تفسير سورة التوبة

تذكرة الاريب في تفسير الغريب

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تذكرة الاريب في تفسير الغريب
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
المراد بقوله براءة قطع الموالاة العصمة والامان
فسيحوا في الارض أي انطلقوا امنين من مكروه يقع بكم وهذا الامان لمن لم يكن له امان ولا عهد قال مجاهد اول هذه الاشهر يوم النحر واخرها العاشر من ربيع الاخر
واذان اعلانو يوم الحج الاكبر يوم عرفة يوم النحر
الا الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة فامر ان يفي لهم اذا لم يخش غدرهم
فاذا انسلخ الاشهر الحرم التي جعلت لسياحة المشركين وسميت حرما لتحريم دمائهم فيها فاقتلوا المشركين يعني من لم يكن له عهدوخذوهم ائسروهم واحصروهم احبسوهمكل مرصد أي على كل مرصد
وان احد من المشركين الذين امرتك بقتلهم استجارك استامنك يبتغي ان يسمع القران وينظر فيما امر بهمامنه الموضع الذي يامن فيهذلك الذي امرناك به من رده الى مامنه اذا لم يؤمن لانهم قوم جهلة بخطاب الله
الا الذين عاهدتم يعني بني ضمرةكيف يكون لهم عهد وان يظهروا أي يظفروا لا يرقبوا لا يحفظوا الا وهي القرابة والذمة العهد
وهم بدءوكم باعانتهم على حلفائكم
الوليجة البطانة من غير المسلمين هي ان يتخذ المسلم دخيلا من المشركين وخليطا
ما كان للمشركين ان يعمروا والمعنى يجب على المسلمين منعهم من ذلكشاهدين على انفسهم أي مقرين عليها بالكفر كقول اليهودي انا يهودي
اجعلتم سقاية الحاج قال العباس ان كنتم سبقتمونا بالاسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الاية والمعنى اجعلتم اهل سقاية الحاج واهل عمارة المسجد
اقترفتموها اكتسبتموها والمعنى ان كان المقام في اهاليكم وكانت اموالكم وتجارتكم التي تخشون كسادها لفراق بلدكم احب اليكم من الهجرة فاقيموا غير مثابينحتى ياتي الله بامره وهو فتح مكة ويسقط فرض الهجرة
وحنين اسم واد وكان المسلمون يوم اذ اثني عشر الفا فقال سلمة بن سلامة بن وقش لن نغلب اليوم من قلة فوكلوا الى كلمتهبما رحبت أي برحبها والباء بمعنى في
والسكينة الامن والطمئنينةوانزل جنودا وهم الملائكة غير انها لم تقاتل يومئذوعذب الذين كفروا بالقتل والهزيمة
ثم يتوب أي يوفق من يشاء للتوبة
نجس أي قذر والمعنى ينبغي اجتنابهم كاجتناب الانجاسوان خفتم عيلة لما قال فلا يقربوا المسجد الحرام شق على المسلمين وقالوا من ياتينا بطعامنا وكانوا يقدمون بالتجارة فنزلت وان خفتم عيلة والعيلة الفقر
عن يد عن قهر وذلوالصاغر الذليل الحقير
ذلك قولهم بافواههم أي هو قول بالفم لا برهان فيه ولا تحته معنى صحيحيضاهون يشابهون قول من تقدمهم من كفرتهمانى يؤفكون من اين يصرفون عن الحق
اربابا أي كالاربابوالمسيح اتخذوه الها
نور الله القران والاسلام
بالباطل هو اخذه من الجهة المحظورة وذكر الاكل لانه معظم المقصود من المالولا ينفقونها يعني الكنوز والاموال وقال ابن عمر كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز
يحمى عليها أي على الاموالفذوقوا ما كنتم أي عذاب ما كنتم تكنزون
ان عدة الشهور نزلت من اجل النسيء الذي كانت العرب تفعلهفي كتاب الله أي في اللوح المحفوظاربعة حرم رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وكان القتال محرما فيهم في بداية الامرذلك الدين القيم الحساب الصحيحفلا تظلموا فيهم أي في الاثني عشر شهرا انفسكم بتحريم حلالها وتحليل حرامها
