تفسير سورة الهمزة

أضواء البيان

تفسير سورة سورة الهمزة من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان.
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

سُورَةُ الْهُمَزَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.
اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ «وَيْلٌ».
فَقِيلَ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.
وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةُ عَذَابٍ وَهَلَاكٍ.
وَتَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [٤٥ ٧]، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرٌ لَا لَفْظَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَنَّ الْمُسَوِّغَ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا مَعَ أَنَّهَا نَكِرَةٌ كَوْنُهَا فِي مَعْرِضِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
وَقَدِ اسْتَظْهَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا اسْتَظْهَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، مَا جَاءَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، أَنَّهُمْ قَالُوا عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ إِيَّاهَا: قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [٢١ ١٤]، فَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ، وَعِنْدَ التَّقْبِيحِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَصْلُ الْوَيْلِ لَفْظَةُ السُّخْطِ وَالذَّمِ، وَأَصْلُهَا وَيٌّ لِفُلَانٍ، ثُمَّ كَثُرَتْ فِي كَلَامِهِمْ فَوُصِلَتْ بِاللَّامِ، وَيُقَالُ: وَيْحٌ بِالْحَاءِ لِلتَّرَحُّمِ اهـ.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِقَوْلِ الرَّازِيِّ أَيْضًا قَوْلُ قَارُونَ: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [٢٨ ٨٢].
وَمِثْلُهُ لِلتَّعَجُّبِ فِي قَوْلِهِ: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [١١ ٧٢].
وَقَوْلِهِ: قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي [٥ ٣١].
99
فَالظَّاهِرُ: أَنَّهَا كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْهَلَكَةِ، أَوْ شِدَّةِ التَّعَجُّبِ مِمَّا يُشْبِهُ الْمُسْتَبْعَدَ.
وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: هُوَ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَدْ يَرْجِعُ لِمَجِيئِهَا تَارَةً مُطْلَقَةً كَقَوْلِهِ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [٧٧ ١٥]، وَهُنَا وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ.
وَيَجِيءُ مَعَ ذِكْرِ مَا يَتَوَعَّدُ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ ٢٧]، وَقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [٤٣ ٦٥]، فَذَكَرَ النَّارَ وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [١٩ ٣٧]، فَهِيَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، مِمَّا ذُكِرَ مَعَهَا مِنَ النَّارِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وَلَيْسَتْ مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا دُونَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، قِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْغِيبَةُ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
تُدْلِي بِوُدِّي إِذَا لَاقَيْتَنِي كَذِبًا وَإِنْ أَغِيبُ فَأَنْتَ الْهَامِزُ الْهُمَزَهْ
وَعَزَا هَذَا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُصِيبُ النَّاسَ وَيَطْعَنُ فِيهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ كُلٍّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ مُفْرَدَةً عَنِ الْأُخْرَى، بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ.
فَفِي الْهُمَزَةِ قَوْلُهُ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [٦٨ ١١]، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَفِي الْهُمَزَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [٤٩ ١١].
وَقَوْلُهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [٩ ٥٨]، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَقْرَبُ لِلتَّنَقُّصِ وَالْعَيْبِ فِي الْحُضُورِ لَا فِي الْغِيبَةِ، فَتَغَايُرُ الْهَمْزِ فِي الْمَعْنَى، وَفِي الصِّفَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْقَبِيحَيْنِ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِكَلِمَةِ «وَيْلٌ».
