تفسير سورة التوبة

أحكام القرآن للجصاص

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص.
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ
الْعَتَاقَةِ وَاحْتَجَّ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ عَبْدًا وَمَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نِصْفَ مِيرَاثِهِ لِابْنَتِهِ وَنِصْفَهُ لِابْنَةِ حَمْزَةَ بِالْوِلَايَةِ فَجَعَلَهَا عَصَبَةً
وَالْعَصَبَةُ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ
وقَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِ اللَّهِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ من قبل أن نبرأها والثاني في حكم اللَّه تعالى.
سُورَةُ بَرَاءَةٌ
قَالَ اللَّه تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرَاءَةُ هِيَ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ وَارْتِفَاعُ الْعِصْمَةِ وَزَوَالُ الْأَمَانِ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّه وَرَسُولِهِ وَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ وَقِيلَ هُوَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ فِي إلَى فَاقْتَضَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُمْ وَرَفْعَ الْأَمَانِ وَإِعْلَامَ نَصْبِ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَهُوَ عَلَى نَحْوِ قَوْله تَعَالَى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إليهم على سواء فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْبَرَاءَةِ نَبْذًا إلَيْهِمْ وَرَفْعًا لِلْعَهْدِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ خَاصًّا فِيمَنْ أَضْمَرُوا الْخِيَانَةَ وَهَمُّوا بِالْغَدْرِ وَكَانَ حُكْمُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يُرْفَعَ الْعَهْدُ فِي حَالِ ذِكْرِ ذَلِكَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَقَّبَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسِيحُوا فِي الأرض أربعة أشهر بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا النَّبْذَ إلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّ عَهْدَ ذَوِي الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْهُمْ بَاقٍ إلَى آخِرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ قَالَ الْحَسَنُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حُطَّ إلَيْهَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَهْدُهُ أَقَلَّ رُفِعَ إلَيْهَا وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ أَوَّلُهَا مِنْ عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرٌ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ
وَقَرَأَ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى النَّاسِ بِمَكَّةَ بأمر النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
ثُمَّ صَارَ الْحَجُّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حج فيها النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في فِي ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَّتَهُ اللَّه تَعَالَى لِلْحَجِّ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَاتَّفَقَ عَوْدُ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي حج فيها النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّه تَعَالَى فِيهِ بَدِيًّا عَلَى إبْرَاهِيمِ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يأتوك رجالا
264
ولذلك
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ أَلَا إنَّ الزَّمَانَ قد استدار كهيئة يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
فَثَبَتَ الْحَجُّ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يوم عرفة والنحر وهو الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْهُ فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي جَعَلَهَا لِلسِّيَاحَةِ وَقَطَعَ بِمُضِيِّهَا عِصْمَةَ الْمُشْرِكِينَ وَعَهْدَهُمْ وَقَدْ قِيلَ فِي جَوَازِ نَقْضِ الْعَهْدِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّتِهِ عَلَى جِهَةِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ نَصْبَ الْحَرْبِ وَزَوَالَ الْأَمَانِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنْ يَخَافَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ وَالْآخَرُ أَنْ يَثْبُتَ غَدْرُهُمْ سِرًّا فَيَنْبِذَ إلَيْهِمْ ظَاهِرًا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْطِ الْعَهْدِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى الْأَمَانِ مَا يَشَاءُ وَيَنْقُضَهُ متى شاء كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم لأهل خيبر أقركم ما أقركم اللَّه
والآخر أَنَّ الْعَهْدَ الْمَشْرُوطَ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فِيهِ ثُبُوتُ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ وَقِتَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِمْ وَأَنْ لَا يُقْصَدُوا وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنَّهُ مَتَى أَعْلَمَهُمْ رَفْعَ الْأَمَانِ مِنْ حَرْبِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي مَضْمُونِ الْعَهْدِ وسواء خاف غدرهم أو لم يخف وكان في شرط العهد أن لناقضه مَتَى شِئْنَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ لَنَا متى رأينا ذلك خطا لِلْإِسْلَامِ أَنْ نَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَدْرٍ مِنَّا وَلَا خِيَانَةٍ وَلَا خَفْرٍ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ خَفْرَ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَعْدَ الْأَمَانِ وَهُمْ غَارُّونَ بِأَمَانِنَا فَأَمَّا مَتَى نَبَذْنَا إلَيْهِمْ فَقَدْ زَالَ الْأَمَانُ وَعَادُوا حَرْبًا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُمْ فِي نَبْذِ الْأَمَانِ إلَيْهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُهَادِنَ الْعَدُوَّ إذَا لَمْ تَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ فَإِنْ قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ وَأَطَاقُوا قِتَالَهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ وَيُقَاتِلَهُمْ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَلَيْسَ جَوَازُ رَفْعِ الْأَمَانِ مَوْقُوفًا عَلَى خَوْفِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ مِنْ قِبَلِهِمْ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمَ هِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ كَانَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ حين بعث النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَكَانَ الْحَجُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَكَأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنَّمَا بَقِيَ عَهْدُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ
وقد روى جرير بن عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْمُحَرَّرِ بْن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْت مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةٌ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَكُنْت أُنَادِي حَتَّى صَحِلَ صَوْتِي وَكَانَ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ فَإِنَّ اللَّه بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ
265
نِدَائِهِ وَإِعْلَامِهِمْ إيَّاهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهَا تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنْ لَا يَطُوفَ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَلَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحُجَّ مُشْرِكٌ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم عهد فاجعله إلى مدته
فجمل
فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ لَهُ عَهْدٌ عَهْدُهُ إلَى أَجَلِهِ وَلَمْ يُخَصِّصْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِهِ
وَقَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَعَهْدُهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ جَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ تَمَامَ أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْحُرُمِ وَجَعَلَ أَجَلَ بَعْضِهِمْ إلَى مُدَّتِهِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ وَذِكْرُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وَذِكْرُ إثْبَاتِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَجَّلَهَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ مُوَافِقٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مدتهم فكان أجل بعضهم وهم الذين خِيفَ غَدْرُهُمْ وَخِيَانَتُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَجَلُ مَنْ لَمْ يُخْشَ غَدْرُهُمْ إلَى مُدَّتِهِ وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم أميرا على الحج من سَنَةِ تِسْعٍ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ وَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم والمشركين من العهد الذي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُصَدَّ عَنْ الْبَيْتِ أَحَدٌ وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَكَانَ ذَلِكَ عَهْدًا عَامًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَصَائِصُ إلَى آجَالٍ مُسَمَّاةٍ فَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عاهدتم من المشركين أَهْلُ الْعَهْدِ الْعَامِّ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ العرب فسيحوا في الارض اربعة أشهر أن اللَّه برىء من المشركين بعده هَذِهِ الْحَجَّةِ وَقَوْلُهُ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المشركين يَعْنِي الْعَهْدُ الْخَاصُّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى
فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الَّتِي ضَرَبَهُ لَهُمْ أَجَلًا
وَقَوْلُهُ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام مِنْ قَبَائِلِ بَنِي بَكْرٍ الَّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ إلَى الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلَّا هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنُو الدِّئْلِ
فَأَمَرَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَهُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدَّتِهِ
فَمَا اسْتَقَامُوا لكم فاستقيموا لهم وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قَالَ جَعَلَ اللَّه لِلَّذِينَ عَاهَدُوا رَسُولَ
266
اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَسِيحُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا وَأَجَّلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَمَرَهُ إذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ عَاهَدُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنَقَضَ مَا سَمَّى لَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ الَّتِي هِيَ أَشْهُرُ الْعَهْدِ لِمَنْ كَانَ لَهُ منهم عهد ومن لم يكن مِنْهُمْ عَهْدٌ جَعَلَ أَجَلَهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ تَمَامُ خَمْسِينَ لَيْلَةً مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ وَهُوَ الْعَشْرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ آخِرُ وَقْتِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عاهدتم من المشركين إلَى أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ خُزَاعَةَ وَمُدْلِجَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ قَالَ ثُمَّ بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا فَأَذِنُوا أَصْحَابَ الْعُهُودِ أَنْ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمُتَوَالِيَاتُ مِنْ عَشْرٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ يخلو مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ ثُمَّ لَا عَهْدَ لَهُمْ قَالَ وَهِيَ الْحُرُمُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ آمَنُوا فِيهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ مُجَاهِدٌ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي أَشْهُرِ الْعَهْدِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا إنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَشْهُرُ الَّتِي قَالَ اللَّه فِيهَا أربعة حرم وقال يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ
أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ وَكَذَلِكَ قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَاَلَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَقَالَ السُّدِّيُّ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ عِشْرُونَ يَبْقَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى عَشْرٍ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ ثُمَّ لَا أَمَانَ لِأَحَدٍ وَلَا عَهْدَ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ حَدَّثَنَا الحسن بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أشهر قَالَ نَزَلَتْ فِي شَوَّالٍ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَشْهُرٍ شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقال قَتَادَةُ عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحْرَمَ وَصَفَرَ وَرَبِيعَ الْأَوَّلَ وَعَشْرٌ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُ قَتَادَةَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مُجَاهِدٍ الَّذِي حكيناه أما قَوْلُ الزُّهْرِيِّ فَأَظُنُّهُ وَهْمًا لِأَنَّ الرُّوَاةَ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ ثُمَّ نَزَلَتْ بعد خروجه سورة براءة فثبت بها مع على ليقرأها على الناس فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عَامٌّ وَهُوَ أَنْ لَا يَصُدَّ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى عَهْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَسِيحُوا في الأرض
267
أربعة أشهر
وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَوَاصَّ مِنْهُمْ عُهُودٌ إلَى آجال مسماة وأم بِالْوَفَاءِ لَهُمْ وَإِتْمَامِ عُهُودِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إذَا لَمْ يَخْشَ غَدْرَهُمْ وَخِيَانَتَهُمْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إليهم عهدهم إلى مدتهم وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُدَّتَهُمْ إمَّا أَنْ تَكُونَ إلَى آخِرِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي قَدْ كَانَ اللَّه تَعَالَى حَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّتُهُمْ إلَى آخِرِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَآخِرُهُ عَشْرٌ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ فَسَمَّاهَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَهْدٌ وَأَوْجَبَ بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ دَفْعَ الْعُهُودِ كُلِّهَا سَوَاءٌ مَنْ كَانَ لَهُ منهم عهد خاص أو سائر الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَمَّهُمْ عَهْدُهُ فِي تَرْكِ مَنْعِهِمْ من البيت وحظره قَتْلِهِمْ فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ انْسِلَاخَ الْمُحَرَّمِ الَّذِي هُوَ آخِرُ الْأَشْهُرِ الحرم التي كان اللَّه تعالى حظره الْقِتَالَ فِيهَا وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله تَعَالَى وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يوم الحج الأكبر يَعْنِي إعْلَامٌ مِنْ اللَّه وَرَسُولِهِ يُقَالُ آذَنَنِي بِكَذَا أَيْ أَعْلَمَنِي فَعَلِمْت وَاخْتُلِفَ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
فَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وعن على
وعمرو ابن عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ الرِّوَايَةِ فِيهِ
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّه بن أبى أو في وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ مِنْ الرُّوَاةِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا وَهَذَا شَائِعٌ كَمَا يُقَالُ يَوْمُ صِفِّينَ وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا التَّأْوِيلُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِفْرَادِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ وَلِلْقِرَانِ يَوْمٌ بِعَيْنِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ يَوْمَ الْقِرَانِ هُوَ يَوْمُ الإفراد للحج فتبطل فائدة تفضيل اليوم الحج الْأَكْبَرِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ بِذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِرَانِ وقَوْله تَعَالَى يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر لَمَّا كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ يَوْمَ النَّحْرِ وَكَانَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيَّامُ الْحَجِّ غَيْرَ أَيَّامِ الْعُمْرَةِ فَلَا تُفْعَلُ الْعُمْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا قَالَ يَوْمَ الحج الأكبر لِأَنَّ أَعْيَادَ الْمِلَلِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم فقيل هذا غلط لأن الإذن بِذَلِكَ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَلِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فيها النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ لِتَقَدُّمِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ
268
الْأُولَى وَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنِ شَدَّادٍ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ يَوْمُ النَّحْرِ وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ وَعَنْ ابن عباس العمر هِيَ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُهُ الْحَجِّ الأكبر قَدْ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَجٌّ أَصْغَرُ وَهُوَ الْعُمْرَةُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ شَدَّادٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَقَعُ عَلَى الْعُمْرَةِ ثم
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ حِينَ سَأَلَهُ فَقَالَ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِنَفْيِ النَّبِيِّ الْوُجُوبَ إلَّا فِي حِجَّةِ وَاحِدَةٍ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْحَجُّ عَرَفَةَ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّ فِيهِ تَمَامَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَالتَّفَثَ وَيَحْتَمِلُ أَيَّامَ مِنًى عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَخَصَّهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِفِعْلِ الْحَجِّ فِيهِ دُونَ الْعُمْرَةِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَجُّ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ وَعَرَفَةُ قَدْ يَأْتِيهَا بَعْضُهُمْ لَيْلًا وَبَعْضُهُمْ نَهَارًا وَأَمَّا النِّدَاءُ بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَجَائِزٌ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حيث وجدتموهم رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قوله لست عليهم بمصيطر وقوله وما أنت عليهم بجبار وقوله تعالى فاعف عنهم واصفح وَقَوْلِهِ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يرجون أيام الله قَالَ نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا المشركين حيث وجدتموهم وقَوْله تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا باليوم الآخر الْآيَةَ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَدْ كَانَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم قَبْلَ ذَلِكَ يَكُفُّ عَمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لكم عليهم سبيلا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورسوله ثُمَّ قَالَ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا المشركين قَالَ أَبُو بَكْرٍ عُمُومُهُ يَقْتَضِي قَتْلَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفُ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى الجزية بقوله تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا باليوم الآخر الآية وأخذ
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ فَعَلُوا فخذوه مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ
وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ المشركين
269
فحصصنا منه لَمْ يَكُنْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالْآيَةِ وَصَارَ قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم خَاصًّا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ وقَوْله تعالى وخذوهم واحصروهم يدل على حبسهم بعد الأخذ والاستبقاء بِقَتْلِهِمْ انْتِظَارًا لِإِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ الْحَصْرَ هُوَ الْحَبْسُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ حَصْرِ الْكُفَّارِ فِي حُصُونِهِمْ وَمُدُنِهِمْ إنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَنْ يُلْقَوْا بالحصار قوله تعالى فاقتلوا المشركين يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ قَتْلِهِمْ عَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَعَنْ قَتْلِ الصَّبْرِ بِالنَّبْلِ وَنَحْوِهِ
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ
وَقَالَ إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِينَ قَتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ وَالْحِجَارَةِ وَالرَّمْيِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ إنَّمَا ذَهَبَ فِيهِ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ وَكَذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حِينَ أَحْرَقَ قَوْمًا مُرْتَدِّينَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اعْتَبَرَ عُمُومَ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم لا يخلوا قَوْله تَعَالَى فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزكاة مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ شَرْطًا فِي زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ وَيَكُونَ قَبُولُ ذَلِكَ وَالِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى فِيهِ هُوَ الشَّرْطَ دُونَ وُجُودِ الْفِعْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْ الشِّرْكِ شَرْطٌ لَا مَحَالَةَ فِي زَوَالِ الْقَتْلِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوا أَمْرَ اللَّه فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ وَقْتَ صَلَاةٍ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ دمائهم مَحْظُورَةٌ فَعَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَ زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ هُوَ قَبُولُ أَوَامِرِ اللَّه وَالِاعْتِرَافُ بِلُزُومِهَا دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَلِأَنَّ إخْرَاجَ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي زَوَالِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ وَإِنَّمَا شَرْطُهُ قَبُولُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَالْتِزَامُهَا وَالِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِهَا فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فشرط مع التوبة قبل الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا هِيَ الْإِقْلَاعُ عَنْ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ عُقِلَ بِذِكْرِهِ التَّوْبَةَ الْتِزَامُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَالِاعْتِرَافُ بِهَا إذْ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِهِ ثُمَّ لَمَّا شَرَطَ مَعَ التَّوْبَةِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُزِيلَ لِلْقَتْلِ هُوَ اعْتِقَادُ الْإِيمَانِ بِشَرَائِطِهِ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي وَقْتِ وجوبهما
270
وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلْإِيمَانِ مُعْتَرِفًا بِلُزُومِ شَرَائِعِهِ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ الْقَتْلِ لَمَا زَالَ الْقَتْلُ عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعم لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مَعَ إسْلَامِهِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَمَّنْ وَصَفْنَا أَمْرَهُ بَعْدَ اعْتِقَادِهِ لِلْإِيمَانِ لِلُزُومِ شَرَائِعِهِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ زَوَالِ الْقَتْلِ وَأَنَّ شَرْطَهُ إظْهَارُ الْإِيمَانِ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامَ شَرَائِعِهِ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ذَلِكَ لَمْ يزل عنه القتل عند إخلاصه بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ سَبَتْ ذَرَارِيَّ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقَتَلَتْ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَمَّوْهُمْ أَهْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ الْتِزَامِ الزَّكَاةِ وَقَبُولِ وُجُوبِهَا فَكَانُوا مُرْتَدِّينَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ كَفَرَ بِآيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ وَعَلَى ذَلِكَ أَجْرَى حُكْمَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ حِينَ قَاتَلُوهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ بِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ قَبُولِ فَرْضِ الزَّكَاةِ مَا
رَوَى مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ كَافَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ الْعَرَبَ كَافَّةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ مَنَعُونِي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُعْطُونَ إلَى رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
وَرَوَى مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عن الحسن قال ما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَّا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَنَصَبَ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ الْحَرْبَ فَقَالُوا فإذا تشهد أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَنُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي فَمَشَى عُمَرُ وَالْبَدْرِيُّونَ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَقَالُوا دَعْهُمْ فَإِنَّهُمْ إذَا اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ وَثَبَتَ أَدَّوْا فَقَالَ واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لقتالتهم عَلَيْهِ وَقَاتَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزكاة فخلوا سبيلهم واللَّه لا أسئل فَوْقَهُنَّ وَلَا أُقَصِّرُ دُونَهُنَّ فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ نَحْنُ نُزَكِّي وَلَا نَدْفَعُهَا إلَيْك فَقَالَ لَا واللَّه حَتَّى آخُذَهَا كَمَا أَخَذَهَا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِثْلَهُ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا قُبِضَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّه فَإِذَا فَعَلُوا ذلك عصموا
271
مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّه فَقَالَ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا مِمَّا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَيْهِ
فَأَخْبَرَ جَمِيعُ هَؤُلَاءِ الرُّوَاةِ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ إنَّمَا كَانَ رِدَّتُهُمْ مِنْ جِهَةِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَلَى جِهَةِ الرَّدِّ لَهَا وَتَرْكِ قَبُولِهَا فَسُمُّوا مُرْتَدِّينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ أنه يقاتلهم على تَرْكِ الْتِزَامِهَا وَالِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا مُرْتَدٌّ وَأَنَّ مَانِعَهَا مِنْ الْإِمَامِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهَا يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ فَثَبَتَ أَنَّ مَنْ أَدَّى صَدَقَةَ مَوَاشِيهِ إلَى الْفُقَرَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِهَا وَأَنَّهُ مَتَى امْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ قَاتَلَهُ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا كَمَا يَأْخُذُونَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ عُثْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ فَجَعَلَ الْأَدَاءَ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْوُكَلَاءِ لِلْإِمَامِ فِي أَدَائِهَا وَهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ بِمُوَافَقَةِ الصَّحَابَةِ إيَّاهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ منهم بعد ما تَبَيَّنُوا صِحَّةَ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ عَامِدًا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَزَعَمَ أَنَّهَا تُوجِبُ قَتْلَ الْمُشْرِكِ إلَّا أَنْ يُؤْمِنَ وَيُقِيمَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وَأَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ لُزُومِهِمَا وَالْتِزَامُ فَرْضِهِمَا دُونَ فِعْلِهِمَا وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا ادَّعَوْا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا إنَّمَا أَوْجَبَتْ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَ فروضه وأقربها فَهُوَ غَيْرُ مُشْرِكٍ بِاتِّفَاقٍ فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ قَتْلَهُ إذْ كَانَ حُكْمُهَا مَقْصُورًا فِي إيجَابِ الْقَتْلِ عَلَى مَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَتَارِكُ الصَّلَاةِ وَمَانِعُ الزَّكَاةِ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَإِنْ قَالُوا إنَّمَا أَزَالَ الْقَتْلَ عَنْهُ بِشَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا التَّوْبَةُ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَقَبُولُ شَرَائِعِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِعْلُ الصَّلَاةِ وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا أَوْجَبَ بَدِيًّا قتل المشركين بقوله تعالى فاقتلوا المشركين فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُمْ سِمَةُ الشِّرْكِ فَقَدْ وَجَبَ زَوَالُ الْقَتْلِ وَيَحْتَاجُ فِي إيجَابِهِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ هَذَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الشَّرْطَيْنِ فِي الْآيَةِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنَنْت وذلك
272
لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ هَذَيْنِ الْقُرْبَيْنِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ لِأَنَّهُ قَالَ فَإِنْ تَابُوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْقَتْلَ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْرِ فَإِذَا زَالَ الْقَتْلُ بِزَوَالِ سِمَةِ الشِّرْكِ فَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ بَاقٍ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَامِدًا وَأَصَرَّ عَلَيْهِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ جَازَ لِلْإِمَامِ حَبْسُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ تَخْلِيَتُهُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ حُكْمَ إيجَابِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ وَحَبْسَ تَارِكِ الصَّلَاةِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَفْعَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأجره حتى يسمع كلام الله قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَازَ أَمَانِ الْحَرْبِيِّ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا لِيَسْمَعَ دَلَالَةَ صِحَّةِ الإسلام لأن قوله تعالى استجارك معناه استأمنك وقوله تعالى فأجره مَعْنَاهُ فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه الَّذِي فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَعَلَى صِحَّةِ نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إذَا طَلَبَ مِنَّا إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَبَيَانَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ حَتَّى يَعْتَقِدَهُمَا لِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْنَا إقَامَةُ الْحُجَّةِ وَبَيَانُ تَوْحِيدِ اللَّه وَصِحَّةِ نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا قَتْلُهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ مِنَّا إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الدَّلَالَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِأَنَّ اللَّه قَدْ أَمَرَنَا بِإِعْطَائِهِ الْأَمَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه وَفِيهِ الدَّلَالَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا تَعْلِيمَ كُلِّ مَنْ الْتَمَسَ مِنَّا تَعْرِيفَهُ شَيْئَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لِأَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي اسْتَجَارَنَا لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه إنَّمَا قَصَدَ الْتِمَاسَ مَعْرِفَةِ صِحَّةِ الدِّينِ وقَوْله تعالى ثم أبلغه مأمنه يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ هَذَا الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَجِيرِ وَحِيَاطَتَهُ وَمَنْعَ النَّاسِ مِنْ تَنَاوُلِهِ بشر لقوله فأجره وقوله ثم أبلغه مأمنه وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ حِفْظَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَنْعَ مِنْ أَذِيَّتِهِمْ وَالتَّخَطِّي إلَى ظُلْمِهِمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ فِيهَا إلَّا بِمِقْدَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حَتَّى يَسْمَعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنه فَأَمَرَ
بِرَدِّهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ سَمَاعِهِ كَلَامَ اللَّه وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُقِيمًا بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَبَبٍ يُوجِبُ إقَامَتَهُ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِهِ فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ ذِمِّيًّا وَوُضِعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ قَوْله تَعَالَى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عند المسجد الحرام قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْتِدَاءُ السُّورَةِ يَذْكُرُ قَطْعَ العهد بين النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ
273
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَغَدَرُوا وَأَسَرُّوا وَهَمُّوا بِهِ فأمر اللَّه نبيه بالنبذ إليهم ظاهرا وفسح لَهُمْ فِي مُدَّةٍ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ فَسِيحُوا في الأرض أربعة أشهر وَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً فِي أَنْ لَا يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وأو لَا يُقَاتِلُوا وَلَا يَقْتُلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فكان قول براءة من الله ورسوله فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمًا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّه عَهْدٌ خَاصٌّ وَلَمْ يَغْدِرُوا وَلَمْ يَهُمُّوا بِهِ فَقَالَ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم فَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى عهدهم ولم ينقصوكم وَلَمْ يُعَاوِنُوا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إلَى مُدَّتِهِمْ وَأَمَرَ بِالنَّبْذِ إلَى الْأَوَّلِينَ وَهُمْ أَحَدُ فَرِيقَيْنِ مَنْ غَادَرَ قَاصِدًا إلَيْهِ أَوْ لم يكن بينه وبين النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم عَهْدٌ خَاصٌّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ بَلْ فِي دخول مكة الحج وَالْأَمَانِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّذِي كَانَ يَأْمَنُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسُ وقَوْله تَعَالَى وَلَمْ يُظَاهِرُوا عليكم أحدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاهَدَ مَتَى عَاوَنَ عَلَيْنَا عَدُوًّا لَنَا فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فَرَفَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَشْهُرِ الْحُرُمِ عَهْدَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ مِنْ خَاصٍّ وَمِنْ عَامٍّ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ الله وعند رسوله لِأَنَّهُمْ غَدَرُوا وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ الَّذِينَ عَاهَدُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هُمْ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ هُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هم من خُزَاعَةُ فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْوَفَاءِ بِعَهْدِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا لَهُمْ فِي الْوَفَاءِ بِهِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ هَؤُلَاءِ فِي الْعَهْدِ دُونَ مُضِيِّ أَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّهُ قَالَ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وجدتموهم وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي رَفْعَ سَائِرِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ عَهْدِهِمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَكَانُوا مَخْصُوصِينَ مِمَّنْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَاصًّا فِي قَوْمٍ مِنْهُمْ كَانُوا أَهْلَ غَدْرٍ وَخِيَانَةٍ لِأَنَّهُ قَالَ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْإِيمَانَ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ فَعَلَيْنَا مُوَالَاتُهُ فِي الدِّينِ عَلَى ظَاهِرِ أَمْرِهِ مَعَ وُجُودِ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ فِي الْمَغِيبِ خِلَافَهُ
قَوْله تَعَالَى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دينكم
274
فقاتلوا أئمة الكفر
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مَتَى خَالَفُوا شَيْئًا مِمَّا عُوهِدُوا عَلَيْهِ وَطَعَنُوا فِي دِينِنَا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَكْثَ الْأَيْمَانِ يَكُونُ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ واللَّه لا كلمت زيدا ولا عمرو وَلَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَلَا هَذِهِ أَيَّهمَا فَعَلَ حَنِثَ وَنَكَثَ يَمِينَهُ ثُمَّ لَمَّا ضَمَّ إلَى ذَلِكَ الطَّعْنَ فِي الدِّينِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْعَهْدِ مِنْ شُرُوطِ بَقَاءِ عَهْدِهِمْ تَرْكُهُمْ لِلطَّعْنِ فِي دِينِنَا وَأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ إظْهَارِ الطَّعْنِ فِي دَيْنِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنَّ مَنْ أَظْهَرَ شَتْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَوَجَبَ قَتْلُهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ شتم النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قُتِلَ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٍ فِيمَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَا هِيَ رِدَّةٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ نَكَلَ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ قَالَ يُضْرَبُ مائة ثم يترك حتى إذا هن برىء ضُرِبَ مِائَةً وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمُسْلِمِ يَسُبُّ النَّبِيَّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا يُنَاظَرُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَيُقْتَلُ مكانه وكذلك اليهود والنصارى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَيُشْتَرَطُ عَلَى الْمُصَالِحِينَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ كِتَابَ اللَّه أَوْ مُحَمَّدًا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِمَا لَا يَنْبَغِي أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ طَرِيقًا أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ بِدَلَالَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ آوَى عَيْنًا لَهُمْ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأُحِلَّ دَمُهُ وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّه وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ سب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكفر فَجَعَلَ الطَّعْنَ فِي دِينِنَا بِمَنْزِلَةِ نَكْثِ الْأَيْمَانِ إذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَجْعَلَ نَكْثَ الْأَيْمَانِ وَالطَّعْنَ فِي الدِّينِ بِمَجْمُوعِهِمَا شَرْطًا فِي نَقْضِ الْعَهْدِ لِأَنَّهُمْ لَوْ نَكَثُوا الْأَيْمَانَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُظْهِرُوا الطَّعْنَ فِي الدِّينِ لَكَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم مُعَاوَنَةَ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ حلفاء النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِرًّا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إظْهَارُ طَعْنٍ فِي الدِّينِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَنْ أَظْهَرَ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ إذْ سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم من أكثر فِي الدِّينِ فَهَذَا وَجْهٌ يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ
275
بِمَا وَصَفْنَا وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رِجْلٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنِّي سَمِعْت رَاهِبًا سَبَّ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فقال لو سمعته لقتله إنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى هَذَا وَهُوَ إسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوا سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنس يَهُودِيًّا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ السَّامُ عَلَيْك فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم أتدرون ما قال فقالوا نَعَمْ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْك
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ على النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فقالوا السام عليكم قالت ففهمتها فقالت وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم مَهْلًا يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّه يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قُلْت عَلَيْكُمْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ لَصَارَ بِهِ مُرْتَدًّا مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِذَلِكَ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً يهودية أتت النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا فَجِيءَ بِهَا فَقَالُوا أَلَا تَقْتُلُهَا قَالَ لَا
قَالَ فَمَا زِلْت أَعْرِفُهَا فِي سَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ قصد النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مُبِيحَةً لِدَمِهَا بِمَا فَعَلَتْ فَكَذَلِكَ إظْهَارُ سب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الذِّمِّيِّ مُخَالِفٌ لِإِظْهَارِ الْمُسْلِمِ لَهُ وقوله فقاتلوا أئمة الكفر رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ أَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ وَقَالَ قَتَادَةُ أَبُو جَهْلٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهُمْ الَّذِينَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهَا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَقْرَأَهَا عَلَى النَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ قَدْ كَانُوا قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ أَحَدٌ يُظْهِرُ الْكُفْرَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَرَاءَةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى ذَلِكَ فِي رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْمًا مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ الطُّلَقَاءُ مِنْ نَحْوِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَحْزَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقَ قَلْبُهُ مِنْ الْكُفْرِ فَيَكُونُ مُرَادُ الْآيَةِ هَؤُلَاءِ دُونَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يُظْهِرُوا الْإِسْلَامَ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا هَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ وَبَدَرَهُمْ بِالْقِتَالِ وَالْحَرْبِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا وَسَائِرَ رُؤَسَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا
276
مُعَاضِدِينَ لِقُرَيْشٍ عَلَى حَرْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إنْ هُمْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ وقَوْله تَعَالَى إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لهم مَعْنَاهُ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً مَوْثُوقًا بِهَا وَلَمْ يَنْفِ بِهِ وُجُودَ الْأَيْمَانِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَدِيًّا وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بعد عهدهم
وَعَطَفَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلَهُ أَلا تُقَاتِلُونَ قوما نكثوا أيمانهم فثبت أنه لم برد بقوله لا أيمان لهم نَفْيَ الْأَيْمَانِ أَصْلًا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الْوَفَاءِ بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ لَا وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْفَضْلِ دُونَ نَفْيِ الْأَصْلِ وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ مَوْجُودَةٌ فِي السُّنَنِ وَفِي كَلَامِ الناس
كقوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ
وليس بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ
وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّه
وَنَحْوُ ذَلِكَ فَأَطْلَقَ الْإِمَامَةَ فِي الْكُفْرِ لِأَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ الْمُتَّبَعُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ قَالَ اللَّه تَعَالَى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَقَالَ فِي الْخَيْرِ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا فَالْإِمَامُ فِي الْخَيْرِ هَادٍ مُهْتَدٍ وَالْإِمَامُ فِي الشر ضال مضل قد قِيلَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا غَدَرُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَنَكَثُوا مَا كَانُوا أَعْطَوْا مِنْ الْعُهُودِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى أَنْ لَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَعْدَاءَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهَمُّوا بِمُعَاوَنَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ عَلَى إخراج النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ بَدَءُوا بِالْغَدْرِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ
وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِقَوْلِهِ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بأيديكم وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ بقوله ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم
قَوْله تَعَالَى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وليجة فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمْ تُجَاهِدُوا لِأَنَّهُمْ إذَا جَاهَدُوا عَلِمَ اللَّه ذَلِكَ مِنْهُمْ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْعِلْمِ وَأَرَادَ بِهِ قِيَامَهُمْ بِفَرْضِ الْجِهَادِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّه وُجُودَ ذَلِكَ منهم وَقَوْلِهِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رسوله ولا المؤمنين وليجة يَقْتَضِي لُزُومَ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكَ الْعُدُولِ عَنْهُمْ كَمَا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نوله ما تولى وَالْوَلِيجَةُ الْمَدْخَلُ يُقَالُ وَلَجَ إذَا دَخَلَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَدْخَلٌ غَيْرُ مَدْخَلِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقَالُ إنَّ الْوَلِيجَةَ بِمَعْنَى الدَّخِيلَةِ وَالْبِطَانَةِ وَهِيَ مِنْ الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى هَذَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَطَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُدَاخَلَتِهِمْ
وَتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ كَمَا قال لا تتخذوا بطانة من دونكم.
قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مساجد الله عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون فِيهِ وَالْآخَرُ بِبِنَائِهِ وَتَجْدِيدِ مَا اسْتَرَمَّ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَالُ اعْتَمَرَ إذَا زَارَ وَمِنْهُ الْعُمْرَةُ لِأَنَّهَا زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَفُلَانٌ مِنْ عَمَّارِ الْمَسَاجِدِ إذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُضِيِّ إلَيْهَا وَالسُّكُونِ فِيهَا وَفُلَانٌ يَعْمُرُ مَجْلِسَ فُلَانٍ إذَا أَكْثَرَ غَشَيَانَهُ لَهُ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ مَنْعَ الْكُفَّارِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَمِنْ بِنَائِهَا وَتُوَلِّي مَصَالِحِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا لِانْتِظَامِ اللَّفْظِ لِلْأَمْرَيْنِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان فِيهِ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَنُصْرَتِهِمْ وَالِاسْتِنْصَارِ بِهِمْ وَتَفْوِيضِ أُمُورِهِمْ إلَيْهِمْ وَإِيجَابِ التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَتَرْكِ تَعْظِيمِهِمْ وَإِكْرَامِهِمْ وَسَوَاءٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَانِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إلَى الْأَبِ الْكَافِرِ وَصُحْبَتِهِ بالمعروف بقوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه- إلَى قَوْلِهِ- وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما أمر المؤمنين بذلك يتميزوا من المنافقين إذا كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ الْكُفَّارَ وَيُظْهِرُونَ إكْرَامَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ إذَا لَقُوهُمْ وَيُظْهِرُونَ لَهُمْ الْوِلَايَةَ وَالْحِيَاطَةَ فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى مَا أَمَرَ بِهِ الْمُؤْمِنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ الْمُنَافِقِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ رَبِّهِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هذا إطْلَاقُ اسْمِ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشِّرْكَ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ كَمَا يَجِبُ اجْتِنَابُ النَّجَاسَاتِ وَالْأَقْذَارِ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُمْ نَجَسًا وَالنَّجَاسَةُ فِي الشَّرْعِ تَنْصَرِفُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا نَجَاسَةُ الْأَعْيَانِ وَالْآخَرُ نَجَاسَةُ الذُّنُوبِ وَكَذَلِكَ الرِّجْسُ وَالرِّجْزُ يَنْصَرِفُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الشَّرْعِ قَالَ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ من عمل الشيطان وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنهم رجس فَسَمَّاهُمْ رِجْسًا كَمَا سَمَّى الْمُشْرِكِينَ نَجَسًا وَقَدْ أفاد قوله إنما المشركون نجس مَنْعَهُمْ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرٍ إذْ كَانَ عَلَيْنَا تَطْهِيرُ الْمَسَاجِدِ مِنْ الْأَنْجَاسِ وقَوْله تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قَدْ تَنَازَعَ مَعْنَاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَدْخُلُ الْمُشْرِكُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ مالك
278
وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا لِحَاجَةٍ مِنْ نَحْوِ الذِّمِّيِّ يَدْخُلُ إلَى الْحَاكِمِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْخُصُومَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَدْخُلُ كُلَّ مَسْجِدٍ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ خَاصَّةً وَقَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُولُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ وَكَانَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أو السيف وهم مشركوا الْعَرَبِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعَهُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّدَاءِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ فِيمَا رَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى أَنْ لَا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم مُشْرِكٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَامِ الَّذِي نَبَذَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس الْآيَةَ
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ حِينَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ نَادَى وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فلا يقربوا المسجد الحرام وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فضله إن شاء وَإِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ الْعَيْلَةِ لِانْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ مِنْ الْحَجِّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ الْحَجُّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَسَائِرِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعِينَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ثَبَتَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْحَجُّ دُونَ قُرْبِ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى دُخُولِ الْمَسْجِدِ كَانَ خَاصًّا فِي ذلك دون ما قُرْبِ الْمَسْجِدِ وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْمَسْجِدِ بِهِ دُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمٌ أَنْجَاسٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شَيْءٌ إنَّمَا أَنْجَاسُ النَّاسِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَمَّا وَفْدُ ثَقِيفٍ فَإِنَّهُمْ جَاءُوا بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ
279
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ فَأَنْزَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَخْبَرَ أَنَّ كَوْنَهُمْ أَنْجَاسًا لَا يَمْنَعُ دُخُولَهُمْ الْمَسْجِدَ
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْكُفْرِ لَا يَمْنَعُ الْكَافِرَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَأَمَّا أَبُو سفيان بأنه جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَجْدِيدِ الْهُدْنَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مُشْرِكًا حِينَئِذٍ وَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ قُرْبِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَمْ تَقْتَضِ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ الْكُفَّارِ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فلا يقربوا المسجد الحرام وَلِمَا
رَوَى زَيْدُ بْنُ يُثَيِّعٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ مُشْرِكٌ
قِيلَ لَهُ إنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ لِلْحَجِّ
وَقَدْ رُوِيَ فِي أَخْبَارٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ نَادَى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دُخُولُ الْحَرَمِ لِلْحَجِّ
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً يَدْخُلُهُ لِحَاجَةٍ
فَأَبَاحَ دُخُولَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَاجَةِ لَا لِلْحَجِّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ الذِّمِّيَّ لَهُ دُخُولُهُ لِحَاجَةٍ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَإِنَّمَا خَصَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْخُلَانِهِ فِي الْأَغْلَبِ الْأَعَمِّ لِلْحَجِّ وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قال أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَوَقَفَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَلَى جَابِرٍ وجائز أن يكون صَحِيحَيْنِ فَيَكُونَ جَابِرٌ قَدْ رَفَعَهُ تَارَةً وَأَفْتَى بِهَا أُخْرَى وَرَوَى ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قال لا يدخل المشرك وَتَلَا قَوْله تَعَالَى فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا قَالَ عَطَاءٌ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ الْحَرَمُ كُلُّهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْحَرَمُ كُلُّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَسْجِدِ إذْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَلِّقَةً بِالْمَسْجِدِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العاكف فيه والباد وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مُرَادٌ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ثم محلها إلى البيت العتيق قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ فِي أَيِّ الْحَرَمِ نَحَرَ الْبُدْنَ أَجْزَأَهُ فَجَائِزٌ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يقربوا المسجد الحرام الْحَرَمَ كُلَّهُ لِلْحَجِّ إذْ
280
كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم كُلُّهُ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ لِمَا وَصَفْنَا فَعَبَّرَ عَنْ الْحَرَمِ بِالْمَسْجِدِ وَعَبَّرَ عَنْ الْحَجِّ بِالْحَرَمِ ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الْحَرَمُ قَوْله تَعَالَى إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ عَلَى شَفِيرِ الْحَرَمِ وَذَكَرَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحِلِّ وَبَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا أَنَّهَا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْحَرَمِ وَإِطْلَاقُهُ تَعَالَى اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَقْتَضِي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كانوا مَأْمُورِينَ بِاجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ عَامِهِمْ هذا فَإِنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَتَلَا عَلِيٌّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ وَهُوَ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَ بَعْدَهُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ من فضله إن شاء فَإِنَّ الْعَيْلَةَ الْفَقْرُ يُقَالُ عَالَ يَعِيلُ إذَا افْتَقَرَ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ كَانُوا خَافُوا انْقِطَاعَ الْمَتَاجِرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُغْنِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فَقِيلَ إنَّهُ أَرَادَ الْجِزْيَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ أَرَادَ الْإِخْبَارَ بِإِبْقَاءِ الْمَتَاجِرِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ بُلْدَانِ الْعَجَمِ سَيُسْلِمُونَ وَيَحُجُّونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا ينالون من منافع متاجرهم من حُضُورِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحرام والهدى والقلائد الْآيَةَ فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا فِي حَجِّ الْبَيْتِ وَالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ مِنْ مَنَافِعِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ وَأَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ خِفْتُمْ عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله عَمَّا يَنَالُونَ مِنْ الْغِنَى بِحَجِّ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا علق الغنى بالمشيئة المعنيين كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ وَلَا يَبْلُغُ هَذَا الْغِنَى الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْمَشِيئَةِ وَالثَّانِي لِيَنْقَطِعَ الْآمَالُ إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمنين.
بَابُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
281
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَعَ إظْهَارِهِمْ الْإِيمَانَ بِالنُّشُورِ وَالْبَعْثِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ مِنْ تَخْلِيدِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي النَّارِ وَتَخْلِيدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمُرَادُهُ حُكْمُ يَوْمِ الْآخِرِ وَقَضَاؤُهُ فِيهِ كَمَا تَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ فِيهِ إنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يقربه في عظم الحرم كَمَا إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ وَقِيلَ أَيْضًا لَمَّا كَانَ إقْرَارُهُمْ عَنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إيمَانًا وَأَكْثَرُهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وقَوْله تَعَالَى ولا يدينون دين الحق فإن دين الحق هو الإسلام قال اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَهُوَ التَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالدِّينُ يَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا الطَّاعَةُ وَمِنْهَا الْقَهْرُ وَمِنْهَا الْجَزَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
هُوَ دَانَ الرَّبَابَ اُذْكُرْ هو الد دين دراكا بغزوة وصيال
يعنى قهر الرباب أذكر هو إطاعته وَأَبَوْا الِانْقِيَادَ لَهُ وقَوْله تَعَالَى مَالِكِ يَوْمِ الدين قِيلَ إنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَمِنْهُ كَمَا تَدِينُ تدان وَدِينُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى غَيْرُ دِينِ الْحَقِّ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُنْقَادِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا طَائِعِينَ لَهُ لِجُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ فَهُمْ يَدِينُونَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ معترفون بِهِ مُنْقَادِينَ لَهُ قِيلَ لَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذُكِرَ نَبِيُّنَا وَأُمِرْنَا بِالْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِ وَهُمْ غَيْرُ عَامِلِينَ بِذَلِكَ بَلْ تَارِكُونَ لَهُ فَهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ دِينَ الْحَقِّ وَأَيْضًا فَإِنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَدْ نُسِخَتْ وَالْعَمَلُ بِهَا بَعْدَ النَّسْخِ ضَلَالٌ فَلَيْسَ هُوَ إذًا دِينَ الْحَقِّ وَأَيْضًا فَهُمْ قَدْ غَيَّرُوا الْمَعَانِيَ وَحَرَّفُوهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا وَأَزَالُوهَا إلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ دون ما أوجبه عليهم كتاب اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ غَيْرُ دَائِنِينَ دِينَ الْحَقِّ قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الكتاب على طائفتين من قبلنا فَلَوْ كَانَ الْمَجُوسُ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ طَائِفَتَانِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الصَّابِئِينَ وَهَلْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
282
أم لا وهم فريقان أحدهما بنوا حي كَسْكَرَ وَالْبَطَائِحَ وَهُمْ فِيمَا بَلَغْنَا صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى.
وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ من ديانتهم لِأَنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ الْمَرْقُونِيَّةُ والْآرْيُوسِيَّةُ وَالْمَارُونِيَّةُ وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مِنْ النَّسْطُورِيَّةِ وَالْمَلْكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يبرءون منهم ويحرمون وَهُمْ يَنْتَمُونَ إلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَشِيثٌ وَيَنْتَحِلُونَ كُتُبًا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ وَيَحْيَى بْنِ زكريا والنصارى تسميهم يوحنا سية فَهَذِهِ الْفِرْقَةُ يَجْعَلُهَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُبِيحُ أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةَ نِسَائِهِمْ وَفِرْقَةٌ أُخْرَى قَدْ تَسَمَّتْ بِالصَّابِئِينَ وَهُمْ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَلَا يَنْتَمُونَ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا ينحلون شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مُرَادِهِ الْفِرْقَةَ الْأُولَى وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَقَالَا إنَّ الصَّابِئِينَ لَيْسُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ التَّابِعِينَ وَرَوَى هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ كُنَّا عِنْدَ الْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَهُ رَجُلٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّابِئِينَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِ فَقَالَ الْحَسَنُ أَلَيْسَ قَدْ كُنْت أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْقَاسِمِ بْن أَبِي بَزَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الصابئون قوم من المشركين وَالنَّصَارَى لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ومالك ابن أَنَسٍ وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ عن جابر ابن زَيْدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّابِئِينَ أَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ وَطَعَامُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ حِلٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَلِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَقْبَلْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفُ وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الكتاب من العرب من سَائِرِ كُفَّارِ الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ تُقْبَلُ مِنْ الْجَمِيعِ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الزِّنْجِ وَنَحْوِهِمْ إذَا سُبُوا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ يُقَاتَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى الْجِزْيَةِ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ عَلَى الصَّلَاةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَهْلَ الْأَوْثَانِ مِنْ العرب وقال الثوري العرب لا يسبون وهو إذا سبوا ثم
283
تَرَكَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يَقْتَضِي قَتْلَ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ عُمُومَهُ مَقْصُورٌ عَلَى عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ فِي اللَّفْظِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أشركوا فَعَطَفَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ يَخْتَصُّ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ والصابئين المشركين وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ أَشْرَكَتْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وعبادة الْمَسِيحِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا مُغَالِبًا وَالصَّابِئُونَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَالْآخَرُ لَا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَكِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فِي وُجُوهٍ أُخَرُ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ فَلَمْ يُوجِبْ قَوْله تَعَالَى فاقتلوا المشركين إلَّا قَتْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَقَالَ آخَرُونَ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الشِّرْكِ مَوْجُودًا فِي مَقَالَاتِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنْ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ فَقَدْ انْتَظَمَهُمْ اللَّفْظُ وَلَوْلَا وُرُودُ آيَةِ التَّخْصِيصِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ خُصُّوا مِنْ الْجُمْلَةِ وَمَنْ عَدَاهُمْ مَحْمُولُونَ عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ عَجَمًا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي جَوَازِ إقْرَارِ الْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ مُجَالِدًا يَقُولُ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ حَتَّى
شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزَ قَالَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُنْذِرِ أَنَّهُ مَنْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتِنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَمَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَجُوسِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
وَرَوَى قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الحسن بن محمد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ قَبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَكَّارَ بْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرحمن ابن عمران قال حدثنا عوف كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بن أرطاة أما بعد فاسئل
284
الحسن ما يقع مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَا يَجْمَعُونَ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَجْمَعُهُنَّ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ مِنْ مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ الْجِزْيَةَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَجُوسِيَّتِهِمْ وَعَامِلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَفَعَلَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
وَرَوَى مَعْمَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ
وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ السَّوَادِ وَأَنَّ عُثْمَانَ أَخَذَهَا مِنْ بَرْبَرَ وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ أَخْذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ السَّوَادِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا أَخَذَهَا لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِمَا
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ
وَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ يَقْرَءُونَهُ وَأَهْلَ عِلْمٍ يَدْرُسُونَهُ فَنُزِعَ ذَلِكَ مِنْ صُدُورِهِمْ
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ
فَإِنَّهُ إنْ صَحَّتْ الرِّوَايَةُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ أَسْلَافَهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ نُزِعَ مِنْ صُدُورِهِمْ فَإِذًا لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْن مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَجُوسِ الْبَحْرَيْنِ إنَّ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَلَا تُؤْكَلُ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ وَلَا تُنْكَحُ لَهُمْ امْرَأَةٌ
وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ لَجَازَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَمَّا ثَبَتَ أَخْذُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ
وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِهَا مِنْ سَائِرِ الْكُفَّارِ أَهْلَ كِتَابٍ كَانُوا أَوْ غَيْرَ أَهْلِ كِتَابٍ إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حيث وجدتموهم وَهَذَا فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ سِوَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ
حَدِيثُ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ إذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
285
رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ
وَذَلِكَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَخَصَّصْنَا مِنْهُمْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِالْآيَةِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ.
بَابُ حُكْمِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا باليوم الآخر- إلى قوله- من الذين أوتوا الكتاب وَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ يَنْتَحِلُونَ نِحْلَتَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُتَمَسِّكِينَ بِجَمِيعِ شَرَائِعِهِمْ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَوَلَّى قَوْمًا مِنْهُمْ فهو فِي حُكْمِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ إنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وَذَلِكَ حِينَ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَّا بِشُرْبِ الخمر
قال ابن عباس ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَمَا تَقُولُ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ إنَّ لِي دِينًا فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أبا أَعْلَمُ بِهِ مِنْك أَلَسْت رَكُوسِيًّا قَالَ نَعَمْ قَالَ أَلَسْت تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَك فِي دِينِك
فَنَسَبَهُ إلَى صِنْفٍ مِنْ النَّصَارَى مَعَ إخْبَارِهِ بأنه غير متمسك به فأخذه المرباع وهو ربع الغنيمة غَيْرُ مُبَاحَةٍ فِي دِينِ النَّصَارَى فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ انْتِحَالَ بَنِي تَغْلِبَ لِدِينِ النَّصَارَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَإِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَجَبَ أخذ الجزية منهم والجزاء والجزية وَاحِدٌ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْآيَةِ لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا وَمَهْمَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ اسْمَ الْجِزْيَةِ يَتَنَاوَلُهُ وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ عَلَى مَا يأخذ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ العتق قد أضربه ولم ينفعه شيئا ولا تحفظ عَنْ مَالِكٍ فِي بَنِي تَغْلِبَ شَيْئًا وَرَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ السَّفَّاحِ عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ بَنِي تَغْلِبَ قَدْ عَلِمْت شَوْكَتَهُمْ وَأَنَّهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَإِنْ ظَاهَرُوا عَلَيْك الْعَدُوَّ اشْتَدَّتْ مُؤْنَتُهُمْ فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُعْطِيَهُمْ شَيْئًا فافعل فصالحهم على أن لا يقسموا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَتُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ قَالَ وَكَانَ عُمَارَةُ يَقُولُ قَدْ فَعَلُوا فَلَا عَهْدَ لهم وهذا
286
خبر مستفيض عند أهل الكوفة وقد وَرَدَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ وَالنَّقْلُ الشَّائِعُ عَمَلًا وَهُوَ مِثْلُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ وَوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِينَ وَنَحْوِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي نَفَاذِهَا وَجَوَازِهَا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لَئِنْ بَقِيَتْ لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ لَأَقْتُلَنَّ الْمُقَاتِلَةَ وَلَأَسْبِيَنَّ الذُّرِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنِّي كَتَبْت الْكِتَابَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أولادهم
ولم يخالف عمر فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَانْعَقَدَ بِهِ إجْمَاعُهُمْ وَثَبَتَ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويعتقد عليهم أو لهم
ومعناه والله يعلم جَوَازُ عُقُودِ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ عَلَى الْأُمَّةِ فَإِنْ قِيلَ أَمَرَ اللَّهُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَنَا الِاقْتِصَارُ بِهِمْ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَإِعْفَاؤُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ قِيلَ لَهُ الْجِزْيَةُ لَيْسَ لَهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهَا وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ وَعُقُوبَةٌ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَزَاءُ لَا يَخْتَصُّ بِمِقْدَارٍ دُونَ غَيْرِهِ وَلَا بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ هُوَ عِنْدَنَا جزية ليست بصدقة وتوضع موضع الْفَيْءِ لِأَنَّهُ لَا صَدَقَةَ لَهُمْ إذْ كَانَ سَبِيلُ الصَّدَقَةِ وُقُوعَهَا عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَلَا قُرْبَةَ لَهُمْ وَقَدْ قَالَ بَنُو تَغْلِبَ نُؤَدِّي الصدقة ومضاعفة وَلَا نَقْبَلُ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ فَقَالَ عُمَرُ هُوَ عِنْدَنَا جِزْيَةٌ وَسَمُّوهَا أَنْتُمْ مَا شِئْتُمْ فَأَخْبَرَ عُمَرُ أَنَّهَا جِزْيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا مَأْخُوذًا مِنْ مَوَاشِيهِمْ وَزَرْعِهِمْ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَتْ جِزْيَةً لَمَا أُخِذَتْ مِنْ نِسَائِهِمْ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ كَمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بَعْضَ أُمَرَائِهِ عَلَى بَعْضِ بُلْدَانِ الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
وَقَالَ أصحابنا تؤخذ من موالي بنى تغلب إذا كَانُوا كُفَّارًا الْجِزْيَةُ وَلَا تُضَاعَفُ عَلَيْهِمْ الْحُقُوقُ في أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّ عُمَرَ إنَّمَا صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمَوَالِيَ فَمَوَالِيهِمْ بَاقُونَ عَلَى حُكْمِ سَائِرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَخْذِ جِزْيَةِ الرُّءُوسِ مِنْهُمْ عَلَى الطَّبَقَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونُوا فِي حُكْمِ مَوَالِيهِمْ كما أن المسلم إذا أعتق عبدا نصرنيا لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ مَوْلَاهُ فِي بَابِ سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
قِيلَ لَهُ مُرَادُهُ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الِانْتِسَابِ إلَيْهِمْ نَحْوُ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ يُسَمَّى هَاشِمِيًّا وَمَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ يُسَمَّى تَمِيمِيًّا وفي النصرة والعقل كما يعقل عنه ذوى الْأَنْسَابِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ
287
حُكْمُهُمْ فِي إيجَابِ الْجِزْيَةِ وَسُقُوطِهَا وَأَمَّا شَرْطُ عُمَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَغْمِسُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهُ
قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَصْبُغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ إذَا أَرَادُوا الْإِسْلَامَ
فَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَوْلَادَهُمْ الْإِسْلَامَ إذَا أَرَادُوهُ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مَكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَكْرَمٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَطِيَّةَ الْكُوفِيُّ قَالَ سَمِعْت أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ كُنَّا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إذْ أَقْبَلَ الرَّشِيدُ فَقَامَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مُعْتَلَّ الْقَلْبِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَامَ وَدَخَلَ وَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ أَصْحَابِ الْخَلِيفَةِ فَأَمْهَلَ الرَّشِيدُ يَسِيرًا ثُمَّ خَرَجَ الْإِذْنُ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَجَزِعَ أَصْحَابُهُ لَهُ فَأُدْخِلَ فَأُمْهِلَ ثُمَّ خَرَجَ طَيِّبَ النَّفْسِ مَسْرُورًا قَالَ قال لي مالك لَمْ تَقُمْ مَعَ النَّاسِ قَالَ كَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ عَنْ الطَّبَقَةِ الَّتِي جَعَلْتنِي فِيهَا إنَّك أَهَّلَتْنِي لِلْعِلْمِ فَكَرِهْت أَنْ أَخْرُجَ إلَى طَبَقَةِ الْخِدْمَةِ الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ مِنْهُ وَإِنَّ ابْنَ عَمِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمِيلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَإِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءَ فَمَنْ قَامَ بِحَقِّ الْخِدْمَةِ وَإِعْزَازِ الْمَلِكِ فهو هبة لِلْعَدُوِّ وَمَنْ قَعَدَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الَّتِي عَنْكُمْ أُخِذَتْ فَهُوَ زَيْنٌ لَكُمْ قَالَ صَدَقْت يَا مُحَمَّدُ
ثُمَّ شَاوَرَنِي فَقَالَ إنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرُوا أَوْلَادَهُمْ وَقَدْ نَصَرُوا أَبْنَاءَهُمْ وَحَلَّتْ بِذَلِكَ دماءهم فَمَا تَرَى قَالَ قُلْت إنَّ عُمَرَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَدْ نَصَرُوا أَوْلَادَهُمْ بَعْدَ عُمَرَ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ وَابْنُ عَمِّك وَكَانَ مِنْ الْعِلْمِ بما لا خفا به عليك وجرت بذلك السنن فهم أصلح مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَا شَيْءَ يَلْحَقُك فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَشَفْت لَك الْعِلْمَ وَرَأْيُك أَعْلَى قَالَ لَا وَلَكِنَّا نُجْرِيهِ عَلَى مَا أَجْرَوْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّه جَلَّ اسْمُهُ أمر نبيه بالمشهور تمام المائة الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ فَكَانَ يُشَاوِرُ فِي أَمْرِهِ فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالدُّعَاءِ لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَك وَمُرْ أَصْحَابَك بِذَلِكَ وَقَدْ أَمَرْت لَك بِشَيْءٍ تُفَرِّقُهُ عَلَى أَصْحَابِك قَالَ فَخَرَجَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَفَرَّقَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي إقْرَارِ الْخُلَفَاءِ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ صَبْغِهِمْ أَوْلَادِهِمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ حُجَّةٌ فِي تَرْكِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ وأنهم بمنزلة سائر النصارى فلا تخلوا مُصَالَحَةُ عُمَرَ إيَّاهُمْ أَنْ لَا يَصْبِغُوا أَوْلَادَهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يكون مراده وأن لَا يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ إذَا أَرَادُوا الْإِسْلَامَ وأن يُنْشِئُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ صِغَرِهِمْ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ التَّابِعِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَكْرَهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَيَصِيرُوا بِهِ نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ وَخَالِعِينَ لِلذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
288
الْوَجْهَ الثَّانِي فَإِنَّ عَلِيًّا وَعُثْمَانَ لَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقْتُلُوهُمْ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْعَبْدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فَتَرْكٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُعْتَقُوا وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَكَانَ الْعِتْقُ قد أضربه وَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْئَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الرِّقِّ إنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ مَالَهُ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى الْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ وَالْجِزْيَةُ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْكُفَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى إقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ وَمَلَكَ الْمَالَ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ وَأَخَذْنَا الْجِزْيَةَ مِنْهُ لَمْ يَسْلُبْهُ مَنَافِعَ الْعِتْقِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَأَمْرِهِ عَنْهُ وَتَمْلِيكِهِ سَائِرَ أَمْوَالِهِ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ مَالِهِ قَدْ حَقَنَ بِهَا دَمَهُ فَمَنْفَعَةُ الْعِتْقِ حَاصِلَةٌ لَهُ.
بَابُ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورسوله- إلَى قَوْلِهِ- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغرون فَكَانَ مَعْقُولًا مِنْ فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَاتِلًا لِصَاحِبِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَمَنْ يُمْكِنْهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فَقَالُوا مَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ زَمِنًا أَوْ مَفْلُوجًا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا فَانِيًا وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ إذَا كَانُوا مُوسِرِينَ وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ قُلْت أَرَأَيْت أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَغَيْرِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ حِرْفَةٌ وَلَا مَالٌ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ قَالَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا يُوضَعُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُعْتَمِلِ مِنْهُمْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّصْرَانِيِّ يَكْتَسِبُ وَلَا يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ عَنْ عِيَالِهِ إنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِخَرَاجِ رَأْسِهِ وَقَالُوا فِي أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ وَالسَّيَّاحِينَ إذَا كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ فَعَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ إذْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ
289
الْقِتَالِ وَرَوَى أَيُّوبُ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ وَلَا يَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلَا يَقْتُلُوا إلَّا مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَكَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي
وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُعَاذٍ بْنِ جَبَلٍ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حالم دينارا أو عدله من المعافر
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَلَمْ تَكُنْ فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مِقْدَارٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ مَالِكٌ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ سَوَاءٌ لَا يُزَادُ وَلَا يُنْقَصُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ دِينَارٌ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَوَضَعَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْخَرَاجَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى مَا وَرَاءِ دِجْلَةَ وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى مَا دُونَ دِجْلَةَ فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَهُمَا كَيْفَ وَضَعْتُمَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَالَا وَضَعْنَا عَلَى كُلِّ رِجْلٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَالَ وَمَنْ يُطِيقُ هَذَا قَالَا إنَّ لَهُمْ فضولا فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعون دِرْهَمًا وَلَمْ يُفَصِّلْ الطَّبَقَاتِ وَذَكَرَ حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ تَفْصِيلَ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَكْثَرُ مَا وَضَعَ مِنْ الْجِزْيَةِ وَهُوَ مَا عَلَى الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا دُونَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مَعَ أَرْزَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا نحو رواية عمر بْنِ مَيْمُونٍ لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةَ أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعون دِرْهَمًا فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ تَفْصِيلُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَبَيَانِ حُكْمِ كُلِّ طَبَقَةٍ وَلِأَنَّ مَنْ وَضَعَهَا عَلَى الطَّبَقَاتِ فَهُوَ قَائِلٌ بِخَبَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ وَالْأَرْبَعِينَ فَهُوَ تَارِكٌ لِلْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمِقْدَارٍ مِنْهَا وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ
290
بدينار على الغنى والفقير بما
روى مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
وَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ جِزْيَةُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما
روى في بعض أخبار معاد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دينارا
ولا خلاف أن المرأة لا تأخذ مِنْهَا الْجِزْيَةُ إلَّا أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدُ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى مُعَاذٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إنَّ فِي الْحَالِمِ وَالْحَالِمَةِ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدُ وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ دِينَارٌ أَوْ قِيمَتُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرَضِينَ جُعِلَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا فِي الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا فَجَعَلَ عَلَى بَعْضِهَا قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَعَلَى بَعْضِهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى بَعْضِهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ خَرَاجِ الرُّءُوسِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ لِحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا أَهْلَ الْأَرْضِ مَا لَا يُطِيقُونَ فَقَالَا بَلْ تَرَكْنَا لَهُمْ فَضْلًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمِقْدَارِ الطَّاقَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ اعْتِبَارَ حَالَيْ الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ وَذَكَرَ يحيى ابن آدَمَ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى مِقْدَارِ الِاحْتِمَالِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الجزية على وظيفة عمر ويجوز النقصان عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ يَقُولُ لعثمان بن حنيف والله لئن وضعت على كُلِّ جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ قَفِيزًا وَدِرْهَمًا وَعَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمَيْنِ لَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجْهِدُهُمْ قَالَ وَكَانَتْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ فَجَعَلَهَا خَمْسِينَ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الزِّيَادَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَمْ تَثْبُتْ بِهِ رِوَايَةٌ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى أَبُو الْيَمَانِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلٍّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ ذَاهِبٌ مِنْ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عليهم على مَا رَأَى مِنْ احْتِمَالِهِمْ لَهُ كَمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ سَأَلْت مُجَاهِدًا لِمَ وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ مِنْ الْجِزْيَةِ أَكْثَرَ مِمَّا وَضَعَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لِلْيَسَارِ.
291
فِي تَمْيِيزِ الطَّبَقَاتِ
قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الطَّبَقَاتِ عَلَى مَا وَصَفْت ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ عَلَى الْمُوسِرِ مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الصَّنْعَةِ وَالتَّاجِرِ وَالْمُعَالِجِ وَالطَّبِيبِ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْهُمْ صَنْعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَلَى الْمُوسِرِ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ من احتملت صناعته ثمانية وأربعون أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَاثْنَا عَشَرَ عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْجَزَّارِ وَالْإِسْكَافِ وَمَنْ أشبههم فلم يعتبر الملك واعتبر الصنعات وَالتِّجَارَاتِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ فِي الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ مِنْهُمْ وَذَكَرَ عَلِيٌّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَزَى ذَلِكَ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الطَّبَقَةَ الْأُولَى مَنْ يَحْتَرِفُ وَلَيْسَ لَهُ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَرِفُونَ فَمَنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَالَ وَالطَّبَقَةُ الثانية أن يبلغ مال الرجل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا زَادَ إلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَنِيٌّ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ طِبْقَةِ الْفُقَرَاءِ قَالَ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا اعْتِبَارَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ كَثِيرٌ قَالَ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ لِمَا
رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرَيْزٍ عَنْ أَبِي الضَّيْفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ صَفَائِحُ يُعَذَّبُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ هُوَ اجْتِهَادٌ يَسُوغُ الْقَوْلُ بِهِ لِمَنْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ صَوَابُهُ وقَوْله تعالى عن يد قَالَ قَتَادَةُ عَنْ قَهْرٍ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي الْيَدِ إلَى الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاسْتِعْلَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى اسْتِعْلَاءٍ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ وَقَهْرِهِمْ وَقِيلَ عَنْ يد يَعْنِي عَنْ يَدِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَدَ ليفارق حال الغضب لِأَنَّهُ يُعْطِيهَا بِيَدِهِ رَاضِيًا بِهَا حَاقِنًا بِهَا دَمَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يُعْطِيَهَا وَهُوَ رَاضٍ بها ويحتمل عن يد عَنْ نِعْمَةٍ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عن اعتراف منهم بالنعمة فيها بقبولها منهم وقال بعضهم عن يد يَعْنِي عَنْ نَقْدٍ مِنْ قَوْلِهِمْ يَدًا بِيَدٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى كُلُّ من أطاع لقاهر بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ وَقَهْرٍ لَهُ مِنْ يَدٍ فِي يَدِهِ فَقَدْ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ قَالَ وَالصَّاغِرُ الذَّلِيلُ الْحَقِيرُ وَقَوْلُهُ وَهُمْ صاغرون قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْشُونَ
292
بِهَا مُلَبِّبِينَ وَقَالَ سَلْمَانُ مَذْمُومِينَ غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَقِيلَ إنَّمَا كَانَ صَغَارًا لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِمْ يُؤْخَذُونَ بِهَا وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا وَقَالَ عِكْرِمَةُ الصغار إعطاء الجزية قائما والآخذ جالس وَقِيلَ الصَّغَارُ الذُّلُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الذِّلَّةُ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بحبل من الله وحبل من الناس وَالْحَبْلُ الذِّمَّةُ الَّتِي عَهِدَهَا اللَّهُ لَهُمْ وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا فِيهِمْ وَرَوَى عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُتْعِبَ الْأَنْبَاطَ فِي الْجِزْيَةِ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَعْذِيبَهُمْ وَلَا تَكْلِيفَهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ الاستخفاف بهم وإذ لا لهم
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَقِيتُمْ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بالسلام واضطروهم إلى أضيقه
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُطَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ الصَّفَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ابن عَيَّاشٍ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَافِحُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الصَّغَارِ الَّذِي أَلْبَسَ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِكُفْرِهِمْ وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الْآيَةَ وَقَالَ لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ منهم فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذ لا لهم وَنَهَى عَنْ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِزِّ وَعُلُوِّ الْيَدِ وَكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى يَنْهَاهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي كِتَابَتِهِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يألونكم خبالا وَقَالَ لَا تَرُدُّوهُمْ إلَى الْعِزِّ بَعْدَ إذْلَالِهِمْ اللَّهِ وقَوْله تَعَالَى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَدْ اقْتَضَى وُجُوبَ قَتْلِهِمْ إلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِمَّةٌ إذَا تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْوِلَايَاتِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ وَالنَّهْي إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا جَعَلَ لَهُمْ الذِّمَّةَ وَحَقَنَ دِمَاءَهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَكَوْنِهِمْ صَاغِرِينَ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا قَتْلُ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْغُصُوبِ وَأَخْذِ الضَّرَائِبِ وَالظُّلْمِ سَوَاءٌ كَانَ السُّلْطَانُ وَلَّاهُ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ أَعْمَالَ السُّلْطَانِ وَظَهَرَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ وَاسْتِعْلَاءٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذُ الضَّرَائِبِ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَأَنَّ دِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ وَإِنْ كَانَ آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود على المراصيد لأخذ أموال
293
النَّاسِ يُوجِبُ إبَاحَةَ دِمَائِهِمْ إذْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ قَصَدَ إنْسَانًا لِأَخْذِ مَالِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لَهُ قَتْلَهُ وَكَذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ طَلَبَ مَالَهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ
وَفِي خَبَرٍ آخَرَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ
فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمُ مَنْ طَلَبَ أَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ غَصْبًا وَهُوَ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ فَالذِّمِّيُّ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنْ وُجُوبِ قَتْلِهِ وَالْآخَرُ قَصْدُهُ الْمُسْلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ ظلما.
