تفسير سورة التوبة

جهود القرافي في التفسير

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب جهود القرافي في التفسير
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ
٦٥٢- إذا قال الله تعالى في رمضان :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ﴾ فرمضان وقت الخطاب، وأول صفر هو وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره عن المحرم إلا جوزنا تكليف ما لا يطاق، ومذهبنا لا يحيله، فعلى هذا يجوز، ويكون التكليف واقعا، ونقتل جميع المشركين، ويكون المراد بهذا العام الخصوص، وأن لا نقتل النسوان والرهبان وغيرهم، ومع ذلك نقتلهم لعدم البيان، ونأثم لعدم الإذن في نفس الأمر في قتلهم، فيكون هذا تكليف ما لا يطاق، هو أن نأثم بما لا نعلمه. ( شرح التنقيح : ٢٨٢ )
٦٥٣- إن قول الله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ يقتضي وجوب القتل، وهو الحكم الذي حصل به العموم في هذه الصيغة شامل لما لا يتناهى عند ورود الصيغة، وقد لا يكون في الوجود ذلك الوقت مشرك البتة. ألا ترى إلى قولنا : " اقتلوا العنقاء١ والآدمي الذي له رأس " لفظ عام في المذكور، وحكم مقر عند السماع في أفراد غير متناهية وليس له في الخارج فرد واحد منه البتة، ولم يناف عدم الوقوع في الخارج ثبوت الحكم للعموم على عمومه من غير تخصيص، وإنما علمنا وجود المشركين من الخارج بالوجدان الحسي لا من جهة أن الصيغة عامة، والعموم متحقق وإن لم يكون في الخارج منه فرد البتة، فعلمنا أن الحكم الذي يقع به التعميم إنما تعلق بذلك العدد فقط. ( العقد المنظوم : ١/٣٣١ )
٦٥٤- قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ لا يفهم منه إلا الأمر بقتلهم في جميع البقاع. ( الفروق : ١/٩٧ )
٦٥٥- إن الله تعالى إذا قال :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ فلم نجد في الأرض إلا مشركا واحدا فقتلناه، فإنا نكون قائمين بما توجه عليها من حكم ذلك العموم، مع أن الواحد ليس بعموم، ما ذاك إلا أن الوقوع غير وجوب القتل، فالعموم إنما هو باعتبار أن الله تعالى أوجب قتل كل من يتوهم وجوده في العالم من المشركين، فهذا هو العام. أما الواقع من ذلك فقد يكون واحدا أو أكثر أو لا يوجد مشرك البتة، وذلك لا يقدح في العموم ولا في حكمه، فما حصل به العموم غير ما به يخرج عن عهدة العموم. ( شرح التنقيح : ٢٠٠ )
٦٥٦- يلزم أن يكون قوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ غير مخصوص، أما بالنساء فلأنهن لم يندرجن في الصيغة لأنها صيغة المذكر، وأما الصبيان فلأنهم يقتلون في حالة ما وهي إذا كبروا، وكذلك الرهبان يقتلون إذا قاتلوا، وهي حالة ما، وكذلك أهل الذمة. فلا يتصور فيه تخصيص بناء على هذه القاعدة، فإنا لم نجد فردا من هذا العموم لا يقتل في حالة ما. ( شرح التنقيح : ٢٠٧-٢٠٨ )
٦٥٧- إن الله تعالى لم يحكم في هذه الآية بشرك أحد ولا بأن أحدا مشرك، بل حكم بوجوب القتل، والمشركون متعلق هذا الحكم. ( نفسه : ٥٠ )
٦٥٨- قوله تعالى :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾، اشترط في ترك القتل بعد التوبة إقامة الصلاة. ( الذخيرة : ٢/٤٨٣ )
١ - العنقاء طائر ضخم ليس بالعقاب... وقيل: طائر لم يبق في أيدي الناس من صفتها غير اسمها... ن: اللسان: ١٠/٢٧٦..
٦٥٩- هو نكرة في سياق الشرط، وهو عام، بمعنى : أي مشرك استجار به صلى الله عليه وسلم حيث وجبت له الإجارة، لأن اجتماعهم في الاستجابة شرط. بل معناه : إن معنى الشرطية شامل لكل فرد من أفرادهم بحيث لا يبقى فرد منهم إلا وقد حصل معنى هذا الاشتراط. ( العقد المنظوم : ٢/١١٠ )
٦٦٠- ورد قوله تعالى :﴿ ولم يخش إلا الله ﴾ وقوله تعالى :﴿ فلا تخشوهم واخشوني ﴾١ وقوله تعالى :﴿ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ﴾٢ ونحو ذلك من النصوص المانعة من خوف غير الله تعالى، وهو المستفيض على ألسنة الجمهور. وهذه النصوص محمولة على خوف غير الله تعالى المانع من فعل واجب أو ترك محرم أو خوف عالم تجري العادة بأنه سبب للخوف كمن تطير بما لا يخاف منه عادة كالعبور بين الغنم، يخاف لذلك أن لا تقضى حاجته بهذا السبب. فهذا كله خوف حرام.
وقد يكون الخوف من غير الله تعالى ليس محرما كالخوف من الأسود والحيات والعقارب والظلمة. وقد يجب الخوف من غير الله تعالى كما أمرنا بالفرار من أرض الوباء والخوف منها على أجسامنا من الأمراض والأسقام. وفي الحديث : " فر من المجذوم فرارك من الأسد " ٣. فصون النفس والأجسام والمنافع والأعضاء والأموال والأعراض عن الأسباب المفسدة واجب. وعلى هذه القواعد فقس يظهر لك ما يحرم من الخوف من غير الله، وما لا يحرم، وحيث تكون الخشية من الخلق محرمة، وحيث لا تكون. فاعلم ذلك. ( الفروق : ٤/٢٣٧ )
١ - سورة المائدة: ٤..
٢ - سورة الأحزاب: ٣٧..
٣ - خرجه أحمد في مسنده المكثرين عن أبي هريرة. ح: ٩٣٤٥..
