تفسير سورة المطفّفين

البحر المحيط في التفسير

تفسير سورة سورة المطففين من كتاب البحر المحيط في التفسير
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة المطففين
هذه السورة مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل، مدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل أيضاً. وقال ابن عباس وقتادة : مدنية إلا من ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ ﴾ إلى آخرها، فهو مكي، ثمان آيات. وقال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة، له مكيلان، يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت. ويقال : أنها أول سورة أنزلت بالمدينة. وقال ابن عباس : نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فساداً في هذا المعنى، فأصلحهم الله بهذه السورة. وقيل : نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمناسبة بين السورتين ظاهرة. لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه، ذكر ما أعد لبعض العصاة، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته.

سورة المطفّفين
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٣٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
424
التَّطْفِيفُ النُّقْصَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ النُّزُلُ الْحَقِيرُ وَالْمُطَفِّفُ الْآخِذُ فِي وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ طَفِيفًا أَيْ شَيْئًا حَقِيرًا خَفِيًّا. رَانَ غَطَّى وَغَشَّى كَالصَّدَأِ يُغَشِّي السَّيْفَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ رَانَ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى قَلْبِ فَاجِرٍ فَتَابَ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي رَانَ فَانْجَلَا
وَأَصْلُ الرَّيْنِ الْغَلَبَةُ يُقَالُ رَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِ شَارِبِهَا وَرَانَ الْغَشْيُ عَلَى عَقْلِ الْمَرِيضِ. قَالَ أَبُو ربيد:
ثُمَّ لَمَّا رَآهُ رَانَتْ بِهِ الْخَمْرُ وَأَنْ لَا يَرِينَهُ بِانْتِقَاءِ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ رِينَ بِالرَّجُلِ يُرَانُ بِهِ رَيْنًا إِذَا وَقَعَ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ مِنْهُ الْخُرُوجَ.
الرَّحِيقُ قَالَ الْخَلِيلُ أَجْوَدُ الْخَمْرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَالزَّجَّاجُ الشَّرَابُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ. قَالَ حَسَّانَ:
بَرَدَى يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ نَافَسَ فِي الشَّيْءِ رَغِبَ فِيهِ وَنَفُسْتُ عَلَيْهِ بِالشَّيْءِ أَنْفُسُ نَفَاسَةً إِذَا بَخِلْتَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ تُحِبَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ. التَّسْنِيمُ أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ وَمِنْهُ تَسْنِيمُ الْقَبْرِ وَسَنَامُ الْبَعِيرِ وَتَسَنَّمْتُهُ عَلَوْتَ سَنَامَهُ. الْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَالْحَاجِبِ.
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إِلَى آخِرِهَا، فَهُوَ مَكِّيٌّ، ثَمَانِ آيَاتٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا جُهَيْنَةَ، لَهُ مَكِيلَانِ، يَأْخُذُ بِالْأَوْفَى وَيُعْطِي بِالْأَنْقَصِ، فَنَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
425
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَ بَعْضُهَا بِمَكَّةَ، وَنَزَلَ أَمْرُ التَّطْفِيفِ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فَسَادًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَأَصْلَحَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِيُصْلِحَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ قَبْلَ ورود رسوله صلى الله عليه وسلّم. وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ ظَاهِرَةٌ. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى السُّعَدَاءَ وَالْأَشْقِيَاءَ وَيَوْمَ الْجَزَاءِ وَعَظَّمَ شَأْنَ يَوْمِهِ، ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَخَسِّ مَا يَقَعُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَهِيَ التَّطْفِيفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُجْدِي شَيْئًا فِي تَثْمِيرِ الْمَالِ وَتَنْمِيَتِهِ.
إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ: قَبَضُوا لَهُمْ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، أَقْبَضُوهُمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنْ وَعَلَى يَعْتَقِبَانِ هُنَا، اكْتَلْتُ عَلَى النَّاسِ، وَاكْتَلْتُ مِنَ النَّاسِ. فَإِذَا قَالَ:
اكْتَلْتُ مِنْكَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْفَيْتُ مِنْكَ وَإِذَا قَالَ: اكْتَلْتُ عَلَيْكَ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَا عَلَيْكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى مُتَعَلِّقٌ باكتالوا كما قررنا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا كَانَ اكْتِيَالُهُمْ مِنَ النَّاسِ اكْتِيَالًا يَضُرُّهُمْ وَيُتَحَامَلُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، أَبْدَلَ عَلَى مَكَانٍ مِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بيستوفون، أَيْ يَسْتَوْفُونَ عَلَى النَّاسِ خَاصَّةً، فَأَمَّا أَنْفُسُهُمْ فَيَسْتَوْفُونَ لَهَا. انْتَهَى.
وَكَالَ وَوَزَنَ مِمَّا يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، فَتَقُولُ: كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ، وَيَجُوزُ حَذْفُ اللَّامِ، كَقَوْلِكَ: نَصَحْتُ لَكَ وَنَصَحْتُكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَالضَّمِيرُ ضَمِيرُ نَصْبٍ، أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ. وَعَنْ عِيسَى وَحَمْزَةَ: الْمَكِيلُ لَهُ وَالْمَوْزُونُ لَهُ مَحْذُوفٌ، وَهُمْ ضَمِيرٌ مَرْفُوعٌ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ الْوَاوُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مَرْفُوعًا لِلْمُطَفِّفِينَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَخْرُجُ بِهِ إِلَى نَظْمٍ فَاسِدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا أَعْطَوْهُمْ أَخْسَرُوا. وَإِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ لِلْمُطَفِّفِينَ، انْقَلَبَ إِلَى قَوْلِكَ:
إِذَا أَخَذُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا، وَإِذَا تَوَلَّوُا الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ هُمْ عَلَى الْخُصُوصِ أَخْسَرُوا، وَهُوَ كَلَامٌ مُتَنَافِرٌ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الْمُبَاشِرِ. انْتَهَى. وَلَا تَنَافُرَ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُؤَكَّدَ الضَّمِيرُ وَأَنْ لَا يُؤَكَّدَ، وَالْحَدِيثُ وَاقِعٌ فِي الْفِعْلِ. غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنْ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِيفَاءِ، وَهُوَ عَلَى النَّاسِ، مَذْكُورٌ وَهُوَ فِي كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ، مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُخْسِرُونَ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ إِذَا كَانَ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّمَا يُخْسِرُونَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لَا. قِيلَ أَوِ اتَّزَنُوا، كَمَا قِيلَ أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قُلْتُ:
كَأَنَّ الْمُطَفِّفِينَ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ إِلَّا بِالْمَكَايِيلِ دُونَ الْمَوَازِينِ لِتَمَكُّنِهِمْ بِالِاكْتِيَالِ مِنِ الِاسْتِيفَاءِ وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّهُمْ يُدَعْدِعُونَ وَيَحْتَالُونَ فِي الْمَلْءِ، وَإِذَا أَعْطَوْا كَالُوا أَوْ
426
وَزَنُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنَ الْبَخْسِ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. يُخْسِرُونَ: ينقصون. انتهى.
ويخسرون مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ، يُقَالُ: خَسِرَ الرَّجُلُ وَأَخْسَرَهُ غَيْرُهُ.
