تفسير سورة المؤمنون

الوجيز للواحدي

تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي.
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي مائة وثماني عشرة آية

﴿قد أفلح المؤمنون﴾ سعد المصدِّقون ونالوا البقاء في الجنَّة
﴿الذين هم في صلاتهم خاشعون﴾ ساكنون لا يرفعون ابصارهم عن مواضع سجودهم
﴿والذين هم عن اللغو معرضون﴾ عن كلِّ ما لا يجمل في الشَّرع من قولٍ وفعلٍ
﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ للصدقة الواجبة مودون
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون﴾ يحفظونها عن المعاصي
﴿إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ من زوجاتهم ﴿أو ما ملكت أيمانهم﴾ من الإماء ﴿فإنهم غير ملومين﴾ لا يلامون في وطئهنَّ
﴿فمن ابتغى﴾ طلب ما ﴿وراء ذلك﴾ ما بعد الزَّوجة والأَمَة ﴿فأولئك هم العادون﴾ المتعدُّون عن الحلال إلى الحرام
﴿والذين هم لأماناتهم﴾ ما ائتمنوا عليه من أمر الدِّين والدُّنيا ﴿وعهدهم راعون﴾ وحلفهم الذي يُوجد عليهم راعون يرعون ذلك ويقومون بإتمامه
﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ بإدائها في مواقيتها
﴿أولئك هم الوارثون﴾ ثمَّ ذكر ما يرثون فقال:
﴿الذين يرثون الفردوس﴾ وذلك أنَّ الله تعالى جعل لكل امرئ بيتاً في الجنَّة فمَنْ عمل عمل أهل الجنَّة ورث بيته في الجنَّة والفردوس خير الجنان
﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ ابن آدم ﴿من سلالة﴾ من ماءٍ سُلَّ واستُخرِجَ من ظهر آدم وكان آدم عليه السَّلام خُلق من طينٍ
﴿ثمَّ جعلناه﴾ جعلنا الإنسان ﴿نطفة﴾ في أوَّل بُدوِّ خلقه ﴿في قرار مكين﴾ يعني: الرَّحم وقوله
﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ قيل: يريد الذُّكورية والأُنوثيَّة وقيل: يعني: نفخ الرُّوح وقيل: نبات الشَّعر والأسنان ﴿فتبارك الله﴾ استحقَّ التَّعظيم والثَّناء بدوام بقائه ﴿أحسن الخالقين﴾ المُصوِّرين والمقدرين
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾
﴿ثمَّ إنكم يوم القيامة تبعثون﴾
﴿ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق﴾ سبع سماوات كلٌّ سماءٍ طريقةٌ ﴿وما كنَّا عن الخلق غافلين﴾ عمَّن خلقنا من الخلق كلِّهم
﴿وأنزلنا من السماء ماء بقدر﴾ بمقدارٍ معلومٍ عند الله تعالى ﴿فأسكناه﴾ أثبتناه ﴿في الأرض﴾ قيل: هو النِّيل ودجلة والفرات وسيحان وجيحان وقيل: هو جميع المياه فِي الأَرْضِ ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ حتى تهلكوا أنتم ومواشيكم عطشا وقوله:
﴿فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾
﴿وشجرة تخرج﴾ يعني: الزَّيتون ﴿من طور سيناء﴾ يعني: جبلاً معروفاُ أوَّل ما ينبت الزَّيتون ينبت هناك ﴿تنبت بالدهن﴾ لأنَّه يتَّخذ الدُّهن من الزَّيتون ﴿وصبغ﴾ إدام ﴿للآكلين﴾ وقوله:
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تأكلون﴾
﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾
﴿يريد أن يتفضل عليكم﴾ يتشَّرف عليكم فيكون أفضل منكم بأن يكون متبوعاً وتكونوا له تبعاً ﴿ولو شاء الله لأنزل ملائكة﴾ تُبلِّغنا عنه ﴿ما سمعنا بهذا﴾ الذي يدعو إليه نوحٌ ﴿في آبائنا الأولين﴾
﴿إن هو﴾ ما هو ﴿إلاَّ رجلٌ به جنة﴾ جنونٌ ﴿فتربصوا به حتى حين﴾ انتظروا موته حتى يموت
﴿قال رب انصرني﴾ بإهلاكهم ﴿بما كذبون﴾ بتكذيبهم إياي وقوله:
﴿فأوحينا إليه﴾ الآية مُفسَّرة في سورة هود ﴿فاسلك فيها﴾ أَيْ اُدخل في السَّفينة والباقي مفسَّر في سورة هود
﴿فإذا استويت﴾ اعتدلت في السَّفينة راكباً الآية
﴿وقل رب أنزلني﴾ منها ﴿منزلاً﴾ إنزالاً ﴿مباركاً﴾ فاستجاب الله تعالى دعاءَه حيث قال: ﴿اهبط بسلام منا وبركات عليك﴾ وبارك فيهم بعد إنزالهم من السَّفينة حتى كان جميع الخلق من نسل نوحٍ ومَنْ كان معه في السَّفينة
﴿إن في ذلك﴾ الذي ذكرت ﴿لآيات﴾ لدلالاتٍ على قدرتنا ﴿وإن كنا لمبتلين﴾ مُختبرين طاعتهم بإرسال نوحٍ إليهم
﴿ثم أنشأنا من بعدهم﴾ أحدثنا ﴿قرناً آخرين﴾ يعني: عاداً
﴿فأرسلنا فيهم رسولاً منهم﴾ وهو هود وقوله:
﴿وأترفناهم﴾ أَيْ: نعَّمناهم ووسَّعنا عليهم وقوله:
﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾
﴿أنكم مخرجون﴾ أَيْ: من قبوركم أحياء
﴿هيهات هيهات﴾ بُعْداً ﴿لما توعدون﴾ من البعث
﴿إن هي﴾ ما هي ﴿إلاَّ حياتنا الدنيا﴾ يعني: الحياة الدَّانية في هذه الدَّار ﴿نموت ونحيا﴾ يموت الآباء ويحيا الأولاد
﴿إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وما نحن بمبعوثين﴾
﴿قال رب انصرني﴾ عليهم ﴿بما كذبون﴾ بتكذيبهم إياي
﴿قال عمَّا قليل﴾ عن قريبٍ ﴿ليصبحنَّ نادمين﴾ يندمون إذا نزل بهم العذاب على التَّكذيب
﴿فأخذتهم الصيحة﴾ صيحة العذاب ﴿بالحق﴾ بالأمر من الله تعالى ﴿فجعلناهم غثاء﴾ هلكى هامدين كغثاء السَّيل وهو ما يحمله من بالي الشَّجر ﴿فبعداً﴾ فهلاكاً ﴿للقوم الظالمين﴾ المشركين
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ﴾
﴿مَا تسبق من أمة أجلها﴾ لا تموت قبل أجلها ﴿وما يستأخرون﴾ بعد الأجل طرفة عين وقوله:
﴿تترا﴾ أَيْ: متتابعةً ﴿وجعلناهم أحاديث﴾ أَيْ: لمَنْ بعدهم يتحدثون بهم وقوله:
قال تعالى ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مبين﴾
﴿وكانوا قوماً عالين﴾ مستكبرين قاهرين غيرهم بالظُّلم
﴿وقومهما لنا عابدون﴾ أَيْ: مطيعون متذللون
﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ﴾
﴿ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون﴾ لكي يهتدي به قومه
﴿وجعلنا ابن مريم وأُمَّه آية﴾ دلالة على قدرتنا ﴿وآويناهما إلى ربوة﴾ يعني: بيت المقدس وهو أقرب الأرض إلى السَّماء ﴿ذات قرار﴾ أرضٍ مستويةٍ وساحةٍ واسعةٍ ﴿ومعين﴾ ماءٍ ظاهرٍ وقيل: هي دمشق
﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات﴾ هذا خطابٌ للنبي ﷺ والمراد به أنَّ الله تبارك وتعالى كأنه أخبر أنَّه قد قال لجميع الرُّسل قبله هذا القول وأمرهم بهذا والمعنى: كلوا من الحلال
﴿وإنَّ هذه أمتكم أمة واحدة﴾ أَيْ: ملَّتكم أيُّها الرُّسل ملَّةٌ واحدةٌ وهي الإِسلام ﴿وأنا ربكم﴾ شرعتها لكم وبيَّنتها لكم ﴿فاتقون﴾ فخافون