٦٦١- النجاسة في اللغة ملابسة الأدناس، وتستعمل مجازا في العيوب، كقوله تعالى :﴿ إنما المشركون نجس ﴾ تشبيها للدنس المعلوم بالمحسوس، ويقال : نجس الشيء- بكسر الجيم- ينجس، بفتحها، نجسا- بفتحها أيضا- فهو نجس- بكسرها-. ( الذخيرة : ١/١٦٣ )
٦٦٢- جعل القتال مغيا إلى وقت موافقتهم على أداء الجزية. ( الفروق : ٣/٢٣ )
٦٦٣- الأصل في عقد الجزية قوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ حتى يُعطوا الجزية ﴾. ( الذخيرة : ٣/٤٥١ )
٦٦٤- الجزية مأخوذة من الجزاء الذي هو المقابلة، والمأخوذة عند الأصحاب مقابل الدم. ويرد عليه : أنه اقتضى عصمة الأموال والذراري، وهي غير مستحقة القتل، فليس حقن الدم هو كل المقصود. ويعزى للشافعية أنها أجرة الدار. ويرد عليه : أن المرأة تنتفع بالدار ولا جزية فيها. والمتجه أن يقال : هي قبالة جميع المقاصد المرتبة على العقد.
سؤال : عادة الشرع دفع أعظم المفسدتين بإيقاع أدناهما، وتفويت المصلحة الدنيا لتوقع المصلحة العليا، ومفسدة الكفر توفى على مصلحة المأخوذ من أموال الكفار جزية، بل على جملة الدنيا. فلم أقرهم الشرع على الكفر بهذا النزر اليسير ؟ ولم لا حتم القتال درءا لمفسدته ؟
جوابه : أن هذا من باب التزام المفسدة الدنيا لتوقع المصلحة العليا، وذلك أن الكافر إذا قتل انسد عنه باب الإيمان ومقام السعادة، فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الزمان، ولا سيما مع اطلاعه على محاسن الإسلام، وإن مات على كفره فيتوقع ذلك من ذريته وذرية ذريته على يوم القيامة، وساعة من إيمان تعدل دهرا من كفر، ولذلك خلق الله تعالى آدم على وفق الحكمة وأكثر ذريته كفار. فعقد الجزية من آثار رحمته تعالى. ( نفسه : ٣/٤٥٣- ٤٥٤ )
٦٦٥- قال الشافعي : " إذا أسلم الذمي بعد وجوب الجزية أخذت منه بناء على أنها أجرة " ١. وعندنا : يدل من سفك الدم وحض على الإسلام بالصغار. لنا قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ فشرط في إعطائها الصغار، وهو ممتنع عن المسلم٢. ( الذخيرة : ٣/٤٥٤ )
٦٦٦- اعلم أن عقد الجزية موجب لعصمة الدماء وصيانة الأموال والأعراض وغير ذلك مما يترتب عليه، وحقيقة عقد الجزية هو التزامنا ذلك بشروط نشترطها عليهم مضت سنة الخلفاء الراشدين بها، وهي أيضا مستفادة من قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾. ( الفروق : ٣/١١ )
٦٦٧- قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ لا يكون تخصيصا٣، لأنه يقتضي قبل كل مشرك في حالة الامتناع من الجزية، وهذه حالة خاصة، وإذا قتلنا كل مشرك في حالة خاصة، فقد قتلنا كل مشرك في مطلق الحال، وهذا هو مقتضى العموم، فلم يخرج من أفراده شيء، ولم يوجد ما خالف العموم بل ما قيده٤. ( العقد المنظوم : ٢/٢٦٨ )
٦٦٨- مفهومه : أنهم لا يقتلون في هذه الحالة، أي بعد إعطاء الجزية، وسلب القتل ثابت في هذه الحالة، لمثل ما لا يتناهى من العدد، فهو عموم في النفي. ( نفسه : ١/٣٧٣ )
١ - للشافعي قولان في هذه المسألة: ن: المغني: ٨/٥١١. فتح القدير: ٥/٢٩٦..
٢ - ن. بداية المجتهد: ٣/٤٩٥..
٣ - يقول د. محمد بنصر: "إن لم يكن مخصصا فهو مقيد كما يراه القرافي نفسه، والنتيجة واحدة بالنسبة للحكم الفقهي". ٢/٢٦٨ هامشا..
٤ - يقول د: محمد بنصر: "العموم لا يقيد وإنما يخصص، ولعله يقصد ما قيده الإطلاق في الأحوال التي يدل عليها العام في الالتزام. نفسه. ٢/٢٦٨..
٦٦٩- فيا معشر النصارى، كيف جعلتم المسيح ابن الله تعالى والله أبا ؟ ﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ﴾. فجميع الأنبياء مجمعون على رب واحد، وأن صانع العالم إله واحد لم يذكر واحد منهم شيئا مما ذكرتموه، ولا أشار أحد إلى الضلال الذي سلكتموه، فما كانت الحاجة بكم والضرورة التي حملتكم على مخالفة الأنبياء.
هذا موسى عليه السلام لما قال : " إله واحد ". لو كانوا ثلاثة كما زعمتم لما وسعه تغيير الكلام الذي سمعه من مولاه ولا استحيى بتبديله عن معناه.
وكذلك قال لوقا في إنجيله أن عالما من علماء اليهود سأل المسيح، فقال له : " يا معلم صالح ما أصنع لتكون لي الحياة الأبدية ؟ فقال له المسيح : تحب الله وحده، فقال له الحبر : نعم ما قلت يا معلم وأنا أعرف أنه واحد " ١ فلو كان ما ادعيتموه صحيحا لم يكن ليكتم الحق. فإن كان بزعمكم مسحا، بل كان يقول لمثل هذا الطالب للفوائد : " أنا والأب إله واحد " وهو في جميع الأناجيل التي عندكم لم يسم فيها الابن البشر، أترى هذا الإله بزعمكم كان يفزع من اليهود أن يسمي نفسه ابن الإله المعبود.
فيا معشر النصارى كيف أتيتم بما ينافي العقول، وكذبتم مسيحكم وخالفتم الأنبياء والتوراة وأناجيلكم، وجعلتم ذا الملك والملكوت والعزة والجبروت خرج من رحم امرأة ورضع وفطم وصلب على صليب الصلبوت بعد أو وصل إليه من الذل والقتل ما لم يصل مثله إلى أحد من المخلوقين كما حكى لوقا في إنجيله أن المسيح قال بزعمكم على الصليب : " إليكم يقال جميع عابري الطرقات التفتوا وانظروا إن كان وجع مثل أوجاعي " فهذا الإله المسكين يستغيث مثل الحزين وتعالى عن مثل هذا أحسن الخالقين. ( أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية : ٦٣-٦٤ )
٦٧٠- قوله تعالى :﴿ قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ أي : لعنهم الله. ( الذخيرة : ٢/١٥٣ )
١ - يقول د. عبد الرحمان بن محمد سعيد دمشقية، محقق كتاب "أدلة الوحدانية..."،: "لا توجد هذه الفقرة في إنجيل لوقا"ن: هامش ص : ٦٤: من الكتاب..
