ﰡ
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤)وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
اللغة:
(تَبارَكَ) : البركة زيادة الخير وكثرته، والزيادة تكون حسية ومعنوية أي تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في
(الْفُرْقانَ) : القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة وفي المصباح: «فرقت بين الشيئين فرقا من باب قتل فصلت أبعاضه وفرقت بين الحق والباطل، فصلت أيضا، هذه هي اللغة العالية وبها قرأ السبعة في قوله تعالى: «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وفي لغة من باب ضرب وقرأ بها بعض التابعين، وقال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان. والذي حكاه غيره أنهما بمعنى والتثقيل مبالغة» ولهذه المادة في اللغة شعاب كثيرة، وسنورد لك منها ما يروق الخاطر: فالفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بين الشيئين وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال، ألا ترى إلى قوله: «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا» والأظهر هو المعنى الثاني لأن في السورة بعد آيات: «وقال الذين كفروا لولا نزلوا عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك».
قال الله تعالى كذلك أي أنزلناه مفرقا كذلك لنثبت به فؤادك، فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد، وقد رأت دائرة المعارف الاسلامية كلمة فرقان مجهولة الأصل، وهذا خطأ بيّن، ووهم ظاهر كما رأيت من اشتقاق الكلمة، يقال فرق لي الطريق فروقا وانفرق انفراقا إذا اتجه لك طريقان فاستبان ما يجب سلوكه منهما، وطريق أفرق: بيّن، وضم تفاريق متاعه أي ما تفرق منه، وضرب
أو مزنة فارق يجلو غواربها | تبوّج البرق والظلماء علجوم |
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) تبارك فعل ماض جامد كما تقدم في باب اللغة، والذي فاعله وجملة نزل الفرقان صلة وعلى عبده متعلقان بنزل واللام للتعليل ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واسم يكون مستتر تقديره هو ونذيرا خبر يكون. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هذا الموصول يجوز أن يكون بدلا من الموصول الأول أو خبر لمبتدأ
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) عطف على ما سبق وله خبر يكن المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك وخلق عطف على ما سبق أيضا فهو من تمام العلة لما قبله وكل شيء مفعول خلق، فقدره الفاء عاطفة وقدره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وتقديرا مفعول مطلق. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) واتخذوا الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال وعبادة الكفار، ومن دونه في محل المفعول الثاني لا تخذوا وآلهة مفعول اتخذوا الاول وجملة لا يخلقون شيئا صفة لآلهة من سبع صفات ستأتي مسرودة متعاقبة، وهم يخلقون الواو عاطفة وهم مبتدأ ويخلقون بالبناء للمجهول خبر وهذه هي الصفة الثانية، ومعنى كونهم مخلوقين أن العابدين ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) الواو عاطفة ولا يملكون جملة معطوفة على ما تقدم وضرا مفعول به وهذه هي الصفة الثالثة، ولا نفعا هي الصفة الرابعة، ولا يملكون موتا هي الصفة الخامسة ولا حياة هي الصفة السادسة ولا نشورا هي الصفة السابعة، والنشور هو بعث الأموات. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية أباطيلهم وإبطالها ودحضها. والذين فاعل قال وجملة كفروا صلة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر هذا وجملة افتراه صفة لإفك. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) وأعانه عطف على افتراه وعليه متعلقان بأعانه، والضمير للإفك المفترى، وقوم فاعل وآخرون صفة
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أنزله مقول القول والذي مفعول به وجملة يعلم السر صلة الموصول وفي السموات والأرض حال وجملة إنه كان الآية تعليل لما تقدم فلا محل لها وقد تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة:
في قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» لف ونشر مرتب وقد تقدم في هذا الكتاب أن اللف والنشر فن يتضمن ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له، وقد مثلنا لكل من قسميه بما هو كاف، أما في هذه الآية فإن قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» فيه جعل الكلام المعجز إفكا مختلقا متلقفا من اليهود أو غيرهم من أهل الكتاب، وزورا بنسبة ما هو بريء منه اليه.
الفعل الجامد:
الفعل الجامد هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردا عن الزمان والحدث المعتبرين في الأفعال، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير فهو لا يقبل التحول من صورة الى صورة بل يلزم صورة واحدة لا يزايلها، وذلك مثل: عسى وليس وهب بمعنى احسب وافرض، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر فهو فعل أمر جامد، وأما «هب» المشتق من الهبة فماضيه وهب ومضارعه يهب وكذلك هب المشتق من الهيبة فإنه فعل أمر متصرف فماضيه هاب ومضارعه يهاب، ونعم وبئس وهو إما أن يلازم صيغة الماضي مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله، أو صيغة المضارع مثل يهيط ومعناه يصيح ويفح، يقال ما زال منذ اليوم يهيط هيطا وهو مضارع لا ماضي له كما في لسان العرب وتاج العروس ويقال: ما زال في هيط وميط بفتح أولهما وفي هياط ومياط بكسر أولهما أي ضجاج وشر وجلبة، وقيل في هياط ومياط:
في دنو وتباعد، والهياط الإقبال والمياط الإدبار، والهائط: الجائى، والمائط: الذاهب، والمهايطة والهياط: الصياح والجلبة، ويقال بينهما مهايطة وممايطة ومسايطة ومشايطة أي كلام مختلف، ومثل هب وهات وتعال وهلم في لغة تميم لأنه عندهم فعل يقبل علامته فتلحقه الضمائر، أما في لغة الحجاز فهي اسم فعل أمر لأنها ستكون عندهم بلفظ واحد للجميع وسيأتي بحثها في حينه. ومن الأفعال الجامدة «قلّ» بصيغة الماضي للنفي المحض وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل فلا يليه حينئذ إلا فعل ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي نحو: قلما فعلت هذا وقلما أفعله أي ما فعلت ولا أفعل ومنه قول الشاعر:
قلما يبرح اللبيب إلى ما | يورث المجد داعيا أو مجيبا |
صددت فأطولت الصدود وقلما | وصال على طول الصدود يدوم |
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧ الى ١٢]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢)
(وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان قبائحهم التي أرجفوا بها في شأن الرسول وهي ستة كما سيأتي. وقالوا فعل وفاعل وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والرسول بدل من اسم الاشارة وجملة يأكل الطعام حالية وهي الفرية الاولى، ويأكل الطعام فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يمشي في الأسواق عطف عليها وهي الفرية الثانية وسيأتي معنى أكل الطعام والمشي في الأسواق في باب البلاغة.
(لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لولا حرف تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وملك نائب فاعل والفاء فاء السببية ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنها جواب التحضيض واسمها مستتر تقديره هو أي الملك ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف حال ونذيرا خبر يكون أي فهما يتساندان في الإنذار والتخويف وهذه هي الفرية الثالثة. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أو حرف عطف ويلقى فعل مضارع مبني للمجهول وكنز نائب فاعل واليه متعلقان بيلقى، أو تكون له جنة عطف على ما تقدم وجملة يأكل منها صفة لجنة وهذان الفعلان معطوفان على أنزل لأنه بمعنى ينزل ولا يجوز أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب لأنهما مندرجان في التحضيض فيعطفان على جوابه، وهاتان هما الفريتان الرابعة والخامسة. (وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) الواو عاطفة وقال الظالمون فعل وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا صفة وهذه هي الفرية السادسة والأخيرة.
هيأنا لهؤلاء المكذبين نارا عظيمة، ووضع الموصول موضع الضمير ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التوبيخ وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة ونون سعيرا للتكثير أي نارا عظيمة كما ذكرنا. (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار. وإذا ظرف مستقبل
البلاغة:
١- كنايتان بديعتان:
في قوله تعالى «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كناية عن الحدث لأنه ملازم أكل الطعام، وقد مر تقريره مفصلا في سورة المائدة فجدد به عهدا، وفي يمشي في الأسواق كناية عن طلب المعاش، وانظر بعد هاتين الكنايتين البديعتين إلى حكاية خطراتهم الملتاثة وهواجسهم المحمومة كيف اقترحوا أولا بأن يكون ملكا الى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وان لم يكن مرفودا بملك فليكن مرفودا بكنز يلقى اليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج الى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما يرتزق المياسير، فانظر كيف صور خطرات النفس الملتاثة وحالات ترددها.
٢- وضع الظاهر موضع المضمر:
في قوله «وقال الظالمون» وضع الظاهر موضع الضمير وقد تقدمت الاشارة اليه مع أمثلته، فقد أراد بالظالمين إياهم بأعيانهم فهم القائلون الأولون، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بوصف الظلم وتجاوز الحد.
آ- انه على حذف مضاف أي صوت تغيظها.
ب- انه على حذف فعل تقديره سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا فيرجع كل واحد الى ما يليق به أي رأوا تغيظا وسمعوا زفيرا.
ج- أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين أي أدركوا لها تغيظا وزفيرا.
أما بصدد قوله رأتهم فقال بعضهم انه من باب القلب أي رأوها، أو على حذف تقديره رأتهم زبانيتها.
أما المعتزلة فهم يحملون ذلك كله على المجاز ويجعلون رؤية جهنم من باب قولهم دور بني فلان تتراءى وتتناظر فتدخل عندئذ في باب الاستعارة المكنية وقد تقدم القول فيها كثيرا.
٤- حسن الاتباع:
هذا وقد رمق الشعراء سماء هذه التعابير البليغة مما يدخل في باب حسن الاتباع، وهو أن يأتي المتكلم الى معنى اخترعه غيره فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحقه ويحكم له به دون الاول، وهذا الباب مما يخص كلام المخلوقين ومما أخذ بعضهم من بعض ولا مدخل لشيء من القرآن العزيز فيه فإن القرآن متبع لا مبتع إلا أن الشعراء حين يرمقون سماءه ويحسنون اتباعه صار كأنه داخل في سلك هذا الفن فقال الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته | ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم |
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه | لخرّ يلثم منه موطىء القدم |
فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما | في وسعه لسعى إليك المنبر |
لو تعقل الشجر التي قابلتها | مدّت محيية إليك الأغصنا |
الفوائد:
فعل الشرط والجواب:
لا يشترط في الشرط والجواب أن يكونا من نوع واحد بل تارة:
١- يكونان مضارعين نحو «وإن تعودوا نعد» ٢- يكونان ماضيين نحو «وإن عدتم عدنا».
٣- يكونان مختلفين ماضيا فمضارعا نحو «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه» وانما حسن ذلك لأن الاعتماد في المعنى على خبر كان وهو مضارع فكأنه قال: من يرد نزد له.
٤- يكونان عكسه مضارعا فماضيا وهو قليل، وخصه بعضهم بالشعر وورد منه في الحديث قوله ﷺ «من يقم ليلة القدر احتسابا غفر له» رواه البخاري.
هذا وإذا وقع فعل الشرط ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة | يقول لا غائب مالي ولا حرم |
إن رأتني تميل عني كأن لم | يك بيني وبينها أشياء |
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٣ الى ١٦]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
اللغة:
(مُقَرَّنِينَ) : من قرنه بتشديد الراء جمّعه وشدده يقال قرّنت الأسارى في الحبال وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب قرنا الشيء بالشيء شده به ووصل اليه، وقرن الثورين جعلهما في نير واحد، وقرن البعيرين جمعهما في حبل، وهي في قوله تعالى: «مقرنين» تفيد شيئين: التصفيد أي تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق بالسلاسل.
ما ثبطك؟ وهذا مشبر فلانة: لمكان ولادتها حيث يثبرها النفاس.
الإعراب:
(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ألقوا مجرورة باضافة الظرف إليها وهو متعلق بالجواب وهو دعوا، وألقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها حال من مكانا لأنه في الأصل صفة له ومكانا ظرف متعلق بألقوا وضيقا صفة لمكانا ومقرنين حال من الواو في ألقوا وجملة دعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غبر جازم والواو فاعل دعوا وهنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بدعوا في ذلك المكان ومعنى دعوا نادوا، وثبورا مفعول به لدعوا ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي مصدرا من معنى دعوا، وقال الزجاج: وانتصاب ثبورا على المصدرية أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، وقيل منادى أي يقولون يا ثبوراه احضر فهذا أوانك فإن الهلاك أخف عليهم مما هم فيه.
(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) الجملة مقول قول محذوف تقديره فيقال لهم وهذا المحذوف معطوف على ما قبله.
ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل تدعوا وثبورا تقدم أنها مفعول به أو مفعول مطلق وادعوا فعل أمر وثبورا تقدم إعرابها وكثيرا صفة لثبورا، وعبر عنه بالكثرة ونفى عنه الوحدة لأنه ألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت
الفوائد:
معنى التفضيل:
المفهوم من اسم التفضيل أنه تفاوت بين صفتين مشتركتين، فكيف قال: أذلك خير أم جنة الخلد، ومعلوم أن النار لا خير فيها البتة، وقد سبق مثل هذا السؤال والجواب ما حكاه سيبويه عن العرب:
الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب اليه، وقبل ليس هو من باب اسم التفضيل وإنما هو كقولك عنده خير.