﴿فتقطعوا أمرهم بينهم﴾ يعني: المشركين واليهود والنصارى ﴿وزيرا﴾ فرقاً ﴿كلُّ حزب﴾ جماعةٍ ﴿بما لديهم﴾ بما عندهم من الدِّين ﴿فرحون﴾ مُعجبون مسرورون
﴿فذرهم في غمرتهم﴾ حيرتهم وضلالتهم ﴿حتى حين﴾ يريد: حتى حينِ الهلاكِ بالسَّيف أو الموت
﴿أيحسبون أنما نمدُّهم به﴾ ما نبسط عليهم ﴿من مال وبنين﴾ من المال والأولاد في هذه الدُّنيا
﴿نسارع لهم في الخيرات﴾ نُعطيهم ذلك ثواباً لهم ﴿بل لا يشعرون﴾ أنَّ ذلك استدراجٌ ثمَّ رجع إلى ذكر أوليائه فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون عذابه ومكره
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾
﴿والذين يؤتون ما آتوا﴾ يُعطون ما يُعطون ﴿وقلوبهم وجلة﴾ خائفةٌ أنَّ ذلك لا يُقبل منهم وقد أيقنوا أنَّهم إلى ربِّهم صائرون بالموت وقوله:
﴿وهم لها سابقون﴾ أَيْ: إليها ثمَّ ذكر أنَّه لم يُكلِّف العبد إلاَّ ما يسعه فقال:
﴿ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها﴾ فمَنْ لم يستطع أن يصلي قائماً فليصلِّ جالساً ﴿ولدينا كتاب﴾ يعني: اللَّوح المحفوظ ﴿ينطق بالحق﴾ يُبيِّن بالصِّدق ﴿وهم لا يظلمون﴾ لا ينقصون من ثواب أعمالهم ثمَّ عاد إلى ذكر المشركين فقال:
﴿بل قلوبهم في غمرة﴾ في جهالةٍ وغفلةٍ ﴿من هذا﴾ الكتاب الذي ينطق بالحقِّ ﴿ولهم أعمال من دون ذلك﴾ وللمشركين أعمالٌ حبيثة دون أعمال المؤمنين الذين ذكرهم ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾
﴿حتى إذا أخذنا مترفيهم﴾ رؤساءَهم وأغنياءَهم ﴿بالعذاب﴾ بالقحط والجوع سبع سنين ﴿إذا هم يجأرون﴾ يضجُّون ويجزعون ونقول لهم:
﴿لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ﴾ لا تُمنعون ولا ينفعكم جزعكم
﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ يعني: القرآن ﴿فكنتم على أعقابكم﴾ على أدياركم ﴿تنكصون﴾ ترجعون القهقرى مُكذِّبين به
﴿مستكبرين به﴾ أي: بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحدٌ لأنَّا أهل الحرم ﴿سامراً﴾ سُمَّاراً باللَّيل ﴿تُهْجِرُون﴾ تهذون وتقولون الهُجر من سب النبي صلى الله عليه وسلم
﴿أفلم يدبروا القول﴾ يتدبَّروا القرآن فيقفوا على صدقك ﴿أم جاءهم﴾ بل أَجاءهم ﴿ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ يريد: إنَّ إنزال الكتاب قد كان قبل هذا فليس إنزال الكتاب عليك ببديعٍ ينكرونه
﴿أم لم يعرفوا رسولهم﴾ الذي نشأ فيما بينهم وعرفوه بالصِّدق
﴿أم يقولون﴾ بل أيقولون ﴿به جنة﴾ جنونٌ ﴿بل جاءهم﴾ ليس الأمر كما يقولون بل جاءهم الرَّسول ﴿بالحق﴾ بالقرآن من عند الله
﴿ولو اتبع الحق﴾ القرآن الذي يدعو إلى المحاسن ﴿أهواءَهم﴾ التي تدعو إلى المقابح أي: لو كان التَّنزيل بما يُحبُّون ﴿لفسدت السماوات والأرض﴾ وذلك أنها خلفت دلالةً على توحيد الله فلو كان القرآن على مرادهم لكن يدعو إلى الشِّرك وذلك يُؤدِّي إلى إفساد أدلة التَّوحيد وقوله: ﴿ومَنْ فيهنَّ﴾ لأنَّهم حينئذٍ يُشركون بالله تعالى ﴿بل أتيناهم بذكرهم﴾ بشرهم في الدُّنيا والآخرة
