ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾؛ أي: أقسمت لكم يا أهل مكة بالرياح التي تذروا التراب ونحوه، وتطيره من الأرض ﴿ذَرْوًا﴾؛ أي: إطارة وإثارة، إنما توعدون لواقع لا محالة، يقال: ذرت الريح الشيء ذروا وأذرته: أطارته وأذهبته، وانتصاب ﴿ذَرْوًا﴾ على المصدرية، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول: محذوف، كما قدّرناه؛ أعني: التراب ونحوه، وفي "البيضاوي": ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١)﴾، يعني: الرياح تذرو التراب وغيره، أو النساء الولود، فإنّهنّ يذرين الأولاد. اهـ. والأول أولى؛ لأنّه أدل على القدرة، وروي عن كعب الأحبار أنه قال: لو حبس الله الريح عن الأرض ثلاثة أيام.. ما بقي على الأرض شيء إلا نتن.
وقرأ أبو عمرو (١) وحمزة: بإدغام تاء ﴿الذاريات﴾ في ذال ﴿ذَرْوًا﴾، وقرأ الباقون: بدون إدغام وقيل: المقسم به مقدر، وهو رب الذاريات وما بعدها، والأول أولى.
٢ - ﴿فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢)﴾؛ أي: فأقسمت لكم بالسحب الحاملات التي تحمل وقرًا؛ أي: حملًا ثقيلًا، وهو الماء، كما تحمل ذوات الأربع الوقر، ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾، وفي "البيضاوي": فالسحب الحاملات للأمطار، أو الرياح الحاملات للسحاب، أو النساء الحوامل. انتهى.
قرأ الجمهور: ﴿وِقْرًا﴾ بكسر الواو، وهو اسم لما يُوقر؛ أي: يحمل، والمراد هنا: المطر، وقرىء: بفتحها، على أنه مصدر، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول به: محذوف؛ أي: فالسحب الحاملات للأمطار وقرًا؛ أي: حملًا، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة.
٣ - ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣)﴾؛ أي: فأقسمت لكم بالسفن التي تجري في البحر
٤ - ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤)﴾؛ أي: فأقسم لكم بالملائكة التي تقسم الأمور والأشياء من الأمطار والأرزاق وغيرهما؛ إنما توعدون لواقع، وانتصاب ﴿أَمْرًا﴾ على المفعولية، والمراد بالمقسّمات: الملائكة، وإيراد جمع المؤنث السالم فيهم بتأويل الجماعات، وفي "كشف الأسرار": هذا كقوله ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥)﴾.
وقيل (١): إنّ المراد بالذاريات، والحاملات والجاريات والمقسمات: الرياح، فإنها توصف بجميع ذلك؛ لأنّها تذرو التراب، وتحمل السحاب، وتجري في الهواء، وتقسم الأمطار، وهو ضعيف جدًّا.
قال عبد الرحمن بن سابط: يدبّر أمر الأرض أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، فجبريل على الجنود والرياح، وميكائيل على القطر والنبات، وملك الموت على قبض الأرواح، وإسرافيل يبلغهم ما يؤمرون به، وأضاف هذه الأفعال إلى هذه الأشياء؛ لأنها أسباب لظهورها، كقوله تعالى حكاية عن جبريل: ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾. وإنما الله هو الواهب الغلام، لكن لمّا كان جبريل سبب ظهوره.. أضاف الهبة إليه.
و ﴿الفاء﴾ فيها: لترتيب الأقسام بها، والترتيب في هذه الأقسام ترتيب ذكريّ أو رتبيّ، باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على قدرته تعالى، ووضيح المقام: أنَّ الإيمان الواقعة في القرآن، وإن وردت في صورة تأكيد المحلوف عليه، إلا أنّ المقصود الأصليّ منها تعظيم المقسم به، لما فيه من الدلالة على كمال القدرة، فيكون المقصود بالحلف: الاستدلال به على المحلوف عليه، وهو هنا صدق الوعد بالبعث والجزاء، فكأنه قيل: من قدر على هذه الأمور
وفي "الخازن": ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤)﴾؛ يعني: الملائكة، يقسّمون الأمور من الأرزاق، والأمطار، وغيرهما بين الخلق على ما أمروا به، وقيل: هم أربعة كما مرّ، فجبريل صاحب الوحي إلى الأنبياء، الأمين عليه، وصاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإسرافيل صاحب الصور واللوح، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح، وقيل: هذه الأوصاف الأربعة في الرياح، كما مرّ؛ لأنّها تنشىء السحاب وتثيره، ثمّ تحمله وتنقله، ثمّ تجري به جريًا سهلًا، ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب، أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرف ذواتها، ولما فيها من الدلالة على عجيب صنعته وقدرته.
والمعنى: أقسم بالذاريات وبهذه الأشياء، وقيل: فيه مضمر، كما مرّ تقديره: أقسم برب الذاريات.
٥ - ثمّ ذكر جواب القسم، فقال: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥)﴾ و ﴿ما﴾ (١): إما موصولة والعائد: محذوف؛ أي: إنّ الذي توعدونه من البعث والحساب، أو من
وقال القاضي زكرياء: إن قلت: كيف قال ذلك، مع أنّ الصادق وصف للواعد لا لما يوعد؟
قلت: وصف به ما يوعد مبالغة، أو هو بمعنى مصدوق، كعيشة راضية، وماء دافق؛ أي: عيشة مرضية وماء مدفوق، فاسم الفاعل جاء بمعنى اسم المفعول انتهى. وقال ابن الشيخ: أي: لذو صدق على أنّ البناء للنسب كتامر ولابن؛ لأنّ الموعود لا يكون صادقًا، بل الصادق هو الواعد، وإما مصدرية؛ أي: إن وعدكم بالثواب، ووعيدكم بالعذاب لصادق؛ أي: لمحقّق لا محالة، إذ يحتمل ﴿تُوعَدُونَ﴾ أن يكون مضارع وعد وأوعد، والثاني: هو المناسب للمقام؛ لأنّ الكلام مع المنكرين.
٦ - ﴿وَإِنَّ الدِّينَ﴾؛ أي: وإنّ الجزاء على الأعمال لحاصل، وكائن لا محالة، فإنّ من قدر على هذه الأمور البديعة المخالفة لمقتضى الطبيعة.. فهو قادر على البعث الموعود، قال بعضهم: قد وعد الله سبحانه المطيعين بالجنة، والتائبين بالمحبّة، والأولياء بالقربة، والعارفين بالوصلة، والطالبين بالوجدان، كما قال: "ألا من طلبني وجدني". ووعد الله واقع ألبتة، ومن أوفى بوعده من الله، وأوعد الفاسقين بالنار، والمصرين بالبغضاء، والأعداء بالبعد، والجاهلين الغافلين بالفراق، والبطالين بالفقدان.
قال بعضهم: ما الحكمة في معنى القسم من الله سبحانه، فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده؟ والجواب: إنّ القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرًا، والحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة، وإما بالقسم، فذكر الله في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة، فقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ﴾ الآية. ولا يكون القسم إلا باسم معظم، وقد أقسم الله بنفسه في القرآن في سبعة مواضع،
فإن قلت (١): ما الحكمة في أنّ الله تعالى قد أقسم بالخلق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟
قلت: فيه وجوه:
الأول: أنه على حذف مضاف؛ أي: ورب الذاريات، وربِّ التين، ورب الشمس.
والثاني: أنّ العرب كانت تعظم هذه الأشياء، وتقسم بها، فنزل القرآن على ما يعرفون.
والثالث: أنّ الإقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم أو يجله، وهو فوقه، والله تعالى ليس شيء فوقه، فأقسم تارةً بنفسه، وتارةً بمصنوعاته؛ لأنَّها تدل على بارىءٍ، وصانع حكيم، وقال بعضهم: القسم بالمصنوعات يستلزم بالصانع؛ لأنّ ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.
وقال بعضهم: إنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى.
وقال بعضهم: القسم: إما لفضيلة، أو منفعة، ولا تخلو المصنوعات عنهما.
ومعنى الآية على القول الثاني - أعني: قول: أنّ هذه المذكورات أوصاف للرياح -: أقسم (٢) سبحانه بالرياح، وذروها التراب، وحملها السحاب، وجريها في الهواء بيسر وسهولة، وتقسيمها الأمطار، إنّ هذا البعث لحاصل، وإن هذا الجزاء لا بدّ منه في ذلك اليوم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها، لما يشاهدون من آثارها، ونفعها العظيم لهم، فهي التي ترسل الأمطار مبشّرات برحمته، ومنها تسقي الأنعام
(٢) المراغي.
وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبيَّة، فإنَّ ما على الأرض منجذب إليها، واقع عليها، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفًا عجيبًا تابعًا لسير الكواكب، فبجريها وجري الشمس تؤثر في أرضنا وهوائها بنظام محكم، فما ذرت الرياح التراب، ولا حملت السحاب، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكيّة منتظمة، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.
٧ - ثم ابتدأ سبحانه قسمًا آخر، فقال: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧)﴾؛ أي: وأقسمت لكم يا أهل مكة بالسماء ذات الطرائق (١) المحسوسة، التي هي مساير الكواكب، أو المعقولة التي يسلها النظّار، ويتوصّل بها إلى المعارف، كما قال الراغب: الحبك بضمتين، جمع حباك كمثال ومثل، أو جمع حبيكة كطريقة وطرق، وهي الطرائق، فمن الناس من تصوّر منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة، وهي الخطوط فيها كالطرق في الرمل، ومنهم من اعتبر ذلك بما فيها من الطرائق المعقولة المدركة بالبصيرة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذات الحُسن والجمال والاستواء والطرق، والظاهر: أنَّ السماء هي المعروفة، وقيل: السحاب.
٨ - ﴿إِنَّكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ في القرآن؛ أي: متخالف متناقض، وهو قولهم: إنه شعر وسحر وافتراء وأساطير الأولين، وفي الرسول: شاعر وساحر ومفتر ومجنون، وفي القيامة فإن من الناس من يقطع القول بإقرار، ومنهم من يقول: إن نظنّ إلا ظنًّا، وهذا من التحيّر والجهل الغليظ فيكم، وفي هذا الجواب تأييد لكون الحبك عبارة عن الاستواء، كما يلوح به ما نقل عن الضحاك: إنّ قول الكفرة لا يكون مستويًا، إنما هو مناقض مختلف، ووجه
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْحُبُكِ﴾ بضمتين، وابن عباس والحسن بخلاف عنه، وأبو مالك الغفاريّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو: بإسكان الباء، وعكرمة: بفتحها جمع حبكة، مثل: طرفة وطرف، وأبو مالك الغفاريّ والحسن بخلاف عنه: بكسر الحاء والباء، وأبو مالك الغفاريّ والحسن أيضًا وأبو حيوة: بكسر الحاء وإسكان الباء، وهو تخفيف فِعِل المكسور، هما وهو اسم مفرد لا جمع، لأنّ فعلًا ليس من أبنية المجموع، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين، وابن عباس أيضًا وأبو مالك: بفتحهما، قال أبو الفضل الرازيّ: فهو جمع حبكة، مثل: عقبة وعقب. انتهى. والحسن أيضًا: ﴿الحبك﴾ بكسر الحاء وفتح الباء، وقرأ أيضًا كالجمهور، فصارت قراءته خمسًا: الحُبُكُ والحُبْك، والحِبِك، والحِبْك، والحِبَكُ، وقرأ أبو مالك أيضًا: ﴿الحِبُك﴾ بكسر الحاء وضمّ الباء، وذكرها ابن عطية أيضًا عن الحسن، فتصير له ستّ قراءات، وقال "صاحب اللوامح": وهو عدم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها، ولا أدري ما رواه. انتهى.