وانما النسيء وهو التاخير وكانت العرب قد تمسكت من ملة ابراهيم بتحريم الاشهر الاربعة فاذا احتاجوا الى تحليل المحرم للحرب اخروا تحريمه الى صفر ثم يحتاجون الى صفر كذلك حتى يتدافع التحريم الى الشهور كلها فيستدير التحريم على السنة كلها فكانهم يستنسؤون الحرام ويستقرضونه فاعلم الله ان ذلك زيادة في كفرهمليواطئوا أي ليوافقوا عدة ما حرم الله ولا يخرجون من تحريم الاربعة الاشهر
الا تنصروه بالنفر معهثاني اثنين أي فقد نصره الله احد اثنين أي نصرهم منفردا الا من ابي بكرفانزل الله سكينته وهو السكون والطمانينة عليه قال علي وابن عباس على ابي بكر وقال مقاتل على رسول الله صلى الله عليه وسلموايده أي قواه يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنود وهم الملائكة يوم بدر والاحزاب وقيل حين كان في الغار صرفت الملائكة وجوه الطلب
خفافا وثقالا شيوخا وشبابا
لو كان ما دعوا اليه عرضا قريبا أي منفعة قريبة او كان سفرا قاصدا أي سهلا لاتبعوك طمعا في المالوالشقة السفرسيحلفون يعني المنافقينيهلكون انفسهم بالكذب
لم اذنت لهم لما خرج الى تبوك اذن لقوم من المنافقين في التخلف حتى يتبين لكم الذين صدقوا أي حتى تعرف ذوي العذر ممن لا عذر له
وقيل اقعدوا أي الهموا ذلك
مازادوكم الا خبالا المعنى ما زادوكم قوة ولكن اوقعوا بينكم خبالا أي شرا ولا وضعوا خلالكم أي اسرعوا السير بينكم بالنميمة يبغونكم الفتنة أي يبغونها لكموفيكم سماعون لهم أي عيون ينقلون اليهم اخباركم
لقد ابتغوا الفتنة يعني الشر من قبل تبوك وقلبوا لك الامور أي بغوا لك الغوائلوالحق النصروامر الله الاسلام
ائذن لي في العقول عن الجهاد وهو الجد بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك في جلاد بني الاصفر لعلك تغنم بعض بنات الاصفر فقال ائذن لي فاقيم ولا تفتني بالنساء الا في الفتنة وهي الكفر
حسنة نصر وغنيمةمصيبة قتل وهزيمةقد اخذنا امرنا أي قد عملنا بالحزم فلم نخرجوهم فرحون بمصائبك
والحسنيات النصر والشهادةبعذاب من عنده الموت والصواعق او بايدينا وهو القتل
ليعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الدنيا فهي لهم عذاب وللمؤمن اجروتزهق تخرج
الملجا المكان الذي يتحصن فيهوالمغارات جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الانسان أي يستتر فيهوالمدخل قوم يدخلون في جملتهملولوا اليه أي الى احد الاشياءيجمحون يسرعون
يلمزك يعيبك قال بعض المنافقين انما يعطي محمد من يشاء
ولو انهم رضوا جوابه محذوف تقديره لكان خيرا لهم
الفقراء امس حاجة من المساكينوالعاملون الجباة للصدقة يعطون منها اجورهم وليس بزكاةوالمؤلفة قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتالفهم على الاسلام بما يعطيهم وحكمهم باقي خلافا لابي حنيفة والشافعيوفي الرقاب قد ذكرته في البقرةوالغارمين الذين لزمهم الدين فلا يجدون القضاءوفي سبيل الله يعني الغزاة والمرابطين ويجوز ان يعطى الاغنياء منهم والفقراء قال ابو حنيفة لا يعطى الا الفقراءوابن السبيل المسافر المنقطع به وان كان له مال في بلده
هو اذن أي يقبل كل ما قيل لهقل اذن خير لكم أي اذن خير لا اذن شر يسمع الخير فيعمل به ولا يعمل بالشر اذا سمعهيؤمن بالله يصدق الله ويصدق المؤمنين والباء واللام زائدتان
من يحادد الله يخالف
يحذر المنافقون هذا اخبار عن حالهم وقيل امر لهم بالحذرمخرج ما تحذرون أي مظهر ما تصرون