وَقَدْ قِيلَ: الْهَمْزُ بِالْيَدِ: وَقِيلَ: بِاللِّسَانِ فِي الْحَضْرَةِ، وَالْهَمْزُ فِي الْغَيْبَةِ. ُُ
100
وَقِيلَ: الْهَمْزُ بِالْيَدِ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ، وَالْغَمْزُ بِالْعَيْنِ، وَكُلُّهَا مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ تَشْتَرِكُ فِي تَنَقُّصِ الْآخَرِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ
. هَذَا الْوَصْفُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ فِيمَا قَبْلَهُ، إِذِ الْمَوْصُولُ هُنَا يَدُلُّ مِنْ كُلٍّ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ الْعَيْبُ فِي جَمَعَ مَالًا بَلْ فِي «عَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ». وَفِي «عَدَّدَهُ» عِدَّةُ مَعَانٍ:
قِيلَ: عَدَّهُ كُلَّ وَقْتٍ وَآخَرَ، تَحَفُّظًا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: عَدَّدَهُ كَنَزَهُ.
وَقِيلَ: عَدَّدَهُ أَعَدَّهُ لِلْحَاجَةِ.
وَقُرِئَ: «جَمَّعَ وَعَدَّدَ» بِالتَّشْدِيدِ وَبِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ شُحًّا وَبُخْلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
. هَذَا الْحُسْبَانُ هُوَ الْمَذْمُومُ عَلَيْهِ، وَالْمُنْصَبُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ; لِأَنَّهُ كَفَرَ بِالْبَعْثِ. كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ فِي الْكَهْفِ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [١٨ ٣٥ - ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. كَلَّا: رَدْعٌ وَزَجْرٌ لَهُ عَلَى حُسْبَانِهِ الْبَاطِلِ، وَلَيُنْبَذَنَّ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: كَلَّا.
وَهَذَا يُفَسِّرُهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [١٠١ ٩]، أَيْ: يُنْبَذُ نَبْذًا، فَيَهْوِي عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ. عِيَاذًا بِاللَّهِ.
وَالْحُطَمَةُ: فُعَلَةٌ مِنَ الْحَطْمِ، وَهُوَ الْكَسْرُ، ثُمَّ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ.
وَقَدْ فُسِّرَتْ بِمَا بَعْدَهَا نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [١٠٤ ٦]، وَسُمِّيَتْ حُطَمَةً لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ كُلَّ مَا أُلْقِيَ فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ.
قِيلَ: مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ. بِأَنَّ الْعَمَدَ صَارَتْ وَصْدًا لِلْبَابِ كَالْقُفْلِ، وَالْغَلْقِ لَهُ.
وَقِيلَ: فِي عَمَدٍ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عَمَدٍ كَالْقَصَبَةِ، مُجَوَّفَةِ الدَّاخِلِ.
وَقِيلَ: فِي عَمَدٍ: أَيْ تُوضَعُ أَرْجُلُهُمْ فِي الْعَمَدِ عَلَى صُورَةِ الْقَيْدِ فِي الْخَشَبَةِ الْمُمْتَدَّةِ، يُشَدُّ فِيهَا عَدَدٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ فِي أَرْجُلِهِمْ.
وَكُنْتُ سَمِعْتُ مِنَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْعَمَدَ بِمَعْنَى الْقَصَبَةِ الْمُجَوَّفَةِ تُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [٢٥ ١٣].
فَيَكُونُ أَرْجَحُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي إِمْلَائِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ.
سورة الهمزة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الهُمَزة) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (القيامة)، وقد افتُتحت بإثبات الوَيْلِ لكلِّ مَن يطعن في المؤمنين ويَلمِزهم، والمقصودُ ابتداءً من هذا الخطابِ مشركو قُرَيش عندما كانوا يَعِيبون المسلمين؛ ليتركوا الإسلامَ، ويعُودُوا إلى الشِّرك.

ترتيبها المصحفي
104
نوعها
مكية
ألفاظها
33
ترتيب نزولها
32
العد المدني الأول
9
العد المدني الأخير
9
العد البصري
9
العد الكوفي
9
العد الشامي
9

* سورةُ (الهُمَزة):

سُمِّيت سورةُ (الهُمَزة) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقوله تعالى: {وَيْلٞ لِّكُلِّ هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، و(الهُمَزة): هو الذي يغتاب الناسَ، ويطعن فيهم.

 جزاء الطعَّان والعيَّاب للناس (١-٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /342).

تحذيرُ المشركين من الطعنِ في المؤمنين ولَمْزِهم طمعًا في أن يُلجِئَهم الملَلُ من أصناف الأذى إلى الانصراف عن الإسلام، والرجوع إلى الشرك.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /536).