تفسير سورة الأعلى

أضواء البيان

تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان.
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ، وَهُوَ التَّنْزِيهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ، وَالْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا مُنْصَبٌّ عَلَى اسْمِ رَبِّكَ، وَفِي آيَاتٍ أُخَرَ جَاءَ الْأَمْرُ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [٧٦ ٢٦]. وَمِثْلِ: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [٣٠ ١٧].
وَتَسْبِيحُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [٣٧ ١٨٠]، فَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلِ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ الْمُرَادُ تَسْبِيحُ اسْمِهِ تَعَالَى، كَمَا هُوَ هُنَا؟ ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِتَسْبِيحِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَاءَتْ مَسْأَلَةُ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ»، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [٥٦ ٩٦]، قَوْلُهُ: إِنَّ الْبَاءَ هُنَاكَ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ كَدُخُولِهَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [١٩ ٢٥]، وَأَحَالَ عَلَى مُتَقَدِّمٍ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى كَلَامَ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ بِقَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
وَقَالَ: لَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي أَنَّ الِاسْمَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا ; لِإِمْكَانِ كَوْنِ الْمُرَادِ نَفْسُ الِاسْمِ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ أَلْحَدَ فِيهَا قَوْمٌ وَنَزَّهَهَا آخَرُونَ، وَوَصَفَهَا اللَّهُ بِأَنَّهَا بَالِغَةُ غَايَةِ الْحُسْنِ ; لِاشْتِمَالِهَا عَلَى صِفَاتِهِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [٧ ١٨٠].
498
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [١٧ ١١٠]. ثُمَّ قَالَ: وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى: هَلِ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ لَا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا هُنَا بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ. اهـ.
فَتَضَمَّنَ كَلَامُهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - احْتِمَالَ كَوْنِ الْمُرَادِ: تَنْزِيهُ اسْمِ اللَّهِ عَمَّا أَلْحَدَ فِيهِ الْمُلْحِدُونَ، كَاحْتِمَالِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، كَمَا تَضَمَّنَ عَدَمَ لُزُومِ كَوْنِ الِاسْمِ هُنَا بِمَعْنَى الْمُسَمَّى، وَلَعَلَّنَا نُورِدُ مُجْمَلَ بَيَانِ تِلْكَ النِّقَاطِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
أَمَّا تَنْزِيهُ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَهُوَ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنْ إِطْلَاقِهَا عَلَى الْأَصْنَامِ: كَاللَّاتَ، وَالْعُزَّى، وَاسْمِ الْآلِهَةِ.
وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ اللَّهْوِ بِهَا وَاللَّعِبِ، كَالتَّلَفُّظِ بِهَا فِي حَالَةٍ تُنَافِي الْخُشُوعَ وَالْإِجْلَالَ: كَمَنْ يَعْبَثُ بِهَا وَيَلْهُو، وَنَظِيرُهُ مَنْ يَلْهُو وَيَسْهُو عَنْ صَلَاتِهِ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [١٠٧ ٤ - ٥]، أَوْ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: كَنَقْشِ الثَّوْبِ، أَوِ الْفِرَاشِ الْمُمْتَهَنِ.
وَمِنْهَا: تَنْزِيهُهَا عَنِ الْمَوَاطِنِ غَيْرِ الطَّاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْشِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَمِنْهُ: صِيَانَةُ الْأَوْرَاقِ الْمَكْتُوبَةِ مِنَ الِابْتِذَالِ صَوْنًا لِاسْمِ اللَّهِ.
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُوَضِّحَةً لِآيَةِ «الْوَاقِعَةِ»، وَأَنَّ اسْمَ رَبِّكَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَسْبِيحُ اللَّهِ تَعَالَى، ، فَقَالُوا: إِنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: الِاسْمُ صِلَةٌ، كَمَا فِي بَيْتِ لَبِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ.
أَمَّا مَسْأَلَةُ الِاسْمِ: هَلْ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى أَمْ لَا؟ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ وَصْفٌ رَكِيكٌ.
أَمَّا قَوْلُ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ -: وَلَا يَلْزَمُ فِي نَظَرِي كَوْنُ الِاسْمِ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى هُنَا، فَإِنَّهُ بِلَازِمٍ إِلَى بَسْطٍ قَلِيلٍ ; لِيُظْهِرَ صِحَّةَ مَا قَالَهُ.
499
وَقَدْ نَاقَشَهَا الرَّازِيُّ بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ، قَالَ فِيهَا: مِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فِي أَنَّ الِاسْمَ نَفْسُ الْمُسَمَّى.
