ﰡ
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢)ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله.
و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود.
والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة، ومخامرة التصديق خلاصة القلب، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد «١».
والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة، والذوبان تحت سلطان الكشف، والامتحاء عند غلبات التّجلّي.
ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاة آداب الحضرة. ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب.
وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه، (فإذا خنس عن نفسه) «٢» وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه، وطاب له العيش، وتمّت له النّعمى، وتجلّت له البشرى، ووجد لذّة الحياة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٣]
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
ما يشغل عن الله فهو سهو، وما ليس لله فهو حشو، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر) «٣».
ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٤]
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
(٢) ما بين القوسين موجود فى م وغير موجود فى ص. [.....]
(٣) موجود فى م وغير موجود فى ص.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥ الى ٦]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
لفروجهم حافظون ابتغاء نسل يقوم بحقّ الله، ويقال ذلك إذا كان مقصوده التعفف والتصاون عن مخالفات الإثم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧]
فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
أي من جاوز قصد إيثار الحقوق، وجنح إلى جانب استيفاء الحظوظ.. فقد تعدّى محلّ الأكابر، وخالف طريقتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٨]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨)
الأمانات مختلفة، وعند كلّ أحد أمانة أخرى، فقوم عندهم الوظائف بظواهرهم، وآخرون عندهم اللطائف فى سرائرهم، ولقوم معاملاتهم، ولآخرين منازلاتهم، ولآخرين مواصلاتهم.
وكذلك عهودهم متفاوتة فمنهم من عاهده ألا يعبد سواه، ومنهم من عاهده ألا يشهد فى الكونين سواه.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٩]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
لا تصادفهم الأوقات، وهم غير مستعدين، ولا يدعوهم المنادى وهم ليسوا بالباب، فهم فى الصف الأول بظواهرهم، وكذلك فى الصف الأول بسرائرهم قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠ الى ١١]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
وكما فى استحقاق الإرث تفاوت فى مقدار السهمان: بالفرض أو بالتعصيب- فكذلك فى الطاعات فمنهم من هم فى الفردوس بنفوسهم، وفى الأحوال اللطيفة بقلوبهم، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعا لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا (... ) «١» عن حالات قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٢]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
عرّفهم أصلهم لئلا يعجبوا بفعلهم.
ويقال نسبهم لئلا يخرجوا عن حدّهم، ولا يغلطوا فى نفوسهم.
ويقال خلقهم من سلالة سلّت من كل بقعه فمنهم من طينته من جردة «٢» أو من سبخة «٣» أو من سهل، أو من وعر.. ولذلك اختلفت أخلاقهم.
ويقال بسط عذرهم عند الكافة فإنّ المخلوق من سلالة من طين... ما الذي ينتظر منه؟! ويقال خلقهم من سلالة من طين، والقدر للتربية لا للتربة.
ويقال خلقهم من سلالة ولكنّ معدن المعرفة ومرتع المحبة، ومتعلق العناية منه لهم قال تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».
ويقال خلقهم، ثم من حال إلى حال نقلّهم، يغيّر بهم ما شاء تغييره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٣ الى ١٤]
ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
(٢) الأرض الجردة التي لا نبات فيها.
(٣) السّبخة التي فيها ملح ونزّ ولا تكاد تنبت.
قوله جل ذكره: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فى التفاسير أنه صورة الوجه، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة، واختصّ به من السّمع والبصر والعقل والتمييز، وما تفرّد به بعض منهم بمزايا فى الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات.
ويقال «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» : وهو أن هيّأهم لأحوال عزيزة يظهرها عليهم بعد بلوغهم، إذا حصل لهم كمال التمييز من فنون الأحوال فلقوم تخصيص بزينة العبودية، ولقوم تحرّر من رقّ البشرية، ولآخرين تحقق بالصفات الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هى أوصاف البشرية.
قوله جل ذكره: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ خلق السماوات والأرضين بجملتها، والعرش والكرسىّ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها- ثم لمّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خلقه بنى آدم تخصيصا لهم وتمييزا، وإفرادا لهم من بين المخلوقات.
ويقال إن لم يقل لك إنّك أحسن المخلوقات فى هذه الآية فلقد قال فى آية أخرى:
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» «١».