﴿أم تسألهم﴾ أنت يا محمَّد على ما جئت به ﴿خرجاً﴾ جُعلاً وأجراً ﴿فخراج ربك﴾ فعطاه ربك وثوابه ﴿خير﴾ وقوله:
﴿وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم﴾
﴿لناكبون﴾ أَيْ: عادلون مائلون
﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ﴾ جذب وقحطٍ ﴿للجوا﴾ لتمادوا ﴿في طغيانهم يعمهون﴾ نزلت هذه الآية حين شكوا إلى النبي ﷺ وقالوا: قتلْتَ الآباء بالسَّيف والأبناء بالجوع
﴿ولقد أخذناهم بالعذاب﴾ بالجوع ﴿فما استكانوا لربهم﴾ ما تواضعوا
﴿حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شديد﴾ يوم بدرٍ وقيل: عذاب الآخرة ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ آيسون من كلِّ خير وقوله:
قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قليلا ما تشكرون﴾
قال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
﴿وله اختلاف الليل والنهار﴾ أي: هو الذي جعلنهما مختلفين وقوله:
﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ﴾
﴿قَالُوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاما أإنا لمبعوثون﴾
﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين﴾
﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تعلمون﴾
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾
﴿قل من رب السماوات السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾
﴿سيقولون لله قل أفلا تتقون﴾
﴿ملكوت كل شيء﴾ أي: ملكه يعني: مَنْ يملك كلَّ شيء؟ ﴿وهو يجير﴾ يُؤمن من يشاء ﴿ولا يجار عليه﴾ لا يُؤمَنُ مَنْ أخافه وقوله:
﴿فأنى تسحرون﴾ تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته
﴿بل أتيناهم بالحق﴾ يعني: القرآن ﴿وإنهم لكاذبون﴾ أنَّ الملائكة بنات الله
﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بما خلق﴾ ينفرد بمخلوقاته فيمنع الإله الآخر عن الاستيلاء عليها ﴿ولعلا بعضهم على بعض﴾ بالقهر والمزاحمة كالعادة بين الملوك ﴿سبحان الله﴾ تنزيهاً له ﴿عما يصفون﴾ من الكذب
﴿عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون﴾
﴿قل رب إما تريني ما يوعدون﴾ ما يُوعَدُ المشركون من العذاب
﴿فلا تجعلني﴾ معهم أَيْ: إنْ أنزلت بهم النِّقمة فاجعلني خارجا منهم
﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾
﴿ادفع بالتي هي أحسن﴾ من الحلم والصَّفح ﴿السيئة﴾ التي تأتيك منهم من الأذى والمكروه ﴿نحن أعلم بما يصفون﴾ فنجازيهم به وهذا كان قبل الأمر بالقتال
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ نزعاتها ووساوسها
﴿وأعوذ بك رب أن يحضرون﴾ في شيءٍ من أموري وقوله:
﴿رب ارجعون﴾ أي: ارددني إلى الدُّنيا
﴿لعلي أعمل صالحاً﴾ أَيْ: بالتَّوحيد ﴿فيما تركت﴾ حين كنت في الدُّنيا ﴿كلا﴾ لا يرجع إلى الدُّنيا ﴿إنها كلمة هو قائلها﴾ عند الموت ولا يُجاب إلى ذلك ﴿ومن ورائهم﴾ أمامهم ﴿برزخ﴾ حاجزٌ بينهم وبين الرُّجوع إلى الدُّنيا
