هي مائة وثلاثون آية، وقيل مائة وسبع وعشرون آية، ولها أسماء منها التوبة لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين، وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب أه تسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها ﴿ ومنهم ومنهم ﴾ حتى كادت أن لا تدع أحدا. وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين وتسمى المبعثرة والبعثرة البحث، وتسمى أيضا بأسماء أخر كالمقشقشة لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، والمخزية لكونها أخزت المنافقين والمثيرة لأنها تثير أسرارهم، والحافرة لكونها تحفر عنها، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم أي تهلكهم، قال الخفاجي : وأسماؤها كلها بصيغة الفاعل إلا البحوث بفتح الباء فإنه صيغة مبالغة بمعنى اسم الفاعل أ ه.
قلت : وإلا البراءة والتوبة وسورة العذاب، وهي مدنية، قال القرطبي : باتفاق وعن ابن الزبير وقتادة نحوه، وعن البراء قال : آخر سورة نزلت تامة براءة، رواه البخاري.
وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال منها ما روي عن المبرد وغيره أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب في نقض العهد من ترك التسمية.
وعن علي قال : البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، أشار إلى وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها دون غيرها، قال الخفاجي : وللسلف فيه أقوال ثلاثة أصحها هذا اه.
قلت : وروي نحوه عن سفيان بن عيينة، وروي عن مالك بن أنس وابن عجلان وابن جبير أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريبا منها وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة.
ومن جملة الأقوال في سقوطها أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلفت الصحابة، فقال بعضهم براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم هما سورتان وتركت البسملة لقول من قال هما سورة واحدة فرضي الفريقان معا، قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر لأنهما جميعا نزلتا في القتال ومجموعهما مائتان وخمس آيات ويعدان جميعا سابعة السبع الطوال.
ومنها ما قال السيوطي : أنه لم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من حديث رواه الحاكم. اه.
وعن عثمان : قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الترمذي وحسنه.
والصحيح أنها لم تكتب لأن جبريل ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري قال أبو السعود : واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الإشهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة، كما روي عن ابن عيينة رضي الله عنه : لا الاشتباه في استقلالها وعدمه، كما يحكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولا رعاية ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاختلاف في ذلك.
على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن، وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية، وإن مناط إثباتها في المصاحف، وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف، ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك، وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها ههنا، وإلا لامتنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا، لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه عليه الصلاة والسلام لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولها فحيث لم يبينه عليه الصلاة والسلام تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم.
والمعنى الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين ومعنى براءة الله سبحانه وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.
قال أبو السعود: السياحة والسيح الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشية كسيح الماء على موجب الطبيعة، ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره، وزيادة قوله: (في الأرض) لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها انتهى.
قال محمد بن إسحاق وغيرهما: إن المشركين صنفان صنف كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر، فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت مدته أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يُقتل حيث يوجد إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان.
وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً عشرون من ذي الحجة وشهر محرم.
وقال الكلبى: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد دون أربعة أشهر فتتم له الأربعة ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) كما سيأتي، ورجح هذا ابن جرير وغيره.
وعن الزهري قال: نزلت في شوال فهي أربعة أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، والقول الأول أصوب وعليه الأكثرون، وفي الباب أقوال.
وقيل المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل، فيصير هذا داعياً لهم إلى
وقد توهم بعضهم أن بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة، وذلك جهل من هذا المتوهم والبحث مستوفى في موطنه.
(واعلموا أنكم غير معجزي الله) أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ليثوب من تاب، وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل افعلوا في هذه المدة كلما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فغنكم لا تفوتون الله ولا تغتروا بعقد الأمان لكم (وإن الله مخزي الكافرين) أي وهو مخزيكم ومذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب والنار، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولاً أولياً.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن رسول الله - ﷺ - بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فانطلقا وحجا فقام علي في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فكان علي ينادي، فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها (١) وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ.
_________
(١) المستدرك كتاب المغازي ٣/ ٥٢.
(يوم الحج الأكبر) ظرف لقوله وأذان ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس أو لكون معظم أفعال الحج فيه أو احترازاً عن العمرة فهي الحج الأصغر، لأن أعمالها أقل من أعمال الحج إذ يزيد عليها بأمور كالرمي والمبيت، فكان أكبر بهذا الاعتبار، وسمي يوم الحج لأن أعمال الحج يتم فيه معظمها.
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد إلى أنه يوم النحر، ورجحه ابن جرير، وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاووس إلى أنه يوم عرفة والأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر.
وأخرج الترمذي وابن النذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال:
وعن ابن عمر أن رسول الله - ﷺ - وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: " أي يوم هذا؟ " قالوا يوم النحر، قال: " هذا يوم الحج الأكبر ". أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة وغيرهم (٤).
ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة، وقيل أيام منى كلها، وبه قال مجاهد وسفيان الثوري هو يوم النحر، وقيل اليوم الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن سيرين والأول أولى، وقيل القرآن. قاله مجاهد.
(إن الله بريء من المشركين ورسوله) أي بأن الله بريء ورسوله بريء منهم، وقرئ ورسوله بالجر على أن الواو للقسم وهي ضعيفة جداً، وقرئ شاذاً أيضاً بالنصب على أنه مفعول معه، قاله الزمخشري، والرفع قراءة الجمهور باتفاق السبعة.
(فإن تبتم) من الكفر، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقيل
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير ٩/ ٤.
(٢) المستدرك كتاب الأضاحي ٤/ ٢٢١.
(٣) أبو داوود كتاب المناسك باب ٧١.
(٤) أبو داوود كتاب المناسك باب ٦٦.
(وإن توليتم) أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) أي غير فائتين عليه، بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم، وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) عبر عن الإخبار بالبشارة تهكماً بهم وفيه من التهديد ما لا يخفى.
قال أبو السعود (إلا الذين) الخ استدراك من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر، كأنه قيل لا تمهلوا الناكثين فوق أربعة أشهر، لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم، ولا يضر في ذلك تخلل الفاصل بقوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية، بل هو أمر بإعلام تلك البراءة، كأنه قيل وأعلموها.
وقيل هو استثناء متصل من المشركين الأول، ويرده بقاء الثاني على العموم مع كونهما عبارة عن فريق واحد، وجعله استثناء من الثاني يأباه بقاء الأول كذلك، وقيل هو استدراك من المقدر في (فسيحوا) أي قولوا لهم سيحوا أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم منهم.
وقرأ الجمهور بالصاد المهملة، قال الكرماني: قراءة المعجمة مناسبة لذكر العهد فإن من نقض العهد فقد نقص من المدة إلا أن قراءة العامة أوقع لمقابلتها التمام، وكلمة ثم للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة.
(ولم يظاهروا) المظاهرة المعاونة أي لم يعاونوا (عليكم أحداً) من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة في غيبة رسول الله ﷺ فظاهرتهم قريش بالسلاح (فأتموا إليهم عهدهم) أي أدوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص (إلى مدتهم) التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقاً وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.
(إن الله يحب المتقين) الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد، قال السدي: فلم يعاهد النبي ﷺ بعد هؤلاء الآيات أحداً.
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ثلاثة سرد، وواحد فرد، ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم.
وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر، وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير.
وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: (فأتموا إليهم عهدهم إلى
(فاقتلوا المشركين حيث) أي في أي مكان وأي وقت (وجدتموهم) من حل أو حرم (وخذوهم) أي إئسروهم فإن الأخيذ هو الأسير (واحصروهم) أي احبسوهم في القلاع والحصون حتى يضطروا ويلجئوا إلى القتل أو الإسلام، ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، وقيل امنعوهم من دخول مكة خاصة والأول أولى.
(واقعدوا لهم كل مرصد) أي طريق يسلكونه ونصب (كل) على نزع الخافض أي على كل طريق، والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو ويقعد، ويقال رصدت فلاناً أرصده أي رقبته، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها لئلا ينتشروا في البلاد، والمعنى كونوا لهم رصداً حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا، وقيل بكل طريق مكة حتى لا يدخلوها.
وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل، وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم.
وهذه الأية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على
(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام وهو إقامة الصلاة وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها (١).
(فخلوا سبيلهم) أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم ولا تمنعوهم من الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم ولا تتعرضوا لهم (إن الله غفور) لهم (رحيم) بهم.
_________
(١) ذكره القرطبي ٨/ ٧٤: قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالههم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه. وقال ابن العربي.
(استجارك) استأمنك من القتل (فأجره) يقال استجرت فلاناً أي طلبت أن يكون جاراً أي محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم أو يتعرض لي متعرض، وفي القاموس جار واستجار طلب أن يجار وأجاره أنقذه وأعاده، وفي المصباح استجاره طلب منه أن يحفظه فأجار والمعنى أمنه.
(حتى) يصح أن تكون للغاية وللتعليل (يسمع كلام الله) منك ويتدبره حق تدبره ويقف على حقيقة ما تدعو إليه، ويتحقق أنه ليس من كلام الخلق، والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل الفصاحة.
(ثم) إن أراد الانصراف ولم يسلم (أبلغه مأمنه) أي إلى الدار التي يأمن فيها وهو دار قومه لينظر في أمره ويعرف ما له من الثواب أن آمن، وما عليه من العقاب إن أصر على الشرك، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتلة من غير عذر ولا خيانة فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه ووجوب قتله حيث يوجد.
عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعى إليه، وإن أنكر ولم يقر به رد مأمنه ثم نسخ
(ذلك) أي الأمر بالإجارة وإبلاع المأمن (بأنهم قوم لا يعلمون) ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه بسبب فقدانهم العلم النافع المميز بين الخير والشر في الجال والمآل، فلا بد لهم من أمان بقدر زمان يسمعون فيه القرآن ويتدبرون.
ثم استدرك فقال: (إلا الذين عاهدتم) أي لكن الذين عاهدتم ولم ينقضوا ولم ينكثوا فلا تقاتلوهم، وقيل الاستثناء متصل، وفيه احتمالان. (أحدهما) أنه منصوب على أصل الاستثناء من المشركين.
(والثاني) أنه مجرور على البدل منهم.
(عند المسجد الحرام) أي عند قربه يوم الحديبية، قاله قتادة، والمراد به جميع الحرم كما هي عادته في القرآن إلا ما استثنى (فما استقاموا لكم) أي فما داموا مستقيمين لكم على العهد الذي بينكم وبينهم ولم ينقضوه، وفي (ما) وجهان أحدهما أنها مصدرية زمانية والثاني أنها شرطية (فاستقيموا لهم) على الوفاء به، قيل هم بنو بكر، وقيل بنو كنانة وبنو ضمرة وقال ابن عباس: هم قريش، وعن ابن زيد نحوه، وقال السدي: هم بنو جذيمة، وقال مجاهد: هم أهل العهد من خزاعة.
(إن الله يحب المتقين) إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين، فيكون تعليلاً للأمر بالاستقامة، وقد استقام ﷺ على عهدهم حتى نقضوا بإعانة بني بكر على خزاعة.
(كيف) يكون لهم عهد وهو زيادة ترق في استبعاد بقاء عهد لهم، ولهذا أعاد الاستفهام التعجبي للتأكيد والتقرير (و) الحال أنهم (إن يظهروا عليكم) بالغلبة لكم ويظفروا بكم (لا يرقبوا) أي لا يراعوا أو لا يحفظوا أو لا ينتظروا فيكم (إلا ولا ذمة) قال في الصحاح: الإل العهد والقرابة، قال الزجاج: الإل عندي على ما يوجبه اللغة يدور على معنى الحدة، ومنه الإلة للحربة ومنه أذن مؤللة أي محددة، وقال الفراء: المراد به القرابة، وقيل أن الإل الجؤار وهو رفع الصوت عند التحالف، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا جاروا بذلك جؤاراً، ويجمع الإل في القلة على آل وفي الكثرة على إلال كقدح وقداح، والأل بالفتح قيل شدة القنوط، قال الهروي في الحديث " عجب ربكم من ألكم وقنوطكم ".
