وما قيل من أن المراد بالمستثنى هو ما نفى الله نسخه أو ارتفاع حكمه أو تلاوته فليس بسديد لأن النسخ لا يأتي بمقابلة القراءة حتى يستثنى منها، وما استدل به على هذا في حديث عائشة الذي أخرجه الشيخان بأنه كان فيما أنزل عليه عشر معلومات فنسخن بخمس معلومات وأنه صلّى الله عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عنده بعض من سمعه منه بعيد جدا عن الحقيقة، لأنه لا يعقل أن المنزل عليه الذي بلغه ينساه ويبقى بفكر الغير، ولأن رفع الحكم يؤدي إلى ترك التلاوة لعدم التعبّد بها، ورفع التلاوة يؤدي لعدم اخطارها بالبال لعدم بقاء الحكم. وما قيل ان المراد إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد استدلالا بما جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة قالت: سمع رسول الله رجلا يقرأ في سورة والليل فقال رحمه الله لقد ذكرني كذا وكذا، وفي رواية كنت أسقطهن من سورة كذا وفي رواية أسقط آية في قراءته في صلاة الصبح فحسب أبي أنها نسخت، فسأله عليه السلام فقال نسيتها، غير وجيه وحاشا رسول الله أن ينسى شيئا تعهد له به ربه وان هذا النسيان الوارد في هذه الأحاديث غير مقصود بهذه الآية ولا متعلق بها وان الذكر بعد النسيان وان كان واجبا إلا أن العلم به لا يستفاد منه في هذا المقام ولا يصلح أن يستدل به. راجع بحث تهديد من نسي القرآن وبحث ترتيب آي القرآن في المقدمة تحظ بما يزيل عنك ما يحدس ببالك قال تعالى
«إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ» في أقوال عباده وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم
«وَما يَخْفى ٧» منها وما يحوك في صدر الإنسان قبل أن يخش به
«وَنُيَسِّرُكَ» يا أكمل الرسل ونوفقك
«لِلْيُسْرى ٨» الطريقة التي هي أهون وأكمل من كل ما تريد ونجعل شريعتك يسرة سمحة لا غرابة فيها ولا تعقيد ولا حرج ولا شدة قال عليه الصلاة والسلام بعثت بالحنفية السمحاء أي بين الرخاء والقسوة
«فَذَكِّرْ» يا حبيبي قومك أجمع بما نوحيه إليك وعظهم به
«إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ٩» أي ما نفعت وجاءت إن هنا شرطية استبعادا للتأثير فيهم لما هم عليه من عتو وعناد، وقد يراد بمثلها التذكر
133
مطلقا غير مقيد بالنفع، أي ذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع فتكون من معضل المفهوم، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الآية ٢١ من سورة الغاشية في ج ٢ لأن الذكرى إذا لم ينتفع فيها الكافر ينتفع بها غيره، قال تعالى:
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ٥٨ من الذاريات في ج ٢ أيضا يدل عليه قوله تعالى
«سَيَذَّكَّرُ» بوعظك وإرشادك
«مَنْ يَخْشى ١٠» الله فيخاف عاقبة أمره
َتَجَنَّبُهَا»
الكافر الذي ينكر المعاد والنبوة والتوحيد وهولْأَشْقَى ١١»
من غيره كثير الإثم المنهمك في المعاصي
«الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ١٢» نزلت في الوليد بن المغيرة أو في عتبة بن ربيعة واضرابهما ممن ينكرون البعث المتوغلين في عداوة الرسول، ولذلك وصف المراد منهم بها بالأعظم شقاوة بوصف النار التي يؤول أمره إليها بالأكبر عذابا وهي نار الآخرة لأن نار الدنيا جزء من سبعين جزءا منها، فكل من تباعد عن الذكرى في الدنيا يقربه الله في الآخرة لنارها
«ثُمَّ» يكون حاله فيها كما ذكره الله تعالى
«لا يَمُوتُ فِيها» فيستريح من عذابها لأن دار الآخرة خلود بلا موت
«وَلا يَحْيى ١٣» حياة طيبة بل تعسة مشوبة بأنواع العذاب.
