تفسير سورة السجدة

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة السجدة من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثلاثون

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ تنزيل الكتاب... ﴾ مبتدأ خبره " من رب العالمين ". وجملة " لا ريب فيه " أي في كونه منزلا منه تعالى معترضة بينهما، أو حال من " الكتاب ".
﴿ أم يقولون افتراه ﴾ أي بل أيقولون : اختلق القرآن وافتعله من تلقاء نفسه ! ف " أم " منقطعة، بمعنى بل التي للإضراب وهمزة الاستفهام ؛ إنكارا لقولهم وتعجبا منه لظهور عجز بلغائهم عن معارضته. والافتراء : الاختلاق. يقال : افترى الكذب أي اختلقه. وأصله من الفري بمعنى قطع الجلد ؛ وأكثر ما يكون للإفساد. ﴿ بل هو الحق من ربك ﴾ بدليل إعجازه ؛ فليس الأمر كما قالوا تعنتا أو جهلا.
﴿ لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ﴾ [ آية ٤٦ القصص ص ١٣٨ ].
﴿ استوى على العرش ﴾ أي استواء يليق به سبحانه بلا كيف ولا تمثيل [ آية ٢٩ البقرة ص ٢٢، ٥٤ الأعراف ص ٢٦٣ ].
﴿ ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ﴾ ليس لكم إذا جاوزتم رضاه ولي أي ناصر ينصركم إن أراد بكم ضرا، ولا شفيع يشفع لكم عنده. وأصل الشفاعة : الانضمام إلى آخر ناصرا له سائلا عنه : وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى.
﴿ يدبر الأمر... ﴾ التدبير الإحكام والإتقان ؛ وهو هنا إرادة الأشياء على هذا النحو. والأمر : الشأن. والمراد شئون الدنيا كلها. والجاران متعلقان به. والعروج : الارتفاع والصيرورة إليه تعالى.
واليوم : يوم القيامة، ويتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة، فيعادل في حالة ألف سنة من سنى الدنيا، وفي حالة خمسين ألفا منها. أي يحكم الله شئون الدنيا كلها السماوية والأرضية إلى أن تقوم الساعة.
أي يريدها محكمة متقنة حسبما تقتضيه الحكمة، ثم تصير كلها إليه في يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا حكم فيه لسواه ولا ملك لغيره " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١ ليحكم فيما شأنه أن يحكم فيه بما يريد. ثم وصف هذا اليوم بما يفيد الشدة وعظم الهول، وأنه إذا قيس بأيام الدنيا كان كألف سنة منها، وقد يكون كخمسين ألفا. وإذا كانت صيرورة الأمر كله إليه يوم القيامة، فكيف يكون للمشركين فيه من دون الله ولي أو شفيع ! ؟
١ آية ١٦ غافر..
﴿ أحسن كل شيء خلقه ﴾ أحكم وأتقن كل شيء خلقه ؛ أي أوجده محكما متقنا على وفق ما أراده سبحانه، واقتضته الحكمة واستدعته المصلحة. وقرئ " خلقه " أي أحسن خلق كل شيء ؛ فهو بدل اشتمال منه. ﴿ وبدأ خلق الإنسان من طين ﴾ أي خلق آدم من طين، فصار على أحسن صورة وأبدع شكل.
﴿ من سلالة ﴾ خلاصة [ آية ١٢ المؤمنون ص ٦٢ ]. ﴿ من ماء مهين ﴾ ممتهن، لا يعتنى به وهو المني. والمهين : الحقير والضعيف والقليل. ﴿ من روحه ﴾ إضافتها إليه تعالى للتشريف ؛ كبيت الله.
﴿ وقالوا أئذا ضللنا في الأرض... ﴾ أي وقال منكرو البعث : أئذا ذهبنا وغبنا في الأرض، وصرنا ترابا بعد الموت، نخلق بعد ذلك خلقا جديدا ! من قولهم : ضل الماء في اللبن، إذا غاب.
﴿ قل يتوفاكم ملك الموت ﴾ " قل " لهم بيانا للحق، وإبطالا لما زعموه : " يتوفاكم ملك الموت " يستوفي نفوسكم ولا يبقى أحدا منكم﴿ الذي وكل بكم ﴾ أي بقبض أرواحكم﴿ ثم إلى ربكم ترجعون ﴾ تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور للحساب والجزاء. وأصل التوفي : أخذ الشيء وافيا تاما. يقال : توفاه الله، أي استوفى روحه وقبضه. وتوفيت مالي : استوفيته. والتفعل والاستفعال يلتقيان ؛ تقول : تقضيته واستقضيته، وتعجلته واستعجلته.
﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم ﴾ مطرقوها من الخزي والحياء والندم في موقف الحساب ؛ من النكس وهو قلب الشيء على رأسه ؛ كالتنكيس. وفعله من باب نصر. وجواب " لو " محذوف ؛ أي لرأيت العجب. ﴿ إنا موقنون ﴾ أي بالبعث والحساب الآن.
﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ﴾ أي لو شئنا إيتاء كل نفس رشدها وتوفيقها إلى الإيمان لآتيناها إياه. ﴿ ولكن حق القول مني ﴾ أي ثبت وتحقق قولي :﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ﴾ وهم الذين سبق في علمنا أنهم يؤثرون الضلال على الهدى لفساد استعدادهم ؛ فلم نشأ إعطاءهم الهدى وأنتم منهم. وإنما شئنا إعطاءه للأبرار الذين علمنا أنهم يختارون الهدى على الضلال ؛ لنقاء نفوسهم وكمال استعدادهم. ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها المعلوم لنا أزلا. " من الجنة " أي من الجن، وسموا جنا لاستتارهم عن الأنظار ؛ من الجن وهو الستر، قال تعالى : " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم " ١.
١ آية ٢٧ الأعراف..
﴿ إنا نسيناكم ﴾ تركناكم في العذاب غير ملتفت إليكم كالشيء المنسي ؛ جزاء نسيانكم لقاء هذا اليوم.
﴿ خروا سجدا ﴾ سقطوا ساجدين لله تعالى ؛ تواضعا له وخشوعا وخوفا من عذابه. قال أبو حيان : هذه السجدة من عزائم سجود القرآن.
﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع ﴾ تتنحى وترتفع جنوبهم عن فراش النوم للعبادة. والتجافي : التنحي إلى جهة فوق. وأصله من جفا السرج عن فرسه، إذا رفعه ؛ كأجفاه. ويقال : تجافى عن مكانه إذا لم يلزمه. والجنوب : جمع جنب، وأصله الجارحة المعروفة أريد به الشخص. والمضاجع : جمع مضجع وهو مكان الاتكاء للنوم. والمراد : هجرهم النوم وقيامهم ليلا للتهجد والعبادة.
﴿ من قرة أعين ﴾ أي مما تسر به قلوبهم [ آية ٢٦ مريم ص ٦ ].
﴿ فلهم جنات المأوى ﴾ أي الجنات التي يأوون إليها ويسكنون. ﴿ نزلا ﴾ ثوابا، أو ضيافة. وأصله ما يهيأ للضيف النازل من الطعام والشراب والصلة، ثم عما كل عطاء. ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ أي بسببه. وكون العمل سببا إنما هو بمحض فضل الله تعالى.
﴿ وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ﴾ منزلهم ومسكنهم.
﴿ من العذاب الأدنى ﴾ أي الأقرب،
وهو عذاب الدنيا ؛ كالأسقام والمصائب والجذب.
﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ التوراة﴿ فلا تكن في مرية ﴾ شك﴿ من لقائه ﴾ أي لقاء موسى الكتاب بقبول ورضا وتحمل لشدائد الدعوة به ؛ فكن مثله في ذلك.
﴿ أو لم يهد لهم ﴾ أي أغفلوا ! ولم يبين لهم مآل أمرهم، أو طريق الحق كثرة من أهلكنا من الأمم السابقة المعروفة لهم بسبب كفرهم، فكذلك هم يهلكون ؛ من الهداية وهي الدلالة الموصلة للمطلوب. وجملة﴿ يمشون في مساكنهم ﴾ حال من الضمير في " لهم ".
﴿ أو لم يروا ﴾ أي أعموا ولم يشاهدوا﴿ أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ﴾ أي اليابسة التي جرز نباتها وقطع ؛ إما لعدم الماء أو لرعيه. [ آية ٨ الكهف ص ٤٧٠ ].
﴿ متى هذا الفتح ﴾ أي الفصل في الخصومة بيننا وبينكم. والفتح : القضاء والحكم. [ آية ٨٩ الأعراف ص ٢٧٠ ]. قال المشركون ذلك استهزاء وتكذيبا. ( يوم الفتح ) أي يوم القيامة.
﴿ لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ﴾ أي لا ينفع الذين ماتوا على الكفر إيمانهم في ذلك اليوم. ﴿ ولا هم ينظرون ﴾ أي يمهلون في العذاب. والله أعلم.
سورة السجدة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (السَّجْدة) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بإنذارِ الكافرين من النار، وتوبيخِهم على اتِّباع الآلهة الزائفة التي لا تغني من الحقِّ شيئًا، ودعَتْهم إلى التواضُعِ واتِّباع دِينِ الله الحقِّ؛ من خلال تَرْكِ التكبُّر، والسجودِ لله، مذكِّرةً لهم بأصلِ خِلْقتهم، وبقوَّةِ الله عز وجل وقُدْرته؛ فهو المستحِقُّ للعبادة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في صلاةِ فَجْرِ يوم الجمعة.