٦٧١- تقديره : " ما أمروا ليعصوا ويخالوا، ولا لسبب من الأسباب، بل لقصد إيقاع العبادة والوحدانية منهم بالفعل ". فهو استثناء من الأسباب.
فإن قلت : هذا يؤيد المعتزلة في أن الله تعالى أراد من عباده العبادة، وأن مقصود الأمر الظاهر، وعند أهل الحق أن الله تعالى يأمر بما لا يريد، فلا يلزم أن يكون إيقاع العبادة غرضا ولا مقصودا، وأنت جعلته مقصودا وحملت الآية عليهم.
قلت : السبب هاهنا هو ما يترتب على الفعل، كما تقول : " ما اتجرت إلا لأربح " : لا باعث لي على التجر إلا هذا السبب، فهو مسبب في المعنى باعتبار البداية، وهذا معنى قول أرباب العقول : إنه السبب الغائي، وهو غاية الشيء وما يترتب عليه ويقولون : إنه سببه في الأذهان مسبب في الأعيان باعتبار أنه الباعث في أول الأمر على الفعل، فهو سبب من هذا الوجه، وباعتبار كونه يترتب على الفعل هو مسبب، وهو معنى قولهم : " أول الفكرة آخر العمل، وآخر العمل أول الفكرة ".
إذا تقرر هذا فالعبادة والتوحيد هو مسبب من جهتين :
من جهة أنه مقتضى الأمر.
ومن جهة أن مراد المتكلم الثاني هاهنا غير مراد، بل المراد أنه مسبب من جهة اقتضاءات الألفاظ والأوامر.
أي : لم يكن مقتضى الأمر إلا ذلك، لا أن يكفروا ويشركوا فجعل سببا تدخل عليه لام كي، لأنه من شأن المسبب الذي هو سبب غائي، كما تقدم تمثيله بالربح مع التجارة. فهو سبب مسبب بوجهين واعتبارين كما تقدم بيانه.
والمراد إثبات ذلك له من حيث مقتضيات الألفاظ بوضعها، لا من جهة إرادة المتكلم بها. والنزاع إنما هو من جهة الإرادة، لا من جهة اقتضاء الألفاظ فاندفع السؤال. ( الاستغناء : ٥٠٢- ٥٠٣ )
٦٧٢- قال المازري : " قال ابن المسيب وغيره : القتال فرض عين على الأعيان لقوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾.
وجوابه : أنه منسوخ بقوله تعالى :﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾١ وقوله :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ﴾٢ ثم قال :﴿ وكلا وعقد الله الحسنى ﴾٣ ولو أنه على الأعيان لما وعد القاعد الحسنى. ولم تزل الأمة بعده عليه السلام ينفر بعض دون بعض٤. ( الذخيرة : ٣/٣٨٥ )
٦٧٣- إن ظواهر النصوص تقتضي ترتيب القتال على الكفر والشرك كقوله تعالى :﴿ قاتلوا المشركين كافة ﴾. ( الذخيرة : ٣/٣٨٧ )
١ - سورة التوبة: ١٢٢. وهذه الآية نسخت الآيتين ٣٩-١٢٠ من السورة نفسها، وهما على التوالي: ﴿إلا تنفروا يعذبكم...﴾ و﴿ما كان لأهل المدينة...﴾ حسب ما رواه الطبري بسنده عن عكرمة والحسن البصري. ن: جامع البيان: ١٤/٢٥٥-٢٥٦..
٢ - سورة النساء: ٩٥..
٣ - نفسها..
٤ - ذهب د. مصطفى زيد "إلى أن ذلك تخصيص وليس نسخا، لأن النفير مطلوب مأمور به أمرا عاما، مع نفي الحرج عمن لا يستطيعه لضعف أو مرض أو حاجة. وخلص إلى القول بأن آيات النفير في سورة براءة محكمات كلهن فليس فيهن ناسخ ولا منسوخ". ن: النسخ في القرآن: ٢/٥٤٥..
أي : أراد إقامتهم، وكذلك فسره العلماء.
فكراهية الله تعالى لسنة الأولين إرادة ضدها، وهو الإهمال، لأنه ضد التعجيل.
٦٧٤- قال قوم : " لا يصح التوكل إلا مع ترك الأسباب والاعتماد على الله تعالى، " قاله الغزالي في إحياء علوم الدين١ وغيره. وقال آخرون : " لا ملازمة بين التوكل وترك الأسباب ولا هو هو "، لأن التوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى فيما يجلبه من خير أو يدفعه من ضر، قال المحققون : " والأحسن ملابسة الأسباب مع التوكل للمنقول والمعقول ".
أما المنقول فقوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ فأمر بالاستعداد مع الأمر بالتوكل في قوله تعالى :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾٢ وقوله تعالى :﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ﴾٣ أي : تحرزوا منه. فقد أمر باكتساب التحرز من الشيطان كما يتحرز من الكفار. وأمر تعالى بملابسة أسباب الاحتياط والحذر من الكفار في غير ما موضع من كتابه العزيز ورسوله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، وكان يطوف على القبائل ويقول : " من يعصمني حتى أبلغ رسالة ربي " ٤ وكان له جماعة يحرسونه٥ من العدو حتى نزل قوله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾٦ ودخل مكة مظاهرا بين درعين في كتيبته الخضراء من الحديد، وكان في آخر عمره، وأكمل أحواله مع ربه تعالى يدخر قوت سنة لعياله.
وأما المعقول فهو أن الملك العظيم إذا كانت له جماعة ولهم عوائد في أيام لا يحسن إلا فيها أو أبواب لا تخرج إلا منها أو أمكنة لا يدفع إلا فيها فالأدب معه أن لا يطلب منه فعل إلا حيث عوده وأن لا يخالف عوائده، بل يجري عليها، والله تعالى ملك الملوك وأعظم العظماء، بل أعظم من ذلك رتب ملكه على عوائد أرادها وأسباب قدرها وربط بها آثار قد قدرته، ولو شاء لم يربطها، فجعل الري بالشرب، والشبع بالأكل، والاحتراق بالنار، والحياة بالتنفس في الهواء، فمن طلب من الله تعالى حصول هذه الآثار بدون أسبابها فقد أساء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، بل يلتمس فضله في عوائده.