بَابُ وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يؤمنون بالله- إلَى قَوْلِهِ- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغرون فَأَوْجَبَ قِتَالَهُمْ وَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِهِ عَنْهُمْ لِأَنَّ حَتَّى غَايَةٌ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ ولا تقربوهن حتى يطهرن قَدْ حَظَرَ إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ زَيْدًا شَيْئًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ مَنَعَ الْإِعْطَاءَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الْجِزْيَةُ حَتَّى تَدْخُلَ السَّنَةُ وَيَمْضِيَ شَهْرَانِ مِنْهَا بَعْضُ مَا عَلَيْهِ بِشَهْرَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ يُعَامَلُ فِي الْجِزْيَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ كُلَّمَا كَانَ يَمْضِي شَهْرَانِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ أُخِذَتْ مِنْهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي بِالضَّرِيبَةِ الْأُجْرَةَ فِي الْإِجَارَاتِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حِينَ تَدْخُلُ السَّنَةُ وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى تَتِمَّ السَّنَةُ وَلَكِنْ يُعَامَلُ ذَلِكَ على سَنَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذِكْرُهُ لِلشَّهْرَيْنِ إنَّمَا هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياها عَلَى الذِّمَّةِ لِمَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الذِّمِّيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُ خراج رأسه في سنته مادام فِيهَا فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَة عَلَى أَنَّهُ رَآهَا وَاجِبَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ وَأَنَّ تأخيرها بَعْضَ السَّنَةِ إنَّمَا هُوَ تَوْفِيَةٌ لِلْوَاجِبِ وَتَوْسِعَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ لم يؤخذ مِنْهُ لِأَنَّ دُخُولَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ جِزْيَةً أُخْرَى فَإِذَا اجْتَمَعَتَا سَقَطَتْ إحْدَاهُمَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اجْتِمَاعُهُمَا لَا يُسْقِطُ إحْدَاهُمَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ مَعَ
294
كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ فَأَشْبَهَتْ الْحُدُودَ إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَحَقُّ الْأَخْذِ إلَى الْإِمَامِ فَلَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ الْحُدُودِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ أَنْ يَزْنِيَ مِرَارًا أَوْ يَسْرِقَ مِرَارًا ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَجِبُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ كَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ إذْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ هِيَ أَخَفُّ أَمْرًا وَأَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ إسْلَامَهُ يُسْقِطُهَا وَلَا تَسْقُطُ الْحُدُودُ بِالْإِسْلَامِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا وَحَقًّا فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسْقِطْهُ اجْتِمَاعُهُ كَالدُّيُونِ وَخَرَاجِ الْأَرَضِينَ قِيلَ لَهُ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ بِصَغَارٍ وَلَا عُقُوبَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْجِزْيَةُ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مُسْلِمٍ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ طَاوُسٍ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ إذَا تَدَارَكَتْ صَدَقَاتٌ فَلَا تُؤْخَذُ الْأُولَى كَالْجِزْيَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ هَلْ يُؤْخَذُ بِهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُؤْخَذُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ إذَا أَسْلَمَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ مِنْ الْجِزْيَةِ قَوْله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله- إلَى قَوْلِهِ- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغرون فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةِ الدَّلَالَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى عن يد وهم صاغرون فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إذْ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَخْذُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَمَتَى أَخَذْنَاهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةٌ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ هِيَ مَا أُخِذَ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ
فَنَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْذَهَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَجِبْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ ذَلِكَ إسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ وَيَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ وَالْجَزَاءَ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ جَزَاءُ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ مِمَّنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَمَتَى أَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ الْمُجَازَاةُ عَلَى الْكُفْرِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عِقَابُ التَّائِبِ فِي حَالِ الْمُهْلَةِ وَبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَسْقَطَهَا أَصْحَابُنَا بِالْمَوْتِ لِفَوَاتِ أَخْذِهَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ جِزْيَةٌ وَعَلَى هَذَا قَالُوا فيمن وجبت
295
عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَمَوَاشِيهِ فَمَاتَ إنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ مِنْهُ لِأَنَّ سَبِيلَ أَخْذِهَا وَمَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ سَبِيلُ الْعِبَادَاتِ يُسْقِطُهَا الْمَوْتُ وَقَالُوا فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِفَرْضِ الْقَاضِي فَمَاتَ أَوْ مَاتَتْ إنَّهَا تَسْقُطُ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ الصِّلَةِ إذْ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ وَمَعْنَى الصِّلَةِ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَسْقَطُوهَا لِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَإِنْ قِيلَ الْحُدُودُ وَاجِبَةٌ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّوْبَةُ لَا تُسْقِطُهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ وَقَدْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ مُسْقِطَيْنِ لِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَى فِعْلٍ قَدْ صَحَّتْ مِنْهُ تَوْبَتُهُ قِيلَ لَهُ أَمَّا الْحَدُّ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ سَقَطَ بالتوبة وما توجبه بَعْدَهَا لَيْسَ هُوَ الْحَدُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى وَجْهِ العقوبة بل هو حج وَاجِبٌ عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ بِدَلَالَةٍ قَامَتْ لَنَا عَلَى وُجُوبِهِ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَإِنْ قَامَتْ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا على وجه الجزية والعقوبة لما نَأْبَ إيجَابَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ جِزْيَةٌ لِأَنَّ اسْمَ الْجِزْيَةِ يَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا عُقُوبَةً وَأَنْتَ فَإِنَّمَا تَزْعُمُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنْ اعْتَرَفْت بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ غَيْرُ جِزْيَةٍ وَأَنَّ الْجِزْيَةَ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةٌ قَدْ سَقَطَتْ وَإِنَّمَا يَجِبُ مَالٌ آخَرُ غَيْرَ الْجِزْيَةِ فَإِنَّمَا أَنْتَ رِجْلٌ سُمْتنَا إيجَابَ مَالٍ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي إيجَابَهُ وَهَذَا لا نسلم لك به إلَّا بِدَلَالَةٍ وَقَدْ رَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فَقَامَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ أَمَّا أَنْتَ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْك وَأَمَّا أَرْضُك فَلَنَا وَفِي لَفْظٍ آخَرَ إنْ تَحَوَّلْت عَنْهَا فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهَا وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أَسْلَمَ رَجُلٌ فأخذ بالخراج وقيل له إنك متعود بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ لَمُعَاذًا إنْ فَعَلْت فَقَالَ عُمَرُ أَجَلْ وَاَللَّهِ إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مُعَاذًا إنْ فَعَلَ فَرَفَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ وروى حماد ابن سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ شَهِدَ شَهَادَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَاخْتَتَنَ فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ فَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الْوَاجِبَةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ حَالِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي نَفْيهَا عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ كَانَ آلُ مَرْوَانَ يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَذْهَبُونَ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ إسْلَامُ الْعَبْدِ ضَرِيبَتَهُ وَهَذَا خَلَلٌ فِي جَنْبٍ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَقْضُ الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إلَى أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَكَتَبَ إلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الله
296
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَعَادَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَهَا اسْتَجَازَ الْقُرَّاءُ وَالْفُقَهَاءُ قِتَالَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالْحَجَّاجِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ صَارَ ذَلِكَ أَيْضًا أَحَدَ أَسْبَابِ زَوَالِ دَوْلَتِهِمْ وَسَلْبِ نِعْمَتِهِمْ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ أَعْظَمُ مَا أَتَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا ثَلَاثُ خِصَالٍ قَتْلُهُمْ عُثْمَانَ وَإِحْرَاقُهُمْ الْكَعْبَةَ وَأَخْذُهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْجِزْيَةَ بِمَنْزِلَةِ ضَرِيبَةِ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِبِدْعٍ هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ إذْ قَدْ جَهِلُوا مِنْ أُمُورِ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَيْسُوا عَبِيدًا وَلَوْ كَانُوا عَبِيدًا لَمَا زَالَ عَنْهُمْ الرِّقُّ بِإِسْلَامِهِمْ لِأَنَّ إسْلَامَ الْعَبْدِ لَا يُزِيلُ رِقَّهُ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ عُوقِبُوا بِهَا لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَمَتَى أَسْلَمُوا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَاقَبُوا بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ النَّصْرَانِيَّ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فَلَوْ كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَبِيدًا لَمَا أُخِذَ مِنْهُمْ الجزية
. فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ جِزْيَةٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِينَ هَلْ هُوَ صَغَارٌ وَهَلْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَمْلِكَ أَرْضَ الْخَرَاجِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ كَرَاهَتُهُ ورواه دَاخِلًا فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَشَرِيكٍ وَقَالَ آخَرُونَ الْجِزْيَةُ إنَّمَا هِيَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَرْضَ خَرَاجٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَغَارٍ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْهُ وَهُوَ مَا
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ رجل من طيئ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا فِي الدُّنْيَا
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وبراذان مَا بِرَاذَانَ وَبِالْمَدِينَةِ مَا بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً بِرَاذَانَ وَضَيْعَةً بِالْمَدِينَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ راذان من الأرض الْخَرَاجِ فَلَمْ يَكْرَهْ عَبْدُ اللَّهِ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةِ نَهْرِ الْمَلِكِ حِينَ أَسْلَمَتْ إنْ أَقَامَتْ عَلَى أَرْضِهَا أَخَذْنَا مِنْهَا الْخَرَاجَ وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرُّفَيْلِ أَسْلَمَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
وَعَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ فَقَالَ إنْ أَقَمْت عَلَى أَرْضِك أَخَذْنَا مِنْك الْخَرَاجَ وَإِلَّا فَنَحْنُ أَوْلَى بِهَا
وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ مِثْلُ ذَلِكَ
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنَعَتْ
297
العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها وَدِينَارَهَا وَمَنَعَتْ مِصْرُ إرْدَبَّهَا وَعُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هريرة رضى الله تعالى عنه وَدَمُهُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَيْسَ بِصَغَارٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ لَهُمْ مِلْكَ أَرْضِ الْخَرَاجِ الَّتِي عَلَيْهَا قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهَا لَذَكَرَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَنْعِهِمْ لِحَقِّ اللَّهِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عُدْتُمْ كَمَا بَدَأْتُمْ يَعْنِي فِي مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لَا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالذِّلَّةِ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْإِسْلَامَ يسقط جزية الرءوس ولا يسقط عن الْأَرْضِ فَلَوْ كَانَ صَغَارًا لَأَسْقَطَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنْ قيل لما كان خراج الأرضين فيا وَكَذَلِكَ جِزْيَةُ الرُّءُوسِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَغَارٌ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْفَيْءِ مَا يُصْرَفُ إلَى الْغَانِمِينَ وَمِنْهُ مَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَهُوَ الْخُمُسُ وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُصْرَفُ فِيهِ وَلَيْسَ يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صَغَارًا لِأَنَّ الصَّغَارَ فِي الْفَيْءِ هُوَ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا قَدْ وَجَبَ فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ فَإِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَهُ لَا يُزِيلُهُ إذْ كَانَ وُجُوبُهُ فيها متقدم لِمِلْكِهِ وَهُوَ حَقٌّ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ تَكُنْ الجزية صغارا من حيث كانت فيا وإنما كَانَتْ عُقُوبَةً وَلَيْسَ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَرْضَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ يَجِبُ فِيهِمَا الْخَرَاجُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا الْجِزْيَةُ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ وَخَرَاجُ الْأَرَضِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
(فَصْلٌ) إنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ كَيْفَ جَازَ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْإِسْلَامِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ رِضًا بِكُفْرِهِمْ وَلَا إبَاحَةً لِبَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ عُقُوبَةٌ لَهُمْ لِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَبْقِيَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَهِيَ لَوْ تَرَكْنَاهُمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ إذْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ إيجَابُ قَتْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُبْقِيَ اللَّهُ كَافِرًا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِذَا بَقَّاهُمْ لِعُقُوبَةٍ يُعَاقِبُهُمْ بِهَا مَعَ التَّبْقِيَةِ اسْتِدْعَاءً لَهُمْ إلَى التَّوْبَةِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاسْتِمَالَةً لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا إمْهَالُهُ إيَّاهُمْ إذْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ مِنْ نَسْلِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصْلَحَةِ مَعَ مَا للمسلمين فيها من المرفق وَالْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ إذًا فِي إقْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مَا يُوجِبُ الرِّضَا بِكُفْرِهِمْ وَلَا الْإِبَاحَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ وَشِرْكِهِمْ فَكَذَلِكَ إمْهَالُهُمْ بِالْجِزْيَةِ جَائِزٌ فِي الْعَقْلِ إذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعْجِيلِ بَعْضِ عِقَابِهِمْ الْمُسْتَحَقِّ بِكُفْرِهِمْ وَهُوَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ
298
الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِأَدَائِهَا
قَوْله تَعَالَى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ فِرْقَةً مِنْ الْيَهُودِ قَالَتْ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَمِعَتْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تُنْكِرْهُ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ الْخَوَارِجُ تَرَى الِاسْتِعْرَاضَ وَقَتْلَ الْأَطْفَالَ وَالْمُرَادُ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ وَكَقَوْلِك جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَلِكَ وَهُمْ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْآنَ فِيمَا نَعْلَمُ وَإِنَّمَا كَانَتْ فِرْقَةٌ منهم قالت ذلك فانقرضت قوله تعالى يضاهؤن قول الذين كفروا من قبل يَعْنِي يُشَابِهُونَهُمْ وَمِنْهُ امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ لِلَّتِي لَا تَحِيضُ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الرِّجَالَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَسَاوَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سبحانه وتعالى لأن هؤلاء جعلوا المسيح وعزيزا اللَّذَيْنِ هُمَا خَلْقَانِ لِلَّهِ وَلَدَيْنِ لَهُ وَشَرِيكَيْنِ كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَصْنَامَ الْمَخْلُوقَةَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قبل يَعْنِي بِهِ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وَقِيلَ إنَّهُمْ يُضَاهِئُونَهُمْ لِأَنَّ أُولَئِكَ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالَ هؤلاء عزيز وَمَسِيحٌ ابْنَا اللَّهِ وَقِيلَ يُضَاهِئُونَهُمْ فِي تَقْلِيدِ أسلافهم وقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى صَحِيحٍ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا مَحْصُولَ أَكْثَرَ مِنْ وجوده في أفواههم وقوله قاتلهم الله قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ كَقَوْلِهِمْ عَافَاهُ اللَّهُ أَيْ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْ السُّوءِ وَقِيلَ إنَّهُ جُعِلَ كَالْقَاتِلِ لِغَيْرِهِ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَوْله تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دون الله والمسيح ابن مريم قِيلَ إنَّ الْحَبْرَ الْعَالِمُ الَّذِي صِنَاعَتُهُ تَحْبِيرُ الْمَعَانِي بِحُسْنِ الْبَيَانِ عَنْهَا يُقَالُ فِيهِ حَبْرٌ وَحَبِيرٌ وَالرَّاهِبُ الْخَاشِي الَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْخَشْيَةِ يُقَالُ رَاهِبٌ وَرُهْبَانٌ وَقَدْ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي مُتَنَسِّكِي النَّصَارَى وَقَوْلُهُ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ
وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حاتم لما أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قَالَ فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ قَالَ أَلَيْسَ كَانُوا إذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ وَإِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا أَحَلُّوهُ قَالَ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ إيَّاهُمْ
وَلَمَّا كَانَ التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ
بالمصالح ثم قلدوا أحبارهم هَؤُلَاءِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَقَبِلُوهُ مِنْهُمْ وَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَرَّمَ وَحَلَّلَ صَارُوا مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا إذْ نَزَّلُوهُمْ فِي قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ الْأَرْبَابِ وَقِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ عَظَّمُوهُمْ كَتَعْظِيمِ الرَّبِّ لِأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ لَهُمْ إذَا رَأَوْهُمْ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ فَهُمْ كَانُوا مُتَّخِذِينَ لَهُمْ أَرْبَابًا
قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ليظهره على الدين كله فِيهِ بِشَارَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَإِظْهَارِ دِينِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَهُوَ إعْلَاؤُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْغَلَبَةِ وَقَهْرِ أُمَّتِهِ لِسَائِرِ الْأُمَمِ وَقَدْ وَجَدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ بِظُهُورِ أُمَّتِهِ وَعُلُوِّهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ عِنْدِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَتَّفِقُ لِلْمُتَخَرِّصِينَ وَالْكَذَّابِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ الْغُيُوبِ إذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ إذًا كَلَامُهُ وَخَبَرُهُ وَلَا يُنْزِلُ اللَّهُ كَلَامَهُ إلَّا عَلَى رَسُولِهِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ هُوَ تَمَلُّكُهُ مِنْ الْجِهَةِ الْمَحْظُورَةِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرشى في الحكم وذكر الأكل والمراد وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَالتَّصَرُّفِ إذْ كَانَ أَعْظَمُ مَنَافِعِهِ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لا تَأْكُلُوا أموالكم بينكم بالباطل وَالْمُرَادُ سَائِرُ وُجُوهِ الْمَنَافِعِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تأكلوا أموالهم- وإن الذين يأكلون أموال اليتامى قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله الْآيَةَ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إيجَابُ إنْفَاقِ جَمِيعِ الْمَالِ لأن الوعيد لا حق بتارك إنفاق الجميع لقوله ولا ينفقونها وَلَمْ يَقُلْ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجَمِيعَ لَقَالَ وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ رَجَعَ إلَى مَدْلُولٍ عليه كأنه قال ولا ينفقون الكنوز والآخر أن يُكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِلْإِيجَازِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وَالْمَعْنَى رَاضُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَبَقِيَ أَحَدُهُمَا عَارِيًّا مِنْ خَبَرِهِ فَيَكُونُ كَلَامَا مُنْقَطِعًا لَا مَعْنَى لَهُ إذْ كَانَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذهب والفضة مُفْتَقِرًا إلَى خَبَرٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى
300
ظَاهِرِ الْآيَةِ أَخْبَارٌ
رَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحِدْثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا مِنْ جَمْعٍ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يُعِدُّهُ لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهِيَ كَيٌّ يُكْوَى بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ قُلْت اُنْظُرْ مَا يَجِيءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ قَدْ فَشَتْ فِي النَّاسِ فَقَالَ أَمَا تقرأ القرآن والذين يكنزون الذهب والفضة
الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا لَا جَمِيعُهَا وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إخْرَاجُ جَمِيعِهِمَا وَكَذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي ذَرٍّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ادخار الذهب والفضة
وروى محمد ابن عُمَرَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمُرُّ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ أَنْ لَا أَجِدَ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنِّي صَدَقَةً إلَّا أَنْ أَرْصُدَهُ لِدَيْنٍ عَلَيَّ
فَذَكَرَ فِي هذا الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحِبَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاخْتَارَ إنْفَاقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ وَعِيدَ تَارِكِ إنْفَاقِهِ
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ مَعَهُ دِينَارٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم كية وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ أَخَذَ الدِّينَارَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ أَوْ مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ سَأَلَهُ غَيْرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَاقَةِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ
كَمَا
رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ فَقُلْنَا وَمَا غِنَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وضيق العيش ووجوب المواساة من بعضها لِبَعْضِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطهرهم
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ إيجَابُهُ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِي عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ كَمَا أَوْجَبَ فَرَائِضَ الْمَوَاشِي وَلَمْ يُوجِبْ الْكُلَّ
فَلَوْ كَانَ إخْرَاجُ الْكُلِّ وَاجِبًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمَا كَانَ لِلتَّقْدِيرِ وَجْهٌ وَأَيْضًا
فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْمٌ ذَوُو يَسَارٍ ظَاهِرٍ وَأَمْوَالٍ جَمَّةٍ مِثْلُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بإخراج الجميع
فثبت أن إخراج الجميع الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ إخْرَاجُهُ هُوَ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ تَحْدُثَ أُمُورٌ تُوجِبُ الْمُوَاسَاةَ وَالْإِعْطَاءَ نَحْوِ الْجَائِعِ الْمُضْطَرِّ وَالْعَارِي الْمُضْطَرِّ أَوْ مَيِّتٍ لَيْسَ لَهُ مَنْ يُكَفِّنُهُ أَوْ يُوَارِيهِ
وَقَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
301
المشرق والمغرب
الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا فَحَذَفَ مِنْ وَهُوَ يُرِيدُهَا وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ خذ من أموالهم صدقة فَأَمَرَ بِأَخْذِ بَعْضِ الْمَالِ لَا جَمِيعِهِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَ الْأَوَّلِ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ وَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهَا وَأَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَبْسُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ قَالَ الْهُذَلِيُّ:
لَا دَرَّ دَرِّي إنْ أَطْعَمْت نَازِلَكُمْ قَرْفَ الْحَتِيِّ وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ
وَيُقَالُ كَنَزْت التَّمْرَ إذَا كَبَسْته فِي الْقَوْصَرَةِ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَامِرٍ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَسْمَاءَ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا فَثَبَتَ أَنَّ الْكَنْزَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ الْمَفْرُوضَةُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَقْدِيرُ قَوْلِهِ والذين يكنزون الذهب والفضة الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلا ينفقونها يَعْنِي الزَّكَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَمْ تَقْتَضِ الْآيَةُ إلَّا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَحَسْبُ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا غَيْلَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآية والذين يكنزون الذهب والفضة كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ عُمَرُ أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ فَانْطَلَقَ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلَى أَصْحَابِك هَذِهِ الْآيَةُ فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ الزَّكَاةَ إلَّا لِيُطَيِّبَ مَا بَقِيَ من أموالكم وإنما فَرَضَ الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ قَالَ فَكَبَّرَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ إنْفَاقُ بَعْضِ الْمَالِ لَا جَمِيعِهِ وَأَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ يكنزون الْمُرَادُ بِهِ مَنْعُ الزَّكَاةِ
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا دَرَّاجٌ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْت الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْك
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ هُوَ الزَّكَاةُ
وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ كَنْزِهِ إلَّا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وبكنزه فيحمى به جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَنْزِ هُوَ الزَّكَاةُ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ جَمِيعُهُ وَقَوْلُهُ فَيُحْمَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى قَوْلِهِ
302
والذين يكنزون الذهب والفضة- إلَى
قَوْلِهِ- فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفسكم يَعْنِي لَمْ تُؤَدُّوا زَكَاتَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ يُمَثَّلُ لَهُ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُك أَنَا كَنْزُك
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ هُوَ الْكَنْزُ وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله مُرَادُهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ أَوْجَبَ عُمُومَهُ إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إذْ كَانَ اللَّهُ إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ فِيهِمَا بِالِاسْمِ فَاقْتَضَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِوُجُودِ الِاسْمِ دُونَ الصَّنْعَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ مَصُوغٌ أَوْ مَضْرُوبٌ أَوْ تِبْرٌ أَوْ فِضَّةٌ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ ضَمِّ الذَّهَبِ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِهِ الْحَقَّ فِيهِمَا مَجْمُوعَيْنِ فِي قوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ فَأَوْجَبَ أصحابنا فيه الزكاة وروى مثله عن عمرو ابن مَسْعُودٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْحُلِيَّ تُزَكَّى مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا تُزَكَّى بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحُلِيِّ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارٌ فِي إيجَابِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مِنْهَا
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَتَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا قَالَتْ لَا قَالَ أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ
فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي السِّوَارِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ حدثنا عتاب عن ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كُنْت أَلْبِسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ فَقَالَ مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَالْآخَرُ أَنَّ الْكَنْزَ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ طَارِقٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الله ابن شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
303
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدَيَّ فتحات مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ فَقُلْت صَنَعْتهنَّ أَتَزَّيَّنُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ قُلْت لَا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ
فَانْتَظَمَ هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَالْآخَرُ أَنَّ الْمَصُوغَ يُسَمَّى وَرِقًا لِأَنَّهَا قالت فتحات مِنْ وَرَقٍ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ
قَوْلِهِ فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ
إيجَابُ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ لِأَنَّ الرِّقَةَ وَالْوَرِقَ وَاحِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَعْيَانِهِمَا فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ لَا بِمَعْنَى يَنْضَمَّ إلَيْهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النُّقَرَ وَالسَّبَائِكَ تَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ وَفَارَقَا بِهَذَا غَيْرَهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِوُجُودِ الْمِلْكِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرْصَدَةً لِلنَّمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْمَصُوغِ وَالْمَضْرُوبِ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الْحُلِيَّ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْمَرْأَةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَا فِي الْحُلِيِّ فَإِنْ قِيلَ الْحُلِيُّ كَالنُّقُرِ الْعَوَامِلِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ قِيلَ لَهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَدَاهُمَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا بِأَنْ يَكُونَ مُرْصَدًا لِلنَّمَاءِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجِبْ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لِأَعْيَانِهِمَا بِدَلَالَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالنُّقَرُ وَالسَّبَائِكُ إذَا أَرَادَ بِهِمَا الْقُنْيَةَ وَالتَّبْقِيَةَ لَا طَلَبَ النَّمَاءِ وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلصَّنْعَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُمَا فِي حَالٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الصَّنْعَةِ وَعَدَمِهَا فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ عَارِيَّتُهُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فَبَطَلِ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ زَكَاةً وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْحُلِيِّ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة وجبت في كل حول.
