تفسير سورة التوبة

معاني القرآن

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الأخفش . المتوفي سنة 215 هـ
قال ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ( ٣ ) ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ( ٣ ) أي : بأَنّ اللهَ بريء وكذلك ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾ ( ٢ ) أي : بأَن الله.
وقال ﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴾ ( ٥ ) فجمع على أدنى العدد لأن معناها [ ١٢٦ ب ] " الأربَعَة " وذلك أن " الأَشْهُر " إنما تكون إذا ذكرت معها " الثَلاثَة " إلى " العَشْرة " فإذا لم تذكر " الثلاثَة " إلى " العَشْرة " فهي " الشُّهُورُ ".
وقال ﴿ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ ( ٥ ) وألقى " على ". وقال الشاعر :[ من الوافر وهو الشاهد السادس والخمسون ] :
نُغالِي اللَّحْمَ للأَضْيافِ نِيْئاً وَنَبْذُلُه إذا نَضِجَ القُدُورُ
أرادَ : نُغالِي باللحم.
وقال ﴿ وَأَنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ﴾ ( ٦ ) فابتدأ بعد ( أنْ )، وأن يكون رفع أحداً على فعل مضمر أقيس الوجهين لأن حروف المجازاة لا يبتدأ بعدها. إلا أنهم قد قالوا ذلك في " أَنْ " لتمكنها وحسنها إذا وليتها الأسماء وليس بعدها فعل مجزوم في اللفظ كما قال [ الشاعر ] [ من البسيط وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المئة ] :
عاوِدْ هَراةَ وأَنْ مَعْمُورُها خَرِبا ........
وقال [ الآخر ] :[ من الكامل وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المئتين ] :
لا تَجْزَعِي أَنْ مُنْفِساً أَهْلَكْتُهُ وأَذا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعي
وقد زعموا أن قول الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المئتين ] :
أَتَجْزَعُ أَنْ نَفْسٌ أَتَاهَا حِمامُها فَهَلاَّ الَّتِي عَنْ بينِ جَنْبَيْكَ تَدْفَعُ
لا ينشد إِلاّ رفعاً وقد سقط الفعل على شيء من سببه. وهذا قد ابتدئ بعد " أنْ " وانْ شئت جعلته رفعا [ ١٢٧ ء ] بفعل مضمر.
وقال ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ ﴾ ( ٧ ) فهذا استثناء خارج من أول الكلام. و( الذينَ ) في موضع نصب.
وقال ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ ﴾ ( ٨ ) فأضمر كأنه [ قال ] " كيف لا تقتلونهم " و الله اعلم.
وقال ﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ﴾ ( ١٢ ) قال ﴿ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾ ( ١٢ ) فجعل الهمزة ياء لأنها في موضع كسر وما قبلها مفتوح ولم يهمز لاجتماع الهمزتين. ومن كان من رأيه جمع الهمزتين همز.
وقال ﴿ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾ ( ١٣ ) لأَنك تقول " هَمَمْتُ بكذا " و " أَهَمَّني كذا ".
وقال ﴿ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾ ( ٢٥ ) لا تنصرف. وكذلك كل جمع ثالث حروفه ألف وبعد الألف حرف ثقيل أو اثنان خفيفان فصاعدا فهو لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة نحو " محاريب " و " تماثيل " و " مساجد " وأشباه ذلك إلا أن يكون في آخره الهاء فان كانت في آخره الهاء انصرف في النكرة نحو " طيالِسَة " و " صياقِلَة ". وإنما منع العرب من صرف هذا الجمع أنه مثال لا يكون للواحد ولا يكون إلا للجمع والجمع أثقل من الواحد. فلما كان هذا المثال لا يكون إلا للأثقل لم يصرف. وأما الذي في آخره الهاء فانصرف لأنها منفصلة كأنها اسم على حيالها. والانصراف إنما يقع في آخر الاسم [ ١٢٧ ب ] فوقع على الهاء فلذلك انصرف فشبه ب " حَضْرَموت " و " حَضْرَمَوْتَ " مصروف في النكرة.
وقال ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ ( ٢٨ ) وهو " الفَقْر " تقول : " عالَ " " يَعِيلُ " " عَيْلَةً " أي : " اِفْتَقَر ". و " أَعَالَ " " إِعالَةً " : إذا صار صاحب عيال. و " عالَ عِيالَهُ " و " هو يَعُولُهم " " عَوْلاً " و " عِيَالَةً ". وقال " ﴿ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ أي : ألاّ تَعُولُوا العِيالَ. و " أعالَ الرجلُ " " يُعِيلُ " إذا صار ذا عيال.