ويقال لما ذكر نعتك، وتارات حالك فى ابتداء خلقك، ولم يكن منك لسان شكر ينطق، ولا بيان مدح ينطلق.. ناب عنك فى الثناء على نفسه، فقال: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٥]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
أنشدوا:
آخر الأمر ما ترى... القبر واللحد والثرى
وأنشدوا:
حياتنا عندنا قروض... ونحن بعد الموت فى التقاضي
لا بدّ من ردّ ما اقترضنا... كلّ غريم بذاك راضى
ويقال نعاك إلى نفسك بقوله: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» وكلّ ما هو آت فقريب.
ويقال كسر على أهل الغفلة سطوة غفلتهم، وفلّ دونهم سيف صولتهم بقوله: ثم إنكم بعد ذلك لميتون، وللجماد مضاهون، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لمبعدون، وفى عداد ما لا خطر له من الأموات معدودون.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٦]
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
فعند ذلك يتصل الحساب والعقاب، والسؤال والعقاب، ويتبين المقبول من المردود، والموصول من المهجور.
ويوم القيامة يوم خوّف به العالم حتى لو قيل للقيامة: ممن تخافين؟ لقالت من القيامة.
وفى القيامة ترى الناس سكارى حيارى لا يعرفون أحوالهم ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم، إلى أن يتبيّن لكلّ واحد أمره خيره وشرّه: فيثقل بالخيرات ميزانه، أو يخف
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
الحقّ- سبحانه- لا يستتر عن رؤيته مدرك، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته- خافية. وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم فالعادة جارية بأنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب. وكذلك إذا حلّت الغفلة القلوب استولى عليها الذهول، وانسدّت بصائرها، وانتفت فهومها وفوقنا حجب ظاهرة وباطنة ففى الظاهر السماوات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمنية والشهوة، والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.
أمّا المريدون فإذا أظلّتهم سحائب الفترة، وسكن هيجان إرادتهم فذلك من الطرائق التي عليهم.
وأما الزاهدون فإذا تحرّك بهم عرق الرغبة انفلّت «١» قوة زهدهم، وضعفت دعائم صبرهم، فيترخّصون بالجنوح إلى بعض التأويلات، فتعود رغباتهم قليلا قليلا، وتختلّ رتبة عزوفهم، وتنهدّ دعائم زهدهم، وبداية ذلك من الطرائق التي خلق فوقهم.
وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحايينهم وقفة فى تصاعد سرّهم إلى ساحات الحقائق.
فيصيرون موقفين ريثما يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذا، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق.
وفى جميع هذا فإنّ الحقّ سبحانه غير غافل عن الخلق، ولا تارك للعباد.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٨]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨).
البلاد مختلفة فى السّقى: فبعضها خصب، وبعضها جدب، وسنة يزيد وسنة ينقص، سنة يفيض وسنة يغيض.
كذلك أنزلنا من السماء ماء الرحمة فيحيى القلوب، وهى مختلفة فى الشّرب: فمن موسّع عليه رزقه منه، ومن مضيّق مقتّر عليه. ومن وقت هو وقت سحّ، ومن وقت هو وقت حبس.
ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به درن العصاة وآثار زلّتهم وأوضار عثرتهم، وماء هو سقى قلوبهم يزيل به عطش تحيرهم، ويحيى به موات أحوالهم فتنبت فى رياض قلوبهم فنون أزهار البسط، وصنوف أنوار الروح. وماء هو شراب المحبة فيخص به قلوبا بساحات القرب، فيزيل عنها به حشمة الوصف، ويسكن به قلوبا فيعطلها عن التمييز، ويحملها على التجاسر ببذل الرّوح فإذا شربوا طربوا، وإذا طربوا لم يبالوا بما وهبوا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١٩]
فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
كما يحيى بماء السماء الغياض والرياض، ويصنّف فيها الأزهار والأنوار، وتثمر الأشجار وتجرى الأنهار.. فكذلك يسقى القلوب بماء العرفان فتورق وتثمر بعد ما تزهر، وتؤتى أكلها: من طيب عيش، وكمال بسط، ثم وفور هيبة ثم روح أنس، ونتائج تجلّ، وعوائد قرب.. إلى ما تتقاصر العبارات عن شرحه، ولا تطمع الإشارات فى حصره.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢١]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
الإشارات منه أنّ الكدورات الهاجمة لا عبرة بها، ولا مبالاة فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوى حواياها عليه من الوحشة، لكنه صاف لم يؤثر
«وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ» : لازمة لكم، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم:
إنّي- على جفواتها- بربّها... وبكلّ متّصل بها متوسّل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٢]
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
يحفظهم فى السفينة فى بحار القطرة، ويحفظهم فى سفينة السلامة والعصمة فى بحار القدرة، وإنّ بحار القدرة تتلاطم أمواجها، والناس فيها غرقى إلا من يحفظه الحقّ- سبحانه- فى سفينة العناية.
