لا يعزّر، بل يوقف في قومه، ويقال لهم: إنه شاهد زور. وقال الثلاثة: يعزّر ويوقف في قومه، ويعرّفون أنه شاهد زور. وقال مالك: يشهر في الجوامع والأسواق والمجامع. وقال أحمد: يطاف به في المواضع التي يشتهر فيها، فيقال: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاجتنبوه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه - أي: يطليه بمادة سوداء - ويحلق رأسه، ويطوف به في الأسواق كما في "كشف الأسرار". وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وكان متكئًا فجلس، فقال -: ألا وقول الزور، أو شهادة الزور"، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾؛ أي: بمجالس اللغو واللهو والباطل ﴿مَرُّوا كِرَامًا﴾؛ أي: مروا بها معرضين عنها، مسرعين مكرمين أنفسهم بترك الالتفات إليها، منزّهين لها عن هذه المجالس السيئة، يقال: فلان يكرم نفسه عما يشينه؛ أي: يتنزه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله. واللغو: كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها. والمعنى: مرّوا معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه، والخوض فيه، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش، والصفح عن الذنوب، والكناية عما يستهجن التصريح به.
وحاصل معنى الآية: أي والذين لا يؤدّون الشهادات الكاذبة، ولا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، ويكرمون أنفسهم عن سماع اللغو وما لا خير فيهِ كاللغو في القرآن، وشتم الرسول، والخوض فيما لا ينبغي. ونحو الآية قوله:
٧٣ - وثامن الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا﴾؛ أي: وعظوا ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ المشتملة على المواعظ والأحكام ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا﴾؛ أي (١): لم يسقطوا، ولم يقعوا ولم يقفوا عليها حالة كونهم ﴿صُمًّا﴾ عن استماعها وإصغائها. جمع أصم وهو فاقد حاسة السمع وبه يشبه من لا يصغي إلى الحق ولا يقبله ﴿و﴾ حالة كونهم ﴿عُمْيَانًا﴾ عن رؤية تاليها. جمع أعمى؛ وهو فاقد حاسة البصر.
والمعنى: أي (٢) والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على الأحكام والمواعظ أكبوا على تلك الآيات حرصًا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، وانتفعوا بها، لا كالذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم والعيمان كالمنافقين والكفرة كأبي جهل والأخنس بن شريق، فالمراد من النفي نفي الصمم والعمى، لا نفي الخرور وإن دخلت الأداة عليه، فالنفي متوجه إلى القيد الذي هو ﴿صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾، لا إلى المقيد الذي هو الخرور الداخل عليه. وفي هذا تعريض بما عليه الكفرة والمنافقون الذي إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به، ولم يتحولوا عما كانوا عليه، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم وجهلهم وضلالهم، فكأنهم صم لا يسمعون، وعمي لا يبصرون.
٧٤ - وتاسع الصفات: ما ذكره بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ﴾ في دعائهم لربهم ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾؛ أي: بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل؛ أي: اجعل لنا ما يحصل به سرور أعين من أزواجنا وأولادنا بأن نراهم صالحين مطيعين لله. وعن محمد بن كعب: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله تعالى. وقرة العين
(٢) المراح.
﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾؛ أي: اجعلنا أئمة لهم بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم علينا، وبالتوفيق للعمل الصالح. ولفظ ﴿إمام﴾ يستوي فيه الجمع وغيره، فالمطابقة حاصلة. اهـ شيخنا.