ومما لا مندوحة عن التنبيه اليه هو أن قوله تعالى «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ»
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
اللغة:
(بُوراً) : البور بضم الباء: الفاسد الذي لا خير فيه، يقال امرأة بور وقوم بور يوصف به الواحد والجمع، والبور من الأرض ما لم
قتلت فكان تظالما وتباغيا | إن التظالم في الصديق بوار |
لو كان أول ما أتيت تهارشت | أولاد عرج عليك عند وجار |
بارت البياعات أي كسدت، وسوق بائرة، وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها».
الإعراب:
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لوصل ما ذكره في أول السورة وهو قوله «واتخذوا من دونه آلهة».
والظرف متعلق باذكر مقدرا معطوفا على قل وجملة يحشرهم بالياء والنون في محل جر بإضافة الظرف إليها والهاء مفعول به وما موصول معطوف على الهاء أو منصوب على المعية وغلب غير العاقل على العاقل فأتى بما دون «من» لأن بين المعبودين عقلاء، وقيل إن كلمة ما موضوعة للكل أو يريد الأصنام لأنها تتكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يصح استعمال ما في العقلاء؟
قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم بدليل قولك إذا رأيت شبحا من بعيد: ما هو فإذا قيل لك: إنسان قلت حينئذ: من هو».
وجملة يعبدون صلة ما ومن دون الله حال. (فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ
فيقول عطف على يحشرهم وأنتم الهمزة للاستفهام التقريعي وأنتم مبتدأ وجملة أضللتم خبر وعبادي مفعول به وهؤلاء اسم اشارة صفة لعبادي أي المشار إليهم أو بدل من عبادي وأم حرف عطف وهم مبتدأ وجملة ضلوا خبره والسبيل نصب بنزع الخافض لأن ضل مطاوع أضله وكان القياس ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل الى الطريق وللطريق. (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) سبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف أي تنزيها لك عما لا يليق بك وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجملة ينبغي خبر كان ولنا متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي فيكون اسم كان مستترا وفاعل ينبغي مستتر ومن دونك مفعول نتخذ الثاني ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول نتخذ الاول أو بالعكس، والصحيح أن قوله من أولياء هو المفعول الأول لأنه الذي يجوز أن تكون من فيه زائدة بخلاف الثاني، تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز في الأفصح ما اتخذت أحدا من ولي.
(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة للاستدراك ومتعتهم فعل وفاعل ومفعول به وآباءهم الواو عاطفة أو للمعية وآباءهم عطف على الهاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر ونسوا الذكر فعل وفاعل ومفعول به وكانوا كان واسمها وقوما خبرها وبورا صفة. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) الفاء الفصيحة لأنها مرتبة على محذوف ولأنها مفاجأة بالاحتجاج والإلزام وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول وهذا التعبير بليغ جدا وله نظائر في الكتاب الكريم كقوله تعالى «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من
وقول الشاعر:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا | ثم القفول فقد جئنا خراسانا |
وقد حرف تحقيق وكذبوكم فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بكذبوكم وجملة تقولون صلة والواو واقعة على المعبودين والكاف على العابدين، فما الفاء عاطفة وما نافية وتستطيعون فعل مضارع وفاعل وصرفا أي دفعا للعذاب عنكم مفعول به ولا نصرا عطف على صرفا.
(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويظلم فعل الشرط ومنكم حال أي كائنا منكم أيها المكلفون ونذقه جواب الشرط والفعل وجوابه خبر من والهاء مفعول نذقه الأول وعذابا مفعول نذقه الثاني وكبيرا صفة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)
(حِجْراً مَحْجُوراً) : ذكرهما سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك الله وعمرك الله وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: «ويقول الرجل للرجل:
أتفعل كذا فيقول حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ بالله طالب منه أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكأن المعنى اسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا».
وقد ساءل الزمخشري فقال: «فإذا قد ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ذيل زائل، والذيل الهوان وموت مائت والحجر العقل لأنه يمنع صاحبه وفي الأساس: «وفي ذلك عبرة لذي حجر وهو اللّب، وهذا حجر عليك: حرام، وحجر عليه القاضي حجرا، واستقينا من الحاجر وهو منهبط يمسك الماء وفلان من أهل الحاجر وهو مكان بطريق مكة، وقعد حجرة أي ناحية، وأحاطوا بحجرتي العسكر وهما جاباه، وحجّر حول العين بكيّة، وعوذ بالله وحجر، وامرأة بيضاء المحاجر، وبدا محجرها من النقاب، واستحجر الطين وتحجّر: صلب
(هَباءً) : الهباء قال في القاموس والتاج: الغبار ودقائق التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض والقليلو العقول من الناس وفعله هبا يهبو هبوّا» وقال الزمخشري: «والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه الغبار وفي أمثالهم أقل من الهباء» قال: «ولام الهباء واو بدليل الهبوة» قلت وقال المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة | فما المجد الا السيف والفتكة البكر |
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى | لك الهبوات السود والعسكر المجر |
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل وقبلك ظرف متعلق بمحذوف حال ومن المرسلين متعلقان بأرسلنا أو بمحذوف صفة لمفعول أرسلنا، والمعنى:
البلاغة:
شبه أعمال الكفار الحسنة بالهباء، ووجه الشبه قلّته وحقارته وعنده وانه لا ينتفع به، ثم أي هباء؟ انه قد يكون منتظما مع ضوء
وللرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن» بحث طريف في هذا التشبيه بعد أن يلحقه بباب الاستعارة يقول فيه: «حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم ثم قدم فرآهم على خلاف من أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالافهام والمعنى الذي يجمعهما العدل لأن العمد لإبطال الفاسد عدل والقدوم الى ابطال الفاسد عدل والقدوم أبلغ لما بينّا، وأما هباء منثورا فبيان ما قد أخرج مالا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه».
فانظر اليه كيف استجمع الصور القرآنية في ذهنه وكيف أوحى اليه لفظ قدمنا المستعار من معان ثم كيف كشف عن خبايا التعبير القرآني في استعارة القدوم للعمد وفضل الاول في بعث الخيال وإثارته ليربط بين المعنى الأول في الآية والمعنى المستعار، وصورة أخرى ربطية تثور في الخيال وهي صورة المسافر الغائب الذي يأتي فيرى القوم على خلاف فيضرب ليعدل ويصلح الفاسد.