﴿فإذا نفخ في الصور﴾ النَّفخة الأخيرة ﴿فلا أنساب بينهم يومئذ﴾ لا يفتخرون بالأنساب ﴿ولا يتساءلون﴾ كما يتساءلون في الدُّنيا من أيِّ قبيلةٍ ونَسبٍ أنت
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جهنم خالدون﴾
﴿تفلح﴾ تحرق ﴿وهم فيها كالحون﴾ عابسون لتقلُّص شفاههم بالانشواء فيقال لهم:
﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تكذبون﴾
﴿قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا﴾ التي قضيتَ علينا ﴿وكنا قوماً ضالين﴾ أقرُّوا على أنفسهم بالضلال وقوله:
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾
﴿اخسؤوا﴾ أي: تباعدوا تباعد سخط عليكم وقوله:
﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾
﴿فاتخذتموهم سخرياً﴾ أَيْ: سخرتم منهم واسهزأتم ﴿حتى أنسوكم ذكري﴾ لاشتغالكم بالاستهزاء
﴿إني جزيتهم اليوم﴾ قابلتُ عملهم بما يستحقُّون من الثَّواب ﴿بما صبروا﴾ على أذاكم ﴿أنهم هم الفائزون﴾ النَّاجون من العذاب والنَّار
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ﴾ قال الله تعالى لمنكري البعث إذا بعثهم من قبورهم: كم لبثتم في قبوركم؟ وهذا سؤال توبيخٍ لهم لأنَّهم كانوا يُنكرون أن يُبعثوا من قبورهم
﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ وذلك أنَّ العذاب رُفع عنهم فيما بين النَّفختين ونسوا ما كانوا فيه من العذاب فاستقصروا مدَّة لبثهم فلذلك قَالُوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين﴾ أي: فاسأل الملائكة الذين يحفظون عدد ما لبثنا
﴿قال إن لبثتم﴾ ما لبثتم ﴿إلاَّ قليلاً﴾ وإن طال لبثكم في طول لبثكم في النَّار ﴿لو أنكم كنتم تعلمون﴾ مقدار لبثكم في القبر وذلك أنَّهم لم يعلموا ذلك حيث قالوا: ﴿لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ فقيل: لهم: لو كنتم تعلمون ذلك كان قليلاً عند طول لبثكم في النَّار
﴿أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً﴾ أَيْ: للعبث لا لحكمة من ثوابٍ للمطيع وعقابٍ للعاصي وقيل: عبثاً للعبث حتى تعبثوا وتغفلوا وتلهوا
﴿رب العرش الكريم﴾ أي: السَّرير الحسن
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا برهان له به﴾ لا حجَّة له بما يفعل من عبادته غير الله ﴿فإنما حسابه عند ربه﴾ جزاؤه عند الله تعالى فهو يجازيه لما يستحقُّه ﴿إنه لا يفلح الكافرون﴾ لا يسعد المُكذِّبون ثم أمر رسوله أن يستغفر للمؤمنين ويسأل لهم الرَّحمة فقال:
﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾
سورة المؤمنون
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (المؤمنون) من السُّوَر المكية التي اهتمت بذِكْرِ دلائل وَحْدانية الله تعالى، كما اهتمت بذِكْرِ صفاتِ المؤمنين المفلحين؛ كما في فاتحة السورة الكريمة، وقد صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ مَن أقامَ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَلَ الجنَّةَ، وبالأخذِ بهذه الصفات التي ذكَرها الله للمؤمنين، تصلُحُ للعبد دنياه وآخرتُه، ويحقِّقُ معنى التوحيد التام.