وفي "البيضاوي" (٢): وتوحيد ﴿إِمَامًا﴾ لدلالته على الجنس وعدم اللبس، كقوله: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾، أو لأنه مصدر في أصله، أو لأن المراد: واجعل كل واحد منا إمامًا، أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم. وقيل: جمع آثم كصائم وصيام، فيكون من المقلوب، والمعنى: واجعل المتقين لنا إمامًا، واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم. قال بعضهم: وفي هذا دليل على أن الرئاسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها. والمعنى؛ أي (٣): والذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، وصادق الإيمان إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه، وسر قلبه، وتوقع نفعهم له في الدنيا حيًا وميتًا، وكانوا من اللاحقين به في الآخرة، ويسألون أيضًا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين بما يفيض عليهم من واسع العلم، وبما يوفقهم إليه من صالح العمل. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أنهم طلبوا من ربهم أمرين: أن يكون لهم من أزواجهم وذرياتهم من يعبدونه، فتقر بهم أعينهم في الدنيا والآخرة، وأن يكونوا هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
وقرأ ابن عامر وابن كثير ونافع وحفص عن عاصم (١): ﴿وَذُرِّيَّاتِنَا﴾ على الجمع، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة: ﴿وذريتنا﴾: على الإفراد، وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة وأبو الدرداء وأبو هريرة: ﴿قُرّات﴾: على الجمع، والجمهور على الإفراد.
تنبيه (٢): وإعادة الموصول في المواضع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حدته، له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لذلك، وتوسط العاطف بين الصفة والموصوف لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.
٧٥ - ولما بين سبحانه صفات المتقين المخلصين.. ذكر إحسانه إليهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات الثمانية السابقة، والمستجمعون لتلك الخصال الفاضلة ﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾؛ أي: يثابون أعلى منازل الجنة، والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، والغرفة: الدرجة العالية من كل بناء مرتفع، وهي اسم جنس أربد به الجمع، كقوله تعالى: ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾، ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾؛ أي: بسبب صبرهم على مشاق التكاليف، وقمع الشهوات، وتحمل المجاهدات. فـ ﴿ما﴾ مصدرية، و ﴿الباء﴾: سببية ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا﴾؛ أي: في الغرفة من جهة الملائكة؛ أي: يستقبلون فيها، ويجدون من الملائكة ﴿تَحِيَّةً﴾؛ أي: دعاء بطول حياة ﴿وَسَلَامًا﴾؛ أي: دعاء بسلامة من
(٢) روح البيان.
وقال شيخ الإِسلام: جمع بين التحية والسلام مع أنهما بمعنى واحد لقوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ﴾، ولخبر: "تحية أهل الجنة في الجنة السلام"؛ لأن المراد هنا بالتحية سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، وبالسلام سلام الله عليهم لقوله تعالى: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾، أو المراد بالتحية إكرام الله لهم بالهدايا والتحف، وبالسلام سلامه عليهم بالقول، ولو سلم أنهما بمعنى واحد لساغ الجمع بينهما لاختلافهما لفظًا "فتح الرحمن".
٧٦ - حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الغرفة لا يموتون ولا يخرجون منها ﴿حَسُنَتْ﴾ تلك الغرفة من جهة كونها ﴿مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ لهم؛ أي: موضع قرار ودوام وإقامة واستراحة لهم، وهو مقابل قوله في جهنم: ﴿سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ معنى، ومثله إعرابا. فعلى العاقل أن يتهيأ لمثل هذه الغرفة العالية الحسنة بما سبق من الأعمال الفاضلة المستحسنة، ولا يقع في مجرد الأماني والآمال، فإن الأمنية كالموت بلا إشكال:
بِقَدْرِ الْكَدَّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِيْ | وَمَنْ طَلَبَ الْعُلاَ سَهِرَ اللَّيَالِيْ |
٧٧ - ولما شرح صفات المتقين وأثنى عليهم.. أمر رسوله أن يقول لهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد للناس كافة ﴿مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ و ﴿ما﴾: إما استفهامية محلها النصب على المصدر؛ أي (٢): ما يصنع بأجسامكم، وما يفعل بصوركم ربي، أو أي وزن ومقدار لكم عنده ﴿لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾؛ أي: لولا عبادتكم إياه، كقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾. وقيل: لولا إيمانكم. وقيل: لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان، فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر، وإما نافية؛ أي: لا يبالي بكم ربي لولا دعاؤكم واستغاثتكم إياه في الشدائد، فقوله: ﴿لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ بيان لحال المؤمنين، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ معلوم مما قبله، تقديره: لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم. والمعنى (٣) على الاستفهامية: أي عبء يعبأ بكم ربي، وأي مبالاة يبالي بكم ربي، وأي اعتبار يعتبركم ربي، وأي اعتناء يعتني بشأنكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم له تعالى؟ فإن شرف الإنسان وكرامته عند الله تعالى بالمعرفة والطاعة، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء، هذا وفي الآية معان أخر، والأظهر عند المحققين ما ذكرناه.
وقوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بيان لحال الكفرة من الناس؛ أي: فقد كذبتم أيها الكفرة بما أخبرتكم به حيث خالفتموه وخرجتم عن أن يكون لكم عند الله اعتناء بشأنكم واعتبار، أو وزن ومقدار ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ جزاء تكذبيكم ﴿لِزَامًا﴾؛ أي: لازمًا لكم يحيق بكم لا محالة، حتى يكبكم في النار؛ أي: يصرعكم على وجوهكم في النار، كما يعرف عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها،
(٢) الخازن بزيادة.
(٣) روح البيان.
وقال الزمخشري في هذه الآية (١): لما وصف الله سبحانه عبادة العباد، وعدد صالحاتهم وحسناتهم، وأثنى عليهم من أجلها، ووعدهم رفع الدرجات.. أتبع ذلك ببيان أنه إنما اكترث بأولئك، وعبأ بهم، وأعلى ذكرهم لأجل عبادتهم، فأمر رسوله بأن يقول لهم: إن الاكتراث بهم عند ربهم إنما هو لأجل عبادتهم وحدها، لا لمعنى آخر، ولولا عبادتهم لم يكترث بهم البتة، ولم يعتد بهم، ولم يكونوا عنده شيئًا يبالي به اهـ "كشاف".
وقال زاده: أي إن مبالاة الله تعالى واعتناءه بشأنهم حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إرادة للانتظام إنما هو ليعرفوا حق المنعم، ويطيعوه فيما كلفهم به اهـ.
ومعنى الآية: أي (٢) قل لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: إن الفائزين بتلك النعم الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما ذكر من تلك المحاسن، ولولاها لم يعتد بهم ربهم، ومن ثم لا يعبأ بكم إذا لم تعبدوه، فما خلق الإنسان إلا ليعبد ربه، ويطيعه وحده لا شريك له، كما قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾، ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ أما أنتم إذ خالفتم حكمي، وعصيتم أمري، ولم تعملوا عمل أولئك الذين ذكروا من قبل، وكذبتم رسولي.. فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم، وهو العقاب الذي لا مناص منه، فاستعدوا له، وتهيؤوا لذلك اليوم، فكل آت قريب.
وخلاصة ذلك: لا يعتد بكم ربي لولا عبادتكم إياه، أما الكافرون منكم
(٢) المراغي.
وقال أبو حيان (١): والذي يظهر أن قوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ خطاب لكفار قريش القائلين: أنسجد لما تأمرنا؟ أي: لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه عند الشدائد، فقد كذبتم بما جاء به الرسول - ﷺ -، فتستحقون العقاب، فسوف يكون العقاب لزامًا؛ أي: لازمًا لكم لا تنفكون منه، ونفس لهم في حلوله بلفظة ﴿فَسَوْفَ﴾، وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير: ﴿فقد كذب الكافرون﴾ فهو محمول على أنه تفسير لا قرآن، وفي هذه القراءة دليل (٢) بين على أن الخطاب لجميع الناس.