وقال الواحدي: «معنى قدمنا عمدنا وقصدنا يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده ومنه قول الشاعر:
وقدم الخوارج الضلال | إلى عباد ربهم فقالوا |
[المجلد السابع]
[تتمة سورة الفرقان][سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٩]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
الإعراب:
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أصحاب مبتدأ والجنة مضاف ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بخير وخير خبر أصحاب وهو اسم تفضيل، أو لمجرد الوصف ومستقرا تمييز وأحسن مقيلا عطف على خير مستقرا، والمستقر المكان الذين يقضون فيه معظم أوقاتهم والمقيل المكان الذي يأوون اليه للاسترواح الى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وسيأتي في باب البلاغة مزيد من بحث هذه الآية. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) الظرف منصوب بتقدير اذكر وجملة تشقق في محل جر باضافة الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق فحذف بعض القراء التاء وأدغمها بعضهم، والسماء فاعل، وبالغمام: في هذه الباء وجوه أولها أنها للسببية بمعنى
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) الملك مبتدأ والظرف متعلق به والحق صفة للملك وللرحمن خبر الملك وأجاز بعض المعربين أن يكون الظرف هو الخبر وآخرون أجازوا أن يكون الحق، وما ذكرناه أولى. وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره وكان اليوم، ويوما خبرها وعلى الكافرين متعلق بعسيرا وعسيرا صفة ليوما. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الظرف منصوب باذكر مقدرا وهو معطوف على قوله يوم يرون الملائكة وكذا قوله السابق يوم تشقق السماء، وجملة يعض مجرورة باضافة الظرف إليها والظالم فاعل يعض وعلى يديه متعلقان ببعض وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) الجملة نصب على الحال من فاعل يعض أي قائلا، ويا ليتني: يا حرف نداء والمنادى محذوف أو هي لمجرد التنبيه، وليتني ليت واسمها وجملة اتخذت خبرها ومع الرسول ظرف مكان في موضع المفعول الثاني لاتخذت وسبيلا مفعول اتخذت الأول تمنى أن لو صاحب الرسول وسلك سبيل الحق. (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) يا حرف نداء وويلتا منادى مضاف الى ياء المتكلم المنقلبة الفاء وأصله يا وليتي، وقد تقدم بحث المنادى المضاف الى ياء المتكلم، ينادي ويلته أي هلكته. وليتني ليت واسمها وجملة لم أتخذ خبرها
البلاغة:
الكناية في قوله «مستقر» و «مقيل» فأما المستقر فهو اسم مكان من الاستقرار وهو المجلس الدائم لأهل الجنة يستقرون فيه ويقضون معظم أوقاتهم متقابلين يتحادثون ويتسامرون، وكنى به عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن قضائهم وقت الاستجمام والاستراحة مع أزواجهم، وفي هذا المعنى سيأتي قوله «إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون» قيل في تفسير الشغل انه افتضاض الأبكار.
ومن روائع الحديث في وصف غناء الحور العين قوله ﷺ فيما يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به: نحن
وفي قوله: «يوم يعض الظالم على يديه» كناية عن الندم والغيظ والحسرة، ومثل هذا التعبير عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأرم، ففي الصحاح حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم حرق نابه أي سحقه حتى يسمع له صريف، وفلان يحرق عليك الأرم غيظا من أرم على الشيء أي عض عليه وأرمه أيضا والأرم الأضراس كأنه جمع آرم يقال فلان يحرق عليك الأرم إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض، وقيل هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع، ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعضّ على إبهامه ندما، وقال الشاعر:
لطمت خدها بحمر لطاف | نلن منها عذاب بيض عذاب |
فشكى العناب نور أقاح | واشتكى الورد ناضر العناب |
قال أبو حيان: وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وفل كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل وهو مختص بالنداء وفلة يعني يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخما من فلان، خلافا للفراء، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان، وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)اللغة:
(مَهْجُوراً) : متروكا، أي تركوه وصدوا عن الايمان به، وقيل هو من هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه فحذف الجار، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين، أحدهما: أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين، وثانيهما: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، فهو إما من الهجر بالفتح أي ضد الوصل وإما من الهجر بالضم وهو الهذيان وفحش القول. ثم المهجور اما اسم مفعول وإما مصدر بمعنى الهجر أطلق على القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر.
(وَرَتَّلْناهُ) : فرقناه أو أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لنيسر فهمه وحفظه، وأصله الترتيل في الأسنان وهو تفليجها، يقال: ثغر مرتل ورتل بفتحتين.
(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) عطف على قوله وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال الرسول فعل وفاعل ويا حرف نداء ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم وان واسمها وجملة اتخذوا خبرها وهذا مفعول أول لا تخذوا والقرآن بدل من اسم الاشارة ومهجورا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتسليته ﷺ بعد الارتماض الذي يعانيه والذي تدل عليه شكواه المريرة. وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلنا ولكل نبي مفعول به ثان لجعلنا وعدوا مفعول به أول ومن المجرمين نعت لعدوا.
(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) الواو عاطفة وكفى فعل ماض وبربك الباء حرف جر زائد في الفاعل وربك مجرور لفظا فاعل كفى محلا وهاديا حال ونصيرا عطف عليه. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهته منهم تتعلق بالقرآن، والحاكون هم قريش أو اليهود وهو اعتراض متهافت ساقط من أساسه لأن إعجاز القرآن ليس منوطا بنزوله جملة أو تفصيلا. وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض ونزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بنزل والقرآن نائب فاعل وجملة حال وواحدة صفة. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) الكاف نعت لمصدر محذوف أي نزلناه تنزيلا مثل ذلك التنزيل، ولنثبت تعليل لنزلناه المحذوفة وبه متعلقان بنثبت والفاعل مستتر تقديره نحن وفؤادك مفعول به ورتلناه عطف على نزلناه المحذوفة وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وترتيلا مفعول مطلق،
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الواو عاطفة ولا نافية ويأتونك فعل وفاعل ومفعول به وبمثل متعلقان بيأتونك أي بسؤال عجيب يشبه في استغرابه وبطلانه المثل السائر، وإلا أداة حصر وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بجئناك والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فمحل الجملة النصب على الحال أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إليك بالحق وبما هو أحسن بيانا. وأحسن عطف على الحق وجر بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف وتفسيرا تمييز. (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) الذين رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو نصب على الذم أي أذم الذين، وجملة يحشرون صلة وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال أي مقلوبين على وجوههم وإلى جهنم متعلقان بيحشرون.
(أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أولئك مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وأضل سبيلا عطف على شر مكانا والجملة تفسيرية فلا محل لها ولك أن تعرب الذين مبتدأ والجملة خبره.
البلاغة:
١- وصف المكان بالشر، والسبيل بالضلال، من الإسناد المجازي. وقد مرت له نظائر.
