تفسير سورة الدّخان

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الدخان من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الدخان
فيها ثلاث آيات

الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾
يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ مُبَارَكَةٍ ﴾ :
الْبَرَكَةُ : هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي اللَّهُ فِيهَا من الْمَنَازِلِ، وَيَغْفِرُ من الْخَطَايَا، وَيُقَسِّمُ من الْحُظُوظِ، وَيَبُثُّ من الرَّحْمَةِ، وَيُنِيلُ من الْخَيْرِ، وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ : تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ :
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ من شَعْبَانَ ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ :﴿ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ من شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لَا فِي فَضْلِهَا، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : السُّرَى : سَيْرُ اللَّيْلِ. وَالْإِدْلَاجُ : سَيْرُ السَّحَرِ، وَالْإِسْآدُ : سَيْرُهُ كُلِّهِ. وَالتَّأْوِيبُ : سَيْرُ النَّهَارِ. وَيُقَالُ : سَرَى وَأَسْرَى، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ ﴾ وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ، كَمَا قِيلَ : لَيْلٌ نَائِمٌ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ من اتِّسَاعَاتِ الْعَرَبِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا ﴾ :
أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ يَكُونُ من الْخَوْفِ ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ من وَجْهَيْنِ : إمَّا من الْعَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا، فَهُوَ من أَسْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِمَّا من خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً من ذَلِكَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَحَسْبَ الْعَجَلَةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَفِي جَامِعِ الْمُوَطَّإِ :«إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ ».
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الزَّقُّومُ : كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ، يُقَالُ : تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ. وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ !
المسألة الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا طَعَامَ الْأَثِيمَ فَلَمْ يَفْهَمْهَا ؛ فَقَالَ لَهُ : طَعَامُ الْفَاجِرِ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً، حَتَّى رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : طَعَامُ الْفَاجِرِ. فَقُلْت لِمَالِكٍ : أَتَرَى أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ.
وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا سُنَّةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ ؟ قُلْنَا : وَهِيَ :
المسألة الثَّالِثَةُ : بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ من الْأُمَّةِ، فَمَا وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا، فَيُقْرَأَ بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِّ، وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ جَائِزًا، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى مُصْحَفِهِمْ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَالْكُلُّ من عِنْدِ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ ».
سورة الدخان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الدُّخَان) من السُّوَر المكية، وقد احتوت على ذِكْرِ علامةٍ من العلامات الكبرى ليومِ القيامة؛ وهي دُخَانٌ يملأ ما بين السماءِ والأرض يغشى الناسَ، وفي ذلك تحذيرٌ للكفار من هلاك قريب، وترهيبٌ لهم من مصيرٍ مَهُول، ودعوةٌ لهم إلى العودة إلى طريق الله، والاستجابةِ لأمره، وتركِ ما هم عليه من تكبُّرٍ وكفر، وخُتمت السورة بالترغيب فيما يَلْقاه المؤمنُ من عطاء الله، والخيرِ الذي عنده، وكلُّ هذا دعوةً للكفار للإيمان، وتثبيتًا للمؤمنين على إيمانهم.

ترتيبها المصحفي
44
نوعها
مكية
ألفاظها
346
ترتيب نزولها
64
العد المدني الأول
56
العد المدني الأخير
56
العد البصري
57
العد الكوفي
59
العد الشامي
56

* قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ اْلْبَطْشَةَ اْلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «إنَّما كان هذا لأنَّ قُرَيشًا لمَّا استعصَوْا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، دعَا عليهم بسِنِينَ كَسِنِي يوسُفَ، فأصابَهم قَحْطٌ وجَهْدٌ حتى أكَلوا العِظامَ، فجعَلَ الرجُلُ ينظُرُ إلى السماءِ فيَرى ما بَيْنَه وبينها كهيئةِ الدُّخَانِ مِن الجَهْدِ؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى: {فَاْرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اْلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ ١٠ يَغْشَى اْلنَّاسَۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٞ} [الدخان: 10-11]، قال: فأُتِيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، استَسْقِ اللهَ لِمُضَرَ؛ فإنَّها قد هلَكتْ، قال: «لِمُضَرَ؟ إنَّك لَجريءٌ»، فاستَسقى لهم؛ فَسُقُوا؛ فنزَلتْ: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} [الدخان: 15]، فلمَّا أصابَتْهم الرَّفاهيَةُ، عادُوا إلى حالِهم حينَ أصابَتْهم الرَّفاهيَةُ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ اْلْبَطْشَةَ اْلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16]، قال: يَعنِي: يومَ بَدْرٍ». أخرجه البخاري (٤٨٢١).

* سورة (الدُّخَان):

سُمِّيت سورة (الدُّخَان) بهذا الاسم؛ لورودِ لفظ (الدُّخَان) فيها في قوله تعالى: {فَاْرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اْلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} [الدخان: 10].

مقصدُ سورة (الدُّخَان) هو الإنذار بالهلاكِ والعذاب لكلِّ مَن أعرض عن هذا الكتابِ الحكيم، ولم يَقبَلْ ما أُرسِل به مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دعوةٌ للكفار إلى العودة إلى الحقِّ واتباع هذا الدِّين قبل أن يَنزِلَ بهم العذاب، كما أن فيه إقامةَ الحُجَّة بتمام البلاغ.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /471).