ترتيبها المصحفي
32
نوعها
مكية
ألفاظها
374
ترتيب نزولها
75
العد المدني الأول
30
العد المدني الأخير
30
العد البصري
29
العد الكوفي
30
العد الشامي
30

* قوله تعالى: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: «أنَّ هذه الآيةَ: {تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اْلْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]  نزَلتْ في انتظارِ الصَّلاةِ التي تُدْعى العَتَمةَ». أخرجه الترمذي (٣١٩٦).

و(صلاةُ العَتَمةِ): هي صلاةُ العِشاءِ؛ لِما جاء في الحديثِ عن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «صلَّى لنا رسولُ اللهِ ﷺ العِشاءَ، وهي التي يَدْعو الناسُ العَتَمةَ ...». أخرجه البخاري (٥٦٤).

* سورة (السَّجْدة):

سُمِّيت بذلك لِما ذكَر اللهُ تعالى فيها من أوصافِ المؤمنين، الذين إذا سَمِعوا آياتِ القرآن {خَرُّواْۤ سُجَّدٗاۤ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]. وقال البِقاعيُّ: «واسمُها (السَّجْدة) منطبِقٌ على ذلك بما دعَتْ إليه آيَتُها من الإخباتِ، وتركِ الاستكبار». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" (2 /361).

* سورة ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ})، أو ({الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ):

دلَّ على ذلك افتتاحُ السُّورة بذلك، واحتواؤها على سَجْدةٍ، وصحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

ولها أسماءٌ أخرى غيرُ ما ذكرنا.

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /47-48).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها في فَجْرِ يوم الجمعة:

 عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الفَجْرِ يومَ الجُمُعةِ: {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ} السَّجْدةَ، و{هَلْ أَتَىٰ عَلَى اْلْإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ اْلدَّهْرِ}، وأنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجُمُعةِ سورةَ الجُمُعةِ، والمُنافِقِينَ». أخرجه مسلم (٨٧٩).

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها قبل نومِه:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَّ ﷺ كان لا يَنامُ حتى يَقرأَ {الٓمٓ ١ تَنزِيلُ}، و{تَبَٰرَكَ اْلَّذِي بِيَدِهِ اْلْمُلْكُ}». أخرجه الترمذي (٣٤٠٤).

اشتمَلتْ سورةُ (السَّجْدة) على الموضوعات الآتية:

1. القرآن حقٌّ مُنزَّل (١-٣).

2. الخَلْقُ: مُدَّته، وأنه حسَنٌ (٤-٩).

3. إثبات البعث (١٠-١١).

4. ذلُّ المجرمين يوم الدِّين (١٢-١٤).

5. علامات الإيمان (١٥- ١٧).

6. الجزاء العادل (١٨-٢٢).

7. الإمامة في الدِّين (٢٣-٢٥).

8. آياتٌ وعِظات (٢٦- ٣٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /51).

مقصدُ السُّورة الأعظم: هو إنذارُ الكفار بهذا الكتاب، وأنه مِن عندِ الله عزَّ وجلَّ؛ فلا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفِه، وبيانُ بطلانِ آلهتهم وزيفِها، والتذكيرُ بقدرة الله والبعث، وكذا تذكيرُهم بوجوب اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم المرسَل بهذا الكتاب؛ فمِن خلال الاتباع يكون الفوزُ بالجنة، والنجاةُ من النار، ولتحقيقِ ذلك لا بد من الاستجابة لله، والتواضُعِ لأمره، وتركِ الاستكبار والعناد، واسمُ السورة دالٌّ على ذلك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /361)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /204).