تفسير سورة السجدة

تفسير ابن جزي

تفسير سورة سورة السجدة من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي.
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة السجدة
مكية إلا من آية ١٦ إلى غاية ٢٠ فمدنية
وآياتها ٣٠ نزلت بعد المؤمن

سورة السجدة
مكية إلا من آية ١٦ إلى غاية ٢٠ فمدنية وآياتها ٣٠ نزلت بعد المؤمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة السجدة) تَنْزِيلُ الْكِتابِ يعني القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك أنه من عند الله عز وجل، ونفي الريب على اعتقاد أهل الحق، وعلى ما هو الأمر في نفسه، لا على اعتقاد أهل الباطل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يتعلق بتنزيل أَمْ يَقُولُونَ الضمير لقريش وأم بمعنى بل، والهمزة لِتُنْذِرَ يتعلق بما قبله أو بمحذوف ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ يعني من الفترة من زمن عيسى، وقد جاء الرسل قبل ذلك إبراهيم وغيره، ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولا ينذرهم ليقيم الحجة عليهم اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد ذكر في [الأعراف: ٥٣] ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ نفي الشفاعة على وجهين أحدهما الشفاعة للكفار وهي معدومة على الإطلاق، والآخر: أن الشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله كقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: ٣] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي واحد الأمور، وقيل: المأمور به من الطاعات، والأول أصح مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل ما دبره وقضاه من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس: المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام، فالألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء، وقيل: إن الله يلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من أعوام البشر وهو يوم من أيام الله، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدّة، ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمور إليه عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الغيب ما غاب عن
المخلوقين، والشهادة ما شاهدوه
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقن جميع المخلوقات، وقرئ [خلقه] بإسكان اللام على البدل وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني آدم عليه السلام نَسْلَهُ يعني ذريته مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني المنيّ، والسلالة مشتقة من سل يسل، فكأن الماء يسل من الإنسان، والمهين الضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ أي قوّمه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عبارة عن إيجاد الحياة فيه، وأضيفت الروح إلى الله إضافة ملك إلى ملك، وقد يراد بها الاختصاص، لأن الروح لا يعلم كنهه إلى الله أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي تلفنا وصرنا ترابا، ومعنى هذا الكلام المحكي عن الكفار استبعاد البعث، والعامل في إذا معنى قولهم: إنا لفي خلق جديد تقديره: نبعث يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ اسمه عزرائيل وتحت يده ملائكة وَلَوْ تَرى يحتمل أن تكون لو للتمني، وتأويله في حق الله كتأويل الترجي، وقد ذكر، أو تكون للامتناع وجوابها محذوف تقديره: ولو ترى حال المجرمين في الآخرة لرأيت أمرا مهولا ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عبارة عن الذل والغم والندم رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا تقديره: يقولون ربنا قد علمنا الحقائق لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يعني أنه لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل، فإنه قادر على ذلك بأن يجعل الإيمان في قلوبهم ويدفع عنهم الشيطان والشهوات، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ أي يقال لهم: ذوقوا، والنسيان هنا بمعنى الترك.
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ يعني: أنه لا يعلم أحد مقدار ما يعطيهم الله من النعيم وقرأ حمزة أخفي بإسكان الياء على أن يكون فعل المتكلم وهو الله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً الآية: يعني المؤمنين والفاسقين على العموم، وقيل: يعني عليّ بن أبي طالب
وعقبة بن أبي معيط
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الذي نعت بالعذاب، ولذلك أعاد عليه الضمير المذكور في قوله به، فإن قيل: لم وصف هنا العذاب وأعاد عليه الضمير، ووصف في سبأ النار وأعاد عليها الضمير، وقال عذاب النار التي كنتم بها تكذبون؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لما تكرر ذكره في قوله: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، والثاني: أنه قدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ الضمير، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه وهو النار، ووصف العذاب ولم يصف النار، الثالث وهو الأقوى أنه امتنع في السجدة وصف النار فوصف العذاب، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلا فأكرمت الرجل، فلا يجوز وصفه لئلا يفهم أنه غيره.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعني الجوع ومصائب الدنيا وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: عذاب القبر وهذا بعيد لقوله «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هذا وعيد لمن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، وكان الأصل أن يقول: إنا منه منتقمون، ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام، وقدّم المجرور في منتقمون للمبالغة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ المرية الشك، والضمير لموسى: أي لا تمتر في لقائك موسى ليلة الإسراء وقيل: المعنى لا تشك في لقاء موسى، والكتاب الذي أنزل عليه، والكتاب على هذا التوراة، وقيل: الكتاب هنا جنس، والمعنى: لقد آتينا موسى الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك، وعبر باللقاء عن إنزال الكتاب كقوله:
«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» [النمل: ٦] يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الضمير لجميع الخلق، وقيل: لبني إسرائيل خاصة أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ذكر في [طه: ١٢٨] يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ الضمير في يمشون لأهل مكة: أي يمشون في مساكن القوم المهلكين: كقوله وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: ٣٨] وقيل: الضمير للمهلكين: أي أهلكناهم وهم يمشون في
مساكنهم، والأول أحسن، لأن فيه حجة على أهل مكة
الْأَرْضِ الْجُرُزِ يعني التي لا نبات فيها من شدّة العطش مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الحكم بين المسلمين والكفار في الآخرة، وقيل: يعني فتح مكة، وهذا بعيد لقوله قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وذلك في الآخرة، وقيل: يعني فتح مكة، لأن من آمن يوم فتح مكة نفعه إيمانه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي انتظر هلاكهم إنهم ينتظرون هلاكك، وفي هذا تهديد لهم.
سورة السجدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (السَّجْدة) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بإنذارِ الكافرين من النار، وتوبيخِهم على اتِّباع الآلهة الزائفة التي لا تغني من الحقِّ شيئًا، ودعَتْهم إلى التواضُعِ واتِّباع دِينِ الله الحقِّ؛ من خلال تَرْكِ التكبُّر، والسجودِ لله، مذكِّرةً لهم بأصلِ خِلْقتهم، وبقوَّةِ الله عز وجل وقُدْرته؛ فهو المستحِقُّ للعبادة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في صلاةِ فَجْرِ يوم الجمعة.