وصفة أهل الفلك إذا مستهم شدّة خوف الغرق ما ذكر الله فى قوله: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٢» » كذلك من شاهد نفسه على شفا الهلاك والغرق، والتجأ إلى صدق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقّ- سبحانه- من مخلوقات التقدير. ويقال إنّ وجه الأرض بحار الغفلة، وما عليه الناس من أسباب التفرقة بحار مهلكة والناس فيها غرقى، وكما قال بعضهم:
الناس بحر عميق... والبعد عنهم سفينة
وقد نصحتك فانظر... لنفسك المسكينة
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣).
(٢) آية ٦٥ سورة العنكبوت.
وفى الخبر أن نوحا كان اسمه يشكر ولكثرة ما كان يبكى أوحى الله إليه: يا نوح..
إلى كم تنوح؟ فسمّاه نوحا. ويقال إنّ ذنبه أنه مرّ يوما بكلب فقال: ما أوحشه! فأوحى الله إليه: اخلق أنت أحسن من هذا! فكان يبكى معتذرا عن قالته تلك.
وكان قومه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوة إلا ازدادوا عن إجابته نبوة، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوة على قسوة.
ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل فى السفينة أهله، تعرّض له إبليس- كما جاء فى القصة- وقال: احملنى معك فى السفينة، فأبى نوح وقال: يا شقّى.. تطمع فى حملى إياك وأنت رأس الكفرة؟! فقال إبليس: أما علمت- يا نوح- أنّ الله أنظرنى إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليوم أحد إلّا فى هذه السفينة؟
فأوحى الله إلى نوح أن احمله فكان إبليس مع نوح فى السفينة، ولم يكن لابنه معه مكان فى السفينة. (وفى هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول) «١» لأنه إن كان المعنى فى أن ابنه لم يكن معه له مكان لكفره فبإبليس يشكل.. ولكنها أحكام غير معلولة، وجاز له- سبحانه- أن يفعل ما يريد: يصل «٢» من شاء ويردّ من شاء
(٢) وردت فى م (يضل) بالضاد ونحن نجد (يصل) أكثر انسجاما مع المعنى لتقابل (يرد)
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٢٩]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
الإنزال المبارك أن يكون بالله ولله، وعلى شهود الله من غير غفلة عن الله، ولا مخالفا لأمر الله ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القرب عليك، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلّى حتى لا تبقى عين ولا أثر، فإذا تمّ هذا ودام هذا فهو نزول بساحات الحقيقة مبارك لأنك بلا أنت.. بكليتك من غير بقية أو أثر عنك.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٣١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١)
تتابعت القرون على طريقة واحدة فى التكذيب، وغرّهم طول الامهال، وما مكنّهم من رفه العيش وخفض الدّعة، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم، ولم يسم لهم طرف إلى من فوقهم فى الحال والمنزلة، فقالوا: أنؤمن بمن يتردد فى الأسواق، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟
ولئن أطعنا بشرا مثلنا لسلكنا سبيل الغىّ، وتنكبنا سنّة الرّشد. فأجراهم الله فى الإهانة وإحلال العقوبة بهم مجرى واحدا، وأذاقهم عذاب الخزي. وأعظم ما داخلهم من الشّبهة والاستبعاد أمر الحشر والنشر، ولم يرتقوا للعلم بأنّ الإعادة كالابتداء فى الجواز وعدم الاستحالة، والله يهدى من يشاء ويغوى من يريد.
