تفسير سورة المؤمنون

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير

تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

أكل الحلال والعمل الصالح
" يا أيها الرسل كلوا من الطيبات.
واعملوا صالحا.
إني بما تعملون عليم ".
الكلمات :
( الطيب ) : ما صلح واعتدل في نفسه، وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذا للنفوس، سواء أكان مما يدرك بالسمع، أو بالبصر، أو بالذوق، أو بالشم، أو باللمس، أو بالعقل.
فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية، ويقابله الخبيث وهو المستقذر حسا أو عقلا، وعلى هذا جاء قوله تعالى :
" ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " فما أحل الله إلا الطيب المستلذ، وما حرم إلا الخبيث بمعنى الحرام، ومنه " كلوا من الطيبات " أي المحللات، فملك غيرك وإن كان مستلذا في الحس، فإنه ليس طيبا لك شرعا، وذلك لأنه مستقذر من العقل بما فيه عنا تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل.
وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد والخبيث بمعنى الرديء وعليه قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ".
( الصالح ) : هو المستقيم النافع وهو فعل المأمورات وترك المنهيات، وتناول المباحات من حيث أنها مباحات، أو وسائل لفعل المأمورات، وترك المنهيات.
التراكيب :
للاهتمام بالمأمور به قدمت قبل الأمر جملة النداء، ولأن المأمور به مما يجب عليهم تبليغه نودوا بلفظ الرسل.
ولأن كل واحد منهم أوحى الله إليه بهذا النداء والأمر في زمانه كان النداء و الأمر للجميع.
وقد دخل في الجمع عيسى – عليه الصلاة والسلام – الذي كان الحديث عليه في الآية التي قبل هذه وهي :
" وجعلنا ابن مريم وأمه آية و آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " ١.
كما دخل في الجمع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – الذي نزلت عليه هذه الآية.
ولأن المقصود من الأكل – وهو الغذاء واللذة – يحصل ببعض قيل " من الطيب " بمن التبعيضية.
ولما كان المخاطب بأكل الحلال والعمل الصالح شأنه أن تستشرف٢ نفسه لتعيين ثمرة ذلك، جاء الخبر مؤكدا بإن في " إني بما تعملون عليم ".
وعلم الله مستلزم لجزائه للعاملين، فكان كناية عن الجزاء وفي الكناية عن الجزاء بالعلم تفخيم لهذا الجزاء وتعظيم، فهو جزاء الله العليم وكفى به.
التفسير :
خلق الإنسان مركبا من روح وبدن، وإنما بقاء بدنه بالغذاء وإنما كمال روحه بالعمل.
فأمر الله بالأكل لبقاء البدن، واشترط أن يكون من الطيبات، لأنها هي التي تغذي و لا تؤذي، أما الخبائث ففيها الأذى و يتفه أو يعدم منها الغذاء.
وأمر بالعمل الصالح الذي فيه ذكاء للنفس ونفع لها في العاجل والآجل، وخير للعباد والبلاد.
وأخبر بعلمه بعمل العاملين ؛ ليجتهدوا في العمل ويخلصوا له فيه، وينتظروا جزاءهم من عنده.
والدين كله عمل صالح وتوحيد خالص، وقد انتظمتها الآية تصريحا في العمل واستلزاما في التوحيد، وبين – تعالى – بهذه الآية أن هذا الذي اشتملت عليه هو دين الله لجميع الأمم، أوصى به رسله – صلوات الله وسلامه عليهم – ليبلغوه لخلقه، فهو حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه.
توجيه الترتيب :
تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل.
ليس من الإسلام :
فليس من الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله كما حرم غلاة المتصوفة اللحم.
وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها كما يفعله متصوفة الهنادك، ومن قلدهم من المنتسبين للإسلام.
والميزان العدل في ذلك هو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وأصحابه رضي الله عنهم، وقد بين ذلك أئمة السنة والأثر رحمهم الله وقد جوده مالك رضي الله عنه في كتاب الجامع من الموطأ.
وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح تنبيه على أنه هو الذي يثمرها لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال.
بيان نبوي :
لا يقبل الله إلا الطيب :
خرج مسلم في صحيحه من طريق أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – قال :
" " أيها الناس، إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا.
وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى :" يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ".
وقال تعالى :" يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ". ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر٣يمد يديه إلى السماء : يا رب، يا رب، ٤، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ".
فبين الحديث الشريف أن الله طيب أي منزه عن النقص في ذاته وصفاته وأفعاله، تنعم العقول والأرواح بمعرفته – كما يليق به – ومحبته.
وأنه لا يقبل من الأعمال إلا طيبا أي صالحا في نفسه خالصا من شوائب المخالفة والرياء والشرك.
وبين أن الشرع عام للرسل وللأمم، ولا يستثنى من هذا إلا ما دل الدليل على اختصاصه بالرسل.
وبين أن أكل الحلال هو الذي يثمر قبول الدعاء٥ ( الدعاء هو مخ العبادة )، فإذا رد عليه فقد ردت عليه عبادته، فكان هذا البيان النبوي على مقتضى ما أفاده ترتيب الأمرين في الآية.
تكميل :
في آية الرسل الأمر بالأكل من الطيبات، والأمر بالعمل الصالح، واستلزام الأمر بالإخلاص.
وفي آية المؤمنون الأمر بالأكل من الطيبات والأمر بالشكر، والتصريح بلزوم توحيده تعالى في العبادة، لأن تمامها هكذا :" واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون ".
واقتصر في الحديث على الأمر بالأكل من الطيبات، إما لأن الكلام كان في الحث على أكل الحلال، وإما لأن الراوي اختصر الرواية.
الاهتداء :
على المؤمن أن يتحرى في مأكله ومشربه – وكل ما به قوام ذاته – الحلال الطيب، يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد التوصل به إلى العمل الصالح.
وعليه أن يتحرى في فعله وتركه أمر الله ونهيه، حتى يكون عمله عملا صالحا طيبا متقبلا.
يمتثل بذلك أمر الله، ويقصد قبول عبادته ودعائه لديه.
والمتحري للحق والخير جدير بالتوفيق إليه وكثرة إصابته.
رزقنا الله والمسلمين التحري لطاعته، والتوفيق لمرضاته، والتأدب بكتابه آمين.
١ سورة المؤمنون – الآية ٥٠..
٢ تستشرف : تتطع..
٣ أشعت أغبر: غير مرتب الشعر، وعليه الغبار من أثر السفر..
٤ أي يدعو ربه..
٥ إنما يتقبل الله من المتقين..
سورة المؤمنون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (المؤمنون) من السُّوَر المكية التي اهتمت بذِكْرِ دلائل وَحْدانية الله تعالى، كما اهتمت بذِكْرِ صفاتِ المؤمنين المفلحين؛ كما في فاتحة السورة الكريمة، وقد صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ مَن أقامَ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَلَ الجنَّةَ، وبالأخذِ بهذه الصفات التي ذكَرها الله للمؤمنين، تصلُحُ للعبد دنياه وآخرتُه، ويحقِّقُ معنى التوحيد التام.