٩ - ﴿يُؤْفَكُ﴾ ويصرف ﴿عَنْهُ﴾؛ أي: عن الإيمان بمحمد - ﷺ -، وبما جاء به، أو عن الحق، وهو البعث والتوحيد، أو عن القرآن. ﴿مَنْ أُفِكَ﴾؛ أي: من صرف عن الخير كله، وقيل: يحرم عنه من حوم، وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع
(٢) البحر المحيط.
قيل (١): هذا مدح للمؤمنين؛ أي: يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ورشد إلى القول المستوي، وهيل: إنّ هذا ذم؛ أي: يصرف عن الإيمان بمحمد - ﷺ -، والقرآن، والحشر من قد صرف عن الهدى، وهو الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وأبي بن خلف وأمية بن خلف ومنبه ونبيه.
وقرأ ابن جبير وقتادة (٢): ﴿مَنْ أُفِكَ﴾ مبنيًا للفاعل؛ أي: من أفك الناس عنه، وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإيمان، وقرأ زيد بن علي ﴿يَأْفَكُ عنه من أُفِكَ﴾ ببناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول؛ أي: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه، وعنه أيضًا: ﴿يَأْفَكُ عنه مَنْ أَفَكَ﴾ بالبناء للفاعل فيهما؛ أي: يصرف الناس عنه من هو أفَّاكٌ كذَّابٌ، وقرىء: ﴿يُؤْفَنُ عنه من أَفِنُ﴾ بالنون فيهما، أي: يحرم عنه من حرم، من أفن الضرع: إذا نهكه حلبًا.
والمعنى (٣): أي والسماء ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء، إنكم أيّها المشركون المكذبون للرسول - ﷺ - لفي قول مختلف مضطرب، لا يلتئم، ولا يجتمع، ولا يروج إلا على من هو ضال في نفسه؛ لأنّه قول باطل، يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول الله - ﷺ -، وبما جاء به.
والخلاصة: قسمًا بالسماء وزينتها، وجمالها، إنَّ أمركم في شأن محمد، وكتابه لعجب عاجب، فهو متناقض مضطرب، فحينًا تقولون: هو شاعر، وحينًا آخر تقولون: هو ساحر، ومرّةً ثالثة تقولون: هو مجنون، وحينًا تقولون عن القرآن: إنه سحر، وحينًا: إنه شعر، وحينًا: إنه كهانة.
١٠ - ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾؛ أي: لعن وطرد عن رحمة الله الكذّابون من أصحاب
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١١ - ﴿الَّذِينَ هُمْ﴾ لفظ ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾؛ أي: الذين هم كائنون في غمرة وغشية من الجهل والضلالة تغمرهم وتغشاهم عن أمر الآخرة. ﴿سَاهُونَ﴾ خبر بعد خبر؛ أي: غافلون عمّا أمروا به من الإيمان بمحمد - ﷺ -، قال بعضهم: الغمرة فوق الغفلة، والسهو دون الغفلة.
وفي "كشف الأسرار": الخرّاصون: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعتاب مكة، واقتسموا القول في النبيّ - ﷺ -؛ ليصرفوا الناس عن دين الإِسلام؛ يعني: أنّ أهل مكة أقاموا رجالًا على زقاق مكة، يصرفون الناس؛ يعني: وقت ورود قوافل. انتهى.
وأصل الغمرة (٢): ما ستر الشيء وغطاه، ومنها: غمرات الموت، والسهو الغفلة عن الشيء، وذهابه عن القلب.
١٢ - ﴿يَسْأَلُونَ﴾؛ أي: يسألك يا محمد المشركون، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة، بل بطريق الاستعجال استهزاء، فيقولون: ﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾؛ أي: متى يوم الجزاء، والكلام على حذف مضاف من اليوم وإقامة المضاف إليه مقامه، فلا يرد أنَّ ظرف الزمان لا يقع خبرًا إلا عن الحدث؛ أي (٣): متى وقوع الجزاء، وقد كان لهم من أنفسهم ما لو تدبَّروا فيه يدفعهم إلى الاعتقاد بمجيء هذا اليوم، فإنّ أحدًا منهم لا يترك عبيده وأجراءه في عمل دون أن يحاسبهم، وينظر في أحوالهم، ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون، وهيَّأ لهم كل ما يحتاجون إليه سدًى، ويوجدهم عبثًا.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
وقرأ ابن أبي عبلة والزعفراني: ﴿يَوْمَ هُمْ﴾ بالرفع على البدل من ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي (٢): يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار.
١٤ - وتقول لهم الخزنة: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ أي: عذابكم ﴿هَذَا﴾ العذاب هو العذاب ﴿الَّذِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾؛ أي: تستعجلون وقوعه استهزاءً، وتظهرون أنه غير كائن، و ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، والموصول: خبره، والجملة: داخلة تحت القول المضمر، وهذا إشارة إلى ما في الفتنة من معنى العذاب؛ أي: هذا العذاب ما كنتم تستعجلون به في حياتكم الدنيا، وتقولون: متى هذا الوعد بطريق الاستهزاء، ويجوز أن يكون ﴿هَذَا﴾ بدلًا من ﴿فِتْنَتَكُمْ﴾ بتأويله بالعذاب، و ﴿الَّذِي﴾: صفته.
١٥ - ولمّا ذكر سبحانه حال أهل النار.. ذكر حال أهل الجنة، فقال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾ عن الكفر والمعاصي والجهل والميل إلى ما سوى المولى، والمتصفين بالإيمان والطاعة والمعرفة والتوجّه إلى الحضرة العليا لكائنون ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين لا يعرف كنهها، فالتنكير (٣): للتعظيم، ويجوز أن يكون للتكثير، كما
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
١٦ - ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ﴾؛ أي: قابلين ما أعطاهم ربّهم من الخير والكرامة، راضين به، فهو حال من الضمير المستكن في الجار والمجوور على معنى: أنّ كل ما أعطاهم حسن مرضي متلقى بالقبول ليس فيه ما يرد، لأنّه في غاية الجودة، ومنه قوله: ﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾؛ أي: يقبلها ويرضاها، قال بعضهم: معناه: آخذين ما آتاهم ربهم اليوم بقلوب فارغة إلى الله من أصناف ألطافه، وغدًا يأخذون ما يعطيهم ربهم في الجنة من فنون العطاء والرفد.
وفي "فتح الرحمن" (١): ختم الآية هنا بقوله: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦)﴾ وفي الطور بقوله: ﴿وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ﴾؛ لأنّ ما هنا متصل بما به يصل الإنسان إلى الجنات وهو قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ﴾ الآيات. وما في الطور متصل بما يناله الإنسان فيها، وهو قوله: ﴿وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ الآية. انتهى.
والمعنى (٢): أي إنّ الذين اتقوا الله وأطاعوه واجتنبوا معاصيه في بساتين وجنّات تجري من تحتها الأنهار، قريرةً أعينهم بما آتاهم ربّهم، إذ فيه ما يرضيهم، ويغنيهم، ويفوق ما كانوا يؤملون.
ثمّ ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم، وعلّل استحقاقهم ذلك بقوله: ﴿إنَّهُم﴾؛ أي: لأنّهم ﴿كانوا﴾ في الدنيا ﴿قبَلَ ذلِكَ﴾؛ أي: قبل دخولهم الجنة ﴿مُحْسِنِينَ﴾؛ أي: مخلصين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به وترك ما نهوا عنه؛ أي: إنهم كانوا في دار الدنيا يفعلون صالح الأعمال خشية من ربّهم، وطلبًا لرضاه، ومن ثمّ نالوا هذا الفوز العظيم، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون، ونحو الآية قوله. {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ
(٢) المراغي.
١٧ - ثم فصّل ما أحسنوا فيه، فقال: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧)﴾؛ أي: كانوا يهجعون من الليل هجوعًا قليلًا ما؛ أي: كانوا ينامون القليل من الليل، ويتهجّدون في معظمه، والهجوع (١): النوم بالليل دون النهار. و ﴿مَا﴾، مزيدة لتأكيد معنى القلة، فإنها تزاد لإفادة التقليل كما في قولك: أكلت أكلًا ما، و ﴿قَلِيلًا﴾: ظرف و ﴿يَهْجَعُونَ﴾: خبر ﴿كَانُوا﴾؛ أي: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل، أو صفة مصدر محذوف؛ أي: كانوا يهجعون هجوعًا قليلًا من أوقات الليل وساعاته؛ يعني: يذكرون، ويصلّون أكثر الليل، وينامون أقلّه، ولا يكونون مثل البطّالين الغافلين النائمين إلى الصباح، ويجوز (٢) أن تكون ﴿مَا﴾ مصدرية، أو موصولة؛ أي: كانوا قليلًا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلّون فيها شيئًا، إما من أوّلها، أو من وسطها، وقال الحسن البصري: كابدوا قيام الليل، فلا ينامون من الليل إلا أقلّه، وربما نشطوا فجدوا إلى السحر، وعن أنس قال: كانوا يصلّون بين المغرب والعشاء.
١٨ - ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨)﴾؛ أي: يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم، والسحر: السدس الأخير من الليل؛ لاشتباهه بالضياء كالسحر يشبه الحق وهو باطل؛ أي: هم مع قلّة هجوعهم، وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم وفي بناء (٣) الفعل على الضمير المفيدة للتخصيص إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصّون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه، وفي "بحر العلوم": تقديم الظرف للاهتمام به، ورعاية الفاصلة.
أي: فهم يحيون الليل متهجّدين، فإذا أسحروا.. أخذوا في الاستغفار،
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
١٩ - ولمّا ذكر أنهم يقيمون الصلاة.. ثنى بوصفهم بإعطاء الصدقة، والبرّ بالفقراء، فقال: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ﴾؛ أي: وفي أموال أولئك المذكورين ﴿حَقٌّ﴾؛ أي (١): نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم؛ أي: يعدّونه واجبًا عليهم في أموالهم، ويلزمونه أنفسهم تقرّبًا إلى الله، وإشفاقًا على الناس، فليس المراد بالحق: ما أوجبه الله عليهم في أموالهم، فاندفع به ما عسى يقال: كيف يمدح المرء بأنه يثبت في ماله حقًّا للفقراء؟ فمن يمنع الزكاة من الأغنياء يوجد فيهم هذا المعنى، ولا يستحقّون المدح؛ أي: هم الذين لا يجمعون (٢) الأموال إلا ويجعلونها ظرفًا للحق، فيرون في أموالهم حقًّا ﴿لِلسَّائِلِ﴾؛ أي: للذي يسأل العطاء من الناس ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾؛ أي: وللمتعفّف الذي يحسبه بعض الناس غنيًّا، فلا يعطيه شيئًا، فهو الذي لا يسأل ولا يعطي؛ أي: هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم، بأن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين، تقرّبًا إلى الله تعالى، وقال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة، والأول أولى، فيحمل على صدقة النفل، وصلة الرحم، وقرى الضيف؛ لأنَّ السورة مكيّة، والزكاة إنما فرضت في المدينة، وسيأتي في ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)﴾: بزيادة معلوم.