وقرأ ابن جريج ﴿فسوف تكون﴾ بتاء التأنيث؛ أي: فسوف تكون العاقبة، وقرأ الجمهور: ﴿لِزَامًا﴾ بكسر اللام، وقرأ (٣) المنهال وأبان بن تغلب وأبو السماك بفتحها مصدرًا، تقول: لزم لزومًا ولزامًا مثل ثبت ثبوتًا وثباتًا، وأنشد أبو عبيدة على كسر اللام لصخر الغي:
فَإِمَّا يَنْجُ مِنْ حَتْفِ أَرْضٍ | فَقَدْ لَقِيَا حُتُوْفَهُمَا لِزَامَا |
فائدة: قال الإمام الراغب (٤): الإنسان في هذه الدار الدنيا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: الناس سفر، والدار دار ممر، لا دار مقر، وبطن أمه مبدأ سفره، والآخرة مقصده، وزمان حياته مقدار مسافته، وسنوه منازله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطاه، ويسار به سير السفينة براكبها، كما قال الشاعر:
رَأَيْتُ أَخَا الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ ثَاوِيَا | أَخَا سَفَرٍ يُسْرَى بِهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِيْ |
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
الإعراب
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (٥٥)﴾.
﴿وَيَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائح المشركين. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلقان بـ ﴿يعبدون﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَنْفَعُهُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَلَا يَضُرُّهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَنْفَعُهُمْ﴾. ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى رَبِّهِ﴾: متعلق بـ ﴿ظَهِيرًا﴾. ﴿ظَهِيرًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة ﴿يَعْبُدُونَ﴾.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٥٦) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٥٧)﴾.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال رسوله - ﷺ -. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال. ﴿مُبَشِّرًا﴾: حال من ضمير المفعول. ﴿وَنَذِيرًا﴾: معطوف عليه، والتقدير: أي: وما أرسلناك في حال من الأحوال إلَّا حال كونك
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (٥٨)﴾.
﴿وَتَوَكَّلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ﴾، وهذه الجملة متصلة في المعنى بقوله: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾. ﴿عَلَى الْحَيِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْ﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة أولى لـ ﴿الْحَيِّ﴾. ﴿لَا يَمُوتُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿وَسَبِّحْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿توكل﴾. ﴿بِحَمْدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿سبح﴾؛ أي: حالة كونك متلبسًا بحمده. ﴿وَكَفَى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كفى﴾: فعل ماض. ﴿بِهِ﴾: الباء زائدة في فاعل ﴿كفى﴾، والهاء ضمير للمفرد المنزه عن المذكورة والأنوثة والغيبة، مجرور لفظًا مرفوع محلًا على أنه فاعل ﴿كفى﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿توكل﴾، أو مستأنفة. ﴿بِذُنُوبِ عِبَادِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَبِيرًا﴾. ﴿خَبِيرًا﴾: تمييز لفاعل ﴿كفى﴾، أو حال منه.
﴿الَّذِي﴾: صفة ثانية لـ ﴿الْحَيِّ﴾، أو نعت، أو بدل من قوله: ﴿بِهِ﴾، أو مبتدأ خبره ﴿الرَّحْمَنُ﴾ الآتي. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَمَا﴾: في محل النصب معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿بَيْنَهُمَا﴾ ظرف ومضاف إليه صلة ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿اسْتَوَى﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الموصول معطوف على ﴿خَلَقَ﴾. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَوَى﴾. ﴿الرَّحْمَنُ﴾: بالرفع، في إعرابه أوجه: أحدها أنه خبر ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الرحمن، أو بدل من الضمير في ﴿اسْتَوَى﴾، أو مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ على رأي الأخفش، أو صفة لـ ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ إذا قلنا إنه مرفوع، وأما على قراءة زيد بن علي بالجر، فيتعين أن يكون نعتًا لـ ﴿الْحَيِّ﴾. ﴿فَاسْأَلْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته من الخلق والاستواء، وأردت بيان تفاصيله.. فأقول لك: ﴿اسأل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿بِهِ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر بمعنى عن، ﴿والهاء﴾: ضمير الغائب عائد على ما ذكر من الخلق والاستواء، ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: فاسأل عن تفاصيل ما ذكر متعلق بـ ﴿اسأل﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿اسأل﴾. ﴿خَبِيرًا﴾: مفعول أول لـ ﴿اسأل﴾؛ أي: فاسأل ربًا خبيرًا عن تفاصيله، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، وفي المقام أوجه آخر من الإعراب على اختلاف تفاسيره، فأجر عليه تلك الأوجه بحسب المعنى، والله أعلم.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (٦٠)﴾.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (٦٢)﴾.
﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض بمعنى أوجد، يتعدى لمفعول واحد، وفاعله ضمير مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾. ﴿بُرُوجًا﴾: مفعول به. ﴿وَجَعَلَ﴾: معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ الأول. ﴿فِيهَا﴾: متعلق به. ﴿سِرَاجًا﴾: مفعول ﴿جَعَلَ﴾. ﴿وَقَمَرًا﴾: معطوف على ﴿سِرَاجًا﴾. ﴿مُنِيرًا﴾: صفة ﴿قمرا﴾. ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هو﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِي﴾: خبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَبَارَكَ﴾. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة صله
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)﴾.
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان الأوصاف التي يتميز بها عباد الرحمن المخلصون. ﴿يَمْشُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿عَلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَمْشُونَ﴾. ﴿هَوْنًا﴾: إما مصدر واقع موقع الحال من فاعل ﴿يَمْشُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم هينين لينين، أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: مشيًا مطلقًا. ﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿سَلَامًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا سلامًا، وجملة ﴿إِذَا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿يَمْشُونَ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول على كونه خبر المبتدأ. ﴿يَبِيتُونَ﴾: فعل مضارع ناقص، والواو: اسمها. ﴿لِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿سُجَّدًا﴾. ﴿سُجَّدًا﴾: خبر ﴿يَبِيتُونَ﴾، والجملة
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَنْفَقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ صلة الموصول. ﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾: جازم وفعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾. ﴿وَكَانَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو حالية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الإنفاق. ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿قَوَامًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿قَوَامًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾؛ أي: وكان انفاقهم قوامًا كائنًا بين ذلك. قال الزمخشري: ويجوز أن
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (٦٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على الموصول الأول. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾. ﴿إِلَهًا﴾: مفعول به. ﴿آخَرَ﴾: صفة له. ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿يَدْعُونَ﴾. ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿النَّفْسَ﴾. ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: حرمها الله. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْتُلُونَ﴾، أو بمحذوف حال، فالاستثناء من أعم الأحوال؛ أي: إلا متلبسين بالحق. ﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَقْتُلُونَ﴾. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: اعتراضية ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿يَلْقَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه جواب شرط لها. ﴿أَثَامًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿من﴾ الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿يُضَاعَفْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة بدل من ﴿يَلْقَ﴾ بدل كل من كل؛ لأن مضاعفة العذاب نفس لقي الآثام. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿يُضَاعَفْ﴾. ﴿الْعَذَابُ﴾: نائب فاعل. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يُضَاعَفْ﴾ أيضًا. ﴿وَيَخْلُدْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿من﴾ معطوف على ﴿يُضَاعَفْ﴾. ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يخلد﴾. ﴿مُهَانًا﴾: حال من فاعل ﴿يخلد﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، فهو مستثنى متصل من فاعل ﴿يَلْقَ﴾. ﴿تَابَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿وَآمَنَ وَعَمِلَ﴾: معطوفان على ﴿تَابَ﴾. ﴿عَمَلًا﴾: مفعول مطلق أو مفعول به. ﴿صَالِحًا﴾: صفة له. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية جريًا على القاعدة المطردة من أن الفاء بعد الاستثناء للتعليل. ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿حَسَنَاتٍ﴾: مفعول ثان، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعللية، وتلك اللام متعلقة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما قلنا: إلا من تاب لتبديل الله سيئاتهم إلخ. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿كَانَ﴾ معترضة، أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، أو اعتراضية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. ﴿تَابَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿وَعَمِلَ صَالِحًا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، أو مطلق معطوف على ﴿تَابَ﴾. ﴿فَإِنَّهُ﴾ الفاء رابطة الجواب ﴿إنه﴾ ناصب واسمه. ﴿يَتُوبُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق به. ﴿مَتَابًا﴾: مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي، وجملة يتوب في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بمن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معترضة أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع، معطوف على الموصول الأول. ﴿لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. ﴿وإذا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿مَرُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِاللَّغْوِ﴾: متعلق بـ ﴿مَرُّوا﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿مَرُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿كِرَامًا﴾: حال من فاعل ﴿مَرُّوا﴾، والجملة جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ معطوفة على جملة الصلة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿ذُكِّرُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ذُكِّرُوا﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها. ﴿لَمْ يَخِرُّوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق به. ﴿صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾: حالان من فاعل ﴿يَخِرُّوا﴾، جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿هَبْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر. ﴿لَنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿مِنْ أَزْوَاجِنَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿وَذُرِّيَّاتِنَا﴾: معطوف على ﴿أَزْوَاجِنَا﴾. ﴿قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾: مفعول به لـ ﴿هَبْ﴾. ﴿وَاجْعَلْنَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول أول. ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: حال من ﴿إِمَامًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿إِمَامًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿اجعلنا﴾، وجملة ﴿اجعلنا﴾ معطوفة على جملة ﴿هَبْ لَنَا﴾.
﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يُجْزَوْنَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل. ﴿الْغُرْفَةَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُجْزَوْنَ﴾. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب ﴿ما﴾: مصدرية،
﴿خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧)﴾.
﴿خَالِدِينَ﴾: حال من واو ﴿يُجْزَوْنَ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿حَسُنَتْ﴾: فعل ماض من أفعال المدح، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا مبهم مفسر بما بعده. ﴿مُسْتَقَرًّا﴾: تمييز لفاعل ﴿حسن﴾. ﴿وَمُقَامًا﴾: معطوف عليه، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هي يعود على الغرفة، وهو مبتدأ خبره جملة ﴿حَسُنَتْ﴾، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل النصب على المفعولية المطلقة. ﴿يَعْبَأُ﴾: فعل مضارع. ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به. ﴿رَبِّي﴾: فاعل؛ أي: أي عبء يعبأ بكم ربي، أو ﴿ما﴾ نافية، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود. ﴿دُعَاؤُكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، والخبر محذوف وجوبًا تقديره: لولا دعاؤكم موجود، وجواب ﴿لَوْلَا﴾ معلوم مما قبلها تقديره: لولا دعاؤكم موجود ما يعبأ بكم ربي، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة لمحذوف تقديره: فكيف يعبأ بكم ربي وقد كذبتم، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾، وصحّ عطفها؛ لأنها بمعنى النفي؛ لأن الاستفهام فيها إنكاري. ﴿فَقَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿كَذَّبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير المخاطبين في قوله: فكيف يعبأ بكم، أو الفاء عاطفة على جملة {مَا يَعْبَأُ
التصريف ومفردات اللغة
﴿ظَهِيرًا﴾ الظهير والمظاهر: المعاون، فهو يعاون الشيطان على ربه؛ أي: على رسوله وإطفاء نوره بالعداوة، أو المعنى: هينًا مهينًا، لا وقع له عند الله ولا قدر، من قولهم: ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك، فيكون كقوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾، اهـ "بيضاوي". ومنه قوله: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾؛ أي: هينًا. وقيل: إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده - وهو الصنم - قويًا غالبًا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ولا نفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعًا كقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله - ﷺ -، أو على دينه. والمراد بالكافر الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول كافرًا معينًا كما قيل: إنه أبو جهل، اهـ "شوكاني".