فَأَقُولُ: إِنَّ الْخَوْضَ فِي الِاسْتِدْلَالِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَلَا بُدَّ هَا هُنَا مِنْ بَيَانِ أَنَّ الِاسْمَ مَا هُوَ؟ وَالْمُسَمَّى مَا هُوَ؟
فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَبِالْمُسَمَّى تِلْكَ الذَّاتُ، فَالْعَاقِلُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ: الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْمِ هُوَ تِلْكَ الذَّاتُ، وَبِالْمُسَمَّى أَيْضًا تِلْكَ الذَّاتُ. كَانَ قَوْلُنَا: الِاسْمُ نَفْسُ الْمُسَمَّى ; هُوَ أَنَّ تِلْكَ الذَّاتَ هِيَ تِلْكَ الذَّاتُ. وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَ فِيهِ عَاقِلٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي وَصْفِهَا رَكِيكَةٌ، وَذَكَرَ الِاشْتِبَاهَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ ; بِسَبَبِ لَفْظِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ، إِذْ هُوَ مُرَادُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي إِطْلَاقِهِ وَإِرَادَةِ مُسَمَّاهُ.
وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ لِمَاذَا أَعْرَضَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - عَنْ بَيَانِهَا؟ وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْبَيَانَ الْمُجْمَلَ ; لِنُطْلِعَ الْقَارِئَ إِلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَوِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; فَإِنَّهُ إِنْ وَقَعَ الِاحْتِمَالُ فِي الذَّوَاتِ الْأُخْرَى، فَلَا يَقَعُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ ; لِأَنَّ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَحْكَامًا لَا لِأَسْمَاءِ الْآخَرِينَ، وَلِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ حَقُّ التَّسْبِيحِ وَالتَّنْزِيهِ، وَالدُّعَاءِ بِهَا. كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهُنَا وُجْهَةُ نَظَرٍ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَا، وَلَكِنْ قَدْ تُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَتُشِيرُ إِلَيْهَا السُّنَّةُ. وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ التَّسْبِيحُ هُنَا بِمَعْنَى الذِّكْرِ وَالتَّعَبُّدِ: كَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ الرَّازِيِّ قَوْلُهُ: وَيَكُونُ الْمَعْنَى سَبِّحْ رَبَّكَ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ، وَنَحْوُهُ فِي بَعْضِ نُقُولِ الطَّبَرِيِّ.
أَمَّا إِشَارَةُ السُّنَّةِ إِلَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى».
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [٥٦ ٧٤]، قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ، قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ».
500
وَسَاقَ الْقُرْطُبِيُّ أَثَرًا طَوِيلًا فِي فَضْلِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَجَاءَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: «وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُونَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَخْتِمُونَ الْمِائَةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ».
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةً، بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [١١٠ ١]، إِلَّا يَقُولُ:» سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي «، وَقَالَتْ: يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:»
إِنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، وَمَجِيئِهِ وَذَهَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» : أَيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ.
وَهَذَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْأُخْرَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
[٨٧ ١٤ - ١٥]، فَصَرَّحَ بِذِكْرِ اسْمِ رَبِّكَ، كَمَا جَاءَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، فَوَضَعَ الذِّكْرَ مَوْضِعَ التَّسْبِيحِ، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ. وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
أَطْلَقَ الْخَلْقَ ; لِيَعُمَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي «السَّجْدَةِ»، «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» [٣٢ ٧]، وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ وَالتَّعْدِيلُ، وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ مَخْلُوقٍ مُسْتَوٍ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَتَنَاسَبُ لِخِلْقَتِهِ وَمَا خُلِقَ لَهُ، فَخَلَقَ السَّمَوَاتِ فَسَوَّاهَا فِي أَقْوَى بِنَاءٍ، وَأَعْلَى سُمْكٍ، وَأَشَدِّ تَمَاسُكٍ، لَا تَرَى فِيهَا مِنْ تَشَقُّقٍ وَلَا فُطُورٍ، وَزَيَّنَهَا بِالنُّجُومِ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَدَحَاهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا وَجَعَلَهَا فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَخَلَقَ الْأَشْجَارَ فَسَوَّاهَا عَلَى مَا تَصْلُحُ لَهُ مِنْ ذَوَاتِ الثِّمَارِ، وَوَقُودِ النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ فِي خِلْقَتِهَا وَتَسْوِيَتِهَا آيَةٌ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [٨٨ ١٧ - ٢٠].