وفي القاموس الإلّ بالكسر العهد والحلف وموضع، والجوار والقرابة والمعدن والحقد والعداوة والربوبية واسم الله تعالى، وكل اسم آخره ال أو إيل فمضاف إلى الله تعالى، والوحي والأمان والجزع عند المصيبة ومنه ما روي عجب ربكم من إلِّكم، فيمن رواه بالكسر ورواية الفتح أكثر اهـ.
وقال ابن زيد والسدي وأبو عبيدة: الإلّ العهد وقيل الذمة والنديم، وقال الأزهري: هو اسم لله بالعبرانية وأصله من الأليل وهو البريق يقال أل
وقال الراغب: الذمام ما يذم الرجل على إضاعته من عهد، وكذلك الذمة والمذمة بالفتح والكسر وقيل لي مذمة فلا تهتكها، وقال غيره: سميت ذمة لأن كل حرمة يلزمك من تضييعها الذم يقال لها ذمة، وقال أبو عبيدة والأزهري: الذمة الأمان كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم " ويسعى بذمتهم أدناهم " وروي عنه أيضاً أن الذمة ما يتذمم به أي ما يجتنب فيه الذم، وقال قتادة: الإل الحلف، وقال أبو مجلز: هو الله تعالى، وعن مجاهد وعكرمة مثله، وقال ابن عباس: الإل القرابة. والذمة العهد.
(يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم) أي يقولون بألسنتهم ما فيه مجاملة ومحاسنة لكم طلباً لمرضاتكم وتطييب قلوبكم، وقلوبهم تأبى ذلك وتخالفه وتود ما فيه مساءتكم ومضرتكم كما يفعله أهل النفاق وذوو الوجهين، والكلام مستأنف لبيان حالهم عند عدم الظفر فهو مقابل في المعنى لقوله: (وإن يظهروا عليكم) الخ يقال أبى يأبى أي اشتد امتناعه فكل أباء امتناع من غير عكس، ولم يصب من فسره بمطلق الامتناع، ومجيء المضارع منه على يفعل بفتح العين شاذ، ومنه قلى يقلى في لغة قاله السمين، ثم حكم عليهم بالفسق فقال: (وأكثرهم فاسقون) وهو التمرد والتجري والخروج عن الحق لنقضهم العهود وعدم مراعاتهم لها.
ثم وصفهم بقوله:
(ونفصل الآيات) أي نبينها ونوضحها (لقوم يعلمون) بما فيها من الأحكام ويفهمونه، وخص أهل العلم لأنهم المنتفعون بها، والمراد بالآيات ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين على اختلاف أنواعهم، وعن ابن عباس قال: حرمت هذه الآية قتال أو دماء أهل الصلاة، وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له.
وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرق بينهما، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه، يريد ما قاله في حق من منع الزكاة والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما، يعني الصلاة والزكاة.
(وطعنوا في دينكم) أي وضموا إلى ذلك الطعن في دين الإسلام والقدح فيه، وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر، وأخرجوه من القول إلى الفعل حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا) الآية
(فقاتلوا) أي فقد وجب على المسلمين قتالهم (أئمة الكفر) بهمزتين وبإبدال الثانية ياء صريحة وفيه وضع الظاهر موضع المضمر، وهي جمع إمام، والمراد صناديد المشركين وأهل الرياسة فيهم على العموم، وعن قتادة: قال هم أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وسهيل ابن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول من مكة، وعن مالك ابن أنس مثله، وقال ابن عباس: رؤوس قريش؛ وعن الحسن: إنهم الديلم، وعن حذيفة قال: ما قوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها، وعن علي نحوه، وقال مجاهد: هم فارس والروم.
والأولى أن الآية عامة في كل رؤساء الكفر من غير تقييد بزمن معين أو بطائفة معينة اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومما يفيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر الصديق إلى الناس حين وجههم إلى الشام أنه قال إنكم ستجدون قوماً مجوفة رؤوسهم فاضربوا مقاعد الشيطان منهم بالسيوف، فوالله لأن أقتل رجلاً منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم، وذلك بأن الله يقول: (فقاتلوا أئمة الكفر).
(إنهم لا أيمان لهم) قال الزمخشري هذه الجملة تعليل لما قبلها، والأيمان جمع يمين أي لا عهد لهم، وسمي العهد يميناً لاشتماله عليه غالباً، والمعنى لا أيمان بارة لهم وإن وجدت صورة، ويمين الكافر شرعية عندنا والاستدلال به على أن يمين الكافر ليست يميناً ضعفه ظاهر، لأن المراد نفي الوثوق بقرينة (وإن نكثوا أيمانهم) لا يقال الكلام باعتبار اعتقادهم، لأن المخاطب هم
وقرئ بكسر الهمزة والمعنى أن هؤلاء الناكثين للأيمان الطاعنين في الدين ليسوا من أهل الإيمان بالله حتى يستحقوا العصمة لدمائهم وأموالهم فقتالهم واجب على المسلمين، وقيل لا وفاء لهم بالعهود وقيل هو من الأمان أي لا يعطون أماناً بعد نكثهم وطعنهم، يعني لا تؤمنوهم بل اقتلوهم حيث وجدتموهم.
(لعلهم ينتهون) عن كفرهم ونكثهم وطعنهم في دين الإسلام، والمعنى إن قتالهم يكون إلى غاية هي الانتهاء عن ذلك، وقد استدل بهذه الآية على أن الذمي إذا طعن في الدين لا يقتل حتى ينكث العهد كما قال أبو حنيفة لأن الله إنما أمر بقتلهم بشرطين أحدهما: نقض العهد والثاني: الطعن في الدين، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنه إذا طعن في الدين قتل لأنه ينقض عهده بذلك قالوا وكذلك إذا حصل من الذمي مجرد النكث فقط من دون طعن في الدين فإنه يقتل (١).
_________
(١) وقال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى عليّ بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء الأربعة الأشهر فيسمع كلام الله أو يأتيه بحاجة قتل!.
فقال عليّ بن أبي طالب: لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول: " (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) " وهذا هو الصحيح. والآية محكمة.
(وهموا بإخراج الرسول) من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله له في الهجرة، وتقدم أنهم هموا بأحد أمور ثلاثة، قتله وحبسه وإخراجه، وإنما اقتصر هنا على الهم بالإخراج لأنه هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر، وكانت دار الندوة مكان اجتماع القوم للتحدث وكان قد بناها قصي وقد أدخلت الآن في المسجد فهي مقام الحنفي الآن.
(وهم بدؤوكم) بالقتال (أول مرة) أي يوم بدر، قال مجاهد: قتال قريش حلفاء النبي ﷺ وهمهم بإخراج الرسول، زعموا أن ذلك عام عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العام التاسع للحديبية نكثت قريش العهد عهد الحديبية وجعلوا في أنفسهم إذا دخلوا مكة أن يخرجوه منها فذلك همهم بإخراجه فلم تتابعهم خزاعة على ذلك، فلما خرج النبي صلى
(أتخشونهم) الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أتخشون أن ينالكم منهم مكروه فتتركون قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال: (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) أي هو أحق بالخشية منكم فإنه هو الضار النافع في الحقيقة ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتاله، فان قضية الإيمان توجب ذلك عليكم.
ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال:
الأولى: تعذيب الله للكفار بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر.
والثانية: إخزاؤهم قيل بالأسر وقيل بما نزل بهم من الذل والهوان.
والثالثة: نصر المسلمين عليهم وغلبتهم لهم.
والرابعة: أن الله يشفي بالقتال صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال ولا حضره.
والخامسة: أنه سبحانه يذهب بالقتال غيظ قلوب المؤمنين الذي نالهم بسبب ما وقع من الكفار من الأمور الجالبة للغيظ وحرج الصدر.
فإن قيل شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب كلاهما بمعنى فيكون تكراراً.
قيل في الجواب: إن القلب أخص من الصدر، وقيل: إن شفاء الصدور
عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وعن مجاهد والسدي وقتادة نحوه، وقد ساق القصة ابن إسحاق في سيرته وأورد فيها النظم الذي أرسلته خزاعة إلى النبي ﷺ أوله.
يا رب إني ناشد محمداً | حلف أبينا وأبيه الأتلدا |
فإن قيل (١) كيف تقع التوبة جزاء للمقاتلة؟ أجيب بأن القتال قد يكون سبباً لها إذا كانت من جهة الكفار، وأما إذا كانت من جهة المسلمين فوجهه أن النصر والظفر من جهة الله يكون سبباً لخلوص النية والتوبة عن الذنوب. (والله عليم حكيم).
_________
(١) قوله فإن قيل الخ كذا في أصله ولعله مرتب على قراءة نصب يتوب كما يؤخذ من عبارة الكشاف. اهـ مصححه.
(ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) الواو حالية ولما للنفي مع التوقع، والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني إذ لو شم رائحة الوجود لعلم قطعاً فلما لم يعلم لزم عدمه قطعاً، والمعنى كيف تحسبون أنكم تتركون ولما يتبين المخلص منكم في جهاده من غير المخلص، و (ما) في (لما) من التوقع منبه على أن ذلك سيكون وفائدة التعبير عما ذكر من عدم التبين بعدم علم الله تعالى أن المقصود هو التبين من حيث كونه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب وعدم التعرض لحال المقصرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين.
وجملة (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) معطوفة على جاهدوا داخلة معه في حكم النفي واقعة في حيز الصلة، والوليجة من
قال الفراء: الوليجة البطانة من المشركين، وقيل وليجة الرجل من يداخله في باطن أموره، والمعنى واحد، أي كيف تتخذون دخيلة أو بطانة من المشركين تفشون إليهم أسراركم وتعلمونهم أموركم من دون الله، وقال قتادة: وليجة يعني خيانة، وقال الضحاك: خديعة.
وقال الراغب: الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمداً عليه، وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم (والله خبير بما تعملون) أي بجميع أعمالكم.
_________
(١) وقيل أن جماعة من المنافقين جاؤوا إلى رسول الله ﷺ يسألون الخروج معه إلى الجهاد تعزيزاً فنزل هذه الآيات.
(مساجد الله) قرئ بالجمع واختاره أبو عبيدة، قال النحاس: لأنها أعم، وإلخاص يدخل تحت العام، وقد يحتمل أن يواد بالجمع المسجد الحرام خاصة لقوله وعمارة المسجد الحرام، وهذا جائز فيما كان من أسماء الأجناس، كما يقال فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرساً.
قلت: وهي أيضاً محتملة للأمرين وعن الحسن البصري: إنما قال تعالى مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد أو لأن كل بقعة وناحية من بقاعه ونواحيه المختلفة الجهات مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة، ويؤيده القراءة بالتوحيد.
قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم فلان كثير الدرهم وبالعكس، كقولهم فلان يجالس الملوك، ولعله لم يجالس إلا ملكاً واحداً، والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي وهو ملازمته ودخوله والتعبد والقعود فيه، وكلاهما ليس للمشركين، أما الأول فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم، وأما الثاني فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام.
قيل لو أوصى كافر ببناء المسجد لم تقبل وصيته، وكذا يمنع من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل عزر، وإن داخل بإذن لم يعزر، ولكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحاجة، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي - ﷺ - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد، وهو كافر، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها.
وقيل المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، مع قولهم نحن نعبد اللات والعزى، وقيل أن اليهودي يقول هو يهودي، والنصراني يقول هو نصراني، والصابئ يقول هو صابئ، والمشرك يقول هو مشرك.