٢- قوة اللفظ لقوة المعنى:
وذلك في قوله تعالى: «ورتلناه ترتيلا» فإن لفظة رتل على وزن لفظة قتّل الرباعية ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة وإنما المراد
لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك أن تكون كلّم من الجرح أي جرّح ولها ثلاثي وهو كلم مخففا أي جرح فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير. فتدبر هذا فإنه حسن جدا وقل من يتفطن له.
٣- وفي قوله: «ولا يأتونك بمثل» استعارة تصريحية. شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان لأن أكثر الأمثال أمور متخيلة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٤٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
(الرَّسِّ) : اسم بئر معينة، قال أبو عبيدة: هي البئر المطوية والجمع الرساس، ومنه قول الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم | تنابلة يحفرون الرساسا |
والعنقاء هي أعظم ما يكون من الطير سميت لطول عنقها، ويقال لها عنقاء مغرب على الاضافة أو العنقاء المغرب والمغربة على الوصف وهي طائر مجهول الجسم لم يوجد، والداهية، ويقال في الإخبار عن هلاك الشيء وبطلانه: حلقت به عنقاء مغرب، وسميت بالمغرب إما
وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد وقيل الثلج المتراكم في الجبال والرس اسم واد، قال زهير:
بكرن بكورا واستحرنا بسحرة | فهن ووادي الرس كاليد في الفم |
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما مرّ من تسلية محمد ﷺ بحكاية ما جرى للأنبياء وما كابدوه من أقوامهم.
واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا موسى فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول ثان لآتينا وجعلنا عطف على آتينا ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعلنا وأخاه هو المفعول الأول لجعلنا وهارون بدل من أخاه أو عطف بيان ووزيرا حال، أو تجعل وزيرا هو المفعول الثاني وتعلق الظرف بمحذوف نصب على الحال. (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) فقلنا عطف على ما تقدم وقلنا فعل وفاعل وجملة اذهبا مقول القول والى القوم جار ومجرور متعلقان باذهبا والذين نعت للقوم وجملة كذبوا صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا والفاء عاطفة على محذوف أي فذهبا إليهم
(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأتوا فعل وفاعل وعلى القرية متعلقان بأتوا والتي صفة للقرية وجملة أمطرت صلة ومطر السوء مفعول مطلق لأمطرت فهي بمعنى أمطار السوء والمراد بمطر السوء الحجارة والمعنى أن قريشا عرجوا مرارا كثيرة بمنازل تلك القرية التي أهلكت
البلاغة:
١- في قوله «لا يرجون نشورا» مجاز عن التوقع، وتوقع الشيء يكون في الخير والشر لأنه لما كانت حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه من سرور وما هو محبب الى النفس احتيج الى توجيه الرجاء بما ذكرناه ولأنه لا يتصور رجاء النشور إلى الكفار.
هذا وقد أجرى بعضهم الكلام على الحقيقة فقال: ان الرجاء بمعنى الخوف هنا وهو محض تكلف وفي المجاز عنه مندوحة.
٢- وفي قوله «فقلنا اذهبا» الى قوله «فدمرناهم تدميرا»
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
الإعراب:
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأوك مجرورة بإضافة الظرف إليها وإن نافية ويتخذونك فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولم يقترن الجواب بالفاء لأن «إذا» اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء بخلاف غيرها من الأدوات. وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان ليتخذونك.
(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) الجملة في محل نصب على الحال من الواو في يتخذونك على تقدير القول أي قائلين والهمزة للاستفهام الانكاري وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة والعائد محذوف
البلاغة:
١- التقديم:
في قوله تعالى «اتخذ إلهه هواه» التقديم فقد قدم المفعول الثاني، والأصل اتخذ الهوى إلها للعناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق، وفيه إلى جانب هذه النكتة نكتة ثانية وهي إفادة الحصر، فإن الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر، المبتدأ هواه والخبر إلهه، وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر فكأنه قال أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه. هذا وقد زعم بعض المعربين أنه لا تقديم ولا تأخير في الكلام وإنهما مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير لاستوائهما في التعريف ولكن هذا مجرد وهم فإنهما وإن تساويا في التعريف فقد غاب عن أصحاب هذا الزعم أن المفعول الثاني هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة والبرهان النير بالكلية.
التمثيل:
في قوله «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» فن التمثيل وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الفن الذي يتلخص في أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظة الخاص ولا بلفظي الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص لأن المثل لا يشبه المثل من كل الوجوه، ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا. ومن التمثيل أيضا نوع آخر ذهب إليه من جاء بعد قدامة وهو أن يذكر الشيء ليكون مثالا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه، كأنهم لثبوتهم على الضلالة بمنزلة الانعام والبهائم بل أضل سبيلا لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك.
هذا وقد استخرج ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أمثال أبي تمام من شعره فوجدها تسعين نصفا وثلاثمائة بيت، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف وأربعمائة بيت وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عددا من أمثال المتنبي ونذكر هنا طائفة أخرى منها:
لعل عتبك محمود عواقبه | فربما صحت الأجسام بالعلل |
ومكايد السفهاء واقعة بهم | وعداوة الشعراء بئس المقتنى |
لا يعجبن مضيما حسن بزته | وهل تروق دفينا جودة الكفن |
وانا الذي اجتلب المنية طرفه | فمن المطالب والقتيل القاتل |
وما كمد الحساد شيئا قصدته | ولكنه من يرحم البحر يغرق |
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
اللغة:
(سُباتاً) : راحة للأبدان بقطع الأعمال وهو من السبت أي القطع سمي بذلك لقطع الأشغال فيه، وفي المصباح: «والسبات وزان غراب النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل» وفي
الموت والمسبوت: الميت لأنه مقطوع الحياة وهذا كقوله «وهو الذي يتوفاكم بالليل» فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» والعيوف من الإبل كما في الصحاح: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان وفيه أيضا: رنقته ترنيقا كدرته» وفي اللسان والأساس: «وجعل الله النوم سباتا: موتا وأصبح فلان مسبوتا: ميتا» وفي القاموس والتاج: «السبات: النوم أو أوله، والدهر، والرجل الداهية، وابنا سبات: الليل والنهار مأخوذ من معنى الدهر، وسبت يسبت من بابي قتل وضرب سبتا دخل في السبت وقام بأمر السبت: استراح، وسبت الشيء قطعه، وسبت الرأس: حلقه والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد وجمعه أسبت وسبوت، والسبت أيضا: النوام والفرس الجواد والرجل الداهية.