(فَصْلٌ) وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمَجْمُوعِهِمَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ ضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَإِذَا كَمُلَ النِّصَابُ بِهَا زُكِّيَ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ كَالْعُرُوضِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُضَمُّ بِالْأَجْزَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ لَا يُضَمَّانِ وَرُوِيَ الضَّمُّ عَنْ الْحَسَنِ وَبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ وَقَتَادَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا مَجْمُوعِينَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا الزَّكَاةَ مَجْمُوعِينَ لِأَنَّ قوله ولا ينفقونها قد
304
أَرَادَ بِهِ إنْفَاقَهُمَا جَمِيعًا وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمِّ أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِمَا وَهُوَ رُبْعُ الْعُشْرِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا رُبْعَ الْعُشْرِ ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَرْضٌ لِلتِّجَارَةِ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ إنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَضَمَّ الْعَرْضَ إلَى الْمِائَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ وَلَيْسَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ زَكَاتَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ فَإِنْ قِيلَ زَكَاةُ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ مِثْلُ زَكَاةِ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَمْ يَكُنْ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ مُوجِبًا لِضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ قِيلَ لَهُ لَمْ نَقُلْ إنَّ اتِّفَاقَهُمَا فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ يُوجِبُ ضَمَّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ اتِّفَاقَهُمَا فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ فِيهِمَا هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلضَّمِّ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ عِنْدَ اتفاقهما فِي وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ وَقْتَ الضَّمِّ وَالْإِبِلُ وَالْغَنَمُ لَيْسَ الْوَاجِبُ فِيهِمَا رُبْعَ الْعُشْرِ لِأَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ رُبْعَ الْعُشْرِ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الإبل ولا ربع العشر من أربعين شاتا أَيْضًا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْغَنَمُ خِيَارًا وَيَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهَا شَاةً وَسَطًا فَيَكُونَ أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ عُشُرِهَا فَهَذَا إلْزَامٌ سَاقِطٌ فَإِنْ احْتَجُّوا
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
وَذَلِكَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا ذَهَبٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ قِيلَ لَهُ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ قَوْلُهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وُجُوبُ ضَمِّ الْمِائَةِ إلَى الْعُرُوضِ وَكَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَك إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعُرُوضِ كَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ فِي ضَمِّهِ إلَى الذَّهَبِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهرا- إلى قوله- حرم لَمَّا قَالَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الْحَجُّ أشهر معلومات وقال يسئلونك عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ فَعَلَّقَ بِالشُّهُورِ كَثِيرًا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَذِهِ الشُّهُورَ وَإِنَّمَا تُجْرَى عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ لَا يُقَدَّمُ الْمُؤَخَّرُ مِنْهَا وَلَا يُؤَخَّرُ الْمُقَدَّمُ وَقَالَ إِنَّ عِدَّةَ الشهور عند الله وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن الله وضم هَذِهِ الشُّهُورَ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَائِهَا عَلَى مَا رَتَّبَهَا عَلَيْهِ يَوْمَ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَهُوَ مَعْنَى قوله إن عدة الشهور عند الله وَحُكْمُهَا بَاقٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُزِلْهَا عَنْ تَرْتِيبِهَا تَغْيِيرُ الْمُشْرِكِينَ لِأَسْمَائِهَا وَتَقْدِيمُ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرُ الْمُقَدَّمِ فِي الْأَسْمَاءِ مِنْهَا وَذَكَرَ ذَلِكَ لَنَا لِنَتَّبِعَ أَمْرَ اللَّهِ فِيهَا وَنَرْفُضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَأْخِيرِ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ وَتَقْدِيمِهَا وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الَّتِي رَتَّبُوهَا عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
305
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وأبو بكر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في خطبته بالعقبة أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَهُوَ الْيَوْمَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ
الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ صَفَرَ عَامًا حَرَامًا وَعَامًا حَلَالًا وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ عَامًا حَلَالًا وَعَامًا حَرَامًا وَكَانَ النَّسِيءُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الزَّمَانَ يَعْنِي زَمَانَ الشُّهُورِ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ قَدْ عَادَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى تَرْتِيبِهِ وَنِظَامِهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَوْلَادِ بَنِي الْمُنَجِّمِ أَنَّ جَدَّهُ وَهُوَ أَحْسَبُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْمُنَجِّمُ الَّذِي يَنْتَمُونَ إلَيْهِ حَسَبَ شُهُورِ الْأَهِلَّةِ مُنْذُ ابْتِدَاءِ خَلْقِ اللَّهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَوَجَدَهَا قَدْ عَادَتْ فِي مَوْقِعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ إلَيْهِ يَوْمَ النَّحْر مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِأَنَّ خُطْبَتَهُ هَذِهِ كَانَتْ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَأَنَّهُ حَسَبَ ذَلِكَ فِي ثَمَانِي سِنِينَ فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ يَوْمَ ابْتِدَاءِ الشُّهُورِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ عَادَ الزَّمَانُ إلَيْهِ مَعَ النَّسِيءِ بِاَلَّذِي قَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُنْسِئُونَ وَتَغْيِيرُ أَسْمَاءِ الشُّهُورِ
وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ السَّنَةُ الَّتِي حَجِّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ هِيَ الْوَقْتُ الَّذِي وُضِعَ الْحَجُّ فِيهِ وَإِنَّمَا قَالَ رَجَبُ مُضَرَ بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ دُونَ رَمَضَانَ الَّذِي يُسَمِّيهِ رَبِيعَةُ رَجَبَ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخِرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهرا في كتاب الله فَهُوَ أَنَّ اللَّه قَسَمَ الزَّمَانَ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا فَجَعَلَ نُزُولَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بُرْجٍ مِنْ الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا مِنْهَا فَيَكُونُ قطعها للفلك في ثلاثمائة وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعِ يَوْمٍ فَيَجِيءُ نَصِيبُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَسْرٍ قسم الْأَزْمِنَةَ أَيْضًا عَلَى مَسِيرِ الْقَمَرِ فَصَارَ الْقَمَرُ يَقْطَعُ الْفَلَكَ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَنِصْفِ يوم وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ فَكَانَ قَطْعُ الشَّمْسِ لِلْبُرْجِ مُقَارِبًا لِقَطْعِ الْقَمَرِ لِلْفَلَكِ كُلِّهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَقَالَ تَعَالَى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فلما
306
كَانَتْ السَّنَةُ مَقْسُومَةً عَلَى نُزُولِ الشَّمْسِ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَكَانَ شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَاخْتَلَفَتْ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْبُرُوجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَكَانَتْ شُهُورُهَا اثْنَيْ عَشَرَ وَاخْتَلَفَتْ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ وَالْقَمَرِيَّةُ فِي الْكَسْرِ الَّذِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا بِالتَّقْرِيبِ وَكَانَتْ شُهُورُ الْقَمَرِ ثَلَاثِينَ وَتِسْعَةً وَعِشْرِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ لِنِصْفِ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا حُكْمٌ فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَ اللَّهُ تعالى السَّنَةَ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَلْقِ ثُمَّ غَيَّرَتْ الْأُمَمُ الْعَادِلَةُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا التَّرْتِيبَ فَكَانَتْ شُهُورُ الرُّومِ بَعْضُهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَبَعْضُهَا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ وَنِصْفًا وَبَعْضُهَا وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ اعْتِبَارِ الشُّهُورِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا ثُمَّ كَانَتْ الْفُرْسُ شُهُورُهَا ثَلَاثِينَ إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا وَهُوَ بادماه فَإِنَّهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ ثُمَّ كَانَتْ تَكْبِسُ فِي كُلِّ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً شَهْرًا كَامِلًا فَتَصِيرُ السَّنَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ فِيهَا وَلَا نُقْصَانَ وَهِيَ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ الَّتِي إمَّا أَنْ تَكُونَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ ثَلَاثِينَ وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ وَقَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ
فَجَعَلَ الشَّهْرَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَإِنْ اشْتَبَهَ لِغَمَامٍ أَوْ قَتَرَةٍ فَثَلَاثُونَ فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض يَعْنِي أَنَّ عِدَّةَ شُهُورِ السَّنَةِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَأَبْطَلَ بِهِ الْكَبِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ تَكْبِسُهَا الْفُرْسُ فَتَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ انْقِضَاءَ الشُّهُورِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَتَارَةً تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ وَتَارَةً ثَلَاثُونَ فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَضَعَ الشهور والسنين في ابتداء الخلق أخبر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَوْدَ الزَّمَانِ إلى ما كان عليه وأبطل به مَا غَيَّرَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ تَرْتِيبِ الشُّهُورِ وَنِظَامِهَا وَمَا زَادَ بِهِ فِي السِّنِينَ وَالشُّهُورِ وَأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَصْلِ لِمَا عَلِمَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى من تعلق مصالح الناس في عبادتهم وشرائعهم بكون الشهور وَالسِّنِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَكُونُ الصَّوْمُ تَارَةً فِي الرَّبِيعِ وَتَارَةً فِي الصَّيْفِ وَأُخْرَى فِي الْخَرِيفِ وَأُخْرَى فِي الشِّتَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ لِعِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ صَوْمَ النَّصَارَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَدُورُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ إلَى الصَّيْفِ اجْتَمَعُوا إلَى أَنْ نَقَلُوهُ إلَى زَمَانِ الرَّبِيعِ وَزَادُوا في
307
الْعَدَدِ وَتَرَكُوا مَا تَعَبَّدُوا بِهِ مِنْ اعْتِبَارِ شُهُورِ الْقَمَرِ مُطْلَقَةً عَلَى مَا يَتَّفِقُ مِنْ وُقُوعِهَا فِي الْأَزْمَانِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي اتِّبَاعِهِمْ أَوَامِرَهُمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وُجُوبَهَا دُونَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وقَوْله تَعَالَى مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَهِيَ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ وَإِنَّمَا سَمَّاهَا حُرُمًا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا يَعْتَقِدُونَ تحريم القتال فيها وقال الله تعالى يسئلونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فيه كبير وَالثَّانِي تَعْظِيمُ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِيهَا بِأَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِهِ فِي غَيْرِهَا وَتَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ فِيهَا أَيْضًا وَإِنَّمَا فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي تَرْكِ الظُّلْمِ فِيهَا لِعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَى الطَّاعَاتِ من الاعتمار وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا كَمَا فَرَضَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ وَصَوْمَ رَمَضَانَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَجَعَلَ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ فِي حُكْمِ الطَّاعَاتِ وَمُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورَاتِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ نَحْوَ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَيَكُونُ تَرْكُ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَالْمَوَاضِعِ دَاعِيًا إلى تركها في غيره ويصير فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الشُّهُورِ وَهَذِهِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ دَاعِيًا إلَى فِعْلِ أَمْثَالِهَا فِي غَيْرِهَا لِلْمُرُورِ وَالِاعْتِيَادِ وَمَا يَصْحَبُ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ تَوْفِيقِهِ عِنْدَ إقْبَالِهِ إلَى طَاعَتِهِ وَمَا يَلْحَقُ الْعَبْدَ مِنْ الْخِذْلَانِ عِنْدَ إكْبَابِهِ عَلَى الْمَعَاصِي وَاشْتِهَارِهِ وَأُنْسِهِ بِهَا فَكَانَ فِي تَعْظِيمِ بَعْضِ الشُّهُورِ وَبَعْضِ الْأَمَاكِنِ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ فِي الِاسْتِدْعَاءِ إلَى الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْقَبَائِحِ وَلِأَنَّ الْأَشْيَاءَ تَجُرُّ إلَى أَشْكَالِهَا وَتُبَاعِدُ مِنْ أَضْدَادِهَا فَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ الطَّاعَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ يَدْعُو إلَى أَمْثَالِهَا قَوْله تَعَالَى فلا تظلموا فيهن أنفسكم الضمير في قوله فيهن عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَاجِعٌ إلَى الشُّهُورِ وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ عَائِدٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ وَقَوْلُهُ وقاتلوا المشركين كافة يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ سَائِرِ أَصْنَافِ أَهْلِ الشِّرْكِ إلَّا مَنْ اعْتَصَمَ مِنْهُمْ بِالذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هذه الآية والآخر الأمر بأن تقاتلهم مُجْتَمِعِينَ مُتَعَاضِدِينَ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ وَلِمَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا إذْ لَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ مُتَعَاضِدِينَ عَلَى الْقِتَالِ وَقَوْلُهُ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يَعْنِي أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ فِيكُمْ وَيَعْتَقِدُونَهُ وَيَحْتَمِلُ كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ مُجْتَمِعِينَ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي
308
معنى قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مُتَضَمِّنَةٌ لِرَفْعِ الْعُهُودِ وَالذِّمَمِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ الْأَمْرُ بِأَنْ نَكُونَ مُجْتَمِعِينَ فِي حَالِ قِتَالِنَا إيَّاهُمْ
قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ فَالنَّسِيءُ التَّأْخِيرُ وَمِنْهُ الْبَيْعُ بِنَسِيئَةٍ وَأَنْسَأْت الْبَيْعَ أخرته وما ننسخ من آية أو ننسها أَيْ نُؤَخِّرْهَا وَنُسِئَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَبِلَتْ لِتَأَخُّرِ حيضها ونسأت الناقة إذ دَفَعْتهَا فِي السَّيْرِ لِأَنَّك زَجَرْتهَا عَنْ التَّأَخُّرِ والمنسأة العصا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ تَأْخِيرِ الشُّهُورِ فَكَانَ يَقَعُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَاعْتِقَادِ حُرْمَةِ الشُّهُورِ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَغَيْرُهُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُدْخِلُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَيَّامًا يوافقون ذا الحجة في كل ثلاث عشر سنة فوفق اللَّه تعالى لرسوله فِي حَجَّتِهِ اسْتِدَارَةَ زَمَانِهِمْ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَاسْتَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى عَدَدِ الشُّهُورِ وَوَقَفَ الْحَجُّ عَلَى ذِي الْحِجَّةِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ أَوَّلَ مَنْ أَنْسَأَ النَّسِيءَ أَنْسَأَ الْمُحَرَّمَ فَكَانَ يُحِلُّهُ عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَامًا فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَ حُرُمَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فِي عَهْدِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْه فَإِذَا أَحَلَّهُ دَخَلَ مَكَانَهُ صَفَرٌ فِي الْمُحَرَّمِ لِتُوَاطِئَ الْعِدَّةُ يَقُولُ قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ كَمَا كَانَتْ لِأَنِّي لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا قَدْ حَرَّمْت مَكَانَهُ شهرا فحج النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَدْ عَادَ الْمُحَرَّمُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فَأَخْبَرَ اللَّه أَنَّ النَّسِيءَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ كفر لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْكُفْرِ لَا تَكُونُ إلَّا كُفْرًا لِاسْتِحْلَالِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّه وَتَحْرِيمِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّه فَكَانَ الْقَوْمُ كُفَّارًا بِاعْتِقَادِهِمْ الشِّرْكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِالنَّسِيءِ.
بَابُ فَرْضِ النَّفِيرِ وَالْجِهَادِ
قَالَ اللَّه تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض- إلَى قَوْلِهِ- إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ويستبدل قوما غيركم اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبَ النَّفِيرِ عَلَى مَنْ يَسْتَنْفِرْ
وَقَالَ فِي آيَةٍ بَعْدَهَا انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا فَأَوْجَبَ النَّفِيرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ الِاسْتِنْفَارِ فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ لَهُ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ
309
قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ وَحَجَّاجٌ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ميسرة وابن أبى بلال عن رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ أَنَّهُ وَافَى الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَهُوَ يُجَهِّزُ قَالَ فَقُلْت يَا أَبَا الْأَسْوَدِ قَدْ أَعْذَرَ اللَّه إلَيْك أَوْ قَالَ قَدْ عَذَرَك اللَّه يَعْنِي فِي الْقُعُودِ عَنْ الْغَزْوِ فَقَالَ أَتَتْ عَلَيْنَا سُورَةُ بَرَاءَةٌ انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا قال أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ فَكَانَ يَقُولُ قَالَ اللَّه انفروا خفافا وثقالا فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَرَأَ هذه الآية انفروا خفافا وثقالا قَالَ مَا أَرَى اللَّه إلَّا يَسْتَنْفِرُنَا شُبَّانًا وَشُيُوخًا جَهِّزُونِي فَجَهَّزْنَاهُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ وَمَاتَ فِي غزاته تلك فما وجدنا له جزيرة تدفنه فيها أو قال يدفنونى فِيهَا إلَّا بَعْدَ سَابِعِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ حدثنا حجاج عن أبى جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ قَالُوا فِينَا الثَّقِيلُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالصَّنْعَةِ وَالْمُنْتَشِرُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ قَالَ اللَّه تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وثقالا فَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى فَرْضِ النَّفِيرِ ابْتِدَاءً وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْفِرُوا وَالْآيَةُ الْأُولَى يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا وُجُوبَ فَرْضِ النَّفِيرِ إذَا اُسْتُنْفِرُوا وَقَدْ ذُكِرَ فِي تَأْوِيلِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمَّا نَدَبَ إلَيْهِ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ النَّاسَ إلَيْهَا فَكَانَ النَّفِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فَرْضًا عَلَى مَنْ اسْتَنْفَرَ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه قَالُوا وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ النَّفِيرِ مَعَ غَيْرِهِ وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غيركم وما كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أن يتخلفوا عن رسول الله نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كافة وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نَسْخٌ وَحُكْمُهُمَا ثَابِتٌ فِي حَالَيْنِ فَمَتَى لَمْ يُقَاوِمْ أَهْلُ الثُّغُورِ الْعَدُوَّ وَاسْتُنْفِرُوا فَفُرِضَ عَلَى النَّاسِ النفير إليهم حتى يسيحوا الثُّغُورَ وَإِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ بِاكْتِفَائِهِمْ بِمَنْ هُنَاكَ سَوَاءٌ اُسْتُنْفِرُوا أَوْ لَمْ يُسْتَنْفَرُوا وَمَتَى قَامَ الَّذِينَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ وَاسْتَغْنَوْا بأنفسهم عمن
310
وَرَاءَهُمْ فَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَرَاءَهُمْ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ الْخُرُوجَ لِلْقِتَالِ فَيَكُونَ فَاعِلًا لِلْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِي الْقُعُودِ بَدِيَّا لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَمَتَى قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قال حدثنا جرير بن مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم يوم الفتح مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِنَّ اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا
فَأَمَرَ بِالنَّفِيرِ عِنْدَ الِاسْتِنْفَارِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاسْتِنْفَارِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِمْ لِأَنَّ أَهْلَ الثُّغُورِ مَتَى اكْتَفَوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ إلَى غَيْرِهِمْ فَلَيْسَ يَكَادُونَ يُسْتَنْفَرُونَ وَلَكِنْ لَوْ اسْتَنْفَرَهُمْ الْإِمَامُ مَعَ كِفَايَةِ مَنْ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الثُّغُورِ وَجُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَ أَهْلَ الْحَرْبِ وَيَطَأَ دِيَارَهُمْ فَعَلَى مِنْ استنفر من المسلمين أن ينفروا وهذ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي فَرْضِ الْجِهَادِ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ فِي آخَرِينَ أَنَّ الْجِهَادَ تَطَوُّعٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ وَقَالُوا كتب عليكم القتال لَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ عَلَى النَّدْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بن الحكم قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الرَّقِّيِّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ كُنْت عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْفَرَائِضِ وَابْنُ عُمَرَ جَالِسٌ حَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَقَالَ الْفَرَائِضُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه قَالَ فَكَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ الْفَرَائِضُ شهادة أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وحج البيت وصيام رمضان قال ابن الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عن ابى جُرَيْجٍ قَالَ قُلْت لِعَطَاءٍ أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مَا عَلِمْنَاهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا
311
قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ كَانَ الْبَاقُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَانَ يَقُولُ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَكِنْ لَا يَسَعُ النَّاسَ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ وَيَجْزِي فِيهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا قَوْلَ سُفْيَانَ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَمَعْلُومٌ فِي اعْتِقَادِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إذَا خَافَ أَهْلُ الثُّغُورِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ مُقَاوِمَةٌ لَهُمْ فَخَافُوا عَلَى بِلَادِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ أَنْ يَنْفِرُ إلَيْهِمْ مَنْ يَكُفُّ عَادِيَتَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إذا لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إبَاحَةُ القعود عنهم حين يَسْتَبِيحُوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيَ ذَرَارِيِّهِمْ وَلَكِنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ مَتَى كَانَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مُقَاوِمِينَ لَهُ وَلَا يَخَافُونَ غَلَبَةَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ تَرْكُ جِهَادِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ فَكَانَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَابْنِ شُبْرُمَةَ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْزُوهُمْ وَأَنْ يَقْعُدُوا عَنْهُمْ وَقَالَ آخَرُونَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ أَبَدًا حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ السَّلَفِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَأَبُو طَلْحَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَذَكَرَ سَهْمًا منها الجهاد وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ مَعْمَرٌ كَانَ مَكْحُولٌ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَحْلِفُ عَشْرَ أَيْمَانٍ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ ثُمَّ يَقُولُ إنْ شِئْتُمْ زِدْتُكُمْ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا جعفر حدثنا أبو عبيد حدثنا عن عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صَالِحٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ غَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كَتَبَ اللَّه الْجِهَادَ على الناس غزوا أو قعودا فَمَنْ قَعَدَ فَهُوَ عِدَّةٌ إنْ اُسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَ وَإِنْ اُسْتُنْفِرَ نَفَرَ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ قَعَدَ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ بِفَرْضٍ يَعْنُونَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فَرْضُهُ مُتَعَيَّنًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَنَّهُ فُرِضَ عَلَى الْكِفَايَةِ وَالْآيَاتُ الْمُوجِبَةُ لِفَرْضِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين لله فَاقْتَضَى
ذَلِكَ وُجُوبَ قِتَالِهِمْ حَتَّى يُجِيبُوا إلَى الْإِسْلَامِ وَقَالَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ الْآيَةَ وَقَالَ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر الْآيَةَ وَقَالَ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وأنتم الأعلون والله معكم وقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
312
وو قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وَقَالَ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبيل الله وَقَالَ إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قوما غيركم
وقال فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأنفسكم فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ وَبِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ فَتَضَمَّنَتْ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى فَرْضِ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَرَنَهُ إلَى فَرْضِ الْإِيمَانِ وَالْآخَرُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللَّه بِهِ وَبِالْإِيمَانِ وَالْعَذَابُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَقَالَ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كره لكم ومعناه فرض كقوله كتب عليكم الصيام فَإِنْ قِيلَ هُوَ كَقَوْلِهِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ للوالدين والأقربين وَإِنَّمَا هِيَ نَدْبٌ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ قِيلَ لَهُ قَدْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ اللَّه الْمَوَارِيثَ ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ الميراث ومع ذلك فإن حُكْمِ اللَّفْظِ الْإِيجَابَ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةٌ لِلنَّدْبِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْجِهَادِ أَنَّهُ نَدْبٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَكَّدَ اللَّه تَعَالَى فَرْضَ الْجِهَادِ عَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِغَيْرِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلا نفسك وحرض المؤمنين فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ فَرَضَ الْجِهَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ وَحُضُورِهِ وَالْآخَرُ بِالتَّحْرِيضِ وَالْحَثِّ والبيان لأنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ إنْفَاقَ الْمَالِ وَقَالَ لِغَيْرِهِ انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فَأَلْزَمَ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَلَهُ مَالٌ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله فَلَمْ يَخْلُ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ فَرْضَ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلْعَجْزِ وَالْعُدْمِ مِنْ إيجَابِ فَرْضِهِ بِالنُّصْحِ للَّه وَرَسُولِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ إلا وعليه فرض الجهاد عن مَرَاتِبِهِ الَّتِي وَصَفْنَا وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْكِيدِ فَرْضِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا مَا
حُدِّثْنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ حَفْصٍ السَّدُوسِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ مُؤْثِرِ بْنِ عفازة عن بشير بن الْخَصَاصِيَةِ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُبَايِعُهُ فَقُلْت لَهُ عَلَامَ
313
تُبَايِعُنِي يَا رَسُولَ اللَّه فَمَدَّ رَسُولُ اللَّه يَدَهُ فَقَالَ عَلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَتُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَكْتُوبَاتِ لِوَقْتِهِنَّ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّه فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه كَلًّا لا أطيق إلا اثنتين إيتاء الزكاء فَمَا لِي إلَّا حُمُولَةَ أَهْلِي وَمَا يَقُومُونَ بِهِ وَأَمَّا الْجِهَادُ فَإِنِّي رَجُلٌ جَبَانٌ فَأَخَافُ أَنْ تَخْشَعَ نَفْسِي فَأَفِرَّ فَأَبُوءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَدَهُ وَقَالَ يَا بَشِيرُ لَا جِهَادَ ولا صدقة فبم تَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّه اُبْسُطْ يَدَك فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته عَلَيْهِنَّ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبراهيم بن عَبْدِ اللَّه قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ
فَأَوْجَبَ الْجِهَادَ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْجِهَادُ بِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْإِيمَانِ باللَّه وَرَسُولِهِ فَرْضٌ آكَدُ وَلَا أَوْلَى بِالْإِيجَابِ مِنْ الْجِهَادِ وَذَلِكَ أَنَّهُ بِالْجِهَادِ يُمْكِنُ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَفِي تَرْكِ الْجِهَادِ غَلَبَةُ الْعَدُوِّ وَدُرُوسُ الدِّينِ وَذَهَابُ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّ فَرْضَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَا
رَوَى عاصم بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ فَذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَصَوْمَ رَمَضَانَ
فَذَكَرَ هَذِهِ الْخَمْسَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْجِهَادَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ وَهْبٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وقوله وجدت دليل على أنه قاله مِنْ رَأْيِهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَجِدَ غَيْرُهُ مَا هُوَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَقَوْلُ حُذَيْفَةَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ أَحَدُهَا الْجِهَادُ يُعَارِضُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ فَإِنْ قِيلَ
فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبى سفيان قال سمعت عكرمة ابن خافد يُحَدِّثُ طَاوُسًا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ يا أبا عبد الرحمن لا تغزوا فَقَالَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةٍ
فَهَذَا حَدِيثٌ مُسْتَقِيمُ السَّنَدِ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى خَمْسَةٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ إلَى ذِكْرِ مَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ دُونَ مَا يَكُونُ مِنْهُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ وَتَعَلُّمَ عُلُومِ الدِّينِ وَغَسْلَ الْمَوْتَى وَتَكْفِينَهُمْ وَدَفْنَهُمْ كُلُّهَا فُرُوضٌ وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِيمَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ تَرْكُ ذِكْرِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
314
فرضا لأنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّمَا قَصَدَ إلَى بَيَانِ ذِكْرِ الْفُرُوضِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فِي أَوْقَاتٍ مُرَتَّبَةٍ وَلَا يَنُوبُ غَيْرُهُ عَنْهَا فِيهِ وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ما يدل على وجوبه وهو مما
حدثنا عن عبد اللَّه بن شيروبه قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنَّا أَحَقَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى إنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ الْيَوْمَ أَحَبُّ إلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ أَدْخَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ
وَحُدِّثْنَا عَنْ خَلَفِ بْنِ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عَبْدِ الملك بن أبي سليمان عن عطاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ نَحْوُهُ فَقَدْ اقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ وُجُوبَ الْجِهَادِ لِإِخْبَارِهِ بِإِدْخَالِ اللَّه الذُّلَّ عَلَيْهِمْ بِذِكْرِ عُقُوبَةٍ عَلَى الْجِهَادِ وَالْعُقُوبَاتُ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْجِهَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ فِي نَفْيِ فَرْضِ الْجِهَادِ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَوْله تَعَالَى وَمَا كان المؤمنون لينفروا كافة وقوله فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وَقَوْلُهُ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى فَلَوْ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي نَفْسِهِ لَمَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مَوْعُودِينَ بِالْحُسْنَى بل كانوا يكونوا مَذْمُومِينَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ بِتَرْكِهِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابن جريج وعثمان بن عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وجل فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله انفروا خفافا وثقالا قَالَ نَسَخَتْهَا وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم لعلهم يحذرون قَالَ تَنْفِرُ طَائِفَةٌ وَتَمْكُثُ طَائِفَةٌ مَعَ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ فَالْمَاكِثُونَ هُمْ الَّذِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيُنْذِرُونَ إخْوَانَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ مِنْ الْغَزْوِ بِمَا نَزَلَ مِنْ قَضَاءِ اللَّه وَكِتَابِهِ وَحُدُودِهِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا جعفر
315
ابْنُ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عبد اللَّه بن صالح عن معاية بن صالح عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ يَعْنِي مِنْ السَّرَايَا كَانَتْ تَرْجِعُ وَقَدْ نَزَلَ بَعْدَهُمْ قُرْآنٌ تَعَلَّمَهُ الْقَاعِدُونَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّه على النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بَعْدَهُمْ وَيَبْعَثُ سَرَايَا أُخَرَ قَالَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم فَثَبَتَ بِمَا قَدَّمْنَا لُزُومُ فَرْضِ الْجِهَادِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إذَا كَفَاهُ ذَلِكَ غَيْرُهُ قَوْله تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بأموالكم الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ شُبَّانًا وَشُيُوخًا وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَعَنْ الْحَسَنِ مَشَاغِيلَ وَغَيْرَ مَشَاغِيلَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة نِشَاطًا وَغَيْرَ نِشَاطٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً وَقِيلَ ذَا صَنْعَةٍ وَغَيْرَ ذِي صَنْعَةٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ كُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ يَحْتَمِلُهُ اللفظ فالواجب يَعُمَّهَا إذْ لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ وَقَوْلُهُ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله فَأَوْجَبَ فَرْضَ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِمَالِهِ بِأَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُ فَيَغْزُو بِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَجَلَدٌ وَأَمْكَنَهُ الْجِهَادُ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ وَيَسَارٍ بَعْدَ أَنْ يَجِدَ مَا يَبْلُغُهُ وَمَنْ قَوِيَ عَلَى الْقِتَالِ وَلَهُ مَالٌ فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ مُعْدَمًا فَعَلَيْهِ الْجِهَادُ بِالنُّصْحِ للَّه وَلِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حرج إذا نصحوا لله ورسوله وقوله تعالى ذلكم خير لكم مَعَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدِهِمَا خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ إلَى الْمُبَاحِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالْآخَرِ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهِ لا في تركه وقوله تعالى إن كنتم تعلمون قِيلَ فِيهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْخَيْرَ فِي الْجُمْلَةِ فَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا خَيْرٌ وَقِيلَ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَ اللَّه فِيمَا وَعَدَ بِهِ من ثوابه وجنته
قوله تعالى سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم الْآيَةَ لَمَّا أَكْذَبَهُمْ اللَّه فِي قَوْلِهِ لَوِ استطعنا لخرجنا معكم دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ وَلَمْ يَخْرُجُوا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْجَبْرِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ لِمَا كُلِّفُوا فِي حَالِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَكْذَبَهُمْ فِي نَفْيِهِمْ الِاسْتِطَاعَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لأنه أخبر أنهم سيحلفون فجاؤا فَحَلَفُوا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِنْهُمْ
قَوْله تعالى عفا
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لك الذين صدقوا
العفو ينصرف عن وُجُوهٍ أَحَدِهَا التَّسْهِيلُ وَالتَّوْسِعَةُ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّه وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّه
وَالْعَفْوُ التَّرْكُ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى وَالْعَفْوُ الْكَثْرَةُ
كقوله تعالى حتى عفوا يَعْنِي كَثُرُوا وَأَعْفَيْت فُلَانًا مِنْ كَذَا وَكَذَا إذَا سَهَّلْت لَهُ تَرْكَهُ وَالْعَفْوُ الصَّفْحُ عَنْ الذَّنْبِ وَهُوَ إعْفَاؤُهُ مِنْ تَبِعَتِهِ وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِثْلُ الْغُفْرَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ التَّسْهِيلَ فَإِذَا عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ فَلَمْ يَسْتَقْصِ عَلَيْهِ وَسَهَّلَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَنْصَرِفُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا التَّرْكَ والتوسعة ومن الناس من يقول إنه كان من النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ذَنْبٌ صَغِيرٌ فِي إذْنِهِ لَهُمْ وَلِهَذَا قال اللَّه تَعَالَى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَ فَعَلْت مَا أَمَرْتُك بِفِعْلِهِ قَالُوا فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ الْعَفْوِ عَمَّا قَدْ جَعَلَ لَهُ فِعْلَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَقِيلَ إنَّهُ جَائِزٌ أَنْ لَا تَكُونَ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ لَا صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ وَإِنَّمَا عَاتَبَهُ بِأَنْ قَالَ لِمَ فَعَلْت مَا جَعَلْت لَك فِعْلَهُ مِمَّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ قَالَ اللَّه تَعَالَى فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بزينة وأن يستعففن خير لهن فَأَبَاحَ الْأَمْرَيْنِ وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا أَوْلَى وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ عَفَا اللَّهُ عنك لم أذنت لهم كَانَتْ كَمَا تَسْمَعُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّه فِي سُورَةِ النُّورِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه- إلى قوله- فأذن لمن شئت منهم فَجَعَلَهُ اللَّه تَعَالَى رُخْصَةً فِي ذَلِكَ
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عباس فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله- إلى قوله- يترددون هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوهُ لِلْقُعُودِ عَنْ الْجِهَادِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَعَذَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ إنما يستاذنك الذين لا يؤمنون بالله قَالَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى امر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه- إلى قوله- فأذن لمن شئت منهم فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَعْلَى النَّظَرَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى عفا الله عنك لم أذنت لهم فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَحِقَتْهُمْ تُهْمَةٌ فَكَانَ يمكن النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم استبراء أمرهم بترك الإذن لهم فينظر نِفَاقُهُمْ إذَا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْخُرُوجِ وَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي أُولَئِكَ وَيَدُلُّ عليه
317
قَوْلُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكاذبين وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه وقوله فأذن لمن شئت منهم فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا فَلَا تَكُونُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى قَوْله تَعَالَى لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر- إلى قوله- بأموالهم الْآيَةَ يَعْنِي لَا يَسْتَأْذِنُك الْمُؤْمِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ لَأَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَأَضْمَرَ لَا في قوله أن يجاهدوا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاستيذان فِي التَّخَلُّفِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى صحة تأويل قوله أن يجاهدوا أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَرَاهَةِ أَنْ يُجَاهِدُوا وَهُوَ يئول إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ إضْمَارَ لَا فِيهِ وَإِضْمَارَ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَرْضِ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فذمنهم عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ بِهِمَا وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي إعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالرَّاحِلَةِ وَالزَّادِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَالثَّانِي إنْفَاقُ الْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يُجَاهِدُ وَمَعُونَتُهُ بِالزَّادِ وَالْعُدَّةِ وَنَحْوِهَا وَالْجِهَادُ بِالنَّفْسِ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْهَا الْخُرُوجُ بِنَفْسِهِ وَمُبَاشَرَةُ الْقِتَالِ وَمِنْهَا بَيَانُ مَا افْتَرَضَ اللَّه مِنْ الْجِهَادِ وَذِكْرُ الثواب الجزيل لمن قال بِهِ وَالْعِقَابِ لِمَنْ قَعَدَ عَنْهُ وَمِنْهَا التَّحْرِيضُ وَالْأَمْرُ وَمِنْهَا الْإِخْبَارُ بِعَوْرَاتِ الْعَدُوِّ وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَسَدَادِ الرَّأْيِ وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَوْلَى وَالْأَصْلَحِ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ كَمَا
قال الحباب بْنُ الْمُنْذِرِ حِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أَهَذَا رَأْيٌ رَأَيْته أَمْ وَحْيٌ فَقَالَ بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته قَالَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَى الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الْآبَارَ الَّتِي فِي نَاحِيَةِ الْعَدُوِّ
فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُقَوِّي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَيُوهِنُ أَمْرَ الْعَدُوِّ فَإِنْ قِيلَ فَأَيُّ الْجِهَادَيْنِ أَفْضَلُ أَجِهَادُ النَّفْسِ وَالْمَالِ أَمْ جِهَادُ الْعِلْمِ قِيلَ لَهُ الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ مَبْنِيٌّ عَلَى جِهَادِ الْعِلْمِ وَفُرِّعَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَعُدُّوا فِي جِهَادِ السَّيْفِ مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ فَجِهَادُ الْعِلْمِ أَصْلٌ وَجِهَادُ النفس فرع والأصل أولى بالتفضيل عن الْفَرْعِ فَإِنْ قِيلَ تَعَلُّمُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ أَمْ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ قِيلَ لَهُ إذَا خِيفَ مَعَرَّةُ الْعَدُوِّ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ بِإِزَائِهِ مَنْ يَدْفَعُهُ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْعَدُوِّ إذا وقع
318
بِالْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْكِنْ تَلَافِيهِ وَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَلِأَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ تَعَيَّنَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَمَا كَانَ فَرْضًا معينا على الإنسان غير موضع عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْفَرْضِ الَّذِي قَامَ بِهِ غَيْرُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ الِاشْتِغَالِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا هُوَ أَوْلَى مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الدِّينِ فِي تِلْكَ الْحَالِ إذْ كَانَ الْفَرْضُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنْ قَامَ بِفَرْضِ الْجِهَادِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ وَغِنًى فَقَدْ عَادَ فَرْضُ الْجِهَادِ إلَى حُكْمِ الْكِفَايَةِ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ إلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْجِهَادِ فَإِنَّ ثَبَاتَ الْجِهَادِ بِثَبَاتِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ فَرْعٌ لَهُ وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَجُوزُ الْجِهَادُ مَعَ الْفُسَّاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِفَرْضِ نَفْسِهِ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانَ أمير الجيش وجنوده فساقا وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَغْزُونَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْفُسَّاقِ وَغَزَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مَعَ يَزِيدَ اللعين وقد ذكرنا حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ غَزَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ إلَّا عَامًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا عَلَيَّ مَنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيَّ فَكَانَ يَقُولُ قَالَ اللَّه تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا فَلَا أَجِدُنِي إلَّا خَفِيفًا أَوْ ثَقِيلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَاجِبٌ مَعَ الْفُسَّاقِ كَوُجُوبِهِ مَعَ الْعُدُولِ وَسَائِرُ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَرْضِ الْجِهَادِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ فِعْلِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ وَمَعَ الْعُدُولِ الصَّالِحِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إذَا جَاهَدُوا فَهُمْ مُطِيعُونَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُطِيعُونَ للَّه فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِهَادَ ضَرْبٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَوْ رَأَيْنَا فَاسِقًا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ كَانَ عَلَيْنَا مُعَاوَنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجِهَادُ فاللَّه تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِفَرْضِ الْجِهَادِ الْعُدُولَ دُونَ الْفُسَّاقِ فَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْجِهَادِ مَعَ الْعُدُولِ وَمَعَ الْفُسَّاقِ
قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عدة والعدة مَا يُعِدُّهُ الْإِنْسَانُ وَيُهَيِّئُهُ لِمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ نَظِيرُ الْأُهْبَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ قَبْلَ وَقْتِ وُقُوعِهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومن رباط الخيل وقوله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم يعنى خُرُوجَهُمْ كَانَ يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ وَتَخْذِيلِ الْمُسْلِمِينَ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ الْعَدُوِّ وَالتَّضْرِيبِ بَيْنَهُمْ وَالْخُرُوجُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ فَكَرِهَهُ اللَّه تَعَالَى وَثَبَّطَهُمْ عَنْهُ إذْ كَانَ مَعْصِيَةً واللَّه لا يجب الْفَسَادَ وقَوْله تَعَالَى وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ أَيْ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ اُقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ وَجَائِزٌ أن يكون قال بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
قَوْله تَعَالَى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادوكم إلا خبالا الْآيَةَ فِيهِ بَيَانُ وَجْهِ خُرُوجِهِمْ لَوْ خَرَجُوا وَإِخْبَارٌ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَتْ فِي تَخَلُّفِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعَاتَبَةَ اللَّه لِنَبِيِّهِ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في قوله لم أذنت لهم أَنَّ اللَّه عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا أَيْضًا فَيَظْهَرُ لِلْمُسْلِمِينَ كِذْبُهُمْ ونفاقهم وقد أخبر اللَّه تعالى أو خُرُوجَهُمْ لَوْ خَرَجُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ يَكُونُ مَعْصِيَةً وَفَسَادًا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ مَا زادوكم إلا خبالا وَالْخَبَالُ الِاضْطِرَابُ فِي الرَّأْيِ فَأَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ خَرَجُوا لَسَعَوْا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّضْرِيبِ وَإِفْسَادِ الْقُلُوبِ وَالتَّخْذِيلِ عَنْ الْعَدُوِّ فَكَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ اضْطِرَابَ آرَائِهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لم قال ما زادوكم إلا خبالا وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى خَبَالٍ يُزَادُ فِيهِ قِيلَ لَهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْدِيرُهُ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً لَكِنْ طَلَبُوا لَكُمْ الْخَبَالَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى خَبَالٍ فِي الرَّأْيِ لِمَا يَعْرِضُ فِي النُّفُوسِ مِنْ التَّلَوُّنِ إلَى أَنْ اسْتَقَرَّ عَلَى الصَّوَابِ فَيُقَوِّيهِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَصِيرَ خَبَالًا مَعْدُولًا بِهِ عَنْ صَوَابِ الرَّأْيِ قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم قَالَ الْحَسَنُ وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ بينكم وقوله تعالى يبغونكم الفتنة فإن الفتنة هاهنا الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَالْفُرْقَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكُفْرَ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ لِقَوْلِهِ تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله والفتنة أشد من القتل وقوله وفيكم سماعون لهم قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ عُيُونٌ مِنْهُمْ يَنْقُلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ قَابِلُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِمْ
قَوْله تَعَالَى لقد ابتغوا الفتنة من قبل يعنى طلبوا الفتنة وهي هاهنا الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ الْأُلْفَةِ وقَوْله تَعَالَى وقلبوا لك الأمور يَعْنِي بِهِ تَصْرِيفُ الْأُمُورِ وَتَقْلِيبُهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ طَلَبًا لِوَجْهِ الْحِيلَةِ وَالْمَكِيدَةِ فِي إطْفَاءِ نُورِهِ وَإِبْطَالِ أَمْرِهِ فَأَبَى اللَّه تَعَالَى إلَّا إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ وَعَصَمَهُ مِنْ كَيَدِهِمْ وَحِيَلِهِمْ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي ولا تفتنى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنِّي مُسْتَهْتِرٌ بِالنِّسَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم إلى غزوة تَبُوكَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ لَا تؤثمنى بالعصيان
فِي الْمُخَالَفَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْفُرْقَةَ
قَوْله تَعَالَى قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لنا هو مولانا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ كُلُّ مَا يُصِيبُنَا مِنْ خير وشر فهو مما كتبه فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَلَيْسَ عَلَى مَا يَتَوَهَّمُهُ الْكُفَّارُ مِنْ إهْمَالِنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْجِعَ أَمْرُنَا إلَى تَدْبِيرِ رَبِّنَا وَقِيلَ لَنْ يُصِيبَنَا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِنَا إلَّا مَا كَتَبَ اللَّه لَنَا مِنْ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَنَا
قَوْله تَعَالَى قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ منكم صيغته الأمر والمراد البيان عن التمكن مِنْ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ كَقَوْلِهِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومن شاء فليكفر وَقِيلَ مَعْنَاهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ إنْ الجزاء كما قال كثير:
أسيء بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتْ وَمَعْنَاهُ إنْ أَحْسَنْت أَوْ أسأت لم تلام
قَوْله تَعَالَى فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدنيا قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ فَلَا تُعْجِبْك أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إنَّمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا عَلَى تَقْدِيمِ الْكَلَامِ وَتَأْخِيرِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لِيُعَذِّبَهُمْ فِي الزَّكَاةِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّه وَقَالَ آخَرُونَ يُعَذِّبُهُمْ بِهَا بِالْمَصَائِبِ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ صِفَةُ الْكُفَّارِ بِالسَّبْيِ وَغَنِيمَةِ الْأَمْوَالِ وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي فِي قوله ليعذبهم هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
قوله تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم الْحَلْفُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِذِكْرِ الْمُعَظَّمِ عَلَى مِنْهَاجٍ واللَّه وباللَّه والحروف الموضوعة للقسم وَالْيَمِينُ إلَّا أَنَّ الْحَلِفَ مِنْ إضَافَةِ الْخَبَرِ إلى المعظم وقوله ويحلفون بالله إخبار عنهم باليمين بالله هو يمين بمنزلة لو حذف عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فِي أَنَّهُمْ سَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ وَقَوْلُ الْقَائِلِ أَحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ يَمِينٌ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ وَقَالَ بِاَللَّهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنَا حَالِفٌ بِاَللَّهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِدَّةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا فَهُوَ يَنْصَرِفُ عَلَى الْمَعْنَى وَالظَّاهِرُ مِنْهُ إيقَاعُ الْحَلِفِ بِهَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِك أَنَا أَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَحْتَمِلُ الْعِدَّةَ وَأَمَّا قَوْلُهُ باللَّه فَهُوَ إيقَاعٌ لِلْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إضْمَارُ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ قَدْ حَلَفْت بِاَللَّهِ وَقِيلَ إنَّمَا حَذَفَ ذِكْرَ الْحَلِفِ ليدل على وقع الْحَلِفِ وَيَزُولَ احْتِمَالُ الْعِدَّةِ كَمَا حَذَفَ فِي والله لأفعلن ليدل على أن القائل حلف لا وأعد وقوله تعالى إنهم لمنكم مَعْنَاهُ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالدِّينِ وَالْمِلَّةِ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْإِضَافَةُ مِنْهُمْ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَلَى دِينِهِمْ كَمَا قَالَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بعض- والمنافقون والمنافقات
بعضهم من بعض
فَنَسَبَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ لِاتِّفَاقِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْمِلَّةِ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصدقات قَالَ الْحَسَنُ يَعِيبُكَ وَقِيلَ اللَّمْزُ الْعَيْبُ سِرًّا والهمز العيب بكثرة العيب وَقَالَ قَتَادَةُ يَطْعَنُ عَلَيْك وَيُقَالُ إنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُنَافِقِينَ أَرَادُوا أَنْ يُعْطِيَهُمْ رَسُولُ اللَّه مِنْ الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يَكُنْ جَائِزًا أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَطَعَنُوا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَقَالُوا يُؤْثِرُ بِهَا أَقْرِبَاءَهُ وَأَهْلَ مَوَدَّتِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لِهَؤُلَاءِ فِي الصَّدَقَاتِ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ ذُكِرَ
قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فضله ورسوله فِيهِ ضَمِيرُ جَوَابِ لَوْ تَقْدِيرُهُ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّه وَرَسُولُهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أَوْ أَعْوَدَ عَلَيْهِمْ وَحَذْفُ الْجَوَابِ فِي مِثْلِهِ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِهِ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ مَعَ أَنَّ النَّفْسَ تَذْهَبُ إلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ وَالذِّكْرُ يَقْصُرُهُ عَلَى الْمَذْكُورِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ وَفِيهِ إخْبَارٌ عَلَى أَنَّ الرِّضَا بِفِعْلِ اللَّهِ يُوجِبُ الْمَزِيدَ مِنْ الْخَيْرِ جزاء للراضى على فعله
قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية قال الزهري الفقير الذي لا يسئل والمسكين الذي يسئل وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِثْلَ هَذَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى الْمِسْكِينَ أَضْعَفَ حَالًا وَأَبْلَغَ فِي جَهْدِ الْفَقْرِ وَالْعُدْمِ مِنْ الْفَقِيرِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وجابر ابن زَيْدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا الْفَقِيرُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ فَكَانَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا فَسَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَوَصَفَهُمْ بِالتَّعَفُّفِ وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ الْفَقِيرُ ذُو الزَّمَانَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ مِنْهُمْ وَقِيلَ إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمِسْكِينُ إلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ بِالصِّفَتَيْنِ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَالْفَقِيرُ هُوَ الذي له أدنى بلغة وبكى ذَلِكَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِأَعْرَابِيٍّ أَفَقِيرٌ أَنْتَ قَالَ لَا بَلْ مِسْكِينٌ وَأَنْشَدَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ له سبد
322
فَسَمَّاهُ فَقِيرًا مَعَ وُجُودِ الْحَلُوبَةِ قَالَ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ عَنْ يُونُسَ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْفَقِيرُ يَكُونُ لَهُ بَعْضُ مَا يُغْنِيهِ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَمْلِكُ بَعْضَ ما يغنيه لأنه لا يحسبه الْجَاهِلُ بِحَالِهِ غَنِيًّا إلَّا وَلَهُ ظَاهِرُ جَمِيلٍ وَبَزَّةٌ حَسَنَةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ لِبَعْضِ مَا يُغْنِيهِ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الْفَقْرِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا قَالَ فِي صِفَةِ الْمِسْكِينِ
بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَالْأَكْلَةُ وَالْأَكْلَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ
قَالَ فَلَمَّا نَفَى الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَسْكَنَةِ عَمَّنْ تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَأَثْبَتَهَا لِمَنْ لَا يَجِدُ ذَلِكَ وَسَمَّاهُ مِسْكِينًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ قَالَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تعالى أو مسكينا ذا متربة رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ الَّذِي قَدْ لَزِقَ بِالتُّرَابِ وَهُوَ جَائِعٌ عَارٍ لَا يُوَارِيهِ عَنْ التُّرَابِ شَيْءٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ فِي غَايَةِ الْحَاجَةِ وَالْعُدْمِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّه تَعَالَى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البحر فَأَثْبَتَ لَهُمْ مِلْكَ السَّفِينَةِ وَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ قِيلَ لَهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا أُجَرَاءَ فِيهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُلَّاكًا لَهَا وَإِنَّمَا نَسَبَهَا إلَيْهِمْ بِالتَّصَرُّفِ وَالْكَوْنِ فِيهَا كَمَا قَالَ اللَّه تعالى لا تدخلوا بيوت النبى وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فَأَضَافَ الْبُيُوتَ تَارَةً إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ أَوْ لَهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُنَّ وَلَهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حِدَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إنَّمَا صَحَّتْ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ وَالسُّكْنَى كَمَا يُقَالُ هَذَا مَنْزِلُ فُلَانٍ وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا فيه غير مالك له وهذا مَسْجِدُ فُلَانٍ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمِلْكُ وَكَذَلِكَ قوله أما السفينة فكانت لمساكين هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَيُقَالُ إنَّ الْفَقِيرَ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدْ كُسِرَتْ فَقَارُهُ يُقَالُ مِنْهُ فَقَرَ الرَّجُلُ فَقْرًا وَأَفْقَرَهُ اللَّه إفْقَارًا وَتَفَاقَرَ تَفَاقُرًا وَالْمِسْكِينُ الَّذِي قَدْ أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالضَّحَّاكِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ كَأَنَّهُمَا ذَهَبَا إلَى قَوْله تَعَالَى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ الْفَقِيرُ الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى بَعْضِ جَسَدِهِ وَبِهِ حَاجَةٌ وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِاَلَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَكِنْ
323
الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُصِيبُ الْمَكْسَبَ وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ وَأَنَّ الْمِسْكِينَ أَضْعَفُ حَالًا مِنْهُ وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ ثُلُثُ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِفُلَانٍ أَنَّ لِفُلَانٍ الثُّلُثَ وَالثُّلُثَانِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَأَنَّهُمَا صِنْفَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ نِصْفَ الثُّلُثِ لفلان ونصفه للفقراء والمساكين وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفًا واحدا وقوله تعالى والعاملين عليها فَإِنَّهُمْ السُّعَاةُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَةِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ بِقَدْرِ عِمَالَتِهِمْ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ الثَّمَنَ وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْهَا بِقَدْرِ عَمَلِهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ قِسْمَةَ الصَّدَقَاتِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجْزِي أَنْ يُعْطَى رَبُّ الْمَاشِيَةِ صَدَقَتَهَا الْفُقَرَاءَ فَإِنْ فَعَلَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ ثَانِيًا وَلَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَدَّى وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَدَاؤُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى عَامِلٍ لِجِبَايَتِهَا فَيَضُرُّ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا إلَى الْإِمَامِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إعْطَاؤُهَا الْفُقَرَاءَ قَوْله تَعَالَى وَالْمُؤَلَّفَةِ قلوبهم فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا يُتَأَلَّفُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَكَانُوا يُتَأَلَّفُونَ بِجِهَاتٍ ثَلَاثٍ إحداها للكبار لِدَفْعِ مَعَرَّتِهِمْ وَكَفِّ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالثَّانِيَةِ لِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلِئَلَّا يَمْنَعُوا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنْ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ وَالثَّالِثَةِ إعْطَاءُ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْكُفْرِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا إلَى الْكُفْرِ
وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَيْنَ زَيْدِ الْخَيْرِ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ وَقَالُوا يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ قال إنما أتألفهم
وروى بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ الْعَطَاءَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ وَمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّه فِي نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِهِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَالُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَ هَوَازِنَ وَطَفِقَ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يُعْطَى رِجَالًا
324
مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنْ الْإِبِلِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَذَكَرَ حَدِيثًا فِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ أُصَانِعُهُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّه إلَى رِحَالِكُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ بِمَا يُعْطِي قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَرْجِعُوا كُفَّارًا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ أعطانى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إلَيَّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ
وَرَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ بِحُنَيْنٍ وَقَسَمَ لِلْمُتَأَلَّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ مَا قَسَمَ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَهُمْ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْت بِهَا قوما لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلَى مَا قَسَمَ اللَّه لَكُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَأَلَّفَهُمْ لِيُسْلِمُوا وَفِي الْأَوَّلِ إنِّي لَأُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتَأَلَّفُ بِذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ جَمِيعًا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إنَّمَا كَانُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقَدْ أَعَزَّ اللَّه الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ وَاسْتَغْنَى بِهِمْ عَنْ تَأَلُّفِ الْكُفَّارِ فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِتَرْكِهِمْ الْجِهَادَ وَمَتَى اجْتَمَعُوا وَتَعَاضَدُوا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَأَلُّفِ غَيْرِهِمْ بِمَالٍ يُعْطَوْنَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَا يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّه إنَّ عِنْدَنَا أَرْضًا سَبِخَةً لَيْسَ فِيهَا كَلَأٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياها وَكَتَبَ لَهُمَا عَلَيْهَا كِتَابًا وَأَشْهَدَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ عُمَرُ فَانْطَلَقَا إلَى عُمَرَ لِيَشْهَدَ لَهُمَا فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ مَا فِي الْكِتَابِ تَنَاوَلَهُ من أيديهما ثم تفل فمحاه فتذمر او قالا مَقَالَةً سَيِّئَةً فَقَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَتَأَلَّفُكُمَا وَالْإِسْلَامُ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَإِنَّ اللَّه قد أغنى الإسلام اذهبا فاجهدا جهد كما لَا يَرْعَى اللَّه عَلَيْكُمَا إنْ رَعَيْتُمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّه فَتَرْكُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ النَّكِيرَ عَلَى عُمَرَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْدَ إمْضَائِهِ الْحُكْمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ مَذْهَبَ عُمَرَ فِيهِ حِينَ نَبَّهَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَكَثْرَةِ عَدَدِ الْكُفَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ الِاجْتِهَادَ سَائِغًا فِي
325
ذلك لأنه لوسوغ الِاجْتِهَادَ فِيهِ لَمَا أَجَازَ فَسْخَ الْحُكْمِ الَّذِي أَمْضَاهُ فَلَمَّا أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ بِتَنْبِيهِ عُمَرَ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِهِ وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ قُلُوبُهُمْ وَرَوَى إسْرَائِيلُ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَامِرٍ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قَالَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَ الرِّشَا وَرَوَى ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُبَارَكٍ عَنْ الحسن قال ليس المؤلفة قُلُوبُهُمْ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَرَوَى مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّه قَالَ سألت الزهري عن المؤلفة قَالَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ قُلْت وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا قَالَ وَإِنْ كَانَ غنيا قوله تعالى وفي الرقاب فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لَا يُجْزِي أَنْ تُعْتَقَ مِنْ الزَّكَاةِ رَقَبَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِك وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُعْتِقُ مِنْ الزَّكَاةِ مَخَافَةَ جَرِّ الولاء وقال فِي الرِّقَابِ إنَّهَا رِقَابٌ يُبْتَاعُونَ مِنْ الزَّكَاةِ وَيُعْتَقُونَ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُعْتِقِينَ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا وَلَا عَبْدًا مُوسِرًا كَانَ مَوْلَاهُ أَوْ مُعْسِرًا وَلَا يُعْطَوْنَ مِنْ الْكَفَّارَاتِ أَيْضًا قَالَ مَالِكٌ لَا يُعْتَقُ مِنْ الزَّكَاةِ إلَّا رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ الْمُكَاتَبِ مِنْ الزَّكَاةِ فَثَبَتَ أَنَّ إعْطَاءَهُ مُرَادٌ بِالْآيَةِ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ وَقَالَ اللَّه تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء- إلى قوله- وفي الرقاب وَعِتْقُ الرَّقَبَةِ لَا يُسَمَّى صَدَقَةً وَمَا أُعْطِيَ فِي ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فَلَيْسَ بِصَدَقَةٍ لِأَنَّ بَائِعَهَا أَخَذَهُ ثَمَنًا لِعَبْدِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ بِعِتْقِ الرَّقَبَةِ صَدَقَةٌ واللَّه تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الصَّدَقَاتِ فِي الرِّقَابِ فَمَا لَيْسَ بِصَدَقَةٍ فَهُوَ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَقْتَضِي تَمْلِيكًا وَالْعَبْدُ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا بِالْعِتْقِ وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ رَقَبَتِهِ وَهُوَ مِلْكٌ لِلْمَوْلَى وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الرِّقُّ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ لَوَجَبَ أَنْ يقوم فيها مَقَامَ الْمَوْلَى فَيَتَصَرَّفَ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ الْمَوْلَى فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي حَصَلَ لِلْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ سُقُوطُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ بِذَلِكَ شَيْئَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُجْزِيًا مِنْ الصَّدَقَةِ إذْ شَرْطُ الصَّدَقَةِ وُقُوعُ الْمِلْكِ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِتْقَ وَاقِعٌ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى غَيْرُ مُنْتَقِلٍ إلَى الْغَيْرِ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ وَلَاؤُهُ مِنْهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمَّا قَامَتْ الْحُجَّةُ
عَنْ رَسُولِ الله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ
وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُكَاتَبُونَ وَأَيْضًا
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ
326
ابن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ أَوْ غَازِيًا فِي عُسْرَتِهِ أَوْ مُجَاهِدًا فِي سبيل الله أضله اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ مَعُونَةٌ لَهُمْ فِي رِقَابِهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا وَذَلِكَ موافق لقوله تعالى وفي الرقاب
وَرَوَى طَلْحَةُ الْيَمَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ أعرابى للنبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ لَئِنْ كُنْت أَقْصَرْت الْخُطْبَةَ لَقَدْ عَرَضْت الْمَسْأَلَةَ أَعْتِقْ النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا سَوَاءً قَالَ لَا عِتْقُ النَّسْمَةِ أَنْ تَفُوزَ بعتقها وفك الرقبة أن وَاسْقِ الظَّمْآنَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَك إلَّا مِنْ خَيْرٍ
فَجَعَلَ عِتْقَ النَّسْمَةِ غَيْرَ فَكِّ الرقبة فلما قال وفي الرقاب كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي مَعُونَتِهَا بِأَنْ يُعْطَى الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَفُكَّ الْعَبْدُ رَقَبَتَهُ مِنْ الرِّقِّ وَلَيْسَ هُوَ ابْتِيَاعُهَا وَعِتْقُهَا لِأَنَّ الثَّمَنَ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَإِنَّمَا الْقُرْبَةُ فِي أَنْ يُعْطَى الْعَبْدُ نَفْسَهُ حَتَّى يَفُكَّ بِهِ رَقَبَتَهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ قَبْلَهَا يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى وَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا فَمَا يَأْخُذُهُ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمُكَاتَبِ فَيَجْزِي مِنْ الزَّكَاةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ عِتْقَ الرَّقَبَةِ يُسْقِطُ حَقَّ الْمَوْلَى عَنْ رَقَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَضَى دَيْنَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجْزِي مِنْ زَكَاتِهِ وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْغَارِمِ فَقَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ جَازَ كَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْغَارِمِ فَقَضَى بِهِ دَيْنَ نَفْسِهِ جَازَ كَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى الْمُكَاتَبِ فَمَلَكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَإِذَا أَعْتَقَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَحَصَلَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ قَبُولِهِ وَلَا إذنه قوله تعالى والغارمين قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُمْ الْمَدِينُونَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ فَضْلًا عَنْ دَيْنِهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
فَحَصَلَ لَنَا بِمَجْمُوعِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ أَنَّ الْغَارِمَ فَقِيرٌ إذْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ لَا تُعْطَى إلَّا الْفُقَرَاءَ بِقَضِيَّةِ
قَوْلِهِ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إذْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَالْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي بَعْضِ الْغَارِمِينَ دُونَ بَعْضٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُجْزِ مُعْطِيهِ إيَّاهَا وَإِنْ كَانَ غَارِمًا فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَا يَفْضُلُ لَهُ عَمَّا فِي يَدِهِ بَعْدَ قضاء دينه
327
مِقْدَارُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا فَيَجْعَلُ الْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَقَّ بِالدَّيْنِ مِمَّا فِي يَدِهِ كَأَنَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَمَا فَضَلَ عَنْهُ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَفِي جَعْلِهِ الصَّدَقَةَ لِلْغَارِمِينَ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْغَارِمَ إذَا كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةَ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَلَهُ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ الْحَمَالَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَاحْتَجَّ فِيهِ
بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ ابن الْمُخَارِقِ أَنَّهُ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِيهَا فَقَالَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذوى الحجى مِنْ قَوْمِهِ
أَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَمَالَةَ وَسَائِرَ الدُّيُونِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْحَمَالَةَ هِيَ الْكَفَالَةُ وَالْحَمِيلُ هُوَ الْكَفِيلُ فَإِذَا كان النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَجَازَ لَهُ الْمَسْأَلَةَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ عَلِمَ مُسَاوَاةَ دَيْنِ الكفالة وقد علم لِسَائِرِ الدُّيُونِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إبَاحَةُ الْمَسْأَلَةِ لِأَجْلِ الْحَمَالَةِ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَدَائِهَا وَكَانَ الْغُرْمُ الَّذِي لَزِمَهُ بِإِزَاءِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَبِي جعفر في قوله تعالى والغارمين قَالَ الْمُسْتَدِينُ فِي غَيْرِ سَرَفٍ حَقٌّ عَلَى الإمام يَقْضِيَ عَنْهُ وَقَالَ سَعِيدٌ فِي قَوْلِهِ وَالْغَارِمِينَ قَالَ نَاسٌ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ مِنْ غَيْرِ فَسَادٍ وَلَا إتْلَافٍ وَلَا تَبْذِيرٍ فَجَعَلَ اللَّه لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ فِي الدَّيْنِ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إفْسَادٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا لَمْ يُؤْمَنْ إذَا قَضَى دَيْنَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ مِثْلَهُ فَيَصْرِفَهُ فِي الْفَسَادِ فَكَرِهُوا قَضَاءَ دَيْنِ مِثْلِهِ لِئَلَّا يَجْعَلَهُ ذَرِيعَةً إلَى السَّرَفِ وَالْفَسَادِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ قَضَاءِ دَيْنِ مِثْلِهِ وَدَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ عَدَمَ الْفَسَادِ وَالتَّبْذِيرِ فِيمَا استدان على وجه الكراهة لا على وجه الْإِيجَابِ وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ والغارمين قَالَ الْغَارِمُ مَنْ ذَهَبَ السَّيْلُ بِمَالِهِ أَوْ أَصَابَهُ حَرِيقٌ فَأَذْهَبَ مَالَهُ أَوْ رَجُلٌ لَهُ عِيَالٌ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَيَسْتَدِينُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا يُسَمَّى غَرِيمًا لِأَنَّ الْغُرْمَ هُوَ اللُّزُومُ وَالْمُطَالَبَةُ فَمَنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ يُسَمَّى غَرِيمًا وَمَنْ لَهُ الدَّيْنُ أَيْضًا يُسَمَّى غَرِيمًا لِأَنَّ لَهُ اللُّزُومَ وَالْمُطَالَبَةَ فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ فَلَيْسَ بِغَرِيمٍ وَإِنَّمَا يُسَمَّى
328
فَقِيرًا أَوْ مِسْكِينًا
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم كان يستعذ باللَّه مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ
وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا لَزِمَهُ الدَّيْنُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِدٌ أَرَادَ مَنْ ذَهَبَ مَالُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَقَلُّ مِنْ مَالِهِ بِمِقْدَارِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْغَارِمِينَ الْمُرَادِينَ بِالْآيَةِ
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ سُمَيْطٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ وَلَا تَصْلُحُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْغُرْمِ الدَّيْنُ قَوْله تعالى وفي سبيل الله
رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّه أَوْ ابْنِ السَّبِيلِ أَوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَى لَهُ
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ قَائِلُونَ هِيَ لِلْمُجَاهِدِينَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ وَالْفُقَرَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُعْطَى مِنْهَا إلَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَى الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فإن أعطوا ملكوها وأجرأ الْمُعْطِي وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّ شَرْطَهَا تَمْلِيكُهُ وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَأَجْزَأَ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِفَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَجَدَهُ يُبَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك
فَلَمْ يَمْنَعْ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْمَحْمُولَ عَلَى الْفَرَسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ بَيْعِهَا وَإِنْ أَعْطَى حَاجًّا مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَ أَيْضًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاجْعَلْهُ فِيهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فِي الْحَاجِّ الْمُنْقَطِعِ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ بِهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَوْصَى بثلث ماله في سبيل الله أنه الفقراء الْغَزَاةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِأَغْنِيَاءِ الْغَزَاةِ أَخْذَ الصَّدَقَةِ
بِقَوْلِهِ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ إلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قِيلَ لَهُ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا فِي أَهْلِهِ وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأنث بِهِ فِي بَيْتِهِ وَخَادِمٍ يَخْدُمُهُ وَفَرَسٍ يَرْكَبُهُ وَلَهُ فَضْلُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتُهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ في سفر غزو واحتاج مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَّةِ إلَى مَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ فَيُنْفِقُ الْفَضْلَ عَنْ أَثَاثِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ في مبصره عَلَى السِّلَاحِ وَالْآلَةِ وَالْعُدَّةِ فَتَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ من دابة الأرض
329
أَوْ سِلَاحًا أَوْ شَيْئًا مِنْ آلَاتِ السَّفَرِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمِصْرِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَ إعْطَائِهِ الصَّدَقَةَ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ هُوَ خَرَجَ لِلْغَزْوِ فَاحْتَاجَ إلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَهُوَ غَنِيٌّ فِي هَذَا الْوَجْهِ فَهَذَا مَعْنَى
قوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الصَّدَقَةُ تَحِلُّ لِلْغَازِي الْغَنِيِّ
قَوْله تَعَالَى وابن السبيل هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطِعُ بِهِ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ هُوَ مَنْ يَعْزِمُ عَلَى السَّفَرِ وليس له ما يحتمل بِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ السَّبِيلَ هُوَ الطَّرِيقُ فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ابْنَ السَّبِيلِ وَلَا يَصِيرُ كَذَلِكَ بِالْعَزِيمَةِ كَمَا لا يكون مسافر بِالْعَزِيمَةِ وَقَالَ تَعَالَى وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُسَافِرُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ وَجَمِيعُ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فإنما يأخذ صَدَقَةً بِالْفَقْرِ وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا لَا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصَّدَقَةُ فِي يَدِ الْإِمَامِ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يُعْطِي الْإِمَامُ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْهَا لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَيُعْطِيهَا الْعَامِلِينَ عِوَضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ لَا عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأردها في فقرائكم
فبين أَنَّ الصَّدَقَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَأْخُذُهَا صَدَقَةً إلَّا بِالْفَقْرِ وَأَنَّ الْأَصْنَافَ الْمَذْكُورِينَ إنَّمَا ذُكِرُوا بَيَانًا لِأَسْبَابِ الْفَقْرِ.
بَابُ الْفَقِيرِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّه اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي إذَا مَلَكَهُ الرَّجُلُ دَخَلَ بِهِ فِي حَدِّ الْغَنِيِّ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ حَدِّ الْفَقِيرِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَقَالَ قَوْمٌ إذَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِذَلِكَ وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ حدثني سهيل بن الحنظلة قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ قُلْت يا رسول مَا ظَهْرُ غِنًى قَالَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ
وَقَالَ آخَرُونَ حتى يملك أربعين درهما أو عدلهما من الذهب واحتجوا لما
رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَالَ أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَسَمِعْته يَقُولُ لِرَجُلٍ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ
330
إلْحَافًا
وَالْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ عِدْلَهَا مِنْ الذَّهَبِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِمَا
رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لا يسئل عَبْدٌ مَسْأَلَةً وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ إلَّا جَاءَتْ شَيْئًا أَوْ كُدُوحًا أَوْ خُدُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا غِنَاهُ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ حِسَابُهَا مِنْ الذَّهَبِ
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّه قَالَا لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عِوَضُهَا مِنْ الذَّهَبِ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ لَا يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَلَا نُعْطِي مِنْهَا خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ آخَرُونَ حَتَّى يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِدْلَهَا مِنْ عرض أَوْ غَيْرِهِ فَاضِلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مسكن وخادم وأناث وَفَرَسٍ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وما
رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّه بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَأَلَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أواق سأل إلحافها
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
رَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ إن رجلا قال للنبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ آللَّه أَمَرَك أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ صَيْفِي عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ أَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إلَى فُقَرَائِهِمْ
وَرَوَى الْأَشْعَثُ عَنْ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ سَاعِيًا عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَيُقَسِّمَهَا فِي فُقَرَائِنَا
فلما جعل النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ فُقَرَاءَ وَأَغْنِيَاءَ وَأَوْجَبَ أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ صِنْفِ الْأَغْنِيَاءِ وَرَدَّهَا فِي الْفُقَرَاءِ لم تبق هاهنا وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا وَلَمَّا كَانَ الْغَنِيُّ هُوَ الَّذِي مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَمَا دُونَهَا لَمْ يَكُنْ مَالِكُهَا غَنِيًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ دُونَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ إبَاحَتُهَا مَوْقُوفَةً عَلَى الضَّرُورَةِ الَّتِي تَحِلُّ مَعَهَا الْمَيْتَةُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَدْخُلُ بِهِ فِي حَدِّ الْغِنَى وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ فَضْلًا عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا وَصَفْنَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ مثلها من غرض أَوْ غَيْرِهِ وَأَمَّا مِلْكُ الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَالْخَمْسِينَ الدِّرْهَمِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَارِدَةٌ فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ لَا فِي تَحْرِيمِهَا وَقَدْ تُكْرَهُ الْمَسْأَلَةُ لمن عنده ما يعنيه فِي الْوَقْتِ لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ مَا هاجر النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ
331
مَعَ كَثْرَةِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ فاستحب النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِمَنْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيه تَرْكَ الْمَسْأَلَةِ لِيَأْخُذَهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ مِمَّنْ لَا يَجِدُ شَيْئًا وَهُوَ نَحْوُ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّه وَمَنْ اسْتَعَفَّ أعفه اللَّه ومن لا يسئلنا أحب إلينا ممن يسئلنا
وقوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ له من أن يسئل النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ
فأمر النبي صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِإِعْطَاءِ السَّائِلِ مَعَ مِلْكِهِ لِلْفَرَسِ وَالْفَرَسُ فِي أَكْثَرِ الْحَالِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا
وَقَدْ رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْمَكِّيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنَّ لِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا أَفَمِسْكِينٌ أَنَا قَالَ نَعَمْ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْهَرَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْجَزَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي مُغِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّه عِنْدِي أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَمِسْكِينٌ أَنَا قَالَ نَعَمْ
فَأَبَاحَ لَهُ الصَّدَقَةَ مَعَ مِلْكِهِ لِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا حِينَ سَمَّاهُ مِسْكِينًا إذْ كَانَ اللَّه قَدْ جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِلْمَسَاكِينِ وَرَوَى أبو يوسف عن غالب ابن عُبَيْدِ اللَّه عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ يَقْبَلُ أَحَدُهُمْ الصَّدَقَةَ وَلَهُ مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَالْعَقَارِ قِيمَةُ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانُوا لَا يَمْنَعُونَ الزكاة من له من الْبَيْتُ وَالْخَادِمُ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ أُعْطِيَ مِنْ الزَّكَاةِ وَرَوَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ يُعْطَى مَنْ لَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ وَفَرَسٌ وَسِلَاحٌ يُعْطَى مَنْ إذا لم يكن له ذلك الشيء واحتاج إلَيْهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ قَائِلُونَ مَنْ كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا وَاحْتَجُّوا بِمَا
رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِثْلُهُ
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ
وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ عَلَى
332
وَجْهِ التَّحْرِيمِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ إعْطَائِهِ الزَّكَاةَ كَذَلِكَ الْقَوِيُّ الْمُكْتَسِبُ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْغِنَى الَّذِي يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَا الْغِنَى الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي حَيِّزِ مَنْ يَمْلِكُ مَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ إذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى غَنِيًّا لِاسْتِغْنَائِهِ بِمَا يَمْلِكُهُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمِلْكِ مِثْلِهِ وُجُوبُ الْغِنَى فَكَانَ قوله لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِلْمَسْأَلَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا فِي قَوْلِهِ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لَذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ مُخْتَلَفٌ فِي رَفْعِهِ فَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ مَرْفُوعًا عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّه بن عمرو
ورواه شُعْبَةُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ رَيْحَانَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ
فَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَظَاهِرُ قَوْله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين عَامٌّ فِي سَائِرِهِمْ مَنْ قَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَسْبِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَقِّ لِلسَّائِلِ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَكْتَسِبُ مِنْ الضُّعَفَاءِ فَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا قاضية ببطلان قوله القائل بأن الزكاة لا تعطى للفقير إذَا كَانَ قَوِيًّا مُكْتَسِبًا وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو الذين ذكرنا لاختلافهم في رفعه واضطرب مَتْنِهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ قَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ وَبَعْضُهُمْ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَقَدْ رُوِيَتْ أَخْبَارٌ هِيَ أَشَدُّ اسْتِفَاضَةً وَأَصَحُّ طُرُقًا مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مُعَارَضَةً لَهُمَا مِنْهَا
حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي إحْدَى ثَلَاثٍ فَذَكَرَ إحْدَاهُنَّ فَقْرٌ مُدْقِعٌ وَقَالَ أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
وَلَمْ يَشْرُطْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَدَمَ الْقُوَّةِ وَالْعَجْزَ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَمِنْهَا
حَدِيثُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ حَمَلَ إلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ صَدَقَةً فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم كانوا أقوياء مكتسين ولم يخص النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِهَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ زَمِنًا أَوْ عاجزا عن
333
الِاكْتِسَابِ وَمِنْهَا
حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْعَرَبِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَصَعَّدَ فِيهِمَا الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ فَلَمَّا قَالَ لَهُمَا إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا مَا أَعْطَاهُمَا مَعَ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَلَدِهِمَا وَقُوَّتِهِمَا
وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أنه لاحظ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ كَرَاهَةَ الْمَسْأَلَةِ وَمَحَبَّةَ النَّزَاهَةِ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مَا يُغْنِيهِ أَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ فَيَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهَا وَقَدْ يُطْلَقُ مِثْلُ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ لَا عَلَى وَجْهِ تَحْقِيقِ الْمَعْنَى كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جائع
وقال لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ
وَقَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ
وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ رَأْسًا حَتَّى تَحْرُمَ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَيْسَ حكمه كحكم الذي لا يسئل وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَلَا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ فِيهَا كَحَقِّ الزَّمِنِ الْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ وَيَدُلُّ عليه
قوله صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
فَعَمَّ سَائِرَ الْفُقَرَاءِ الزَّمْنَى منهم والأصحاء وأيضا قد كانت الصدقات والزكاة تحل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَيُعْطِيهَا فُقَرَاءَ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الصُّفَّةِ وَكَانُوا أَقْوِيَاءَ مُكْتَسِبِينَ وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّ بِهَا الزَّمْنَى دُونَ الْأَصِحَّاءِ وَعَلَى هَذَا أَمْرُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا يُخْرِجُونَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى الْفُقَرَاءِ والأقوياء وَالضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ مِنْهَا ذَوِي الْعَاهَاتِ وَالزَّمَانَةِ دُونَ الْأَقْوِيَاءِ الْأَصِحَّاءِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً وَغَيْرَ جَائِزَةٍ عَلَى الْأَقْوِيَاءِ الْمُكْتَسِبِينَ الْفُرُوضَ مِنْهَا أَوْ النَّوَافِلَ لَكَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم توقيف للكافة على حظر دفع الزكاة إلى الأقوياء من الفقراء والمكتسبين مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَوْقِيفٌ لِلْكَافَّةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إعْطَائِهَا الْأَقْوِيَاءَ الْمُتَكَسِّبِينَ مِنْ الْفُقَرَاءِ كَجَوَازِ إعْطَائِهَا الزَّمْنَى وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الِاكْتِسَابِ.
