تفسير سورة الليل

التحرير والتنوير

تفسير سورة سورة الليل من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير.
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير سورة الليل بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير سورة والليل بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي سورة والليل إذا يغشى.
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل : إنها مدنية، وقيل بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى ﴿ فأما من أعطى واتقى ﴾ إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل فجعلها لهم وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون.
أغراضها
احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل.
وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.
وأنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار حب ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه.

وَيَصْدِفُ عَنِ الذِّكْرَى مَنْ كَانَ شَقِيًّا فَيَكُونُ جَزَاؤُهُ النَّارَ الْكُبْرَى وَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ صَدَّهُمْ عَنِ التَّذَكُّرِ إِيثَارُ
حُبِّ مَا هُمْ فِيهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ الْإِشَارَةُ إِلَى دَلَائِلِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَدِيعِ صُنْعِهِ.
[١- ٤]
[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِالْقَسَمِ جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ السُّورَتَيْنِ قَبْلَ هَذِهِ، وَغَرَضُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمُنَاسَبَةُ الْمُقْسَمِ بِهِ لِلْمُقْسَمِ عَلَيْهِ أَنَّ سَعْيَ النَّاسِ مِنْهُ خَيْرٌ وَمِنْهُ شَرٌّ وَهُمَا يُمَاثِلَانِ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَنَّ سَعْيَ النَّاسِ يَنْبَثِقُ عَنْ نَتَائِجَ مِنْهَا النَّافِعُ وَمِنْهَا الضَّارُّ كَمَا يُنْتِجُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ذُرِّيَّةً صَالِحَةً وَغَيْرَ صَالِحَةٍ.
وَفِي الْقسم بِاللَّيْلِ وبالنهار التَّنْبِيهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى حِكْمَةِ نِظَامِ اللَّهِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَبَدِيعِ قُدْرَتِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مَا فِي اللَّيْلِ مِنَ الدَّلَالَةِ مِنْ حَالَةِ غِشْيَانِهِ الْجَانِبَ الَّذِي يَغْشَاهُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَغْشَى فِيهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَتَعُمُّهَا ظُلْمَتُهُ فَلَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى أَحْوَالِهِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَحْوَالِ النَّهَارِ حَالَةُ تَجْلِيَتِهِ عَنِ الْمَوْجُودَاتِ وَظُهُورِهِ عَلَى الْأَرْضِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْغِشْيَانِ وَالتَّجَلِّي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي سُورَةِ الشَّمْسِ [٣، ٤].
وَاخْتِيرَ الْقَسَمُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلْمَقَامِ لِأَنَّ غَرَضَ السُّورَةِ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِذِكْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ ذِكْرِ النَّهَارِ عَكْسَ مَا فِي سُورَةِ الشَّمْسِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الشَّمْسِ بِمُدَّةٍ وَهِيَ سَادِسَةُ السُّوَرِ وَأَيَّامَئِذٍ كَانَ الْكُفْرُ مُخَيِّمًا عَلَى النَّاسِ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ أَخَذَ فِي التَّجَلِّي فَنَاسَبَ تِلْكَ الْحَالة بِالْإِشَارَةِ إِلَى تَمْثِيلِهَا بِحَالَةِ اللَّيْلِ حِينَ يَعْقُبُهُ ظُهُورُ النَّهَارِ، وَيَتَّضِحُ هَذَا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِلَى قَوْلِهِ: إِذا تَرَدَّى [اللَّيْل: ٤- ١١].
378
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِجْمَالٌ يُفِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى تَفْصِيلِهِ بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى [اللَّيْل: ٥] الْآيَةَ لِيَتَمَكَّنَ تَفْصِيلُهُ فِي الذِّهْنِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَغْشى لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِغِشْيَانِهِ كُلَّ مَا تَغْشَاهُ ظُلْمَتُهُ.
وَأُسْنِدَ إِلَى النَّهَارِ التَّجَلِّي مَدْحًا لَهُ بِالِاسْتِنَارَةِ الَّتِي يَرَاهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيُحِسُّ بِهَا حَتَّى الْبُصَرَاءُ.
وَالتَّجَلِّي: الْوُضُوحُ، وَتَجَلِّي النَّهَارِ: وُضُوحُ ضِيَائِهِ، فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشَّمْس: ١] وَقَوله: وَالضُّحى [الضُّحَى: ١].
وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ كَانَتْ غَالِبَةً لِضَوْءِ النَّهَارِ وَأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُهَا وَالظُّلْمَةُ هِيَ أَصْلُ أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَجَمِيعِ الْعَوَالِمِ الْمُرْتَبِطَةِ بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَإِنَّمَا أَضَاءَتْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ التَّارِيخُ فِي الْبَدْءِ بِاللَّيَالِي ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّارِيخُ بِالْأَيَّامِ.
وَالْقَوْلُ فِي تَقْيِيدِ اللَّيْلِ بِالظَّرْفِ وَتَقْيِيدِ النَّهَارِ بِمِثْلِهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها فِي السُّورَة السَّابِقَة [الشَّمْس: ٣، ٤].
وَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مَصْدَرِيَّةٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِأَثَرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَهُوَ خَلْقُ الزَّوْجَيْنِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنَ التَّنَاسُلِ.
وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى: صِنْفَا أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ. وَالْمُرَادُ: خُصُوصُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَتَكَوُّنِهِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] لِأَنَّهُ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْأَرْفَعُ فِي عَالَمِ الْمَادِّيَّاتِ وَهُوَ الَّذِي يُدْرِكُ الْمُخَاطَبُونَ أَكْثَرَ دَقَائِقِهِ لِتَكَرُّرِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِخِلَافِ تَكَوُّنِ نَسْلِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُدْرِكُ بَعْضَ أَحْوَالِهِ وَلَا يُحْصِي كَثِيرًا مِنْهَا.
وَالْمَعْنَى: وَذَلِكَ الْخَلْقُ الْعَجِيبُ مِنِ اخْتِلَافِ حَالَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مَعَ خُرُوجِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَتَوَقَّفِ التَّنَاسُلِ عَلَى تَزَاوُجِهِمَا، فَالْقَسَمُ بِتَعَلُّقٍ مِنْ تَعَلُّقِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ قِسْمٌ مِنَ الصِّفَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي ثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا
379
اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ فِي عَدِّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنَ الصِّفَاتِ فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِالْقِدَمِ عِنْدَ الْمَاتْرِيدِيِّ، أَوْ جَعْلِهَا مِنْ تَعَلُّقِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ آيِلٌ إِلَى الْخِلَافِ اللَّفْظِيِّ.
وَقَدْ كَانَ الْقَسَمُ فِي سُورَةِ الشَّمْسِ بِتَسْوِيَةِ النَّفْسِ، أَيْ خَلْقِ الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْقَسَمُ هُنَا فَبِخَلْقِ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَاخْتِلَافِ صِنْفَيْهِ، وَجُمْلَةُ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جَوَابُ الْقَسَمِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ قَوْلُهُ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى
[اللَّيْل: ١١].
وَالسَّعْيُ حَقِيقَتُهُ: الْمَشْيُ الْقَوِيُّ الْحَثِيثُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلْعَمَلِ وَالْكَدِّ.
وَشَتَّى: جَمْعُ شَتِيتٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى مِثْلُ قَتِيلٍ وَقَتْلَى، مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّتِّ وَهُوَ التَّفَرُّقُ الشَّدِيدُ يُقَالُ: شَتَّ جَمْعُهُمْ، إِذَا تَفَرَّقُوا، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا التَّنَوُّعُ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَحْوَالِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُلِمِّ يُصِيبُهُ كَثِيرُ الْهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالْمَسَالِكِ
وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمُتَخَالِفَةِ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ يَلْزَمُهُ الِاخْتِلَافُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ) الشَّامَ فَسَمِعَ بِنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَأَتَانَا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ؟ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ:
«وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى وَالنَّهَار إِذا تَجَلَّى والذَّكَرَ وَالْأُنْثَى»
قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا»
. وَسَمَّاهَا فِي «الْكَشَّافِ» : قِرَاءَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَا، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ أَقْرَأَهَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَيَّامَ كَانَ الْقُرْآن مرخّصا فِيهِ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى بَعْضِ اخْتِلَافٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ التَّرْخِيصُ بِمَا قَرَأَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ وَهُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: قِرَاءَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
380

[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ٥ إِلَى ١١]

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
فَأَمَّا تَفْرِيعٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللَّيْل: ٤] فَحَرْفُ (أَمَّا) يُفِيدُ الشَّرْطَ وَالتَّفْصِيلَ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَدَاةَ شَرْطٍ وَفِعْلَ شَرْطٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ، وَالتَّفْصِيلُ: التَّفْكِيكُ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ اشْتَرَكَتْ آحَادُهُ فِي حَالَةٍ وَانْفَرَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِحَالَةٍ هِيَ الَّتِي يُعْتَنَى بِتَمْيِيزِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ [١٥].
وَالْمُحْتَاجُ لِلتَّفْصِيلِ هُنَا هُوَ السَّعْيُ الْمَذْكُورُ، وَلَكِنْ جُعِلَ التَّفْصِيلُ بِبَيَانِ السَّاعِينَ
بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى لِأَنَّ الْمُهِمَّ هُوَ اخْتِلَافُ أَحْوَالِ السَّاعِينَ وَيُلَازِمُهُمُ السَّعْيُ فَإِيقَاعُهُمْ فِي التَّفْصِيلِ بِحَسَبِ مَسَاعِيهِمْ يُسَاوِي إِيقَاعَ الْمَسَاعِي فِي التَّفْصِيلِ، وَهَذَا تَفَنُّنٌ مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الْفَصِيحِ يَحْصُلُ مِنْهُ مَعْنَيَانِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ١٩] الْآيَةَ، أَيْ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.
وَانْحَصَرَ تَفْصِيلُ «شَتَّى» فِي فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ مُيَسَّرٍ لِلْيُسْرَى وفريق مُيَسَّرٍ لِلْعُسْرَى، لِأَنَّ الْحَالَيْنِ هُمَا الْمُهِمُّ فِي مَقَامِ الْحَثِّ عَلَى الْخَيْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِمَا مُخْتَلِفُ الْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فِي سُورَةِ الزَّلْزَلَةِ [٦- ٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَفْصِيلُ «شَتَّى» هُمْ مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، وَمَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى وَذَلِكَ عَدَدٌ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِشَتَّى.