والمعنى (٣): وجعلوا في أموالهم جزءًا معيّنًا ميّزوه، وعزلوه للطالب المحتاج، والمتعفّف الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يسأل الناس، ولا يفطنون إليه ليتصدّقوا عليه، أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان" قيل: فمن المسكين؟ قال: "الذي ليس له ما يغنيه، ولا يعلم مكانه فيتصدّق عليه، فذلك المحروم".
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
٢١ - ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾ أيها الناس، آيات للموقنين من عجائب الصنع، الدالة على كمال الحكمة والقدرة والتدبير والإرادة، فيكون تخصيصًا بعد تعميم؛ لأن أنفس الناس مما في الأرض، كأنه قيل: في الأرض آيات للموحّدين العاقلين، وفي أنفسكم خصوصا آيات لهم؛ لأن أقرب المنظور فيه من كل عاقل نفسه، ومن ولد
(٢) روح البيان.
﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ الأرض وما فيها من البراهين الساطعة، والأنفس وما فيها من الدلائل القاطعة، فتعتبروا بها، و ﴿الهمزة﴾ فيه: للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تنظرون إلى ذلك فلا تبصرون بعين البصيرة حتى تعتبروا، وتستدلّوا بالصنعة على الصانع، وبالنقش على النقاش، وكذا على صفاته.
٢٢ - ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ﴾؛ أي: أسباب رزقكم، فالكلام على حذف مضاف؛ يعني بها (٣): الشمس والقمر وسائر الكواكب واختلاف المطالع والمغارب، التي يترتب عليها اختلاف الفصول، فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب، وتسوقها الرياح لأسباب فلكيّة وطبيعيّة، أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة.
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ | رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا |
وقرأ الجمهور: ﴿رزقكم﴾ بالإفراد، وقرأ يعقوب وابن محيصٍ، ومجاهد: ﴿أرزاقكم﴾ بالجمع.
﴿و﴾ كذلك في السماء ﴿مَا تُوعَدُونَ﴾ من (٢) الثواب؛ لأنّ الجنّة على ظهر السماء السابعة تحت العرش قرب سدرة المنتهى، أو أراد أنّ كل ما توعدون من الخير والشر، والثواب والعقاب والشدة والرخاء، وغيرها مكتوب مقدّر في السماء.
يقول الفقير: أمر العقاب ينزل من السماء، ونفسه أيضًا، كالصيحة والقذف والنار والطوفان، مما وقع على الأمم السالفة، وقال ابن سيرين: ما توعدون من أمر الساعة وبه قال الربيع، والأولى الحمل على ما هو أعمّ من هذه الأقوال، فإنّ جزاء الأعمال مكتوب في السماء، والقضاء والقدر ينزل منها، والجنة والنار فيها.
٢٣ - ثم أقسم سبحانه بنفسه، فقال: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ وذكر الرب؛ لأنّه في بيان التربية بالرزق. ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إنّ ما توعدون، أو ما ذكر من أمر الآيات والرزق على أنّ الضمير مستعار لاسم الإشارة.
(٢) روح البيان.
والمقصود من الآية: تشبيه تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده، وهذا كما تقول: إنه لحق كما أنك ها هنا، وإنه لحق كما أنك تتكلّم.
والمعنى: أنه في صدقه وجوده كالنطق الذي تعرفه ضرورة، وإنما خص (٢) التمثل بالنطق؛ لأنه مخصوص بالإنسان وهو أخص صفاته.
ومعنى الآية: أقسم ربّنا جلّت قدرته بجلاله وكبريائه، إنّ ما وعدكم به من أمر القيامة، والبعث والجزاء، حقّ لا مرية فيه، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون، وهذا كما تقول للناس: إنّ هذا لحقّ كما أنك ترى
(٢) روح البيان.
وقال بعض الحكماء (١): معناه: كما أنّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه، لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، كذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له، لا يقدر أن يأكل رزق غيره.
٢٤ - والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ للتعجيب (٢) والتشويق إلى استماعه، ومثله لا يكون إلا فيما فيه فخامة، وعظيم شأن، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله - ﷺ - بغير طريق الوحي، إذ هو أمّي لم يمارس الخط وقراءته، ولم يصاحب أصحاب التواريخ، ففيه إثبات نبوّته، قال ابن الشيخ: الاستفهام للتقرير؛ أي: قد أتاك، وقيل: إن لم يأتك.. نحن نخبرك، والضيف في الأصل مصدر ضافه إذا نزل به ضيفًا، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة كالزور والصوم، وقد يجمع على أضياف وضيوف وضيفان.
وبدأ بقصّة إبراهيم، مع كونها متأخرة عن قصة عاد وغيرها، هزمًا للعرب؛ لأنّه كان أباهم الأعلى، وصارت الضيافة متعارفة في القرى، وكان ضيفه اثني عشر ملكًا، منهم: جبريل ومكيائيل وإسرافيل وزقائيل، وتسميتهم ضيفًا؛ لأنّهم كانوا في صورة الضيف، حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنّهم كانوا في حسبانه كذلك.
﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ صفة للضيف؛ أي: المكرمين عند الله سبحانه بالعصمة والتأييد والاصطفاء والقربة والسفارة بينه تعالى وبين الأنبياء، كما قال: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾. أو المكرمين عند إبراهيم بالخدمة، حيث خدمهم بنفسه وبزوجته، وأيضًا بطلاقة الوجه، وتعجيل الطعام، وقيامه على رؤوسهم، وكان لا يقوم على رؤوس الضيف، وقرأ عكرمة: ﴿المكرمين﴾ بالتشديد، وفي الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليكرم ضيفه" قيل: إكرامه تلقّيه بطلاقة الوجه،
(٢) روح البيان.
٢٥ - وقوله: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ ظرف للحديث، فالمعنى: هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ﴿فَقَالُوا سَلَامًا﴾؛ أي: نسلم عليك سلامًا، و ﴿الفاء﴾ هنا: إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول. ﴿قَالَ﴾ إبراهيم ﴿سَلَامٌ﴾؛ أي: عليكم سلام، فهو مبتدأ، خبره: محذوف، وترك العطف قصدًا إلى الاستئناف، فكأنّ قائلًا قال: ماذا قال إبراهيم في جواب سلامهم؟ فقيل: قال سلام؛ أي: حيّاهم بتحية أحسن من تحيتهم؛ لأنّ تحيّتهم كانت بالجملة الفعلية، الدالّة على الحدوث، حيث نصبوا ﴿سَلَامًا﴾ وتحيّته بالاسمية الدالة على دوام السلام، وثباته لهم حيث عدل به إلى الرفع بالابتداء.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَقَالُوا سَلَامًا﴾ بالنصب على المصدر السادّ مسدّ فعله المستغني به. ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ بالرفع، وقرىء: بالرفع في الموضعين، وقرىء: بالنصب فيهما، وقرأ ابن وثّاب والنخعيّ وابن جبير وطلحة: ﴿قال سلم﴾، بكسر السين وإسكان اللام، والمعنى: نحن سلم، أو أنتم سلم.
وقوله: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: قال إبراهيم في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف، هؤلاء قوم منكرون؛ أي: مجهولون لنا لا نعرفهم، فهم منكرون عند كل أحد، وكانوا على أوضاع وأشكال خلاف ما عليه الناس، وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض، لأنّ السلام لم يكن تحيّتهم؛ لأنّه كان بين أظهر قوم
(٢) البحر المحيط.
٢٦ - ﴿فَرَاغَ﴾ إبراهيم؛ أي: مال ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾ وخدمه الذين كانت عندهم البقرة، وكانت عامة ماله البقرة، فالمراد بأهله: خدمه، وهم الرعاة، فالاختفاء معتبر في مفهوم الروع؛ أي: ذهب في أثناء حديثه معهم إلى أهله وخدمه على خفية من ضيفه، فإنّ من أدب المضيّف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرًا من أن يكفّه الضيف، ويعذره أو يصير منتظرًا.
وقوله: ﴿فَجَاءَ﴾ إبراهيم ضيفه ﴿بِعِجْلٍ﴾ أي: بولد بقر ﴿سَمِينٍ﴾؛ أي: غير هزيل مشويّ بالحجارة، معطوف على جمل محذوفة، و ﴿الباء﴾: للتعدية؛ أي: فراغ إلى أهله، فذبح عجلًا سمينًا، فحنذه؛ أي: شواه، فجاء به ضيفه، والعجل: ولد البقر لتصوّر عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورًا، أو بقرةً، واختاره؛ لأنّه كان عامّة ماله البقر، واختار السمين؛ مبالغة في إكرامهم.
٢٧ - ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: فجاء إبراهيم بعجل حنيذ، فقرّب العجل إليهم وقدّمه لهم، بأن وضعه لديهم حسبما هو المعتاد ليأكلوه، فلم يأكلوه، ولمّا رأى منهم ترك الأكل.. ﴿قَالَ﴾ لهم إبراهيم: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ منه إنكارًا لعدم تعرّضهم للأكل، وحثًّا عليه، و ﴿أَلَا﴾ هنا بالخفيف: حرف عرض، وهو الطلب برفق ولين، وهو الصواب، وقيل: الهمزة في ﴿أَلَا﴾: للاستفهام الإنكاري، و ﴿لا﴾: نافية كما في "الشوكاني". والأوّل أولى، بل أصوب.
وروي: أنهم قالوا: نحن لا نأكل بغير ثمن، قال إبراهيم: كلوا، وأعطوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟ قال: إذا أكلتم.. فقولوا: بسم الله، وإذا فرغتم.. فقولوا: الحمد لله، فتعجّب الملائكة من قوله.
٢٨ - ﴿فـ﴾ لما رآهم لا يأكلون ﴿أَوْجَسَ مِنْهُمْ﴾؛ أي: فلمّا رآهم لا يأكلون.. أضمر في نفسه ﴿خِيفَةً﴾؛ أي: خوفًا منهم، فتوهّم أنهم لصوص أو أعداء جاؤوا بالشر، فإنّ عادة من يجيء بالشر والضرر أن لا يتناول من طعام من يريد إضراره، قال في "عين المعاني": من لم يأكل طعامك.. لم يحفظ ذمامك.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الملائكة حين أحسبوا بخوفه: ﴿لَا تَخَفْ﴾ منّا، إنا رسل الله سبحانه، وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه، وقيل: مسح جبريل العجل بجناحه، فقام يمشي حتى لحق بأمّه، فعرفهم إبراهيم، وأمن منهم. ﴿وَبَشَّرُوهُ﴾؛ أي: بشّرت الملائكة إبراهيم، وفي سورة الصافات. ﴿وَبَشَّرْنَاهُ﴾؛ أي: بواسطتهم ﴿بِغُلَامٍ﴾؛ أي: بولد يولد له ﴿عَلِيمٍ﴾؛ أي: كثير العلم في صغره، كثير الحلم في كبره، والمبشّر به عند الجمهور هو إسحاق، ولم تلد له سارة غيره، وقال مجاهد وحده: هو إسماعيل.