[ وقال ] ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ﴾ ( ٣٠ ) وقد طرح بعضهم التنوين وذلك رديء لأنه إنما يترك التنوين إذا كان الاسم يستغني عن الابن وكان ينسب إلى اسم معروف. فالاسم ها هنا لا يستغني. ولو قلت " وَقَالَتِ اليَهودُ عَزَيْزُ " لم يتمّ كلاما إلا أنه قد قرئ وكثر وبه نقرأ على الحكاية كأنهم أرادوا " وَقَالَتِ الْيَهُودُ نَبِيُّنا عُزَيْزُ ابنُ اللهِ ".
وقال ﴿ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ﴾* ( ٣٢ ) لأن ( أن يتم ) اسم كأنه " يَأبَى اللهُ أَلاَّ إِتمامَ نُورِه ".
وقال ﴿ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ ( ٣٤ ) ثم قال ﴿ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ ( ٣٥ ) فجعل الكلام على الآخر. وقال الشاعر :[ من المنسرج وهو الشاهد الستون ] :
نَحْنُ بِما عِنْدَنا وَأَنْتَ بِما عِنْدَكَ راضٍ والرَأْيُ مُخْتَلِفُ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:وقال ﴿ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ ( ٣٤ ) ثم قال ﴿ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ﴾ ( ٣٥ ) فجعل الكلام على الآخر. وقال الشاعر :[ من المنسرج وهو الشاهد الستون ] :
نَحْنُ بِما عِنْدَنا وَأَنْتَ بِما عِنْدَكَ راضٍ والرَأْيُ مُخْتَلِفُ

وقال ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾ ( ٣٧ ) وهو التأخير. وتقول " أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ " [ ١٢٨ ء ] إِذَا جعلته إليه يؤخره هو. و : " نَسَأْتُ عَنْهُ دَيْنَهُ " أي : أَخَرْتُهُ* عَنْهُ. وإنما قلت : " أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ " لأَنَّكَ تقول : " جعلتْه لَهُ يؤَخِّرُهُ " و " نَسَأْتُ عَنْهُ دَيْنَه " " فَأَنَا أنَّسَؤُهُ " أي : أُوَخِّرُهُ. وكذلك " النَّساءُ في العُمْر " يقال : " مَنْ سَرَّهُ النَّساءُ في العُمُر "، ويقال " عِرْق النَّسَا " غير مهموز.
وقال ﴿ لِّيُوَاطِئُواْ ﴾ ( ٣٧ ) لأنَهَّا من " وَاطَأْتُ " ومثله ( هِيَ أَشَدُّ وِطاءً ) أي : مواطأة، وهي المواتاة وبعضهم قال ( وَطْءا ) أَي : قياما.
وقال ﴿ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ﴾ ( ٣٨ ) لأنَّهُ مِن " تَثاقَلْتُمْ " فَأَدغم التاء في الثاء فسكنت فأحدث لها ألِفاً ليصل أَلىَ الكلامِ بها.
وقال ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ ( ٤٠ ) وكذلك ( ثالثُ ثلاثةٍ ) وهو كلام العرب. وقد يجوز " ثاني واحدٍ " و " ثالثُ اثْنَينِ " وفي كتاب الله ﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ وقال ﴿ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ و﴿ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ و﴿ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾
وقال ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ ( ٤٠ ) لأنه لم يحمله على ( جَعَلَ ) وحمله على الابتداء.
وقال ﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ ( ٤١ ) في هذه الحال. إن شئت ( انفِروا ) في لغة من قال " يَنْفِر " وان شئت ( انْفُرُوا ).
وقال ﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ ( ٤٣ ) لأَنَّه استفهام أي : " لأَيِّ شيء ".
وقال ﴿ ولكن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ ﴾ ( ٤٦ ) جعله من " بَعَثْتُهُ " ف " انْبَعَثَ " وسمعت من العرب من يقول : " لَوْ دُعِينا لانْدَعَيْنا ". وتقول : " انْبَعَثَ انَبِعاثاً " أي : " بَعَثْتُهُ " ف " انْبَعَثَ انْبِعاثاً " وتقول : " انْقُطِعَ بِهِ " إذا تكلم فانقطع به ولا تقول " قُطِعَ بِهِ ".