وقد انقسمت الخلائق في هذه المقام ثلاثة أقسام :
قسم عاملوا الله تعالى باعتماد قلوبهم على قدرته تعالى مع إهمال الأسباب والعوائد فلجنوا في البحار في زمن الهول، وسلكوا القفار العظيمة المهلكة بغير زاد، إلى ذلك من هذه التصرفات. فهؤلاء حصل لهم التوكل وفاتهم الأدب مع الله وهم جماعة من العباد أحوالهم مسطورة في الكتب في الرقائق.
وقسم لاحظوا الأسباب وأعرضوا عن التوكل، وهم عامة الخلق وشر الأقسام، وربما وصلوا بملاحظة الأسباب والإعراض عن المسبب إلى الكفر.
والقسم الثالث اعتمدت قلوبهم على قدرة الله تعالى، طلبوا فضله في عوائده، ملاحظين في تلك الأسباب مسببها وميسرها، فجمعوا بين التوكل والأدب، وهؤلاء النبيئون والصديقون وخاصة عباد الله تعالى والعارفون بمعاملته، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.
فهؤلاء هم خير الأقسام الثلاثة، والعجب ممن يهمل الأسباب ويفرط في التوكل بحيث يجعله عدم الأسباب أومن شرطه عدم الأسباب إذا قيل : الإيمان سبب لدخول الجنة، والكفر سبب لدخول النار بالجعل الشرعي كسائر الأسباب، فهل هو تارك هذين السببين أو معتبرهما، فإن ترك اعتبارهما خسر الدنيا، من الأسباب، إن كان هذان لا ينافيان التوكل فغيرهما كذلك.
نعم من الأسباب ما هو مطرد في مجرى عوائد الله تعالى كالإيمان والكفر والغذاء والتنفس وغير ذلك، ومنها ما هو أكثر، غير مطرد، لكن الله تعالى أجرى فيه عادة من حيث الجملة كالأدوية وأنواع الأسفار للأرباح ونحو ذلك.
والأدب في الجميع التماس فضل الله تعالى في عوائده، ولذلك كان الرسول عليه السلام يأمر بالدواء٧ والحمية واستعمال الأدوية حتى الكي بالنار، فأمر بكي سعد٨ وقال عليه السلام : " المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء " ٩ وصلاح كل جسم ما اعتاد، وإذا كان حاله في الأسباب التي ليست مطردة من الحمية وإصلاح البدن بمواظبة عادته، فما ظنك بغير ذلك من العوائد. فهذا هو الحق الأبلج والطريق الأنهج. ( الفروق : ٤/٢٢١-٢٢٤ )
١ - إحياء علوم الدين: ٤/٢٨٠ وما بعدها. وقد أورد الإمام الغزالي آراء الفريقين معا بشكل مستفيض. ن: إحياء علوم الدين: ٤/٢٧٦ إلى ٣١٠. الشطر الثاني من كتاب التوحيد: في أحوال التوكل وأعماله..
٢ - سورة التوبة: ٥١..
٣ - سورة فاطر: ٦..
٤ - سبق تخريجه في ص: ١٧٩ ؟؟.
٥ - أخرج الطبراني عن عصمة بن مالك الخطمي قال: "كنا نحرس رسول الله عليه السلام بالليل حتى نزلت: ﴿والله يعصمك من الناس﴾ فترك الحرس" ن: لباب النقول: ٨٣. وتفسير ابن كثير: ٢/١٢٤. وما بعدها..
٦ - سورة المائدة٦٧..
٧ - وردت أحاديث كثيرة في هذا الباب. ن: مثلا: صحيح مسلم: كتاب. السلام ح: ٦٩. وسنن الترمذي، كتاب: الطب الباب: ٢ ومسند أحمد: ٤/٢٧٨..
٨ - حديث : أنه عليه السلام أمر بكي سعد بن زرارة، خرجه الطبراني من حديث سهل بن حنيف ومن حديث أبي أسامة بن سهل ح: ٣٩٧..
٩ - لم أعثر على هذا الحديث فيما اطلعت عليه من كتب الحديث ومعاجمها، ولعله قول مأثور..
٦٧٥- أي : لا يبتغون في حالة من الحالات إلا في حالة الكراهة، فالواو في قوله :﴿ وهم ﴾ واو الحال والجملة بعدها في موضع نصب على الحال، ولا تحتاج الأخرى إلى تأويل، فإن الجملة إذا وقعت على هذه الصورة تسمى حالا وقفية، نحو " خرجت والأسد قائم " أو : " والشمس طالعة ". ( الاستغناء : ٥٤ )
٦٧٦- حصرها بصيغة " إنما " فيهم، فإن لم يوجد إلا صنف واحد أجزأ الإعطاء له إجماعا. ( الذخيرة : ٣/١٤٠ )
٦٧٧- اللام التي في قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ هل هي للتمليك كقولنا : " المال لزيد " أو لبيان اختصاص الحكم بالثمانية كقوله تعالى :﴿ فطلقوهن لعدتهن ﴾١.
أي : الطلاق مختص بهذا الزمان، وقوله عليه السلام : " صوموا لرؤية الهلال " ٢ أي : وجوب الصوم مختص بهذا السبب، فليس في الآية على هذا تعريض لملك، وهذا هو الظاهر لما فيه من عدم المخالفة لظاهر اللفظ، ومن قال بالتمليك يلزمه مخالفة ظاهر اللفظ. ( نفسه : ٣/١٤٠-١٤١ )
٦٧٨- من لاحظ قبول النوع للملك قال : اللام للملك، ومن لاحظ عدم التعيين وعدم الحصر قال : تمليك غير المحصور، لا يتصور جعلها للاختصاص. ( شرح التنقيح : ١٠٤ )
٦٧٩- الصنف الأول : الفقير : في الجواهر : " هو الذي يملك اليسير لا يكفيه لعيشه " ٣ وفي الكتاب : " من له دار وخادم لا فضل في ثمنهما عن غيرهما فيعطى، وإلا فلا " ٤ قال سند : مذهب الكتاب : تراعى الحاجة دون قدر النصاب من غير العين، فإن من ملك نصابا من العين فهو غني تجب عليه الزكاة فلا يأخذها. والفرق أن الشرع حدد نصاب العين ولم يحدده من غيرها. وروي عنه المنع مع النصاب من غير العين إذا فضل عن قيمة المسكن. وروي جواز الأخذ مع النصاب للعين. وأما المستغني بقوته وصنعته فعلى مراعاة القوة لا يعطي شيئا، وقاله الشافعي. قال مالك وأبو حنيفة : يعطى لأنه ليس بغني، وإنما هو يقدر على شيء ما حصل إلى الآن. قال اللخمي : " وقال يحيى بن عمر٥ : لا يجزئ لقوله عليه السلام في أبي داود : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي " ٦.