أَلا يَظُنُّ: تَوْقِيفٌ عَلَى أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَإِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، أَيْ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ويوم ظَرْفٌ، الْعَامِلُ فِيهِ مُقَدَّرٌ، أَيْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَبْعُوثُونَ، وَيَكُونَ مَعْنَى لِيَوْمٍ: أَيْ لِحِسَابِ يَوْمٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ عَظِيمٍ، لَكِنَّهُ بني وقرىء يَوْمَ يَقُومُ بِالْجَرِّ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ لِيَوْمٍ، حَكَاهُ أبو معاد. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَوْمُ بِالرَّفْعِ، أَيْ ذَلِكَ يَوْمٌ، وَيَظُنُّ بِمَعْنَى يُوقِنُ، أَوْ هُوَ عَلَى وَضْعِهِ مِنَ التَّرْجِيحِ. وَفِي هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، وَوَصْفِ الْيَوْمِ بِالْعِظَمِ، وَقِيَامِ النَّاسِ لِلَّهِ خَاضِعِينَ، وَوَصْفِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ هَذَا الذَّنْبِ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. كَلَّا:
رَدْعٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّطْفِيفِ،
وَهَذَا الْقِيَامُ تَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَفِي هَذَا الْقِيَامِ إِلْجَامُ الْعَرَقِ لِلنَّاسِ، وَأَحْوَالُهُمْ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْفُجَّارُ:
الْكُفَّارُ، وَكِتَابُهُمْ هُوَ الَّذِي فِيهِ تحصيل أعمالهم. سِجِّينٌ، قَالَ الْجُمْهُورُ: فِعِّيلٌ مِنَ السِّجْنِ، كَسِكِّيرٍ، أَوْ فِي مَوْضِعِ سَاجِنٍ، فَجَاءَ بِنَاءَ مُبَالَغَةٍ، فَسَجِّينٌ عَلَى هَذَا صِفَةٌ لِمَوْضِعِ الْمَحْذُوفِ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
وَرُفْقَةٌ يَضْرِبُونَ الْبَيْضَ ضَاحِيَةً ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الْأَبْطَالُ سِجِّينَا
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا سِجِّينٌ، أَصِفَةٌ هُوَ أَمِ اسْمٌ؟ قُلْتُ: بَلْ هُوَ اسْمُ عَلَمٍ مَنْقُولٍ مِنْ وَصْفٍ كَحَاتِمٍ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّعْرِيفُ.
انْتَهَى. وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ أَنَّهُ كِتَابٌ جَامِعٌ، وَهُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ، دَوَّنَ اللَّهُ فِيهِ أَعْمَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَعْمَالَ الْكَفَرَةِ وَالْفَسَقَةِ مِنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهُوَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ: مَسْطُورٌ بَيْنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ مُعَلَّمٌ يَعْلَمُ مَنْ رَآهُ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِ الْفُجَّارِ مُثْبَتٌ فِي ذَلِكَ الدِّيوَانِ. انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا فِي سِجِّينٍ إِذَا كَانَ مَكَانًا اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا حَذَفْنَا ذِكْرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سِجِّينًا هُوَ كِتَابٌ، وَلِذَلِكَ أُبْدِلَ مِنْهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سِجِّينٌ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، كَمَا تَقُولُ: بَلَغَ فُلَانٌ الْحَضِيضَ إِذَا صَارَ فِي غَايَةِ الْجُمُودِ. وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: سِجِّينٌ، نُونُهُ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ، وَهُوَ مِنَ السِّجِّيلِ، فَتَلَخَّصَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أن سجين نُونُهُ أَصْلِيَّةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ لَامٍ. وَإِذَا كَانَتْ أَصْلِيَّةً، فَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السِّجْنِ. وَقِيلَ: هُوَ مَكَانٌ، فَيَكُونُ كِتابٌ مَرْقُومٌ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ كِتَابٌ. وَعَنَى بِالضَّمِيرِ عَوْدَهُ عَلَى كِتابَ الفُجَّارِ، أَوْ عَلَى سِجِّينٌ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ هُوَ مَحَلُّ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وكِتابٌ
427
مَرْقُومٌ
تَفْسِيرٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ. وَالضَّمِيرُ الْمُقَدَّرُ الَّذِي هُوَ عَائِدٌ عَلَى سِجِّينٌ، أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَسَارِ وَالْهَوَانِ، هَلْ هُوَ صِفَةٌ أَوْ عَلَمٌ؟ وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ:
أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُ. مَرْقُومٌ: أَيْ مُثْبَتٌ كَالرَّقْمِ لَا يَبْلَى وَلَا يُمْحَى. قَالَ قَتَادَةُ: رُقِمَ لَهُمْ: بِشَرٍّ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مَرْقُومٌ:
مَخْتُومٌ بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وَأَصْلُ الرَّقْمِ الْكِتَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَأَرْقُمُ فِي الْمَاءِ الْقُرَاحِ إِلَيْكُمْ عَلَى بُعْدِكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمَاءِ رَاقِمُ
وَتَبَيَّنَ مِنَ الْإِعْرَابِ السَّابِقِ أَنَّ كِتابٌ مَرْقُومٌ بَدَلٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَكَانَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَدْ قَالَ: إِنَّ سِجِّينًا مَوْضِعُ سَاجِنٍ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَعِبَارَةٌ عَنِ الْخَسَارِ عَلَى قَوْلِ عِكْرِمَةَ، ثم قَالَ: كِتابٌ مَرْقُومٌ. مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سِجِّينٍ، فَكِتَابٌ مُرْتَفِعٌ عِنْدَهُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ، وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى. وَمَنْ قَالَ فِي سِجِّينٍ بِالْقَوْلِ الثَّانِي، فَكِتَابٌ مَرْقُومٌ عَلَى خَبَرِ ابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ التَّقْدِيرُ هُوَ كِتابٌ مَرْقُومٌ، وَيَكُونُ هَذَا الْكِتَابُ مُفَسِّرًا لِسِجِّينٍ مَا هُوَ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ: وَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ لَفِي سِجِّينٍ مُلْغًى قَوْلٌ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ اللَّامَ الَّتِي فِي لَفِي سِجِّينٍ دَاخِلَةٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِذَا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَلَا إِلْغَاءَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، بَلْ هُوَ الْخَبَرُ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّامُ دَخَلَتْ فِي لَفِي سِجِّينٍ عَلَى فَضْلَةٍ هِيَ مَعْمُولَةٌ لِلْخَبَرِ أَوْ لِصِفَةِ الْخَبَرِ، فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُلْغًى لَا خَبَرًا، لِأَنَّ كِتَابٌ مَوْصُوفٌ بِمَرْقُومٍ فَلَا يَعْمَلُ، وَلِأَنَّ مَرْقُومًا الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِكِتَابٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ اللَّامُ فِي مَعْمُولِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَعْمُولُهُ عَلَى الْمَوْصُوفِ، فَتَعَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: لَفِي سِجِّينٍ هُوَ خَبَرُ إِنَّ.
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ: صِفَةُ ذَمٍّ، كُلُّ مُعْتَدٍ: مُتَجَاوِزِ الْحَدِّ، أَثِيمٍ: صِفَةُ مُبَالَغَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِذا وَالْحَسَنُ: أَئِذَا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ. وَالْجُمْهُورُ: تُتْلى بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ مِقْسَمٍ: بِالْيَاءِ. قِيلَ: وَنَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَرْثِ. بَلْ رانَ، قُرِئَ بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَقَفَ حَمْزَةُ عَلَى بل وقفا خفيفا يسير التبيين الْإِظْهَارِ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَاذِشِ: وَأَجْمَعُوا، يَعْنِي الْقُرَّاءَ، عَلَى إِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَكْتِ حَفْصٍ عَلَى بَلْ، ثُمَّ يَقُولُ: رانَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ. فَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ عَنْ قَالُونَ: مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ إِظْهَارُ اللَّامِ عِنْدَ الرَّاءِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ «١»، بَلْ رَبُّكُمْ «٢». وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ: بَلْ رانَ
(١) سورة النساء: ٤/ ١٥٨. [.....]
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٥٦.
