وقال ابن عباس : حدَّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون في الأرض حيث شاءوا، وأجَّل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام. وقال مجاهد :﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ﴾ إلى أهل العهد خزاعة ومدلج، ومن كان له عهد أو غيرهم، فقفل رسول الله ﷺ من تبوك حين فرع، فأراد الله رسول الله ﷺ الحج ثم قال :« إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا.
و « عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال :» لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي «، فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه » و « عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب، قال :» لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت « قال : فإن كان لا بد فسأذهب أنا، قال :» انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك «، قال : ثم وضع يده على فيه » وقال محمد بن إسحاق :« نزلت براءة على رسول الله ﷺ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر، فقال :» لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي «، ثم دعا علياً فقال :» اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو له إلى مدته فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله ﷺ العضباء، حتى أدرك أبا بكر في الطريق، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال : بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول الله ﷺ فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله ﷺ فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله ﷺ «
عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا ( سعيد بن المسيب ) فأتيته، فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة، فقال سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف ( عمر ) أو ( ابن عمر ) كان ينهى عن صومه، ويقول هو يوم الحج الأكبر. والقول الثاني : أنه يوم النحر. قال الحارث الأعور : سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر. وقال عبد الرزاق عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر. وقال عبد الله بن سنان خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر، واختاره ابن جرير، وروى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال :« لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله ﷺ على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه فقال :» أي يوم هذا «؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال :» أليس هذا يوم الحج الأكبر «؟ ».
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله ﷺ قال :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم » قال أنس : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى :
وما أدري إذا يممت أرضاً | أريد الخير أيهما يليني |
وقال ابن مسعود رضي الله عنه :« كنت مع رسول الله ﷺ يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، قال : ورسول الله ﷺ على بغلته البيضاء يمضي قدماً، فحادث بغلته، فمال عن السرج، فقلت ارتفع رفعك الله، قال :» ناولني كفاً من التراب « فناولته قال : فضرب به وجوههم، فامتلأت أعينهم تراباً قال :» أين المهاجرين والأنصار «؟ قلتك هم هناك، قال :» اهتف بهم « فهتفت بهم؛ فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى المشركون أدبارهم. وعن شيبة بن عثمان قال : رأيت رسول الله ﷺ يوم حنين قد عري، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج، فقلت : عمه ولن يخذله، قال : فجئته عن يساره، فإذا أنا بأبي سفيان، فقلت : ابن عمه ولن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا ان أسورة سورة بالسيف، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى، فالتفت رسول الله ﷺ وقال :» يا شيبة يا شيبة ادن مني، اللهم أذهب عنه الشيطان « قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري، فقال :» يا شيبة قاتل الكفار «. قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : إنا لمع رسول الله ﷺ يوم حنين، والناس يقتتلون، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهودي من السماء، حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة، وفي » صحيح مسلم « قال رسول الله ﷺ :» نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم «، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين ﴾، وقوله :﴿ ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحفوه. وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة، فردَّه عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناساً من الطلقاء، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة ( مالك بن عوف النضري ) واستعمله على قومه كما كان، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله | في الناس كلهم بمثل محمد |
فكأنه ليث على أشباله | وسط المباءة خادر في مرصد |
وهل أفسد الدين إلا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
قال الإمام أحمد عن ثوبان قال : لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ؟ قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره، فقال :
وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتاً وتقريعاً وتهكماً، كما في قوله تعالى :﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٩ ] أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم، ولهذا يقال من أحب شيئاً وقدمه على طاعة الله عُذّب به، وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها، وكانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيحمى عليها في نار جهنم، وناهيك بحرها، فتكون بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره لا يكون عبد يكنز فيمس دينار ديناراً ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعاً يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئاً إلا أخذه. وفي » صحيح مسلم « عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :» ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار «.
وقوله تعالى :﴿ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ فهذا مما كانت العرب أيضاً في الجاهلية تحرمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله ﷺ :» ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان « فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبين ﷺ أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد، وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً، وقوله :﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذر بها على ما سبق في كتاب الله الأول، قال تعالى :﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى :
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين :( أحدهما ) وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال :﴿ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول الله ﷺ حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة، كما ثبت في « الصحيحين » أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم، ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف، فحاصرهم أربعين يوماً وانصرف ولم يفتتحها، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام ( القول الآخر ) : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام، لقوله تعالى :
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قال : وافيت ( المقداد بن الأسود ) فارس رسول الله ﷺ جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو، فقلت له : قد أعذر الله إليك، فقال : أتت علينا سورة البعوث :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾، وقال ابن جرير عن حبان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع ( صفوان بن عمرو ) وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك، قال : فرفع حاجبيه، فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ، ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال :﴿ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً، فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي ﷺ :
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية. فأما الفقراء فعن ابن عمر قال، قال رسول الله ﷺ :« لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرةٍ سويّ » و « عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي ﷺ يسألانه من الصدقة فقلّب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال :» إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب « وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :» ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان « قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال :» الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً « وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطاً على ذلك، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله ﷺ الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت عن عبد المطلب بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله ﷺ ليستعملها على الصدقة، فقال :» إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس « وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام : منهم من يعطي ليسلم، كما أعطى النبي ﷺ ( صفوان ابن أمية ) من غنائم حنين، وقد كان شهدهاً مشركاً، كما قال الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله ﷺ يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
وهل تعطي المؤلفة على الإسلام بعد النبي ﷺ ؟ فيه خلاف، فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا يعطون بعده، لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد، وقال آخرون : بل يعطون لأنه ﷺ قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم. وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون : هو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما، وقال ابن عباس والحسن لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب أحمد ومالك أي أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري ربة فيعتقها استقالاً؛ وفي الحديث :» ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف « وفي » المسند « عن البراء بن عازب قال :» جاء رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال :« أعتق النسمة وفك الرقبة »، فقال : يا رسول الله أو ليسا واحداً؟ قال :« لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ». وأما الغارمون فهم أقسام : فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن ديناً فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم، لما روي عن أبي سعيد قال :« أصيب رجل في عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي ﷺ :» اتصدّقوا عليه «، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي ﷺ لغرمائه :» خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك «
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ جالساً في ظل شجرة، فقال :» إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم - بعيني الشيطان - فإذا جاء فلا تكلموه « فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله ﷺ، فقال :» علام تشتمني أنت وأصحابك «؟ فانطلق الرجل، فجاءه بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ ﴾ الآية »، وقوله :﴿ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ ﴾ قيل أنزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله ﷺ، وقيل : في ( عبد الله بن أبيّ ) همَّ بقتل رسول الله ﷺ، وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي ﷺ وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية، روى الحافظ البيهقي في كتاب « دلائل النبوة »
كالمستجير من الرمضاء بالنار... ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا :﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ﴾ الآية، قال ابن عباس : الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً، وقال الحافظ الموصلي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» يا أيها الناس أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت «.