والصحيح خمسة أقسام :
من له قوة صناعية تكفيه لا يعطى، لقيام الصنعة مقام المال.
ومن لا تكفيه يعطى تمام الكفاية.
ومن كسدت صنعته يعطى.
ومن ليس له صناعة ولا يجد في الموضع ما يتحرف به يعطى.
ومن وجد ما يتحرف لو تكلف ذلك، فهو موضع الخلاف.
ويؤكد المنع : إنما هي مواساة، فلا تحل للقادر على الكسب، كمواساة القرابة بطريقة الأولى لتأكيد القريب على الأجنبي.
وفي الجواهر : " لا تشترط الزمانة ولا التعفف عن السؤال، والمكفى بنفقة ابنه، والزوج لا يعطى " ٧.
الصنف الثاني : المسكين، قال سند : " المشهور أن المسكين أشد حاجة من الفقير " وقاله أبو حنيفة. وقال الشافعي وبعض أصحابنا : الفقير أشد لقوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ﴾٨ فجعل لهم سفينة، ولأن الفقير مأخوذة من فقار الظهر، إذا انكسرت، وذلك شأن الموت.
وقال ابن الجلاب : " هما سواء لمن له شيء لا يكفيه " ٩. فعلى هذا تكون الأصناف سبعة، وقاله ابن وهب : " الفقير المتعفف عن السؤال مع الحاجة، والمسكين الذي يسأل في الأبواب والطرق " لقوله عليه السلام في مسلم : " ليس المسكين هو الطواف " الحديث١٠.
لنا قوله تعالى :﴿ أو مسكينا ذا متربة ﴾١١ وهو الذي ألصق جلده بالتراب، ولقوله عليه السلام : " ليس المسكين هو الطواف على الناس، فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا ".
وقول الشاعر١٢ :
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وفق العيال فلم يترك له سبد١٣
فجعل له حلوبا، قال الأخفش١٤ : " والفقير من قولهم : فقرت له فقرة من مالي أي : أعطيته ". فيكون الفقير من له قطعة من المال، والمسكين من السكون، ولو أخذ الفقير من الذي قالوه، فالذي سكن عن الحركة أقرب للموت منه.
وأما الآية : فالمراد بالمساكين : المقهورون، كقوله تعالى :﴿ ضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾١٥ وذلك لا ينافي الغنى، ومعنى الآية : " لا طاقة لهم بدفع الملك بدفع الملك عن غصب سفينتهم ". وورد على الثاني أن المراد بالمسكين في قوله : " ليس المسكين بهذا الطواف " أي المسكين الكامل المسكنة، ولا يلزم من نعته بصفة الكمال نفيه مطلقا. واللام تكون للكمال، قاله سيبويه " ١٦ وجعلها في " اسم الله تعالى له " ١٧. وعن البيت : أن الحلوبة لم يتمها له إلا في الزمن الماضي، لقوله : كانت في زمن سماه فقيرا، فلعله كان في ذلك الزمان يسمى غنيا.
الصنف الثالث : هو العامل، وفي الجواهر : " نحو : الساعي، والكاتب، والقاسم، وغيرهم. أما الإمام، والقاضي، والفقيه، والقارئ، فرزقهم من الخراج، والخمس، والعشر، وغير ذلك " ١٨. قال سند : " وروي عن مالك : من يسوقها ويرعاها، وهو شاذ " قال اللخمي : " ويجوز أن يكون العامل، لقوله عليه السلام في الموطأ : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله، أو العامل عليها أو الغارم، أو لرجل اشتراها بمال، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني " ١٩. وأجاز أحمد بن نصر أن يكون من آل النبي عليه السلام، أو عبدا أو ذميا قياسا على الغني. والفرق : أنها أجرة له، فلا تنافي الغنى، وكونها أوساخ الناس ينافي آل البيت لنفاستهم، ولكونها قربة، تنافي الكفار والعبيد لخصاصتهم.
الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم، وفي الجواهر : " كانوا في صدر الإسلام يظهرون الإسلام، فيؤلفون بالعطاء لينكف غيرهم بانكفافهم ويسلم بإسلامهم وقد استغني الآن عنهم " ٢٠. قال عبد الوهاب : " فلا سهم لهم إلا أن تدعو حاجة إليهم. "
وقيل : هم صنف من الكفار يتألفون على الإسلام، لا يسلمون بالقهر.
وقيل : قوم إسلامهم ضعيف فيقوى بالعطاء.
وقيل : عظماء من ملوك الكفار أسلموا فيعطون ليتألفوا أتباعهم، لأن الجهاد يكون تارة بالسنان وتارة بالبيان وتارة بالإحسان، يفعل مع كل صنف ما يليق به " ٢١.
الصنف الخامس : فك الرقاب. في الجواهر : " يشتري الإمام الرقاب من الزكاة فيعتقها عن المسلمين، والولاء لجميعهم. قال ابن القاسم : ولا يجزي فيها إلا ما يجزي في الرقاب الواجبة، خلافا لابن حبيب في الأعمى والأعرج والمقعد.
وقال ابن وهب : هو فكاك المكاتبين٢٢ قال محمد : يعطي مكاتبة من زكاته ما لم يتم به عتقه، وفي قطاعة مدبره٢٣ ما يعتق به ؛ وهما لا يجزئان في الواجب.
فرع : قال : " لو اشترى من زكاته رقبة فأعتقها ليكون الولاء له النية لا يجزئه عند ابن القاسم لاستثنائه الولاء، خلافا لأشهب، محتجا بمن أمر عبده بذبح أضحيته فذبحها عن نفسه ؛ فإنها تجزئ عن الآمر، أو أمره بعتق عبده عن نفسه فأعتقه الوكيل عن نفسه ؛ فإن العتق عن الآمر، ولا يجزئ فك الأسير عند ابن القاسم خلافا لابن حبيب " ٢٤.