ومعنى الآيات: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾؛ أي: هل عندك يا محمد نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه؟ وهم ذاهبون في طريقهم إلى قوم لوط، فسلّموا عليه، فردّ عليهم التحية بأحسن منها، ثمّ أراد أن يتعرفّ بهم فقال: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ﴾؛ أي: إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل، فعرفوني أنفسكم، من أنتم؟
واستظهر بعض العلماء أنّ هذه مقالة أسرّها إبراهيم في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك؛ لأنّ في خطاب الضيف بنحو ذلك، إيحاشًا له إلى أنه لو كان أراد ذلك.. لكشفوا له أحوالهم، ولم يتصدّ لمقدّمات الضيافة، ثمّ ذكر أنه أسرع في قرى ضيوفه، فقال: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ إلخ؛ أي: فذهب خفية مسرعًا، وقدّم لضيوفه عجلًا سمينًا أنضجه شيًا، كما جاء في سورة هود: ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾؛ أي: مشويّ على الرضف. ﴿قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾؛ أي: قال مستحثًّا لهم على الأكل: ألا تأكلون، وفي هذا تلطّف منه في العبارة، وعرض حسن، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون، وأتى بأفضل ماله، وهو عجل فتيٌّ شويٌّ، ووضعه بين أيديهم، ولم يضعه بعيدًا منهم حتى يذهبوا إليه، وتلطف في العرض، فقال: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾؛ أي: فأعرضوا عن طعامه ولم
٢٩ - ثم أخبر عمّا حدث من امرأته حينئذٍ، فقال: ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ﴾؛ أي: امرأة إبراهيم، وزوجته سارة، لما سمعت بشارتهم إلى بيتها، وكانت في زواية تنظر إليهم، قال ابن الشيخ: فأقبلت إلى أهلها، وكانت مع زوجها في خدمتهم، فلمّا تكلّموا بولادتها.. استحيت، وأعرضت عنهم، فذكر الله سبحانه ذلك بلفظ الإقبال على الأهل، ولم يذكره بلفظ الإدبار عن الملائكة.
قال سعدي المفتي كذا في "التفسير الكبير": ولا يناسبه (١) قوله: ﴿قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ فإنه يقتضي كونها عندهم، فالإقبال إليهم؛ أي: فأقبلت امرأته على الملائكة ﴿فِي صَرَّةٍ﴾ حال من فاعل ﴿أقبلت﴾ والصرّة: الصيحة الشديدة؛ أي: حالة كونها متلبسة بصيحة وصوت شديد وقيل: صرّتها قولها: أوّه، أو يا ويلتي، أو رنّتها، والصرّة أيضًا: الجماعة، وبها فسّرها بعضهم؛ أي: أقبلت في جماعة من النساء كن عندها، وهي واقفة متهيّئة للخدمة.
﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾؛ أي: لطمت وجهها من الحياء، لما أنها وجدت حرارة دم الحيض، وقيل: ضربت بأطراف أصابعها جبينها كما يفعله المتعجّب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئًا. ﴿وَقَالَتْ﴾ أنا ﴿عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾؛ أي: أنا عجوز عاقر لم
والمعنى (١): أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم، وكانت في ناحية من البيت تنظر إليهم، وهي تصرخ صرخة عظيمة، وضربت بيديها على جبينها، وقالت: أنا عجوز عقيم، فكيف ألد؟ وجاء في الآية الأخرى: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾.
٣٠ - فأجابوها عمّا قالت، حيث: ﴿قَالُوا﴾ لها ﴿كذلك﴾؛ أي: مثل ذلك الذي بشّرناه، وأخبرناه به ﴿قَالَ رَبُّكِ﴾ وإنما نحن معبّرون نخبرك به عنه تعالى، لا أنّا نقول من تلقاء أنفسنا، وروي: أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سيف بيتك، فنظرت، فإذا جذوعه مورقة مثمرة، فأيقنت، و ﴿الكاف﴾ في ﴿كَذَلِكِ﴾ (٢): منصوب المحل على أنه صفة لمصدر ﴿قَالَ﴾ الثانية؛ أي: لا تستبعدي ما بشّرناه به، ولا تتعجّبي منه، فإنه تعالى قال مثل ما أخبرناك به؛ أي: قضي وحكم في الأزل؛ أي: إنه من جهة الله سبحانه، فلا تعجبّي منه.
وقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُوَ الْحَكِيمُ﴾ في أفعاله وأقواله ﴿الْعَلِيمُ﴾ بكل شيء، فيكون قوله حقًّا، وفعله محكمًا لا محالة، تعليل لما قبله.
أي (٣): قالوا لها مثل الذي أخبرناك به، قال ربك، فنحن نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين، وهو الحكيم في أفعاله، العلم بكل شيء لا يخفى
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أنها استبعدت الولادة لسببين: كبر السن، والعقم، وقد كانت لا تلد في عنفوان شبابها، والآن قد عجزت وأيست، فأجدر بها الآن أن لا تلد، فكأنها قالت: ليتكم دعوتم دعاء قريبًا من الإجابة، ظنًّا منها أنّ ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبة، كما يقول الداعي: أعطاك الله مالًا، ورزقك ولدًا، فردّوا عليها بأنّ هذا ليس منّا بدعاء، وإنما ذلك قول الله تعالى.
ولم تكن (١) هذه المفاوضة مع سارة فقط، بل مع إبراهيم أيضًا، حسبما شرح في سورة الحجر، وإنما لم يذكر هنا اكتفاء بما ذكر هناك، كما أنه لم يذكر هناك سارّة، اكتفاءً بما ذكر هاهنا، وفي سورة هود، وفي الآية إشارة إلى أنه لا يجوز اليأس من فضل الله تعالى، فإنّ المقدور كائن ولو بعد حين، وقد أورقت وأثمرت شجرة مريم عليها السلام أيضًا، وكانت يابسة كما مرّ في سورة مريم، وقد اشتغل أفراد في كبرهم، ففاقوا على أقرانهم في العلم، فبعض محرومي البداية، مرزقون في النهاية، فمنهم: إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض ومالك بن دينار، رحمهم الله تعالى.
الإعراب
﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (٦)﴾.
﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الذاريات﴾: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالذاريات، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿ذَرْوًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، والعامل فيه: اسم الفاعل، والمفعول به: محذوف، تقديره التراب ونحوه، كما مر. ﴿فَالْحَامِلَاتِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿الحاملات﴾: معطوف على ﴿الذاريات﴾
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)﴾.
﴿وَالسَّمَاءِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿السَّمَاءِ﴾: مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بالسماء. ﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ صفة لـ ﴿السماء﴾، ﴿إِنَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَفِي﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿في قول﴾: جار ومجرور، خبر ﴿إنّ﴾. ﴿مُخْتَلِفٍ﴾: صفة ﴿قَوْلٍ﴾. وجملة ﴿إنّ﴾: جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم: معطوفة على جملة القسم الأوّل. ﴿يُؤْفَكُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به. ﴿مَنْ﴾: موصول في محل الرفع نائب فاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿أُفِكَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. والجملة: صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)﴾. فعل ونائب فاعل، والجملة: جملة دعائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْخَرَّاصُونَ﴾، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِي غَمْرَةٍ﴾: خبر أول، أو متعلق بـ ﴿سَاهُونَ﴾، ﴿سَاهُونَ﴾: خبر ثان، أو هو الخبر، والجملة: صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب. ﴿يَسْأَلُونَ﴾: فعل
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)﴾.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ خبره. ﴿وَعُيُونٍ﴾: معطوف على ﴿جَنَّاتٍ﴾، والجملة: مستأنفة. ﴿آخِذِينَ﴾: حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إنَّ﴾؛ أي: استقرّوا فيها، حال كونهم راضين ما آتاهم ربّهم. و ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿آخِذِينَ﴾، ﴿آتَاهُمْ﴾: فعل ومفعول به. ﴿رَبُّهُمْ﴾: فاعل، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد: محذوف، تقديره: ما آتاهم إياه ربّهم. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿قَبْلَ ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿مُحْسِنِينَ﴾، و ﴿مُحْسِنِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾. خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)﴾.
﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿قَلِيلًا﴾: منصوب على الظرفية الزمانية؛ لأنه
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)﴾.
﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ﴾: خبر مقدم لمبتدأ محذوف، لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: وفي أنفسكم آيات للموقنين. ﴿أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخيّ، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تنظرون ذلك فلا تبصرون، والجملة المحذوفة: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُبْصِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. ﴿وَفِي السَّمَاءِ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿في السماء﴾: خبر مقدم. ﴿رِزْقُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على ﴿رِزْقُكُمْ﴾، وجملة ﴿تُوعَدُونَ﴾: صلته والعائد: محذوف، تقديره: وما توعدونه. ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاءِ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، و ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم ﴿رب السماء﴾:
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٢٨)﴾.
﴿هَلْ﴾: حرف استفهام، والاستفهام: هنا معناه: التفخيم والتنبيه على أنّ الحديث ليس من علم رسول الله - ﷺ -، وإنما عرفه بالوحي. ﴿أَتَاكَ﴾: فعل ومفعول. ﴿حَدِيثُ﴾: فاعل. ﴿ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾: مضاف إليه. ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾: صفة للضيف، والجملة: مستأنفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿الْمُكْرَمِينَ﴾ أو باذكر محذوفًا. ﴿دَخَلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿دَخَلُوا﴾. ﴿سَلَامًا﴾: مفعول مطلق استغنى عن فعله؛ لأنّه سدّ مسدّه، تقديره: نسلّم عليكم سلامًا، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾. ﴿سَلَام﴾: مبتدأ، خبره: محذوف؛ أي: سلام عليكم، وسوّغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء، والجملة: في
﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)﴾.
﴿فَأَقْبَلَتِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: وسمعت سارّة تبشيرهم إبراهيم فأقبلت. ﴿أقبلت امرأته﴾: فعل وفاعل معطوف على ذلك المحذوف. ﴿فِي صَرَّةٍ﴾: حال من الفاعل؛ أي: حالة كونها صارّة؛ أي: صارخةً. ﴿فَصَكَّتْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿صكت وجهها﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿أقبلت﴾. ﴿وَقَالَتْ﴾: معطوف على ﴿صَكَّتْ﴾، ﴿عَجُوزٌ﴾: خبر
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالذَّارِيَاتِ﴾ وهي الرياح التي تذروا التراب وغيره؛ أي: تطيّره وتفرّقه، من ذرا يذرو، من باب عدا يعدو، ويقال: ذرا يذري من باب رمى، وفيه إعلال بالقلب، أصله: الذاروات، من ذرا يذرو، قلبت الواو ياءً لتطرفها إثر كسرة، ويحتمل أن تكون من ذرى يذري من باب رمى، فلا قلب فيها حينئذٍ، أفاده الجوهري في "صحاحه" في مادة ذرا، ولو كان كما قال.. لكان المصدر ذريًا.
﴿فَالْحَامِلَاتِ﴾ هي الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء.
﴿وِقْرًا﴾ والوقر والثقل والحمل، كلها ألفاظ وزنها واحد، ومعناه واحد.
﴿فَالْجَارِيَاتِ﴾ هي الرياح الجارية في مهابّها بسهولة.
و ﴿اليسر﴾ السهولة. ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ﴾ هي الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب.
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ﴾ و ﴿مَا﴾: يجوز تكون اسمية، وعائدها: محذوف؛ أي: توعدونه ومصدرية، فلا عائد لها، وحينئذٍ يحتمل أن يكون ﴿تُوعَدُونَ﴾ مبنيًا من الوعد، وأن يكون مبنيًا من الوعيد؛ لأنه صالح أن يقال: أوعدته فهو يوعد، ووعدته فهو يوعد لا يختلف، فالتقدير: إنّ وعدكم أو إنّ وعيدكم، اهـ "سمين".