ثم إن الله فى هذه السورة ذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بعده قصة عيسى عليه السلام، وخصّ كلّ واحد منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
كلوا من الطيبات مما أحلّ لكم وأباح، وما هو محكوم بأنه طيب- على شريطة مطابقة
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٢]
وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
معبودكم واحد، ونبيّكم واحد، وشرعكم واحد فأنتم فى الأصول شرع سواء، فلا تسلكوا ثنيات الطرق «١» فتطيحوا فى أودية الضلالة. وعليكم باتباع سلّفكم، واحذروا موافقة ابتداع خلفكم.
«وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» خافوا مخالفة أمرى، واعرفوا عظيم قدرى، واحفظوا فى جريان التقدير سرّى، واستديموا بقلوبكم ذكرى، تجدوا فى مآلكم غفرى، وتحظوا بجميل برّى.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٣]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
فمستقيم على حقّه، وتائه فى غيّه، ومصرّ على عصيانه وفسقه، ومقيم على إحسانه وصدقه، كلّ مربوط بحدّه، موقوف بما قسم له فى البداية من شأنه، كلّ ينتحل طريقته ويدّعى بحسن طريقته حقيقة، وعند صحو سماء قلوب أرباب التوحيد لا غبار فى الطريق وهم على يقين معارفهم فلا ريب يتخالجهم ولا شبهة.
وأهل الباطل فى عمى جهلهم، وغبار جحدهم، وظلمة تقليدهم، ومحنة شكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٤]
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
إنّ مدة أخذهم لقريبة، والعقوبة عليهم- إذا أخذوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦).
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)
أمارة الإشفاق من الخشية إطراق السريرة فى حال الوقوف بين يدى الله بشواهد الأدب، ومحاذرة بغتات الطّرد، لا يستقر بهم قرار لما داخلهم من الرّعب، واستولى عليهم من سلطان الهيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٨]
وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
تلك الآيات مختلفة فمنها ما يكاشفون به فى الأقطار من اختلاف الأدوار، وما فيه الناس من فنون الهمم وصنوف المنى والإرادات، فإذا آمن العبد بها، واعتبر بها اقتنع بما يرى نفسه مطالبا به.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٥٩]
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩)
يذرون جلّى الشّرك وخفيّه والشّرك الخفىّ ملاحظة الخلق فى أوان الطاعات، والاستبشار بمدح الخلق وقبولهم، والانكسار والذبول عند انقطاع رؤية الخلق.
ويقال الشّرك الخفىّ إحالة النادر من الحالات- فى المسارّ والمضارّ- على الأسباب كقول القائل. «لولا دعاء أبيك لهلكت» و «لولا همّة فلان لما أفلحت»... وأمثال هذا قال الله تعالى «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» «٢».
وكذلك توّهم حصول الشّفاء من شرب الدواء.
فاذا أيقن العبد بسرّه ألا شىء من الحدثان، ولم يتوهم ذلك، وأيقن ألّا شىء إلّا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشّرك «٣».
(٢) آيه ١٠٦ سورة يوسف.
(٣) أي أن القشيري لا ينكر الأسباب ولكن يعنى على من يتوهم أن من الحدثان شيئا.
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٠]
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
يخلصون فى الطاعات من غير إلمام بتقصير، أو تعريح فى أوطان الكسل، أو جنوح إلى الاسترواح بالرّخص. ثم يخافون كأنهم ألمّوا بالفواحش، ويلاحظون أحوالهم بعين الاستصغار، والاستحقار، ويخافون بغتات التقدير، وقضايا السخط، وكما قيل:
يتجنّب الآثام ثم يخافها | فكأنّما حسناته آثام |
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦١]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
«١» مسارع بقدمه من حيث الطاعات، ومسارع بهممه من حيث المواصلات، ومسارع بندمه من حيث تجرّع الحسرات، والكلّ مصيب، وللكلّ من إقباله- على ما يليق بحاله- نصيب.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٢]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
المطالبات فى الشريعة مضمّنة بالسهولة، وأمّا مطالبات الحقيقة فكما قالوا: ليس إلّا بذل الروح، ولهذا فهم لا تشغلهم الترّهات «٢». قال لأهل الرخص والمستضعفين فى الحال:
«وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «٣»، وأمّا أرباب الحقائق فقال: «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ» «٤» وقال: «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «٥»، وقال: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ «٦» ».
(٢) الترهات جمع ترهة وهى القول الباطل الذي لا نفع فيه، أو الطريق الصغيرة المتشعبة عن الطريق الأعظم.
(٣) آية ٧٨ سورة الحج.