وقال ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ﴾ ( ٥٧ ) لأنه من " اِدَّخَلَ " " يَدَّخِلُ " وقال بعضهم ( مَدْخَلا ) جعله من " دَخَلَ " " يَدْخُل " وهي فيما أعلم [ ١٢٨ ب ] أردأ الوجهين. ويذكرون أنها في قراءة أبي ( مُنْدَخَلاً ) أراد شيئاً بعد شيء. وإنما قال ﴿ مُغَارَاتٍ ﴾ لأنها من " أَغَارَ " فالمكان " مُغارٌ " قال الشاعر :[ من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المئة ] :
الحمدُ للهِ مُمْسانَا وَمُصْبَحَنا بِالخَيْرِ صَبْحَنا رَبِّي وَمَسَّانا
لأنَّها من " أَمْسَى " و " أَصْبَحَ " وإذا وقفت على " مَلْجَأ " قلت " مَلْجَأَا " لأنه نصب منون فتقف بالألف نحو قولك " رأيتُ زيدَا ".
وقال ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ ﴾ ( ٥٨ ) وقال بعضهم ( يَلْمُزُكَ ).
وقال ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ﴾ ( ٦١ ) أي : هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لا أُذُنُ شرٍّ. وقال بعضهم ( أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ ) والأولى أحسنهما لأنك لو قلت " هو أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُم " لم يكن في حسن ( هو أَذُنُ خَيْرٍ لَكُم ) وهذا جائز على أن تجعل ( لكم ) صفة " الأُذُنْ ".
وقال ﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( ٦١ ) أي : يُصدقهم كا تقول للرجل " أَنَا ما يُؤمِنُ لي بأَنْ أَقُولَ كذا وكذا " أي : ما يصدقني.
وقال ﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ ﴾ ( ٦١ ) أي : وهو رحمة.
وقال :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ﴾ ( ٦٢ ) و " سَيَحْلِفُوَن بالله لَكُمِ لِيُرْضُوكُمْ " وَلا أَعلمه إلاَّ على قوله : " لَيُرضُنَّكُم " كما قال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المئتين ] :
إِذا قُلْتُ قَدْنِي قالَ باللهِ حِلْفَةً لَتُغِنِيَ عَنّي ذا أَنائِكَ أَجْمَعا
أي : لَتُغْنِيَنَّ عني. وهو نحو ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴾ أي : ولتُصْغِيَنَّ.
وقال ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ ﴾ ( ٦٣ ) فكسر الألف لأن الفاء التي هي جواب [ ١٢٩ ء ] المجازاة ما بعدها مستأتف.
وقال ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾ ( ٨١ ) أي : مُخالَفَةً. وقال بعضهم ( خَلْفَ ) و( خِلافَ ) أصوبهما لأنهم خالفوا مثل " قَاتَلُوا قِتالا " ولأنه مصدر " خَالَفُوا ".
وقال ﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِرُونَ ﴾ ( ٩٠ ) خفيفة لأنها من " اَعْذَرُوا " وقال بعضهم ( المُعَذِّرُونَ ) ثقيلة يريد : " المُعْتَذرُونَ " ولكنه ادغم التاء في الذال كما قال ﴿ يَخِصِّمُونَ ﴾ وبها نقرأ. وقد يكون ( المُعْذِرُون ) بكسر العين لاجتماع الساكنين وإنما فتح لأنه حول فتحة التاء عليها. وقد يكون أن تضم العين تتبعها الميم وهذا مثل ( المُرْدِفِين ).
وقال ﴿ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ﴾ ( ٩٨ ) كما تقول : " هذا رَجُل السَّوْءِ " وقال الشاعر :[ من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المئتين ] :
وَكُنْتَ كَذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَماً بِصاحِبِه يَوْماً أَحارَ عَلَى الدَّمِ
وقد قرئت ( دائِرَةُ السُّوءِ ) [ ١٢٩ ب ] وذا ضعيف لأنك إذا قلت " كانت عليهم دائرة السُوءِ " كان أحسن من " رجل السَوْءِ " ألا ترى أنك تقول : " كانت عليهم دائرة الهزيمة " لأَنَّ الرجل لا يضاف إلى السُّوء كما يضاف هذا لأن هذا يفسر به الخير والشر كما نقول : " سلكتُ طريقَ الشرَ " و " تركتُ طريقَ الخَيْر ".
وقال ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ﴾ ( ١٠٠ ) وقال بعضهم ( والأَنْصارُ ) رفع عطفه على قوله ( والسَّابِقُونَ ) والوجه هو الجر لأن السابقين الأولين كانوا من الفريقين جميعا.