381
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَعْطى إِلَخْ وَقَوْلِهِ: مَنْ بَخِلَ إِلَخْ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ الْإِعْطَاءَ وَيَتَّقِي وَيُصَدِّقُ بِالْحُسْنَى. وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا نَزَلَ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَعْتَقَهُ لِيُنْجِيَهُ مِنْ تَعْذِيبِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَذْكُرُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ عِوَضَ أُمَيَّةَ بْنِ خلف، وهم وَهَمٌ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ مَعَ رَجُلٍ مُنَافِقٍ سَتَأْتِي. وَهَذَا الْأَخير متقض أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ وَسَبَبُ النُّزُول لَا يخصص الْعُمُومَ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ أَعْطى لِأَنَّ فِعْلَ الْإِعْطَاءِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِعْطَاءُ الْمَالِ بِدُونِ عِوَضٍ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِاشْتِهَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِعْطَاءِ الْمَالِ (وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْمَالُ الْمَوْهُوبُ عَطَاءً)، وَالْمَقْصُودُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ.
وَكَذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ اتَّقى لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُقَدَّرَ اتَّقَى اللَّهَ.
وَهَذِهِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ مِنْ خِلَالِ الْإِيمَانِ، فَالْمَعْنَى: فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: ٤٣- ٤٤]، أَيْ لَمْ نَكُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ فِعْلُ بَخِلَ لَمْ يُذَكَرْ مُتَعَلَّقُهُ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ.
واسْتَغْنى جُعِلَ مُقَابِلًا لِ اتَّقى فَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ لِأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْكُفْرِ الْمُعْرِضَ عَنِ الدَّعْوَةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ غَنِيًّا عَنِ اللَّهِ مُكْتَفِيًا بِوَلَايَةِ الْأَصْنَامِ وَقَوْمِهِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مثل سين اسْتِحْبَاب بِمَعْنَى أَجَابَ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ طَلَبِ الْغِنَى بِالْبُخْلِ بِالْمَالِ، فَتَكُونُ السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، وَهَذِهِ الْخِلَالُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَالْحُسْنَى: تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ فَهِيَ بِالْأَصَالَةِ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مُقَدَّرٍ، وَتَأْنِيثُهَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَوْصُوفَهَا الْمُقَدَّرَ يُعْتَبَرُ مُؤَنَّثَ اللَّفْظِ وَيَحْتَمِلُ أُمُورًا كَثِيرَةً مِثْلَ الْمَثُوبَةِ أَوِ النَّصْرِ أَوِ الْعِدَةِ أَوِ الْعَاقِبَةِ.
وَقَدْ يَصِيرُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فَقِيلَ: الْحُسْنَى الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: كَلِمَةُ
382
الشَّهَادَةِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: الزَّكَاةُ. وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَالتَّصْدِيقُ بِهَا الِاعْتِرَافُ بِوُقُوعِهَا وَيُكَنَّى بِهِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِهَا.
وَحَاصِلُ الِاحْتِمَالَاتِ يَحُومُ حَوْلَ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللَّهِ بِمَا هُوَ حَسَنٌ مِنْ مَثُوبَةٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِخْلَافِ مَا تَلِفَ فَيَرْجِعُ هَذَا التَّصْدِيقُ إِلَى الْإِيمَانِ.
وَيَتَضَمَّنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفَوْزُ بِالْحُسْنَى.
وَلِذَلِكَ قُوبِلَ فِي الشِّقِّ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى وَالتَّيْسِيرُ: جَعْلُ شَيْءٍ يَسِيرَ الْحُصُولِ، وَمَفْعُولُ فِعْلِ التَّيْسِيرِ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُجْعَلُ يَسِيرًا، أَيْ غَيْرَ شَدِيدٍ، وَالْمَجْرُورُ بِاللَّامِ بَعْدَهُ هُوَ الَّذِي يُسَهَّلُ الشَّيْءُ الصَّعْبُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِسُهُولَةِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: ٢٦] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [الْقَمَر: ١٧].
وَالْيُسْرَى فِي قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى هِيَ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَتَأْنِيثُهَا: إِمَّا بِتَأْوِيلِ الْحَالَةِ، أَيِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا تَشُقُّ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ النَّعِيمِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِهَا بِالْمَكَانَةِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْيُسْرَى بِالْجَنَّةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُجَاهِدٍ. وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَنْدَرِجُ فِي
مَعَانِي النَّافِعِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَى صَاحِبِهِ، أَيِ الْمُلَائِمُ.
وَالْعُسْرَى: إِمَّا الْحَالَةُ وَهِيَ حَالَةُ الْعسر والشدة، أَي الْعَذَاب، وَإِمَّا مَكَانَتُهُ وَهِيَ جَهَنَّمُ، لِأَنَّهَا مَكَانُ الْعُسْرِ وَالشَّدَائِدِ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ تَعَالَى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: ٩، ١٠]، فَمَعْنَى: «نُيَسِّرُهُ» نُدَرِّجُهُ فِي عَمَلَيِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَالْأَعْمَالُ الْيُسْرَى هِيَ الصَّالِحَةُ، وُصِفَتْ بِالْيُسْرَى بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا لِصَاحِبِهَا، وَتَكُونُ الْعُسْرَى الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ بِاعْتِبَارِ عَاقِبَتِهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَتَأْنِيثُهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا صِفَةُ طَائِفَةٍ مِنَ الْأَعْمَالِ.
وَحَرْفُ التَّنْفِيسِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ مِنَ الْآنَ إِلَى آخِرِ الْحَيَاةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨].
