تفسير سورة السجدة

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

تفسير سورة سورة السجدة من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج... ﴾ [ السجدة : ٥ ] الآية.
إن قلتَ : لم قال هنا ﴿ في يوم كان مقداره ألف سنة ﴾ ؟   ! [ السجدة : ٥ ] وفي المعارج( ١ ) ﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ [ المعارج : ٤ ].
قلتُ : المراد باليوم هنا، مدّة عروج الله تعالى –أي عروج تدبيره وأمره- من الأرض إلى السماء الدنيا، وبه تمّ عروج الملائكة من الأرض إلى العرش.
أو المراد به في الموضعين : " يوم القيامة " ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا، إذا تولّى الحساب فيه الله تعالى، وخمسين ألف سنة لو تولّى فيه الحساب غير الله تعالى.
أو المراد : أنه كألف سنة في حقّ خواصّ المؤمنين، وخمسين ألف سنة في حقّ عوامّهم.
أو المراد : أنه كألف سنة في حقّ المؤمن، وخمسين ألف سنة في حقّ الكافر( ٢ ).
١ - في المعارج: ﴿تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾ آية (٤)..
٢ - ما ذكره الشيخ هنا تأويلات بعيدة للتوفيق بين الآيتين، والأظهر –والله أعلم- أن اليوم الذي هو كألف سنة، هو (اليوم الإلهي) فاليوم الذي عند الله، ليس كأيامنا، وإنم طولُه ألف سنة، كما قال سبحانه: ﴿وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون﴾ فإذا تأخر العذاب عن الكفار أربعين سنة، فهو في حساب الله أقلّ من ساعة، وأما يوم القيامة، فطوله خمسون ألف سنة، وآية المعارج تتحدث عن يوم القيامة لا عن اليوم الإلهي... وقال بعض المفسرين: القيامة مواقف ومواطن، فيها خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة، فيكون طوله بأجمعه خمسون ألف سنة، ولكن هذا اليوم الشديد العصيب يخفّ على المؤمنين، حتى يكون أخفّ عليهم من صلاة مكتوبة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة..
قوله تعالى :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ﴾ [ السجدة : ٧ ] بسكون اللام وفتحها( ١ ).
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن في مخلوقاته تعالى قبيحا، كالشرور والمعاصي ؟
قلتُ : " أَحْسَنَ " بمعنى أتقن وأحكم، أو " أَحْسَنَ " بمعنى : عَلِمَ، كما يقال : فلان لا يحسن شيئا أي لا يعلمه، فمعناه بسكون اللام : عَلِم خلق كل شيء، وبفتحها : عَلِمَ كلّ شيء خَلَقه( ٢ ).
١ - يريد كلمة "خلقه" بسكون اللام وفتحها ﴿أحسن كل شيء خَلْقَهُ﴾ و﴿خَلَقَه﴾ كما في قراءة حفص..
٢ - في هذا التأويل بعد، إذ أن معنى أحسن لغة: أتقن وأحكم، فالمراد أن الله جلّ ثناؤه أتقن وأحكم كل شيء خلقه، حتى القِردة ولو كانت قبيحة دميمة، إلا أن خلقها فيه إبداع وإحكام، فهي قبيحة بالنسبة للإنسان، ولكنها مبدعة محكمة، وهذا هو خلاصة قول ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الأظهر والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ﴾ [ السجدة : ٨ ].
قاله هنا بلفظ ﴿ من ماء مهين ﴾ وفي المؤمنين ﴿ من سلالة من طين ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ]، لأن المذكور هنا صفة ذرّية آدم، والمذكور ثَمَّ صفة آدم عليه السلام.
قوله تعالى :﴿ ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه... ﴾ [ السجدة : ٩ ] الآية.
المراد ب " روحه " جبريل، وإلا فالله منزّه عن الروح، الذي يقوم به الجسد، وتكون به الحياة، وأضافه إلى نفسه تشريفا، وإشعارا بأنه خلق عجيب، مناسب للمقام.
قوله تعالى :﴿ قل يتوفّاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم ﴾ [ السجدة : ١١ ] الآية، هو : " عزرائيل " عليه السلام، قال ذلك هنا، وقال في الأنعام :﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت توفّته رسلنا ﴾ [ الأنعام : ٦١ ] وفي الزمر :﴿ الله يتوفّى الأنفس حين موتها ﴾ [ الزمر : ٥٢ ] ولا منافاة، لأن الله هو المتوفّي حقيقة، بخلقه الموت، وبأمر الوسائط بنزع الروح -وهم غير ملك الموت أعوان له- ينزعونها من الأظافر إلى الحلقوم، وملك الموت ينزعها من الحلقوم، فصحّت الإضافات كلّها.
قوله تعالى :﴿ إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكروا بها خَرّوا سُجّدا... ﴾ [ السجدة : ١٥ ] الآية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن المؤمنين ليسوا منحصرين، فيمن اتّصف بهذه الصفة، ولا هذه الصفة شرط في تحقق الإيمان ؟   !
قلتُ : المراد ب ﴿ ذُكروا ﴾ : وُعظوا، وبالسجود : الخشوع، والخضوع، والتواضع في قبول الموعظة، وذلك شرط في تحقق الإيمان.
أو المراد بالمؤمن : الكامل إيمانا.
قوله تعالى :﴿ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ﴾ [ السجدة : ١٨ ].
المراد بالفاسق هنا : الكافر، بقرينة التفصيل بعده( ١ )، وإلا فالفاسق مؤمن، ونظيره قوله تعالى :﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ﴾ ؟ [ القلم : ٣٥ ] وقوله :﴿ أم حسب الذين اجترحوا السّيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ الجاثية : ٢١ ] الآية، إذ ليس كل مجرم ومسيء كافر.
١ - أشار بالتفصيل إلى قوله تعالى: ﴿أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نُزلا بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا فمأواهم النار﴾ الآية، فقد فصّل في الجزاء بين المؤمنين والكفار الفُجّار..
قوله تعالى :﴿ وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون ﴾ [ السجدة : ٢٠ ].
قال ذلك هنا، وقال في سبأ ﴿ عذاب النار التي كنتم بها تكذّبون ﴾ [ سبأ : ٤٢ ].
ذكّر الوصف والضمير هنا، نظرا للمضاف وهو العذاب، وأنّثهما ثَمّ نظرا للمضاف إليه، وهو النار، وخُصّ ما هنا بالتذكير، لأن النار وقعت موقع ضميرها لتقدّم ذكره، والضمير لا يوصف، فناسب التذكير، وفي سبأ لم يتقدّم ذكر النار، ولا ضميرها، فناسب التأنيث.
قوله تعالى :﴿ ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ﴾ [ السجدة : ٢٨ ].
إن قلتَ : هذا سؤال عن وقت الفتح –وهو يوم القيامة- فكيف طابقه الجواب بقوله :﴿ قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ﴾ [ السجدة : ٢٩ ].
قلتُ : لما كان سؤالهم سؤال تكذيب، واستهزاء بيوم القيامة، لا سؤال استفهام، أُجيبوا بالتهديد، المطابق للتكذيب والاستهزاء، لا ببيان حقيقة الوقت، وإن فُسّر الفتح ب " فتح مكة " أو بيوم بدر، كان المراد أن المتولّين لم ينفعهم إيمانهم، حال القتل كإيمان فرعون، بخلاف الطلقاء الذين آمنوا بعد الأسر، فالجواب بذلك مطابق للسؤال من غير تأويل.
سورة السجدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (السَّجْدة) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بإنذارِ الكافرين من النار، وتوبيخِهم على اتِّباع الآلهة الزائفة التي لا تغني من الحقِّ شيئًا، ودعَتْهم إلى التواضُعِ واتِّباع دِينِ الله الحقِّ؛ من خلال تَرْكِ التكبُّر، والسجودِ لله، مذكِّرةً لهم بأصلِ خِلْقتهم، وبقوَّةِ الله عز وجل وقُدْرته؛ فهو المستحِقُّ للعبادة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في صلاةِ فَجْرِ يوم الجمعة.