وقال قتادة :« أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله ﷺ وهو مريض، فلما دخل عليه قال له النبي ﷺ :» أهلكت حب يهود « قال : يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره »، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ الآية، ولهذا كان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين، ولا يقوم على قبره، كما قال قتادة :« كان رسول الله ﷺ إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها، » شأنكم بها «، ولم يصل عليها؛ وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها ( حذيفة بن اليمان ) لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، قد أخبره بهم رسول الله ﷺ، ولهذا كان يقال له :( صاحب السر ) الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة، ولما نهى الله عزَّ وجلَّ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك، وفي فعله الأجر الجزيل، كما ثبت في » الصحاح « :» من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان « قيل : وما القيراطان؟ قال :» أصغرهما مثل أُحُد « ؛ وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو داود عن عثمان رضي الله عنه قال :» كان رسول الله ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل « ».
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة | وفي الحرب أشباه النساء الفوارك؟ |
طريق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن أنيس بن يحيى، حدثني أبي، قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال :» اختلف رجلان، رجل من بني خدرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله ﷺ، وقال العمري : هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله ﷺ فسألاه عن ذلك، فقال :« هو هذا المسجد »، لمسجد رسول الله ﷺ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء. وقد قال : بأنه مسجد النبي ﷺ جماعة من السلف والخلف، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، واختاره ابن جرير، وقوله :﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين ﴾، دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات، وقال الأمام أحمد :« عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فيها فأوهم، فلما انصرف قال :» إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا، فليسحن الوضوء «، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها، وقال أبو العالية في قوله تعالى :﴿ والله يُحِبُّ المطهرين ﴾ إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب، وقال الأعمش : التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك.
ً «. وقال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال :» خرج رسول الله ﷺ يوماً إلى المقابر، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قال إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا فقال :« ما أبكاكم »؟ فقلنا : بكينا لبكائك، قال :« إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي »، ثم أورده من وجه آخر وفيه :« وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل عليَّ :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا ﴾ » الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للولد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة.
وقال ابن عباس في هذه الرواية : كانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾ الآية، وقال قتادة في الآية : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي ﷺ قالوا :« يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال : فقال النبي ﷺ :» بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه «
و « كان رسول الله ﷺ قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله ﷺ في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله ﷺ كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -. قال كعب : فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ؛ وغزا رسول الله ﷺ تلك الغزاة حين طالبت الثمار والظلال، وأنا إليها أصغر، فتجهز إليها رسول الله ﷺ والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أنجز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله ﷺ غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت، ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله ﷺ يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله عزّ وجلّ، ولم يذكرني رسول الله ﷺ حتى بلغ تبوك، فقال : وهو جالس في القوم بتبوك :» ما فعل كعب بن مالك «؟ فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله براده والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت : والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً، فسكت رسول الله ﷺ.
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله ﷺ قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً، وأستعين على ذلك بل ذي رأي من أهلي، فلما قيل : إن رسول الله ﷺ قد أظل قادماً راح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه شيء أبداً، فأجمعت صدقه، فأصبح رسول الله ﷺ، وكان إذا قدم من سفر بدا بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله ﷺ علانيتهم، ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي :» تعال «، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي :» ما خلفك، ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟ « فقلت : يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزّ وجلّ؛ والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال : فقال رسول الله ﷺ :» أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك «، وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله ﷺ بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله ﷺ، قال : والله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت : وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت : فمن هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة، قال : فمضيت حين ذكروهما لي، قال : ونهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة »
قال : وأنزل الله تعالى :﴿ لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم * ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين ﴾. ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي مع سعتها، فسدت عليها المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصيروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله ﷺ في تخلفهم، وأنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم، ولهذا قال :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين ﴾ أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهل وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرأوا إن شئتم :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين ﴾، وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
وقوله تعالى :﴿ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن، غليظاً على عدوه الكافر، كقوله تعالى :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين ﴾ [ المائدة : ٥٤ ]، وقوله تعالى :﴿ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وفي الحديث : أن رسول الله ﷺ قال :« أنا الضحوك القتال »، يعني أنه ضحوك في وجه وليه. قتال لهامة عدوه. وقوله :﴿ واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين ﴾ أي قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعملوا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في البلاد، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).