تفسير سورة المطفّفين

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل

تفسير سورة سورة المطففين من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

يعني الذين يُنقِصُونَ الناسَ، ويَبخَسُونَ حقوقَهم في الكَيْلِ والوزنِ. والويلُ: الشدَّةُ في العذاب، وهي كلمةٌ تُسْتَعْمَلُ لكلِّ مَن وقعَ في الْهَلَكَةِ. وها هنا رُفع بالابتداءِ وخبرهُ ﴿ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾.
والتَّطْفِيفُ: التَّنقيصُ في الكيلِ والوزن، والطَّفيفُ: الشيء القليلُ، وإناءٌ طَفْآنٌ إذا لم يكن مَلآن.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴾، يعني إذا اكتَالوا من الناسِ و(على) و(من) يتعاقَبان. والمعنى: إذا أخَذُوا من الناسِ حُقوقَهم أخذوهُ على الوفاءِ.
﴿ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾؛ وإذا كَالُوا للناسَ أو وزَنوا لهم يُنقِصُون في الكيلِ والوزنِ. والإخْسَارُ والْخَسَارُ بمعنىً واحد. واطلاقُ لفظ المطلَقِ لا يتناولُ إلاَّ مَن يتفاحشُ منه التطفيفُ، بحيث لو وقعَ ذلك المقدارُ في التفاوُتِ بين الكيلَين العَدلَين لزادَ عليه، وأما الإيفاءُ بين الناس فإنَّهم يجتَهدون في استيفاء حقوقِهم أن يكون ذلك أميلَ إلى الرُّجْحان، كما رُوي:" أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَضَى دَيْنَهُ فَأَرْجَحَ " فَقِيلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقَالَ: " إنَّا كَذلِكَ نَزِنُ " ".
معناهُ ألاَ يستيقنُ أولئكَ أنَّهم مبعُوثون، وفيه بيانُ أنَّ التطفيفَ ليس يفعلهُ مَن يعلمُ أنه مبعوثٌ للحساب ليومٍ عظيم وهو يومُ القيامةِ، كأنه قالَ: لو علِمُوا أنَّهم مبعُوثون ما نقَصُوا في الكيلِ والوزن، وكان الحسنُ يقول: ((نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْمُوَحِّدِينَ، وَمَا آمَنَ بيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ طَفَّفَ فِي الْمِيزَانِ)).
فيه بيانُ صفةِ ذلك اليوم، قال الكلبيُّ: ((يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلاََثَمِائَةِ سَنَةٍ لاَ يُؤْذنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُواْ)). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ:" يَقُومُ النَّاسُ لِرَب الْعَالَمِينَ حَتَّى أنَّ أحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلَى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ، وَحَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ: رَب أرحْنِي وَلَوْ إلَى النَّار ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" " خَمْسٌ بخَمْسٍ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا خَمْسٌ بخَمْسٍ؟ قَالَ: " مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَمَا ظَهَرَتِ فِيهِم الْفَاحِشَةُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلاَ طَفَّفَوا الْكَيلَ إلاَّ مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُواْ بالسِّنِينِ، وَلاَ مَنَعُواْ الزَّكَاةَ إلاَّ حَبَسَ اللهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ". وعن مالكِ بن دينار قالَ: ((دَخَلْتُ عَلَى جَارٍ لِي، وَقَدْ نَزَلَ بهِ الْمَوْتُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَا تَقُولُ؟! قَالَ: يَا أبَا يَحْيَى كَانَ لِي مِكْيَالاَنِ أكِيلُ بأَحَدِهِمَا وَأكْتَالُ بالآخَرِ، قَالَ: فَقُمْتُ فَجَعَلْتُ أضْرِبُ أحَدَهُمَا بالآخَرِ، فَقَالَ: يَا أبَا يَحْيَى كُلَّمَا ضَرَبْتَ أحَدَهُمَا بالآخَرِ ازْدَادَ عَلَيَّ عِظَماً، قَالَ: فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذلِكَ)). وقال عكرمةُ: ((اشْهَدُواْ عَلَى كُلِّ كَيَّالٍ وَوَزَّانٍ أنَّهُ فِي النَّار))، قِيلَ: إنَّ ابْنَكَ كَيَّالٌ أوْ وَزَّانٌ، قَالَ: ((اشْهَدُوا أنَّهُ فِي النَّار)). وكان ابنُ عمرَ يَمُرُّ بالْبَائِعِ فَيَقُولُ لَهُ: ((اتَّقِ اللهَ وَأوْفِ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بالْقِسْطِ؛ فَإنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أنَّ الْعَرَقَ لَيَلْجُمُهُمْ إلَى أنْصَافِ آذانِهِمْ)). ومرَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ يَزِنُ الزَّعْفَرَانَ فَقَالَ: ((أقِمِ الْوَزْنَ بالْقِسْطِ، ثُمَّ أرْجِحْ بَعْدَ ذلِكَ مَا شِئْتَ)).
أي ليس الأمرُ على ما يظُنون أنَّهم لا يُبعثون ليومٍ عظيم، وَقِيْلَ: إن ﴿ كَلاَّ ﴾ هاهنا كلمةُ ردعٍ وزَجرٍ؛ أي ارتَدِعوا عن التطفيفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ يعني الكتابَ الذي يُكتَبُ فيه أعمالُهم، قال ابنُ عبَّاس: ((السِّجِّينُ صَخْرَةٌ سَوْدَاءُ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابعَةِ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الأَرْضُونَ، مَكْتُوبٌ فِيهَا عَمَلُ الْفُجَّار)). عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" سِجِّينُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مَفْتُوحٌ، وَالْفَلَقُ جُبٌّ فِي النَّار مُغَطَّى ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴾؛ تعجُّبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ليسَ ذلك مما تعلَمهُ أنتَ ولا قومُكَ؛ لأنَّكم لم تعاينوهُ، ثم فسَّرهُ فقال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾؛ أي مُثْبَتٌ عليهم في تلك الصَّخرة كالرَّقمِ في الثوب لا يُنسَى ولا يُمحَا حتى يُجَازُونَ به، ومعنى الرَّقمِ على هذا القولِ هو الطَّبعُ في الحجَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾؛ يعني الوليدَ بن المغيرةِ.
﴿ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾، كان إذا قُرئَ عليهِ القرآنُ.
﴿ قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ أحاديثُهم وأباطيلهم التي سطَّرُوها في الكُتب، وهذه الآيةُ عامَّةٌ في كلِّ كافرٍ يقول مثلَ مقالتهِ، والمعتدِي هو المتجاوزُ عن الحدِّ في المعصيةِ، والأثيمُ كثيرُ الإثْمِ.
أي حَاشَا أن يكون القرآنُ أساطيرَ الأوَّلين، بل غلبَ على قُلوبهم ما كانوا يكسِبُون من الكُفرِ والمعصيةِ، يقالُ: رَانَتِ الخمرُ على عقلهِ إذا سَكِرَ فغلبَتْ على عقلهِ، ويقالُ في معنى الرَّيْنِ: إنَّه كثرةُ الذُّنوب كالصَّدى يغشَى على القلب، وقال الحسنُ: ((هُوَ الذنْبُ عَلَى الذنْب حَتَّى يَمُوتَ الْقَلْبُ)). وقال مجاهدُ: ((هُوَ الطَّبْعُ)). وفي الحديثِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" الْمُؤْمِنُ إذا أخْطَأَ خَطِيئَةً كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبهِ، فَإنَّ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَإنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فِي الرَّيْنِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابهِ ﴿ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾؛ أي حَقّاً إنَّهم عن رحمةِ ربهم وكرامتهِ لمَمنُوعون؛ ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ ﴾؛ أي أنَّهم مع كونِهم مَمنوعون عن الجنَّةِ ونعيمها، يدخُلون الجحيمَ غيرَ خارجين منها أبداً.
﴿ ثُمَّ يُقَالُ ﴾؛ لهم على وجهِ التَّقريع على طريقِ الذمِّ.
﴿ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾؛ في الدُّنيا. وَقِيْلَ: معناه محجُوبون عن رؤيةِ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾؛ أي حَقّاً إنَّ عملَ الأبرار وهم الصَّادقون في إيمانِهم لمكتوبٌ في أعلىَ الأمكِنة فوقَ السَّماء السابعة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾؛ تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ ذلك غيرُ معلومٍ وسيعرفهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾؛ تفسيرٌ للكتاب الذي في عليِّين إعظاماً لذلكَ الكتاب وتشريفاً، وفي إعظامِ كتاب المرءِ إعظاماً له. وقال قتادةُ: ((عِلِّيُّونَ قَائِمَةٌ بالْعَرْشِ الْيُمْنَى))، وقال مقاتلُ: ((سَاقُ الْعَرْشِ إلَيْهِ تُرْفَعُ أرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ)). وَقِيْلَ: إنَّ العليِّين جمعُ العِلِّيَّةِ، وهي المرتبةُ العالية مَحْفُوفَةٌ بالجلالةِ. وقال بعضُهم: معناهُ: عُلُوٌّ في عُلُوٍّ مضاعفٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾؛ أي يحضرهُ السَّبعة أملاكٍ الذين ذكرنَاهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾؛ أي في نعيمٍ دائمٍ وهو نعيمُ الجنَّة.
﴿ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾؛ أي على السُّرُر من الدُّرِّ والياقوتِ في القِبَاب المضروبةِ ينظُرون إلى نعيمِ الجنَّة. وَقِيْلَ: إلى أعدائِهم كيف يُعذبون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ ﴾؛ أي بريقُ النعيمِ ونورهُ ونظارتهُ وبَهجته وحُسنه.
﴿ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾؛ أي خمرٌ صافية خالصة من الغشِّ بيضاءُ مختومة بالمسكِ، قال قتادةُ: ((تُمْزَجُ لَهُمْ بالْكَافُور، وَتُخْتَمُ لَهُمْ بالْمِسْكِ)). وَقِيْلَ: معناهُ: آخِرُ طعمهِ مِسكٌ. وقرأ علقمةُ (خَاتَمَهُ مِسْكٌ) أي آخرهُ، ويقال: معناهُ: أنَّهم إذا شَربوا من ذلك الشَّراب انختمَ ذلك بطعمِ المسكِ ورائحته. ويقال: معنى المختومِ ها هنا أنَّ ذلك الشرابَ في الآخرةِ هو مختومٌ بالمسكِ بدلَ الطِّين الذي يُختم بمثلهِ الشَّراب في الدُّنيا، فهو مختومٌ بالمسكِ يومَ خَلقهِ الله تعالى لا ينفَكُّ حتى يَدْخُلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فينفكُّ ذلك لَهم تعظيماً لشرابهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ ﴾؛ أي في مثلِ هذا النعيمِ فليَرغب الرَّاغِبون وليجتهد المجتهدون، لا في النعيمِ الذي هو مكدَّرٌ لسُرعَةِ الفناءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ﴾؛ معناهُ: ومِزَاجُ الرَّحيقِ من عَينٍ تنْزلُ عليهم من ساقٍ العرشِ، سُميت بذلك؛ لأنَّها تُسنَمُ عليهم، فتَنصَبُّ انصِباباً من فوقِهم في منازلهم، ومنهُ سَنَامُ البعيرِ لعُلوِّه من بدنهِ، وذلك الشَّراب إذا كان أعلاَ كان أطيبَ وأهنأَ.
قَوْلُهُ تعَالىَ: ﴿ عَيْناً ﴾؛ منصوبٌ على الحالِ؛ أي في الحالِ التي تكون عَيناً لا ماءً رَاكداً. وَقِيْلَ: انتصبَ على تقديرِ يُسقَون عَيْناً أو مِن عينٍ. وَقِيْلَ: على إضمار أعنِي عَيناً. وقوله تعالى: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾؛ يشربُ بها أفاضلُ أهلِ الجنَّة صَرفاً بغيرِ مزاجٍ، ويشربُها سائرُ أهلِ الجنَّة بالمزاجِ، وَقِيْلَ: إنَّ الباءَ في قولهِ ﴿ بِهَا ﴾ زائدةٌ كما في قوله﴿ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ ﴾[المؤمنون: ٢٠].
وَقِيْلَ: إنَّ التسنيمَ عينٌ تجري في الهواءِ في أوانِي أهلِ الجنة على مقدار مائها، فإذا امتلأَتْ أُمسِكَ الماءُ حتى لا يقعَ منه قطرةٌ على الأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ ﴾؛ معناهُ: إنَّ الذينَ أشرَكوا وهم أبو جهلٍ، والوليدُ بن المغيرةِ، والعاصي بن وائلِ وأصحابهُ من مُشرِكي مكَّة كانوا يضحَكون من ضَعَفَةِ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم بلالُ وصُهيب وعمَّار وسَلمان، كانوا يستَهزِئون بهم ويعيِّرونَهم على الإسلام.
﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ ﴾؛ أي مرَّ بهم أحدٌ من أصحاب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وهم جلوسٌ.
﴿ يَتَغَامَزُونَ ﴾؛ بالطَّرْفِ طَعناً عليهم. وكانوا يُقولون: انظُروا إلى هؤلاءِ الذين ترَكُوا شهوتِهم في الدُّنيا يطلُبون بذلك نعيمَ الآخرةِ بزَعمِهم.
﴿ وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ ﴾؛ وكانوا إذا رجَعُوا إلى أهلِهم يرجِعُوا فَاكِهين؛ أي ناعِمين فرِحين مُعجَبين بما هم فيه لا يُبالون بما فعَلوا بالمؤمنين.
﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ ﴾، ويقولون إنَّهم ضالُّون باتِّباعِهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
أي ما أُرسِلَ الكفارُ ليحفَظُوا على المؤمنين أفعالَهم، فما لَهم وإيَّاهم؟ بل أرسَل المؤمنين ليحفَظُوا على الكفار أفعالَهم، فيشهَدُوا عليهم يومَ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾؛ معناهُ: يومَ القيامةِ الذين صدَّقوا بتوحيدِ الله، ونُبوَّة رسولهِ يضحَكون من الكفَّار قَصاصاً وشَماتةً بهم كما ضَحِكَ الكفارُ منهم في الدُّنيا.
﴿ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾؛ أي على السُّرر في الحِجَالِ جَالسون ينظُرون إلى أهلِ النار كيف يُعذبون. وذلك أنَّهُ يُفْتَحُ بَيْنَهم وبين الكفَّار بابٌ إلى الجنَّة، فإذا نظرَ الكفَّارُ إلى ذلك الباب أقبَلوا نحوَهُ يُسحَبون في النار، فإذا انتَهوا إلى الباب سُدَّ عنهم، فعند ذلك يضحكُ المؤمنون وهُم على الأرائِك في الدَّرجات، يقول يُطلعهم اللهُ على أهلِ النار الذين كانوا يسخَرون منهم في الدُّنيا، فيرونَهم في النار يَدُورون فيها وإنَّ جَماجِمَهم لتَغلي من حرِّ النار، فيقول المؤمنون: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾؛ أي هل جُوزُوا على صنِيعهم واستهزائهم بنا، ويجوزُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ ﴾ من قولِ اللهِ؛ ومعناهُ: التحقيقُ، ومعنى ثُوِّبَ جُوزيَ.
سورة المطففين
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المُطفِّفين) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بوعيد المُطفِّفين الذين يتلاعبون بالميزان بُغْيةَ خداع الناس، متناسِين أنَّ هناك يومًا يبعثُ اللهُ فيه الخلائقَ، يحاسبهم على كلِّ صغيرة وكبيرة، وقد جاء فيها وعيدُ الفُجَّار بالعقاب الأليم، ووعدُ الأبرار بالثواب العظيم، وإكرامُ المؤمنين وإيلامُ المجرمين يوم البعث؛ جزاءً لهم على أعمالهم، وفي هذا كلِّه دعوةٌ للمُطفِّفين أن يؤُوبُوا إلى الله، ويَرجِعوا عن باطلهم.

ترتيبها المصحفي
83
نوعها
مكية
ألفاظها
170
ترتيب نزولها
86
العد المدني الأول
36
العد المدني الأخير
36
العد البصري
36
العد الكوفي
36
العد الشامي
36

* قوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ، كانوا مِن أخبَثِ الناسِ كَيْلًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ فأحسَنوا الكَيْلَ بعد ذلك». أخرجه ابن حبان (٤٩١٩).

* سورة (المُطفِّفين):

سُمِّيت سورة (المُطفِّفين) بذلك؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ وهم: الذين يتلاعبون في المكيال بُغْيةَ خداع الناس.

1. إعلان الحرب على المُطفِّفين (١-٦).

2. وعيد الفُجَّار بالعقاب الأليم (٧-١٧).

3. وعد الأبرار بالثواب العظيم (١٨-٢٨).

4. إكرام المؤمنين، وإيلام المجرمين (٢٩-٣٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /66).

يقول ابن عاشور: «اشتملت على التحذيرِ من التطفيف في الكيل والوزن، وتفظيعِه بأنه تحيُّلٌ على أكلِ مال الناس في حال المعاملة أخذًا وإعطاءً.
وأن ذلك مما سيُحاسَبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوفٌ عند ربهم؛ ليَفصِلَ بينهم، وليجازيَهم على أعمالهم، وأن الأعمال مُحصاةٌ عند الله.
ووعيد الذين يُكذِّبون بيوم الجزاء، والذين يُكذِّبون بأن القرآن منزل من عند الله.

وقوبل حالُهم بضدِّه من حال الأبرار أهلِ الإيمان، ورفعِ درجاتهم، وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين، وذكرِ صُوَرٍ من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل؛ إذ كان المشركون يَسخَرون من المؤمنين، ويَلمِزونهم، ويستضعفونهم، وكيف انقلب الحالُ في العالم الأبدي». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /188).