ترتيبها المصحفي
32
نوعها
مكية
ألفاظها
374
ترتيب نزولها
75
العد المدني الأول
30
العد المدني الأخير
30
العد البصري
29
العد الكوفي
30
العد الشامي
30

* قوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ هذه الآيةَ: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]  نزَلتْ في انتظارِ الصَّلاةِ التي تُدْعى العَتَمةَ». أخرجه الترمذي (٣١٩٦).

و(صلاةُ العَتَمةِ): هي صلاةُ العِشاءِ؛ لِما جاء في الحديثِ عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «صلَّى لنا رسولُ اللهِ ﷺ العِشاءَ، وهي التي يَدْعو الناسُ العَتَمةَ ...». أخرجه البخاري (٥٦٤).

* سورة (السَّجْدة):

سُمِّيت بذلك لِما ذكَر اللهُ تعالى فيها من أوصافِ المؤمنين، الذين إذا سَمِعوا آياتِ القرآن {خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. وقال البِقاعيُّ: «واسمُها (السَّجْدة) منطبِقٌ على ذلك بما دعَتْ إليه آيَتُها من الإخباتِ، وتركِ الاستكبار». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" (2 /361).

* سورة ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ})، أو ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ):

دلَّ على ذلك افتتاحُ السُّورة بذلك، واحتواؤها على سَجْدةٍ، وصحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

ولها أسماءٌ أخرى غيرُ ما ذكرنا.

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /47-48).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في فَجْرِ يوم الجمعة:

 عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها قبل نومِه:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان لا يَنامُ حتى يَقرأَ {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ}، و{تَبَٰرَكَ اْلَّذِي بِيَدِهِ اْلْمُلْكُ}». أخرجه الترمذي (٣٤٠٤).

اشتمَلتْ سورةُ (السَّجْدة) على الموضوعات الآتية:

1. القرآن حقٌّ مُنزَّل (١-٣).

2. الخَلْقُ: مُدَّته، وأنه حسَنٌ (٤-٩).

3. إثبات البعث (١٠-١١).

4. ذلُّ المجرمين يوم الدِّين (١٢-١٤).

5. علامات الإيمان (١٥- ١٧).

6. الجزاء العادل (١٨-٢٢).

7. الإمامة في الدِّين (٢٣-٢٥).

8. آياتٌ وعِظات (٢٦- ٣٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /51).

مقصدُ السُّورة الأعظم: هو إنذارُ الكفار بهذا الكتاب، وأنه مِن عندِ الله عزَّ وجلَّ؛ فلا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفِه، وبيانُ بطلانِ آلهتهم وزيفِها، والتذكيرُ بقدرة الله والبعث، وكذا تذكيرُهم بوجوب اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم المرسَل بهذا الكتاب؛ فمِن خلال الاتباع يكون الفوزُ بالجنة، والنجاةُ من النار، ولتحقيقِ ذلك لا بد من الاستجابة لله، والتواضُعِ لأمره، وتركِ الاستكبار والعناد، واسمُ السورة دالٌّ على ذلك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /361)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /204).