ترتيبها المصحفي
32
نوعها
مكية
ألفاظها
374
ترتيب نزولها
75
العد المدني الأول
30
العد المدني الأخير
30
العد البصري
29
العد الكوفي
30
العد الشامي
30

* قوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ هذه الآيةَ: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]  نزَلتْ في انتظارِ الصَّلاةِ التي تُدْعى العَتَمةَ». أخرجه الترمذي (٣١٩٦).

و(صلاةُ العَتَمةِ): هي صلاةُ العِشاءِ؛ لِما جاء في الحديثِ عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «صلَّى لنا رسولُ اللهِ ﷺ العِشاءَ، وهي التي يَدْعو الناسُ العَتَمةَ ...». أخرجه البخاري (٥٦٤).

* سورة (السَّجْدة):

سُمِّيت بذلك لِما ذكَر اللهُ تعالى فيها من أوصافِ المؤمنين، الذين إذا سَمِعوا آياتِ القرآن {خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. وقال البِقاعيُّ: «واسمُها (السَّجْدة) منطبِقٌ على ذلك بما دعَتْ إليه آيَتُها من الإخباتِ، وتركِ الاستكبار». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" (2 /361).

* سورة ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ})، أو ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ):

دلَّ على ذلك افتتاحُ السُّورة بذلك، واحتواؤها على سَجْدةٍ، وصحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

ولها أسماءٌ أخرى غيرُ ما ذكرنا.

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /47-48).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في فَجْرِ يوم الجمعة:

 عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها قبل نومِه:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان لا يَنامُ حتى يَقرأَ {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ}، و{تَبَٰرَكَ اْلَّذِي بِيَدِهِ اْلْمُلْكُ}». أخرجه الترمذي (٣٤٠٤).

اشتمَلتْ سورةُ (السَّجْدة) على الموضوعات الآتية:

1. القرآن حقٌّ مُنزَّل (١-٣).

2. الخَلْقُ: مُدَّته، وأنه حسَنٌ (٤-٩).

3. إثبات البعث (١٠-١١).

4. ذلُّ المجرمين يوم الدِّين (١٢-١٤).

5. علامات الإيمان (١٥- ١٧).

6. الجزاء العادل (١٨-٢٢).

7. الإمامة في الدِّين (٢٣-٢٥).

8. آياتٌ وعِظات (٢٦- ٣٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /51).

مقصدُ السُّورة الأعظم: هو إنذارُ الكفار بهذا الكتاب، وأنه مِن عندِ الله عزَّ وجلَّ؛ فلا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفِه، وبيانُ بطلانِ آلهتهم وزيفِها، والتذكيرُ بقدرة الله والبعث، وكذا تذكيرُهم بوجوب اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم المرسَل بهذا الكتاب؛ فمِن خلال الاتباع يكون الفوزُ بالجنة، والنجاةُ من النار، ولتحقيقِ ذلك لا بد من الاستجابة لله، والتواضُعِ لأمره، وتركِ الاستكبار والعناد، واسمُ السورة دالٌّ على ذلك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /361)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /204).