وقال ابن عباس: شهادتهم سجودهم للأصنام. وقال الحسن: كلامهم بالكفر، وقيل شاهدين على رسولهم بالكفر، لأنه من أنفسهم وما أبعده عن المقام.
(أولئك حبطت أعمالهم) التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير مثل العمارة والحجابة والسقاية، وفك المعاني لأنها مع الكفر لا تأثير لها، أي بطلت ولم يبق لها أثر (وفي النار هم خالدون) في هذه الجملة الاسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها.
ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال: (إنما يعمر مساجد الله) الظاهر أن الجمع هنا حقيقة لأن المراد جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض، والتعمير بنحو البناء والتزيين بالفرش والسراج، وبالعبادة وترك حديث الدنيا، يقال عمرت الدار عمراً من باب قتل بنيتها، والاسم العمارة بالكسر وعمرت الخراب عمراً من باب كتب فهو عامر أي معمور.
(من آمن بالله) وحده (واليوم الآخر) بما فيه من البعث والحساب والجزاء حسبما نطق به الوحي (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) على ما علم من الدين فيندرج فيه الإيمان بنبوة النبي ﷺ حتماً، وقيل هو مندرج تحت الإيمان بالله خاصة فإن أحد جزأي كلمتي الشهادة علم للكل.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " (١) أخرجه أحمد والدارقطني والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي وعبد بن حميد.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال: " من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة " (٢) أخرجه الترمذي.
وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة " (٣) وقد
_________
(١) الدارميّ كتاب الصلاة باب ٢٣.
(٢) الترمذي كتاب المواقيت باب ١٢٠.
(٣) مسلم ٥٣٣ - البخاري ٢٩٧.
(ولم يخش) أحداً (إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) فيه حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم. فإن الموصوفين بتلك الصفات الأربع إذا كان اهتداؤهم مرجواً فقط، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات، وقيل عسى من الله واجبة.
وقال ابن عباس: كل عسى في القرآن فهي واجبة، كقوله لنبيه ﷺ (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) وهي الشفاعة.
وقيل هي بمعنى خليق، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين، وقيل أن الرجاء راجع إلى العباد.
قال ابن عباس: يقول من وحد الله وآمن بما أنزل الله وأقام الصلوات الخمس ولم يتعبد إلا الله فهو من المهتدين، فمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد لا من كان خالياً منها أو من بعضها.
واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيهاً بما هو أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده لأن كل ذلك من لوازم الإيمان.
والاستفهام في قوله:
والسقاية والعمارة مصدران كالسعاية والحماية لا يتصور تشبيههما بالأعيان والجثث فلا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن، ويؤيد الأول قراءة من قرأ سقاة الحاج وعمرة المسجد جمع ساق وعامر وفيها تشبيه ذات بذات كما في الوجه الأول، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير المحذوف.
(كمن) أي كإيمان أو كعمل من (آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) حتى يتفق الموضوع والمحمول (لا يستوون عند الله) المعنى أن الله أنكر عليهم التسوية بين ما كان تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله.
وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونهما على عمل المسلمين فأنكر الله عليهم ذلك، فصرح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوتهم وعدم استوائهم أي لا تساوي تلك الطائفة الكافرة الساقية للحجيح العامرة للمسجد الحرام، وهذه الطائفة المؤمنة بالله واليوم الآخر المجاهدة في سبيله.
ودل سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون
ثم حكم عليهم بالظلم فقال: (والله لا يهدي القوم الظالمين) وأي أنهم مع ظلمهم بما هم فيه من الشرك لا يستحقون الهداية من الله سبحانه، وهو تعليل في المعنى لنفي المساواة، وفي هذا إشارة إلى الفريق المفضول ثم صرح بالفريق الفاضل فقال:
وفي قوله: (عند الله) تشريف عظيم للمؤمنين (وأولئك) أي المتصفون بالصفات الثلاثة المذكورة (هم الفائزون) بسعادة الدارين المختصون بالفوز المحصلون لأصله بالنسبة لكون الغير أهل السقاية والعمارة والمحصلون لأكمله بالنسبة لكون الغير من لم يجمع الأوصاف المذكورة، ثم فسر الفوز بقوله.
(لهم فيها نعيم مقيم) الدائم المستمر الذي لا يفارق صاحبه.
وقالت طائفة من أهل العلم أنها نزلت في الحض على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا أن يوالوا الآباء والأخوة فيكونون لهم تبعاً في سكنى بلاد الكفر، وقال بعضهم: حمل هذه الآية على الهجرة مشكل، لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي آخر القرآن نزولاً، والأقرب أن يقال أن الله تعالى لما أمر بالتبرئ عن المشركين قالوا: كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه، فذكر الله تعالى أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن
وقال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة، وقال ابن عباس: لما أمر النبي ﷺ الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك بالله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم، وأنزل هذه الآية، والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
(إن استحبوا الكفر) أي أحبوا كما يقال استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل طلب المحبة أي إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه (على الإيمان) وتركوه وقد تقدم تحقيق المقام في سورة المائدة، ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم فقال:
(من يتولهم) فيه مراعاة لفظ من (منكم فأولئك) فيه مراعاة معناها (هم الظالمون) فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك واختيار المقام معه على الهجرة والجهاد من أعظم الذنوب وأشدها.
ثم أمر الله رسوله ﷺ قائلاً له:
العشيرة الجماعة المجتمعة التي ترجع إلى نسب وعقد واحد أو ود كعقد العشرة وعشيرة الرجل أهله وقرابته الأدنون وهم الذين يعاشرونه ويتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أم فوقها وهي اسم جمع، وقرأ السلمي وأبو رجاء عشيراتكم بالجمع ووجهه أن لكل من المخاطبين عشيرة فحسن الجمع قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر، وهذه القراءة حجة عليه.
وقرأ الحسن: عشائركم والباقون عشيرتكم، والاقتراف الاكتساب، وأصله اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان.
ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدون لهن خاطباً واستشهد لذلك بقول الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن | وقد زادهن مقامي كسادا |
وما أنا إلا من غزية إن غوت | غويت وإن ترشد غزية أرشد |
دعوا كل قول عند قول محمد | فما آمن في دينه كمخاطر |
(وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) أي والحال أنهم ما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إلا بعبادة الله وحده، أو ما أمر الذين اتخذوهم أرباباً من الأحبار والرهبان إلا بذلك فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أرباباً.
(لا إله إلا هو) صفة ثانية لقوله إلهاً أو استئناف مقرر للتوحيد (سبحانه عما يشركون) أي تنزيهاً له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
وقد أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ في سورة براءة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) فقال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " (١)، وأخرجه أيضا أحمد وابن جرير.
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ٩/ ١٠.
وقيل المراد به الدلائل الدالة على صحة نبوته ﷺ وهي أمور:
أحدها: المعجزات الباهرات الخارقة للعادات.
وثانيها: القرآن العظيم وهو معجزة له باقية على الأبد.
وثالثها: أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه والتبري من كل معبود سواه: فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد ﷺ وعلى صدقه، فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله.
(ويأبى الله إلا أن يتم نوره) أي دينه القويم بإعلاء كلمته، قال في الكشاف أن أبى قد أجري مجرى لم يرد أي ولا يريد إلا أن يتم نوره، وقال علي بن سليمان: إنما جاز هذا في أبى لأنها منع أو امتناع فضارعت النفي. قال النحاس: وهذا أحسن وقال الزجاج: التقدير ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم، وقال الفراء: إنما دخلت (إلا) لأن في الكلام طرفاً من الجحد، وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفي، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة، أي لا يريد شيئاً من الأشياء إلا إتمام نوره، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء. قاله الكرخي.
(ولو كره الكافرون) أي أبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث الله به رسوله ولو كره ذلك الكافرون، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه، والتقدير ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم وقيل لو لم يكرهوه أو كرفوه أي على كل حال مفروضة.
ثم أكد هذا بقوله:
(على الدين كله) أي على سائر الأديان، وهو أن لا يعبد الله إلا به، فلا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا الجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان.
فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل، وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً، وقد ذكرنا فتوح الإسلام في كتابنا حجج الكرامة في آثار القيامة الذي حررناه بعد هذا التفسير، وقيل ذلك عند نزول عيسى وخروج المهدي فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام، ويدل له بعض الأحاديث، فمنها حديث أبي هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل، وقيل قهر رسول الله ﷺ الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل أهل الأصنام وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية وجرى عليهم حكمه، فهذا ظهوره على الدين كله.
وقيل المراد ظهوره على الدين كله في جزيرة العزب وقد حصل ذلك، فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار، وقيل المراد أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقيل المراد ظهوره على الدين كله بالحجة والبيان، وفيه ضعف لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله والتقوية بالحجة والبرهان كان حاصلاً من أول الأمور.
(ولو كره المشركون) الكلام فيه كالكلام في (ولو كره الكافرون) كما قدمنا ذلك ووصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله تعالى، وهذا آخر الآيات التي أمر علي بالتأذين بها في موسم الحج.
_________
(١) أبو داوود كتاب الملاحم باب ١٤.
وفي قوله: (إن كثيراً) دليل على أن الأقل منهم لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولم يتلبسوا بذلك بل بقوا على ما يوجبه دينهم من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولعلهم الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله
وقيل المعنى أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع، وقيل أنهم كانوا يدعون عند العوام والحشرات أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب.
وقيل التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد ﷺ فكانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يأخذون الرشوة، وقيل كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه، فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجبة، ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام عَلى أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس.
قال الرازي: وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق، انتهى.
ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام ومشايخه من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، قال الرازي: ولعمري من تأمل في أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله انتهى، ولنعم ما قيل:
عجبت من شيخي ومن زهده | وذكره النار وأهوالها |
يكره أن يشرب في فضة | ويسرق الفضة إن نالها |
(والذين يكنزون الذهب والفضة) قيل هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان وأنهم كانوا يصنعون هذا الصنع، قاله معاوية بن أبي سفيان، وقيل هم من يفعل ذلك من المسلمين قاله ابن عباس، وقال السدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين جميعاً.
والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة، قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى، ومنه ناقة كناز أي مكتنزة اللحم، يقال كنزت المال كنزاً من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزاً أيضاً وهذا زمن الكناز.
قال ابن السكيت: لم يسمع إلا بالفتح، وحكى الأزهري الفتح والكسر، والكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز، واكتنز الشيء اكتنازاً اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع.
واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز، ومن القائلين بالأول أبو ذر وقيده بما فضل عن الحاجة، وبالثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز.
أخرج أحمد في الزهد والبخاري وابن مماجة وابن مردويه والبيهقي في
ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح لا يذم صاحبه.
وعن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية انطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال: " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم "، الحديث مختصراً أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو يعلى وغيرهم (١).
وعن علي قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز، وعن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت، وعن عراك ابن مالك وعمر بن عبد العزيز قالا نسختها الآية الأخرى (خذ من أموالهم صدقة) لآية.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل له يوم القيامة صفائح ثم أحمى عليها في نار جهنم ثم تكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (٢).
(ولا ينفقونها في سبيل الله) اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون
_________
(١) المستدرك كتاب الزكاة ١/ ٤٠٩.
(٢) مسلم ٩٨٧.
وقيل الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: (يكنزون) لأنه أعم من النقدين وغيرهما، وقيل إلى الأموال، وقيل إلى الزكاة: وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى وهو كثير في كلام العرب.
وقيل أن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمن الأشياء وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز.