ولئن سالتهم كان جماعة من المنافقين يستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم فاذا بلغه فسالهم اعتذروا وقالوا انما كنا نخوض فنزلت الايات والمعنى ولئن سالتهم أي عما كانوا فيه من الاستهزاء نخوض أي نلهو بالحديث
قد كفرتم أي قد ظهر كفركمان يعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة تعذب طائفة بترك التوبة
ويقبضون ايديهم عن الانفاق في سبيل اللهنسوا الله أي تركوا امره فتركهم من رحمته
فاسمتعوا بخلاقهم أي بنصيبهم من الاخرة في الدنياوخضتم في الطعن على الدين كالذي أي كما خاضوا
وقوم ابراهيم يعني نمرودوالمؤتفكات قوم لوط ائتفكت أي انقلبت
في جنات عدن أي خلد
جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان واغلظ عليهم بالانتهار والنظر بعين البغض
والكفر سبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعنهم في الدينوهموا بما لم ينالوا كانوا قد هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلموما نفقموا أي ليس ينقمون شيئا وكانوا قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك فلما قدم غنموا وصارت لهم الاموال
ومنهم يعني المنافقين من عاهد الله وهو ثعلبة بن حاطب
وهم معرضون عن عهدهم
ونجواهم حديثهم بينهم
المطوعين أي المتطوعينوالجهد الطاقة وكان ابن عوف قد جاء باربعين اوقية من ذهب وجاء انصاري بصاع فقالوا ما جاء ابن عوف بما جاء به الا رياه وان الله تعالى ورسوله لغنيان عن هذا الصاعسخر الله منهم أي جازاهم على فعلهم
فرح المخلفون يعني المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بمقعدهم أي بقعودهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعده
فليضحكوا قليلا ولفظه لفظ الامر ومعناه التهديد
فان رجعك اللله أي ردك من تبوكفاستاذنوك للخروج معهم الى الغزومع الخالفين وهم المتخلفون للعذر
الطول الغني
والخوالف النساءوطبع ختم
والخيرات الفاضلات من كل شيء
المعذرون قال ابو عبيدة هم الذين يعذرون وليسوا بجادين وقال ابن الانباري هم المعتذرون بالعذر الصحيح واصلها المعتذرون يقال اعتذر اذا جاء بعذر صحيح واذا لم يات بعذر الضعفاء الزمي والمشايخ الكبار وانما شرط النصح لان من تخلف يقصد السعي بالفساد فهو مذموممن سبيل أي من طريق بالعقوبة
لن نؤمن لكم لن نصدقكموسيرى الله عملكم ورسوله ان تبتم من تخلفكم وعملتم خيرا
الاعراض اشد كفرا قال ابن عباس نزلت في اعراض اسد وغطفان واعرض من حول المدينة اخبر ان كفرهم اشد من كفر اهل المدينة لانهم اجفى من اهل الحضر
واجدر أي واخلق
مغرما أي غرما وخسراويتربص ينتظر بكم الدوائر وهي دوائر الزمان بالمكروه
ويتخذ ما ينفق في سبيل الله قربات وهي جمع قربى وهي ما يقترب به العبد من رضى اللهوصلوات الرسول دعاؤه
والسابقون الاولون وهم الذين صلوا القبلتين من الصحابة
وممن حولكم أي حول المدينةومن اهل المدينة منافقونمردوا أي اصروا على النفاقسنعذبهم مرتين في الدنيا بالنفاق وفي القبر بالعذابوالعذاب العظيم جهنم
واخرون اعترفوا وهم قوم تخلفوا عن تبوك من المؤمنين منهم ابو لبابةخلطوا عملا صالحا وهو ما سبق لهم من الجهاد واخر أي باخر سيء وهو تاخرهم عن الجهاد
خذ من اموالهم صدقة وهي صدقة بذلوها تطوعا ويقال الزكاةوصلي عليهم استغفر لهمسكن لهم أي طمانينة ان الله قد قبل منهم
وياخذ الصدقات أي يقبلها
واخرون مرجؤون نزلت في كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع وهلال بن امية لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل ابو لبابة واصحابه