بَابُ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ
قَالَ أَصْحَابُنَا مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد حارث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمِيعًا وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُمْ وَوَلَدُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ عَنْهُمْ رِوَايَةً وَاَلَّذِي تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا بَأْسَ
334
بِهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ بِالْمَشْهُورِ أَنَّ فُقَرَاءَ بَنِي هَاشِمٍ يَدْخُلُونَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ ذَكَرَهُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَدْخُلُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا جميعا من قدمنا ذكره من آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ خَاصٌّ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْهُ دُونَ التَّطَوُّعِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَالتَّطَوُّعُ يحل وقال الثوري ولا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فَرْقًا بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَحْرُمُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَيَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إلَّا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ دُونَ النَّاسِ إلَّا بِثَلَاثٍ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَأَخْرَجَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ إنَّا آلَ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأَكَلْتهَا
وَرَوَى بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ
وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى شريك عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ عِيرُ الْمَدِينَةِ فاشترى منها النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَتَاعًا فَبَاعَهُ بِرِبْحِ أَوَاقٍ فِضَّةٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ لَا أَعُودُ أَنْ أَشْتَرِيَ بَعْدَهَا شَيْئًا وَلَيْسَ ثَمَنُهُ عِنْدِي
فَقَدْ تَصَدَّقَ عَلَى هَؤُلَاءِ ومن هَاشِمِيَّاتٌ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُنَّ كمن هَاشِمِيَّاتٍ وَجَائِزٌ أَنْ لَا يَكُنَّ هَاشِمِيَّاتٍ بَلْ زَوْجَاتِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ غَيْرِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَلْ عَرَبِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكُنَّ أَزْوَاجًا لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمَاتُوا عَنْهُنَّ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَأَيْضًا فَإِنَّ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عباس أخبر
335
فِيهِ بِحُكْمِهِ فِيهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَالْحَظْرُ مُتَأَخِّرٌ لِلْإِبَاحَةِ فَهَذَا أَوْلَى وَأَمَّا بنوا الْمُطَّلِبِ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ مِنْهُ كَقَرَابَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا خِلَافَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيْسُوا مِنْ أهل بيت النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وكذلك بنوا الْمُطَّلِبِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْخُمْسِ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي أُمَيَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي هَاشِمٍ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ قِيلَ لَهُ
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وسلم لم يعطهم للقربة فَحَسْبُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ يَا رَسُولَ اللَّه أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْك وأما بنوا المطلب فحن وَهُمْ فِي النَّسَبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَأَعْطَيْتهمْ وَلَمْ تعطنا فقال صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ تُفَارِقْنِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ بِالْقَرَابَةِ فَحَسْبُ بَلْ بِالنُّصْرَةِ وَالْقَرَابَةِ وَلَوْ كَانَتْ إجَابَتُهُمْ إيَّاهُ وَنُصْرَتُهُمْ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا آلُ أَبِي لَهَبٍ وَبَعْضَ آلِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجِيبُوهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَحْرُمَ عَلَى مَنْ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوهُ وَهَذَا سَاقِطٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ سَهْمَ الْخُمُسِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ خَاصٌّ مِنْهُمْ وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَرَأْيِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ خُصُوصُ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِي بعض آل النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَأَيْضًا فَلَيْسَ اسْتِحْقَاقُ سَهْمٍ مِنْ الْخُمْسِ أَصْلًا لِتَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ الْخُمْسِ وَلَمْ تَحْرُمْ عليهم الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَهَلْ أُرِيدُوا بِآيَةِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ مَوَالِيهمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ في تحريم الصدقات والمفروضات عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطَى مَوَالِيهمْ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَرْقَمَ بْنَ أَرْقَمَ الزُّهْرِيَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَاسْتَتْبَعَ أَبَا رَافِعٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ إنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ عَنْ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ هُرْمُزُ أَوْ كَيْسَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ يَا أَبَا فُلَانٍ إنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا تَأْكُلْ الصَّدَقَةَ
وَأَيْضًا لما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
وَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى مَنْ قَرُبَ نَسَبُهُ مِنْ النَّبِيِّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلم وهم بنوا هَاشِمٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوَالِيهمْ بِمَثَابَتِهِمْ إذْ كان النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَهُ لُحْمَةً كَالنَّسَبِ وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ أَخْذِ بَنِي هَاشِمٍ
336
لِلْعِمَالَةِ مِنْ الصَّدَقَةِ إذَا عَمِلُوا عَلَيْهَا فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ذَكَرَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ مِنْهَا
قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنَّمَا يَصْنَعُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي خُرُوجِهِ إلَى الْيَمَنِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا يَعْمَلُ عَلَى الصَّدَقَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَعْمَلُهَا لِيَأْخُذَ عِمَالَتَهَا فَأَمَّا إذَا عَمِلَ عَلَيْهَا مُتَبَرِّعًا عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا فَهَذَا لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ وَقَالَ آخَرُونَ لَا بَأْسَ بِالْعِمَالَةِ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ جَيْشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ انْطَلِقَا إلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعْمِلُكُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَا فَحَدَّثَا نَبِيَّ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بِحَاجَتِهِمَا فَقَالَ لَهُمَا نَبِيُّ اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي إنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمَا أَوْ يَكْفِيكُمَا
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَبَّاسِ سَلْ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَك عَلَى الصَّدَقَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَسْتَعْمِلكَ عَلَى غُسَالَةِ ذُنُوبِ النَّاسِ
وَرَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا عَلَى الصَّدَقَةِ لِيُصِيبَا مِنْهَا فَقَالَ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ فَمَنَعَهُمَا أَخْذَ الْعِمَالَةِ وَمَنَعَ أَبَا رَافِعٍ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ
وَاحْتَجَّ الْمُبِيحُونَ لذلك بأن
النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا إلَى الْيَمَنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَبُو سَعِيدٍ
جَمِيعًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا لَهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ عِمَالَتَهُ مِنْهَا وَقَدْ قَالَ اللَّه تعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه وآله وسلم خذ من أموالهم صدقة ومعلوم أنه صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الصَّدَقَةِ عِمَالَةً
وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حِينَ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْحَرْبَ بِهَا
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ رِزْقَهُ مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لَا مِنْ جِهَةِ الصَّدَقَةِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَنِيُّ عِمَالَتَهُ مِنْهَا وإن لم تحل له الصدقة فكذلك بنوا هَاشِمٍ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ الْغَنِيَّ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ افْتَقَرَ أَخَذَ مِنْهَا وَالْهَاشِمِيَّ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا بِحَالٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْعَامِلَ لَا يَأْخُذُ عِمَالَتَهُ صَدَقَةً وَإِنَّمَا يَأْخُذُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تهدى للنبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مِمَّا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهَا
وَيَقُولُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ
قِيلَ لَهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ تَحْصُلُ فِي مِلْكِ بَرِيرَةَ ثُمَّ تُهْدِيهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ فَكَانَ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتَصَدِّقِ وَبَيْنَ مِلْكِ النبي
337
صلى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ وَاسِطَةُ مِلْكٍ آخَرَ وَلَيْسَ بَيْنَ مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَبَيْنَ مِلْكِ الْعَامِلِ وَاسِطَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي مِلْكِ الْفُقَرَاءِ حَتَّى يَأْخُذَهَا الْعَامِلُ.
بَابُ مَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ
قَالَ اللَّه تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء والمساكين فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ جَوَازَ إعْطَائِهَا لِمَنْ شَمِلَهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا لَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ بَعْضِ الْأَقْرِبَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا لا يعطى منها والد وَإِنْ عَلَا وَلَا وَلَدًا وَإِنْ سَفَلَ وَلَا امْرَأَةً وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُعْطَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ قَرَابَتُهُ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ وَإِنَّمَا يُعْطَى مَنْ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ فِي عِيَالِهِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَتَخَطَّى بِزَكَاةِ مَالِهِ فُقَرَاءَ أَقَارِبِهِ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ عِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ عَلَى مَوَالِيهِ مِنْ غَيْرِ زَكَاةٍ ماله وَقَالَ اللَّيْثُ لَا يُعْطَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ مَنْ يَعُولُ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَيُعْطَى الرَّجُلُ مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَالزَّوْجَةَ إذَا كَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك
وَقَالَ إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ
وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَإِذَا كَانَ مَالُ الرَّجُلِ مُضَافًا إلَى أَبِيهِ وَمَوْصُوفًا بِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ مَتَى أَعْطَى ابْنَهُ فَكَأَنَّهُ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ لِأَنَّ مِلْكَ ابْنِهِ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَلَمْ تَحْصُلْ صَدَقَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي الِابْنِ فَالْأَبُ مِثْلُهُ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى الْآخَرِ مِنْ طَرِيقِ الْوِلَادَةِ وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا بُطْلَانُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَلَمَّا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُحَصِّلُهُ بِشَهَادَتِهِ لِصَاحِبِهِ كَأَنَّهُ يُحَصِّلُهُ لِنَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إعْطَاؤُهُ إيَّاهُ الزَّكَاةَ كَتَبْقِيَتِهِ فِي مِلْكِهِ وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ إخْرَاجَهَا إلَى مِلْكِ الْفَقِيرِ إخْرَاجًا صَحِيحًا وَمَتَى أَخْرَجَهَا إلَى مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ شَهَادَتُهُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ زَوْجَتَهُ مِنْهَا وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ يَلْزَمُهُ وَلَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ الدُّيُونِ الَّتِي ثَبَتَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتُهَا مِنْ جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَعُمُومُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِهَا إلَيْهِ بِاسْمِ الْفَقْرِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهِ فَلَمْ يَجُزْ إخْرَاجُهَا لِأَجْلِ النَّفَقَةِ مِنْ عُمُومِهَا وَأَيْضًا
قَالَ النبي صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ
338
مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ
وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَوَازِ دَفْعِ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ إلَى مَنْ يَعُولُ وَخَرَجَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ وَالزَّوْجَانِ بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ إعْطَاءُ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّهُ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ مُسْتَغْنِيَيْنِ بِقَدْرِ الْكَفَافِ وَلَمْ تَكُنْ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ نَفَقَتُهُمَا لَمَا جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمَا مِنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُمَا مَمْنُوعَانِ مِنْهَا مَعَ لُزُومِ النَّفَقَةِ وَسُقُوطِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَيْهِمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْسُوبٌ إلَى الْآخَرِ بِالْوِلَادَةِ وَأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يجوز شَهَادَتُهُ لِلْآخَرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عِلَّةٌ فِي مَنْعِ دَفْعِ الزَّكَاةِ وَاخْتَلَفُوا فِي إعْطَاءِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا تُعْطِيهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ تُعْطِيهِ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْطِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ زَكَاتِهِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ دَفْعِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِدَفْعِ زَكَاتِهَا إلَيْهِ
بِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَى أَيْتَامٍ لِأَخِيهَا فِي حِجْرِهَا فَقَالَ لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ
قِيلَ لَهُ كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَأَلْفَاظُ الْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَالَ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ بِحُلِيِّكُنَّ جَمَعْت حُلِيًّا لِي
وَأَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ فَسَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نَاجِيَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْجَزَرِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ لِي طَوْقًا فِيهِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا أَفَأُؤَدِّي زَكَاتَهُ قَالَ نَعَمْ نِصْفَ مِثْقَالٍ قَالَتْ فَإِنَّ فِي حِجْرِي بنى أَخٍ لِي أَيْتَامًا أَفَأَجْعَلُهُ أَوْ أَضَعُهُ فِيهِمْ قَالَ نَعَمْ
فَبَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ زَكَاتِهَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ إعْطَاءِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهِ إعْطَاءَ بَنِي أَخِيهَا وَنَحْنُ نُجِيزُ ذَلِكَ وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى زَوْجِهَا وَبَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا وَسَأَلَتْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَنْ زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَدَفْعِهَا إلَى بَنِي أَخِيهَا فَأَجَازَهَا وَنَحْنُ نُجِيزُ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى بَنِي الْأَخِ وَاخْتُلِفَ فِي إعْطَاءِ الذِّمِّيِّ مِنْ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُعْطَى الذِّمِّيُّ مِنْ الزَّكَاةِ وقال أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يعطى
339
مِنْ الزَّكَاةِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ إذَا لَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا أَعْطَى الذِّمِّيَّ فَقِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالْمَكَانِ الَّذِي هُوَ بِهِ مُسْلِمٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُسْلِمٌ فَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى إعْطَائِهَا لِلذِّمِّيِّ الَّذِي هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ أَخَذَهَا إلَى الْإِمَامِ مَقْصُورَةً على فقراء المسلمين ولا يجوز إعطاؤها للكفار وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْلِمُونَ لَمْ يُعْطَ الْكُفَّارُ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفَّارَ لاحظ لَهُمْ فِي الزَّكَاةِ إذْ لَوْ جَازَ إعْطَاؤُهَا إيَّاهُمْ بِحَالٍ لَجَازَ فِي كُلِّ حَالٍ لِوُجُودِ الفقر كسائر الفقراء الْمُسْلِمِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَ زَكَاتِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَقَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِسْكِينًا وَاحِدًا وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَقَلُّ مَا يُعْطَى أَهْلُ السَّهْمِ مِنْ سِهَامِ الزَّكَاةِ ثَلَاثَةٌ فَإِنْ أَعْطَى اثْنَيْنِ وَهُوَ يَجِدُ الثَّالِثَ ضَمِنَ ثُلُثَ سَهْمٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء اسْمٌ لِلْجِنْسِ فِي الْمَدْفُوعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِمْ وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ إذَا أُطْلِقَتْ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ بِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا الْكُلُّ وَإِمَّا أَدْنَاهُ وَلَا تَخْتَصُّ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ إذْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْعَدَدِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وقوله الزانية والزانى وقوله وخلق الإنسان ضعيفا وَنَحْوِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهَا عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْجَمْعِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت النِّسَاءَ أَوْ اشْتَرَيْت الْعَبِيدَ أَنَّهُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمْ وَلَوْ قَالَ إنْ شَرِبْت الْمَاءَ أَوْ أَكَلْت الطَّعَامَ كَانَ عَلَى الْجُزْءِ مِنْهَا لَا عَلَى اسْتِيعَابِ جَمِيعِ مَا تَحْتَهُ وَقَالُوا لَوْ أَرَادَ بِيَمِينِهِ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ كَانَ مُصَدَّقًا وَلَمْ يَحْنَثْ أَبَدًا إذْ كَانَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ إمَّا اسْتِيعَابُ الْجَمِيعِ أَوْ أَدْنَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنْهُ وَلَيْسَ لِلْجَمِيعِ حَظٌّ فِي ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِيهِ وَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ اسْتِيعَابَ الْجِنْسِ كُلِّهِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ فَبَطَلَ قَوْلُ من اعتبر ثلاثة منهم وأيضا لما يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ فِي هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَعْدَادِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ بَعْضٍ إذْ لَا يَخْتَصُّ الِاسْمُ بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ وَأَيْضًا لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ وَقَدْ عَلِمْنَا تَعَذُّرَ اسْتِيفَائِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ دل على
340
سُقُوطِ اعْتِبَارِهِ إذْ كَانَ فِي اعْتِبَارِهِ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى إسْقَاطِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ فَقَالَ أبو يوسف يجزيهم وَضْعُهُ فِي فَقِيرٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجْزِي إلَّا فِي اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا شَبَّهَهُ أَبُو يُوسُفَ بِالصَّدَقَاتِ وَهُوَ أَقْيَسُ وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تُقَسَّمُ صَدَقَةُ كُلِّ بَلَدٍ فِي فُقَرَائِهِ وَلَا يُخْرِجُهَا إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِهِ فَأَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ جَازَ وَيُكْرَهُ وَرَوَى عَلِيٌّ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبْعَثَ الزَّكَاةَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إلَى ذِي قَرَابَتِهِ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فَحَدَّثْت بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ هَذَا حَسَنٌ وَلَيْسَ لَنَا فِي هَذَا سَمَاعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ فَكَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ لَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ إلَّا لِذِي قَرَابَتِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ يُؤَدِّيهَا حَيْثُ هُوَ وَعَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ حَيْثُ هُمْ وَزَكَاةِ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا تُنْقَلُ صَدَقَةُ الْمَالِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا أَنْ تَفْضُلَ فَتُنْقَلَ إلَى أَقْرَبِ الْبُلْدَانِ إلَيْهِمْ قَالَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَلَّتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَمَالُهُ بِمِصْرَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ زَكَاتَهُ بِالْمَدِينَةِ وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ حَيْثُ هُوَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا تُنْقَلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ وَكَرِهَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ نَقْلَهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَهُوَ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ إنَّهُ إنْ كَانَتْ رَجْعَتُهُ إلَى بَلَدِهِ قَرِيبَةً فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْدَمَ بَلَدَهُ فَيُخْرِجَهَا وَلَوْ أَدَّاهَا حَيْثُ هُوَ رَجَوْت أَنْ تُجْزِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ طويلة وأراد المقام بها فإنه يؤد زَكَاتَهُ حَيْثُ هُوَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَخْرَجَهَا إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّ عَلَيْهِ
الْإِعَادَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَائِهَا فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا أَيُّ مَوْضِعٍ أَدَّى فِيهِ أَجْزَأَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّا لَمْ نَرَ فِي الْأُصُولِ صَدَقَةً مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهَا فِي غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهَا بِأَدَائِهَا فِي مَكَان دُونَ غَيْرِهِ وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُهَا مِنْ الْيَمَنِ
341
إلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا أَحْوَجَ إلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَنَّهُ نَقَلَ صَدَقَةَ طَيِّئٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِلَادُهُمْ بالبعد من المدينة ونقل أيضا عدى ابن حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ صَدَقَاتِ قَوْمِهِمَا إلَى أبى بكر الصديق رضى الله عنه مِنْ بِلَادِ طَيِّئٍ وَبِلَادِ بَنِي تَمِيمٍ فَاسْتَعَانَ بِهَا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَإِنَّمَا كَرِهُوا نَقْلَهَا إلَى بَلَدِ غَيْرِهِ إذَا تَسَاوَى أَهْلُ الْبَلَدَيْنِ فِي الْحَاجَةِ لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ
وَذَلِكَ يَقْتَضِي رَدَّهَا فِي فُقَرَاءِ الْمَأْخُوذِينَ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نَقْلُهَا إلَى ذِي قَرَابَتِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ لِمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ وَحَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَدَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى قَرَابَتِهِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الصَّدَقَةَ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ تُضَاعَفُ مَرَّتَيْنِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديث زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ سَأَلَتْهُ عَنْ صَدَقَتِهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَأَيْتَامِ بَنِي أَخٍ لَهَا فِي حِجْرِهَا فَقَالَ لَك أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا على بن الحسين ابن يَزِيدَ الصُّدَائِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أيوب ابن بَشِيرٍ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ قَالَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أن الصدقة على ذي الرحم المحرم وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَلِذَلِكَ قَالَ يَجُوزُ نَقْلُهَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ إذَا أَعْطَاهَا ذَا قَرَابَتِهِ وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ إنَّهُ يُؤَدِّيهَا عَنْ نَفْسِهِ حَيْثُ هُوَ وَعَنْ رَفِيقِهِ وَوَلَدِهِ حَيْثُ هُمْ لِأَنَّهَا مُؤَدَّاةٌ عَنْهُمْ فَكَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ الْمَالِ حَيْثُ الْمَالُ كَذَلِكَ تُؤَدَّى صَدَقَةُ الْفِطْرِ حَيْثُ المؤدى عنه.
فِيمَا يُعْطَى مِسْكِينٌ وَاحِدٌ مِنْ الزَّكَاةِ
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْطَى إنْسَانٌ مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ أَعْطَيْته أَجْزَاك وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُعْطِيَهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَالَ وَأَنْ يُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ لَهُ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ أَنَّهُ يَقْبَلُ وَاحِدًا
342
وَيَرُدُّ وَاحِدًا فَقَدْ أَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ تَمَامَ الْمِائَتَيْنِ وَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَ مَا فَوْقَهَا وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ غَارِمًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ اللَّيْثُ يُعْطَى مِقْدَارُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ خَادِمًا إذَا كَانَ ذَا عِيَالٍ وَالزَّكَاةُ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَحُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا وَاعْتَبَرَ مَا يَرْفَعُ الْحَاجَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَيْسَ فِيهِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ مَا يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ وَتَعَذُّرِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ دَفْعُهَا إلَى بَعْضٍ أَيِّ بَعْضٍ كَانَ وَأَقَلُّهُمْ وَاحِدٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مُخَاطَبٌ بِذَلِكَ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمِيعَ صَدَقَتِهِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ قَلَّ الْمَدْفُوعُ أَوْ كَثُرَ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ جَوَازُ دَفْعِ الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْ الزَّكَاةِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ لِمِقْدَارِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّفْعَ وَالتَّمْلِيكَ يُصَادِفَانِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِحُصُولِ التَّمْلِيكِ فِي الْحَالَتَيْنِ لِلْفَقِيرِ وَإِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حنيفة أن يعطى إنسانا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ هِيَ النِّصَابُ الْكَامِلُ فَيَكُونُ غَنِيًّا مَعَ تَمَامِ مِلْكِ الصَّدَقَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الزَّكَوَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ لِيَنْتَفِعُوا بِهَا وَيَتَمَلَّكُوهَا فَلَا يَحْصُلُ لَهُ التَّمْكِينُ مِنْ الِانْتِفَاعِ إلَّا وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَرِهَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ دَفْعَ نِصَابٍ كَامِلٍ وَمَتَى دَفَعَ إلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَيَحْصُلُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا وَهُوَ فَقِيرٌ فَلَمْ يَكْرَهْهُ إذْ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا لَمْ يَصِرْ غَنِيًّا فَالنِّصَابُ عِنْدَ وُقُوعِ التَّمْلِيكِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَأَمَّا قول أبى حنيفة وأن يغنى بها إنسان أَحَبُّ إلَيَّ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِ بِهِ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَيَكُفُّ بِهِ وَجْهَهُ وَيَتَصَرَّفُ بِهِ فِي ضَرْبٍ مِنْ الْمَعَاشِ وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ أَعْطَى زَكَاتَهُ رَجُلًا ظَاهِرُهُ الْفَقْرُ فَأَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَجْزِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ أَوْ إلَى ذِمِّيٍّ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يجزيه وقال أبو يوسف لا يجزيه وذهب أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْرَجَ صَدَقَةً فَدَفَعَهَا إلَيْهِ لَيْلًا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا إيَّاكَ أَرَدْت وَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ لَك مَا نَوَيْت يَا يَزِيدُ وَقَالَ لِمَعْنٍ لَك مَا أَخَذْت
ولم يسئله أَنَوَيْتهَا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ غَيْرِهَا بَلْ
قَالَ لَك مَا نَوَيْت
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا إنْ نواها زكاة
343
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ قَدْ تَكُونُ صَدَقَةً صَحِيحَةً مِنْ وَجْهٍ فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فَأَشْبَهَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الصَّلَاةَ إلَى الْكَعْبَةِ إذَا أَدَّاهَا بِاجْتِهَادٍ صَحِيحٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَهَا كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً إذْ كَانَتْ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ قَدْ تَكُونُ صَلَاةً صَحِيحَةً مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهُوَ الْمُصَلِّي تَطَوُّعًا عَلَى الرَّاحِلَةِ فَكَانَ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ بِاجْتِهَادٍ مُشْبِهًا لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الزَّكَاةِ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ يَظُنُّهُ طَاهِرًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَلَا تَجْزِيهِ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينِ كَذَلِكَ مُؤَدِّي الزَّكَاةِ إلَى غَنِيٍّ أَوْ ابْنِهِ أَوْ ذِمِّيٍّ إذَا عَلِمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ اجْتِهَادٍ إلَى يَقِينٍ فَبَطَلَ حُكْمُ اجْتِهَادِهِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَا يَكُونُ طَهَارَةً بِحَالٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلِاجْتِهَادِ تَأْثِيرٌ فِي جَوَازِهِ وَتَرْكُ الْقِبْلَةِ جَائِزٌ فِي أحوال فمسئلتنا بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَشْبَهُ فَإِنْ قِيلَ الصَّلَاةُ قَدْ تَجُوزُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي حَالٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ أَدَّاهَا بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ ثُمَّ تَبَيَّنَ النَّجَاسَةَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَلَمْ يَكُنْ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الثوب النجس بحال موجبا لجواز أداءها بِالِاجْتِهَادِ مَتَى صَارَ إلَى يَقِينِ النَّجَاسَةِ قِيلَ لَهُ أَغْفَلْت مَعْنَى اعْتِلَالِنَا لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ تَرْكَ الْقِبْلَةِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَجَوَازِ إعْطَاءِ هَؤُلَاءِ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ بِالْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي فِعْلِ التَّطَوُّعِ كَمَا لَا ضَرُورَةَ بِالْمُتَصَدِّقِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَمَّا اسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اشْتَبَهَا فِي الْحُكْمِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ وَيَسْتَوِي فِيهِ حُكْمُ مُصَلِّي الْفَرْضِ أَوْ مُتَنَفِّلٍ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا.
