تفسير سورة الأعلى

تفسير السمرقندي

تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي.
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الأعلى مكية وهي تسع عشرة آية.

سورة الأعلى
وهي تسع عشرة آية مكية
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥)
قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال الكلبي: يعني: صلِّ بأمر ربك، ويقال سبح هو من التنزيه والبراءة يعني: نَزِّه ربك، والاسم صلة، ويقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يعني: قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه قيل: يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوها فِي رِكُوعِكُم» فقالوا: فما نقول في سجودنا؟ فنزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال- عليه السلام-: «اجْعَلُوها فِي سِجُودِكُم»، ويقال: «سبح اسم ربك» يعني: اذكر توحيد ربك الأعلى، ويقال كان بدء قوله: «سبحان ربي الأعلى» أي ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه فقال: يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك، وسلطانك، فأعطاه قوة أهل السموات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله واحترق جناحه من نور العرش ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجداً وقال: «سبحان ربي الأعلى» يعني:
تعالى من أن يكون محسوساً معقولاً ثم سأل ربه أن يعيده إلى مكانه إلى حاله الأولى ثم قال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى يعني: الذي خلق كل ذي روح، وجميع خلقه، ويقال: سبح الله تعالى الذي خلقك فسوى خلقك يعني: اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك زمناً ولا مكفوفاً، كما قال وصوَّركم فأحسن صوركم قوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى يعني: قدر لكل شيء شكله، يعني: لكل ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع، ويقال الذي قدر فهدى يعني فهداه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ويقال الذي قدر فهدى سبح لله الذي خلقك
وقدر آجالك وأرزاقك وأعمالك وهداك إلى المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصلّ بابن آدم وسبح لهذا المنعم المكرم السيد الذي هو الأحد الصمد، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: ٣] ثم قال عز وجل: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى يعني: أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش وألقت وما أشبه، قرأ الكسائي: وَالَّذِي قَدَّرَ بالتخفيف، والباقون بالتشديد ومعناها واحد يقال: قدره الأمر وقدرته قوله تعالى: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى يعني:
جعل المرعى يابساً بعد خضرته، وقال القتبي: غثاء يعني يابساً، أحوى يعني أسود من قدمه واحتراقه.
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ٦ الى ١٣]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)
ثم قال عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى يعني: سنعلمك القرآن وينزل عليك فلا تنسى إلا ما شاء الله، يعني: قد شاء الله أن لا تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية. وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل- عليه السلام- مخافة أن ينساه ويقال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى يعني: سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئاً، ويقال أن جبريل- عليه السلام- كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ يعني: إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه ويذهب من قلبك ثم قال تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى يعني: يعلم العلانية والسر، ويقال: ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة وما يخفى يعني: في الظهر والعصر والسنن، ويقال: يَعْلَمُ ما يظهر من أفعال العباد وأقوالهم وَما يَخْفى من أقوالهم وأفعالهم، ويقال: يَعْلَمُ ما عمل العباد وَما يَخْفى يعني:
ما لم يعملوه وهم عاملوه ثم قال عز وجل: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى يعني: سنهوّن عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة، ويقال: يعني: نعينك على الطاعة، قوله تعالى: فَذَكِّرْ يعني: فعظ بالقرآن الناس إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يعني: إن نفعتهم العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال إن نفعت الذكرى يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل ويقال: نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى يعني:
نهون عليك عمل أهل الجنة ثم قال: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى يعني: يتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم ويقال: معناه سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحاً من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى يَتَجَنَّبُهَا
يعني: يتباعد عنها يعني: عن عظتكْ َشْقَى
يعني: الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى يعني: يدخل يوم القيامة النار الكبرى يعني: النار العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار
الآخرة هي النار الكبرى، وروى يونس عن الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ نَارَكُم هذه جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَقَدْ غُمِسْتُ فِي النَّار مَرَتَين لِيُدْنَى مِنْهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا وَلُولاَ ذَلِكَ مَا دَنَوتُم مِنْها» ويقال: إنها تستجير أن ترد إلى جهنم يعني: تتعوذ منها وقال بعض الحكماء: علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل، والشرب، والنوم، والإصرار على الذنب، والغيبة، وقساوة القلب، وكثرة الذنوب، ونسيان الموت، والوقوف بين يدي الملك عز وجل، وهذا هو الشقي الذي يدخل النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى يعني: لا يموت في النار حتى يستريح من عذابها ولا يحيا حياة تنفعه، وقال القتبي معناه: هو العذاب بحال من يموت ولا يموت.
[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١٤ الى ١٩]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩)
ثم قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: فاز ونجا من هذا العذاب وسعد بالجنة من تزكى يعني وحّد الله تعالى وزكى نفسه بالتوحيد وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ يعني: توحيد ربه فَصَلَّى مع الإمام الصلوات الخمس، ويقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: أدى زكاة الفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى مع الإمام صلاة العيد. ويقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: أدى زكاة المال، يعني: نجا من خصومة الفقراء يوم القيامة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى يعني: كبّر وصلى لله تعالى، ويقال: مَنْ تَزَكَّى يعني: تاب من الذنوب (وذكر اسم ربه) يعني: إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة ثم ذم تارك الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يعني: تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة، قرأ أبو عمرو: بل يؤثرون بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة ثم قال عز وجل: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني: عمل الآخرة خير وأبقى من اشتغال الدنيا وزينتها، ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة خير وأبقى لأن في عيش الدنيا عيوباً كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب، لأجل هذا قيل خير من الدنيا قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى يعني: الذي ذكر في هذه السورة كان في الصحف الأولى يعني: في الكتب الأولى ثم فسره فقال: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ويقال: الذي ذكر في آخر السورة أربع آيات لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني: في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلخ الآية.
سورة الأعلى
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الأعلى) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بتنزيه الله عز وجل عن كلِّ نقص، وإثباتِ العلوِّ المطلق له سبحانه، وجاءت على أمثلةٍ من قدرة الله عز وجل في هذا الكون؛ طلبًا من المؤمن أن يُزكِّيَ نفسَه، ويلجأَ إلى خالق هذا الكونِ وحده، و(الأعلى) هو أحدُ أسماءِ الله الحسنى، وقد حرَصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قراءتِها في غير موضع؛ كالجمعة، والعيدَينِ، والوتر.