أَمَّا الْإِنْسَانُ فَهُوَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ حَقًّا لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُسَبَّحَ
اسْمُهُ فِي ذَاتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالتَّسْوِيَةِ، فَلِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
أَطْلَقَ هُنَا التَّقْدِيرَ ; لِيَعُمَّ كُلَّ مَقْدُورٍ، وَهُوَ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ ; لِأَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْخَلْقَ التَّقْدِيرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [٥٤ ٤٩]، وَقَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [٦٥ ٣]، وَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَثِيلَاتُهَا مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ جَمَعَهَا تَعَالَى عِنْدَ التَّعْرِيفِ التَّامِّ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمَّا سَأَلَ فِرْعَوْنُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [٢٠ ٤٩ - ٥٠].
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [٨٧ ٢]، وَهُنَا قَدَّرَ كُلَّ مَا خَلَقَ، وَهَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْأُمُورِ، وَهَدَى الْمَلَائِكَةَ لِتَنْفِيذِهَا، وَقَدَّرَ مَسِيرَ الْأَفْلَاكِ، وَهَدَاهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» [٢١ ٣٣].
وَفِي الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتَاتِ ; قَدَّرَ لَهَا أَزْمِنَةً مُعَيَّنَةً فِي إِيتَائِهَا وَهِدَايَتِهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا، فَالْجِذْرُ يَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ وَالنَّبْتَةُ تَنْمُو إِلَى أَعْلَى، وَهَكَذَا الْحَيَوَانَاتُ فِي تَلْقِيحِهَا، وَنِتَاجِهَا، وَإِرْضَاعِهَا. كُلٌّ قَدْ هَدَاهُ إِلَى مَا قُدِّرَ لَهُ، وَهَكَذَا الْإِنْسَانُ.
وَقَدْ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ مَنْطُوقِ هَذِهِ الْآيَةِ.
أَمَّا مَعْنَاهَا بِالتَّفْصِيلِ، فَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «طه» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [٢٠ ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى: نُقْرِئُكَ فِي سُورَةِ «طه»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [٢٠ ١١٤]، وَبَيَّنَهُ بِآيَةِ «الْقِيَامَةِ» : لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [٧٥ ١٦].
وَقَوْلُهُ: «فَلَا تَنْسَى» : بَحَثَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ مَعَ مَا يُنْسَخُ مِنَ الْآيَاتِ فَيَنْسَاهُ.
وَسَيُطْبَعُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ هَذِهِ التَّتِمَّةِ، تَتِمَّةً لِلْفَائِدَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى
هَلْ: إِنْ هُنَا بِمَعْنَى إِذْ أَوْ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ؟ وَهَلْ لِلشَّرْطِ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ أَمْ لَا؟ كُلُّ ذَلِكَ بَحَثَهُ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بِتَوَسُّعٍ فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، وَرَجَّحَ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَقَسَّمَ الْمَدْعُوَّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَقْطُوعٌ بِنَفْعِهِ، وَمَقْطُوعٌ بِعَدَمِ نَفْعِهِ، وَمُحْتَمَلٌ، وَقَالَ: مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِعَدَمِ نَفْعِهِ، كَمَنْ بَيَّنَ لَهُ مِرَارًا فَأَعْرَضَ، كَأَبِي لَهَبٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَآلِهِ فَلَا نَفْعَ فِي تَذْكِيرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى
تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - بَيَانُ الْحِكْمَةِ مِنَ الذِّكْرَى.
وَمِنْهَا تَذْكِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [٥١ ٥٥]، فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
أَيْ: بِسَبَبِ شَقَائِهِمُ السَّابِقِ أَزَلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [١١ ١٠٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