بَابُ دَفْعِ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الْآيَةَ
فَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا إذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الصَّدَقَةَ صِنْفًا وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ أَجْزَأَهُ
وَرَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحُذَيْفَةَ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَلَا يُرْوَى عَنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَصَارَ إجْمَاعًا مِنْ السَّلَفِ لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ لِظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ظَهَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
344
مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الْعُرُوضَ فِي الزَّكَاةِ وَيَجْعَلُهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ومحمد وزفر ومالك ابن أَنَسٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تُقَسَّمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ إلَّا أَنْ يُفْقَدَ صِنْفٌ فَتُقَسَّمُ فِي الْبَاقِينَ لَا يَجْزِي غَيْرُهُ وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ السَّلَفِ وَمُخَالِفٌ لِلْآثَارِ وَالسُّنَنِ وَظَاهِرِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ دَفْعَ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَسْبَابِ الْفَقْرِ لَا قِسْمَتُهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى فِي أَمْوَالِهِمْ حق معلوم للسائل والمحروم وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ إعْطَاءِ الصَّدَقَةِ هَذَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ قِسْمَتِهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الصَّدَقَاتِ وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا في كل زمان وقوله تعالى للفقراء إلَى آخِرِهِ عُمُومٌ أَيْضًا فِي سَائِرِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لم يرد منهم قِسْمَةَ كُلِّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَوْجُودِينَ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ لِاسْتِحَالَةِ إمْكَانِ ذَلِكَ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَجْزِيَ إعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ وَاحِدٍ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ وَإِعْطَاءُ صَدَقَةِ عَامٍ ثَانٍ لِصِنْفٍ آخَرَ ثُمَّ كَذَلِكَ صَدَقَةُ كُلِّ عَامٍ لِصِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ عَلَى مَا يَرَى الْإِمَامُ قِسْمَتَهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ صَدَقَةَ عَامٍ وَاحِدٍ أَوْ رَجُلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِالشَّرِكَةِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُحْرَمَ الْبَعْضُ مِنْهُمْ وَيُعْطَى الْبَعْضُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصِدَ صَرْفُهَا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْأَصْنَافِ كَمَا جَازَ إعْطَاؤُهَا بَعْضَ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ حَقًّا لَهُمْ جَمِيعًا لَمَا جَازَ حِرْمَانُ الْبَعْضِ وَإِعْطَاءُ الْبَعْضِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يُطْعَمُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْطَلِقَ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ لِيَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَاتِهِمْ
فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفْعَ صَدَقَاتِهِمْ إلَى سَلَمَةَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ
وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا
ولم يسئلهما مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُمَا لِيَحْسِبَهُمَا مِنْ الصِّنْفِ ويدل على أنها مستحقة بالفقر
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
345
أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
وَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أغنيائهم ويرد فِي فُقَرَائِهِمْ
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ هُوَ الْفَقْرُ لِأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ الصَّدَقَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ إلَى الْفُقَرَاءِ وَهَذَا اللَّفْظُ مَعَ مَا تَضَمَّنَ مِنْ الدَّلَالَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْتَحَقَّ بِهِ الصَّدَقَةُ هُوَ الْفَقْرُ وَأَنَّ عُمُومَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ إلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى لَا يُعْطَى غَيْرُهُمْ بَلْ ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إيجَابَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت فَإِنْ قِيلَ الْعَامِلُ يَسْتَحِقُّهُ لَا بِالْفَقْرِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الصَّدَقَةُ لِلْفُقَرَاءِ ثُمَّ يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ عِوَضًا مِنْ عَمَلِهِ لَا صَدَقَةً كَفَقِيرٍ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا عِوَضًا عَنْ عَمَلٍ عُمِلَ لَهُ وَكَمَا كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَى بَرِيرَةَ فَتُهْدِيه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً لِلنَّبِيِّ وَصَدَقَةً لِبَرِيرَةَ فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ قَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً لَا بِالْفَقْرِ قِيلَ لَهُ لَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ تَحْصُلُ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ فَيُدْفَعُ بَعْضُهَا إلَى الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِمْ عَنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلْيُسْلِمُوا فَيَكُونُوا قُوَّةً لَهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَهَا صَدَقَةً بَلْ كَانَتْ تَحْصُلُ صَدَقَةً فَتُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ إذْ كَانَ مَالُ الْفُقَرَاءِ جَائِزًا صَرْفُهُ فِي بَعْضِ مَصَالِحِهِمْ إذْ كَانَ الْإِمَامُ يَلِي عَلَيْهِمْ وَيَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِهِمْ فَأَمَّا ذِكْرُ الْأَصْنَافِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ لِبَيَانِ أَسْبَابِ الْفَقْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَارِمَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْغَازِي لَا يَسْتَحِقُّونَهَا إلَّا بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ دُونَ غَيْرِهِمَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَهَا هُوَ الْفَقْرُ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بن أنعم عَنْ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ يَقُولُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَقُلْت أَعْطِنِي مِنْ صَدَقَاتِهِمْ فَفَعَلَ وَكَتَبَ لِي بِذَلِكَ كِتَابًا فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا مِنْ السَّمَاءِ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك مِنْهَا قِيلَ لَهُ
هَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا لِأَنَّهُ قَالَ إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك فَبَانَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِلصُّدَائِيِّ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَقَةِ قومه ولم يسئله مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ هُوَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ مَعْنَاهُ لِيُوضَعَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا جميعها إنْ رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ وَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ جَمِيعِهِمْ وَأَيْضًا فَلَيْسَ تَخْلُو الصَّدَقَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَقَّةً بِالِاسْمِ أَوْ بِالْحَاجَةِ أَوْ بِهِمَا
346
جَمِيعًا وَفَاسِدٌ أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا كُلُّ غَارِمٍ وَكُلُّ ابْنِ سَبِيلٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَهَذَا بَاطِلٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ اجْتَمَعَ لَهُ الْفَقْرُ وَابْنُ السَّبِيلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ سَهْمَيْنِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الْآيَةَ يَقْتَضِي إيجَابَ الشَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ صِنْفٍ مِنْهَا كَمَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ لَمْ يُحْرِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قِيلَ لَهُ هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ فِي جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ فَيُعْطِي صَدَقَةَ الْعَامِ صِنْفًا وَاحِدًا وَيُعْطِي صَدَقَةَ عَامٍ آخَرَ صِنْفًا آخَرَ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَمَجْرَى الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فِي صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ هَلْ يَسْتَحِقُّهَا الْأَصْنَافُ كُلُّهَا وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ حُكْمِ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا فِيهَا حُكْمُ الصَّدَقَاتِ كُلِّهَا فَنُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَنَكُونُ قَدْ وَفَّيْنَا الْآيَةَ حَقَّهَا مِنْ مُقْتَضَاهَا وَاسْتَعْمَلْنَا سَائِرَ الْآيِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا وَالْآثَارَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلَ السَّلَفِ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ قِسْمَةِ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَرَدِّ أَحْكَامِ سَائِرِ الْآيِ وَالسُّنَنِ الَّتِي قَدَّمْنَا وَبِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا انْفَصَلَتْ الصَّدَقَاتُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِأَعْيَانٍ لأن المسلمين لهم محصورون وكذلك والثلث فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَحِقُّوهُ بِالشَّرِكَةِ وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الصَّدَقَاتِ غير مستحقة على وجه الشركة للمسلمين لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ إعْطَاءِ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا جَائِزٌ إخْرَاجُ بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ وَأَيْضًا لَمَا جَازَ التَّفْضِيلُ فِي الصَّدَقَاتِ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْوَصَايَا المطلقة كذلك جاز بَعْضِ الْأَصْنَافِ كَمَا جَازَ حِرْمَانُ بَعْضِ الْفُقَرَاءِ فَفَارَقَ الْوَصَايَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الصَّدَقَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِآدَمِيٍّ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لِآدَمِيٍّ يَسْتَحِقُّهَا لِنَفْسِهِ فَأَيُّ صِنْفٍ أُعْطِيَ فَقَدْ وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا وَالْوَصِيَّةُ لِأَعْيَانٍ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا مُطَالَبَةَ لِغَيْرِهِمْ بِهَا فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي الْكَفَّارَةِ إطْعَامَ مَسَاكِين وَلَوْ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ جَازَ فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَ مَا سَمَّى لِلْمَسَاكِينِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْوَصِيَّةُ مُخَالِفَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِزَيْدٍ لَمْ يُعْطَ عَمْرٌو.
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بالله ويؤمن للمؤمنين قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ يَقُولُونَ هُوَ صَاحِبُ أُذُنٍ يُصْغِي إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَقِيلَ إنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَذَنَ يَأْذِنُ إذَا سمع قول الشاعر:
فِي سَمَاعٍ يَأْذِنُ الشَّيْخُ لَهُ وَحَدِيثٍ مِثْلِ ما ذي مُشَارِ
وَمَعْنَاهُ أُذُنُ صَلَاحٍ لَكُمْ لَا أُذُنُ شر وقوله يؤمن للمؤمنين قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُولُ اللَّامِ هاهنا كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ ردف لكم وَمَعْنَاهُ رَدِفَكُمْ وَقِيلَ إنَّمَا أُدْخِلَتْ اللَّامُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ إيمَانِ التَّصْدِيقِ وَإِيمَانِ الْأَمَانِ فَإِذَا قِيلَ ويؤمن للمؤمنين لَمْ يُعْقَلْ بِهِ غَيْرُ التَّصْدِيقِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أَيْ لَنْ نُصَدِّقَكُمْ وَكَقَوْلِهِ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لنا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ أَنَّهُ يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ وَهَذَا لَعَمْرِي يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ فِي أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ فَأَمَّا أَخْبَارُ الدِّيَانَاتِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إلَى أَنْ يَسْمَعَهَا مِنْ أَحَدٍ إذْ كَانَ الْجَمِيعُ عَنْهُ يَأْخُذُونَ وَبِهِ يَقْتَدُونَ فِيهَا
قَوْله تَعَالَى والله ورسوله أحق أن يرضوه قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا رَدَّ ضَمِيرَ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِهِ يُرْضُوهُ لِأَنَّ رِضَا اللَّهِ يَنْتَظِمُ رِضَا الرَّسُولِ إذْ كُلُّ مَا رَضِيَ اللَّهُ فَقَدْ رَضِيَهُ الرَّسُولُ فَتَرَكَ ذِكْرَ ضَمِيرِ الرَّسُولِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَقِيلَ إنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُجْمَعُ مَعَ اسْمِ غَيْرِهِ فِي الْكِنَايَةِ تَعْظِيمًا بِإِفْرَادِ الذِّكْرِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ فَبِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ فَأَنْكَرَ الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ اللَّهِ وَبَيْنَ اسْمِهِ فِي الْكِنَايَةِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيُ عَنْ جَمْعِ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ إلَى اسْمِهِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَقَالَ لَا تَقُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ
قَوْله تَعَالَى يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أن تنزل عليهم قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ كَانُوا يَحْذَرُونَ فَحَمَلَاهُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَحْذَرُونَ وَقَالَ غَيْرُهُمَا صُورَتُهُ صُورَةُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ تَقْدِيرُهُ لِيَحْذَرْ الْمُنَافِقُونَ وقَوْله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تحذرون إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ بِإِخْرَاجِ إضْمَارِ السُّوءِ وَإِظْهَارِهِ وَهَتْكِ صَاحِبِهِ بِمَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ بِهِ وَيَفْضَحُهُ وَذَلِكَ إخْبَارٌ عَنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَحْذِيرٌ لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مُضْمِرِي السُّوءِ وَكَاتِمِيهِ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَاَللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
قَوْله تَعَالَى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونلعب- إلى قوله- إن نعف فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ اللَّاعِبَ وَالْجَادَّ سَوَاءٌ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا ما قالوا لَعِبًا فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّعِبِ بِذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ
يَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِّ وَحُصُونَهَا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ قَالُوهُ من جد أو هزل فدل عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ كُفْرٌ فَاعِلِهِ
قَوْله تَعَالَى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بعض أَضَافَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ فَهُمْ مُتَشَاكِلُونَ مُتَشَابِهُونَ فِي تَعَاضُدِهِمْ عَلَى النِّفَاقِ وَالْأَمْرِ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمَعْرُوفِ كَمَا يُضَافُ بَعْضُ الشَّيْءِ إلَيْهِ لِمُشَاكَلَتِهِ لِلْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى ويقبضون أيديهم فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ عَنْ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا قَبَضُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمُرَادُ جَمِيعَ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْهُ وَقَوْلُهُ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَهُ وَالْقِيَامَ بِطَاعَتِهِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْسِيِّ إذْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا مِنْهُ شَيْئًا كَمَا لَا يُعْمَلُ بِالْمَنْسِيِّ وَقَوْلُهُ فَنَسِيَهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَسَمَّاهُ بِاسْمِ الذَّنْبِ لِمُقَابَلَتِهِ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَجَزَاءٌ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَجَازٌ كَقَوْلِهِمْ الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ وَقَوْلِهِ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
وَنَحْوِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ واغلظ عليهم رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ جَاهِدْهُمْ بِيَدِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك وَقَلْبِك فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاكْفَهَرَّ فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ جَاهِدْ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُودَ
قَوْله تَعَالَى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم فِيهِ إخْبَارٌ عَنْ كُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ كُلُّ كَلِمَةٍ فِيهَا جَحْدٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ أَوْ بَلَغَتْ مَنْزِلَتَهَا فِي الْعِظَمِ وَكَانُوا يَطْعَنُونَ فِي النُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَيُقَالُ إنَّ الْقَائِلَ لِكَلِمَةِ الْكُفْر الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ قَالَ إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا قَالَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن أبى بن سَلُولَ حِينَ قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ليخرجن الأعز منها الأذل وَقَالَ الْحَسَنُ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا ذَلِكَ وَفِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ وَإِخْبَارِهِ عَنْهُمْ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَقَوْلِهِ ثُمَّ تَبْقِيَتِهِ إيَّاهُمْ وَاسْتِحْيَاؤُهُمْ لِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِسْلَامِ دَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ الْمُسِرِّ لِلْكُفْرِ وَالْمُظْهِرِ لِلْإِيمَانِ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لئن آتانا من
فضله لنصدقن
إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِيهِ قُرْبَةٌ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ به لِأَنَّ الْعَهْدَ هُوَ النَّذْرُ وَالْإِيجَابُ نَحْوُ قَوْلِهِ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَعَلَيَّ أَنْ أتصدق منها بخمس مائة وَنَحْوِ ذَلِكَ
فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا مِنْهَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ المنذر لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا به فَعَنَّفَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ وَأَبْطَلَ إيجَابَ إخْرَاجِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِشَرْطٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدَمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَدَقَةٌ أَوْ صِيَامٌ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمُضَافَ إلَى الْمِلْكِ إيجَابٌ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَذْرًا فِي الْمِلْكِ وَأَلْزَمَهُ الْوَفَاءَ بِهِ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبِ زَيْدٍ أَوْ نَحْوِهِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ مُطَلِّقٌ فِي نِكَاحٍ لَا قَبْلَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَ الْمُضِيفُ لِلنَّذْرِ إلَى الْمِلْكِ نَاذِرًا فِي الْمِلْكِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ نَفْسِ الْمَنْذُورِ عَلَى مُوجِبِهِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تفعلون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تفعلون فَاقْتَضَى ذَلِكَ فِعْلَ الْمَقُولِ بِعَيْنِهِ وَإِخْرَاجُ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَيْسَ هُوَ الْمَقُولَ بِعَيْنِهِ وَنَحْوُهُ قَوْله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْمَعْهُودِ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرُ وَقَوْلُهُ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وقوله يوفون بالنذر فَمَدَحَهُمْ عَلَى فِعْلِ الْمَنْذُورِ بِعَيْنِهِ وَمِنْ نَظَائِرِهِ قَوْله تَعَالَى وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعايتها وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إيجَابَ كُلِّ مَا ابْتَدَعَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ قُرْبَةٍ قولا أو فعلا لذم الله تَارِكَ مَا ابْتَدَعَ مِنْ الْقُرْبَةِ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّذْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
قَوْله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم قَالَ الْحَسَنُ بُخْلُهُمْ بِمَا نَذَرُوهُ أَعْقَبَهُمْ النِّفَاقَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَعْقَبَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ بِحِرْمَانِ التَّوْبَةِ كَمَا حَرَمَ إبْلِيسَ وَمَعْنَاهُ نَصْبُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَبَدًا ذَمًّا لَهُ عَلَى مَا كَسَبَتْهُ يَدُهُ وَقَوْلُهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ قِيلَ فِيهِ يَلْقَوْنَ جَزَاءَ بُخْلِهِمْ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْقَبَهُمْ رَدَّ الضَّمِيرَ إلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى
قَوْله تَعَالَى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سبعين مرة فلن يغفر الله لهم
فِيهِ إخْبَارٌ بِأَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا يُوجِبُ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ ثُمَّ قَالَ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلن يغفر الله لهم ذَكَرَ السَّبْعِينَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْيَأْسِ مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ رَاوِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلَمْ يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليسئل اللَّهَ مَغْفِرَةَ الْكُفَّارِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِيهِ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَوْ عَلِمْت أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُمْ لَزِدْت عَلَيْهَا
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِنِفَاقِهِمْ فَكَانُوا إذَا مَاتَ الميت منهم يسئلون رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَاتُوا مُنَافِقِينَ وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ
قَوْله تَعَالَى وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعَانٍ أَحَدُهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَحَظْرُهَا عَلَى مَوْتَى الْكُفَّارِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ إلَى أَنْ يُدْفَنَ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُهُ
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ عَلِيًّا قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي قَيْسٍ قَالَ شَهِدْت عَلْقَمَةَ قَامَ عَلَى قَبْرٍ حَتَّى دُفِنَ وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ إذَا مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى نَدْفِنَهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حَتَّى يُدْفَنَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَجَعَلَ قَوْلَهُ وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ قِيَامَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فَنَهَى عَنْ الْقِيَامِ عَلَى الْقَبْرِ كَنَهْيِهِ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ عَطْفًا عَلَيْهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ هُوَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَذَا الْقَائِلُ أَنْ يَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنْهَا وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تُذْكَرَ الصَّلَاةُ بِصَرِيحِ اسْمِهَا ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ فَيَجْعَلُهُ كِنَايَةً عَنْهَا فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ غَيْرُ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا
رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ وَضَعْنَاهُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ فَقُمْ فَصَلِّ عَلَيْهِ فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَثَبْت مَعَهُ فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ تَحَوَّلْت وَقُمْت فِي صَدْرِهِ وَقُلْت يَا رَسُولَ الله
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَدُوِّ اللَّهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا أَعُدُّ أَيَّامَهُ الْخَبِيثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَدَعْنِي يَا عُمَرُ إنَّ اللَّهَ خَيَّرَنِي فَاخْتَرْت فَقَالَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لهم الآية فو الله لَوْ أَعْلَمُ يَا عُمَرُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ لَزِدْت ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ وَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى دُفِنَ
ثم لم يلبث إلا قليلا حتى أنزل اللَّهُ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا ولا تقم على قبره فو الله مَا صَلَّى رَسُولٌ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَهُ فَذَكَرَ عُمَرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّلَاةَ وَالْقِيَامَ عَلَى الْقَبْرِ جَمِيعًا فَدَلَّ عَلَى مَا وَصَفْنَا
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِثَوْبِهِ فَقَالَ لَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ منهم مات أبدا ولا تقم على قبره
قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نصحوا لله ورسوله هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعراب ليؤذن لهم فَذَمَّهُمْ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجِهَادِ من غير عذر ثم ذكر المعذورون مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَ الضُّعَفَاءَ وَهُمْ الَّذِينَ يَضْعُفُونَ عَنْ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَمَانَةٍ أَوْ عَمًى أَوْ سِنٍّ أَوْ ضَعْفٍ فِي الْجِسْمِ وَذَكَرَ الْمَرْضَى وَهُمْ الَّذِينَ بِهِمْ أَعْلَالٌ مَانِعَةٌ مِنْ النُّهُوضِ وَالْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ وَعَذَرَ الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَكَانَ عُذْرُ هَؤُلَاءِ وَمَدْحُهُمْ بِشَرِيطَةِ النُّصْحِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ وَهُوَ غَيْرُ نَاصِحٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ يُرِيدُ التَّضْرِيبَ وَالسَّعْيَ فِي إفْسَادِ قُلُوبِ مَنْ بِالْمَدِينَةِ لَكَانَ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ وَمِنْ النُّصْحِ لِلَّهِ تَعَالَى حَثُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْجِهَادِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِيهِ وَالسَّعْيُ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الدِّين وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُخَلِّصًا لِعَمَلِهِ مِنْ الْغِشِّ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ النصح ومنه التوبة النصوح قوله ما على المحسنين من سبيل عُمُومٌ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مُحْسِنًا فِي شَيْءٍ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي مَسَائِلَ مِمَّا قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ نَحْوُ مَنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَوْ دَابَّةً لِيَحُجَّ عَلَيْهَا فَتَهْلَكُ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِ فِي تَضْمِينِهِ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى السَّبِيلَ عَلَيْهِ نَفْيًا عَامًّا وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِ صِفَةِ الْإِحْسَانِ لَهُ فَيَحْتَجُّ بِهِ نَافُو الضَّمَانِ وَيَحْتَجُّ مُخَالِفُنَا فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ الْجَمَلِ الصَّئُولِ إذَا قَتَلَهُ مَنْ خَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهُ بِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي قَتْلِهِ لِلْجَمَلِ وَقَالَ اللَّهُ تعالى ما على المحسنين من سبيل
وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ قَوْله تَعَالَى فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رجس هو كقوله إنما المشركون نجس لِأَنَّ الرِّجْسَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ النَّجَسِ وَيُقَالُ رِجْسٌ نَجَسٌ عَلَى الْإِتْبَاعِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُجَانَبَةِ الْكُفَّارِ وَتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ وَإِينَاسِهِمْ وَتَقْوِيَتِهِمْ
وقَوْله تَعَالَى يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عن القوم الفاسقين يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ عَلَى الِاعْتِذَارِ مِمَّنْ كَانَ مُتَّهَمًا لَا يُوجِبُ الرِّضَا عَنْهُ وَقَبُولَ عُذْرِهِ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ النَّهْيَ عَنْ الرِّضَا عَنْ هَؤُلَاءِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْلِفُونَ وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ وَقَالَ في الآية الأولى سيحلفون بالله فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ فِي الْحَلِفِ فِي الْأُولَى وَاقْتَصَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى ذِكْرِ الْحَلِفِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر يحلفون على الكذب وهم يعلمون وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ فَقَالَ في موضع وأقسموا بالله جهد أيمانهم وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحَلِفِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَحْلِفُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أحلف بالله وكذلك قوله أقسم وأقسم بِاَللَّهِ
قَوْله تَعَالَى الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على رسوله أُطْلِقَ هَذَا الْخَبَرُ عَنْ الْأَعْرَابِ وَمُرَادُهُ الْأَعَمُّ الأكثر منهم وهم الذين كانوا يواطئون الْمُنَافِقِينَ عَلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ وَمُجَالَسَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ أَجْهَلُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ وَالْأَحْكَامَ فَكَانَ الْأَعْرَابُ أَجْهَلَ بِحُدُودِ الشَّرَائِعِ مِنْ أُولَئِكَ وَكَذَلِكَ هُمْ الْآنَ فِي الْجَهْلِ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَفِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لِأَنَّ مَنْ بَعُدَ مِنْ الْأَمْصَارِ وَنَاءَ عَنْ حَضْرَةِ الْعُلَمَاءِ كَانَ أَجْهَلَ بِالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ مِمَّنْ جَالَسَهُمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا إمَامَةَ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ عَلَى الْأَعْرَابِ خَاصٌّ فِي بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ
وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرسول الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ وَقَالَ قَتَادَةُ دُعَاؤُهُ لَهُمْ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ
وقَوْله تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَفْضِيلِ السَّابِقِ إلَى الْخَيْرِ على التالي لأنه داع إليه بسبقه وَالتَّالِي تَابِعٌ لَهُ فَهُوَ إمَامٌ لَهُ وَلَهُ
مِثْلُ أَجْرِهِ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَكَذَلِكَ السَّابِقُ إلَى الشَّرِّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ التَّابِعِ لَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ سَنَّهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أثقالهم يَعْنِي أَثْقَالَ مَنْ اقْتَدَى بِهِمْ فِي الشَّرِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعا
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ قَتِيلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ نَزَلَتْ الْآيَةُ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى الْقِبْلَتَيْنِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِيمَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَقَالَ غَيْرُهُمْ فِيمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
وقَوْله تَعَالَى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ منافقون- الآية إلى قوله- سنعذبهم مرتين قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْقَبْرِ ثم يردون إلى عذاب عظيم وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدُّنْيَا بِالْفَضِيحَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رِجَالًا مِنْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَالْأُخْرَى فِي الْقَبْرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالْجُوعِ
وقَوْله تَعَالَى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَالِاعْتِرَافُ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْرِفَةٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إذَا ثَبَتَ وَالِاعْتِرَافُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ لِأَنَّ تَذَكُّرَ قُبْحِ الذَّنْبِ أَدْعَى إلَى إخْلَاصِ التوبة منه وأبعد من حال ما يُدْعَى إلَى التَّوْبَةِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مَا هُوَ وَلَا يَعْرِفُ مَوْقِعَهُ مِنْ الضَّرَرِ فَأَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوْبَةِ أَنْ تَقَع مَعَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَلِذَلِكَ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ تَوْبَتِهِمَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين وَإِنَّمَا قَالَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ لِيَكُونُوا بَيْنَ الطَّمَعِ وَالْإِشْفَاقِ فَيَكُونُوا أَبْعَدَ مِنْ الِاتِّكَالِ وَالْإِهْمَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ عَسَى مِنْ اللَّهِ وَاجِبٌ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْيَأْسُ مِنْ التَّوْبَةِ وَإِنَّمَا يَعْرُضُ مَا دَامَ يَعْمَلُ مَعَ الشَّرِّ خير لِقَوْلِهِ تَعَالَى خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمُذْنِبِ رُجُوعٌ إلَى اللَّهِ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الذَّنْبِ أَنَّهُ مَرْجُوُّ الصَّلَاحِ مَأْمُونُ خَيْرِ الْعَاقِبَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فَالْعَبْدُ وَإِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْ الْخَيْرِ يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ لأن التوبة
مَقْبُولَةٌ مَا بَقِيَ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ فَأَمَّا مَنْ عَظُمَتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ مَظَالِمُهُ وَمُوبِقَاتُهُ فَأَعْرَضَ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَائِسًا مِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ رُبَّ مَسِيرٍ لَك فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ أَمَّا مَسِيرِي إلَى أَبِيك فَلَا فَقَالَ الْحَسَنُ بَلَى وَلَكِنَّك اتَّبَعْت مُعَاوِيَةَ عَلَى عَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرٍ وَاَللَّهِ لَئِنْ قَامَ بِك معاوية في دنياك لقد قَعَدَ بِك فِي دِينِك وَلَوْ كُنْت إذْ فَعَلْت شَرًّا قُلْت خَيْرًا كُنْت مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أن يتوب عليهم وَلَكِنَّك أَنْتَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يكسبون
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ تَخَلَّفُوا عَنْ تَبُوكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانُوا عَشَرَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسِوَارِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ توبتهم وقيل سَبْعَةً فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ
قَوْله تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ظَاهِرُهُ رُجُوعُ الْكِنَايَةِ إلَى الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ مَظْهَرٍ مَذْكُورٍ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ فَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونَ الكناية جَمِيعًا لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَوْلُهُ مَا تَرَكَ عَلَى ظهرها من دابة وَهُوَ يَعْنِي الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يَعْنِي الشَّمْسَ فَكَنَّى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهَا مُظْهَرَةً فِي الْخِطَابِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَوْلُهُ تطهرهم وتزكيهم بها يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ الْكِنَايَةُ عَنْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْخِطَابِ مِنْ الْمُعْتَرِفِينَ بِذُنُوبِهِمْ فَإِنَّ دَلَالَتَهُ ظَاهِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فِي شَخْصٍ أَوْ عَلَى شَخْصٍ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فِيهِ وقَوْله تَعَالَى تُطَهِّرُهُمْ يَعْنِي إزَالَةَ نَجَسِ الذُّنُوبِ بِمَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ اسْمَ النَّجَسِ عَلَى الْكُفْرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِنَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ أَطْلَقَ فِي مُقَابَلَتِهِ وَإِزَالَتِهِ اسْمَ التَّطْهِيرِ كَتَطْهِيرِ نَجَاسَةِ الْأَعْيَانِ بِإِزَالَتِهَا وَكَذَلِكَ حُكْمُ الذُّنُوبِ فِي إطْلَاقِ اسْمِ النَّجَسِ عَلَيْهَا وَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَى إزَالَتِهَا بِفِعْلِ مَا يُوجِبُ تَكْفِيرَهَا
355
فَأَطْلَقَ اسْمَ التَّطْهِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِأَدَائِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْذِ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّطْهِيرَ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَوَابٌ لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ الصَّدَقَةَ وَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ التَّطْهِيرَ وَلَا يَصِيرُونَ أَزْكِيَاءَ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ فَعَلِمْنَا أَنَّ فِي مَضْمُونِهِ إعْطَاءَ هَؤُلَاءِ الصَّدَقَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ صَارُوا بِهَا أَزْكِيَاءَ مُتَطَهِّرِينَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ أو هي كفارة الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَإِنَّمَا هِيَ كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ الَّتِي أَصَابُوهَا وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الزَّكَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً دُونَ سَائِرِ النَّاسِ سِوَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ خَبَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مَخْصُوصِينَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وُجُوبُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ لِتَسَاوِي النَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَنْ خَصَّهُ دَلِيلٌ فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَاجِبَةً عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِهَا قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَتْ هِيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ إذْ لَيْسَ فِي أَمْوَالِ سَائِرِ النَّاسِ حَقٌّ سِوَى الصَّدَقَاتِ المفروضة وقوله تطهرهم وتزكيهم بها لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ مُكَفِّرَةٌ للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة أَيْضًا تُطَهِّرُ وَتُزَكِّي مُؤَدِّيَهَا وَسَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَاجُونَ إلَى مَا يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّيهِمْ وَقَوْلُهُ خذ من أموالهم عموم في سائر الأصناف ومقتض لأجل الْبَعْضِ مِنْهَا إذْ كَانَتْ مِنْ مُقْتَضَى التَّبْعِيضِ وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى عُمُومِ الْأَمْوَالِ فَاقْتَضَتْ إيجَابَ الْأَخْذِ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ بَعْضَهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَتَى أَخَذَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إيجَابَ فَرْضِ الزَّكَاةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ فِي الْمَأْخُوذِ وَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَمَقَادِيرِ الْوَاجِبِ وَالْمُوجِبِ فِيهِ وَوَقْتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا يَنْصَرِفُ فيه فكان لفظ الزكاة مجمل فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَقَالَ تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة فَكَانَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ دُونَ لَفْظِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ اسْمُ عُمُومٍ فِي مُسَمَّيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ خَاصٌّ فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ جَمِيعِهَا وَالْوُجُوبَ فِي وَقْتٍ مِنْ الزَّمَانِ دُونَ سَائِرِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْله تعالى فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
356
وَكَانَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا صُرَدُ بْنُ أَبِي الْمَنَازِلِ قَالَ
سَمِعْت حَبِيبًا الْمَالِكِيَّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَا أَبَا نُجَيْدٍ إنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَنَا بِأَحَادِيثَ مَا نَجِدُ لَهَا أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ فَغَضِبَ عِمْرَانُ وَقَالَ لِلرَّجُلِ أَوَجَدْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَمِنْ كُلِّ كَذَا وَكَذَا شَاةً شَاةً وَمِنْ كَذَا وَكَذَا بَعِيرًا كَذَا وَكَذَا أَوَجَدْتُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ قَالَ لَا قَالَ فَعَمَّنْ أَخَذْتُمْ هَذَا أَخَذْتُمُوهُ عَنَّا وَأَخَذْنَاهُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا فَمِمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بعذاب أليم فنص على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائها تَأْكِيدًا وَتَبْيِينًا وَمِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ معروشات- إلَى قَوْلِهِ- كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وآتوا حقه يوم حصاده فَالْأَمْوَالُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَعَرُوضُ التِّجَارَةِ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ السَّائِمَةُ وَالزَّرْعُ وَالثَّمَرُ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضٌ صَدَقَةَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَإِنَّ نِصَابَ الْوَرِقِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَنِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ دِينَارًا
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْإِبِلُ فَإِنَّ نِصَابَهَا خَمْسٌ مِنْهَا وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعُونَ شَاةً وَنِصَابُ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ إذَا بَلَغَ النِّصَابَ وَفِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَفِي ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعٌ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَسَنَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الْوَقْتُ فَهُوَ حَوَلُ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ مَعَ كَمَالِ النِّصَابِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا صَحِيحَ الْمِلْكِ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يُحِيطُ بِمَالِهِ أَوْ بِمَا لَا يَفْضُلُ عَنْهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ قَرَأْت عَلَى مَالِك بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ
357
وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِذَا كَانَتْ لَك مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَكُونَ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا فَإِذَا كَانَتْ لَك عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ
وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْحَوْلِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فَصَارَ فِي حيز المتواتر المواجب لِلْعِلْمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ مَلَكَ نِصَابًا أَنَّهُ يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق بالملك دُونَ الْحَوْلِ وَأَنَّهُ بِهِمَا جَمِيعًا يَجِبُ وَقَدْ اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ خَبَرَ الْحَوْلِ بَعْدَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ بَلْ نَفَى إيجَابَ الزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ نَفْيًا عَامًّا إلَّا بَعْدَ حَوَلِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كُلِّ نِصَابٍ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَرَادَ إيجَابَ الْأَدَاءِ بِوُجُودِ مِلْكِ النِّصَابِ وَأَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُ الْوُجُوبِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِحِسَابِهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أربعين درهما وهو قول أبى حنفية وَيَحْتَجُّ مَنْ اعْتَبَرَ الزِّيَادَةَ أَرْبَعِينَ بِمَا
رَوَى عبد الرحمن ابن غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيمَا زَادَ على المائتي درهم شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاتُوا زَكَاةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ
فَوَجَبَ استعمال قوله في كل أربعين درهم درهما عَلَى أَنَّهُ جَعَلَهُ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ فِيهِ
كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ هَذَا مَالٌ لَهُ نِصَابٌ فِي الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَفْوٌ بَعْدَ النِّصَابِ كَالسَّوَائِمِ وَلَا يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ لِأَنَّهُ لَا نِصَابَ لَهُ فِي الْأَصْلِ عِنْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمَا أَنَّ لِزَكَاةِ الثِّمَارِ نِصَابًا فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ مِقْدَارٍ بَعْدَهُ بَلْ الْوَاجِبُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَذَلِكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَلَوْ سَلِمَ لَهُمَا ذَلِكَ كَانَ قِيَاسُهُ عَلَى السَّوَائِمِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الثِّمَارِ لِأَنَّ السَّوَائِمَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهَا بتكرر السنين
358
وَمَا تُخْرِجُ الْأَرْضُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْحَقُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَمُرُورُ الْأَحْوَالِ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ وُجُوبِ الْحَقِّ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهِ أَوْلَى بِوُجُوبِهِ فِي قَلِيلِ مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ وَكَثِيرِهِ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الْحَقِّ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالسَّوَائِمِ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِيهَا وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَفْوِ بَعْدَ النِّصَابِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِيَاسَهُ عَلَى السَّوَائِمِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُسْقِطُ الْعُشْرَ وَكَذَلِكَ مَوْتُ رَبِّ الْأَرْضِ وَيُسْقِطُ زَكَاةَ الدَّرَاهِمِ وَالسَّوَائِمِ فَكَانَ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا أَوْلَى مِنْهُ عَلَى مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ مِنْ الْبَقَرِ عَلَى أَرْبَعِينَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ سِتِّينَ وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَيُحْتَجُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ من أموالهم صدقة وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهَا فَوَجَبَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِحَقِّ الْعُمُومِ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَتَكُونَ فِيهَا مُسِنَّةً وَرُبْعَ مُسِنَّةٍ وَيَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ إثْبَاتِ الْوَقَصِ تِسْعًا فَيَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْكَسْرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي فُرُوضِ الصَّدَقَاتِ أو يجعل الْوَقَصِ تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خِلَافُ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَهَذَا ثَبَتَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ إيجَابُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي قِلَابَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي خَمْسٍ مِنْ الْبَقَرِ شَاةٌ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ وَوُرُودِ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُطْلَانِهِ
وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ خَمْسُ شِيَاهٍ وَقَدْ أَنْكَرَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ عَلِيٌّ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا هَذَا مِنْ غَلَطِ الرِّجَالِ
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنَّ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ خَمْسَ شِيَاهٍ عَنْ قِيمَةِ بِنْتِ مَخَاضٍ فظن الراوي أن ذلك فرضها عنه وَاخْتُلِفَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا تَسْتَقْبِلُ الْفَرِيضَةَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةٌ فَالْمُصَّدِّقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَإِنْ شَاءَ حِقَّتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إلَى أن
359
تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَتَكُونُ فِيهَا حِقَّةٌ وَابْنَتَا لَبُونٍ يَتَّفِقُ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ فِي هَذَا وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا بَيْنَ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ مَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَالْمِائَةِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِهِ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ بِحَيْثُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا عِنْدَ النَّاسِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ فَقِيلَ لَهُ وَمَا فِيهَا فَقَالَ فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ أَخَذْتهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلِمَا ثَبَتَ قَوْلُ عَلِيٍّ بِاسْتِئْنَافِ الْفَرِيضَةِ وَثَبَتَ أَنَّهُ أَخَذَ أَسْنَانَ الْإِبِلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ ذلك توقيفا لأنه لَا يُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا
قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ اسْتِئْنَافُ الْفَرِيضَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ
وَأَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَقَادِيرِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْحِقَّتَيْنِ فِي الْمِائَةِ والعشرين عِنْدَ الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إسْقَاطُ الْحِقَّتَيْنِ لِأَنَّهُمَا فَرْضٌ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ فَإِنْ قِيلَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ وَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ قِيلَ لَهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فَقَالَ فِي بَعْضِهَا وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِبِلُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِبِلَ لَا تَكْثُرُ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ وَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ إلَّا زِيَادَةً كَثِيرَةً يُطْلَقُ عَلَى مِثْلِهَا أَنَّ الْإِبِلَ قَدْ كَثُرَتْ بِهَا وَنَحْنُ قَدْ نُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ ضَرْبٍ مِنْ الزِّيَادَةِ الْكَثِيرَةِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْإِبِلُ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَتَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ وَأَيْضًا فَمُوجِبُ تَغْيِيرِ الْفَرْضِ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَخْلُو من يُغَيِّرَهُ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ فَيُوجِبُ فِيهَا وَفِي الْأَصْلِ أَوْ يُغَيِّرُهُ فَيُوجِبُ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَلَا يُوجِبُ فِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ شَيْئًا فَإِنْ أَوْجَبَ فِي الزِّيَادَةِ مَعَ الْأَصْلِ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فَهُوَ لَمْ يُوجِبْ فِي الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِينَ وَفِي الْوَاحِدَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْفَرْضِ بِالْوَاحِدَةِ فَيَجْعَلُ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَالْوَاحِدَةُ عَفْوٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ إذْ كَانَ الْعَفْوُ لَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ وَاخْتُلِفَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ فِي مِائَتَيْنِ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعمِائَةٍ فَتَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَقَالَ
360
الحسن بن صالح إذا كانت الغنم ثلاثمائة شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ نَحْوَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَتْ آثَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَاخْتُلِفَ فِي صَدَقَةِ الْعَوَامِلِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ فِيهَا صَدَقَةٌ وَالْحُجَّةُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال زهير أحسبه
قيل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَفِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَفِي الْأَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ شَيْءٌ وَأَيْضًا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي النَّخَّةِ وَلَا فِي الْكَسْعَةِ وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ النَّخَّةُ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ وَالْكَسْعَةُ الْحَمِيرُ وَالْجَبْهَةُ الْخَيْلُ وَأَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِهِ مَرْصَدًا لِلنَّمَاءِ مِنْ نَسْلِهَا أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَالسَّائِمَةُ يُطْلَبُ نَمَاؤُهَا إمَّا مِنْ نَسْلِهَا أَوْ مِنْ أَنْفُسِهَا وَالْعَامِلَةُ غَيْرُ مُرْصَدَةٍ لِلنَّمَاءِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ دُورِ الْغَلَّةِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَنَحْوِهَا وَأَيْضًا الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَوَامِلِ كَهِيَ إلَى السَّائِمَةِ فَلَوْ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا فِي الْعَامِلَةِ لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِهِ فِي السَّائِمَةِ فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ نَقْلٌ مُسْتَفِيضٌ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيفٌ فِي إيجَابِهَا بَلْ قَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْيِ الصَّدَقَةِ عَنْهَا مِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ وَمِنْهَا مَا
رَوَى يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ فِي ثَوْرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ نَفْيُ صَدَقَةِ الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كِتَابًا فِي الصَّدَقَاتِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المسلمين فمن سألها مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ صَدَقَةُ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتهَا إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ فِيهَا شَاةٌ
فَنَفَى بِذَلِكَ الصَّدَقَةَ عَنْ غَيْرِ السَّائِمَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ السَّائِمَةَ وَنَفَى الصَّدَقَةَ عَمَّا عَدَاهَا فَإِنْ قِيلَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خمس
361
مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ
وَذَلِكَ عُمُومٌ يُوجِبُ فِي السَّائِمَةِ وَغَيْرِهَا قِيلَ لَهُ يَخُصُّهُ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إيجَابِهِ الصَّدَقَةَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ أَحَدٌ قَبْلَهُ.