﴿ذَاتِ الْحُبُكِ﴾ جمع حبيكة كطرق وطريقة وزنًا ومعنى، وقيل: الحبك: التكسر الذي يبدو على وجه الماء إذا ضربته الريح.
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ﴾؛ أي: يصرف عن القول المختلف؛ أي: بسببه. ﴿مَنْ أُفِكَ﴾؛ أي: ومن صرف عن الإيمان، يقال: أفكه عنه يأفكه إفكًا صرفه وقلبه، أو قلب رأيه، كما في "القاموس". ورجل مأفوك؛ أي: مصروف عن الحق إلى الباطل، كما في "المفردات".
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)﴾؛ أي: لعن الكذّابون، وهذا دعاء عليهم كقوله: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾. وأصله: الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى لعن وقبح، من الخرص، وهو تقدير القول بلا حقيقة، ومنه: خرص الثمار؛ أي: تقديرها مثلًا، بأن يقدر ما على النخل من الرطب تمرًا، وكل قول مقول عن ظنّ وتخمين يقال له: خرص، سواء كان ذلك مطابقًا للشيء أو مخالفًا له، من حيث إنّ صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظنّ ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظنّ والتخمين، والخرص: الظن والحدس، يقال: كم خرص أرضك بكسر الخاء، وأصل الخرص: القطع، من قولهم: خرص فلانًا كلامًا، واخترصه: إذا قطعه من غير أصل.
﴿فِي غَمْرَةٍ﴾ من غمره الماء يغمره: إذا غطاه، والمراد بها هنا: الجهل، قال الراغب: أصل الغمر: إزالة أثر الشيء، ومنه: قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله: غمر وغامر، وبه شبه الرجل السخي والفرس الشديد العدو، فقيل لهما: غمر كما شبها بالبحر، والغمرة: معظم الماء الساترة لمقرها، وجعلت مثلًا للجهالة التي تغمر صاحبها، وإلى نحوه أشار بقوله: ﴿فَأغشَينَاهُمْ﴾. وقيل للشدائد: غمرات، قال تعالى: ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾. وقال الشاعر:
قَالَ الْعَوَاذِل إنَّنِيْ فِيْ غَمْرَةٍ | صَدَقُوْا وَلَكِنْ غَمْرَتِي لَا تَنْجَلِي |
إِذَا رَأَيْتَ لَحِيْنَا | كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا |
يَا مَنْ يُقبِّحُ لَغْوِيْ | لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا |
كُلُّ حيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مدَّةَ الْعُمـ | ـرِ وَمَرْدِيٌّ إِذَا انْتَهَى أَمَدُهُ |
كُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ | وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَؤُوْبُ |
خُلِقْتُ مِنَ التُّرَابِ فِصِرْتُ شَخْصًا | بَصِيْرًا بالسُّؤَالِ وَبالْجَوَابِ |
وَعُدْتُ إلى التُّرابِ فِصِرْتُ فِيْهِ | كَأنِّي مَا بَرِحْتُ مِنَ التُّرَابِ |
بِلَادُ الله وَاسِعَةٌ فَضَاءً | ورِزْقُ الله فِيْ الدُّنْيَا فَسِيْحُ |
فَقُلْ لِلْقَاعِدِيْنَ عَلَى هَوَانٍ | إِذَا ضَاقَتْ بِكُمْ أرْضٌ فَسِيْحُوْا |
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالْجِدَهْ | مَقسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَهْ |
والمعنى (٢): أي كما كذبك قومك من قريش، وقالوا: ساحر أو مجنون فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم، وقالوا مثل مقالتهم. فهم ليسوا ببدع في الأمم، ولا أنت ببدع في الرسل. فكلهم قد كذبوا، وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله تعالى. وفي هذا تسلية لرسوله - ﷺ - على احتمال الأذى والإعراض عن جدالهم؛ فإنهم قد أبطرتهم النعمة، وغرهم الإمهال فلا تجدي فيهم العظة، ولا تنفعهم الذكرى. ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد - ﷺ -، فقال: أَأوْصَى أولهم آخرهم بتكذيب محمد - ﷺ - فقبلوا ذلك منهم. ثم أضرب عن أن الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي إلى أنّ الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، فقال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾؛ أي: بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان، وتجاوز حدود الدين والعقل. فقال متأخرهم: مثل مقالة متقدمهم. ثم سلى رسوله بقوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾.
٥٤ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - بالأعراض عنهم فقال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم، وكف عن جدالهم ودعائهم إلى الحق. فقد فعلت ما أمرك الله به،
(٢) المراغي.
٥٥ - ثم بعدما أمره بالاعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير والموعظة بالتي هي أحسن فقال: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)﴾ قال الكلبي: أي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم. وقال مقاتل: عظ كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من سبق في علم الله أنه يؤمن. وقيل: ذكرهم بالعقوبة، وأيام الله. وخص المؤمنين بالذكير لأنّهم المنتفعون به.
والمعنى (١): فأعرض عنهم أيّها الرسول، ولا تأسَّف على تخلفهم عن الاسلام فإنك لم تأل جهدًا في الدعوة. وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارًا، وطغيانًا، وإعراضًا، ودم على العظة والنصح، فإنَّ الذكرى تنفع من في قلوبهم استعداد للهداية والرشاد.
٥٦ - وجملة قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ...﴾ إلخ (٢)، مستأنفة مقررة لما قبلها. لأنَّ كون خلقهم لمجرد العبادة مما ينشط رسول الله - ﷺ - للتذكير، وينشطهم للإجابة؛ أي؛ وما خلقت المؤمنين من الجن والإنس ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ أي، إلا ليطيعونني، ويعرفونني. قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع؛ لأنَّ المجانين لم يؤمروا بالعبادة، ولا أرادها منهم. وقد قال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾. ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة. فالآية محمولة على المؤمنين منهم. ويدل عليه قراءة ابن مسعود، وأبيِّ بن كعب ﴿وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون﴾.
وقال مجاهد: إنّ المعنى: إلا ليعرفوني. قال الثعلبيّ: وهذا قول حسن؛ لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده. وروي عن مجاهد أنه قال:
المعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. واختار هذا
(٢) الشوكاني.
والحاصل (١): أنهم خلقوا للعبادة تكليفًا واختيارًا لا جبلة وإجبارًا. فمن وفقه وسدده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها، وعمل بما خلق له. وفي الحديث: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، كما في "عين المعاني".
فينبغي للعبد أن يعبد ربَّه، ويتذلل لخالقه بأيّ وجه كان من الفرائض، والواجبات، والسنن، والمستحبّات على الوجه الذي أمره أن يقوم فيه. فإذا كملت فرائضه، وكمالها فرض عليه، فيتفرغ فيما بين الفرضين لنوافل الخيرات كانت ما كانت. ولا يحقر شيئًا من عمله؛ فإنّ الله تعالى ما احتقره حين خلقه وأوجبه، فإنَّ الله تعالى ما كلَّفك بأمر إلا وله بذلك الأرم اعتناء وعناية، حتى كلفك به، وإذا واظب على أداء الفرائض؛ فإنه يتقرب إلى الله بأحب الأمور المقرّبة إليه. وورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى: "ما تقرَّب إليَّ عبد بشيء أحب إلى مما افترضته، وما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أُحبَّهُ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ريده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
روجه تقديم الجن على الإنس هاهنا تقدم وجودهم على الإنس (٢).
٥٧ - ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الجن والإنس في وقت من الأوقات ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾ لي، ولا لأنفسهم، ولا لغيرهم يحصّلونه بكسبهم. ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ ولا أنفسهم ولا غيرهم. وأصله: ﴿أن يطعموني﴾ بياء المتكلم. وهو بيان لكون شأنه تعالى مع عباده متعاليًا عن أن يكون كسائر السادة مع عبيدهم، حيث يهلكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، وتهيئة أرزاقهم فإنَّ منهم من يحتاج إلى كسب
(٢) الشوكاني.
فإن قلت: ما فائدة تكرار لفظ ﴿مَا أُرِيدُ﴾؟
قلت: فائدته إفادة حكم زائد على ما قبله. إذ المعنى: ما أريد منهم أن يطعموا أنفسهم، وما أريد منهم أن يطعموا عبيدي. وإنما أضاف تعالى الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق عياله وعبيده، ومن أطعم عيال غيره فكأنما أطعمه. ويؤيده خبر: إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني" أي: استطعمتك عبدي فلم تطعمه، انتهى من "فتح الرحمن".
والمعنى (١): ما أريد أن أصرفهم في تحمل رزقي، ولا رزقهم، ولا في تهيئته بل أتفضل عليهم رزقهم، وبما يصلحهم، ويعيشهم من عندي، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي. وفي الآية تعريض بأصنامهم؛ فإنّهم كانوا يحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب فبالت على الأصنام، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها.
وهذه الآية دليل على أنّ الرزق أعم من الأكل (٢)، كما في تفسير المناسبات. وتال بعضهم: معنى ﴿أَنْ يُطْعِمُونِ﴾: أن يطعموا أحدًا من خلقي. إنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق عيال الله، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه. كما جاء في الحديث: يقول الله: "استطعمتك فلم تطعمني"؛ أي: لم تطعم عبدي. كما مرّ آنفًا. وذلك أنَّ الاستطعام وسؤال الرزق يستعمل في وصف الله.
٥٨ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ لا رازق سواه، ولا معطي غيره. فهو الذي يرزق مخلوقاته.
والجملة (٣): تحليل لعدم إرادة الرزق منهم. وهو من قصر الصفة على الموصوف؛ أي: لا رزاق إلا الله الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق. وفيه تلويح
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿الرَّزَّاقُ﴾ بصيغة المبالغة. وقرأ ابن محيصن ﴿الرازق﴾ بميغة اسم الفاعل. كما قرأ ﴿وفي السماء رازقكم﴾ اسم فاعل، وهي قراءة حميد. وقرأ الجمهور ﴿الْمَتِينُ﴾ بالرفع. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش بالجر صفة للقوة على معنى الاقتدار، قاله الزمخشري، أو كأنه قال: ذو الأيد. وقيل: التذكير لكون تأنيثها غير حقيقي. قال الفراء: كان حقه المتينة، فذكرها لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل. يقال: حبل متين؛ أي؛ محكم الفتل. ومعنى المتين هنا: الشديد القوّة كما مرّ آنفًا. وأجاز أبو الفتح أن تكون صفة لذو. وخفض على الجوار كقولهم: هذا حجر ضبٍّ خربٍ.
والمعنى (٢): أنه تعالى غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم؛ لأنّه خالقهم، ورازقهم، وهو ذو القدرة القاهرة، والقوّة التامّة، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسد فقرك".
٥٩ - ولما أقسم سبحانه في أول السورة على الصدق في وعيدهم أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة، فقال: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بتعريضها للعذاب بسب تكذب محمد - ﷺ -، أو وضعوا مكان الصديق تكذيبًا، وهم أهل مكة. ﴿ذَنُوبًا﴾؛ أي: حظًّا وافرًا من العذاب ﴿مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾؛ أي: مثل أنصباء نظرائهم من
(٢) المراغي.