مطلب المراد بالصلاة والزكاة ومما تأخر حكمه عن نزوله:
«قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ١٤» تطهر من الشرك ونظف ثوبه وبدنه ومكانه
«وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ» وحده ولم يشرك معه غيره
«فَصَلَّى ١٥» له مطلق صلاة ولو دعاء لأن الصلاة في اللغة الدعاء قال أكثر المفسرين إن المراد بالزكاة هنا زكاة الفطر وبالصلاة صلاة العيد. وعليه فيكون المعنى قد أفلح من زكى عمله وصيامه بزكاة الفطر وخرج يكبر إلى مصلّى العيد فصلّى صلاته أو الصلاة المفروضة عليه وقال هذا الزركشي في البرهان ورواه عن ابن عمر، ولكنه لا يصح إلا أن يقال بأن هذه الآية مما تأخر حكمه عن نزوله أي مما تقدم القول فيها على الحكم لأنها مكية وليس بمكة صلاة عيد ولا زكاة فطر لوجوبها في المدينة ولأن الصلاة المفروضة وان كانت فرضت بمكة إلا أنها لم تفرض بعد، وعليه فتكون من قبيل الإخبار
134
بالغيب أي بأنه سيكون ذلك لسابق علم الله به وأمثال هذا في القرآن كثير منها (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) الآية الثانية من سورة البلد الآتية فهذه مكية ظهر أثرها يوم الفتح حتى قال عليه السلام: (أحلت لي ساعة من نهار) ومنها قوله: (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) الآية ١١ من سورة ص الآتية فقد وعده الله وهو بمكة أنه سيهزم جندا من المشركين، وكذلك قوله جاء الحق (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الآية ٤٩ من سورة سبأ في ج ٢ فإنه ظهر مفعولها يوم الفتح أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: دخل النبي مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) الآية ٨١ من الإسراء الآتيه ويقول (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وكذلك قوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) الآية ٤٦ من سورة القمر الآتية فقد بان مفعولها يوم بدر حتى أن عمر بن الخطاب قال كنت لا أعلم أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وغير ذلك فيما يأتي، قال تعالى
«بَلْ تُؤْثِرُونَ» على العموم والإطلاق وهو إضراب عن مقدر ينساق الكلام اليه كأنه قيل بعد بيان الفلاح وجهته وطريقه الموصل إليه: انكم لا تفعلون ذلك ولا تميلون إليه بل تفضلون أيها الناس
«الْحَياةَ الدُّنْيا ١٦» الفانية
«و» الحال
«الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ١٧» لكم منها لأن نعيمها دائم والباقي خير من الفاني، قال عرفجة: كنا عند ابن مسعود نقرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة قلنا لا قال لأن الدنيا أحضرت وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها وان الآخرة زويت وتغيبت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل. ومن المفسرين من خص هذه الآية بالمؤمنين وليس بشيء إذ لا قيد يقيدها، كما أن من قال إنها خاصة بالكفار على معنى أنهم لا يؤمنون بها على حد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) الآية ٧ من سورة يونس في ج ٢ غير وجيه لأن المطلق يجب أن يبقى على إطلاقه حتى يقيد، كما أن العام يجب أن يبقى على عمومه حتى
135
يخصص والآية المحتج بها مقيدة كما يفهم من ظاهرها لأن الذين لا يرجون الآخرة هم منكر والبعث، والذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا إليها قد صرفوا النظر عن الآخرة فيجوز أن يكونوا الكفار أيضا، أما هذه الآية فليس فيها ما يحصرها على المؤمن والكافر فأجريناها على إطلاقها.
مطلب ما في صحف ابراهيم وموسى والحكم الشرعي في العيد:
قال تعالى
«إِنَّ هذا» أي قد أفلح إلى هنا
«لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ١٨» التي نزلت قبل القرآن على الأنبياء والرسل ونظير هذه الآية الآيتان ٣٦ و ٣٧ من سورة والنجم والآية ١٩٦ من الشعراء ثم أبدل من عموم الصحف الأولى
«صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ١٥» أي أن ذلك كله مذكور فيها وان جميع الشرائع متفقة على ما في صحفهما وما أنزل على غيرهما ممن تقدمهما داخل فيهما من حيث أصول الدين الثلاثة، راجع بحثها في المطلب الحادي عشر من المقدمة. عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للمسجد تحية، فقلت وما تحيته يا رسول الله؟ قال ركعتان
«أراد صلّى الله عليه وسلم مسجده الشريف وهكذا حكم المسجد الأقصى وسائر المساجد، أما المسجد الحرام فتحيته الطواف» قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف ابراهيم وموسى؟ قال أباذر اقرأ قد أفلح إلخ أي من هذه السورة، قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت كلها عبرا:
عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل. أخرجه رزين في كتابه وذكره ابن الأثير في جامع الأصول. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
قلت يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم؟ قال أمثال كلها: أيها الملك المتسلط
136
على المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عنّي دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي بها ربه وساعة يحاسب بها نفسه ويتذكر ما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واستجماما للقلوب وتفريغا لها، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقلّ من الكلام إلا فيما يعنيه. على العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمّة
«هي شفة كل ذات ظلف، والشفة للانسان فقط، والبرطام وجمعه براطم يطلق على الشفة الغليظة فقط» والمراد منها هنا ما يحتاجه الإنسان من القوت بدليل قوله لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم.
وقرىء إبرهم بلا الف وياء ويفتح الهاء وكسرها وقرىء ابراهام وابراهيم وهو اسم أعجمي وقيل عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر.
مطلب في صلاة العيد والحكم الشرعي فيها:
صلاة العيد واجبة عند أبي حنيفة ويسن أن يقرأ فيها هذه السورة وسورة الغاشية وفي عيد النحر الضحى والكوثر للأحاديث لواردة فيها، ويسن التكبير من طلوع الفجر من يوم عرفة في عيد الأضحى إلى عصر اليوم الرابع من أيام العيد الخامس من عرفة وفي عيد الفطر من طلوع هلال شوال إلى أن يصعد الإمام المنبر للخطبة أو إلى قيام الصلاة وسنة عند الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم.
وزكاة الفطر واجبة. ولها تفصيل في كتب الفقه فراجعها. هذا ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به هذه السورة في القرآن هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان.
137