تمهيد قوله تعالى :﴿ وفي الرقاب ﴾ اجتمع فيه العرف الشرعي واللغة، أما العرف فلأنه تعالى أطلق الرقبة في الظهار والقتل ولم يرد بها إلا الرقيق الكامل الرق والذات، وأما اللغة، فإن الرقبة تصدق لغة على الأحرار والعبيد، ومن كمل رقه ومن نقص، فالمشهور قدم العرف الشرعي، وهو المشهور في أصول الفقه بأنه ناسخ للغة، ومن لاحظ اللغة لكونها الحقيقة، وغيرها مجازا أجاز المكاتب والمدبر والمعيب والأسير وعتق الإنسان عن نفسه، وإن كان الولاء له دون المسلمين، فإن حق المسلمين إنما يتعين في بيت المال. وكذلك سائر مصارف الزكاة لا يعم منها شيء للمسلمين، وقياسا على الرقاب في غير الزكاة، فإنه يجزئ، والولاء للمعتق. قال سند : " وجوز ابن حبيب عتق من بعضه حر تفريعا على المكاتبين ". قال اللخمي : " اختلف في خمسة : المعيب، وإعطاء المكاتب، وإعطاء الرجل مالا لتعتق عبده، والأسير، وعتق بعض عبد، فيبقى الباقي رقيقا، أو كان بعضه حرا، قال : وقول مالك وأصحابه إجزاء المعيب، ومن اشترى رقبة من زكاته وقال : هي حرة عن المسلمين ولا ولاء لي، فولاؤها للمسلمين وتجزئه، وإن قال : حر عني وولاؤه للمسلمين، قال ابن القاسم لا يجزئه وولاؤه له، وقال أشهب : يجزئه وولاؤه للمسلمين ".
الصنف السادس : الغارم : وهو من أدان في غير سفه ولا فساد، ولا يجد وفاء أو معهم أموال لا تفي ديونهم، فيعطون من الزكاة قضاء ديونهم وإن لم تكن لهم أموال فهم فقراء غارمون يعطون بالوصفين، وفي الدفع لمن ادّان في سفه ثم نزع عنه خلاف، وفي دينه لله تعالى كالكفارات والزكوات التي فرط فيها خلاف.
قال أبو الوليد : " ويجب أن يكون الغارم بحيث ينجبر حاله بأخذ الزكاة ويفسد بتركها بأن تكون له أصول يستغلها فيلجئه الدين إلى بيعها فيفسد حاله فيؤدي ذلك من الزكاة. وأما إن كان يتدين أموال الناس ليكون غارما فلا، لأن الدفع يديمه على عادته الردية، والمنع يردعه " ٢٥.
قال سند : " من تدان لفساد ثم حسنت حاله دفعت إليه ".
قال أبو الطاهر في نظائره : " وشروط الغارم أربعة : أن يكون عنده ما يقضي بها دينه، وأن يكون الدين لآدمي، وأن يكون مما يحسن فيه، وأن لا يكون استدانه في فساد ".
الصنف السابع : سبيل الله تعالى، وفي الجواهر : " هل الجهاد دون الحج " ٢٦ خلافا لابن حنبل. لنا قوله عليه السلام :" لا تحل الصداقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله... الحديث٢٧ " ولم يذكر الحج ؛ ولأن أخذ الزكاة إما لحاجته إليها كالفقير، أو لحاجتنا إليه كالعامل. والحاج لا يحتاج إليها لعدم الوجوب عليه حينئذ إن كان فقيرا، ولأنه عنده كفاية إن كان غنيا، نحتاج نحن إليه.
قال سند : " قال عيسى بن دينار٢٨ وأبو حنيفة : إن كان غنيا ببلده ومعه ما يغنيه في غزوه، فلا يأخذها، وافقنا الشافعي. " لنا : أن الآية مشتملة على الفقراء، فيكون سبيل الله تعالى غيرهم عملا بالعطف، ويؤكده الحديث المتقدم. قال ابن عبد الحكم : " ويشتري الإمام منها المساحي٢٩، والحبال، والمراكب، وكراء النواتية٣٠ للغزو، وكذلك الجواسيس وإن كانوا نصارى، ويبني منها حصن على المسلمين، ويصالح منها العدو ". وقال أبو الطاهر : " في ذلك قولان، والمشهور : المنع لأنهم فهموا من السبيل الجهاد نفسه ".
الصنف الثامن : ابن السبيل، وفي الجواهر : " وهو المنقطع به بغير بلده، المستديم السفر، وإن كان غنيا ببلده، ولا يلزمه التداين لاحتمال عجزه عن الأداء. وقيل : إن قدر على السلف لا يعطى، فإن كان معه ما يغنيه فلا يعطى لكونه ابن السبيل. أو يعطى : روايتان، والأول المشهور، وما أخذ لا يلزمه رده إذا صار لبدله لأخذه إياه باستحقاق، ولصرفه في وجوه الصدقة٣١.
قال سند : " إن كان مستمر السفر فلا خلاف، وإن أقام مدة ثم أراد الخروج أجاز مالك والشافعي الدفع له لأنه غريب يريد السفر قياسا على المستديم بجامع الحاجة ومنع أبو حنيفة، ومن اضطر إلى الخروج من بلده : زعم بعض المتأخرين الدفع له لما يسافر به، وإن كان ذاهبا إلى غير مستعيب، دفع له نفقة الرجوع. شبهه بابن السبيل، وإن لم يقع عليه، ومنع عبد الوهاب مطلقا، ولو احتاجت زوجة ابن السبيل التي خلفها النفقة، قال مالك : يعطى لها، وفي الكتاب : " الحاج ابن السبيل " ٣٢.
قال أبو الطاهر في نظائره : " شروط ابن السبيل ثلاثة : أن يكون سفره غير معصية، وأن يكون فقيرا في الموضع الذي هو فيه، وأن لا يجد من يسلفه ". ( الذخيرة : ٣/١٤٣ إلى ١٤٩ )
٦٨٠- في الجواهر : " يعطى ا
١ - سورة الطلاق: ١..
٢ - خرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا" وخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصوم، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، عن أبي هريرة..
٣ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٣..
٤ - المدونة: ١/٣٤٢ بتصرف..
٥ - هو يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكتاني، وقيل: البلوي، أبو زكرياء، من مصنفاته: "فضل الوضوء والصلاة" (ت: ٢٨٩). ن: الديباج: ٤٣٢..