لَنَا ذَنُوْبٌ وَلَكُمْ ذَنُوْبٌ | فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيْبُ |
﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ أصله: فلا يستعجلوني بياء المتكلم؛ أي: فلا يطلبوا منّي أن أعجل في المجيء به؛ لأنَّ له أجلًا معلومًا، فهو نازل بهم في وقته المحتوم. يقال: استعجله إذا طلب وقوعه بالعجلة.
والمعنى: فإنَّ للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله عزّ وجل، وتكذيبهم رسوله نصيبًا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها. فلا يطلبوا منى أن أعجل بالإتيان به، فإني لا أخاف الفوت، ولا يلحقني عجز. وهذا جواب عن قولهم: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وكان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب، فأمهل إلى بدر ثم قتل في ذلك اليوم، وصار إلى النار، فعذب أولًا بالقتل ثم بالنار.
٦٠ - ﴿فَوَيْلٌ﴾؛ أي: فشدّة عذاب. ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ - وهم أهل مكة. ﴿مِنْ يَوْمِهِمُ﴾ من للتعليل؛ أي: من أجل يومهم ﴿الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ العذاب يه. وهو يوم بدر. وهو الأوفق لما تقدم من حيث إنه من العذاب الدنيوي أو يوم القيامة. وهو الأنسب لما في صدر السورة الآتية. وأيّا ما كان فالعذاب آت، وكل آت قربب. ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلًا عليهم بما في حيز الصلة من
وقرأ يعقوب (١): ﴿لِيَعْبُدُونِي﴾، ﴿أَنْ يُطْعِمُونِي﴾، ﴿فلا يستعجلوني﴾ بالياء وقفًا ووصلًا. ووافقه سهل في الوصل. وقرأ الباقون بغير ياء في الحالين.
الإعراب
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على إبراهيم، والجملة مستأنفة ﴿فَمَا﴾ الفاء: فاه الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إن كنتم ملائكة كما تقولون فأقول لكم: ما خطبكم وشأنكم. ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع، مثلًا ﴿خَطْبُكُمْ﴾ خبره. ﴿أَيُّهَا﴾ ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء للتخفيف، والهاء حرف تنبيه زائد، ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ صفة لـ ﴿أيّ﴾، أو بدل منها. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدَّرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالُوا﴾ فعل، وفاعل. والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿أُرْسِلْنَا﴾ فعل ماض مغير، ونائب فاعل، ﴿إِلَى قَوْمٍ﴾ متعلق به، ﴿مُجْرِمِينَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿لِنُرْسِلَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل، ﴿نرسل﴾ فعل مضارع، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الملائكة، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿نرسل﴾، ﴿حِجَارَةً﴾ مفعول به، ﴿مِنْ طِينٍ﴾ صفة لـ ﴿حِجَارَةً﴾. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإرسالنا عليهم حجارة من طين. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نرسل﴾. ﴿مُسَوَّمَةً﴾ صفة ثانية لـ ﴿حِجَارَةً﴾، ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ ظرف متعلق بمسوَّمة، ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ متعلق به أيضًا.
﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة على محذوف معلوم من السياق، تقديره: فباشروا ما أمروا به. فأخرجنا بقولنا: ﴿فأَسْرِ بِأَهْلِكَ...﴾ إلخ. فهو إخبار من الله تعالى، وليس من كلام الملائكة. كما مرَّ في مبحث التفسير. ﴿أَخْرَجْنَا﴾ فعل، وفاعل. والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول ﴿أَخْرَجْنَا﴾، ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿فِيهَا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من الضمير المستكن في خبر ﴿كَانَ﴾، أو ﴿مَنْ﴾ اسمها. وجملة ﴿كاَنَ﴾ صلة لمن الموصولة. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، "ما" نافية، ﴿وَجَدْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿أَخْرَجْنَا﴾؛ أي: أردنا إخراجهم فما وجدنا حين الإخراج. ﴿غَيْرَ بَيْتٍ﴾ مفعول به لـ ﴿وَجَدْنَا﴾. لأنّه من وجدان الضالّة. ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ صفة ﴿بَيْتٍ﴾، ﴿وَتَرَكْنَا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿أَخْرَجْنَا﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿تَرَكْنَا﴾، ﴿آيَةً﴾ مفعول به، ﴿لِلَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿آيَةً﴾، ﴿يَخَافُونَ الْعَذَابَ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، ﴿الْأَلِيمَ﴾ صفة للعذاب. والجملة صلة الموصول.
﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩)﴾.
﴿وَفِي مُوسَى﴾ معطوف على قوله: ﴿فِيِهَا﴾ بإعادة الجار. لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور، فيتعلق بـ ﴿تركنا﴾ من حيث المعنى. ويكون التقدير: وتركنا في قصة موسى آية. أو معطوف على ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً﴾ على معنى: وجعلنا في إرسال موسى آيةً. على حد قوله: علقها تبنًا وماءً باردًا. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف. لأنّه صفة لـ ﴿آيَةً﴾؛ أي: آية كائة في وقت إرسالنا إيّاه، أو متعلق بجعلنا المقدر. ﴿أَرْسَلْنَاهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول. والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَاهُ﴾، ﴿بِسُلْطَانٍ﴾ حال من ضمير ﴿أَرْسَلْنَاهُ﴾؛ أي: مؤيدًا بسلطان. ﴿مُبِينٍ﴾ صفة لـ ﴿سُلْطَانٍ﴾. ﴿فَتَوَلَّى﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿تولى﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلْنَاهُ﴾. ﴿بِرُكْنِهِ﴾ حال من ضمير فرعون؛ أي: متلبسًا بركنه. ﴿وَقَالَ﴾
﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)﴾.
﴿فَأَخَذْنَاهُ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿أَخَذْنَاهُ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿تَوَلَّى﴾. ﴿وَجُنُودَهُ﴾ معطوف على ضحبر المفعول. ويجوز أن يكون مفعولًا معه. ﴿فَنَبَذْنَاهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿نَبَذْنَاهُمْ﴾ فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿أَخَذْنَاهُ﴾، ﴿فِي الْيَمِّ﴾ متعلق بـ ﴿نَبَذْنَا﴾. ﴿وَهُوَ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هُوَ مُلِيمٌ﴾ مبتدأ وخبر. والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿نَبَذْنَاهُمْ﴾، أو من مفعول ﴿أَخَذْنَاهُ﴾. والفرق بين الحالين: أنَّ ﴿الواو﴾ في الأولى واجبة لازمة. إذ ليس فيها ذكر ضمير يعود على صاحب الحال. وفي الثانية ليست واجبة لازمة إذ في الجملة ذكر ضمير يعود عليه. ﴿وَفِي عَادٍ﴾ معطوف على ما تقدم. ويقال فيها: ما قيل: ﴿وفى موسى إذ أرسلناه﴾؛ أي: وجعلنا في عاد آيةً، وعبرةً للذين يخافون العذاب الأليم. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ جعلنا المقدر، أو صفة لآية، ﴿أَرْسَلْنَا﴾ فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾ ﴿الرِّيحَ﴾ مفعول به، ﴿الْعَقِيمَ﴾ صفة لـ ﴿الرِّيحَ﴾. والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿تَذَرُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الريح. والجملة في محل النصب حال من الريح. ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿شَيْءٍ﴾، مفعول به لـ ﴿تَذَرُ﴾، ﴿أَتَتْ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الريح، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَتَتْ﴾. وجملة ﴿أَتَتْ﴾ صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾: ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناه مفرّغ لـ ﴿جعل﴾ ﴿كَالرَّمِيمِ﴾ مضاف إليه للكاف؛ أي: مثل الرميم؛ وجملة جعل في محل النصب مفعول ثان ﴿جَعَلَتْهُ﴾ فعل، وفاعل مستتر يعود على الريح، ومفعول أول، ﴿كَالرَّمِيمِ﴾ الكاف اسم بمعنى مثل، في محل النصب، مفعول ثان لـ ﴿تَذَرُ﴾. كأنّه قيل: ما تترك شيئًا أتت عليه إلا مجعولًا مثل الرميم.
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ معطوف على ما تقدم أيضًا. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى، متعلق بجعلنا المقدّر أو صفة لـ ﴿ءَايَةً﴾، ﴿قِيلَ﴾ فعل ماض، مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿تَمَتَّعُوا﴾ إلى آخره نائب فاعل، محكيّ لـ ﴿قِيلَ﴾. ويجوز أن يكون ﴿لَهُمْ﴾ نائب فاعل، و ﴿تَمَتَّعُوا﴾ الخ مقولًا. وجملة ﴿قِيلَ﴾ في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. وإن شئت قلت: ﴿تَمَتَّعُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَمَتَّعُوا﴾. والجملة في محل الرفع، نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿فَعَتَوْا﴾ ﴿لفاء﴾ حرف عطف وتفصيل لإجحال ما تضمّنه قوله: ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ الخ. والتقدير: وجعلنا في ثمود آية، إذ قيل لهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فعتوا عن أمر ربهم، وقيل لهم: تمتعوا حتى حين. ﴿عَتَوْا﴾ فعل وفاعل؛ معطوف على ذلك المحذوف، ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿عتوا﴾، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ فعل، ومفعول به، وفاعل، معطوف على ﴿عَتَوْا﴾، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ خبره. والجملة في محل النصب، حال من مفعول ﴿أَخَذَتْهُمُ﴾.
﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨)﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿ما﴾ نافبة، ﴿اسْتَطَاعُوا﴾ فعل، وفاعل، معطوف على ﴿أخذتهم﴾، ﴿مِنْ﴾ زائدة، ﴿قِيَامٍ﴾: مفعول به، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿مَا﴾ نافية، ﴿كَانُوا مُنْتَصِرِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، معطوف على ﴿مَا اسْتَطَاعُوا﴾. ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿قوم نوح﴾ منصوب بفعل محذوف مفهوم ضمنًا؛ أي: وأهلكنا قوم نوح. ولك أن تقدّره: وأذكر قوم نوح. وقرىء بالجر عطفًا على ﴿وَفِي ثَمُودَ﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ جار ومجرور حال من ﴿قوم نوح﴾؛ أي: وأهلكنا قوم نوح حالة كونهم من قبل عاد وثمود، أو متعلق بـ ﴿أهلكنا﴾ المقدر ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ خبره. وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الإهلاك، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَالسَّمَاءَ﴾ منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا، والتقدير: وبنينا السماه بنيناها. والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿بَنَيْنَاهَا﴾ فعل، وفاعل، ومفعول والجملة جملة مفسّرة للمحذوف، لا محل لها من الاعراب. ﴿بِأَيْدٍ﴾ جار ومجرور، حال من فاعل ﴿بَنَيْنَاهَا﴾؛ أي: متلبسين بأيد، أو
﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)﴾.