ترتيبها المصحفي
23
نوعها
مكية
ألفاظها
1052
ترتيب نزولها
74
العد المدني الأول
119
العد المدني الأخير
119
العد البصري
119
العد الكوفي
118
العد الشامي
119

* قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاء أبو سُفْيانَ بنُ حَرْبٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مُحمَّدُ، أنشُدُك اللهَ والرَّحِمَ؛ فقد أكَلْنا العِلْهِزَ - يعني: الوَبَرَ والدَّمَ -؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]». أخرجه ابن حبان (٩٦٧).

* سورةُ (المؤمنون):

سُمِّيت سورة (المؤمنون) بذلك؛ لأنَّ فاتحتها أفصَحتْ عن ذِكْرِ صفات المؤمنين.

 * أنَّ مَن أقام أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَل الجنَّة:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «كان إذا نزَلَ على رسولِ اللهِ ﷺ الوحيُ يُسمَعُ عند وجهِه دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ، فمكَثْنا ساعةً، فاستقبَلَ القِبْلةَ، ورفَعَ يدَيهِ، فقال: «اللهمَّ زِدْنا ولا تنقُصْنا، وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا، وارضَ عنَّا وأرضِنا»، ثم قال: «لقد نزَلتْ عليَّ عَشْرُ آياتٍ، مَن أقامَهنَّ دخَلَ الجنَّةَ»، ثم قرَأَ علينا: {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] حتى ختَمَ العَشْرَ». أخرجه الترمذي (3097).

* كانت تَتجلَّى صفاتُ رسول الله ﷺ من خلالِ هذه السورة:

فعن يَزيدَ بن بابَنُوسَ، قال: «دخَلْنا على عائشةَ، فقُلْنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ؟ قالت: كان خُلُقُه القُرْآنَ، تَقرَؤون سورةَ المؤمنين؟ قالت: اقرَأْ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ}، قال يَزيدُ: فقرَأْتُ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى: {لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ} [المؤمنون: 5]، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ». أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (٤٨).

* هي السورةُ التي قرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ:

عن عبدِ اللهِ بن السائبِ رضي الله عنه، قال: «حضَرْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يومَ الفتحِ وصلَّى في الكعبةِ، فخلَعَ نَعْلَيهِ فوضَعَهما عن يسارِه، ثم افتتَحَ سورةَ (المؤمنون)، فلمَّا بلَغَ ذِكْرَ عيسى أو موسى، أخَذَتْهُ سَعْلةٌ، فركَعَ». أخرجه أبو داود (٦٤٨).

جاءت سورةُ (المؤمنون) على ذِكْرِ الموضوعات الآتية:

1. صفات المؤمنين (١-١١).

2. أدلة وَحْدانية الله (١٢-٢٢).

3. الإيمان بالرسل، ومواقف أقوامهم منهم (٢٣-٥٢).

4. تفرُّق الأُمَم بعد رسلهم (٥٣-٧٧).

5. أدلة إثبات وَحْدانية الله وقدرته (٧٨-٩٨).

6. مِن مشاهِدِ يوم القيامة (٩٩- ١١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /124).

ظهَر مقصودُ سورة (المؤمنون) في اسمها؛ وهو اختصاصُ المؤمنين بالفلاح، وقد دارت آيُها حول مِحوَرِ تحقيقِ الوَحْدانية، وإبطالِ الشرك ونقضِ قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه؛ فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلَّوْا به من أصول الفضائل الرُّوحية والعلمية، التي بها تزكيةُ النَّفس، واستقامةُ السلوك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /303)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (18 /6).