٦ - سنن أبي داود، كتاب: الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني. عن عبد الله بن عمرو بن العاص..
٧ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٣..
٨ - سورة الكهف: ٧٩..
٩ - التفريع: ١/٢٩٧..
١٠ - خرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب قول الله تعالى: ﴿لا يسألون الناس إلحافا﴾ وخرجه مسلم في كتاب الزكاة أيضا، باب: المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن به فيتصدق عليه. والحديث مروي عن أبي هريرة..
١١ - سورة البلد: ١٦..
١٢ - البيت من قصيدة الراعي يمدح عبد الملك بن مروان، ويشكر إليه سعاته، ن: اللسان: ٥/٦٠..
١٣ - السبد: الوبر، وقيل: الشعر، والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد أي: ما له ذو وبر ولا صوف متلبد، يكنى بها عن الإبل والغنم... وقال الأصمعي: ما له سبد ولا لبد أي: ما له قليل ولا كثير... ن: السان: ٣/٢٠٢..
١٤ - هو سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، البلخي، ثم البصري، أبو الحسن، المعروف بالأخفش، نحوي عالم باللغة والأدب (ت: ٢١٥ هج) من مصنفاته: "تفسير معاني القرآن" و"شرح أبيات المعاني". و"الاشتقاق" وغيرهما. ن: وفيات الأعيان: ١/٢٠٨. والأعلام: ٣/١٠٢. وانباه الرواة: ٢/٣٦..
١٥ - سورة البقرة: ٦١..
١٦ - قال سيبويه: "إن قلت: هذا عبد الله كل الرجل، أو: هذا أخوك كل الرجل" فليس في الحسن كالألف واللام، لأنك إنما أردت بهذا الكلام: هذا الرجل المبالغ في الكمال" ن: الكتاب: ٢/١٢..
١٧ - نفسه: ٢/١٩٥..
١٨ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٤ بتصرف..
١٩ - رواه مالك في الموطأ مرسلا، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة ومن يجوز له أخذها، عن عطاء بن يسار..
٢٠ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٤ بتصرف..
٢١ - نفسه: ١/٣٤٤ بتصرف..
٢٢ - المكاتبون: جمع مكاتب، وهو العبد الذي يكاتبه سيده. والكتابة: عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه. ن: الرصاع على حدود ابن عرفة: ٥٢٤..
٢٣ - المدبر: هو العتق من ثلث مالكه بعد موته بعتق لازم، نفسه: ٥٢٤..
٢٤ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٥ بتصرف..
٢٥ - المقدمات: ن: ملحق المدونة الكبرى: ٥/١٣٨..
٢٦ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٧.
٢٧ خرجه أبو داود في سننه: ٢/٢٨٨. وأحمد في مسنده: ٣/٥٦. ومالك في الموطإ: ١/٢٦٨..
٢٨ - هو عيسى بن دينار بن واقد الغافقي الأندلسي (ت: ٢١٢ هج)، تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي: ٢٦٢..
٢٩ - المساحي: جمع مسحاة، وهي المجرفة من الحديد... اللسان: ٢/٥٩٨..
٣٠ - النواتية: الملاحون في البحر، وهو من كلام أهل الشام، واحدهم: نوتي. اللسان: ٢/١٠١..
٣١ - الجواهر الثمينة: ١/٣٤٧. بتصرف..
٣٢ - المدونة: ١/٣٤٦..
٦٨٣- أي : تركوا طاعته فترك الله الإحسان إليهم. ( الفروق : ٤/٢٧٥ )
٦٨٤- اللذون في الرفع، والذين في النصب والخفض، كجموع السلامة، لأن " الذين لا يرجون " معناه : غير الراجين، فهو في معنى المشتق، فاجروه مجراه، ومن العرق من يحذف نونه، وهي لغة فصيحة، قال الله تعالى :﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ أي كالذين خاضوا. وقال الشاعر١ :
وإن الذين حانت٢ بفلج٣ دماؤهم***هم القوم كل القوم يا أم خالد
ويحتمل أن يكون من باب التعبير بالمفرد عن الجمع كقوله تعالى :﴿ ثم يخرجكم طفلا ﴾٤ أي : أطفالا، لكن هذا النوع قليل، وحذف النون أكثر، والحمل على الأكثر أولى. ( العقد : ١/ ٤٧٢ )
١ - هو الأشهب بن رميلة، شاعر مخضوم (ت: ٨٦هج) وقيل: هو حريث بن مخفض. ن: طبقات ابن سلام: ١/٣٠٠..
٢ - الحين: الهلاك، ومعنى حانت دماؤهم: لم يؤخذ لهم بدية ولا قصاص. (نقلا عن محقق الكتاب ن ج: ١ هامش. ص: ٤٧٣)..
٣ - الفلج: النهر... ن: اللسان: ٢/٣٤٧. يقول د محمد بنصر: "والشاهد في البيت قوله: "وأن الذي "أصله: "وأن الذين" فحذف النون منه تخفيفا، والدليل على أنه أراد به الجميع قوله: "دماؤهم" ن: العقد: ١ هامش: ٤٧٣..
٤ - سورة فاطر: ٦٧..