(فبشرهم بعذاب أليم) هذا من باب التهكم بهم كما في قوله:
*تحية نبيهم ضرب وجيع*
وقيل أن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب سواء كان من الفرح أو من الغم، وعن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي ﷺ وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: " هم الأخسرون ورب الكعبة " قال: فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال: " هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " الحديث مختصراً أخرجه مسلم وفرقه البخاري في موضعين (١).
_________
(١) مسلم ٩٩٠ - البخاري ٧٧٥.
وقيل ليكون الكي في الجهات الأربع من قدام وخلف وعن يمين ويسار، وقيل لأن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة، وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تكلف.
(هذا ما كنزتم لأنفسكم) أي كنزتموه لتنتفعوا به هذا نفعه، ويقال لهم ذلك على طريق التهكم والتوبيخ (فذوقوا ما كنتم تكنزون) أي ذوقوا وباله وسوء عاقبته وقبح مغبته وشؤم فائدته، لأن الكنوز لا تذاق، وما بمعنى الذي، والآية عامة، وفي الباب أحاديث صحيحة توافق معنى هذه الآية لا نطول بذكرها.
(عند الله) أي في حكمه وقضائه، وحكمته لا بابتداع الناس (اثنا عشر شهراً) هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه شهور السنة القمرية التي تدور على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صياهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم، وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يوم وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان يقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف.
(في كتاب الله) أي فيما أثبته في كتابه أي القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر، وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلائق وما يأتون وما يذرون، وقيل المراد بالكتاب الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف.
(يوم خلق السموات والأرض) أي منذ خلق الإجرام والأزمنة وبيان أن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين وبعضها أكثر وبعضها أقل.
واختلف في ترتيبها فقيل أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي شهور عام، وقيل أولها رجب فهي من عامين، وقيل أولها ذو القعدة وهو الصحيح لتواليها، قاله النووي، وأورد عليه ابن المنير في تفسيره أنه إنما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وكان يؤرخ قبله بعام الفيل ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول فتأمل.
وقال الضحاك: إنما سمين حرماً لئلا يكون فيهن حرب.
قلت: وكانت العرب في الجاهلية تعظمها وتحرم فيها القتال حتى أن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يزعجه، ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيماً لأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف، والسيئات فيها أشد من غيرها فلا تنتهك حرمة هذه الأشهر الحرم.
(ذلك الدين القيم) أي كون هذه الشهور كذلك ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وقيل الحساب الصحيح والعدد المستوفى، وقيل الدين القيم هو الحكم
_________
(١) مسلم، ١٦٧٩ - البخاري، ٥٩.
(فلا تظلموا فيهن) أي في هذه الأشهر الحرم (أنفسكم) بإيقاع المعاصي فإنها فيها أعظم وزراً، وبإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل أن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها وإن الله نهى عن الظلم فيها والأول أولى.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ولقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) ولقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) الآية.
وذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية الذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه.
وأما ما استدلوا به من أنه ﷺ حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدئ محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.
(وقاتلوا المشركين كافة) أي جميعاً في كل الشهور لأن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع، وهو مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في قاتلوا أو من المفعول وهو المشركين، قال الزجاج: مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيه بغير الحال.
(كما يقاتلونكم كافة) فيه دليل على وجوب قتال المشركين وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض (واعلموا أن الله مع المتقين) أي ينصرهم ويثبتهم ومن كان الله معه فهو الغالب وله العاقبة.
وقرأ الجمهور النسيء بهمزة بعد الياء وغيرهم بإدغام الياء، وقرئ النسء بإسكان السين، والنسؤ بزنة فعول وهو التأخير، وفعول في المصادر قليل، والنسيئة كالفعيلة التأخير، وكذلك النساء بالفتح والمد التأخير، والنسيء في الآية فعيل بمعنى مفعول كما تقدم.
وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك، فقيل هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عبيد ويلقب القلمس، وقيل هو عمرو بن لحي، وقيل هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة.
(زيادة في الكفر) أي نوع من أنواع كفرهم ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وفي الشهاب يعني أنهم لما توارثوه على أنها شريعة ثم استحلوه كان ذلك مما يعد كفراً.
(يضل به الذين كفروا) قرئ على البناء للمعلوم والمجهول، ومعنى الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلون من النسيء، ومعنى الثانية أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، والأولى من طريق العشرة، والثانية سبعية.
(يحلونه) أي النسيء (عاماً ويحرمونه عاماً) أو الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه، أي يحلونه عاماً بإبداله بشهر آخر من شهور الحل ويحرمونه عاماً أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال بل يبقونه على حرمته، والجملة تفسيرية للضلال أو حالية.
(ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي لكي يواطئوا، والمواطأة الموافقة، يقال
(فيحلوا ما حرم الله) من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها، ولم ينظروا إلى أعيانها (زين لهم سوء أعمالهم) أي زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة التي يعملونها ومن جملتها النسيء فظنوه حسناً، وقرئ على البناء للفاعل (والله لا يهدي القوم الكافرين) أي المصرين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.
والنَّفر هو الانتقال بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا استنفرتم فانفروا " (١)، والاسم النفير.
_________
(١) مسلم ١٨٦٤.
(أرضيتم) استفهام توبيخ وتعجيب (بالحياة الدنيا) أي بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها ونعيمها بدلاً من الآخرة كقوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة) أي بدلاً منكم (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) أي محسوباً في جنبها وفي مقابلتها، و (في) هذه تسمى قياسية (إلا قليل) أي إلا متاع حقير لا يعبأ به لأن لذات الدنيا خسيسة في نفسها ومشوبة بالآفات والبليات، ومنقطعة عن قرب لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن الآفات دائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا في جنب متاع الآخرة قليل.
ويجوز أن يراد بالقليل العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من الكل إذ من البعيد أن يطبقوا جمعاً على التباطؤ والتثاقل، وإنما هو من باب نسبة ما يقع من البعض إلى الكل وهو كثير شائع، وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن الله سبحانه نص على أن تثاقلهم عَن الجهاد أمر منكر، فلو لم يكن منكراً لما عاتبهم على ذلك.
ويؤيد هذا قوله:
هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) وقال الجمهور: هذه الآية محكمة لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول الله - ﷺ - فلم ينفروا كما نقل عن ابن عباس، وعلى هذا التقدير فلا نسخ، وفي الآية تهديد شديد ووعيد مؤكد لمن ترك النفر مع رسول الله - ﷺ -.
(ويستبدل قوماً غيركم) أي يجعل لرسله بدلاً منكم ممن لا يتباطأ عند حاجتهم إليهم ويكون خيراً منكم وأطوع، واختلف في هؤلاء القوم من هم فقيل أهل اليمن، وقيل أهل فارس، قاله سعيد بن جبير، ولا وجه للتعيين بدون دليل
(ولا تضروه) أي الله بترك امتثال أمره بالنفير (شيئاً) لأنه غني عن العالمين أو لا تضروا رسول الله بترك نصره والنفير معه شيئاً فان الله ناصره على أعدائه ولا يخذله أبداً نفرتم أو اثاقلتم.
والله على كل شيء قدير ومن جملة مقدوراته تعذيبكم والاستبدال بكم.
(إذ هما في الغار) هو ثقب عظيم في الجبل المسمى ثوراً، وهو المشهور بغار ثور وهو جبل قريب من مكة وبينهما مسيرة ساعة ويجمع على غيران، والغار أيضاً نبت طيب والجماعة والغاران البطن والفرج، وألف الغار منقلبة عن واو، وقصة خروجه ﷺ من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ودخولهما الغار ومكثهما فيه ثلاثاً مشهورة مذكورة في كتب السير والحديث، وسبياق حديث الهجرة من أفراد البخاري وهو طويل جداً.
(إذ يقول لصاحبه) أي وقت قوله لأبي بكر (لا تحزن) أي دع الحزن (إن الله) بنصره وعونه وتأييده وعصمته وحفظه وولايته ومعونته وتسديده
والمعنى من كان الله معه فلن يغلب ومن لا يغلب فيحق له أن لا يحزن وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب (١) أن يعلموا بمكانهم، فجزع من ذلك وكان حزنه على رسول الله - ﷺ - لا على نفسه وقال: إذا أنا مت فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.
أخرج الشيخان عنه رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " (٢) وزاد البزار والطبراني والبيهقي في الدلائل عن أنس والمغيرة بن شعبة فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه.
قال النووي: هو داخل في قوله سبحانه: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وفيه بيان عظيم توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه، وقال الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعاً في هذه الآية غير أبي بكر.
وقال الحسن بن الفضل: من قال أن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله ﷺ فهو كافر لإنكاره نص القرآن، وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر: أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار (٣)، أخرجه الترمذي، وقال حديث صحيح حسن غريب، وعبارة أبي
_________
(١) وهم رجال اقتصوا أثر الرسول يطلبون رده إلى قريش.
(٢) مسلم ٢٣٨١ - البخاري ١٧١٦.
(٣) الترمذي كتاب المناقب باب ١٦.
وفي الكشاف: وقالوا من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة، وقيل أنه ليس بمنصوص عليه فيها بل المنصوص عليه أن له ثانياً هو صاحبه فيه، فإنكار ذلك يكون كفراً لا إنكار صحبته بخصوصه، ولذا قال قالوا فجعل العهدة فيه على غيره، وفيه نظر، قاله الخفاجي، وقد استنبط أهل العلم من هذه الآية وجوهاً كثيرة على فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه يطول ذكرها.
(فأنزل الله سكينته) هي تسكين جأشه وتأمينه حتى ذهب روعه وحصل له الأمن على أن الضمير في (عليه) لأبي بكر، وبه قال ابن عباس وأكثر المفسرين، وقيل هو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون المراد بالسكينة النازلة عليه عصمته عن حصول سبب من أسباب الخوف له.
ويؤيد كون الضمير في (عليه) للنبي ﷺ الضمير في (وأيده بجنود لم تروها) فإنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه المؤيد بهذه الجنود التي هي الملائكة في الغار يحرسونه ويسكنون روعه ويصرفون أبصار الكفار عنه كما كان في يوم بدر، وقيل أنه لا محذور في رجوع الضمير من (عليه) إلى أبي بكر، ومن (وأيده) إلى النبي ﷺ فإن ذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب.
(وجعل كلمة الذين كفروا) أي كلمة الشرك وهي دعوتهم إليه ونداؤهم للأصنام أو كل ما يدل على الشرك أو المراد بها عقيدة الشرك أي الكفر مطلقاً بسائر أنواعه، أقوال للمفسرين (والسفلى) المغلوبة إلى يوم القيامة (وكلمة الله هي العليا) في ضمير الفصل أعني هي تأكيد لفضل كلمته في العلو، وأنها المختصة به دون غيرها، والمراد بها كلمة التوحيد والدعوة إلى الإسلام، فهي ظاهرة غالبة باقية إلى يوم القيامة عالية والله عزيز حكيم) أي غالب قاهر لا يفعل إلا ما فيه حكمة وصواب.
ثم لما توعد من لم ينفر مع الرسول ﷺ وضرب له من الأمثال ما ذكره، عقبه بالأمر بالجزم فقال: وانفروا حال كونكم
وقيل أهل الميسرة وأهل العسرة، وقيل مقلين من السلاح ومستكثرين منه وقيل مشاغيل وغير مشاغيل، وقيل أصحاء ومرضى وقيل عزاباً ومتأهلين، وقيل خفافاً من الحاشية والأتباع وثقالاً مستكثرين منهم، وقيل مسرعين في الخروج إلى الغزو ساعة سماع النفير وبعد التروي فيه والاستعداد له، وقيل غير ذلك.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، لأن معنى الآية انفروا خفت عليكم الحركة أو ثقلت، فالأولى أن هذا عام لكل الأحوال فيهما، والأمر محمول على الوجوب.