(فَصْلٌ) قَالَ أَصْحَابُنَا وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً مَسَانَّ وَصِغَارٍ مُسِنَّةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَكُونَ الْمَسَانُّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يُعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالصِّغَارِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ
وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي فَقَالَ فِيهِ وَيُعَدُّ صَغِيرُهَا وَكَبِيرُهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ النِّصَابِ وَمَا زَادَ
وَأَيْضًا
الْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ وَمَتَى اجْتَمَعَ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمِيعِ الِاسْمُ فَيُقَالُ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً
فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَهَا فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الِاعْتِدَادِ بِالصِّغَارِ بَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ الْكِبَارِ مَعَهَا فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّصَابِ وَاخْتُلِفَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا إذَا كَانَتْ إنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ لَا صَدَقَةَ فِيهَا
وَرَوَى عُرْوَةُ السَّعْدِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ
وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَقَالَ هِيَ ثَلَاثَةٌ لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِآخَرَ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا وَلَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا فِي ظُهُورِهَا
فَأَثْبَتَ فِي الْخَيْلِ حَقًّا وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى سُقُوطِ سَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُرَادَةَ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ قِيلَ لَهُ قَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْخَيْلَ فَقَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إلَّا الْآيَةَ الْجَامِعَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا شَيْئًا وَلَوْ أَرَادَ زَكَاةَ التِّجَارَةِ لَأَوْجَبَهَا فِي الْحَمِيرِ فَإِنْ قِيلَ فِي الْمَالِ حُقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حَقًّا غَيْرَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ إنَّ فِيهَا حَقًّا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا ومنيحة سمينها
فجائز أن يكون الحل الْمَذْكُورُ فِي الْخَيْلِ مِثْلَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْحَمِيرِ والخيل
362
لِأَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ فَلَمَّا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ الزَّكَاةَ وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ كَانَ وَاجِبًا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ عُبَيْدٍ الْمُكْتِبِ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ نَسَخَتْ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ
وَأَيْضًا
قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِّ سَأَلُوا عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْلِهِمْ فَشَاوَرَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الصَّدَقَةِ فِيهَا لِأَنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُشَاوِرْهُمْ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا وَاجِبَةً بِمُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا
قَالَ عَلِيٌّ لَا بَأْسَ مَا لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً عَلَيْهِمْ
لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْهَا
بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى خَيْلِ الرُّكُوبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ صَدَقَتَهَا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَاخْتُلِفَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ فِيهِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُهُ وَرُوِيَ عَنْهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ حِينَ كَشَفَ عَنْ ذَلِكَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ مَا رُوِيَ فِيهِ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ بِذَلِكَ وَقَالَ يَحْيَى إنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ فِيهِ الْعُشْرُ فِي كُلِّ عَامٍ بِذَلِكَ مَضَتْ السُّنَّةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي الْعَسَلِ إذْ هُوَ مِنْ مَالِهِ وَالصَّدَقَةُ إنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً فَإِنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إيجَابَ صَدَقَةٍ مَا وَإِذَا وَجَبَتْ الصَّدَقَةُ كَانَتْ الْعُشْرَ إذْ لَا يُوجِبُ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْمِصْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُ يُقَالُ لَهُ سَلَبَةَ فَحَمَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَادِيَ
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عمر بن الخطاب يسئله عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ
363
عُمَرُ إنْ أَدَّى إلَيْك مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا قَالَ أَدِّ الْعُشْرَ قَالَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي فَحَمَاهَا لِي
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عن عمر بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعْطِيَ زَكَاةَ الْعَسَلِ وَنَحْنُ بِالطَّوَافِ الْعُشْرَ يُسْنِدُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ إمَامُ مَسْجِدِ الْأَهْوَازِ قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا صَدَقَةٌ عَنْ مُوسَى بْنُ يَسَارٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رسول الله ﷺ في كُلِّ عَشَرَةِ أَزْقَاقٍ مِنْ الْعَسَلِ زِقٌّ
وَلَمَّا أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَجْرَاهُ مَجْرَى الثَّمَرِ وَمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ وَإِذَا كَانَ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ فَكَذَلِكَ الْعَسَلُ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَظَائِرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا جُمَلًا مِنْهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وقَوْله تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَ الصَّدَقَاتِ إلَى الْإِمَامِ وَأَنَّهُ مَتَى أَدَّاهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ إلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ قَائِمٌ فِي أَخْذِهَا فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إسْقَاطِهِ
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَجِّهُ الْعُمَّالَ عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوهَا عَلَى الْمِيَاهِ فِي مَوَاضِعِهَا
وَهَذَا مَعْنَى مَا
شَرَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ بِأَنْ لَا يَحْشُرُوا وَلَا يُعَشِّرُوا
يَعْنِي لَا يُكَلَّفُونَ إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْمُصَدَّقِ وَلَكِنَّ الْمُصَدَّقَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ فِي مِيَاهِهِمْ وَمَظَانِّ مَوَاشِيهمْ فَيَأْخُذُهَا مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الثِّمَارِ وَأَمَّا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ فَقَدْ كَانَتْ تُحْمَلُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وعمر وعثمان فَقَالَ هَذَا شَهْرُ زَكَوَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ ثُمَّ لِيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ فَجَعَلَ لهم أداؤها إلَى الْمَسَاكِينِ وَسَقَطَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَقُّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّهُ عَقَدَ عَقْدَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ فَهُوَ نَافِذٌ عَلَى الْأُمَّةِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أو لهم
وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ بَعَثَ سُعَاةً عَلَى زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ كَمَا بَعَثَهُمْ
364
عَلَى صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِلْإِمَامِ وَإِنَّمَا تَكُونُ مخبوأة فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْمَوَاضِعِ الْحَرِيزَةِ وَلَمْ يَكُنْ جائز لِلسُّعَاةِ دُخُولُ أَحْرَازِهِمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ إحْضَارَهَا كَمَا لَمْ يُكَلَّفُوا إحْضَارَ الْمَوَاشِي إلَى الْعَامِلِ بَلْ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ حُضُورُ مَوْضِعِ الْمَالِ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَخْذِ صَدَقَتِهِ هُنَاكَ فَلِذَلِكَ لم يبعث على زكاة الْأَمْوَالِ السُّعَاةَ فَكَانُوا يَحْمِلُونَهَا إلَى الْإِمَامِ وَكَانَ قَوْلُهُمْ مَقْبُولًا فِيهَا وَلَمَّا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ عِنْدَ التَّصَرُّفِ بِهَا فِي الْبُلْدَانِ أَشْبَهَتْ الْمَوَاشِيَ فَنُصِبَ عَلَيْهَا عُمَّالٌ يَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ وَلِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ التِّجَارَاتِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ ثم لا يؤخذ منه إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ عُمَرُ ابن الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعَ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ تُعْتَبَرُ فِيهَا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا مِنْ حَوْلٍ وَنِصَابٍ وَصِحَّةِ مِلْكٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الزَّكَاةُ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ فَاحْتَذَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ إذْ قَدْ صَارَتْ أَمْوَالًا ظَاهِرَةً يُخْتَلَفُ بِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَظُهُورِ الْمَوَاشِي السَّائِمَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا خَالَفَهُ فَصَارَ إجْمَاعًا مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ قيل
روى عطاء بن السائمة عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَا تُحَشَّرُوا وَلَا تُعَشَّرُوا
وَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ احْمَدُوا اللَّهَ إذْ دَفَعَ عَنْكُمْ الْعُشُورَ
وَرُوِيَ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ أَكَانَ عُمَرُ يُعَشِّرُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَا قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْعُشُورِ الزَّكَاةَ وَإِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْمَكْسِ وَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ
فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن شماسة عن عقبة ابن عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ يَعْنِي عَاشِرًا
وَإِيَّاهُ عَنَى الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ:
365
وَفِي كُلِّ أَمْوَالِ الْعِرَاقِ إتَاوَةٌ وَفِي كُلِّ مَا بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرْهَمِ
فَاَلَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعُشْرِ هُوَ الْمَكْسُ الَّذِي كَانَ يَأْخُذُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَيْسَتْ بِمَكْسٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ وَجَبَ فِي مَالِهِ يَأْخُذهُ الْإِمَامُ فَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ كَمَا يَأْخُذُ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي وَعُشُورَ الْأَرْضِينَ وَالْخَرَاجَ وَأَيْضًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي نَفَى أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا يَكُونُ مَأْخُوذًا عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ وَالْجِزْيَةِ وَلِذَلِكَ
قَالَ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ
يَعْنِي مَا يُؤْخَذُ عَلَى وَجْهِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ لِلْفَرْقِ بين صدقات المواشي والزروع وبين زكاة الْأَمْوَالِ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّكَاةِ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَلَمْ يَشْرُطْ فِيهَا أَخْذَ الْإِمَامِ لَهَا وَقَالَ فِي الصَّدَقَاتِ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وقال إنما الصدقات للفقراء والمساكين- إلى قوله- والعاملين عليها ونصب العامل يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ
فَإِنَّمَا شَرَطَ أَخْذَهُ فِي الصَّدَقَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَهُ فِي الزَّكَوَاتِ وَمَنْ يَقُولُ هَذَا يَذْهَبُ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً فَإِنَّ اسْمَ الزَّكَاةِ أَخَصُّ بِهَا وَالصَّدَقَةُ اسْمٌ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاشِي وَنَحْوِهَا فَلَمَّا خَصَّ الزَّكَاةَ بِالْأَمْرِ بِالْإِيتَاءِ دُونَ أَخْذِ الْإِمَامِ وَأَمَرَ فِي الصَّدَقَةِ بِأَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الزَّكَوَاتِ مَوْكُولًا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَيَكُونُ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ إلَى الْأَئِمَّةِ قَوْله تَعَالَى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتك سكن لهم
رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةِ مَالِهِ صَلَّى عَلَيْهِ قَالَ فَأَتَيْته بِصَدَقَةِ مَالِ أَبِي فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أوفى
وروى ثابت ابن قَيْسٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيكُمْ رَكْبٌ مُبْغَضُونَ فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْغُونَ فَإِنْ عَدَلُوا فَلِأَنْفُسِهِمْ وإن ظلموا فعليهم وارضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم
وروى سلمة ابن بَشِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْبَخْتَرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا قَالُوا وَمَا ثَوَابُهَا قَالَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بقوله تعالى وصل عليهم هو الدعاء وقوله سكن لهم يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِمَّا تَسْكُنُ قُلُوبُهُمْ إلَيْهِ وَتَطِيبُ بِهِ نُفُوسُهُمْ فَيُسَارِعُونَ إلَى أَدَاءِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ رَغْبَةً فِي ثَوَابِ اللَّهِ وَفِيمَا يَنَالُونَهُ مِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لهم
366
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الصَّدَقَةِ إذَا قَبَضَهَا أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا الْآيَةَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَدْ سُمُّوا اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ لِلَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ وَالْمَطَرِ وَالْحَرِّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَصْدَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ يَتَحَزَّبُوا فَيُصَلِّي حِزْبٌ فِي مَسْجِدٍ وَحِزْبٌ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ لِتَخْتَلِفَ الْكَلِمَةُ وَتَبْطُلَ الْأُلْفَةُ وَالْحَالُ الْجَامِعَةُ وَأَرَادُوا بِهِ أَيْضًا لَيُكَفِّرُوا فِيهِ بِالطَّعْنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامِ فَيَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْلُونَ فِيهِ فَلَا يُخَالِطُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ قَوْله تَعَالَى وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ من قبل قال ابن عباس ومجاهدا أَرَادَ بِهِ أَبَا عَامِرٍ الْفَاسِقَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ قَبْلُ وَكَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَادًا وحسدا لذهاب رئاسته الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوْسِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لِلْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي قَيْصَرٌ وَآتِيكُمْ بِجُنْدٍ فَأُخْرِجُ بِهِ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَبَنَوْا الْمَسْجِدَ إرْصَادًا لَهُ يَعْنِي مُتَرَقِّبِينَ لَهُ وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْفِعْلِ فِي الْحُسْنِ أَوْ الْقُبْحِ بِالْإِرَادَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ الَّتِي تَعَلَّقَ الْفِعْلُ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَدْعُو الْحِكْمَةُ إلَى تَعْلِيقِهِ بِهِ أَوْ تَزْجُرُ عَنْهَا لِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا بِبِنَائِهِ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ فِيهِ لَكَانَ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ولما أراد بِهِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْهُمْ مِنْ قَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ كَانُوا مَذْمُومِينَ كُفَّارًا
قَوْله تَعَالَى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تقوم فيه فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْمَبْنِيَّ لِضِرَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَعَاصِي لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ وَأَنَّهُ يَجِبُ هَدْمُهُ لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِيَامِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الضِّرَارِ وَالْفَسَادِ وَحَرَّمَ عَلَى أَهْلِهِ قِيَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ إهَانَةً لَهُمْ وَاسْتِخْفَافًا بِهِمْ عَلَى خِلَافِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ قَدْ يَكُونُ أَوْلَى بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَكُونُ مَنْهِيَّةً عَنْهَا فِي بَعْضِهَا وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَسَبِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهَا فِي الْمَسْجِدِ السَّابِقِ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ أُسِّسَ عَلَى التقوى من أول يوم وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِيَامَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ لَوْ كَانَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجُوزُ لَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقَّ بِالْقِيَامِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ
أَنَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا لَكَانَ تَقْدِيرُهُ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ مِنْ مَسْجِدٍ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ فِيهِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِعْلُ الْفَرْضِ أَصْلَحُ مِنْ تَرْكِهِ وَهَذَا قَدْ يَسُوغُ إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ هُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَا هُوَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ مَسْجِدِي هَذَا
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطِيَّةَ أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ قَوْله تَعَالَى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المطهرين فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَضِيلَةٌ لِلْمَسْجِدِ وَلِلصَّلَاةِ فِيهِ وَقَوْلُهُ يُحِبُّونَ أَنْ يتطهروا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ يَتَطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ وَقِيلَ فِيهِ التَّطَهُّرُ بِالْمَاءِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا قَالَ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْأَحْجَارِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ قَوْلًا وَفِعْلًا
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ أطلق الشرى فيه عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هو الذي يشترى مالا يَمْلِكُ وَاَللَّهُ تَعَالَى مَالِكُ أَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حسنا فَسَمَّاهُ شِرًى كَمَا سَمَّى الصَّدَقَةَ قَرْضًا لِضَمَانِ الثواب فيهما بِهِ فَأَجْرَى لَفْظَهُ مَجْرَى مَا لَا يَمْلِكُهُ العامل فِيهِ اسْتِدْعَاءً إلَيْهِ وَتَرْغِيبًا فِيهِ قَوْله تَعَالَى السائحون قِيلَ إنَّهُمْ الصَّائِمُونَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ الصوم
وقوله تعالى والحافظون لحدود الله هُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْقِيَامِ بِأَوَامِرِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ زَوَاجِرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حُدُودًا فِي أَوَامِرِهِ وَزَوَاجِرِهِ وَمَا نَدَبَ إلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ أَوْ أَبَاحَهُ وَمَا خَيَّرَ فِيهِ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى فِي تَحَرِّي مُوَافَقَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودُ اللَّهِ فَوَصَفَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بهذا الوصف
ومن كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ فَرَائِضِهِ وَقَامَ بِسَائِرِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الْمُرَادِينَ بِهَا وَهُمْ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ثم عطف عليه التائبون فَقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْزِلَةَ هَؤُلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ وَمَحِلَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وَصْفِ الْعَبِيدِ بِالْقِيَامِ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَلَامٌ أَبْلَغُ وَلَا أَفْخَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله
قَوْله تَعَالَى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ وَالْعُسْرَةُ هِيَ شِدَّةُ الْأَمْرِ وَضِيقُهُ وَصُعُوبَتُهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وقلة من الماء والزاد والظهر فخص الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ لعظم منزلة الاتباع في مثله وَجَزِيلِ الثَّوَابِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهَا لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَعَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا وَحُسْنِ الْبَصِيرَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ إذْ لَمْ تُغَيِّرْهُمْ عَنْهَا صُعُوبَةُ الْأَمْرِ وَشِدَّةُ الزَّمَانِ وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِمُقَارَبَةِ مَيْلِ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يزيغ قلوب فريق منهم وَالزَّيْغُ هُوَ مَيْلُ الْقَلْبِ عَنْ الْحَقِّ فَقَارَبَ ذَلِكَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا فَعَلُوا وَلَمْ يُؤَاخِذْهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَبِمِثْلِ الْحَالِ الَّتِي فَضَّلَ بِهَا مُتَّبِعِيهِ فِي حَالِ الْعُسْرَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَضَّلَ بِهَا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَبِمِثْلِهَا فَضَّلَ السَّابِقِينَ عَلَى النَّاسِ لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلِمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبَصِيرَةِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ بِالِاتِّبَاعِ فِي حَالِ قِلَّةِ عَدَدِ من المؤمنين واستعلاء أمر الكفار وما كان يلحقهم مِنْ قِبَلِهِمْ مِنْ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ
قَوْله تَعَالَى وعلى الثلاثة الذين خلفوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ مُجَاهِدٌ خُلِّفُوا عَنْ التَّوْبَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَدْ كانوا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِيمَنْ تَخَلَّفَ وَكَانُوا صَحِيحِي الْإِسْلَامِ فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ جَاءَ الْمُنَافِقُونَ فَاعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا بِالْبَاطِلِ وَهُمْ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم وَقَالَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الفاسقين فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَنَهَى عَنْ الرِّضَا عَنْهُمْ إذْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ مُظْهِرِينَ لِغَيْرِ مَا يُبْطِنُونَ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ صَدَقُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا تَخَلَّفْنَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَمَ
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
369
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكُمْ قَدْ صَدَقْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ
فَامْضُوا حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى فِيكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِمْ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُمْ وَأَنْ يَأْمُرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يُكَلِّمُوهُمْ فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ نَحْوَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى رَدِّ تَوْبَتِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالتَّوْبَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ لَا تُقْبَلَ تَوْبَةُ مَنْ يَتُوبُ فِي وَقْتِ التَّوْبَةِ إذَا فَعَلَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ تَشْدِيدَ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِمْ فِي تَأْخِيرِ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ وَنَهْي النَّاسَ عَنْ كَلَامِهِمْ وَأَرَادَ بِهِ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَاسْتِصْلَاحَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَعُودُوا وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى مِثْلِهِ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ بِمَوْضِعِ الِاسْتِصْلَاحِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَوْضِعُ اسْتِصْلَاحٍ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ أَمْرَ النَّاسِ بِتَرْكِ كَلَامِهِمْ وَتَأْخِيرَ إنْزَالِ تَوْبَتِهِمْ لَمْ يَكُنْ عُقُوبَةً وَإِنَّمَا كَانَ مِحْنَةً وَتَشْدِيدًا فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ وَهُوَ مِثْلُ ما نقوله فِي إيجَابِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ عَلَى التَّائِبِ مِمَّا قَارَبَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعُقُوبَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِحْنَةٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِالْفِعْلِ بَدِيًّا كَأَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ قَوْله تَعَالَى حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بما رحبت يعنى مع سعتها وضاقت عليهم أنفسهم يَعْنِي ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِالْهَمِّ الَّذِي حَصَلَ فِيهَا مِنْ تَأْخِيرِ نُزُولِ تَوْبَتِهِمْ وَمِنْ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَلَامَهُمْ وَمُعَامَلَتَهُمْ وَأَمْرِ أَزْوَاجِهِمْ بِاعْتِزَالِهِمْ قَوْله تَعَالَى وَظَنُّوا أَنْ لا ملجأ من الله إلا إليه يَعْنِي أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنْ لَا مَخْلَصَ لَهُمْ وَلَا مُعْتَصَمَ فِي طَلَبِ الْفَرَجِ مِمَّا هُمْ فِيهِ إلَّا إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا ذلك إلا من قبله الْعِبَادَةِ لَهُ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا كَاشِفَ لِهَمِّهِ غَيْرُهُ أَنَّهُ سَيُنَجِّيهِ وَيَكْشِفُ عَنْهُ غَمَّهُ وَكَذَلِكَ حَكَى جَلَّ وَعَلَا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وقال هذا يوم عصيب- إلَى أَنْ قَالَ- لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قوة أو آوى إلى ركن شديد فَتَبَرَّأَ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَمِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِ مَا هُوَ فِيهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى حِينَئِذٍ جَاءَهُ الْفَرَجُ فَقَالُوا إِنَّا رُسُلُ ربك لن يصلوا إليك وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مخرجا وَمَنْ يَنْوِ الِانْقِطَاعَ إلَيْهِ وَقَطْعَ الْعَلَائِقِ دُونَهُ فَمَتَى صَارَ الْعَبْدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ إمَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ وَيُنْجِيَهُ كَمَا حُكِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ بَلْوَاهُمْ مِثْلُ قَوْلِ أَيُّوبَ
370
أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب فَالْتَجَأَ إلَى اللَّهِ فِي الْخَلَاصِ مِمَّا كَانَ يُوَسْوِسُ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمَا ابْتَلَاهُ بِمَا ابْتَلَاهُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه قَابِلًا لِوَسَاوِسِهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَشْغَلُ خَاطِرَهُ وَفِكْرَهُ عَنْ التَّفَكُّرِ فِيمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مغتسل بارد وشراب فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ بِأَنْ الْتَجَأَ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كَشْفِ ضُرِّهِ دُونَ الْمَخْلُوقِينَ كَانَ عَلَى إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مِنْ فَرَجٍ عَاجِلٍ أَوْ سُكُونِ قَلْبٍ إلَى وَعْدِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الدنيا وما فيها قوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا يعنى والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وكونوا مع الصادقين رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ يَعْنِي لَازِمْ الصِّدْقَ وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي الْكَذِبِ رخصة وقال نَافِعٌ وَالضَّحَّاكُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الدُّنْيَا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر- إلى قوله- أولئك الذين صدقوا وَهَذِهِ صِفَةُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الآية وكونوا مع الصادقين فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ لِإِخْبَارِهِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وكونوا مع الصادقين فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا مُخَالَفَتُهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِاتِّبَاعِهِمْ وقَوْله تَعَالَى لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العسرة فِيهِ مَدْحٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ غَزَوْا مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَإِخْبَارٌ بِصِحَّةِ بَوَاطِنِ ضَمَائِرِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخْبِرُ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ إلَّا وَقَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضِيَ أَفْعَالَهُمْ وَهَذَا نَصٌّ فِي رَدِّ قَوْلِ الطَّاعِنِينَ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسِبِينَ بِهِمْ إلَى غَيْرِ مَا نَسَبَهُمْ اللَّهُ إلَيْهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَوَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ صِحَّةِ الضَّمَائِرِ وَصَلَاحِ السَّرَائِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَوْله تَعَالَى مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزَوَاتِهِ إلَّا الْمَعْذُورِينَ وَمَنْ أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ فِي الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَوْلُهُ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نفسه أَيْ يَطْلُبُونَ الْمَنْفَعَةَ بِتَوْقِيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نَفْسِهِ بَلْ كَانَ الْفَرْضُ عَلَيْهِمْ
أَنْ يَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَدْ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَبَذَلَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ لِيَقِيَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى ولا يطؤن مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيلا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ مِنْهُمْ وَهُوَ قَتْلُهُمْ أَوْ أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ أَوْ إخْرَاجُهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ هَذَا كُلُّهُ نَيْلٌ مِنْهُمْ وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ وَطْءِ مَوْضِعٍ يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَبَيْنَ النَّيْلِ مِنْهُمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَطْءَ دِيَارِهِمْ وَهُوَ الَّذِي يَغِيظُهُمْ وَيُدْخِلُ الذُّلَّ عَلَيْهِمْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَيْلِ الْغَنِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْفَارِسُ وَالرَّاجِلُ مِنْ سِهَامِهِمَا بِدُخُولِ أَرْضِ الْحَرْبِ لِانْحِيَازِهِ الْغَنِيمَةَ وَالْقِتَالَ إذْ كَانَ الدُّخُولُ بِمَنْزِلَةِ حِيَازَةِ الْغَنَائِمِ وَقَتْلِهِمْ وَأَسْرِهِمْ وَنَظِيرُهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْله تَعَالَى وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب فَاقْتَضَى ذَلِكَ اعْتِبَارَ إيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا وُطِئَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذَلُّوا
قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَسَخَ قَوْلَهُ فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقوله انفروا خفافا وثقالا فَقَالَ تَعَالَى مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا فِي السَّرَايَا وَيَتْرُكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَحْدَهُ وَلَكِنْ تَبْقَى بَقِيَّةٌ لِتَتَفَقَّهَ ثُمَّ تُنْذِرَ النَّافِرَةَ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ وَقَالَ الْحَسَنُ لِتَتَفَقَّهَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ ثُمَّ تُنْذِرَ إذَا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا الْمُتَخَلِّفَةَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدين فَظَاهِرُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الْفِرْقَةُ الَّتِي نَفَرَتْ مِنْهَا الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ الطَّائِفَةَ إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حُكْمَ الْعَطْفِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا يَلِيهِ دُونَ مَا يَتَقَدَّمُهُ فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أن يكون قوله منهم طائفة ليتفقهوا
أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي تَتَفَقَّهُ وَتُنْذِرُ وَلَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ تَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ تَنْفِرُ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إزَالَةَ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَإِثْبَاتَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ لِيَتَفَقَّهُوا في الدين الطَّائِفَةُ أَوْلَى مِنْهُ بِالْفِرْقَةِ النَّافِرَةِ مِنْهَا الطَّائِفَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْرَ الطَّائِفَةِ لِلتَّفَقُّهِ مَعْنًى مَفْهُومٌ يَقَعُ النَّفْرُ مِنْ أَجْلِهِ وَالْفِرْقَةُ الَّتِي مِنْهَا الطَّائِفَةُ لَيْسَ تَفَقُّهُهَا لِأَجْلِ خُرُوجِ الطَّائِفَةِ مِنْهَا لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَفَقَّهُ بِمُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ حَضْرَتِهِ لَا لِأَنَّ الطَّائِفَةَ نفرت
مِنْهَا فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ يُبْطِلُ فَائِدَةَ قوله تعالى ليتفقهوا في الدين فَثَبَتَ أَنَّ الَّتِي تَتَفَقَّهُ هِيَ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنْ الْفِرْقَةِ الْمُقِيمَةِ فِي بَلَدِهَا وَتُنْذِرُ قَوْمَهَا إذَا رَجَعَتْ إلَيْهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الْأَمْرِ بِنَفْرِ الطَّائِفَةِ مِنْ الْفِرْقَةِ لِلتَّفَقُّهِ وَأَمْرِ الْبَاقِينَ بِالْقُعُودِ لِقَوْلِهِ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
وَهَذَا عِنْدَنَا يَنْصَرِفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْعِلْمِ فِيمَا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أُمُورِ دِينِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِثْلُ مَنْ لَا يَعْرِفُ حُدُودَ الصَّلَاةِ وَفُرُوضَهَا وَحُضُورَ وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا وَمِثْلُ مَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ وَالْمَعْنَى الْآخَرُ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْكَافَّةَ وَلَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ لَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِنْذَارِ انْتَظَمَ فَحْوَاهُ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِنْذَارَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إنْذَارًا وَالثَّانِي أَمْرُهُ إيَّانَا بِالْحَذَرِ عِنْدَ إنْذَارِ الطَّائِفَةِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى لَعَلَّهُمْ يحذرون مَعْنَاهُ لِيَحْذَرُوا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عذابهما طائفة من المؤمنين أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا وَقَالَ تَعَالَى وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَلَا خِلَافَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ إذَا اقْتَتَلَا كَانَا مُرَادَيْنِ بِحُكْمِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِك الْبَعْضُ وَالْقِطْعَةُ مِنْ الشَّيْءِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاحِدِ فَكَانَ قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ منهم طائفة بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ قَالَ بَعْضُهَا أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا فَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي وُجُوبِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُقَصِّرِ عَنْ إيجَابِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إنَّمَا تَنْفِرُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَاَلَّتِي تَتَفَقَّهُ إنَّمَا هِيَ الْقَاعِدَةُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَالَتُهَا أَيْضًا قَائِمَةٌ فِي لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ النَّافِرَةَ إذَا رَجَعَتْ أنذرتها التي لم تنفر وأخبرتها بِمَا نَزَلَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى لُزُومِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْمَدِينَةٍ مَعَ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِإِيجَابِهَا الْحَذَرَ عَلَى السَّامِعِينَ بِنِذَارَةِ الْقَاعِدِينَ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة خَصَّ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ لِلَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَاقْتُلُوا
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).