وَحَرْفُ (أَلْ) فِي «الْيُسْرَى» وَفِي «الْعُسْرَى» لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَوْ لِلْعَهْدِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي.
383
وَإِذْ قَدْ جَاءَ تَرْتِيبُ النَّظْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَكْسِ الْمُتَبَادَرِ إِذْ جُعِلَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي «نُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» الْعَائِدُ إِلَى مَنْ أَعْطى وَاتَّقى هُوَ الْمُيَسَّرَ، وَجُعِلَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي «نُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى» الْعَائِدُ إِلَى مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى هُوَ الْمُيَسَّرَ، أَيِ الَّذِي صَارَ الْفِعْلُ صَعْبُ الْحُصُولِ حَاصِلًا لَهُ، وَإِذْ وَقَعَ الْمَجْرُورَانِ بِاللَّامِ «الْيُسْرَى» وَ «الْعُسْرَى»، وَهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بسهولة من أَعلَى أَوْ مَنْ بَخِلَ، تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ نَظْمِ الْآيَةِ بِإِحْدَى طريقتين:
الأولى: إِيفَاء فِعْلِ «نُيَسِّرُ» عَلَى حَقِيقَتِهِ وَجَعْلِ الْكَلَامِ جَارِيًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِطَرِيقِ الْقَلْبِ بِأَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْكَلَامِ: فَسَنُيَسِّرُ الْيُسْرَى لَهُ وَسَنُيَسِّرُ الْعُسْرَى لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ مُقْتَضٍ لِلْقَلْبِ، فَيُصَارُ إِلَى أَنَّ الْمُقْتَضِيَ إِفَادَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي هَذَا التَّيْسِيرِ حَتَّى جُعِلَ الْمُيَسَّرُ مُيَسَّرًا لَهُ وَالْمُيَسَّرُ لَهُ مُيَسَّرًا عَلَى نَحْوِ مَا وَجَّهُوا بِهِ قَوْلَ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّيْسِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي التَّهْيِئَةِ وَالْإِعْدَادِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ بَيْنَ إِعْدَادِ الشَّيْءِ لِلشَّيْءِ وَتَيَسُّرِهِ لَهُ، وَتَكُونُ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِلْيُسْرى ولِلْعُسْرى لَامَ التَّعْلِيلِ، أَيْ نُيَسِّرُهُ لِأَجْلِ الْيُسْرَى أَوْ لِأَجْلِ الْعُسْرَى، فَالْمُرَادُ بِالْيُسْرَى الْجَنَّةُ وَبِالْعُسْرَى جَهَنَّمُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَصْفَانِ صَارَا عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْجَنَّةِ وَعَلَى النَّارِ، وَالتَّهْيِئَةُ لَا تَكُونُ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَذَاتِ النَّارِ فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ بَعْدَ اللَّامِ يُنَاسِبُ التَّيْسِيرَ فَيُقَدَّرُ لِدُخُولِ الْيُسْرَى
وَلِدُخُولِ الْعُسْرَى، أَي سنعجّل بِهِ ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى: سنجعل دُخُول هَذِه الْجَنَّةَ سَرِيعًا وَدُخُولَ الْآخَرِ النَّارَ سَرِيعًا، بِشَبَهِ الْمُيَسَّرِ مِنْ صُعُوبَةٍ لِأَنَّ شَأْنَ الصَّعْبِ الْإِبْطَاءُ وَشَأْنَ السَّهْلِ السُّرْعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: ٤٤]، أَيْ سَرِيعٌ عَاجِلٌ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى مُشَاكَلَةً بُنِيَتْ عَلَى اسْتِعَارَةٍ تَهَكُّمِيَّةٍ قَرِينَتُهَا قَوْلُهُ: «الْعُسْرَى». وَالَّذِي يَدْعُو إِلَى هَذَا أَنَّ فِعْلَ «نُيَسِّرُ» نَصَبَ ضَمِيرَ مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ، وَضَمِيرَ مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ، فَهُوَ تيسير ناشىء عَنْ حُصُولِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا مَعْنَى اتَّقى أَوْ مَعْنَى اسْتَغْنى، فَالْأَعْمَالُ سَابِقَةٌ لَا مَحَالَةَ. وَالتَّيْسِيرُ مُسْتَقْبَلٌ بَعْدَ حُصُولِهَا فَهُوَ
384
تَيْسِيرُ مَا زَادَ عَلَى حُصُولِهَا، أَيْ تَيْسِيرُ الدَّوَامِ عَلَيْهَا وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنْ يُجْعَلَ التَّيْسِيرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلَ الْيُسْرَى وَصْفًا أَيِ الْحَالَةُ الْيُسْرَى، وَالْعُسْرَى أَيِ الْحَالَةُ غَيْرُ الْيُسْرَى.
وَلَيْسَ فِي التَّرْكِيبِ قَلْبٌ، وَالتَّيْسِيرُ بِمَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الْعَمَلِ،
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ:
اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أهل الشَّقَاء فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى اهـ.
فَصَدْرُ الْحَدِيثِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ»

إِلَخْ مَعْنَاهُ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَحَدًا سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُوَافِيَ عَلَيْهِ، أَوْ سَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يُوَافِيَ عَلَيْهِ،
فَقَوْلُهُ: «وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ»
جُعِلَتِ الْكِتَابَةُ تَمْثِيلًا لِعِلْمِ اللَّهِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِلْمًا مُوَافِقًا لِمَا سَيَكُونُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ، كَالشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ إِذْ لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً وَلَا نَقْصًا دُونَ الْمَقُولِ الَّذِي لَا يُكْتَبُ فَهُوَ لَا يَنْضَبِطُ.
فَنَشَأَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ عَنْ فَائِدَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ النَّاسُ، وَمَعْنَى جَوَابِهِ: أَنَّ فَائِدَةَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ عُنْوَانٌ عَلَى الْعَاقِبَةِ الْحَسَنَةِ. وَذُكِرَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْعَمَل السيّء إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْجَوَابِ.
وَلَيْسَ مَجَازُهُ مُمَاثِلًا لِمَا اسْتُعْمِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ عُلِّقَ بِهِ عَمَلُ أَهْلِ
السَّعَادَةِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَيْسِيرًا لِلْعَمَلِ، أَيْ إِعْدَادًا وَتَهْيِئَةً لِلْأَعْمَالِ صَالِحِهَا أَوْ سَيِّئِهَا.
فَالَّذِي يَرْتَبِطُ بِالْآيَةِ مِنَ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ هُوَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْقَبَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الْآيَةَ لِأَنَّهُ قَرَأَهَا تَبْيِينًا وَاسْتِدْلَالًا لِكَلَامِهِ فَكَانَ لِلْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ النَّبَوِيِّ وَمَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَنُيَسِّرُهُ
385
فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِثْبَاتُ أَن من شؤون اللَّهِ تَعَالَى تَيَسُّرًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْمَلَ بِعَمَلِ السَّعَادَةِ أَوْ عَمَلِ الشَّقَاءِ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ أَصْلًا لِلسَّعَادَةِ كَالْإِيمَانِ أَوْ لِلشَّقَاوَةِ كَالْكُفْرِ، أم كَانَ للْعَمَل مِمَّا يَزِيدُ السَّعَادَةَ وَيَنْقُصُ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَذَلِكَ بِمِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لِأَنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ مَعْنَيَيِ التَّيْسِيرِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ جِنْسِهِ فَيَصْلُحُ دَلِيلًا لِثُبُوتِ التَّيْسِيرِ مِنْ أَصْلِهِ.
أَوْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ سَوْقِ الْآيَةِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى قَوْلِهِ: «اعْمَلُوا» لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ عَمَلًا وَذَكَرَتْ تَيْسِيرًا لِلْيُسْرَى وَتَيْسِيرًا لِلْعُسْرَى، فَيَكُونُ الْحَدِيثُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ عَلَامَةُ التَّيْسِيرِ وَتَكُونُ الْيُسْرَى مَعْنِيًّا بِهَا السَّعَادَةُ وَالْعُسْرَى مَعْنِيًّا بهَا الشقاوة، وَمَا صدق السَّعَادَةِ الْفَوْز بِالْجنَّةِ، وَمَا صدق الشَّقَاوَةِ الْهُوِيُّ فِي النَّارِ.
وَإِذْ كَانَ الْوَعْدُ بِتَيْسِيرِ الْيُسْرَى لِصَاحِبِ تِلْكَ الصِّلَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى وَالتَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى كَانَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ التَّيْسِيرُ فَتَعَيَّنَ أَنَّ التَّيْسِيرَ مُسَبَّبٌ عَنْ تِلْكَ الصِّلَاتِ، أَيْ جَزَاءٌ عَنْ فِعْلِهَا: فَالْمُتَيَسِّرُ: تَيْسِيرُ الدَّوَامِ عَلَيْهَا، وَتَكُونُ الْيُسْرَى صِفَةً لِلْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
وَالْأَصْلُ: مُسْتَيْسِرٌ لَهُ أَعْمَالُهُ، وَعُدِلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى وَصْفِ الْيُسْرَى لِلثَّنَاءِ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا مُيَسَّرَةٌ مِنَ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فِي سُورَةِ الْأَعْلَى [٨].
وَخُلَاصَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِلْفَرْقِ بَيْنَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَعْمَالِ عِبَادِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَبَيْنَ تَعَلُّقِ خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ بِشَرَائِعِهِ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ إِلَى خَاتِمَةِ كُلِّ أَحَدٍ وَمُوَافَاتِهِ هُوَ عُنْوَانٌ لِلنَّاسِ عَلَى مَا كَانَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، وَيَلْتَقِي الْمَهْيَعَانِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ هُوَ وَسِيلَةُ الْحُصُولِ عَلَى الْجَنَّةِ أَوِ الْوُقُوعِ فِي جَهَنَّمَ.
وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِعْطَاءُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى مَعَ شُمُولِ اتَّقى لِمُفَادِهِ، وَخُصَّ الْبُخْلُ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى مَعَ شُمُولِ اسْتَغْنى لَهُ، لِتَحْرِيضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِعْطَاءِ، فَالْإِعْطَاءُ وَالتَّقْوَى شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْحُسْنَى وَضِدُّ الثَّلَاثَةِ مِنْ شِعَارِ الْمُشْرِكِينَ.
386
وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الْجَمْعِ مَعَ التَّقْسِيمِ، وَمُحَسِّنُ الطِّبَاقِ، أَرْبَعُ مَرَّاتٍ بَيْنَ أَعْطى وبَخِلَ، وَبَيْنَ اتَّقى، واسْتَغْنى، وَبَيْنَ وصَدَّقَ وكَذَّبَ وَبَيْنَ «الْيُسْرَى» وَ «الْعُسْرَى».