والذين اتخذوا مسجدا لما اتخذ بنوا عمرو بن عوف مسجد قباء واتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فيه حسدهم اخوتهم بنو غنم ابن عوف وكانوا من منافقي الانصار فقالوا نبني مسجدا ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ويصلي فيه ابو عامر الراهب اذا قدم من الشام وكان ابو عامر قد ترهب في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عاداه ابو عامر فخرج الى الشام فارسل الى المنافقين اعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فاني اذهب الى قيصر فاتي بجند الروم فاخرج محمدا فبنوا مسجدا واتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه فنزل القران فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معن بن عدي ومالك بن الدخشم في اخرين فقال انطلقوا الى هذا المسجد الظالم اهله فاهدموه واحرقوهومعنى ضرارا للضرار والكفر والتفريق والارصاد وارادوا المضارة لمسجد قباء وارادوا تفريق جماعة المسلمين الذين يصلون في مسجد قباء وانتظروا مجيء ابي عامر وهو الذي حارب الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم من قباء بناء المسجد فمات غريبا بالشام
لمسجد اسس يعني مسجد قباءيحبون ان يتطهروا وكانوا يستنجون بالماء وقيل من الذنوب
وشفا الشيء حرفه والجرف ما يتجرف بالسيول من الاودية والهائر الساقطفانهار به أي بالباني وهذا مثل
ريبة أي شكا ونفاقاالا ان تقطع قلوبهم أي الا ان يموتوا
السائحون الصائمون
قوله تبارك وتعالى ما كان للنبي والذين امنوا ان يستغفروا للمشركين لما مات ابو طالب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستغفرن لك ما لم انه عنك فنزلت من بعد ما تبين لهم أي من بعد ما بان لهم انهم ماتوا كفارا
وعدها اياه وعده ان يستغفر له ولم يعلم ان الاستغفار للمشركين محظور فلما تبين له انه عدو لله بموته على الكفروالاواه المتاوة تظرعا وخوفا
حتى يبين لهم ما يتقون المعنى فلا يتقونه فيستحقون حين اذ الضلال
لقد تاب الله على النبي من اذنه للمنافقين في التخلفوساعة العسرة وقت العسرة وذلك في غزاة تبوك اصابهم العطش واشتد الحر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء المطرتزيغ قلوب فريق منهم أي تميل الى الرجوع للشدة لا عن الايمان
والثلاثة الذين خلفوا هم المرجئون لامر الله قد سميناهمبما رحبت أي مع سعتهاوظنوا أي ايقنواوالملجا المعتصم من الله وعذابهثم تاب عليهم توكيد ليتوبوا أي ليستقيموا
ولا يرغبوا بانفسهم عن نفسه أي لا يرضوا لها بالخفض والدعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر والمشقةذلك النهي عن التخلف بانهم لا يصيبهم ظما أي عطش ولا نصب أي تعب ولا مخمصة أي مجاعة ولا ينالون من عدو نيلا اصرا او قتلا او هزيمة والمعنى انه يثيبهم على جميع ذلك
ولا يقطعون واديا مقبلين او مدبرين الا كتب لهم أي اثبت لهم اجر ذلك
فلولا فهلا نفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ نفروا اليه من بلادهم من كل قبيلة جماعةولينذروا قومهم المتخلفين
اولا يرون يعني المنافقينيفتنون يبتلون بالغزو وقيل بالمرض
هل يراكم من احد أي ان قمتم من المسجد
عزيز عليه ما عنتم أي شديد عليه ما شق عليكم والعنت لقاء الشدةحريص عليكم ان تؤمنوا
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).