نَفَى عَنْهُ الضِّدَّيْنِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِالذَّاتِ إِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا مَيِّتٌ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَتَغَيَّرُ الْمَوَازِينُ وَالْمَعَايِيرُ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّعْذِيبِ، إِذْ لَوْ مَاتَ لَاسْتَرَاحَ، وَمَعَ أَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنَ الْعَذَابِ مَا لَا حَيَاةَ مَعَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا وَقَوْلُهُ (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [٣٥ ٣٦]. وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ بَيَانُ مَعْنَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «طَهَ» عِنْدَ الْكَلَامِ
عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [٢٠ ٧٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى أَسْنَدَ الْفَلَاحَ هُنَا إِلَى: «مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَسْنَدَ التَّزْكِيَةَ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا
[٢٤ ٢١]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى، نَهَى عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النُّورِ» عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَنْ «زَكَا» بِمَعْنَى تَطَهَّرَ مِنَ الشُّكْرِ وَالْمَعَاصِي، لَا عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ آيَةَ «النَّجْمِ» إِنَّمَا نَهَى فِيهَا عَنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ; لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِدَاحِهَا، وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَمَا فِي سُورَةِ «الْحُجُرَاتِ» : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [٤٩ ١٤] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى قُرِئَ: «تُؤْثِرُونَ» بِالتَّاءِ وَبِالْيَاءِ رَاجِعًا إِلَى الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [٨٧ ١١ - ١٢]، وَعَلَى أَنَّهَا بِالتَّاءِ لِلْخِطَابِ أَعَمُّ، وَحَيْثُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَامٌّ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَيُذْكَرُ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى كُلِّهَا عَامَّةً، وَفِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خُطُورَتِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ.
وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى أَسْبَابِ ذَلِكَ مِنْهَا: الْجَهْلُ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٢٩ ٦٤]، أَيِ: الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ.
وَقَدْ رَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَوْلَهُ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى، وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُؤْثَرَ خَزَفٌ يَبْقَى عَلَى ذَهَبٍ يَفْنَى، فَكَيْفَ وَالْآخِرَةُ مَنْ ذَهَبٍ يَبْقَى وَالدُّنْيَا مِنْ خَزَفٍ يَفْنَى؟
وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا زُيِّنَتْ لِلنَّاسِ، وَعُجِّلَتْ لَهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
504
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [٣ ١٤].
ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [٣ ١٤].
وَبَيِّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَآبَ الْحَسَنَ وَهُوَ فِي وَصْفِهِ يُقَابِلُ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، فَقَالَ: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [٣ ١٥].
تَأَمَّلْ هَذَا الْبَدِيلَ، فَفِي الدُّنْيَا: ذَهَبٌ، وَخَيْلٌ، وَنِسَاءٌ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْحَرْثُ، وَقَدْ قَابَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْجَنَّةِ ; فَعَمَّتْ وَشَمِلَتْ. وَلَكِنْ نَصَّ عَلَى أَزْوَاجٍ مُطَهَّرَةٍ ; لِيَعْرِفَ الْفَرْقَ بَيْنَ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَنِسَاءِ الْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَمَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَخَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [٥٦ ١٩]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنُصُّ عَلَى الْخَيْرِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ آثَرَ الْآخِرَةَ غَالِبٌ عَلَى مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا، وَظَاهَرٌ عَلَيْهِ، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [٢ ٢١٢].
فَمِنْ هَذَا ; يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ إِيثَارِ النَّاسِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا، هُوَ تَزْيِينُهَا وَزَخْرَفَتُهَا فِي أَعْيُنِهِمْ: بِالْمَالِ، وَالْبَنِينَ، وَالْخَيْلِ، وَالْأَنْعَامِ: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [١٨ ٤٦].