وَجُمْلَةُ: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أَيْ سَنُعَجِّلُ بِهِ إِلَى جَهَنَّمَ. فَالتَّقْدِيرُ: إِذَا تَرَدَّى فِيهَا.
وَالتَّرَدِّي: السُّقُوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، يَعْنِي: لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
وَمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَوْفَ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا سَقَطَ فِي جَهَنَّمَ، وَتَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامِيَّةً وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ الَّذِي بَخِلَ بِهِ.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ نَخْلَةٌ مَائِلَةٌ فِي دَارِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ذِي عِيَالٍ فَإِذَا سَقَطَ مِنْهَا ثَمَرٌ أَكَلَهُ صِبْيَةٌ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ فَكَانَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ يَنْزِعُ مِنْ أَيْدِيهِمُ الثَّمَرَةَ، فَشَكَا الْمُسْلِمُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ أَنْ يَتْرُكَهَا لَهُمْ وَلَهُ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ (١) فَاشْتَرَى تِلْكَ النَّخْلَةَ مِنْ صَاحِبِهَا بِحَائِطٍ فِيهِ أَرْبَعُونَ نَخْلَةً وَجَاءَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِهَا مِنِّي بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَأَعْطَاهَا الرَّجُلَ صَاحِبَ الصِّبْيَةِ، قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل: ١] إِلَى قَوْلِهِ: لِلْعُسْرى
وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمِنْ أَجْلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قَالَ جَمَاعَةٌ: السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَوْلُهُمْ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كَذَا قَوْلَهُ كَذَا، أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ
_________
(١) أَبُو الدحداح: ثَابت بن الدحداح البلوي، حَلِيف الْأَنْصَار، صَحَابِيّ جليل، قتل فِي وَاقعَة أحد، وَقيل: مَاتَ بعْدهَا من جرح كَانَ بِهِ حِين رَجَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْحُدَيْبِيَة، وَصلى عَلَيْهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَة وَهُوَ الَّذِي صَاح يَوْم أحد لما أرجف الْمُشْركُونَ بِمَوْت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا معشر الْأَنْصَار إليّ إليّ أَنا ثَابت بن الدحداح إِن كَانَ مُحَمَّد قد قتل فَإِن الله حيّ لَا يَمُوت، فَقَاتلُوا عَن دينكُمْ فَإِن الله مظهركم وناصركم.
387
بِهِ أَنَّ الْقِصَّةَ مِمَّا تَشْمَلُهُ الْآيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ»
وَلَمَّحَ إِلَيْهَا بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ النُّحَيْلَةَ إِذْ يَمِيلُ بِهَا الْهَوَى كَالْعِذْقِ مَالَ عَلَى أبي الدحداح
[١٢، ١٣]
[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)
اسْتِئْنَافٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إِلَى قَوْله:
لِلْعُسْرى [اللَّيْل: ٥- ١٠]، وَذَلِكَ لِإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى مَنْ صَارَ إِلَى الْعُسْرَى بِأَنَّ اللَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِ إِذْ هَدَاهُ بِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْخَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنِ الِاهْتِدَاءِ بِاخْتِيَارِهِ اكْتِسَابَ السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ التَّيْسِيرَ لِلْيُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِ الْعَبْدِ إِلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّيْسِيرَ لِلْعُسْرَى يَحْصُلُ عِنْدَ مَيْلِهِ إِلَى عَمَلِ السَّيِّئَاتِ. وَذَلِكَ الْمَيْلُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَسْبِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَمَّاهُ الْمُعْتَزِلَةُ: قُدْرَةَ الْعَبْدِ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اشْتَبَهَ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ فَسَمَّوْهُ الْجَبْرَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ وَلَام الِابْتِدَاء يومىء إِلَى أَنَّ هَذَا كَالْجَوَابِ عَمَّا يَجِيشُ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الضَّلَالِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ السَّابِقِ مِنْ تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مِنْهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ لَأَلْجَأَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ. فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ [الزخرف: ٢٠].
وَحَرْفُ (عَلَى) إِذَا وَقَعَ بَيْنَ اسْمٍ وَمَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلٍ يُفِيدُ مَعْنَى اللُّزُومِ، أَيْ لَازِمٌ لَنَا هُدَى النَّاسِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ مِنَ اللَّهِ اقْتَضَاهُ فَضْلُهُ وَحِكْمَتُهُ فَتَوَلَّى إِرْشَادَ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي هِيَ فَسَادٌ فِيمَا صَنَعَ اللَّهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَنْظِمَةِ الَّتِي أَقَامَ عَلَيْهَا فِطْرَةَ نِظَامِ الْعَالَمِ، فَهَدَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِأَنْ خَلَقَهُ قَابِلًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ ثُمَّ عَزَّزَ ذَلِكَ بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا مُبَيِّنِينَ لِمَا قَدْ يَخْفَى أَمْرُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ فَسَادُهُ بِصَلَاحِهِ وَمُنَبِّهِينَ النَّاسَ لِمَا قَدْ يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِنْ سَابق مَا علموه.
وَعَطْفُ وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى تَتْمِيمٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَعَهُّدَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ بِالْهُدَى فَضْلٌ مِنْهُ وَإِلَّا فَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ مِلْكُهُِِ
وَالدَّارَ الْأُولَى مِلْكُهُ بِمَا فِيهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [الْمَائِدَة: ١٧] فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَحْسِبُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مَا تَفَضَّلَ بِهِ.
وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إِلَى أَنَّ أُمُورَ الْجَزَاءِ فِي الْأُخْرَى تَجْرِي عَلَى مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ وَأَعْلَمَ بِهِ عِبَادَهُ. وَأَنَّ نِظَامَ أُمُور الدُّنْيَا وترتب مُسَبَّبَاتِهِ عَلَى أَسْبَابِهِ أَمْرٌ قَدْ وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِالْحِفَاظِ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ وَهَدَى، فَمَنْ فَرَّطَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ مَا تسبب فِيهِ.
[١٤- ٢١]
[سُورَة اللَّيْل (٩٢) : الْآيَات ١٤ إِلَى ٢١]
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨)
وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّفْرِيعِ الذِّكْرِيِّ إِذَا كَانَ فِعْلُ: «أَنْذَرْتُكُمْ» مُسْتَعْمَلًا فِي مَاضِيهِ حَقِيقَةً وَكَانَ الْمُرَادُ الْإِنْذَارَ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى إِلَى قَوْله: تَرَدَّى [اللَّيْل: ٨- ١١]. وَهَذِهِ الْفَاءُ يُشْبِهُ مَعْنَاهَا مَعْنَى فَاءِ الْفَصِيحَةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ تَفْرِيعُ إِنْذَارٍ مُفَصَّلٍ عَلَى إِنْذَارٍ مُجْمَلٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فَيَكُونُ فِعْلُ «أَنْذَرْتُكُمْ» مُرَادًا بِهِ الْحَالُ وَإِنَّمَا صِيغَ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِتَقْرِيبِ زَمَانِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ كَمَا فِي: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَقَوْلِهِمْ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا فَعَلْتَ كَذَا، أَيْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ، وَمِثْلَ مَا فِي صِيَغِ الْعُقُودِ:
كَبِعْتُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى [اللَّيْل: ١٢] وَالْمَعْنَى: هَدْيُكُمْ فَأَنْذَرْتُكُمْ إِبْلَاغًا فِي الْهُدَى.
وَتَنْكِيرُ نَارًا لِلتَّهْوِيلِ، وَجُمْلَةُ تَلَظَّى نَعْتٌ. وتلظى: تَلْتَهِبُ مِنْ شِدَّةِ الِاشْتِعَالِ.
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اللَّظَى مَصْدَرِ: لَظِيَتِ النَّارُ كَرَضِيَتْ إِذَا الْتَهَبَتْ، وَأَصْلُ تَلَظَّى تَتَلَظَّى بِتَاءَيْنِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا لِلِاخْتِصَارِ.
389
وَجُمْلَةُ لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ نَارًا بَعْدَ أَنْ وُصِفَتْ.
وَهَذِهِ نَارٌ خَاصَّةٌ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَهِيَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٢٤] وَالْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الْآيَةَ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ الزَّجَّاجَ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ أَهْلُ الْإِرْجَاءِ بِالْإِرْجَاءِ فَزَعَمُوا: أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا كَافِرٌ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنُّوا: هَذِهِ نَارٌ مَوْصُوفَةٌ بِعَيْنِهَا لَا يَصْلَى هَذِهِ النَّارَ إِلَّا الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَلِأَهْلِ النَّارِ مَنَازِلُ فَمِنْهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ اهـ.
وَالْمَعْنَى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا أَنْتُمْ.
وَقَدْ أُتْبِعَ الْأَشْقَى بِصِفَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهُمُ
الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّوْا، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ انْحَصَرَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَحَدَ فَرِيقَيْنِ: إِمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَغْشَوْنَ الْكَبَائِرَ لِأَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الْإِسْلَامِ بِشَرَاشِرِهِمْ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَخْ تَصْرِيحًا بِمَفْهُومِ الْقَصْرِ وَتَكْمِيلًا لِلْمُقَابَلَةِ.
والْأَشْقَى والْأَتْقَى مُرَادٌ بِهِمَا: الشَّدِيدُ الشَّقَاءِ وَالشَّدِيدُ التَّقْوَى وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّ مَالِكًا قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ عبد الْعَزِيز الْمغرب فَقَرَأَ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى فَلَمَّا بَلَغَ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى وَقَعَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَقْدِرْ يَتَعَدَّاهَا مِنَ الْبُكَاءِ فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ سُورَةً أُخْرَى».
وَوَصْفُ الْأَشْقَى بِصِلَةِ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَوَصْفُ الْأَتْقَى بِصِلَةِ الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ لِلصِّلَةِ تَسَبُّبًا فِي الْحُكْمِ.
وَبَيْنَ الْأَشْقَى والْأَتْقَى مُحَسِّنُ الْجِنَاسِ الْمُضَارِعِ.
390
وَجُمْلَةُ يَتَزَكَّى حَال فِي ضَمِيرِ يُؤْتِي، وَفَائِدَةُ الْحَالِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْتِي مَاله لقصد النَّفْعِ وَالزِّيَادَةِ مِنَ الثَّوَابِ تعريضا بالمشركين الَّذِي يُؤْتُونَ الْمَالَ لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْفُجُورِ.
وَالتَّزَكِّي: تَكَلُّفُ الزَّكَاءِ، وَهُوَ النَّمَاءُ مِنَ الْخَيْرِ.