428
غَيْرَ مُدْغَمٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيْضًا بِالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: اللَّامُ مَعَ الرَّاءِ نَحْوَ: أَسْفَلُ رَحِمِهِ الْبَيَانُ وَالْإِدْغَامُ حَسَنَانِ. وقال الزمخشري: وقرى بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي الرَّاءِ، وَبِالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامُ أَجْوَدُ، وَأُمِيلَتِ الْأَلِفُ وَفُخِّمَتْ. انْتَهَى. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فَإِذَا كَانَتْ، يَعْنِي اللَّامَ، غَيْرَ لَامِ الْمَعْرِفَةِ، نَحْوَ لَامِ هَلْ وَبَلْ، فَإِنَّ الْإِدْغَامَ فِي بَعْضِهَا أَحْسَنُ، وَذَلِكَ نَحْوُ:
هَلْ رَأَيْتَ؟ فَإِنْ لَمْ تُدْغِمْ فَقُلْتَ: هَلْ رَأَيْتَ؟ فَهِيَ لُغَةٌ لِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ غَرِيبَةٌ جَائِزَةٌ.
انْتَهَى. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى يَمُوتَ قَلْبُهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ. وَفِي الْحَدِيثِ نَحْوٌ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سَلَّامٍ: غَطَّى. مَا كانُوا يَكْسِبُونَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَّقَ اللَّوْمَ بِهِمْ فِيمَا كَسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِخَلْقٍ مِنْهُ تَعَالَى وَاخْتِرَاعٍ، لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَعَلِّقَانِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لِلْكُفَّارِ. فَمَنْ قَالَ بِالرُّؤْيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ، فَهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْهُ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ الرُّؤْيَةُ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَإِلَّا فَلَوْ حَجَبَ الْكُلَّ لَمَا أَغْنَى هَذَا التَّخْصِيصُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا حَجَبَ قَوْمًا بِالسُّخْطِ، دَلَّ عَلَى أَنْ قَوْمًا يَرَوْنَهُ بِالرِّضَا. وَمَنْ قَالَ بِأَنْ لَا رُؤْيَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، قَالَ: إِنَّهُمْ يُحْجَبُونَ عَنْ رَبِّهِمْ وَغُفْرَانِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمَّا حَجَبَ أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ، تَجَلَّى لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا رَدْعٌ عَنِ الْكَسْبِ الراثن عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَكَوْنُهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ تَمْثِيلٌ لِلِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ وَإِهَانَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْذَنُ عَلَى الْمُلُوكِ إِلَّا لِلْوُجَهَاءِ الْمُكَرَّمِينَ لَدَيْهِمْ، وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُمْ إِلَّا الْأَدْنِيَاءُ الْمُهَانُونَ عِنْدَهُمْ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عَيْبَةٍ رُحِّبُوا وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَرْحُوبٍ وَمَحْجُوبِ
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: مَحْجُوبِينَ عَنْ رَحْمَتِهِ. وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ: عَنْ كَرَامَتِهِ. انْتَهَى. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَعْنَى مَحْجُوبُونَ عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعَنْ رَبِّهِمْ مُتَعَلِّقٌ بمحجوبون، وَهُوَ الْعَامِلُ فِي يَوْمَئِذٍ، وَالتَّنْوِينُ تَنْوِينُ الْعِوَضِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَمْ تَتَقَدَّمْ جُمْلَةٌ قَرِيبَةٌ يَكُونُ عِوَضًا مِنْهَا، لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، فَهُوَ عِوَضٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمَ إِذِ يَقُومُ النَّاسُ. ثُمَّ هُمْ مَعَ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ هم صالوا النَّارِ، وَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْحِجَابِ. ثُمَّ يُقالُ: أَيْ تَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ. هذَا، أَيِ الْعَذَابُ وَصَلْيُ النَّارِ وَهَذَا الْيَوْمُ، الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هذَا الَّذِي، يَعْنِي الْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ بُنِيَ لَهُ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ يُقَالُ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ
429
عَلَى نَحْوِ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ «١».