وَقَدْ سِيقَ هَذَا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ بِالْوَاقِعِ فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّ مِنْ وَرَائِهِ مَا يُسَمَّى لَازِمَ الْفَائِدَةَ، وَهُوَ ذَمُّ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ، فَوَجَبَ الْبَحْثُ عَنِ الْعِلَاجِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ.
وَإِذَا ذَهَبْنَا نَتَطَلَّبُ الْعِلَاجَ، فَإِنَّنَا فِي الْوَاقِعِ نُوَاجِهُ أَخْطَرَ مَوْضُوعٍ عَلَى الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ حَيَاتَهُ الدُّنْيَا وَمَآلَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَتَحَكَّمُ فِي سَعَادَتِهِ وَفَوْزِهِ، أَوْ شَقَاوَتِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَإِنَّ أَقْرَبَ مَأْخَذٍ لَنَا لَهُوَ هَذَا الْمَوْطِنُ بِالذَّاتِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ بِضَمِيمَةِ مَا قَبْلَهَا إِلَيْهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى [٨٧ ١٠ - ١٢]، وَبَعْدَهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [٨٧ ١٤ ١٤ - ٦]
505
فَقَدْ قَسَّمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا أُمَّةَ الدَّعْوَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ.
أَمَّا التَّذْكِيرُ وَالْإِنْذَارُ، إِذْ قَالَ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [٨٧ ٩]، فَهَذَا مَوْقِفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَ تَقْسِيمُ الْأُمَّةِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى: فَيَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى وَتَنْفَعُهُ: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، فَلَا تَنْفَعُهُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ الْحُكْمُ بِالْفَلَاحِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، أَيْ: مَنْ يَخْشَى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، وَلَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْمَوْقِفُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُفَصَّلُ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ»، وَفِي مَعْرِضِ التَّوْجِيهِ لَنَا وَالتَّوْبِيخِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [٥٧ ١٦].
فَقَسْوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الْأَمَدِ وَالتَّسْوِيفُ: هِيَ الْعَوَامِلُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْغَفْلَةِ وَإِيثَارِ الدُّنْيَا. وَالْخَشْيَةُ وَالذِّكْرُ: هِيَ الْعَوَامِلُ الْأَسَاسِيَّةُ لِإِيثَارِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَرَضَ الدُّنْيَا فِي حَقِيقَتِهَا بِقَوْلِهِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [٥٧ ٢٠ - ٢١].
فَوَصَفَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ مَعًا فِي هَذَا السِّيَاقِ. فَالدَّاءُ: هُوَ الْغُرُورُ، وَالدَّوَاءُ: هُوَ الْمُسَابَقَةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، قِيلَ: اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى السُّورَةِ كُلِّهَا ; لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، وَالذِّكْرِ، وَالْعِبَادَاتِ. وَالصُّحُفُ الْأُولَى: هِيَ «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»، عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى.
وَجَاءَ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ: أَنَّ صُحُفَ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ أَمْثَالًا، وَصُحُفَ مُوسَى كَانَتْ مَوَاعِظَ، وَذَكَرَ نَمَاذِجَ لَهَا.
وَعِنْدَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ؟ فَقَالَ: مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ: عَلَى آدَمَ عَشْرَ صُحُفٍ، وَعَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَالتَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ».
506
وَفِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى، وَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ أَنْ مَعَانٍ أُخْرَى كَذَلِكَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى كَمَا فِي سُورَةِ «النَّجْمِ» فِي قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [٥٣ ٣٦ - ٤٠].
وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّهَا أَكْثَرُهَا أَمْثَالًا وَمَوَاعِظَ، كَمَا يُؤَكِّدُ تَرَابُطَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ.
507
سورة الأعلى
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الأعلى) من السُّوَر المكية، وقد افتُتحت بتنزيه الله عز وجل عن كلِّ نقص، وإثباتِ العلوِّ المطلق له سبحانه، وجاءت على أمثلةٍ من قدرة الله عز وجل في هذا الكون؛ طلبًا من المؤمن أن يُزكِّيَ نفسَه، ويلجأَ إلى خالق هذا الكونِ وحده، و(الأعلى) هو أحدُ أسماءِ الله الحسنى، وقد حرَصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قراءتِها في غير موضع؛ كالجمعة، والعيدَينِ، والوتر.