(٤) آية ٢٨٤ سورة البقرة.
(٥) آية ١٥ سورة النور.
(٦) آية ٧٨ سورة الحج.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٣]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
لا يصلح لهذا الشأن «١» إلا من كان فارغا من جميع الأعمال، لا شغل له فى الدنيا والآخرة، فأمّا من له شغل بدنياه، أو على قلبه حديث عقباه، فليس له نصيب من حديث مولاه، وفى الخبر «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».
ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم، وأرباب العقبى مشغولون بعقباهم، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم وإن الذي له فى الدنيا والآخرة غير مولاه- حين الفراغ- عزيز قال تعالى: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٤]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
إنه- سبحانه- يمهل ولكنّه لا يهمل فإذا أخذ فبطشه شديد، قال تعالى:
«إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» «٣»... فإذا أخذ أصحاب الكبائر- حين يحل بهم الانتقام- فى الجواب ردّوا في الهوان، ويقال لهم:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٥]
لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥)
فإذا انفصل من الغيب حكم فلا مردّ لتقديره.
(٢) آية ٥٥ سورة يس.
(٣) آية ١٢ سورة البروج.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
ذكر هذا من باب إملاء العذر، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفع- الآن- الجزع ولا يسمع العذر والملوك إذا أبرموا حكما، فالاستغاثة غير مؤثّرة فى الحاصل منهم، قال قائلهم:
إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد... إليه بوجه- آخر الدهر- تقبل
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٨]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
يعنى أنهم لو أنعموا النظر، وسلطوا على أحوالهم صائب الفكر لاستبصروا فى الحال، ولا نتفى عن قلوبهم الاستعجام والإشكال، ولكنهم استوطنوا مركب الكسل، وعرّجوا فى أوطان التغافل، فتعودوا الجهل، وأيسوا من الاستبصار.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٦٩]
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
ذهلوا عن التحقيق فتطوّحوا فى أودية المغاليط، وترجّمت بهم الظنون الخاطئة، وملكتهم كواذب التقديرات «١»، فأخبر الله (الرسول) «٢» عن أحوالهم فمرة قابلوه بالتكذيب، ومرة رموه بالسّحر، ومرة عابوه بتعاطيه أفعال العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب، ومرة قدحوا فيه بما هو فيه من الفقر وقلّة ذات اليد... فأخبر الله عن تشتّت أحوالهم، وتقسّم أفكارهم
(٢) السياق يتطلب وجود كلمة (الرسول) وهى غير موجودة فى التسخين فوضعناها من عندنا لينسجم الأسلوب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧١]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
وذلك لتضادّ مناهم وأهوائهم إذ هم متشاكسون فى السؤال والمراد، وتحصيل ذلك محال تقديره فى الوجود. فبيّن الله- سبحانه- أنه لو أجرى حكمه على وفق مرادهم لاختلّ أمر السماوات والأرض، ولخرج عن حدّ الإحكام والإتقان.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٢]
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
أي إنّك لا تطالبهم على تبليغ الرسالة بأجر، ولا بإعطاء عوض حتى تكون بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة. أم لعلّك تريد أن يعقدوا لك الرياسة. ثم قال: والذي لك من الله سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يغنيك عن التصدّى لنيل ما يكون فى حصوله منهم مطمع. وهذا كان سنّة الأنبياء والمرسلين عملوا لله ولم يطلبوا أجرا من غير الله.
والعلماء ورثة الأنبياء فسبيلهم التوقّى عن التّدنّس بالأطماع، والأكل بالدّين فإنه رياء مضرّ بالإيمان فإذا كان العمل لله فالأجر منتظر من الله، وهو موعود من قبل الله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
الصراط المستقيم شهود الربّ بنعت الانفراد فى جميع الأشياء، وفى الإيجاد، والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراه الحكم.
