تفسير سورة المؤمنون

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميّتون ﴾( ١ ) [ المؤمنون : ١٥ ].
إن قلتَ : لم أكّده باللام، دون قوله بعده ﴿ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ﴾ [ المؤمنون : ١٦ ] مع أن المذكورين ينكرون البعث دون الموت ؟
قلتُ : لما كان العطف ب " ثُمّ "، المحتاج إليه هنا، يقتضي الاشتراك في الحكم، أغنى به عن التأكيد باللام.
١ - سورة المؤمنون آية (١٥) وإنما أكّده هنا باللام و"إنّ" لناحية بلاغية، وهي «تنزيل غير المنكِر منزلة المنكر» لأن غفلة الناس عن الموت، وانهماكهم في شهوات الدنيا، وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح، يعدّ من علامات الإنكار، ولذلك نُزِّلوا منزلة المنكرين، وأُلقي الخبر مؤكدا بـ "إنّ" و"اللام" فافهم سرّ القرآن !!.
قوله تعالى :﴿ وشجرة تخرج من طور سيناء... ﴾ [ المؤمنون : ٢٠ ]. المراد بها : شجرة الزيتون.
فإن قلتَ : لم خصَّها بطور سيناء، مع أنها تخرج من غيره أيضا ؟   !
قلتُ : أصلها منه، ثم نُقلت إلى غيره.
قوله تعالى :﴿ لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ﴾ [ المؤمنون : ٢١ ]. قاله هنا بالجمع وبالواو، وقال في الزخرف :﴿ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ﴾ [ الزخرف : ٧٣ ] بالإفراد وحذف الواو، موافقة لما قبلهما، إذ ما هنا تقدمت " جنّات " بالجمع، وما بعد الواو معطوف على مقدّر تقديره : منها تدّخرون، ومنها تأكلون، وما في الزخرف تقدّمت جنّة بالتوحيد في قوله :﴿ وتلك الجنّة ﴾ [ الزخرف : ٧٢ ] وليس في فاكهة الجنة الأكل، فناسب الجمع والواو هنا، والإفراد وحذف الواو " ثَمّ ".
قوله تعالى :﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم... ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ ] الآية.
قال ذلك هنا، بتقديم الصّلة على قومه، وقال بعد بالعكس( ١ ). لأنه اقتصر هنا في صلة الموصول على الفعل والفاعل، وفيما بعدُ طالت فيه الصّلة، بزيادة العطف على الصّلة مرّة بعد أخرى، فقدّم عليها ﴿ من قومه ﴾ لأن تأخيره عن المفعول ملبِّسٌ، وتوسيطه بينه وبين ما قبله ركيك( ٢ ).
قوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكة ﴾ [ المؤمنون : ٢٤ ] الآية. قاله هنا بلفظ " الله " وفي فصّلت( ٣ ) بلفظ ربّنا، موافقة لما قبلهما، إذْ ما هنا تقدَّمه لفظ " الله " دون " ربنا " وما في ( فصلت ) تقدّمه لفظ الربّ في " ربّ العالمين " سابقا على لفظ " الله " فناسب ذكر " الله " هنا، وذكر الرّبِّ ثَمَّ.
١ - في قوله تعالى ﴿وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة﴾ آية (٣٣)، ومراده بالصّلة لفظ "الذين" اسم الموصول..
٢ - الأولى أن يُقال: غير مستحسن، أو غير مناسب، عوضا عن لفظ رَكيكٌ..
٣ - في فصلت ﴿قالوا لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون﴾ آية (١٤)..
قوله تعالى :﴿ فبعدا للقوم الظالمين ﴾ [ يونس : ٤١ ]. قاله هنا بالتعريف، وقال بعدُ :﴿ فبعدا لقوم لا يؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ] بالتنكير، لأن الأول لقوم " صالح " بقرينة قوله :﴿ فأخذتهم الصّيحة ﴾ [ يونس : ٤١ ] فعرّفهم تعريف عهد، ونكّر الثاني لخلوّه عن قرينة تقتضي تعريفه، وموافقة لتنكير ما قبله، وهو ﴿ قرونا آخرين ﴾ [ المؤمنون : ٤٢ ].
قوله تعالى :﴿ واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ].
قاله هنا بلفظ ﴿ عليم ﴾ وفي سبأ( ١ ) بلفظ " بصير " مناسبة لما قبلهما، إذ ما هنا تقدّمه آيتا الكتاب، وجعل " مريم " وابنها آية، والعلم بهما أنسب من بصرهما، وما هناك تقدّمه قوله :﴿ وألنّا له الحديد ﴾ [ سبأ : ١٠ ] والبصر بإلانة الحديد، أنسب من العلم بها.
١ - في سبأ ﴿واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير﴾ آية (١١)..
قوله تعالى :﴿ بل جاءهم بالحقّ وأكثرهم للحقّ كارهون ﴾ [ المؤمنون : ٧٠ ]. نزل في كفار مكة، والمراد بالحقّ : التوحيد.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أنهم كلّهم كانوا كارهين للتوحيد ؟
قلتُ : كان منهم من ترك الإيمان به، أنفة وتكبّرا من توبيخ قومهم، لئلا يقولوا : ترك دين آبائه، لا كراهة للحقّ، كما يُحكى عن أبي طالب وغيره.
قوله تعالى :﴿ لقد وُعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إنْ هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٨٣ ]، أي من قبل البعث، قاله هنا بتأخير " هذا " عمّا قبله.
وقاله في النمل( ١ ) بالعكس، جريا على القياس هنا، من تقويم المرفوع على المنصوب، وعكس ثمّ بيانا لجواز تقديم المنصوب على المرفوع، وخصّ ما هنا بتأخير " هذا " جريا على الأصل بلا مقتضى لخلافه، وما هناك بتقديمه اهتماما به من منكري البعث، ولهذا قالوا بعدُ ﴿ إنْ هذا إلا أساطير الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٨٣ ].
١ - في النمل ﴿لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبلُ... ﴾..
قوله تعالى :﴿ سيقولون لله... ﴾ [ المؤمنون : ٨٥ ].
قاله هنا بلفظ " لله "، وبعدُ بلفظ " الله " ( ١ ) مرتين، لأنه في الأول، وقع في جواب مجرور باللام، في قوله :﴿ قل لمن الأرض ﴾ [ المؤمنون : ٨٤ ] فطابَقه بجرّه باللام، بخلاف ذلك في الأخيرين، فإنهما إنما وقعا في جواب مجرد عن اللام.
١ - هذا على قراءة حفص، أما قراءة حفص فهي "لله" في المواطن الثلاثة:
١- ﴿قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قل أفلا تذكرون﴾.
٢- ﴿قل من رب السموات ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون﴾.
٣- ﴿قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنى تسحرون﴾ الجميع على قراءة حفص بدون ألف، أما قراءة ورش فهي بالألف في الآيتين الأخيرتين..