وقال ﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ ( ١٠٢ ) فيجوز في العربية أن تكون " بآخرَ " كما تقول : " اِسْتَوىَ الماءُ والخَشَبَةَ " أي : " بالخَشَبَةِ " و " خَلَطْتُ الماءَ واللَّبَنَ " أي " بِالَّلبَنِ ".
وقال ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ ( ١٠٣ ) فقوله ﴿ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ على الابتداء وإن شئت جعلته من صفة الصدقة ثم جئت بها توكيداً. وكذلك ( تُطَهِّرُهُم ).
وقال ﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ﴾ ( ١٠٦ ) لأنه من " أَرْجَأْتُ " وقال بعضهم ( مُرْجَوْنَ ) في لغة من قال ( أَرْجَيْتُ ).
وقال ﴿ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ ﴾ ( ١٠٨ ) يريد : " مُنْذُ أوَّلِ يَوْمٍ " لأن من العرب من يقول " لَمْ أَرَهُ مِنْ يَوْمِ كَذا " يريد " مُنْذُ أوَّلِ يَوْمِ " يريد به " مِنْ أَوَّلِ الأَيَّامِ " كقولك [ ١٣٠ ء ] " لَقِيتُ كُلَّ رَجُلٍ " تريد به " كُلَّ الرِجّال ".
وقال ﴿ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ﴾ ( ١٠٩ ) فذكروا أنه من " يَهُورُ " وهو مقلوب وأصله " هائِرٌ " * ولكن قلب مثل ما قلب " شاكِ السِّلاح " [ و ] إنما هو " شائِك ".
وقال ﴿ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ ﴾ ( ١١٠ ) و( تَقَطَّعَ ) في قول بعضهم وكل حسن.
وقال ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ.. ﴾ ( ١١٢ ) الى رأس الآية ثم فسر ( وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( ١١٢ ) لأن قوله - و الله اعلم - ( التائبون ) إنما هو تفسير لقوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ﴾ ( ١١١ ) ثم فسر فقال " هُمْ التَّائِبُونَ ".
ثم قال ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ ( ١١٣ ) يقول " وما كانَ لَهُمْ استِغْفارٌ لِلْمَشْرِكِينَ " وقال ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾. أي ما كان لها الإيمان إلا بإذن الله.
وقال ﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ﴾ ( ١١٤ ) يريد " إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَوْعِدَةٍ " كما تقول : " ما كان هذا الشرُّ إلاَّ عَنْ قَوْلٍ كانَ بَيَنْكَمُا " أي : عن ذلك صار.
وقال ﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ ﴾ ( ١١٧ ) وقال بعضهم ( تَزِيغُ ) جعل في ( كادَ ) و( كادَت ) اسما مضمرا ورفع القلوب على ( تَزِيغُ ) وان شئت رفعتها على ( كادَ ) وجعلت ( تَزيغُ ) حالا وان شئت جعلته مشبها ب " كانَ " فأضمرت في ( كادَ ) اسما وجعلت ( تَزِيغُ قلوبُ ) في موضع الخبر.
وقال ﴿ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ ﴾ ( ١١٨ ) وهي هكذا إذا وقفت [ ١٣٠ ب ] عليها ولا تقول ( ملجأ ا ) لأنه ليس ها هنا نون. ألا ترى انك لو وقفت على " لا خَوْفَ " لم تلحق ألفا. وأمّا " لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَا " فالوقف عليه بالألف لأن النصب فيه منون.
وقال ﴿ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ ( ١٢٣ ) وبها نقرأ وقال بعضهم ( غُلْظَةَ ) وهما لغتان.
وقال ﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ﴾ ( ١٢٤ ) ف " أيّ " مرفوع بالابتداء لسقوط الفعل على الهاء فان قلت : " ألا تضمر في أوله فعلا " كما قال ﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً ﴾ فلأن قبل " بشر " حرف استفهام وهو أولى بالفعل و( أيّ ) استغنى به عن حرف الاستفهام فلم يقع قبله شيء هو أولى بالفعل فصارت مثل قولك " زيدٌ ضَرْبتُه ". ومن نصب " زيداً ضربُته " في الخبر نصب " أيّ " ها هنا.
وقال ﴿ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ ( ١٢٧ ) كأنه قال " قالَ بعضُهم لبَعْضٍ " لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماء أو شبيها به و الله اعلم.
وقال ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ ( ١٢٨ ) جعل ( ما ) اسما و( عَنِتُّم ) من صلته.
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).