قوله جل ذكره: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٥]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
أخبر عن صادق علمه بهم، وذلك صادر عن سابق حكمه فيهم، فقال: لو كشفنا عنهم فى الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان فى المآل، ولقد علم أنهم سيكفرون، وحكم عليهم بأنهم يكفرون إذ لا يجوز أن يكون حكمه فيهم بخلاف علمه بهم «١» قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٦]
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
أذقناهم مقدمات العذاب دون شدائده.. تنبيها لهم، فما انتبهوا وما انزجروا، ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرع والابتهال لأسرع الله زواله عنهم، ولكنهم أصرّوا على باطلهم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٧]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
لما أجللنا بهم أشدّ العقوبات ضعفوا عن تحمّلها، وأخذوا بغتة، ولم ينفعهم ما قدّموا من الابتهال، فيئسوا عن الإجابة، وعرّجوا فى أوطان القنوط.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨)
ذكر عظيم منّته عليهم بأن خلق لهم هذه الأعضاء، وطالبهم بالشكر عليها.
وشكرهم عليها استعمالها فى طاعته فشكر السّمع ألا تسمع إلا بالله ولله، وشكر البصر ألا تنظر إلا بالله لله، وشكر القلب ألّا تشهد غير الله، وألّا تحبّ به غير الله.
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٧٩]
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
الابتداء للحادثات من الله بدعا، والانتهاء إليه عودا، والتوحيد ينتظم هذه المعاني فتعرف أنّ الحادثات بالله ظهورا، ولله ملكا، ومن الله ابتداء، وإلى الله انتهاء.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ٨٠]
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
يحيى النفوس ويميتها والمعنى فى ذلك معلوم، وكذلك يحيى القلوب ويميتها فموت القلب بالكفر والجحد، وحياة القلب بالإيمان والتوحيد، وكما أنّ للقلوب حياة وموتا فكذلك للأوقات موت وحياة، فحياة الأوقات بيمن إقباله، وموت الأوقات بمحنة إعراضه، وفى معناه أنشدوا:
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا | فكم أحيا عليك وكم أموت |
ويقول قائلهم:
وكم لظلام الليل عندى من | تخبّر أنّ المانوية تكذّب |
ليالى وصال قد مضين كأنّها | لآلى عقود فى نحور الكواعب |
وأيام هجر أعقبتها كأنّها | بياض مشيب فى سواد الذوائب |
أتانى عنك سبّك لى.. فسبىّ | أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبى |
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
الحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائه بما يطيّب به قلوب أوليائه، وتلك خصومة الحق، فيقول:
قد كان قوم من أوليائى يفصحون بمدحى وثنائى، ويتصفون بمدحى واطرائى، فاتخذتموهم سخريا | فأنا اليوم أجازيهم، وأنتقم ممن كان يناويهم. |
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٤]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
عدد سنين الأشياء- وإن كانت كثيرة- فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفى ويربى عليها، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا فى الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها فى القيامة، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية.
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٥]
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
العبث اللهو، واللّعب والاشتغال بما يلهى عن الحقّ، والله لم يأمر العباد بذلك، ولم يدعهم إلى ذلك، ولم يندبهم إليه.
والعابث فى فعله من فعله على غير حدّ الاستقامة، ويكون هازلا مستجلبا بفعله أحكام اللهو إلى نفسه، متماديا فى سهوه، مستلذّ التفرقة فى قصده. وكلّ هذا من صفات ذوى البشرية، والحقّ- سبحانه- منزّه النّعت عن هذه الجملة، فلا هو بفعل شىء عابث، ولا بشىء من العبث آمر.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٦]
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
الحقّ- بنعوت جلاله- متوحّد، وفى عزّ آزاله وعلّو أوصافه متفرّد، فذاته حقّ، وصفاته حقّ، وقوله صدق، ولا يتوجّه لمخلوق عليه حق، وما يفعله من إحسان بعباده فليس شىء منها بمستحق «١».
«لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» : ما تجمّل بالعرش، ولكن تعزّز العرش بأنّه أضافه إلى نفسه إضافة خصوصية.
والكريم الحسن، والكرم نفى الدناءة.
قوله جل ذكره:
[سورة المؤمنون (٢٣) : آية ١١٧]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧)
حسابه على الله فى آجله. وعذابه من الله له فى عاجله، وهو الجهل الذي أودع قلبه حتى رضى بأن يعبد معه غيره. وقولهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» كلام
سورة المؤمنون
سورةُ (المؤمنون) من السُّوَر المكية التي اهتمت بذِكْرِ دلائل وَحْدانية الله تعالى، كما اهتمت بذِكْرِ صفاتِ المؤمنين المفلحين؛ كما في فاتحة السورة الكريمة، وقد صح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ مَن أقامَ أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَلَ الجنَّةَ، وبالأخذِ بهذه الصفات التي ذكَرها الله للمؤمنين، تصلُحُ للعبد دنياه وآخرتُه، ويحقِّقُ معنى التوحيد التام.