قوله تعالى :﴿ ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٥ ]، ذكره بعد قوله :﴿ قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ﴾ [ المؤمنون : ٦٦ ] لأن هذا في الدنيا عند نزول العذاب، وهو " الجدب " عند بعضهم، ويوم بدر عند بعضهم.
وهذا في الآخرة وهم في الجحيم، بدليل قوله :﴿ ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٧ ].
سورة المؤمنون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (المؤمنون) من السُّوَر المكية التي اهتمت بذِكْرِ دلائل وَحْدانية الله تعالى، كما اهتمت بذِكْرِ صفاتِ المؤمنين المفلحين؛ كما في فاتحة السورة الكريمة، وقد صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ مَن أقامَ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَلَ الجنَّةَ، وبالأخذِ بهذه الصفات التي ذكَرها الله للمؤمنين، تصلُحُ للعبد دنياه وآخرتُه، ويحقِّقُ معنى التوحيد التام.

ترتيبها المصحفي
23
نوعها
مكية
ألفاظها
1052
ترتيب نزولها
74
العد المدني الأول
119
العد المدني الأخير
119
العد البصري
119
العد الكوفي
118
العد الشامي
119

* قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاء أبو سُفْيانَ بنُ حَرْبٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مُحمَّدُ، أنشُدُك اللهَ والرَّحِمَ؛ فقد أكَلْنا العِلْهِزَ - يعني: الوَبَرَ والدَّمَ -؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]». أخرجه ابن حبان (٩٦٧).

* سورةُ (المؤمنون):

سُمِّيت سورة (المؤمنون) بذلك؛ لأنَّ فاتحتها أفصَحتْ عن ذِكْرِ صفات المؤمنين.

 * أنَّ مَن أقام أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَل الجنَّة:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «كان إذا نزَلَ على رسولِ اللهِ ﷺ الوحيُ يُسمَعُ عند وجهِه دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ، فمكَثْنا ساعةً، فاستقبَلَ القِبْلةَ، ورفَعَ يدَيهِ، فقال: «اللهمَّ زِدْنا ولا تنقُصْنا، وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا، وارضَ عنَّا وأرضِنا»، ثم قال: «لقد نزَلتْ عليَّ عَشْرُ آياتٍ، مَن أقامَهنَّ دخَلَ الجنَّةَ»، ثم قرَأَ علينا: {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] حتى ختَمَ العَشْرَ». أخرجه الترمذي (3097).

* كانت تَتجلَّى صفاتُ رسول الله ﷺ من خلالِ هذه السورة:

فعن يَزيدَ بن بابَنُوسَ، قال: «دخَلْنا على عائشةَ، فقُلْنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ؟ قالت: كان خُلُقُه القُرْآنَ، تَقرَؤون سورةَ المؤمنين؟ قالت: اقرَأْ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ}، قال يَزيدُ: فقرَأْتُ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى: {لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ} [المؤمنون: 5]، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ». أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (٤٨).

* هي السورةُ التي قرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ:

عن عبدِ اللهِ بن السائبِ رضي الله عنه، قال: «حضَرْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يومَ الفتحِ وصلَّى في الكعبةِ، فخلَعَ نَعْلَيهِ فوضَعَهما عن يسارِه، ثم افتتَحَ سورةَ (المؤمنون)، فلمَّا بلَغَ ذِكْرَ عيسى أو موسى، أخَذَتْهُ سَعْلةٌ، فركَعَ». أخرجه أبو داود (٦٤٨).

جاءت سورةُ (المؤمنون) على ذِكْرِ الموضوعات الآتية:

1. صفات المؤمنين (١-١١).

2. أدلة وَحْدانية الله (١٢-٢٢).

3. الإيمان بالرسل، ومواقف أقوامهم منهم (٢٣-٥٢).

4. تفرُّق الأُمَم بعد رسلهم (٥٣-٧٧).

5. أدلة إثبات وَحْدانية الله وقدرته (٧٨-٩٨).

6. مِن مشاهِدِ يوم القيامة (٩٩- ١١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /124).

ظهَر مقصودُ سورة (المؤمنون) في اسمها؛ وهو اختصاصُ المؤمنين بالفلاح، وقد دارت آيُها حول مِحوَرِ تحقيقِ الوَحْدانية، وإبطالِ الشرك ونقضِ قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه؛ فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلَّوْا به من أصول الفضائل الرُّوحية والعلمية، التي بها تزكيةُ النَّفس، واستقامةُ السلوك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /303)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (18 /6).