﴿وَمِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾ ومضاف إلِيه. ويجو أن يكون حالًا من ﴿زَوْجَيْنِ﴾؛ لأنّه في الأصل صفة له. ﴿خَلَقْنَا﴾ فعل، وفاعل، ﴿زَوْجَيْنِ﴾ مفعول به. والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا﴾. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ ناصب واسمه؛ وجملة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ خبره. والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. ﴿فَفِرُّوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتم أنّ الله فرد لا نظير له ولا نديد، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم فأقول لكم: فرّوا إلى طاعة الله. ﴿فِرُّوا﴾ فعل أمر، وفاعل. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدَّرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿فَفِرُّوا﴾ ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نَذِير﴾، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به أيضًا، ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر إنّ، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة ﴿نَذِيرٌ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في فصل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لَا﴾ ناهية جازمة، ﴿تَجْعَلُوا﴾ فعل، وفاعل؛ مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. والجملة معطوفة على جملة ﴿فِرُّوا﴾. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾. ﴿إِلَهًا﴾ مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، ﴿آخَرَ﴾ صفة لـ ﴿إِلَهًا﴾. وجملة ﴿لَا تَجْعَلُوا﴾ معطوف على ﴿فِرُّوا﴾. ﴿إِنِّي﴾ ناصب واسمه، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿نَذِيرٌ﴾ و ﴿مِنْهُ﴾ متعلق به أيضًا، ﴿نَذِيرٌ﴾ خبر ﴿إنّ﴾، ﴿مُبِينٌ﴾ صفة لـ ﴿نَذِيرٌ﴾. وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل النهي.
﴿كَذَلِكَ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: الأمر والشأن كذلك؛ أي: أمر الأمم المكذبة في تكذيب رسولهم، وشأنها كذلك المذكور من تكذيب قومك إيّاك. والجملة مستأنفة. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿أَتَى﴾ فعل ماض، ﴿الَّذِينَ﴾ مفعول به، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ صلة الموصول، ﴿مِنْ﴾ صلة زائدة، ﴿رَسُولٍ﴾ فاعل. والجمله مفسرة لجملة ﴿كَذَلِكَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ، ﴿قَالُوا﴾ فعل، وفاعل. والجملة في محل النصب، حال من ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: ما أتاهم رسول إلا حالة قولهم: هو ساحر أو مجنون. ﴿سَاحِرٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ساحر، ﴿أَوْ مَجْنُونٌ﴾ معطوف على ﴿سَاحِرٌ﴾. والجمله الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿أَتَوَاصَوْا﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي، ﴿تَوَاصَوْا﴾ فعل ماض، والواو فاعل، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تواصوا﴾. والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. والمعنى: ما وقع منهم وصية بذلك؛ لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد، ﴿بَلْ﴾ حرف عطف وإضراب، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿قَوْمٌ﴾؛ خبر، ﴿طَاغُونَ﴾ صفة لـ ﴿قَوْمٌ﴾. والجملة الإضرابية معطوفة على محذوف، تقديره: هم غير متواصين بذلك بل هم قوم طاغون. ﴿فَتَوَلَّ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان هذا شأنهم، وأردت ببان ما هو النصيحة لك.. فأقول لك: تولّ عنهم؛ أي: أعرض عن جدالهم. ﴿تَوَلّ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تَوَلّ﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية، ﴿ما﴾ نافية حجازية، ﴿أَنْتَ﴾ في محل الرفع، اسمها، ﴿بِمَلُومٍ﴾ خبرها، و ﴿الباء﴾ زائدة. والجملة تعليل للأمر بالتولي، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)﴾.
﴿وَذَكِّرْ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على ﴿فَتَوَلَّ﴾. ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ تعليلية، ﴿إِنَّ الذِّكْرَى﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ خبره. والجملة تعليلية، لا محل لها من الأعراب. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية،
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل، ﴿الرَّزَّاقُ﴾ خبره. والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿ذُو الْقُوَّةِ﴾ خبر ثان لـ ﴿إنّ﴾ ﴿الْمَتِينُ﴾ خبر ثالث لها. وقيل: نعت لـ ﴿الرَّزَّاقُ﴾ أو لـ ﴿ذُو﴾، ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد، وثمود، وقوم نوح، وأردت بيان حال كفرة قومك فأقول لك: ﴿إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾. ﴿إن﴾ حرف نصب، ﴿لِلَّذِينَ﴾ خبر مقدم لـ ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾ صلة الموصول، ﴿ذَنُوبًا﴾ اسم ﴿إنّ﴾ مؤخر، ﴿مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ صفة لـ ﴿ذَنُوبًا﴾. وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَلَا﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع ﴿لا﴾ ناهية، ﴿يَسْتَعْجِلُونِ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل، والنون المذكورة للوقاية، والياء المحذوفة مفعول به. والجملة الفعلية معطوفة مفرّعة على جملة ﴿إنّ﴾. ﴿فَوَيْلٌ﴾ الفاء: عاطفة
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾؛ أي: شأنكم. والخطب: الشأن الخطير، والأمر الجليل. ومنه: الخطبة؛ لأنها كلام بليغ يستهدف أمورًا جليلة؛ أي: فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة.
﴿إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ﴾ هم قوم لوط. وفي "فتح الرحمن": المجرم فاعل الجرائم. وهي صعاب المعاصي، وكبارها، وفاحشها. ﴿من طِينِ﴾؛ أي: من طين متحجِّر. وهو ما طبخ، وصار في صلابة الحجارة. وهو السجيل، فإنَّ السجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم.
﴿مُسَوَّمَةً﴾؛ أي: معلمة من السؤمة. وهي العلامة؛ أي: معلمة ببياض أو حمرة أو بسيما تتميز بها عن حجارة الأرض أو بكتابة اسم من يرمى بها أو مرسلة من سومت الماشية إذا أرسلتها لترعى لعدم الاحتياج إليها. ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾؛ أي: في خزائنه، لا يتصرف فيها غيره تعالى.
﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: للمجاوزين الحد في الفجور. إذ لم يقنعوا بما أبيح لهم من النسوان للحرث، بل أتوا الذكران. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، أي: ممن آمن بلوط.
﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة واضحة. وهي ما ظهرت على يديه من المعجزات الظاهرة: كاليد والعصا. والسلطان: مصدر يطلق على المتعدّد. ﴿بِرُكْنِهِ﴾ والركن: ما يركن إليه الشيء، ويتقوى به. والمراد هنا: جنوده وأعوانه، ووزراؤه. كما جاء في سورة هود: ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾. وفي "الصحاح": ركن الشيء.. جانبه الأقوى؛ كالمنكب بالنسبة إلى الإنسان. وقيل: فتولى بما يتقوى به من ملكه وعساكره. فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الإنسان. ويكون من مال، وجد، وقوة. فالركن ها مستعار لجنوده تشبيهًا لهم بالركن الذي يتقوى به
﴿وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ والمجنون: ذو الجنون. وهو زوال العقل وفساده كأنه نسب ما ظهر على يديه من الخوارق العجيبة إلى الجن، وتردد في أنه حصل باختياره وسعيه أو بغيرهما.
﴿فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ والنبذ: إلقاء الشيء، وطرحه لقلة الاعتداد به؛ أي: فطرحناهم في بحر القلزم. ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾؛ أي: ملام، أي: آتٍ بما يلام عليه. أصله: ملوم بوزن مفعل اسم فاعل، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى اللام، فسكنت إثر كسرة فقلبت ياء حرف مد. وفي "المصباح": ألام الرجل فعل ما يستحق عليه اللوم، اهـ. وفي "المختار": اللوم: العذل، تقول: لامه على كذا، من باب قال، ولومه أيضًا فهو ملوم، واللائمة، والملامة. وألام الرجل أتى بما يلام عليه. اهـ.
﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾؛ أي: التي لا خير فيها ولا بركة، فلا تلقح شجرًا، ولا تحمل مطرًا. سميت عقيمًا؛ لأنّها أهلكتهم وقطعت دابرهم. من العقم بالضم. وهو هزمة "يُبْسٌ" تقع في الرحم، فلا تقبل الولد، كما في "القاموس".
﴿مَا تَذَرُ﴾؛ أي: ما تترك. يقال: ذره؛ أي: دعه، يذره تركًا، ولا تقل؛ وذرًا. وأصله: وذره يذره نحو: وسعه يسعه، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل. ﴿كَالرَّمِيمِ﴾ والرميم: الشيء البالي من عظم ونبات وغير ذلك؛ أي: كالشيء البالي المتفتت. وفي "القاموس": رمَّ العظم يرم رمة بالكسر، ورمًا ورميمًا، وأرم بلي، فهو رميم. وفي "المفردات": الرمة بالكسر تختص بالعظم، والرمة بالضم بالحبل البالي، والرم بالكسر بالفتات من الخشب والحشيش والتبن.
﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ يقال: عتا عتوا وعتيًا وعتيا استكبر، وجاوز الحد، فهو عات وعتي. وأصله: عتووا بواوين: الأولى لام الكلمة، والثانية: واو الجماعة. قلبت الأولى منهما ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لالتقائهما ساكنة مع واو الجماعة.
﴿الصَّاعِقَةُ﴾ نار تنزل من السماء بالاحتكاكات الكهربية. ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا﴾ أصله: استطوعوا بوزن استفعلوا، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الطاء، ثم أبدلت ألفًا لتحركها أصالة وفتح ما قبلها في الحال. ﴿مِنْ قِيَامٍ﴾: أصله: قوام، أبدلت ﴿الواو﴾، في المصدر ياء لوقوعها بعد كسرة، وقبل ألف، كما في صيام ونيام مثلًا.
﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ وفي "المصباح": وسع الله عليه رزقه يوسع وسعًا من باب نفع، بسطه وكثره، وأوسعه ووسعه بالألف، والتشديد مثله. وأوسع الرجل بالألف صار ذا سعة وغنى، اهـ. ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا﴾ والفرش كناية عن البسط، والتسوية، اهـ شهاب؛ أي: بسطناها ومهدناها. ﴿فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ من مهدت الفراش إذا بسطه، ووطأته. وتمهيد الأمور تسويتها. وفي "المختار": المهد: مهد الصبيّ، والمهاد: الفرش. ومهد الفراش بسطه ووطأه. وبابه قطع. وتمهيد الأمور تسويتها وإصلاحها، وتمهيد العذر بسطه وقبوله، اهـ.
﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: من كل جنس من الحيوان. ﴿خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾؛ أي: أمرين متقابلين ذكرًا وأنثى. ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ بحذف إحدى التاءين. أصله: تتذكرون. ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ وفي "المصباح": فرّ من عدوه يفر من باب ضرب فرارًا إذا هرب، وفر الفارس فرًّا أوسع الجولان للإنعطاف، وفر إلى الشيء ذهب إليه.
﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ﴾ أصله: أتواصيوا بوزن تفاعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة. والتواصي: أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض.
﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أصله: طاغيون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الغين لمناسبة الواو. ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ فيه إعلال بحذف حرف العلة لام الفعل المناسبة بناء الأمر على ذلك. ﴿بِمَلُومٍ﴾ أصله: ملووم اسم مفعول من لام، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى اللام فسكنت فالتقى ساكنان: ﴿الواو﴾ عين الكلمة، وواو مفعول، فحذفت ﴿الواو﴾ الأولى على قول، أو الثانية على قول. فوزنه مفعول على كل حال، أو مفعل.