ترتيبها المصحفي
87
نوعها
مكية
ألفاظها
72
ترتيب نزولها
8
العد المدني الأول
19
العد المدني الأخير
19
العد البصري
19
العد الكوفي
19
العد الشامي
19

* سورة (الأعلى):

سُمِّيت سورة (الأعلى) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} [الأعلى: 1].

* وتُسمَّى كذلك بسورة {سَبِّحْ}؛ لافتتاحها بهذا اللفظ.

* أمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجعَل لفظُ أولِ آيةٍ من سورة (الأعلى) في السجود:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ: {فَسَبِّحْ بِاْسْمِ رَبِّكَ اْلْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «اجعَلوها في ركوعِكم»، فلمَّا نزَلتْ: {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: «اجعَلوها في سجودِكم»». أخرجه ابن حبان (١٨٩٨).

 حرَصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قراءةِ سورة (الأعلى) في كثيرٍ من المواطن؛ من ذلك:

* في صلاة العِيدَينِ: عن سَمُرةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يَقرأُ في العِيدَينِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، و{هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ اْلْغَٰشِيَةِ}». أخرجه أحمد (٢٠١٦١).

* في صلاة الظُّهْرِ: عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} ونحوِها، وفي الصُّبْحِ بأطوَلَ مِن ذلك». أخرجه مسلم (٤٦٠).

* في صلاة الوتر: عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُوتِرُ بثلاثٍ، يَقرأُ فيهنَّ في الأولى: بـ{سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، وفي الثانيةِ: بـ{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، وفي الثالثةِ: بـ{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (١٧٠١).

* في صلاة الجمعة: عن سَمُرةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجمعة بـ{سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، و{هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ اْلْغَٰشِيَةِ}». أخرجه أبو داود (١١٢٥).

1. تسبيح وتعظيم (١-٥).

2. تكليف وامتنان (٦-١٣).

3. الحديث عن أهل التذكُّر (١٤-١٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /110).

يقول ابنُ عاشور عن مقاصدها: «اشتملت على تنزيهِ الله تعالى، والإشارة إلى وَحْدانيته؛ لانفراده بخَلْقِ الإنسان، وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته على تَلقِّي الوحي.
وأنَّ اللهَ مُعطِيه شريعةً سَمْحة، وكتابًا يَتذكَّر به أهلُ النفوس الزكيَّة الذين يَخشَون ربهم، ويُعرِض عنهم أهلُ الشقاوة الذين يؤثِرون الحياة الدنيا، ولا يعبؤون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحيَ إليه يُصدِّقه ما في كتب الرسل من قبله؛ وذلك كلُّه تهوين لِما يَلقَاه من إعراض المشركين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /272).