قال السدي: وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وليس على الضعفاء ولا
وقيل الأمر محمول على الندب وهي محكمة وليست بمنسوخة، ويكون إخراج الأعمى والأعرج بقوله: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج) وإخراج الضعيف والمريض بقوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) من باب التخصيص لا من باب النسخ على فرض دخول هؤلاء تحت قوله: (خفافاً وثقالاً) والظاهر عدم دخولهم تحت العموم، ويدل عليه أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك وأن النبي ﷺ خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال فذلك دل على أن الجهاد من فروض الكفايات ليس على الأعيان.
(وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) فيه الأمر بالجهاد بالأنفس والأموال وإيجابه على العباد، فالفقراء يجاهدون بأنفسهم، والأغنياء بأموالهم وأنفسهم، والجهاد من أكبر الفرائض وأعظمها، وهو فرض كفاية مهما كان البعض يقوم بجهاد العدو ويدفعه، فإن كان لا يقوم بالعدو إلا جميع المسلمين في قطر من الأرض أو أقطار وجب عليهم ذلك وجوب عين.
(ذلكم) أي ما تقدم من الأمر بالنفير والأمر بالجهاد (خير لكم) عظيم في نفسه وخير من السكون والدعة (إن كنتم تعلمون) ذلك وتعرفون الأشياء الفاضلة وتميزونها عن المفضولة فافعلوه.
ونزل في الذين تخلفوا عن غزوة تبوك
(وسيحلفون) أي المتخلفون عن غزوة تبوك، وأتى بالسين لأنه من قبيل الإخبار بالغيب فإن الله أنزل هذه الآية قبل رجوعه من تبوك أي سيحلفون (بالله) اعتذاراً عنه حال كونهم قائلين (لو استطعنا) أي لو قدرنا على الخروج ووجدنا ما نحتاج إليه فيه مما لا بد منه، وقيل: لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتهما حسبما عنَّ لهم من الكذب والتعلل وعلى كلا التقديرين فقوله: (لخرجنا معكم) ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعاً وقد وقع حسبما أخبر به وهو من جملة المعجزات الباهرة.
وقوله: (يهلكون أنفسهم) بدل من قوله: (سيحلفون) لأن من حلف كذباً فقد أهلك نفسه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع " أو يكون حالاً أي مهلكين أنفسهم موقعين لها موقع الهلاك بسبب هذه الأيمان الكاذبة (والله يعلم إنهم لكاذبون) في حلفهم الذي سيحلفون به لك لأنهم كانوا مستطيعين للخروج.
وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات والله أعلم.
وقيل إن قوله: (عفا الله عنك) افتتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك ورحمك كيف فعلت كذا وكذا، حكاه مكي والنحاس والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على (عفا الله عنك) وعلى التأويل الأول لا يحسن، ولا يخفاك أن التفسير الأول هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي.
وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه ﷺ والمسألة
وقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله - ﷺ - باجتهاده لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين في التخلف، وأخذه الفداء من أسارى بدر، فعاتبه الله كما تسمعون، قال سفيان بن عيينة: انظر هذا التلطف به، بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
و (حتى) في قوله: (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) للغاية، كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم، وهلا تأنيت حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في دعواه، قال ابن عباس: لم يكن يعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة.
ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله - ﷺ - في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنه ﷺ إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك فقال:
وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم لوقوع الإذن منك فضلاً أن يستأذنوك في التخلف، فحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مظنة للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم (والله عليم بالمتقين) الذين لم يستأذنوا
(فهم في ريبهم يترددون) أي في شكهم الذي حل بقلوبهم يتحيرون، والتردد التحير، والمعنى فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل كانوا مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب ولا يعرفون الحق، والآية محكمة كلها، وقال ابن عباس: نسختها الآية التي في سورة النور (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) إلى قوله: (غفور رحيم) فجعل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة، ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء الله.
(ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) الاستدراك هنا يحتاج إلى تأمل،
وقيل المعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لكراهة الله له، وعلى هذا فهو استدراك على نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية، وكان في خروجهم مع رسول الله ﷺ مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عنها بقوله الآتي (ما زادوكم إلا خبالاً) وأما عتاب الله لرسوله بقوله (لم أذنت لهم) فإنه أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم، فلهذا السبب عاتبه، وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في أمرهم بالقعود.
(وقيل اقعدوا) والقائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل قاله بعضهم لبعض، وقيل قاله رسول الله ﷺ غضباً عليهم، وقيل هو عبارة عن الخذلان أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلاناً لهم، وقال السيوطي: أي قدر الله ذلك أي القعود يعني فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النبي صلى الله عليه وسلم.
(مع القاعدين) أي مع أولى الضرر من العميان والمرضى والنساء والصبيان وفيه من الذم لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى.
قال الخفاجي: وفيه بحث لأنه لا مانع منه إذا دلت القرينة عليه، كما إذا قيل ما أنيسك في البادية؟ فقلت ما لي بها إلا اليعافير، أي ما لي أنيس إلا هذه، انتهى.
وقيل المعنى لا يزيدونكم فيما يترددون فيه من الرأي إلا خبالاً، فيكون متصلاً، وقيل قوله استثناء من أعم العام أي ما زادوكم شيئا إلا خبالاً فيكون الاسثثناء من قسم المتصل لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء.
(ولأوضعوا خلالكم) الإيضاع سرعة السير، يقال أوضع البعير إذا أسرع السير، وقيل هو سير الخبب، وأوضع يستعمل لازماً كما في القاموس ومتعدياً كما في المختار، والخلة الفرجة بين الشيئين والمفرد خلل، والجمع الخلال كجمل وجمال أي الفرج التي تكون بين الصفوف.
(يبغونكم) يقال بغيته كذا طلبته له وأبغيته كذا أعنته على طلبه، والمعنى يطلبون لكم (الفتنة) أي ما يفتنون به في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد، وقولهم للمؤمنين لقد جمعوا لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم، ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تورث الجبن والفشل، وقيل الفتنة العيب والشر، وقيل الفتنة هنا الشرك.
(وفيكم سماعون لهم) أي والحال أن فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب فينقله إليكم، فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم والفساد لأحوالكم، قال مجاهد: معناه محدثون لهم بأحاديثكم غير منافقين وهم عيون للمنافقين. انتهى. فعلى هذا يكون المراد فيكم جواسيس منهم يسمعون لهم الأخبار منكم فاللام على الأول للتقوية، وعلى الثاني للتعليل أي لأجلهم (والله عليم بالظالمين) وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم فلذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم وكره انبعاثهم معكم.
ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله ﷺ ما تقدم من عتابه على الإذن لهم في التخلف، لأنه سارع إلى الإذن لهم ولم يكن
وقال في سورة الفتح (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) إلى قوله: (قل لن تتبعونا) وفي الآية وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم، قال أبو السعود: ولعله شامل للفريقين السماعين والقاعدين.
(وقلبوا لك الأمور) أي صرفوها من وجه إلى وجه ودبروا لك الحيل والمكايد، وردوا الآراء في إبطال أمرك وتقليب الأمر تصريفه من أمر إلى أمر وترديده لأجل التدبير والاجتهاد في المكر والحيلة، ومنه قول العرب للرجل حوَّل وقلب إذا كان دائراً حول المكايد والحيل يدبر الوأي فيها ويتدبره، وقرئ بالتخفيف.
(حتى جاء الحق) أي إلى غاية هي مجيء الحق وهو النصر لك والتأييد، وقيل الحق القرآن (وظهر أمر الله) بإعزاز دينه وإعلاء شريعته وقهر أعدائه (وهم كارهون) لمجيء الحق وظهور أمر الله، ولكن كان ذلك على رغم منهم
عن ابن عباس قال: لما أراد النبي ﷺ أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّبن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأْذن لي ولا تفتني، فأنزل الله (ومنهم من يقول ائذن لي) الآية (١).
(ألا في الفتنة سقطوا) أي في نفس الفتنة، وهي فتنة التخلف عن الجهاد والاعتذار الباطل، والمعنى أنهم ظنوا أنهم بالخروج أو بترك الإذن لهم يقعون في الفتنة وهم بهذا التخلف سقطوا في الفتنة العظيمة، وفي التعبير بالسقوط ما يشعر بأنهم وقعوا فيها وقوع من يهوي من أعلى إلى أسفل، وذلك أشد من مجرد الدخول في الفتنة.
ثم توعدهم على ذلك فقال: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي مشتملة عليهم من جميع الجوانب لا يجدون عنها مخلصاً، ولا يتمكنون من الخروج منها بحال من الأحوال، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا معطوف على
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٣٦١.
فمن جملة ما يصدق عليه الحسنة الغنيمة والظفر، ومن جملة ما يصدق عليه المصيبة الخيبة والانهزام، وهذا ذكر نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين وسوء أفعالهم والإخبار بعظم عدواتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين، فإن المساءة بالحسنة، والفرح بالمصيبة من أعظم ما يدل على أنهم قد بلغوا في العداوة إلى الغاية.
(وإن تصبك مصيبة) أي هزيمة أو شدة كما تقدم، وقابل الله هنا الحسنة بالمصيبة ولم يقابلها بالسيئة كما قال في سورة آل عمران (وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) لأن الخطاب هنا للنبي ﷺ وهي في حقه مصيبة يثاب عليها لا سيئة يعاتب عليها، والتي هناك خطاب للمؤمنين. قاله الشهاب.
(يقولوا) أي المنافقون حامدين لرأيهم (قد أخذنا أمرنا من قبل) أي احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحزم واعتزلنا عنهم، وقعدنا عن الحرب، فلم نخرج للقتال كما خرج المؤمنون حتى نالهم ما نالهم من المصيبة (ويتولوا وهم فرحون) أي رجعوا إلى أهلهم عن مقامات الاجتماع ومواطن التحدث حال كونهم فرحين بالصيبة التي أصابت المؤمنين وبما صنعوا من أخذ الأمر، وبما أصابه صلى الله عليه وآله وسلم، والجملة حال من الضمير في يقولوا ويتولوا لا من الأخير فقط لمقارنة الفرح ما معاً.
ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب عليهم فقال:
(هو مولانا) أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) الفاء سببية والأصل ليتوكل قدم الظرف على الفعل لإفادة القصر، ثم أدخلت الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل كما في قوله: (وإياي فارهبون) والتوكل على الله تفويض الأمور إليه والمعنى أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم في جميع أمورهم مختصاً بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره.
وانتصاب طوعاً وكرهاً على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين أي انفقوا طائعين من غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما، وليس المراد بالطوع الرغبة لقوله الآتي: (إلا وهم كارهون) أي لا رغبة لهم وسمى الأمر منهما إكراهاً لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم، قال الخطيب: وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه (إنكم كنتم قوماً فاسقين) تعليل لعدم قبول إنفاقهم، والفسق هنا التمرد والعتو وقد سبق بيان الفسق لغة وشرعاً.
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال:
الأول: الكفر.
والثاني (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) أي أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظاهراً بالإسلام الذي يبطنون خلافه والثالث أنهم (لا ينفقون) وأموالهم (إلا وهم كارهون) ولا ينفقونها طوعاً لأنهم يعدون إنفاقها وضعاً لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
لا يقال أن الكفر سبب مستقل لعدم القبول، فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر، لأن هذا إنما يتوجه على قول المعتزلة القائلين بأن العلل مؤثرة في الحكم، وأما أهل السنة فإنهم يقولون هذه الأسباب معرفة غير موجبة للثواب ولا للعقاب، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، قاله الشهاب.
(إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) بما يحصل معهم من الغم والحزن عند أن يغنمها المسلمون ويأخذوها قسراً من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرة أعينهم أو بما يلقون في جمعها من المشقة والمتاعب، وفيها من المصائب، ومنه قول العرب بلوغ الآمال في ركوب الأهوال.
والمؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة، وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذاباً في الدنيا، وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له ولا أن له فيها ثواباً فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والحزن على المال والولد عذاباً عليه في الدنيا، فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها والتصدق بما يحق التصدق به.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير والمعنى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم المنافقون فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون.
(وتزهق أنفسهم وهم كافرون) الزهوق الخروج بصعوبة والمعنى أن الله يريد أن يزهق أنفسهم ويخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة، قال الزمخشري: والمراد الاستدراج بالنعم كقوله: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) كأنه قيل ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة.
ثم ذكر الله سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال:
قال الأخفش: ويجوز أن يكون من أغار يغير، والمغارات الغيران والسراديب وهي المواضع التي يستتر فيها، ومنه غار الماء وغارت العين، والمغارة هي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل، والغور من كل شيء قعره والغور المطمئن من الأرض، وغار الرجل غوراً أتى الغور وأغار بالألف مثله، والغار والمغار والمغارة كالكهف في الجبل، والكهف كالبيت في الجبل، وقيل المغارة السرب في الأرض كنفق اليربوع، والغار الثقب في الجبل.
وهذا من أبدع النظم، ذكر أولاً الأمر الأعم وهو الملجأ من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وهي الجبال ثم الأماكن
(أو مدخلاً) من الدخول أي مكاناً يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات. قال ابن عباس: المدخل السرب كنفق اليربوع، وقال الحسن: وجهاً يدخلونه على خلاف رسول الله ﷺ (لوَلَّوَاْ إليه) أي لالتجأوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه، وقيل المعنى لو كانوا يجدون مهرباً لهربوا إليه أو قوماً يأمنون عندهم على أنفسهم لصاروا إليهم ولفارقوكم.
(وهم يجمحون) أي والحال أنهم يسرعون إسراعاً إلى ذلك المكان لا يردهم شيء، من جمح الفرس براكبه يجمح إذا لم يرده اللجام واستعصى عليه حتى غلبه فهو جموح وجامح يستوي فيه المذكر والمؤنث، وحاصل المعنى لو وجدوا شيئاً من هذه الأشياء المذكورة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه مسرعين، هرباً من المسلمين لشدة بغضهم إياهم تستراً عنهم واستكراهاً لرؤيتهم.
وقال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته وكذا همزته وروي عن مجاهد أنه قال: معنى يلمزك يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأول.
ومعنى الآية ومن المنافقين من يعيبك (في الصدقات) أي الزكوات أو الغنائم وتفريقها وقسمتها.
(فإن أعطوا منها) أي من الصدقات بقدر ما يريدون (رضوا) بما وقع من رسول الله ﷺ ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا وليسوا من الدين في شيء (وإن لم يعطوا منها) ما يريدونه ويطلبونه (إذا هم يسخطون) أي فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه.
(وقالوا) عند أن أعطاهم رسول الله ﷺ ما هو لهم (حسبنا) أي كفانا (الله سيؤتينا) أي سيعطينا (الله من فضله و) يعطينا (رسوله) بعد هذا ما نرجوه ونؤمله (إنا إلى الله راغبون) فهاتان الجملتان كالشرح لقولهم (حسبنا الله) فلذلك لم يتعاطفا لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. قاله الكرخي.
وقد أخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مرد عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله ﷺ يقسم قسماً إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التيمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (١) الحديث حتى قال: وفيهم نزلت هذه الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: لما قسم النبي ﷺ غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها الله، فأتيت النبي ﷺ وذكرت ذلك له فقال: " رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ونزل يعني هذه الآية.
_________
(١) البخاري، كتاب المغازي، باب ٦١.
وقد اختلف العلماء هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة، فذهب إلى الأولى حذيفة والشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال ابن جرير: وهو قال عامة أهل العلم، احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي ﷺ فبايعته فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك (١).
وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف
_________
(١) الدارقطني كتاب الزكاة ٢/ ١٣٧.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: (إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة، وصح عنه ﷺ أنه قال: أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم (١).
وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر. قال ابن عبد البر: يريد إجماع الصحالة فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم وقدم الفقراء لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال، فقال يعقوب ابن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين. قالوا لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين) فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر وربما ساوت جملة من المال ويؤيده تعوذ النبي - ﷺ - من الفقر مع قوله: " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين " وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة وحكاه الطحاوي عن الكوفيين وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه. وقال قوم أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك وبه قال أبو يوسف.
وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف والمسكين السائل، قاله الأزهري
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ٣٦٩.
وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها.
والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله - ﷺ - عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: " ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً " (١).
(والعاملين عليها) أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطاً. واختلف في القدر الذي يأخذونه منها فقيل الثمن روي ذلك عن مجاهد والشافعي، وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه، وقيل يعطون من بيت المال قدر أجرتهم، روي ذلك عن مالك ولا وجه لهذا، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها.
واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا؟ فمنعه قوم وأجازه آخرون، قالوا: ويعطى من غير الصدقة ولا ينحصر العامل في الساعي والجابي، إذ منه القاسم والكاتب الذي يكتب ما أعطاه أرباب الأموال، والحاشر الذي يجمع المستحقين والعريف والحاسب.
(والمؤلفة قلوبهم) هم قوم كانوا في صدر الإسلام فقيل هم الكفار الذين كان النبي - ﷺ - يتألفهم ليسلموا وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء، وقيل هم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم فكان رسول الله - ﷺ - يتألفهم بالعطاء، وقيل هم من أسلم من اليهود والنصارى.
وقيل هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه
_________
(١) مسلم ١٠٣٩ - البخاري ٧٨٨.
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا فقال عمر والحسن والشعبي: قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي، وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك وقد صار إليه الروياني وجماعة، وقال جماعة من العلماء منهم الشافعي وهو الموافق لظاهر الآية أن سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يؤلف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين، وبه أفتى الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف.
ومن المؤلفة قلوبهم كفار يخاف شرهم بحيث لو أعطوا لانكف شرهم وهذا لا يعطى من زكاة ولا من غيرها باتفاق ومنهم من يذب عن المسلمين ومنهم من يقاتل من يليهم ويجاورهم من مانعي الزكاة ويقبض زكاتهم، فتلخص أن المؤلفة أقسام، وفي هذه الأقسام أقوال ذكرها في الجمل.
(وفي الرقاب) أي مصروفة في فكها بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد: إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء وأصحاب الرأي، ورواية عن مالك، وبه قال سعيد بن جبير والضحاك والزهري والليث.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
(والغارمين) هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب وقد أعان النبي ﷺ من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها، وقال السيوطي: ولإصلاح ذات البين ولو أغنياء إذا استدانوه لذلك، وأصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق على النفس وسمي الدين غرماً لكونه شاقاً على الإنسان ومنه قيل للعشق غرام ويعبر به عن الهلاك في قوله تعالى: (إن عذابها كان غراماً) وغرامة المال فيه مشقة عظيمة.
(وفي سبيل الله) هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء، وهذا قول أكثر العلماء وقال ابن عمر: هم الحجاج والعمار، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به، وقيل أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك والأول أولى لإجماع الجمهور عليه.
(وابن السبيل) هو المسافر، والسبيل الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده، وإن وجد من يسلفه، وقال مالك: إذا وجد من يسلفه فلا يعطى، وقال قتادة: هو الضعيف، وقال فقهاء العراق: هو الحاج المنقطع في سفره والأول أولى.
أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها أو الرجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد اللة بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله ﷺ في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال: أن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (٢).
(فريضة من الله) مصدر مؤكد لأن قوله: (إنما الصدقات للفقراء) معناه فرض الله الصدقات لهم، والمعنى أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته، وقيل أنها حال من الفقراء قاله الكرماني وأبو البقاء أي كائنة لهم حال كونها فريضة أي مصروفة أو هي بمعنى مفروضة أو مصدر وقع موقع الحال.
قال في الكشاف: فإن قلت لم عدل عن اللام إلى (في) في الأربعة الأخيرة قلت للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره وقيل النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة.
(والله عليم) بمصالح عباده (حكيم) فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقص ولا خلل، قال السيوطي: فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء ولا منع صنف منهم إذا وجد، فيقسمها الإمام عليهم على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض، وأفادت اللام وجوب استغراق إفراده اهـ وهو ظاهر الآية.
وقال الرازي: لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بد من صرفها إلى الأصناف وقد أشار إلى ذلك القاضي ورد عليه بعض الشيوخ، وقال: ظاهر الآية يؤيد قوله، وتمام البحث في الجمل.
_________
(١) أبو داوود، كتاب الزكاة، باب ٢٥.
(٢) أبو داوود، كتاب الزكاة، باب ٢٤.
قال الجوهري: يقال رجل أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم أقمأهم الله أنهم إذا آذوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبسطوا فيه ألسنتهم وبلغه ذلك اعتذروا له وقَبِل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع حتى كأن جملته أذن سامعة، ونظيره قولهم للربيئة أي الطليعة عين.
وفي إطلاق الأذن عليه مجاز مرسل من إطلاق اسم الجزء على الكل للمبالغة في استماعه وإيذاؤهم له هو قولهم أذن لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كلما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم وصفحه عن جناياتهم كرماً وحلماً وتغاضياً.
ثم أجاب الله عن قولهم هذا فقال: (قل) هو (أذن خير) بالإضافة وقرئ بالتنوين كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن هو لكونه أذن خير (لكم) وليس بأذن في غير ذلك كقولهم رجل صدق يريدون الجودة والصلاح والمعنى أنه يسمع الخير ولا يسمع الشر.
(يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدق بالله ويصدق المؤمنين لما علم فيهم من خلوص الإيمان ويقبل قولهم ويسلم ويرضى لهم ولا يقبل قول
وهذا موافق لكثير من الآيات كقوله: (وما أنت بمؤمن لنا) وقوله أن ؤمنوا لكم وقوله أنؤمن لك.
وأما قوله: (آمنتم له قبل أن آذن لكم) وقوله: آمنتم به فمشترك الدلالة بين الإيمان بموسى والإيمان بالله لأن من آمن بموسى حقيقة آمن بالله كعكسه.
(ورحمة) أي وإنه رحمة لهم، وقرئ رحمة بالخفض واستبعده النحاس عند أهل العربية، والمعنى أن النبي ﷺ أذن خير للمنافقين ورحمة لهم حيث لم يكشف أسرارهم ولم يهتك أستارهم ولا فضحهم، فكأنه قال هو أذن كما قلتم لكنه أذن خير لكم لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه إلا أنه فسره بما هو مدح له وثناء عليه وإن كانوا قصدوا به المذمة والتقصير بفطنته.
(للذين آمنوا منكم) أي أظهروا الإيمان وإن لم يكونوا مؤمنين حقيقة (والذين يؤذون رسول الله) ﷺ لما تقدم من قولهم هو أذن ونحو ذلك مما يصدق عليه أنه أذية لرسول الله ﷺ (لهم عذاب أليم) أي شديد الألم.
عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحرث يأتي رسول الله ﷺ فيجلس إليه ويسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه هذه الآية، وعن عمير بن سعد قال: فيَّ أنزلت هذه الآية؛ وذلك أن عميراً كان يسمع أحاديث أهل المدينة فيأتي النبي ﷺ فيسارّه حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد وكرهوا مجالسته وقالوا هو أذن فأنزلت فيه.
وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر، أو لكونه لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله، فإرضاء الله إرضاء لرسوله أو المراد الله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه ورجحه النحاس أو لأن الضمير موضوع موضع الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد أو الضمير راجع إلى المذكور وهو يصدق عليهما، وقال الفراء: المعنى ورسوله أحق أن يرضوه، واللة افتتاح كلام كما تقول ما شاء الله وشئت.
وجواب (إن كانوا مؤمنين) محذوف أي فليرضوا الله ورسوله فإنهما أحق بالإرضاء ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء الحقوق في باب الإجلال والإعظام مشهداً ومغيباً.
قال الخازن: قال أهل المعاني: ألم تعلم خطاب لمن علم شيئاً ثم نسيه أو أنكره فيقال له ألم تعلم أنه كان كذا وكذا، ولما طال مكث رسول الله - ﷺ - بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله: ألم تعلموا، يعني من شرائع الدين التي علمهم رسولنا.
(أنه من يحادد الله) أي يخالفه (و) يخاصم (رسوله) وأصل المحاددة في اللغة وقوع هذا في حد وذلك في حد كالمشاققة، يقال حاد فلان فلاناً أي صار في حد غير حده، وكأن كل واحد من المتخاصمين صار في محل غير محل صاحبه (فَأن له) أي فحق أن له.
وقال الأخفش: المعنى فوجوب النار له، وأنكره المبرد وقال هذا خطأ. (نار جهنم) وجزاء (خالداً فيها) على الدوام (ذلك) أي ما ذكر من العذاب (الخزي العظيم) أي البالغ إلى الغاية التي لا يبلغ إليها غيره وهو الذل والهوان
(تنبئهم) أي المنافقين (بما في قلوبهم) مما يسرونه فضلاً عما يظهرونه، وهم وإن كانوا عالمين بما في قلوبهم فالمراد من أنباء السورة لهم اطلاعهم على أن المؤمنين قد علموا بما في قلوبهم قال قتادة: وهذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة لأنها فضحت المنافقين وبعثرت عن أخبارهم وإثارتها وأسفرت عن مخازيهم ومثالبهم.
ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عليهم فقال: (قل استهزِؤوا) هو أمر تهديد ْأي افعلوا الاستهزاء (إن الله مخرج ما تحذرون) من ظهوره حتى يطلع عليه المؤمنون إما بإنزال سورة أو بإخبار رسوله - ﷺ - بذلك أو نحو ذلك
ثم أمره الله أن يجيب عنهم فقال: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزِؤون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وأثبت وقوع ذلك منهم ولم يعبأ بإنكارهم لأنهم كانوا كاذبين في الإنكار، بل جعلهم كالمعترفين بوقوع ذلك منهم حيث جعل المستهزأ به والياً لحرف النفي فإن ذلك إنما يكون بعد وقوع الاستهزاء وثبوته. ثم قال:
وقد نقل الواقدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب وقطعه من قولهم اعتذر المنزل إذا درس، واعتذرت المياه إذا انقطعت (قد كفرتم) أي أظهرتم الكفر بما وقع منكم من الاستهزاء المذكور، وفيه أن محمداً يزعم أنه ترك في أصحابنا قرآناً وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه ﷺ على قولهم (بعد إيمانكم) أي بعد إظهاركم الإيمان مع كونكم تبطنون الكفر.
(إن نعف عن طائفة منكم) وهم من أخلص الإيمان وترك النفاق وتاب عنه كجحش بن حمير.
قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة، قال ابن الأنباري: ويطلق لفظ الجمع على الواحد عند العرب (نعذب طائفة بأنهم) أي بسبب أنهم وكانوا مجرمين) مصرين على النفاق لم يتوبوا منه.
ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال: (يأمرون) أي يأمر بعضهم بعضاً (بالمنكر) هو كل قبيح عقلاً أو شرعاً (وينهون عن المعروف) هو كل حسن عقلاً أو شرعاً، قال الزجاج: هذا متصل بقوله يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم، أي ليسوا من المؤمنين ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
(ويقبضون أيديهم) أي يشحون فيما ينبغي إخراجه من المال في الصدقة والصلة والجهاد، فالقبض كناية عن الشح كما أن البسط كناية عن الكرم (نسوا الله فنسيهم) النسيان الترك، أي تركوا ما أمرهم به فتركهم من رحمته وفضله أو تركوا ذكر الله وعبادتة فترك الله ذكرهم فيمن ذكرهم بالرحمة والإحسان. لأن النسيان الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه، وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة المعروفة في علم البيان، فهو مجاز مرسل.
ثم حكم عليهم بالفسق فقال: (إن المنافقين هم الفاسقون) الفسق
ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر بأن لهم (نار جهنم خالدين) أي يصلونها مقيمين (فيها) مقدرين الخلود (هي) أي النار (حسبهم) أي كافيهم جزاء وعقاباً لا يحتاجون إلى زيادة على عذابها (ولعنهم الله) أي ومع ذلك فقد طردهم عن بابه وأبعدهم عن رحمته (ولهم عذاب مقيم) أي نوع آخر من العذاب غير النار دائم لا ينفك ىم كالزمهرير أو عذاب في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق إذ هم دائماً في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم.
وقال الزجاج: التقدير وعد الله الكفار نار جهنم وعداً كما وعد الذين من قبلهم وقيل المعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقبض الأيدي.
ثم وصف حال هؤلاء الكفار الذين من قبلهم وبين وجه تشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم بأنهم (كانوا أشد منكم قوة) أي بطشاً في الأبدان ومنعة من هؤلاء المنافقين والكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وأكثر أموالاً وأولاداً) منكم.
(فاستمتعوا) أي تمتعوا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامة في التمتع (بخلاقهم) أي نصيبهم الذي قدره الله لهم من ملاذ الدنيا وخاضوا في الباطل واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير، فإنه ما قدر لصاحبه (فاستمتعتم) أنتم (بخلاقكم) أي نصيبكم الذي قدره الله لكم (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم) أي انتفعتم به كما انتفعوا به.
والغرض من هذا التمثيل ذم هؤلاء المنافقين والكفار بسبب مشابهتهم بمن قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله من الشهوات الفانية والتشاغل بها عن السعي في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية.
قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه.
(وخضتم) في الباطل وتلبستم به (كالذي خاضوا) أي خوضاً كخوضهم أو كالذين خاضوا، أو كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوه، يقال: خضت الماء أخوضه خوضاً وخياضاً والموضع مخاضة، وهو ما جاز الناس فيه مشاة وركباناً وجمعها المخاض والمخاوض، ويقال منه خاض القوم في الحديث، والمعنى خضتم في أسباب الدنيا واللهو واللعب، وقيل في أمر محمد ﷺ بالتكذيب، ودخلتم في ذلك.
(أولئك) إشارة إلى كل من المشبهين والمشبه بهم فهي لمجموع الفريقين (حبطت) بطلت (أعمالهم) أي ما عملوه مما هو في صورة طاعة لا هذه الأعمال المذكورة هنا فإنها من المعاصي وعاقبتها غنية عن البيان (في الدنيا والآخرة) أي إنها باطلة على كل حال، أما بطلانها في الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها من السعة والصحة وغير ذلك لا يحصل لهم بل يصير ما يرجونه من الغنى فقراً، ومن العز ذلاً ومن القوة ضعفاً، وأما في الآخرة فلأنهم يصيرون إلى عذاب النار، ولا ينتفعون بشيء مما عملوه من الأعمال التي يظنونها طاعة وقربة.
(وأولئك هم الخاسرون) أي المتمكنون في الخسران الكاملون فيه في الدنيا والآخرة.
(قوم نوح) وقد هلكوا بالإغراق وأهلكوا بالطوفان وهم أولهم (و) ثانيهم قوم (عاد) وقد أهلكوا بالريح العقيم (و) ثالثهم قوم (ثمود) وقد أخذوا بالصيحة وأهلكوا بالرجفة (وقوم إبراهيم) وقد سلط الله عليهم البعوض وقيل أهلكوا بسلب النعمة عنهم وهم رابعهم (وأصحاب مدين) وهم قوم شعيب وقد أخذتهم الرجفة وأهلكوا بعذاب يوم الظلة وهي غمامة أطبقت عليهم وهم خامسهم (و) سادسهم أصحاب (المؤتفكات) وهي قرى قوم لوط وقد أهلكهم الله بما أمطر عليهم من الحجارة، فإن كانت مرادة به فهي على حقيقتها وإن كان المراد مطلق قرى المكذبين وهي لم تخسف بأجمعها فيكون المراد به مجازاً انقلاب حالها من الخير إلى الشر تشبيهاً له بالخسف على
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة | أعاليها بل أن تسود الأراذل |
(آتتهم) استئناف لبيان نبأهم (رسلهم) أي رسل هذه الطوائف الست، وقيل رسل أصحاب المؤتفكات لأن رسولهم لوط وقد بعث إلى كل قرية من قراهم رسولاً (بالبينات) أي المعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم، والفاء في (فما كان الله ليظلمهم) للعطف على مقدر يدل عليه الكلام، أي فكذبوهم فأهلكهم الله فما ظلمهم بذلك ولم يعجل العقوبة لهم، لأنه قد بعث إليهم رسله فأنذروهم وحذروهم.
(ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) بسبب ما فعلوه من الكفر بالله وعدم الانقياد لأنبيائه، وهذا التركيب يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان مستمراً. وقيل تقديم المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم.
ثم بين أوصافهم الحميدة كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين فقال: (يأمرون بالمعروف) أي بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه وترك عبادة غيره (وينهون عن المنكر) أي عما هو منكر في الدين غير معروف أي جنس المعروف وجنس المنكر الشاملين لكل خير وشر، وقد ثبت عن رسول الله ﷺ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحاديث ما هو معروف.
(ويقيمون الصلاة) المفروضة ويتمون أركانها وحدودها فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ما سبق من قوله نسوا الله (ويؤتون الزكاة) الواجبة عليهم وهو في مقابلة قوله: (يقبضون أيديهم) قيل خصصهما بالذكر من جملة العبادات لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال، وقد تقدم معنى هذا.
(ويطيعون الله ورسوله) في جميع ما أمرهم بفعله أو نهاهم بتركه، وهذا في
(أولئك) يعني المؤمنين والمؤمنات المتصفين بهذه الأوصاف الفاضلة (سيرحمهم الله) السين للمبالغة في إنجاز الوعد والدلالة على تحقق ذلك وتقرره بمعونة المقام كما هنا إذ السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخير، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة ووعداً تمحضت لتأكيد الوقوع أي وقوع ما وعد به من الرحمة والرضوان وما أعد لهم من النعيم المقيتم في الجنان.
(إن الله عزيز) لا يغالب ولا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده (حكيم) في أفعاله وأقواله لا يضع شيئاً إلا في محله، وفيه ترغيب وترهيب وتعليل لقوله سيرحمهم الله.
ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت آثار الرحمة إجمالاً باعتبار الرحمة في الدار الآخرة فقال:
(خالدين) أي مقدرين الخلود (فيها) وقد تقدم تحقيق الآية في البقرة (ومساكن) أي منازل يسكنون فيها من الدر والياقوت (طيبة) تستطيبها النفوس ويطيب فيها العيش (في جنات عدن) إقامة، يقال عدن بالمكان إذا أقام به ومنه المعدن أي بساتين خلد، وقيل هي أعلى الجنة، وقيل أوسطها، وقيل قصور من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبري بسنده عن عمران وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى:
الأول: جري الأنهار من تحتها ليميل الطبع إليها.
والثاني: أنهم فيها خالدون لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
والثالث: طيب مساكنها الخالية عن الكدورات، والرابع: أنها ذات عدن أي إقامة غير منقطعة، هذا على ما هو معنى عدن لغة وقيل هو علم.