٦٨٥- هي صيغة حصر، فلا يتولى المسلم غير المسلم. ( الذخيرة : ٧/١٥٨ )
٦٨٦- إن ظواهر النصوص تقتضي ترتيب القتال على الكفر والشرك كقوله تعالى :﴿ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ﴾. ( نفسه : ٣/٣٨٧ )
٦٨٧- قال العلماء : الكثرة كيفما كانت. ( الفروق : ٣/٦١ )
٦٨٨- استدل ابن أبي زيد وغيرهم بقوله تعالى :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ﴾ على وجوب الصلاة على أموات المسلمين بطريق المفهوم، وقالوا مفهوم التحريم على المنافقين الوجوب في حق المسلمين وليس كما زعموا، فإن الوجوب هو ضد التحريم، والحاصل في المفهوم إنما هو سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق، وعدم التحريم أعم من ثبوث الوجوب، فإذا قال الله تعالى :﴿ حرمت عليكم الصلاة على المنافقين ﴾ فمفهومه أن غير المنافقين لا تحرم الصلاة عليهم، وإذا لم تحرم جاز أتباح، فإن النقيض أعم من الضد، وإنما يعلم الوجوب أو غيره بدليل منفصل، فلذلك يتعين أن لا يزاد في المفهوم على إثبات النقيض. ( شرح التنقيح : ٥٥. والذخيرة : ٢/٤٥٧ )
٦٨٩- الصلاة في اللغة : الدعاء، ومنه قوله تعالى :﴿ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾ أي : دعواتك. ( الذخيرة : ٢/٥ )
٦٩٠- ليس في قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم ﴾ عموم، بل لفظ " صدقة " مطلق يكفي فيه فرد من أفراده. ( نفسه : ٢/١٣٤ )
٦٩١- سمي المأخوذ من المال زكاة وإن كان ينقص لأنه يزكو في نفسه من الله تعالى لقوله عليه السلام : " من تصدق بكسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا، كأنما يضعها في كف الرحمن يربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل " ١ أو لأنه يزكي المال، فحذف من صفته، لما في أبي داود٢، قال عليه السلام : " ما فرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم " فإذا لم يخرج كان خبيثا، ولذلك سميت أوساخ الناس، وفي ذاته بالبركة. أو لأنه يزكي المأخوذ منه في صفته لقوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ والمال المصروف للدار الآخرة، فإنه يضاف إليهن فيزيد فيه لقوله تعالى :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باق ﴾٣ وكان بعض السلف يقول للسائل : " مرحبا بمن يوفر مالنا لدارنا " أو لأنه يؤخذ من الأموال التامة الزاكية بذاتها، كالحرث والماشية، أو بغيرها كالنقدين : فالأول من مجاز التشبيه، والثاني من مجاز إعطاء المسبب المادي، والثالث من مجاز إعطاء المسبب حكم السبب الغامض، والرابع من مجاز التشبيه إن جعلنا الزيادة حقيقة في الأجسام دون المعاني وإلا فهو حقيقة، والخامس من مجاز إعطاء المسبب حكم السبب قال في الجواهر : " من الزكاة معروف المال، فعلى هذا هي حقيقة، ويكون اللفظ يشترك بين الزيادة والمعروف، وتسمى صدقة في قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ من التصديق " ٤. ( نفسه : ٣/٥-٦ )
٦٩٢- قال الشيخ سيف الدين٥ رحمه الله : " اختلف العلماء في عموم قوله تعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع ما كل مالك أو أخذ صدقة واحدة من نوع واحد ؟.
قال : بالأول : الأكثرون.
وقال : بالثاني : الكرخي. ٦
حجة الأولين : أن الله تعالى أضاف الصدقة على جميع الأموال، والجمع المضاف إليه من صيغ العموم فتتعدد الصدقة بتعدد الأموال.
حجة الثاني : أن الصدقة نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد لا سيما أن اللفظ " من " يقتضي التبعيض، ويصدق على أنه أخذ من بعض الأموال " ٧.
قلت : أما النكرة في سياق الإثبات لا تعم فمتجه، وأما أن " من " للتبعيض، وإن ذلك يصدق بفرد لأنه بعض فمتجه أيضا كما لو قال تعالى : " اقتلوا من المشركين رجلا " خرجنا من العهدة بقتل رجل واحد، فيظهر أن ما قاله الكرخي هو الصواب.
غير أن هاهنا بحثا، وهو : إن " من " المبعضة : هل تبعيضها في الأموال فيصدق ما قاله الكرخي ؟ أو في كل مال فيصدق ما قاله الأكثرون ؟.
فإذا أخرجنا من بعض الأموال صدقة وتركنا الباقي من الأموال صدق التبعيض أيضا، فالتبعيض صادق بطريقين، والأول هو الظاهر، من حيث القرينة الحالية، فإن الله تعالى لم يرد بعض الناس بالصدقة دون بعض، واللفظ أيضا يعضده، فأن التقدير : " خذ صدقة كائنة من أموالهم " فلو أخذت من بعض الأموال لم تكن كائنة في أموالهم، بل من بعض أموالهم وهو خصوص مع اللفظ عام وهذا المجرور في موضع نصب على الحال من صدقة لأنه نعت، والنكرة تقدم عليها، فلا بد أن تكون كائنة من كل مال حتى لا يبقى مال، وهذا هو شأن العموم.
وبهذا التقرير يظهر أن الصواب ما عليه الجمهور، ويظهر أيضا الفرق بين الآية وبين قولنا : " اقتلوا من المشركين رجلا " فإنه يصدق برجل واحد، ولا يعم أن الرجل الواحد يتعذر أن يكون بعضا من كل مشترك، والصدقة لا تتعذر أن تكون بعضا من كل مال، وهو فرق ظاهر. ( العقد المنظوم : ٢/١٠٥ إلى ١٠٧ )
١ - رواه الشيخان ومالك وابن ماجة بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة ن: صحيح البخاري ح: ١٣٢١. صحيح مسلم: كتاب الزكاة: ح: ١٦٨٥. سنن ابن ماجة كتاب التجارات ح: ٢١٢٩. الموطأ كتاب الجامع ح: ١٥٨٢. واللفظ له..
٢ - باب: حقوق المال، من كتاب الزكاة، عن ابن عباس مرفوعا. وأخرجه الحاكم في مستدركه: ٤/٣٣٣..
٣ - سورة النحل: ٩٦..
٤ - لم أعثر على هذا النص في الجواهر..
٥ - هو الإمام أبو الحسن علي بن أبي علي محمد بن سالم الآمدي (ت: ٦٣١ هج) من مصنفاته: "الإحكام في أصول الأحكام" و"منتهى السول في الأصول" وغيرهما. ن: البداية والنهاية: ١٣/١٤٠. حسن المحاضرة: ١/٢٥٩. الشذرات: ٥/١٤٤..
٦ - هو أبو الحسين عبيد الله بن الحسن بن دلال بن أدهم الكرخي الحنفي (ت: ٣٤٠ هج). ن: الأعلام: ١٥/٤٢٨. البداية والنهاية: ١١/٢٢٤..
٧ - ن: الإحكام للآمدي: ١/٢٩٧-٢٩٨. بتصرف..
٦٩٣- أثابهم الله على الظمإ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التسول إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة. ( تنقيح الفصول المطبوع مع الذخيرة : ١/١٥٣. وشرح التنقيح : ٤٤٩ )
٦٩٤- أوجب تعالى الحذر بقول الطائفة الخارجة من الفرقة مع أن الفرقة تصدق على الثلاثة، فالخارج منها يكون أقل منها، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة. ( شرح التنقيح : ٣٥٨ )
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).