ترتيبها المصحفي
23نوعها
مكيةألفاظها
1052ترتيب نزولها
74العد المدني الأول
119العد المدني الأخير
119العد البصري
119العد الكوفي
118العد الشامي
119* قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاء أبو سُفْيانَ بنُ حَرْبٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مُحمَّدُ، أنشُدُك اللهَ والرَّحِمَ؛ فقد أكَلْنا العِلْهِزَ - يعني: الوَبَرَ والدَّمَ -؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَما اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: ٧٦]». أخرجه ابن حبان (٩٦٧).
* سورةُ (المؤمنون):
سُمِّيت سورة (المؤمنون) بذلك؛ لأنَّ فاتحتها أفصَحتْ عن ذِكْرِ صفات المؤمنين.
* أنَّ مَن أقام أوَّلَ عَشْرِ آياتٍ من سورة (المؤمنون) دخَل الجنَّة:
عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «كان إذا نزَلَ على رسولِ اللهِ ﷺ الوحيُ يُسمَعُ عند وجهِه دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحْلِ، فمكَثْنا ساعةً، فاستقبَلَ القِبْلةَ، ورفَعَ يدَيهِ، فقال: «اللهمَّ زِدْنا ولا تنقُصْنا، وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا، وارضَ عنَّا وأرضِنا»، ثم قال: «لقد نزَلتْ عليَّ عَشْرُ آياتٍ، مَن أقامَهنَّ دخَلَ الجنَّةَ»، ثم قرَأَ علينا: {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] حتى ختَمَ العَشْرَ». أخرجه الترمذي (3097).
* كانت تَتجلَّى صفاتُ رسول الله ﷺ من خلالِ هذه السورة:
فعن يَزيدَ بن بابَنُوسَ، قال: «دخَلْنا على عائشةَ، فقُلْنا: يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ؟ قالت: كان خُلُقُه القُرْآنَ، تَقرَؤون سورةَ المؤمنين؟ قالت: اقرَأْ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ}، قال يَزيدُ: فقرَأْتُ {قَدْ أَفْلَحَ اْلْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى: {لِفُرُوجِهِمْ حَٰفِظُونَ} [المؤمنون: 5]، قالت: هكذا كان خُلُقُ رسولِ اللهِ ﷺ». أخرجه البخاري في " الأدب المفرد" (٤٨).
* هي السورةُ التي قرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفتحِ:
عن عبدِ اللهِ بن السائبِ رضي الله عنه، قال: «حضَرْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يومَ الفتحِ وصلَّى في الكعبةِ، فخلَعَ نَعْلَيهِ فوضَعَهما عن يسارِه، ثم افتتَحَ سورةَ (المؤمنون)، فلمَّا بلَغَ ذِكْرَ عيسى أو موسى، أخَذَتْهُ سَعْلةٌ، فركَعَ». أخرجه أبو داود (٦٤٨).
جاءت سورةُ (المؤمنون) على ذِكْرِ الموضوعات الآتية:
1. صفات المؤمنين (١-١١).
2. أدلة وَحْدانية الله (١٢-٢٢).
3. الإيمان بالرسل، ومواقف أقوامهم منهم (٢٣-٥٢).
4. تفرُّق الأُمَم بعد رسلهم (٥٣-٧٧).
5. أدلة إثبات وَحْدانية الله وقدرته (٧٨-٩٨).
6. مِن مشاهِدِ يوم القيامة (٩٩- ١١٨).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /124).
ظهَر مقصودُ سورة (المؤمنون) في اسمها؛ وهو اختصاصُ المؤمنين بالفلاح، وقد دارت آيُها حول مِحوَرِ تحقيقِ الوَحْدانية، وإبطالِ الشرك ونقضِ قواعده، والتنويه بالإيمان وشرائعه؛ فكان افتتاحُها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلَّوْا به من أصول الفضائل الرُّوحية والعلمية، التي بها تزكيةُ النَّفس، واستقامةُ السلوك.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /303)، و"التحرير والتنوير" لابن عاشور (18 /6).