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَمْرَ كِتَابِ الْفُجَّارِ، عَقَّبَهُ بِذِكْرِ كِتَابِ ضِدِّهِمْ لِيَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ. عِلِّيُّونَ:
جَمْعٌ وَاحِدُهُ عَلِيٌّ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ، قَالَهُ يُونُسُ وَابْنُ جِنِّيٍّ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ:
وَسَبِيلُهُ أَنْ يُقَالَ عِلِّيَّةٌ، كَمَا قَالُوا لِلْغُرْفَةِ عِلِّيَّةٌ، فَلَمَّا حُذِفَتِ التَّاءُ عَوَّضُوا مِنْهَا الْجَمْعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقِيلَ: هُوَ وَصْفٌ لِلْمَلَائِكَةِ، فَلِذَلِكَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ، وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ: عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَالْعَرَبُ إِذَا جَمَعَتْ جَمْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِنَاءٌ مِنْ وَاحِدِهِ وَلَا تَثْنِيَةٌ، قَالُوا فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أُعْرِبَ هَذَا الِاسْمُ كَإِعْرَابِ الْجَمْعِ، هَذِهِ قَنْسَرُونَ، وَرَأَيْتُ قَنْسَرِينَ.
وَعِلِّيُّونَ: الْمَلَائِكَةُ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الْعَلِيَّةُ، أَوْ عَلَمٌ لِدِيوَانِ الْخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ كُلُّ مَا عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَصُلَحَاءُ الثَّقَلَيْنِ، أَوْ عُلُوٌّ فِي عُلُوٍّ مُضَاعَفٍ، أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ لِلزَّمَخْشَرِيِّ.
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: كِتابَ الْأَبْرارِ: كِتَابَةَ أَعْمَالِهِمْ، لَفِي عِلِّيِّينَ. ثُمَّ وَصَفَ عِلِّيِّينَ بِأَنَّهُ كِتابٌ مَرْقُومٌ فِيهِ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْأَبْرَارِ. وَإِذَا كَانَ مَكَانًا فَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا مُضْطَرِبًا رَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ. وَإِعْرَابُ لَفِي عِلِّيِّينَ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ كَإِعْرَابِ لَفِي سِجِّينٍ، وكِتابٌ مَرْقُومٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وكِتابٌ مَرْقُومٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرَ أَنَّ وَالظَّرْفُ مُلْغًى. انْتَهَى. هَذَا كَمَا قَالَ فِي لَفِي سِجِّينٍ، وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهَذَا مِثْلُهُ.
وَالْمُقَرَّبُونَ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ، يَنْظُرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى أَهْلِ النَّارِ.
وَقِيلَ: يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَعْرِفُ بتاء الْخِطَابُ، لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، أو
(١) سورة البقرة: ٢/ ١١.
430
لِلنَّاظِرِ. نَضْرَةَ النَّعِيمِ، نَصْبًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَطَلْحَةُ وَشَيْبَةُ وَيَعْقُوبُ وَالزَّعْفَرَانِيُّ: تُعْرَفُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، نَضْرَةُ رَفْعًا وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ: يُعْرَفُ بِالْيَاءِ، إِذْ تَأْنِيثُ نَضْرَةٍ مَجَازِيٌّ وَالنَّضْرَةُ تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي قَوْلِهِ: نَضْرَةً وَسُرُوراً «١».
مَخْتُومٍ، الظَّاهِرُ أَنَّ الرَّحِيقَ خُتِمَ عَلَيْهِ تَهَمُّمًا وَتَنَظُّفًا بِالرَّائِحَةِ الْمِسْكِيَّةِ، كَمَا فَسَّرَهُ مَا بَعْدَهُ. وَقِيلَ: تُخْتَمُ أَوَانِيهِ مِنَ الْأَكْوَابِ وَالْأَبَارِيقِ بِمِسْكٍ مَكَانَ الطِّينَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
خِتامُهُ: أَيْ خَلْطُهُ وَمِزَاجُهُ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ:
مَعْنَاهُ خَاتِمَتُهُ، أَيْ يَجِدُ الرَّائِحَةَ عِنْدَ خَاتِمَةِ الشَّرَابِ، رَائِحَةَ الْمِسْكِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَيْ أَبْزَارُهُ الْمُقَطَّعُ وَذَكَاءُ الرَّائِحَةِ مَعَ طِيبِ الطَّعْمِ. وَقِيلَ: يُمْزَجُ بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ مِزَاجُهُ بِالْمِسْكِ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْخِتَامُ: الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: خُتِمَ إِنَاؤُهُ بِالْمِسْكِ بَدَلَ الطِّينِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَأَنَّ مُشَعْشَعًا مِنْ خَمْرِ بصرى نمته البحت مَشْدُودُ الْخِتَامِ
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالنَّخَعِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْكِسَائِيُّ:
خَاتَمُهُ، بَعْدَ الْخَاءِ أَلِفٌ وَفَتَحَ التَّاءَ
، وَهَذِهِ بَيِّنَةُ الْمَعْنَى، إِنَّهُ يُرَادُ بِهَا الطَّبْعُ عَلَى الرَّحِيقِ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَعِيسَى وَأَحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْطَاكِيُّ عَنِ الْكِسَائِيِّ: كَسْرُ التَّاءِ، أَيْ آخِرُهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «٢»، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَيْ خَاتِمُ رَائِحَتِهِ الْمِسْكُ أَوْ خَاتَمُهُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ وَيُقْطَعُ. مِنْ تَسْنِيمٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ الْجَنَّةِ، وَهُوَ اسْمٌ مُذَّكَّرٌ لِمَاءِ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَسْنِيمٍ: عَلَمٌ لَعِينٌ بِعَيْنِهَا، سُمِّيَتْ بِالتَّسْنِيمِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ سنمه إذا رفعه. وعَيْناً نُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَى الْحَالِ. انْتَهَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُسْقَوْنَ عَيْنًا، يَشْرَبُ بِهَا: أَيْ يَشْرَبُهَا أَوْ مِنْهَا، أَوْ ضَمَّنَ يَشْرَبُ مَعْنَى يُرْوَى بِهَا أَقْوَالٌ. الْمُقَرَّبُونَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو صَالِحٍ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلْأَبْرَارِ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْأَبْرَارُ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَأَنَّ الْمُقَرَّبِينَ هُمُ السَّابِقُونَ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْأَبْرَارُ وَالْمُقَرَّبُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ يَقَعُ لِكُلِّ مَنْ نُعِّمَ فِي الْجَنَّةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَجَمْعًا مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَرُّوا بِجَمْعٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَضَحِكُوا مِنْهُمْ وَاسْتَخَفُّوا بِهِمْ عَبَثًا، فَنَزَلَتْ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
(١) سورة الإنسان: ٧٦/ ١١.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٠.
431
إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَكُفَّارُ مَكَّةَ هَؤُلَاءِ قِيلَ هُمْ: أَبُو جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَالْمُؤْمِنُونَ: عَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَخَبَّابٌ، وَبِلَالٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مَرُّوا
عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ أَجْرَمُوا، إِذْ فِي ذَلِكَ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِوَاحِدٍ.
وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَإِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْكَافِرِينَ يَتَغَامَزُ الْكَافِرُونَ، أي يشيرون بأعينهم.
وفَكِهِينَ: أَيْ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِهِمْ وَبِالضَّحِكِ مِنْهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِالْأَلِفِ، أَيْ أَصْحَابُ فَاكِهَةٍ ومرح وَسُرُورٍ بِاسْتِخْفَافِهِمْ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وأبو رجاء والحسن وعكرمة وَأَبُو جَعْفَرٍ وَحَفْصٌ: بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي رَأَوْهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، أَيْ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ نَسَبُوهُمْ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُمْ مُحِقُّونَ فِي نِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ.
وَما أُرْسِلُوا عَلَى الْكُفَّارِ، حافِظِينَ. وَفِي الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ ضَالُّونَ إِثَارَةٌ لِلْكَلَامِ بَيْنَهُمْ. وَكَانَ فِي الْآيَةِ بَعْضُ مُوَادَعَةٍ، أَيْ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُرْسَلُوا حَافِظِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّهُمْ لَمْ يُرْسَلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، إِنْكَارًا لِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَجِدِّهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قِيلَ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا، واليوم منصوب بيضحكون منهم في الآخرة، وينظرون حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَضْحَكُونَ، أَيْ يَضْحَكُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ. وَقَالَ كَعْبٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُوًى يَنْظُرُونَ مِنْهَا إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: سِتْرٌ شَفَّافٌ بَيْنَهُمْ يَرَوْنَ مِنْهُ حَالَهُمْ. هَلْ ثُوِّبَ: أَيْ هَلْ جُوزِيَ؟ يُقَالُ: ثَوَّبَهُ وَأَثَابَهُ إِذَا جَازَاهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَأَجْزِيكَ أَوْ يَجْزِيكَ عَنِّي مُثَوِّبٌ وَحَسْبُكَ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكَ وَتُحْمَدَ
وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ هَلْ جُوزُوا بِهَا؟ وَقِيلَ: هَلْ ثُوِّبَ مُتَعَلِّقٌ بينظرون، وَيَنْظُرُونَ مُعَلَّقٌ بِالْجُمْلَةِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ إِلَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: هَلْ ثُوِّبَ بِإِظْهَارِ لَامِ هَلْ وَالنَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ:
بِإِدْغَامِهَا فِي الثَّاءِ وَفِي قَوْلِهِ: مَا كانُوا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزَاءَ أَوْ عِقَابَ: مَا كانُوا يَفْعَلُونَ.
432
سورة المطففين
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المُطفِّفين) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بوعيد المُطفِّفين الذين يتلاعبون بالميزان بُغْيةَ خداع الناس، متناسِين أنَّ هناك يومًا يبعثُ اللهُ فيه الخلائقَ، يحاسبهم على كلِّ صغيرة وكبيرة، وقد جاء فيها وعيدُ الفُجَّار بالعقاب الأليم، ووعدُ الأبرار بالثواب العظيم، وإكرامُ المؤمنين وإيلامُ المجرمين يوم البعث؛ جزاءً لهم على أعمالهم، وفي هذا كلِّه دعوةٌ للمُطفِّفين أن يؤُوبُوا إلى الله، ويَرجِعوا عن باطلهم.

ترتيبها المصحفي
83
نوعها
مكية
ألفاظها
170
ترتيب نزولها
86
العد المدني الأول
36
العد المدني الأخير
36
العد البصري
36
العد الكوفي
36
العد الشامي
36

* قوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ، كانوا مِن أخبَثِ الناسِ كَيْلًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ فأحسَنوا الكَيْلَ بعد ذلك». أخرجه ابن حبان (٤٩١٩).

* سورة (المُطفِّفين):

سُمِّيت سورة (المُطفِّفين) بذلك؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ وهم: الذين يتلاعبون في المكيال بُغْيةَ خداع الناس.

1. إعلان الحرب على المُطفِّفين (١-٦).

2. وعيد الفُجَّار بالعقاب الأليم (٧-١٧).

3. وعد الأبرار بالثواب العظيم (١٨-٢٨).

4. إكرام المؤمنين، وإيلام المجرمين (٢٩-٣٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /66).

يقول ابن عاشور: «اشتملت على التحذيرِ من التطفيف في الكيل والوزن، وتفظيعِه بأنه تحيُّلٌ على أكلِ مال الناس في حال المعاملة أخذًا وإعطاءً.
وأن ذلك مما سيُحاسَبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوفٌ عند ربهم؛ ليَفصِلَ بينهم، وليجازيَهم على أعمالهم، وأن الأعمال مُحصاةٌ عند الله.
ووعيد الذين يُكذِّبون بيوم الجزاء، والذين يُكذِّبون بأن القرآن منزل من عند الله.

وقوبل حالُهم بضدِّه من حال الأبرار أهلِ الإيمان، ورفعِ درجاتهم، وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين، وذكرِ صُوَرٍ من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل؛ إذ كان المشركون يَسخَرون من المؤمنين، ويَلمِزونهم، ويستضعفونهم، وكيف انقلب الحالُ في العالم الأبدي». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /188).