ترتيبها المصحفي
23
نوعها
مكية
ألفاظها
1052
ترتيب نزولها
74
العد المدني الأول
119
العد المدني الأخير
119
العد البصري
119
العد الكوفي
118
العد الشامي
119

* قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاء أبو سُفْيانَ بنُ حَرْبٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مُحمَّدُ، أنشُدُك اللهَ والرَّحِمَ؛ فقد أكَلْنا العِلْهِزَ - يعني: الوَبَرَ والدَّمَ -؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]». أخرجه ابن حبان (٩٦٧).

* سورةُ (المؤمنون):

سُمِّيت سورة (المؤمنون) بذلك؛ لأنَّ فاتحتها أفصَحتْ عن ذِكْرِ صفات المؤمنين.

 * أنَّ مَن أقام أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَل الجنَّة:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «كان إذا نزَلَ على رسولِ اللهِ ﷺ الوحيُ يُسمَعُ عند وجهِه دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ، فمكَثْنا ساعةً، فاستقبَلَ القِبْلةَ، ورفَعَ يدَيهِ، فقال: «اللهمَّ زِدْنا ولا تنقُصْنا، وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا، وارضَ عنَّا وأرضِنا»، ثم قال: «لقد نزَلتْ عليَّ عَشْرُ آياتٍ، مَن أقامَهنَّ دخَلَ الجنَّةَ»، ثم قرَأَ علينا: {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] حتى ختَمَ العَشْرَ». أخرجه الترمذي (3097).

* كانت تَتجلَّى صفاتُ رسول الله ﷺ من خلالِ هذه السورة:

فعن يَزيدَ بن بابَنُوسَ، قال: «دخَلْنا على عائشةَ، فقُلْنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ؟ قالت: كان خُلُقُه القُرْآنَ، تَقرَؤون سورةَ المؤمنين؟ قالت: اقرَأْ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ}، قال يَزيدُ: فقرَأْتُ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى: {لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ} [المؤمنون: 5]، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ». أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (٤٨).

* هي السورةُ التي قرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ:

عن عبدِ اللهِ بن السائبِ رضي الله عنه، قال: «حضَرْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يومَ الفتحِ وصلَّى في الكعبةِ، فخلَعَ نَعْلَيهِ فوضَعَهما عن يسارِه، ثم افتتَحَ سورةَ (المؤمنون)، فلمَّا بلَغَ ذِكْرَ عيسى أو موسى، أخَذَتْهُ سَعْلةٌ، فركَعَ». أخرجه أبو داود (٦٤٨).

جاءت سورةُ (المؤمنون) على ذِكْرِ الموضوعات الآتية:

1. صفات المؤمنين (١-١١).

2. أدلة وَحْدانية الله (١٢-٢٢).

3. الإيمان بالرسل، ومواقف أقوامهم منهم (٢٣-٥٢).

4. تفرُّق الأُمَم بعد رسلهم (٥٣-٧٧).

5. أدلة إثبات وَحْدانية الله وقدرته (٧٨-٩٨).

6. مِن مشاهِدِ يوم القيامة (٩٩- ١١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /124).

ظهَر مقصودُ سورة (المؤمنون) في اسمها؛ وهو اختصاصُ المؤمنين بالفلاح، وقد دارت آيُها حول مِحوَرِ تحقيقِ الوَحْدانية، وإبطالِ الشرك ونقضِ قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه؛ فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلَّوْا به من أصول الفضائل الرُّوحية والعلمية، التي بها تزكيةُ النَّفس، واستقامةُ السلوك.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /303)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (18 /6).