﴿الْمَتِينُ﴾ من المتانة. وهو شدة القوة. والمتنان: مكتنفا الصلب، وبه شبه المتن من الأرض، ومتنته ضربت متنه، ومتن قوي متنه فصار متينًا. ومنه قيل: حبل متين. ﴿ذَنُوبًا﴾ قال في "المفردات": الذنوب: الدلو الذي له ذنب، واستعير للنصيب
﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ﴾ يقال: استعجله حثه على العجلة، وأمره بها. ويقال: استعجله؛ أي: طلب وقوعه بالعجلة. ومنه قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ﴿فَوَيْلٌ﴾ والويل: الأشد من العذاب، والشقاء، والهم. ويقال: واد في جهنم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضمار، بلا ذكر مرجع الضمير في قوله: ﴿مَنْ كَانَ فِيهَا﴾؛ أي: في قرى قوم لوط لشهرتها، وعلمها من السياق.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ فالركن حقيقة فيما يتقوى به البنيان. فاستعاره للجنود، والجموع. لأنّه يحصل بهم التقوي والاعتماد كما يعتمد على الركن في البناء.
ومنها: الكناية في التولي في قوله: ﴿فَتَوَلَّى﴾ لأنه كناية عن الإعراض، أي: فأعرض عن الإيمان بموسى.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾؛ أي: آتٍ بما يلام عليه على حد عيشة راضية. فأطلق اسم الفاعل على اسم المفعول؛ أي: ملام على طغيانه.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ حيث شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع الحمل. ثم قيل: العقيم، وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به. فالمستعار له الريح، والمستعار مه ذات النتاج، والمستعار العقم. وهو عدم النتاج. والمشاركة بين المستعار له والمستعار منه في عدم النتاج. وهي استعارة محسوس لمحسوس للإشتراك في أمر معقول. وهي من ألطف الاستعارات. وفي "الشهاب": أصل العقم: اليبس المانع من قبول الأثر، كما قاله الراغب. وهو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول كما مرّ.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا﴾ لأنّ الفرش كناية عن البسط
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾؛ أي: إلا مهيئين ومستعدين للعبادة. وذلك أنني خلقت فيهم العقل؛ وركزت فيهم الحواس والقدرة التي تمكنهم من العبادة. وهذا لا ينافي تخلف العبادة بالفعل عن بعضهم. لأنَّ هذا البعض المتخلف، وإن لم يعبد الله مركوز فيه الاستعداد والتهيؤ الذي هو الغاية في الحقيقة. وقد شجر خلاف بين أهل السنة والاعتزال حول هذه الآية فلا نطيل الكلام به.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)﴾ فإنَّ فيه تعريضًا بأصنامهم. فإنهم كانوا يحضرون لها المآكل، فربما أكلتها الكلاب، ثم بالت على الأصنام، كما مرّ.
ومنها: الإطناب بتكرار ﴿أُرِيدُ﴾ في قوله: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)﴾ للمبالغة والتأكيد.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ وهو من قصر الصفة على الموصوف؛ أي: لا رزّاق إلا الله سبحانه. وفيه أيضًا التلويح بأنه سبحانه غني عن كل ما سواه.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا﴾، فإنّه حقيقة في الدلو العظيم، استعارة للحظ والنصيب.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾؛ أي: لهم نصيب من العذاب مئل نصيب أسلافهم المكذبين لأنبيائهم في الشدة والغلظة. لأنّه حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
ومنها: وضع الموصول موضع ضميرهم في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تسجيلًا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر؛ وإشعارًا بعلة الحكم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - دلائل البعث من العجائب الطبيعية، والعلوم النفسية.
٢ - جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
٣ - أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
٤ - تسلية رسول الله - ﷺ - على ما يلقاه من أذى قومه.
٥ - الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.
٦ - النهي عن الإشراك بالله تعالى.
٧ - إخبار رسوله - ﷺ - بأن قومه ليسوا ببدع في التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
٨ - أمره - ﷺ - بالإعراض عنهم، وتذكير تنفعه الذكرى من المؤمنين.
٩ - إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
١٠ - وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.
١١ - أن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصب نظرائهم من المكذبين (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الطور مكية، نزلت بعد السجدة. قال القرطبي: مكية في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس، والنحاس؛ وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الطور بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وهي (١) تسع أو ثمان وأربعون آية، وثلاث مئة واثنتا عشرة كلمة، وألف وخمس مئة حرف.
مناسبتها لما قبلها:
١ - إنّ في (٢) ابتداء كل منهما وصف حال المتقين.
٢ - إنّ في نهاية كل منهما وعيدًا للكافرين.
٣ - إنّ كلاًّ منهما بدأت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد. ففي الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان في معاشه، وهنا أقسم بالطور الذي أنزلت يه التوراة النافعة للناس في معادهم.
٤ - في كل منهما أمر النبي - ﷺ - بالتذكير، والإعراض عمّا يقول الجاحدون من قول مختلف.
٥ - تضمّنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة في السورتين، انتهى من المراغي.
وقال أبو حيان: مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة (٣)؛ إذ في آخر تلك: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾، وقال هنا: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧)﴾.
تسميتها: سمّيت سورة الطور لذكر الطور - الذي هو جبل طور سيناء - فيها
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقرأ في المغرب بالطور.
وأخرج البخاري وغيره عن أمّ سلمة: أنها سمعت رسول الله - ﷺ - يصلي إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور. وعنه - ﷺ -: "من قرأ سورة الطور كان حقًّا على الله أن يؤمّنه من عذابه، وأن ينعمه في جنته". وفيه مقال.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة الطور كلها محكم، إلا آيةً واحدةً. وهي قوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا...﴾ الآية (٤٨) نسخ الصبر منها بآية السيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤)﴾.المناسبة
وقد تقدّم لك آنفًا بيان مناسبة أوّل هذه السورة لآخر السابقة، وأقسم سبحانه بمخلوقاته (١) العظيمة الدالّة على كمال قدرته، وبديع صنعته، وعدَّ منها أماكن ثلاثةً: الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم، والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق. فانتقل موسى إلى الطور، وخاطب ربَّه، وقال: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾؛ وقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾. وانتقل محمد إلى البيت المعمور، وناجى ربه، وقال: "سلام علينا وعلى عباد الله
وقرن الكتاب بالطور؛ لأنَّ موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به. وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور، ليعلم عظمة شأن محمد - ﷺ -. وأقسم بكل هذا علي أن العذاب يوم القيامة نازلٌ بأعدائه الذين يخوضون في الباطل، ويتخذون الدين هزوًا ولعبًا فيدفعون إلى النار دفعًا عنيفًا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذّبون، ادخلوها، وقاسوا شدائدها، وسواء علكيم أجزعتم أم صبرتم ما لكم منها مهرب ولا خلاص.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيّن ما يصيب الكافرين من العذاب الأليم الذي لا دافع له، ولا مهرب مه.. ذكر ما يتمتع به المؤمنون في ذلك اليوم من صرف اللذّات في المساكن، والمآكل، والمشارب، والفرش، والأزواج بحسب سنن القرآن من ذكر الثواب بعد العقاب ليتم أمر الترغيب بعد الترهيب، حتى يكون المرء بين عاملين عامل الرهبة من بطش ربّه، وعامل الرغبة في رحمته. وكلاهما لا غنى للمرء عنه؛ ليكمل صلاحه، ويرعوي عن غيّه، ولا يقنط من رحمة ربّه.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر ما يتمغ به أهل الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج كرمًا منه وفضلًا.. أردف ذلك ذكر ما زاده لهم من الفضل والإكرام. وهو أن يلحق بهم ذريتهم المؤمنة في المنازل والدرجات وإن لم تبلغ بهم أعمالهم ذلك لتقربهم أعينهم إذا رأوهم في منازلهم على أحسن الأحوال. فيرفع الناقص في عمله إلى الكامل فيه، ولا ينقص من عمله هو، ولا منزلته.
قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله (١) سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف أنّ العذاب واقع بالكافرين لا محالة، وأنّ الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون
وفي ذلك تسلية لرسوله - ﷺ -؛ كما لا يخفى؛ إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلًا، وأبينهم قولًا منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد من الجنون والكهانة إلى ما في هذا من التناقض والاضطراب. فإن الكهان كانوا من الكملة، وكان قولهم مقنعًا. فأين هذا من الجنون! ثم ترقوا في نبته إلى الكذب، فقالوا: إنه شاعر، وأعذب الشعر أكذبه. ثم قالوا: فلنصبر عليه، ولنتربص صروف الدهر وأحداثه فسيكون حاله حال زهير، والنابغة، وأضرابهم ممن انقرضوا، وصاروا كأمس الدابر. ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)﴾. ثم زاد في تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا الكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك، وإما أن عقولهم تأمرمم بما يقولون، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون، ويقولون ما لا دليل عله لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل. ثم زادوا في الإنكار، ونسبوه إلى التقول والافتراء. فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مئل هذا المفترى إن كانوا صادقين، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوله لهم أنفسهم فإن الله قد أعصى بصائرهم، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل، والغث من السمين. فامض لشأنك، ولا تأبه لمقالتهم، فالله معك ولن يترك شيئًا من أعمالك.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما
سورة الذاريات
سورة (الذَّاريَات) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الأحقاف)، وقد جاءت ببيانِ عظمة الله، وقُدْرتِه على التصرُّف في الكون، وإنزالِ العذاب بمَن شاء، كيف شاء، متى شاء، ومِن ذلك قَسَمُه بـ(الذَّاريَات)، وهي: الرِّياح، وهي آيةٌ من آيات الله، يُصرِّفها اللهُ إن شاء للرَّحمة، وإن شاء للعذاب؛ فعلى الناسِ الفرارُ إلى الله، الذي هو طريقُ النجاة.
ترتيبها المصحفي
51نوعها
مكيةألفاظها
360ترتيب نزولها
67العد المدني الأول
60العد المدني الأخير
60العد البصري
60العد الكوفي
60العد الشامي
60* سورة (الذَّاريَات):
سُمِّيت سورةُ (الذَّاريَات) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بالقَسَم بـ(الذَّاريَات)؛ وهي: الرِّياح.
* أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الذَّاريَات) في صلاة الظُّهر:
عن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «كُنَّا نُصلِّي خلفَ النبيِّ ﷺ الظُّهْرَ، فيُسمِعُنا الآيةَ بعد الآياتِ مِن لُقْمانَ والذَّاريَاتِ». أخرجه النسائي (٩٧١).
1. وقوع البعثِ والجزاء (١-٢٣).
2. دلائل القدرة الإلهية (٢٤-٤٦).
3. الفرارُ إلى الله طريق النجاة (٤٧- ٦٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /443).
مقصودُ سورة (الذَّاريَات) هو الدعوةُ إلى طاعة الله، والاستجابة لأمره؛ من خلال التحذير من وقوع العذاب بالأقوام؛ فإن اللهَ في هذه السورة أقسَمَ بـ(الذَّاريَات)، وهي الرِّياح التي يُعذِّب الله بها من يشاء من عباده، يقول البِقاعي: «مقصودها: الدلالة على صدقِ ما أنذَرتْ به سورةُ (ق) تصريحًا، وبشَّرت به تلويحًا، ولا سيما من مُصاب الدنيا، وعذابِ الآخرة.
واسمها (الذَّاريَات): ظاهرٌ في ذلك، بملاحظة جواب القَسَم؛ فإنه - لِشِدة الارتباط - كالآية الواحدة وإن كان خمسًا.
وللتعبير عن الرِّياح بـ(الذَّاريَات) أتمُّ إشارةٍ إلى ذلك؛ فإن تكذيبَهم بالوعيد لكونهم لا يشعُرون بشيءٍ من أسبابه، وإن كانت موجودةً معهم». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /25).