﴿إِلَّا مُبَشِّرًا﴾: من التبشير، والتبشير: إخبار فيه سرور. ﴿وَنَذِيرًا﴾ والإنذار: إخبار فيه تخويف، واقتصر على صيغة المبالغة في الإنذار لتخصصه بالكافرين إذ الكلام فيهم، والإنذار الكامل لهم، ولو قيل: إن المبالغة باعتبار الكم لشموله للعصاة جاز، اهـ "شهاب" باختصار.
﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ والأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا. ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ﴾؛ أي: نزهه عن صفات النقصان مثنيًا عليه بأوصاف الكمال، طالبًا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه، اهـ "بيضاوي".
﴿خَبِيرًا﴾ والخبير بالشيء: العليم بظاهره وباطنه وبكل ما يتصل به. ﴿وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ والنفور: الإنزعاج عن الشيء والتباعد عنه. ﴿بُرُوجًا﴾؛ أي: طرقًا ومنازل للسبعة السيارة، سميت بروجًا؛ لاستنارتها وحسنها وضوئها، والأبرج الواسع ما بين الحاجبين. ﴿سِرَاجًا﴾ قال الراغب: السراج الزاهر بفتيلة، ويعبر به عن كل شيء مضيء، والمراد به هاهنا الشمس لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ شبهت الشمس والكواكب الكبار بالسرج والمصابيح، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ في الإنارة والإشراق ﴿قمرا﴾ سمي قمرًا؛ لبياضه كما في "المختار".
﴿خِلْفَةً﴾؛ أي: يخلف كل واحد منهما الآخر، فالخلفة مصدر هيئة. وعبارة "القرطبي": قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء، فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابه خلفة؛ أي: قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض وهذا أسود، والأول أقوى. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان. ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ﴾ المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة.
﴿هَوْنًا﴾ والهون: الرفق والسكينة والوقار، كما في "القاموس"، وهو مصدر وضع موضع الصفة للمبالغة، وتذلل الإنسان في نفسه بما لا يلحق به غضاضة، كما في "المفردات". وهين لين، وقد يخففان.
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ الجهل: خلو النفس من العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادًا صحيحًا أو فاسدًا، اهـ "روح".
﴿يَبِيتُونَ﴾: من بات يبيت بيتوتة، والبيتوتة خلاف الظلول، وهي أن
﴿سُجَّدًا﴾: جمع ساجد، كركع جمع راكع. ﴿وَقِيَامًا﴾: جمع قائم كصيام جمع صائم. غرامًا: أي: هلاكًا وخسرانًا وعذابًا لازمًا. وفي "المختار": الغرام: الشر الدائم والعذاب، قال بشر بن أبي خازم:
وَيَوْمَ النَّسَارِ وَيَوْمَ الْفِجَا | رِ كَانَا عَذَابًا وَكَانَا غَرَاْمَا |
﴿لَمْ يُسْرِفُوا﴾ الإسراف: مجاوزة الحد في الإنفاق.
﴿وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ من الإقتار، والقتر والتقتر والإقتار هو التضييق الذي هو ضد الإسراف، وفي "المختار": وقتر على عياله؛ أي: ضيق عليهم في النفقة، وبابه ضرب ودخل، وقتر تقتيرًا وأقتر أيضًا ثلاث لغات.
﴿قَوَامًا﴾ - بفتح القاف وكسرها - وقد قرىء بهما، والقوام - بالفتح - العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، والقوام - بالكسر - ما يقام به الشيء يقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يزيد عنها ولا ينقص.
﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾ الزنا: وطء المرأة من غير عقد شرعي، أو ملك يمين كما مر، اهـ روح.
﴿أَثَامًا﴾ الآثام كالوبال والنكال وزنًا ومعنى، وجزاء الإثم الذي هو الذنب نفسه، قال الشاعر:
جَزَى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أَمْسَى | عُقُوْقًا وَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ |