ﰡ
«كِراماً كاتِبِينَ» ١١ لأقوالكم وأفعالكم وإثباتها في صحفكم المحفوظة لديهم بأمرنا «يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» ١٢ بسركم وجهركم لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله:
كان الفضيل رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال ما أشدها على الغافلين. وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء، وإعلام بأنه عند الله من جلائل الأمور، إذ استعمل عليه هؤلاء الكرام عنده الذين لا يعصونه طرفة عين. وهؤلاء غير الحفظة المذكورين في الآية ١٣ من سورة الرعد الآتية في ج ٣ لأن مع كل إنسان عددا من الملائكة، روي عن عثمان أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ١٣ بالغ وسرور جليل في ذلك اليوم «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» ١٤ عظيم فظيع خارج عن عقل أهل الدنيا معرفته أجارتا الله منه، والمراد بالفجار هنا الكفرة المتوغلين في الكفر لا العصاة إذ تطلق كلمة فجر على الكاذب والزاني والكافر «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» ١٥ حينما يدانون بأعمالهم القبيحة بعد الحساب يوم القيامة «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» ١٦ بل محضرون ومطروحون فيها لا يفارقونها طرفة عين، فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وهذه كقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الآيتين ٤٨ من سورة الحجر المارة و ١٦٧ من البقرة في ج ٣، ثم عظم شأن ذلك اليوم فقال «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٧ أيها الإنسان الغافل «ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» ١٨ استفهام تعجب جوابه هو يوم ترتعد فيه الفرائص وتشقق لهوله القلوب، وإن ما فية لا تجابهه قوى البشر، وهذا الخطاب عام إلى كل من يتأتى منه الدّراية، وفي التكرير زيادة التفخيم والتعجب.
وما قيل إن الخطاب خاص بالكافر أو خاص بحضرة الرسول لم يثبت فيه شيء، وإن بين هذين القولين وبين الآية المفسرة من البعد ما لا يخفى. ثم وصف ذلك ببعض صفاته فقال «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً» فيه من المنافع مؤمنة كانت أو كافرة، وتخصيصها بالكافرة على قول بعض المفسرين لا مبرر له أيضا،
تفسير سورة الانشقاق عدد ٣٣- ٨٣ و ٨٤
نزلت بمكة بعد سورة الانفطار، وهي خمس وعشرون آية، ومئة وسبع كلمات، وأربعمائة وثلاثون حرفا، وتسمى سورة انشقت. لا يوجد مثلها في عدد الآي، ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» ١ الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنممطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
تفسير سورة المطففين عدد ٣٦- ٨٦- ٨٣
نزلت بمكة بعد سورة العنكبوت وهي ست وثلاثون آية، ومئة وتسع وستون كلمة، وتسعمنة وثلاثون حرفا وتسمى سورة التطفيف. لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
لا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت به، إلا سورة الهمزة، ولا سورة مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَيْلٌ» الشر الشديد والحزن المزيد والهلاك العظيم والعذاب الأليم، قيل هو واد في جهنم خاص «لِلْمُطَفِّفِينَ» ١ الذين ينقصون الكيل والميزان، ويدخل فيه الذراع وما ضاهاه، أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (ويل) واد في جهنممطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المطففين بقوله عز قوله «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ» ٢ الكيل تماما بل بزيادة على المعتاد إذا اشتروا منهم، وبقوله جل قوله «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» ٣ ينقصون الكيل والميزان عند ما يبيعونهم شيئا، وهذه صفة كاشفة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل، ولم يقل جل شأنه ينقصون، لأن من يسرق في الكيل والميزان والذراع مثلا يسرق شيئا طفيفا بحيث لا يحس به غالبا، ولهذا قال المطففين. واعلم أن حرف على ومن يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال أخذت ما عليك، وإن قال أكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك، وكالوهم من باب الحذف والإيصال أي كالوا لهم، ويقال كاله ووزنه أي كال له ووزن له، كما يقال نصحتك ونصحت لك، وعليه قوله:
لقد جنيتك أكمؤا وعسقلا | ولقد نهيتك عن بنات الأوبر |
إلى القتال، إلا أنه ينبغي للشخص المقام له أن لا يحبه، لما جاء في الخبر من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوا مقعده في النار- أو كما قال-. هذا، والحكم الشرعي: التطفيف حرام ومن الكبائر، وتجب على معتاده التوبة حالا، ورد ما طفف لصاحبه، لأن التوبة بدون رد المظالم لا تتم، راجع شروطها في الآية ٢٧ من سورة الشورى المارة، وقد علمت أن التطفيف من أهم الأمور التي يجب أن يتباعد عنها، لأنه منوط بالناس كافة. قال تعالى «كَلَّا» لا يفعلوا ذلك وليرتدعوا وينزجروا عما هم عليه من التطفيف، ولينتهوا وينتبهو للغفلة عن يوم البعث يوم الوقوف أمام رب العالمين، وليندموا ويتوبوا قبل أن يحل بهم غضب الملك الجبار المنتقم، ثم أتبع هذا التحذير بوعيد الفجار على العموم الذين من جملتهم المطففين بقوله جل قوله «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ» يشمل الكفرة كما مر في الآية ١٤ من سورة الانفطار لا سيما وقد جاءت هذه الآية بمقابل الآية ٢٢ الآتية، والمراد بالكتاب هنا صحائف أعمالهم «لَفِي سِجِّينٍ» ٧ وهو علم كتاب جامع على ديوان الشر، وهو الذي يدون فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس، وتشير هذه الآية إلى أن المطففين فجار، وقد أشار إليهم صلّى الله عليه وسلم بقوله: التجار يحشرون فجارا يوم القيامة، أي الذين هذا شأنهم، أما المتباعدون عن الشبهات، فقد قال فيهم: التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والشهداء، ثم قال
سأرقم في الماء القراح إليكم | على بعدكم إن كان للماء راقم |
ثم وصفهم بقوله عز قوله «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» ١١ يوم الجزاء صفة كاشفة موضحة لحالهم. قال تعالى متعجبا من جرأتهم على التكذيب في ذلك اليوم المهول «وَما يُكَذِّبُ بِهِ» أحد «إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» ١٢ كثير الإثم منهمك في الشهوات القبيحة متجاوز
أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إن العبد إذا أخطأ بكت في قلبه نكتة، فإذا نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلق قلبه، وهو الران الذي قال الله (بل ران) إلخ. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه والسنائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم عنه بلفظ: من أذنب ذنبا وبزيادة سوداء صفة لنكتة، وقد يأتي الرّين بمعنى الطبع، أخرج عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجير أنه عليه الصلاة والسلام قال: أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقال تعالى (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى قيل يا رسول الله من هم؟ قال كل غني قد أبطره غناه.
هذا، وقد وقف حفص على/ بل/ وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار، وهذا الانفصال باللفظ تباعدا بين التنوين والنون الساكنة وأحد حروف الإظهار الخمسة عشر، وقرأ غيره بإدغام اللام في الراء ولم يقف، وقرىء/ ران/ بالإمالة وهي إحدى القراءات السبع الجائز تداولها إذ لا نقص ولا زيادة فيها، وقد ذكرنا قبلا أن المد والإشباع وتخفيف الحرف بالسكون عند توالي الحركات والوصل والقطع والتفخيم والترقيق والإمالة والإتباع ونقل الحركة وحذفها كله جائز لا حرج فيه، وإن الممنوع هو ما يخالف رسم القرآن من دون ذلك، وان ما قيل إن ابن عباس قرأ كذا وابن مسعود قرأ كذا وغيرهما بما فيه زيادة أو نقص أو تبديل لبعض الكلمات فهو عبارة عن كلمات تفسيرية لبعض كلم القرآن كتبوها على هامش أو بين سطور مصاحفهم لا غير، فلا يجوز عدها من القرآن، لأن تفسير الكلمات أو تأويلها لا يكون من القرآن، ولا يجوز أن ينطق بها أو يقرأها على أنها من القرآن، بل يتكلم بها في غير القراءة على أنها معان لبعض كلماته تدبر، قال تعالى «كَلَّا» حقا وصدقا «إِنَّهُمْ» الذين اعتراهم الرين بسبب كثرة الذنوب حتى أعمى قلوبهم «عَنْ رَبِّهِمْ» ومالك أمرهم «يَوْمَئِذٍ» في يوم الدين «لَمَحْجُوبُونَ» ١٥ عنه لا يرونه في الآخرة والحجاب عن رؤيته فيها عذاب أليم لهم غير العذاب الذي يستحقونه على كسبهم القبيح. هذا، وان الله تعالى حاضر في ذلك الموقف الذي هو حاكمه وناظر فيه جميع خلقه، ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، وإن الحرمان من رؤيته عذاب عظيم لا بضاهيه عذاب. وفي هذه الآية دلالة كافية على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة، ولأن الله ذكر الحجاب في معرض التهديد للكافرين، فلا يجوز حصوله للمؤمنين، ولأنه كما حجب قوما بسخطه دل على أن قوما يرونه برضاه، لأن الكفار كما حجبوا في الدنيا عن التوحيد حجبوا في الآخرة عن الرؤية، قال مالك بن أنس رحمه الله لما حجب الله أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه، ومن أنكر رؤيته كالمعتزلة قال إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم والإهانة لهم، لأنه لا يؤذن بالدخول على الملوك إلا
إذا اعتروا باب ذي عبيّة رجبوا | والناس من بين مرجوب ومحبوب |
لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا «ثُمَّ يُقالُ» لهم من قبل خزنة جهنم تقريعا وتوبيخا «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ١٧ في الدنيا فذوقوه الآن جزاء تكذيبكم «كَلَّا» ليس الأمر كما يتوهم المتوهمون ويزعم الزاعمون من إنكار البعث، فهو حاصل لا محالة. ثم طفق يذكر مقام المؤمنين الموقنين القائمين بالعدل بالكيل والميزان الموقين للناس حقوقهم المؤدين حق الله المصدقين بكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجزاء بقوله عزّ قوله «إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» ١٨ وهذا بمقابلة كتاب الفجار، ومقرّه بالسماء السابعة تحت العرش، ولهذا قال منوها بعلوه ومعظما لشأنه «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ» ١٩ أيها الإنسان هو في الحسن والعلو والكرامة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، معناه بما يريده الله، وإن ما جاء في تفسيره وتأويله فبحسب ما يحتمله اللفظ بالنسبة العقول البشر كالحالة في سجين في القبح والمذمة، وهو أيها السائل عنه «كِتابٌ مَرْقُومٌ» مكتوب بخط غليظ يعلم ما فيه من يطلع عليه عن بعد الأول نظرة دون دقة ورويّة، وهو علامة على سعادة صاحبه وكونه من أهل الجنة، وفيه إشارة إلى علو درجات صاحبه فيها، ومبالغة في بركة ذلك العلو وشرفه، لأنه وصف من العلو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ولقب به لأنه سبب لارتفاع صاحبه إلى أعالي درجات الجنة، وهو في أحسن موضع بالجنة موضوع في مكان مؤنس منير تحت العرش، وهو عبارة
«يَشْهَدُهُ» من الملائكة «الْمُقَرَّبُونَ» ٢١ لكرامة أهله وشرفهم عند ربهم، أخرج ابن المبارك عن قمرة بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الملائكة يرفعون اعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله من سلطانه، فيوحي إليهم أنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا أخلص لي في عمله فاجعلوه في عليين.
مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار:
قال تعالى «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» ٢٢ جمع بار وهم المتصفون بطاعة الله المنتهون عن مخالفته، المؤمنون بالبعث، الموفون الكيل والميزان، وهذا بمقابلة قوله تعالى (إِنَّ الْفُجَّارَ) بما يدل على أن المراد بهم الكفار لا غير، فهؤلاء الكرام مقرهم عند الله في نعيم الجنة الدائم، وهذا بيان الله تعالى بحسن أحوالهم في الآخرة جزاء أعمالهم الطاهرة، كأنه قيل قد علمنا كتابهم فما هو حالهم، فيقال نعيم الجنان تراهم «عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة في الحجال «يَنْظُرُونَ» ٢٣ إلى عظمة ربهم جل جلاله وإلى ما أعده إليهم في داره الباقية، وإلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة، وهم في محلهم لا يحجب أبصارهم الحجال التي هم فيها ولا غيرها، وفي قوله تعالى ينظرون إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة، كما وردت بذلك الأخبار، لما في النوم من زوال الشعور وغفلة الحواس، وهذا لا يناسب ذلك المقام. قال تعالى «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» الباهية الحسنة اللامعة النضرة «نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ٢٤ بهجته
يسقون من ورد البريص عليهم | بردى يصفق بالرحيق السلسل |
شربنا على ذكر الحبيب مدامة | سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم |
على نفسه قليبك من ضاع عمره | وليس له فيها نصيب ولا سهم |
صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا | ونور ولا نار وروح ولا جسم |
تهذب أخلاق الندامى فيهتدي | بها لطريق العزم من لا له عزم |
٣٠ أيضا بأن يشير بعضهم إلى بعض بأعينهم وجوارحهم وشفاههم إشارات وحركات تدل على استحقارهم وإهانتهم والطعن بهم، والسب والشتم والتغيير بما هم عليه من الفقر والكآبة، فنزلت هذه الآية بهم. وجاء في البحر أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فصاروا يضحكون منهم ويستخفون بهم فنزلت قبل أن يصل علي وجماعته لحضرة الرسول ليخبروه بذلك، وعند وصولهم إليه تلاها عليهم، وهي صالحة للوجهين وعامة في كل من يفعل فعلهم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وهنا الآية واقعة حال من أولئك الكفرة قبل نزول هذه الآية بدليل قوله تعالى (كانُوا) وجيء بها هنا تمهيدا لذكر بعض أحوال أولئك الأشرار مع هؤلاء الأبرار.
قال تعالى «وَإِذَا انْقَلَبُوا» في مجالسهم ورجعوا «إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» ٣١ متلذذين فرحين مستبشرين بما فعلوه من الاستخفاف بأولئك الكرام، معجبين بما ذكروهم فيه في غيبتهم عن أهلهم ويتفكهون به لما له من الوقع في قلوبهم الخبيثة «وَإِذا رَأَوْهُمْ» رأى الكافرون المؤمنين «قالُوا» بعضهم لبعض على مسمع منهم «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» ٣٢ في انتسابهم إلى محمد وإيمانهم به، يريدون جنس المؤمنين لا الذين مروا بهم فقط، وجاء التأكيد بأن واللام لمزيد الاعتناء بسبهم فيقولون إنه خدعهم بقوله وتركوا هذه اللذائذ المحسوسة لما يرجيهم به من شهوات الآخرة الموهومة، فهم قوم تركوا الحقيقة أملا بالخيال، وهذا هو عين الضلال لأنهم يظنون أنهم على شيء والحال ليس هم على شيء أصلا، قاتلهم الله أتى يؤفكون، ألم يعلموا أنهم هم الظالمون الضالون، ولكن السيء لا يرى إلا السيء، فالمؤمن مرآة أخيه، والكافر مرآة نفسه، والدن ينضح بما فيه، فلماذا يقولون هذا، والله تعالى يقول «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» ٣٣ لهم يراقبون أعمالهم، ولم يتوكلوا عليهم، بل أمروا بإصلاح أنفسهم وتهذيبها مما يضرها، وتطهيرها مما يدنسها، فاشتغالهم بها أولى من تتبع أحوال غيرهم وتسفيه أحلامهم وترك أنفسهم تمرح في هواها وتحارب مولاها، ألا يحملون أنفسهم على قبول الحق، وينهونها عن الضلال؟ قال تعالى «فَالْيَوْمَ» أي يوم القيامة
هذى الجمال لا جمال خيبر | هذا أبرّ ربنا وأظهر |
مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:
قال تعالى «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ» بعمل الله هذا بهم في الموقف وفي الجحيم، وهل جوزوا في الآخرة جزاء «ما كانُوا يَفْعَلُونَ» ٣٦ بالمؤمنين في الدنيا من الأذى والاستهتار والضحك وغيره، وهذا الاستفهام استفهام تقرير، أي بل إنهم جوزوا حق جزائهم على إجرامهم في الدنيا، وحق لهم أن يفعل بهم هذا لأنهم لم يحسبوا لهذا اليوم حسابا. واعلم أن ثوّب وأثيب بمعنى واحد، قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب | وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي |
ألا أبلغ أبا حسن رسولا | فمالك لا تجيء إلى الثواب |
أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه إياها، ولم يعطه من الدنيا شيئا، ولو أقسم على الله تعالى بإعطائه لأعطاه إياها، ولكنه لا يفعل. وقال صلّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به (ثم بين صفة الذين لا يؤبه بهم بقوله) الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم، حوائج أحدهم تلجلج في صدره، لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم. هؤلاء الفقراء الذين كانوا ولا يزالون أهل الدنيا يسخرون منهم، وهم خير منهم عند الله تعالى. وقال صلّى الله عليه وسلم اتخذوا عند الفقراء أيادي (في الدنيا) فإن لهم دولة يوم القيامة، أي يحتاج إليهم الأغنياء والأمراء، فإذا أكرموهم بالدنيا فإنهم يشفعون لهم في الآخرة، اللهم وفقنا لرضاك، ومتعنا بالعافية، واسبل علينا سترك، واجعلنا أهلا لعفوك، واجعل رزقنا كفافا، ولا تحوجنا إلى شرار خلقك، واغرس في قلوبنا حب الفقراء والمساكين من عبادك الصالحين، ووفقنا للتصدّق عليهم من كرمك وفضلك وجودك المسبل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا أيها الناس حال الفقراء في الآخرة الدائمة، فما هو حال الأغنياء فيها لأن حالهم في الدنيا ليس بشىء مهما كان إذا لم يكن لهم عند الله مقام في الآخرة، لأن هذه الدنيا مهما بلغ العبد فيها من الثراء في المال والجاه فمصيرها الزوال، فاسعوا رحمكم الله لما يبقى، وأكرموا الفقراء لأنهم سيسخرون من الأغنياء يوم القيامة كما كان الأغنياء يسخرون منهم في الدنيا. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا
وهذا آخر ما نزل في مكة المكرمة من سور القرآن الكريم ولم يبق من القسم المكي إلا آيات أثبتناها ضمن سورها المدنية كما سنأتي على ذكرها في محلها إن شاء الله، وسنشير إليها كما أشرنا في القسم المكي إلى الآيات المدنيات المثبتة ضمن سورها المكية، وقد ذكرنا شيئا من هجرة الرسول بعد نزول سورة المطففين واجتماع قريش على الصورة المبينة في الآية ٤٠ من سورة العنكبوت المارة، وقد وعدنا بإكمال قصة الهجرة بعد تفسير الآية ٦٠ منها، وهانذا أوفي بذلك فأقول ومن الله التوفيق:
مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له:
إن حضرة الرسول وأبا بكر لما ذهبا إلى الغار، وجاء المشركون إليه، فلم يدخلوه لما رأوا عليه من نسج العنكبوت الدال على عدم دخوله من قبل أحد رجعوا يتحرونة خارج مكة، لأنهم يعلمون أن أحدا لا يدخله داره بعد أن تحالفوا وتواثقوا على قتله، وبقي صلّى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار ثلاثة أيام. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟. قال الشيخ محي الدين النووي:
معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الآية من آخر سورة النحل المارة، ويشير قوله هذا إلى عظيم توكله صلّى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وتؤذن بفضل أبي بكر واختصاصه برفقته هذه لحضرة الرسول التي أشار الله إليها في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)، وقوله في صدر هذه الآية ٤٢ من سورة التوبة ج ٣ (إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) وتعد هذه من أجل مناقبه رضي الله عنه في هذه الحادثة من أوجه كثيرة، منها اللفظ الدال على أن الله تعالى ثالثهما كما مر في الحديث، ومنها التنويه في الآية المذكورة بصحبته،
- أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد- قال البغوي: وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى العار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلقه فقال له رسول الله مالك يا أبا بكر؟ فقال أذكر الطلب فأمشي خلقك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه، ثم قال انزل يا رسول الله، فنزل وقال له إن أقتل وأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت الأمة. قال الزهري لما دخل رسول الله الغار وأبو بكر أرسل الله سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضت أسفل النقب، ونسجت العنكبوت بيتا، وقيل أتت يمامة على فم الغار وقال صلّى الله عليه وسلم
قال النبي ولم يجزع يوقرني | ونحن في سدف في ظلمة الغار |
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا | وقد تكفل لي منه بإظهار |
وإنما كيد من تخشى بوادره | كيد الشياطين قد كادت لكفار |
والله مهلكهم طرّا بما صنعوا | وجاعل المنتهى منهم إلى النار |
وما حوى الغار من خير ومن كرم | وكل طرف من الكفار عنه عمي |
فالصدق في الغار والصديق لم يرما | وهم يقولون ما في الغار من أرم |
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على | خير البرية لم تنسج ولم تحم |
وقاية الله أغنت عن مضاعفة | من الدروع وعن عال من الأطم |
قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال له قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر إني أردّ إليك جوارك وأرضى
ويح قوم جفوا نبيا بأرض... ألفته ضبابها والضباء
أخرجوه منها وآواه غار... وحمته حمامة ورقاء
وجفوه وحن جذع إليه... وقلوه ووده الغرباء
وكفته بنسجها عنكبوت... ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ... هـ من شدة الظهور الخفاء
الأبيات من قصيدته التي قل أن توجد قصيدة مدح يبلاغتها وجمعها للمعاني، ولهذا قالوا ما مدح خير البرية بأحسن من البراءة والهمزية، وكلاهما له رحمه الله.
مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جشعم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جشعم يقول: جاءنا رسول كفار قريش لما هاجر رسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة ومعه صديقه رضي الله عنه، يخبرنا أنهم أرسلوا في أثرهما الرسل، وبئوا العيون، ونصوا الأشراك، وأقاموا الأرصاد ليحولوا دون هجرته، فلم يظفروا به، وأنهم جعلوا جائزة قدرها مئة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره، ومئتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما، قال سراقة فيلنا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة إني قد رأيت أسودة بالساحل (أي أشخاصا) أراهما محمدا وأصحابه، قال سراقة فعرفت أنهم هم، فقلت له إنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم، ثم لبنت في المجلس ساعة، ثم قمت، فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج الفرس وراء الأكمة (هي التل المرتفع) فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت من ظهر البيت كي لا يراني أحد، لأختص
أبا حكم والله لو كنت شاهدا | لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه |
علمت ولم تشكك بأن محمدا | رسول ببرهان فمن ذا يقاومه |
فهي من معجزاته صلّى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة (أرض ذات حجارة خارج المدينة فينتظرونه حتى يردّهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم (أشرف على بناء مرتفع من أبنيتهم) لأمر ينظر إليه، فبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه، قال فثار المسلمون إلى السلاح وظهروا يتلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين غرة ربيع الأول سنة ٥٤ أربع وخمسين من ميلاده الشريف، الثالث عشر من البعثة المقدسة، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقام أبو بكر للناس يتلقاهم ويصرفهم والتي صامت، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يعرف رسول
هذي الحمال لا حمال خيبر | هذا أبرّ ربنا وأطهر |
اللهم إن الأجر أجر الآخرة | فارحم الأنصار والمهاجرة |
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد | طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا |
وكان حب رسول الله قد علموا | من البرية لم يعدل به رجلا |
ما أنت إلا أصبح دميت | وفي سبيل الله ما لقيت |
أقبل البدر علينا من ثبات الوداع | وجب الشكر علينا ما دعى لله داع |
نحن بنات من بني النجار | يا حبذا محمد من جار |
ثم الجزء الثاني من هذا التفسير المبارك، وهو يحتوي على ست وثلاثين سورة من القرآن العظيم، أو لها يونس وآخرها المطففين، وقد أثبتناها بحسب نزولها الذي استفرق ثلاث سنين وسبعة أشهر وثلاثة عشر يوما، وذلك من ٢٧ رجب سنة ١٠ من البعثة إلى ربيع الأول سنة ١٣ منها، فيكون مدة نزول القسم المكي من القرآن العظيم عدا الآيات المدنيات منه اثنتي عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، وثلاثة أيام، باعتبار أول النزول في ١٧ رمضان سنة ٤١ من ميلاده الشريف والأظهر في ٢٢ منه. ويليه القسم المدني أوله سورة البقرة، وآخره سورة النصر.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا. وقد وقع الفراغ منه يوم السبت ١ رجب سنة ١٣٥٧ الموافق ٢٥ آب سنة ١٩٣٨ وبهذا التاريخ نفسه صار البدء بالجزء الثالث، ومن الله العناية والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا حويش الغازي
[الجزء الخامس]
[خطبة الكتاب]بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المستحق الحمد لذاته، المحمود بأفعاله وصفاته. والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكمل النبيين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأنصاره أجمعين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد فإني بعد أن ختمت القسم المكي من هذا السفر الجليل- كل في قسمين حسب طباعتهما- شرعت وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق في القسم المدني منه كما وعدت في المقدمة، فأسأله تعالى وهو خير مسئول التيسير والتسهيل والعون على إتمامه والسلوك به إلى أحسن سبيل. وقد ذكرت أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وصل إلى المدينة واستقر به الحال ورأى أن منهم من يطفف الكيل والميزان، تلا عليهم سورة المطففين المارة آخر الجزء الثاني، ثم أنزل الله تعالى عليه سورة البقرة، ولهذا شرعت في ١ رجب سنة ١٣٥٨ الموافق ١٦/ ٢/ ١٩٢٩ بتفسيرها سائلا الحضرة الإلهية ومتوسلا بسيد البرية أن يمنّ عليّ بإكماله كما تفضل علي بإكمال ما قبله، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
تفسير سورة البقرة عدد ١- ٨٧ و ٢
قد ذكرت في الجزأين المكيّين أن العدد الأول للسورة المفسرة بحسب النزول، والذي يليه بالنسبة لما قبله، والأخير بحسب ترتيب القرآن. نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة عدا الآية ٢٨١ فإنها نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع السنة العاشرة من الهجرة، وتسمى سورة الزهراء، وسنام القرآن، وهي أول خير بدأ به أهل المدينة بعد تلاوة المطففين. وما قيل إن المطففين نزلت بالمدينة لا صحة له وإنما قال من قال به بسبب تلاوتها من حضرة الرسول عند قدومه.
وسميت بالبقرة لورود ذكرها فيها، والزهراء لما روى مسلم عن أبي أمامه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه،
سورة المطففين
سورة (المُطفِّفين) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بوعيد المُطفِّفين الذين يتلاعبون بالميزان بُغْيةَ خداع الناس، متناسِين أنَّ هناك يومًا يبعثُ اللهُ فيه الخلائقَ، يحاسبهم على كلِّ صغيرة وكبيرة، وقد جاء فيها وعيدُ الفُجَّار بالعقاب الأليم، ووعدُ الأبرار بالثواب العظيم، وإكرامُ المؤمنين وإيلامُ المجرمين يوم البعث؛ جزاءً لهم على أعمالهم، وفي هذا كلِّه دعوةٌ للمُطفِّفين أن يؤُوبُوا إلى الله، ويَرجِعوا عن باطلهم.
ترتيبها المصحفي
83نوعها
مكيةألفاظها
170ترتيب نزولها
86العد المدني الأول
36العد المدني الأخير
36العد البصري
36العد الكوفي
36العد الشامي
36* قوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ، كانوا مِن أخبَثِ الناسِ كَيْلًا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ فأحسَنوا الكَيْلَ بعد ذلك». أخرجه ابن حبان (٤٩١٩).
* سورة (المُطفِّفين):
سُمِّيت سورة (المُطفِّفين) بذلك؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]؛ وهم: الذين يتلاعبون في المكيال بُغْيةَ خداع الناس.
1. إعلان الحرب على المُطفِّفين (١-٦).
2. وعيد الفُجَّار بالعقاب الأليم (٧-١٧).
3. وعد الأبرار بالثواب العظيم (١٨-٢٨).
4. إكرام المؤمنين، وإيلام المجرمين (٢٩-٣٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /66).
يقول ابن عاشور: «اشتملت على التحذيرِ من التطفيف في الكيل والوزن، وتفظيعِه بأنه تحيُّلٌ على أكلِ مال الناس في حال المعاملة أخذًا وإعطاءً.
وأن ذلك مما سيُحاسَبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوفٌ عند ربهم؛ ليَفصِلَ بينهم، وليجازيَهم على أعمالهم، وأن الأعمال مُحصاةٌ عند الله.
ووعيد الذين يُكذِّبون بيوم الجزاء، والذين يُكذِّبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالُهم بضدِّه من حال الأبرار أهلِ الإيمان، ورفعِ درجاتهم، وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين، وذكرِ صُوَرٍ من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل؛ إذ كان المشركون يَسخَرون من المؤمنين، ويَلمِزونهم، ويستضعفونهم، وكيف انقلب الحالُ في العالم الأبدي». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /188).