(الرِّياحَ) : في المصباح: «والريح أربع الشمال وتأتي من ناحية الشام والجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية والثالثة الصبا وتأتي من مطلع الشمس وهي القبول أيضا والرابعة الدبور وتأتي من ناحية المغرب، والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح وهب الريح، نقله أبو زيد وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر.
(طَهُوراً) : الطهور على وجهين في العربية: صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك لما يتطهر به
(أَناسِيَّ) : الأناسي جمع إنسي أو إنسان ونحوه ظرابي في ظربان على قلب النون ياء والأصل أناسين وظرابين ولعل الثاني هو الأرجح، قال سيبويه: «إن الياء في إنسي للنسب وما هي فيه لا يجمع على فعالي» وقال ابن مالك «واجعل فعالي لغير ذي نسب» وجزم ابن هشام وابن مالك بأنه جمع إنسان لا جمع إنسي، قالا: وشذ قباطي جمع قبطي وبخاتي جمع بختي، وفي الصحاح: القبط أهل مصر ورجل قبطي والقبطية ثياب بيض رقاق من كتان والبخت من الإبل معرب وقيل هو عربي وينشد لابن قيس الرقيات:
يهب الخيل والألوف ويسقي | لبن البخت في قصاع الخلنج |
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) كلام مستأنف مسوق للشروع في إيراد أدلة محسوسة على توحيده وستأتي خمسة أدلة أولها امتداد الظل وثانيها جعل الليل لباسا وثالثها إرسال الرياح ورابعها مرج البحرين وخامسها خلق البشر من الماء. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر أي تنظر فعل مضارع مجزوم بلم وهي هنا بصرية وإلى ربك متعلقان بتنظر على حذف مضاف أي إلى صنيع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أي ألم تر إلى صنيع ربك كيف مد الظل، أي على أية حالة، ومعنى مد الظل أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس، واختار الزجاج أن تكون الرؤية قلبية والمعنى ألم
ولو الواو حالية ولو شرطية وشاء فعل ماض وفاعل مستتر واللام واقعة في جواب لو وجملة جعله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول جعل الأول وساكنا مفعوله الثاني أي ثابتا بأن يجعل الشمس على وضع واحد أو دائما غير زائل. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) ثم هنا للتفاضل بين أوقات الظهور وليست للتراخي الزماني لأنه لا يصح هنا فهي محمولة على المجاز كما سيأتي في باب البلاغة وجعلنا فعل وفاعل والشمس مفعول به وعليه حال ودليلا مفعول به ثان أي لولا الشمس لما عرف الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وثم هنا للتفاضل أيضا بين الأمور الثلاثة وهي مد الظل وسكونه وقبضه كأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما، وقبضناه فعل وفاعل ومفعول به وإلينا متعلقان بقبضناه وقبضا مفعول مطلق ويسيرا صفة ومعنى قبضه قبضا يسيرا أي حسبما ترتفع الشمس لتنتظم بذلك مصالح الكون. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان في الأصل صفة للباسا والليل مفعول جعل الأول ولباسا مفعوله الثاني والنوم سباتا عطف على ما تقدم وجعل النهار نشورا عطف أيضا أي انتشارا ينشر فيه الناس لتحصيل معاشهم. (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) بشرا حال وبين ظرف متعلق
البلاغة:
١- التقديم والتأخير:
في قوله «وأنزلنا من السماء ماء» الى قوله «وأناسي كثيرا» فن التقديم والتأخير وهو فن عجيب دقيق المسلك خفي الدلالة، وهو قسمان: قسم يختص بدلالة الألفاظ على المعاني وقسم يختص بدرجة التقدم في الذكر ومنه الآية التي نحن بصددها، فقد قدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.
٢- وفي قوله «بين يدي رحمته» استعارة أيضا أي قدام المطر، وسيأتي المزيد من ذلك.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٠ الى ٥٧]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
اللغة:
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : جعلهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان وفي المصباح: «المرج: أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل
«مرج البحرين» أي خلاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر. وفي الأساس:
«أمرج الدواب ومرجها: أرسلها في المرج والمروج، ومرج السلطان الناس، ورجل مارج: مرسل غير ممنوع، ولا يزال فلان يمرج علينا مروجا: يأتينا مفاجئا، ومرج الخاتم في الإصبع قلق. ومن المجاز:
«مرج الله البحرين، ومرج فلان لسانه في أعراض الناس وأمرجه، وفلان سرّاج مرّاج: كذاب، ومرجت عهودهم وقد مرج أمرهم مرجا ومروجا، وأمر مارج ومريج، وفي الحديث: «كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة» قال زهير:
مرج الدين فأعددت له | مشرف الحارك محبوك الثبج |
يرهب السوط سريعا فإذا | ونت الخيل من الشد معج |
هذا وقد سمي الماء الكثير بحرا ولم يقصد بحرين معنيين.
(فُراتٌ) : الفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والتاء فيه أصلية لام الكلمة ووزنه فعال وبعض العرب يقف عليها هاء ويقال سمي الماء العذب فراتا لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه وفي المصباح:
«الفرات الماء العذب يقال فرت الماء فروتة وزان سهل سهولة إذا عذب ولا يجمع إلا نادرا على فرتان كغربان» والفرات أيضا نهر عظيم معروف والفرات أيضا البحر.
(أُجاجٌ) : الأجاج: البالغ في الملوحة وقيل في الحرارة وقيل في المرارة. وفي الأساس «وماء أجاج: يحرق بملوحته» وفي القاموس:
(وَحِجْراً مَحْجُوراً) : تقدم تفسيرهما، وسيأتي البحث عن موقعهما هنا في باب البلاغة.
(وَصِهْراً) : الصهر بالكسر القرابة كما في القاموس والختن وجعمه أصهار وفي المصباح: «الصهر جمعه أصهار، قال الخليل:
الصهر أهل بيت المرأة وقال ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعا أصهارا، وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة وأولادهم والأعمام والأخوال والخالات فهؤلاء أصهار زوج المرأة ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضا وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين الاصهار وصاهرت إليهم ولهم وفيهم إذا تزوجت منهم».
(ظَهِيراً) : الظهير: المعين فهو فعيل بمعنى مفاعل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله «والملائكة بعد ذلك ظهير» كما جاء الصديق والخليط.