وَالْمَالُ: اسْمُ جِنْسٍ لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُ النَّاسِ مِنْ أَشْيَاءَ يَنْتَفِعُ بِذَاتِهَا أَوْ بِخَرَاجِهَا وَغَلَّتِهَا مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَرْضِينَ وَالْآبَارِ الْخَاصَّةِ وَالْأَشْجَارِ الْمُخْتَصِّ بِهِ أَرْبَابُهَا.
وَيُطْلَقُ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ مِثْلِ أَهْلِ يَثْرِبَ عَلَى النَّخِيلِ.
وَلَيْسَ فِي إِضَافَةِ اسْمِ الْجِنْسِ مَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ آتَى جَمِيعَ مَالِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى الْآيَةَ اتَّفَقَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الصِّلَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَعْتَقَ بِلَالًا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِلَّا لِيَدٍ كَانَتْ لِبِلَالٍ عِنْدَهُ. وَهُوَ قَوْلٌ مِنْ بُهْتَانِهِمْ (يُعَلِّلُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ كَرَاهِيَةً
لِأَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ فَعَلَ ذَلِكَ مَحَبَّةً لِلْمُسْلِمِينَ)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى مُرَادًا بِهِ بَعْضُ مَنْ شَمِلَهُ عُمُومُ الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ وَهُوَ لَا يخصص للْعُمُوم وَلَكِنَّ هَذِهِ لَمَّا كَانَتْ حَالَةً غَيْرَ كَثِيرَةٍ فِي أَسْبَابِ إِيتَاءِ الْمَالِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا حَالَةٌ خَاصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِ: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى [الْبَقَرَة: ١٧٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَان: ٩].
وعِنْدَهُ ظَرْفُ مَكَانٍ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا مَجَازًا فِي تَمَكُّنِ الْمَعْنَى مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَنْهُ كَتَمَكُّنِ الْكَائِنِ فِي الْمَكَانِ الْقَرِيبِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
ومِنْ نِعْمَةٍ اسْمُ مَا النَّافِيَةِ جُرَّ بِ مِنْ الزَّائِدَةِ الَّتِي تُزَادُ فِي النَّفْيِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنِ ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللَّهِ.
391
وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ بِجِدٍّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ مِنَ الْبَغْيِ.
وَالْوَجْهُ مُسْتَعْمَلٌ مُرَادًا بِهِ الذَّاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٢٧].
وَمَعْنَى ابْتِغَاءِ الذَّات ابْتِغَاء رضَا اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَسَوْفَ يَرْضى وَعْدٌ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَهُ. وَهَذَا تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَفَادَ إِلَّا أَنَّهُ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذَلِكَ لِقَصْدِ الْمُقَابَلَةِ مَعَ قَوْلِهِ: لَا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى فَتَمَّمَ هُنَا بِذِكْرِ مَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ.
وَحَرْفُ «سَوْفَ» لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُف: ٩٨] أَيْ يَتَغَلْغَلُ رِضَاهُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَدِيدِ.
وَاللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ.
وَهَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لِأَنَّهَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا كُلُّ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الرَّاغِبُونَ. وَبِهَذِهِ السُّورَة انْتَهَت سُورَة وَسَطِ الْمُفَصَّلِ.
392

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٩٣- سُورَةُ الضُّحَى
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ الضُّحَى» بِدُونِ وَاو.
وَسُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «سُورَةَ وَالضُّحَى» بِإِثْبَات الْوَاو.
وَلما يَبْلُغْنَا عَنِ الصَّحَابَةِ خَبَرٌ صَحِيحٌ فِي تَسْمِيَتِهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «دَمِيَتْ إِصْبَعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَكَى فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ (وَهِيَ) أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ زَوْجُ أَبِي لَهَبٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ) فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ لَمْ أَرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
[الضُّحَى: ١- ٣].
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ: «هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ»
. قَالَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ٣
وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ أُمِّ جَمِيلٍ لَمْ يَسْمَعْهُ جُنْدُبٌ لِأَنَّ جُنْدُبًا كَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ وَكَانَ يَرْوِي عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَنْ حُذَيْفَةَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَلَعَلَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَة فَلم يكون قَوْلُهُ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ» مُقَارِنًا لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ
393
سورة الليل
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (اللَّيل) مكية، نزلت بعد سورة (الأعلى)، وقد افتُتحت بقَسَم الله عز وجل بـ(اللَّيل)، وهو آيةٌ من آيات الله الدالةِ على عظمته وقُدْرته وتصرُّفه في هذا الكون، وبيَّنت السورة الكريمة تبايُنَ مَساعي البشر، المؤديَ إلى تبايُنِ مستقرَّاتهم في الدار الآخرة، وفي ذلك دعوةٌ إلى السعيِ إلى الخير، وتركِ الشر.

ترتيبها المصحفي
92
نوعها
مكية
ألفاظها
71
ترتيب نزولها
9
العد المدني الأول
21
العد المدني الأخير
21
العد البصري
21
العد الكوفي
21
العد الشامي
21

* سورة (اللَّيل):

سُمِّيت سورة (اللَّيل) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله عز وجل بـ(اللَّيل).

1. القَسَم على تبايُنِ سعي البشر (١-٤).

2. اعملوا فكلٌّ مُيسَّر (٥-١٣).

3. إنذار وتحذير (١٤- ٢١).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9/172).

بيانُ قدرة الله عزَّ وجلَّ، وتصرُّفِه في هذا الكون، وتبايُنِ سعيِ البشر المؤدي إلى تباين مآلاتهم.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /378).