ترتيبها المصحفي
87
نوعها
مكية
ألفاظها
72
ترتيب نزولها
8
العد المدني الأول
19
العد المدني الأخير
19
العد البصري
19
العد الكوفي
19
العد الشامي
19

* سورة (الأعلى):

سُمِّيت سورة (الأعلى) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} [الأعلى: 1].

* وتُسمَّى كذلك بسورة {سَبِّحْ}؛ لافتتاحها بهذا اللفظ.

* أمَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يُجعَل لفظُ أولِ آيةٍ من سورة (الأعلى) في السجود:

عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ: {فَسَبِّحْ بِاْسْمِ رَبِّكَ اْلْعَظِيمِ} [الواقعة: 96]، قال رسولُ اللهِ ﷺ: «اجعَلوها في ركوعِكم»، فلمَّا نزَلتْ: {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: «اجعَلوها في سجودِكم»». أخرجه ابن حبان (١٨٩٨).

 حرَصَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قراءةِ سورة (الأعلى) في كثيرٍ من المواطن؛ من ذلك:

* في صلاة العِيدَينِ: عن سَمُرةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يَقرأُ في العِيدَينِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، و{هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ اْلْغَٰشِيَةِ}». أخرجه أحمد (٢٠١٦١).

* في صلاة الظُّهْرِ: عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقرأُ في الظُّهْرِ بـ {سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى} ونحوِها، وفي الصُّبْحِ بأطوَلَ مِن ذلك». أخرجه مسلم (٤٦٠).

* في صلاة الوتر: عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُوتِرُ بثلاثٍ، يَقرأُ فيهنَّ في الأولى: بـ{سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، وفي الثانيةِ: بـ{قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اْلْكَٰفِرُونَ}، وفي الثالثةِ: بـ{قُلْ هُوَ اْللَّهُ أَحَدٌ}». أخرجه النسائي (١٧٠١).

* في صلاة الجمعة: عن سَمُرةَ بن جُنْدُبٍ رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كان يَقرأُ في صلاةِ الجمعة بـ{سَبِّحِ اْسْمَ رَبِّكَ اْلْأَعْلَى}، و{هَلْ أَتَىٰكَ حَدِيثُ اْلْغَٰشِيَةِ}». أخرجه أبو داود (١١٢٥).

1. تسبيح وتعظيم (١-٥).

2. تكليف وامتنان (٦-١٣).

3. الحديث عن أهل التذكُّر (١٤-١٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /110).

يقول ابنُ عاشور عن مقاصدها: «اشتملت على تنزيهِ الله تعالى، والإشارة إلى وَحْدانيته؛ لانفراده بخَلْقِ الإنسان، وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيته على تَلقِّي الوحي.
وأنَّ اللهَ مُعطِيه شريعةً سَمْحة، وكتابًا يَتذكَّر به أهلُ النفوس الزكيَّة الذين يَخشَون ربهم، ويُعرِض عنهم أهلُ الشقاوة الذين يؤثِرون الحياة الدنيا، ولا يعبؤون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحيَ إليه يُصدِّقه ما في كتب الرسل من قبله؛ وذلك كلُّه تهوين لِما يَلقَاه من إعراض المشركين». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /272).