الإعراب:
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) عطف على ما تقدم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصرفناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الماء أو على القول الذي مرّ
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتطع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به أي فلا تسايرهم فيما يريدونك عليه ولا تأخذك هوادة أولين، وجاهدهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبه متعلقان بجاهدهم والضمير للقرآن واتل عليهم دائما زواجره وأوامره ونواذره، وجهادا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم ليتساوق ذكر الدلائل الخمسة على توحيده وهذا هو الدليل الرابع. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة مرج البحرين صلة وجملة هذا عذب استئنافية أو مقولا لقول محذوف في موضع الحال أي مقولا فيهما وهذا مبتدأ وعذب خبره وفرات خبر ثان وهذا ملح أجاج عطف على ما تقدم.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) عطف على مرج داخل في حيز الصلة وجعل فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وبينهما ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لجعل وبرزخا مفعول به
الاستعارة التصريحية في قوله «مرج البحرين» فقد شبه بهما الماءين الكثيرين الواسعين، وحجرا محجورا هي كلمة تقال عند التعوذ كما أسلفنا في هذه السورة، ولكنهما هنا تقالان على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من الآخر ويقول له حجرا محجورا، فإعراب حجرا محجورا مفعولين للقول المحذوف جيد للغاية من الناحية البيانية. وسيأتي قوله «بينهما برزخ لا يبغيان» في سورة الرحمن فقد شبههما كما قلنا بطائفتين متعاديتين تريد كل منهما الإيقاع بالأخرى وتتربص بها الدوائر وتنتهن السوانح والفرص، ولكنها عند ما تحصل على ما تريد تمتنع من البغي، فجعل المعنى المستعار كاللفظ المقول، وهذا من أبلغ القول وأبينه وأكثره تجسيدا وملاءمة للمعنى المراد.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
الإعراب:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الواو عاطفة على ما تقدم والآية متصلة بقوله «وكان الكافر على ربه ظهيرا» فإنه
فإن تسألوني بالنساء فإنني | خبير بأدواء النساء طبيب |
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك | إن كنت جاهلة بما لم تعلمي |
(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) الهمزة للاستفهام الانكاري ونسجد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولما متعلقان بنسجد أي كيف سجد لما لا نعرفه، وجملة تأمرنا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي للسجد من أجل أمرك وزادهم فعل وفاعل يعود على القول والهاء مفعول به ونفورا مفعول به ثان أو تمييز.
البلاغة:
في قوله «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية ويسميها القدامى تخييلية، فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق عز وجلّ ليتخيل السامع عند سماع هذه اللفظة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه وجميع ما تحتاج إليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده وتدبير أحوال عباده، استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة، فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هو متخيله من أمر المملكة الدنيوية عند سماع هذا الكلام، ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الإخبار بالفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثم سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة.
فائدة:
في الاستواء مذهبان أحدهما مذهب السلف وهو لا يفسر
الفوائد:
قوله في ستة أيام: يعني في مقدارها هذه المدة والظاهر أنها من أيام الدنيا وأولها الأحد وآخرها يوم الجمعة وقد كان لها أسماء عندهم وهي: الأحد: أوهل، والأثنين: أوهن، والثلاثاء: جبار، والأربعاء، دبار، والخميس: مؤنس، والجمعة: عروبة، والسبت: شيار.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)
اللغة:
(بُرُوجاً) : أي منازل للكواكب السيارة وهي اثنا عشر، وأصل البروج القصور العالية، سميت هذه المنازل بروجا لأنها للكواكب
(سِراجاً) : السراج الشمس كقوله تعالى «وجعل الشمس سراجا».
(خِلْفَةً) : أي يخلف كل واحد منهما الآخر فالخلفة مصدر هيئة.
وعبارة القرطبي: قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابه خلفة أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد: خلفة من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى، وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، وقيل هو من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة أي اختلاف لمن أراد أن يذكر أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله تعالى ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
(هَوْناً) : الهون: الرفق والسكينة، وهو مصدر وضع موضع الصفة للمبالغة وقد مرت له نظائر، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما» وقوله «المؤمنون هينون لينون» ومن أمثالهم «إذا عز أخوك فهن».
الشر الدائم والعذاب» قال بشر بن أبي خازم:
ويوم النسار ويوم الفجا.... ركانا عذابا وكان غراما والنسار ماء لبني عامر والفجار ماء لبني تميم، وقد جرت فيهما هاتان الواقعتان وكانتا عذابا على أهلهما وهلاكا دائما.
الإعراب:
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) تبارك فعل ماض جامد والذي فاعله وجملة جعل صلة وفي السماء متعلقان بجعل وبروجا مفعول به وما بعده عطف عليه ويجوز أن تجعل جعل متعدية لاثنين بمعنى الجعل أي التصيير. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) كلام معطوف على ما قبله وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل الليل والنهار صلة وخلفة مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صير أو حال إن كانت بمعنى خلق وأفرد لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر فلا يتحقق هذا إلا منهما، قيل ولا بد من تقدير مضاف أي ذوي خلفة كما تقدم في باب اللغة، ولمن صفة لخلفة وجملة أراد صلة من، وأن يذكر مصدر مؤول في محل نصب على المفعولية لأراد ومفعول يذكر محذوف أي ما فاته في أحدهما وأو حرف عطف وأراد شكورا عطف على أراد الأولى. (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) كلام مستأنف مسوق لبيان الأوصاف التي تميز بها عباد الرحمن المخلصون بعد بيان حال المنافقين وقد وصفهم بثمانية موصولات. وعباد مبتدأ والرحمن مضاف إليه وما بعده صفات ويجوز أن تكون الموصولات الثمانية أوصافا، وخبر عباد في آخر
الفوائد:
١- مناقشة حول «سلاما» :
قال القرطبي في تفسيره: «قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على الكفار لكنه على معنى قوله سلمنا منكم ولا خير بيننا وبينكم ولا شر، وقال المبرد كان ينبغي أن يقول:
لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم، وقال أي محمد بن يزيد المبرد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة، وقال ابن العربي:
لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم».
قلت: ولا حاجة الى ادعاء النسخ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة وأصون للعرض وأوفر له.
قال في القاموس: «وبات يفعل كذا يبيت ويبات بيتا وبياتا ومبيتا وبيتوتة أي يفعله ليلا وليس من النوم» ومعنى قوله: «وليس من النوم» أي وليس الفعل من النوم فإذا نام ليلا لا يصح أن يقال بات ينام، ومنه قول الشريف الرضي:
أتبيت ريان الجفون من الكرى | وأبيت منك بليلة الملسوع |
ألم أك جاركم ويكون بيني | وبينكم المودة والإخاء |
وهو من أبيات نذكر منها الباقة التالية:
ضوعي أهون علي إذا امتلأت من الكرى... أني أبيت بليلة الملسوع
وتكون بات تامة مكتفية بمرفوعها عن منصوبها إذا كانت بمعنى عرس وهو النزول آخر الليل نحو قول ابن عمر رضي الله عنه:
«أما رسول الله فقد بات بمنى» أي عرس بها، وقال امرؤ القيس بن عانس بالنون وهو غير امرؤ القيس بن حجر الكندي:
وبات وباتت له ليلة... كليلة ذي العائر الأرمد
أي وعرس، والعائر بالعين المهملة اسم فاعل من العور وهو القذى في العين تدمع له، وقيل الرمد والأرمد صفة له، وقالوا بات بالقوم أي نزل بهم ليلا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
(يَقْتُرُوا) : في المختار «وقتر على عياله أي ضيق عليهم في النفقة وبابه ضرب ودخل وقتر تقتيرا وأقتر أيضا ثلاث لغات» وقد قرئ بفتح أوله وضمه.
(قَواماً) : بفتح القاف وكسرها وقد قرئ بهما والقوام بالفتح العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، والقوام بالكسر: ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يزيد عنها ولا ينقص.
(أَثاماً) : الأثام كالوبال والنكال وزنا ومعنى: جزاء الإثم الذي هو الذنب نفسه، قال:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى | ألم الجوى من قلبي المصدوع |
هيهات لا تتكلفنّ لي الهوى | فضح التطبع شيمة المطبوع |
كم قد نصبت لك الحبائل طامعا | فنجوت بعد تعرض لوقوع |
وتركتني ظمآن أشرب غلتي | أسفا على ذاك اللمي الممنوع |
كم ليلة جرّ عته في طولها | غصص الملام ومؤلم التقريع |
أبكي ويبسم والدجى ما بيننا | حتى أضاء بثغره ودموعي |
قمر إذا استعجلته بعتابه | لبس الغروب ولم يعد لطلوع |
جزى الله ابن عروة حيث أمسى | عقوقا والعقوق له أثام |
الإعراب:
(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) والذين عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنفقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يسرفوا ولم يقتروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة أو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر أي وكان الانفاق، وبين
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) إلا أداة استثناء ومن استثناء من الجنس في موضع نصب وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وكذلك عمل وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة. (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك مبتدأ والإشارة الى الموصول وهو من، والجمع باعتبار معناها، وجملة يبدل خبر أولئك والله فاعل وسيئاتهم
الفوائد:
إبدال الفعل من الفعل:
يبدل كل من الاسم والفعل والجملة من مثله وينطبق عليه أحكام البدل فيكون بدل كل من كل أو بدلا مطابقا كقوله تعالى «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف» فيضاعف بدل من يلق بدل كل من كل أو بدلا مطابقا، قال الخليل لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام، وبدل البعض نحو: إن تصل تسجد لله يرحمك، فتسجد بدل من تصل بدل بعض من كل، وبدل الاشتمال كقوله:
إن عليّ الله أن تبايعا | تؤخذ كرها أو تجيء طائعا |
وفي بدل البعض من الكل كقوله تعالى: «أمدكم بما تعلمون:
أمدكم بأنعام وبنين» فجملة أمدكم الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن «ما تعلمون» تشمل الأنعام وغيرها، وبدل الاشتمال كقوله:
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا | وإلا فكن في السر والجهر مسلما |
وقد تبدل الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة | وبالشام أخرى كيف يلتقيان |
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٧]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والذين عطف على الموصولات السابقة وجملة لا يشهدون صلة، والزور: إن كانت يشهدون بمعنى الشهادة المعلومة فيكون الزور منصوبا بنزع الخافض أي بالزور وإن كانت يشهدون بمعنى يحضرون فيكون الزور مفعولا به، وإذا الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مروا مجرورة بإضافة الظرف إليها ومروا فعل وفاعل وباللغو متعلقان بمروا وجملة مروا الثانية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكراما حال أي ربئوا بأنفسهم عن الوقوف عليه والاسهام فيه. (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) جملة لم يخروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليها متعلقان بيخروا وسيأتي معنى هذا النفي في باب البلاغة وصما حال وعميانا حال ثانية. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) عطف على ما تقدم وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهب فعل أمر فيه معنى الدعاء ولنا متعلقان
١- انه مصدر مثل قيام وصيام فلم يجمع لذلك والتقدير ذوي امام.
٢- انه جمع إمامة مثل قلادة وقلاد.
٣- هو جمع آم من أم يؤمّ.
٤- انه واحد اكتفى به عن أئمة كما قال تعالى «نخرجكم طفلا».
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) الجملة حالية من المتقين أو خبر عباد الرحمن على أحد القولين وأولئك مبتدأ وجملة يجزون الغرفة خبره والغرفة مفعول به ثان ليجزون والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول، وبما متعلقان بيجزون وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب صبرهم على المشاق في الطاعات والابتعاد عن الشهوات ومكابدة المجاهدات ويلقون عطف على يجزون وفيها حال وتحية مفعول به ثان ليلقون لأنه مبني للمجهول والواو نائب فاعل وسلاما عطف على تحية. (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين وحسنت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الغرفة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا وجملة حسنت
البلاغة:
١- النفي والإثبات:
في قوله تعالى «لم يخرّوا عليها صما وعميانا» نفي واثبات، فقد أثبت الخرور لأنهم طالما خروا ساجدين خاشعين في هدوء الليل ووسط الدجى ولكنهم إن خروا ساجدين سلمت لهم أبصارهم وآذانهم فلم يبصروا إلا مرائي الهيبة وتعاجيب الألوهية وأنوار السنا الساطعة، ولم يسمعوا إلا الآيات تتردد في آذانهم وتهجس في مخيلاتهم فإذا الورى آي وعبر، وإذا الحوبة لا عين ولا أثر، تقول ما يلقاني زيد ماشيا إنما هو نفي للمشي لا للقاء وعبارة ابن قتيبة: «المعنى لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يبصروها».
وفيها أيضا تنديد وتقريع للكافرين لأنهم صم بكم عمي لا ينتفعون بما يقرءون، ولا يعتبرون بما يشاهدون، ولا يتجاوز آذانهم ما يسمعون ٣- التنكير والتقليل:
وفي قوله تعالى «قرة أعين» نكتتان الأولى التنكير، وإنما جنح إليه لأجل تنكير القرة، والمضاف لا يمكن تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه ليكون السرور غير متناه ولا محدود، وإنما قلل الأعين أي جمع جمع القلة لأن أعين المتقين قلة بالإضافة الى غيرهم، يدل على ذلك قوله «وقليل من عبادي الشكور» وهناك وجه آخر لعله أبلغ مما تقدم وهو أن المحكي كلام كل أحد من المتقين فكأنه قال: يقول كل واحد من المتقين اجعل لنا من ذرياتنا قرة أعين، فإن المتقين وإن كانوا بالإضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والإضافة.