قال الرازي: والحاصل أن في عدن قولين: أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة، والآثار والأخبار تقوي ذلك، وقال الزمخشري: أنه علم بدليل قوله جنات عدن التي وعد الرحمن عباده. والثاني أنه صفة للجنة بمعنى إقامة، فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها عدن، والأحاديث في صفة الجنات وأصنافها كثيرة، وقد أوضحت المقام في كتابي مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام فليرجع إليه.
(ورضوان) يسير (من الله أكبر) من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الموعود به مع عزته في نفسه لأنّه متحقق في ضمن كل موعود، ولأنه مستمر في الدارين.
(ذلك) أي ما تقدم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات (هو الفوز العظيم) دون كل فوز مما يعده الناس فوزاً من حطام الدنيا، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم؛ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك، قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " (١).
_________
(١) مسلم ٢٨٢٩ - البخاري ٢٤٥٨.
قال ابن العربي: إن هذه دعوى لا برهان عليها وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائماً لا بما يتلبس به الجوارح ظاهراً، وأخبار المحدودين تشهد سياقتها أنهم لم يكونوا منافقين. وقال الطبري: أولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد، وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين، وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلا بد من دليل آخر، وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف، ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة، وبترك الرفق بهم تارة، وبالانتهار تارة، وهذا هو قول ابن مسعود.
(واغلظ) أي شدد (عليهم) أي الفريقين بالانتهار والمقت والجهاد، وأصل الغلظ قبض الرأفة وهو شدة القلب وخشونة الجانب، قيل وهذه الآية
أحدها: أن الواو واو الحال وتلك الحال حال كفرهم، والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم. والثاني تقديره واعلم أن مأواهم جهنم. والثالث أن الكلام قد حمل على المعنى، والمعنى أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة، فيجعل جهنم مأواهم، قال السمين: ولا حاجة إلى هذا كله بل هذه جملة استئنافية. قال أبو السعود: مستأنفة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله (وبئس المصير) مصيرهم إليها.
ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة فقال:
وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية، فقيل نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم فقالا: لئن كان محمد صادقاً على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر بن قيس أجل والله إن محمداً لصادق مصدق، وإنك لشر من الحمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الجلاس فحلف بالله أن عامراً لكاذب، وحلف عامر لقد قال، وقال: اللهم أنزل على نبيك شيئاً فنزلت. وقيل إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي وقيل حذيفة.
وقيل بل سمعه ولد امرأته -أي امرأة الجلاس- واسطه عمير بن سعد فهمّ الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره.
وقيل أنه قول جميع المنافقين، وإن الآية نزلت فيهم، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب نزول هذه الآية وفيما ذكرناه كفاية.
ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذباً فقال: (ولقد قالوا كلمة الكفر) وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة (وكفروا بعد إسلامهم) أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم الإسلام وإن كانوا كفاراً في الباطن، والمعنى أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم.
(وهموا بما لم ينالوا) قيل هو همهم بقتل رسول الله ﷺ ليلة العقبة في غزوة تبوك وهم بضعة عشر رجلاً فضرب عمار بن ياسر، وفي قول حذيفة بن اليمان وجوه الرواحل لما غشوه فرجعوا، والقصة مبسوطة في سيرة الحلبي وغيرها، وقيل هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبيَّ، وقيل هو همَّ الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة فأخبر رسول الله - ﷺ -.
(وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) أي ما عابوا وأنكروا وكرهوا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء، وهو إغناء الله لهم من فضله، والاستثناء مفرغ من أعم العام فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش فلما قدم النبي ﷺ المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه
(فإن يتوبوا) أي فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق (يك) ذلك الذي فعلوه من التوبة (خيراً لهم) في الدين والدنيا، وقد تاب الجلاس ابن سويد وحسن إسلامه، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر، وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق، فمنع قبولها مالك وأتباعه لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام.
(وإن يتولوا) أي يعرضوا عن التوبة والإيمان ويصروا على النفاق والكفر (يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) بالقتل والأسر ونهب الأموال عاجلاً فلا ينافي ما سبق من أن قتالهم باللسان والحجة لا بالسيف، لأن ذاك إذا لم يظهروا الكفر بل أظهروا الإيمان (و) في (الآخرة) بعذاب النار آجلاً (وما لهم في الأرض) مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها (من ولي) يواليهم (ولا نصير) ينصرهم.
عن ابن عباس قال: ذلك أن رجلاً كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه وتصدقت منه، وجعلت منه للقرابة، فابتلاه الله فآتاه من فضله فأخلف ما وعده فأغضب الله بما أخلف ما وعده، فقص الله شأنه في القرآن.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم هذه القصة بأطول من هذا جداً، وفيه قال: يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له -يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال ادع الله أن يرزقني مالاً، فقال اللهم ارزقه مالاً، فاتخذ غنماً فنمت كما تنمى الدود حتى ضاقت بها
_________
(١) ابن كثير ٢/ ٣٧٤ (الحديث بطوله).
(بما أخلفوا الله ما وعدوه) الباء للسببية أي بسبب إخلافهم لما وعدوه من التصدق والصلاح وكذلك الباء في (وبما كانوا يكذبون) أي وبسبب تكذيبهم لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان " (١)، وعن ابن عمرو ابن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها "، الحديث وفيه: " إذا خاصم فجر " (٢).
_________
(١) مسلم ٥٩ - البخاري ٣١.
(٢) مسلم ٥٨ - البخاري ٣٢.
ثم أنكر عليهم فقال:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء، وجاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت هذه الآية، وفي الباب روايات كثيرة.
(والذين لا يجدون إلا جهدهم) بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وهي المشقة، وقيل هما لغتان ومعناهما واحد، وفي القرطبي: الجهد شيء يسير يعيش به المقل، وقد تقدم بيان ذلك، والمعنى أن المنافقين كانوا يعيبون المؤمنين الذين كانوا يتصدقون بما فضل عن كفايتهم.
(سخر الله منهم) أي جازاهم على ما فعلوه من السخرية بالمؤمنين بمثل ذلك فسخر الله منهم بأن أهانهم وأذلهم وعذبهم، والتعبير بذلك من باب المشاكلة كما في غيره، وقيل هو دعاء عليهم بأن يسخر الله بهم كما سخروا بالمسلمين (ولهم عذاب أليم) أي ثابت مستمر شديد الألم في الآخرة.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن التقييد بهذا العدد المخصوص يفيد قبول الزيادة عليه، ويدل لذلك ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عروة أن عبد الله ابن أبيَّ قال: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضوا من حوله، وهو القائل (ليخرجن الأعز منها الأذل) فأنزل الله واستغفر لهم أو لا تستغفر (لهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) وعن مجاهد وابن عباس نحوه.
قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين، لعل الله أن يغفر لهم فأنزل الله (سواء عليهم) الآية، يعني فبين له حسم المغفرة.
وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً وليس بشيء فقال أن السبعة عدد شريف لأنها عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فصير كل واحد من السبعة إلى عشرة لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
وقيل خصت السبعون بالذكر لأنه ﷺ كبر على عمه حمزة سبعين تكبيرة فكأنه قال أن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة وهذا كالذي قبله.
ثم علل عدم المغفرة لهم بقوله: (ذلك) الامتناع ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل (بأنهم كفروا بالله ورسوله) ولفظ الكرخي ذلك اليأس من الغفران لهم بسبب أنهم كفروا لا ببخل منا أو قصور فيك، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنه. اهـ.
(والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي المتمردين الخارجين عن الطاعة المتجاوزين لحدودها، والمراد هنا الهداية الموصلة إلى المطلوب لا الهداية التي بمعنى الدلالة وإراءة الطريق.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من قبائح المنافقين فقال
أحدها: أنه منصوب على المصدر أي تخلفوا خلاف رسول الله والثاني: أنه مفعول من أجله أي فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبري والزجاج، ويؤيده قراءة خلف بضم الخاء وسكون اللام والثالث أن ينتصب على الظرف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال أقام زيد خلاف القوم أي تخلف بعد ذهابهم، وخلاف أن يكون ظرفاً، وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر.
قال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف، وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخلف، وقال قطرب: معنى خلاف رسول الله مخالفة الرسول. حين سار إلى تبوك وأقاموا أي قعدوا لأجل المخالفة أو مخالفين له (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) لكمال شحهم بالأموال والأنفس، وعد وجود باعث الإيمان وداعي الإخلاص، ووجود الصارف عن ذلك وهو ما هم فيه من النفاق، وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين لأموالهم
(وقالوا) أي قال المنافقون لإخوانهم (لا تنفروا في الحر) تثبيطاً لهم وكسراً لنشاطهم وتواصياً بينهم بالمخالفة لأمر الله ورسوله، وكانت غزوة تبوك في شدة الحر والقحط، فأمر الله رسوله ﷺ بقوله: (قل نار جهنم أشد حراً) المعنى أنكم أيها المنافقون كيف تفرون من هذا الحر اليسير، ونار جهنم التي ستدخلونها خالدين فيها أبداً أشد حراً مما فررتم منه، فإنكم إنما فررتم من حر يسير في زمن قصير، ووقعتم في حر كثير في زمن كبير، بل غير متناه أبد الآبدين ودهر الداهرين.
(لو كانوا يفقهون) أنها كذلك لما فعلوا ما فعلوا، وهذا اعتراض تذييلي من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً " (١) أخرجه البخاري.
(جزاء بما كانوا يكسبون) من المعاصي، والمعنى يجزون جزاء، أو سبب الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم.
_________
(١) البخاري كتاب الكسوف باب ٢.
وإنما قال (إلى طائفة منهم) لأن جميع من أقام بالمدينة لم يكونوا منافقين بل كان فيهم غيرهم من المؤمنين لهم أعذار صحيحة، وفيهم من المؤمنين من لا عذر له، ثم عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتاب الله عليهم كالثلاثة الذين خلفوا، وسيأتي بيان ذلك.
وقيل إنما قال: (إلى طائفة) لأن منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، وفي البيضاوي أن المتخلفين كانوا اثني عشر رجلاً.
(فاستأذنوك للخروج) معك في غزوة أخرى بعد غزوتك هذه (فقل) لهم إخراجاً لهم عن ديوان الغزاة وإبعاداً لمحلهم عن محفل صحبتك (لن تخرجوا معي أبداً) إلى غزوة ولا إلى سفر، وهذا إخبار في معنى النهي للمبالغة (ولن تقاتلوا معي عدوا) أي قل لهم ذلك عقوبة لهم ولما في استصحابهم من المفاسد كما تقدم في قوله (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً).
(إنكم رضيتم بالقعود) تعليل أي لن تخرجوا معي ولن تقاتلوا لأنكم
ومن ذلك خلف اللبن أي فسد بطول المكث في السقاء، ذكر معناه الأصمعي وقرئ مع الخلفين، قال الفراء: معناه المخالفين، قيل المراد بهم النساء والصبيان والرجال العاجزون، فلذلك جاز جمعه للتغليب.
وقال قتادة: الخالفون النساء وهو مردود لأجل الجمع، قال ابن عباس: الخالفين هم الرجال الذين تخلفوا عن الغزو بغير عذر، وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته.
(إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) تعليل للنهي عن الصلاة والقيام على قبره، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه بأن يؤدي الأمانة، ولا يضمر لأحد سوءاً، وقد يكون خبيثاً في نفسه كثير الكذب والمكر والنفاق والخداع والجبن وإضمار السوء للغير والخبث وهي مستقبحة في كل دين عند كل أحد.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله
وكان ابن أبيّ رئيس الخزرج وينسب لأبيه وأمه فأبوه أبيّ وأمه سلول وكان اسمه عبد الله.
_________
(١) مسلم ٢٤٠٠ - البخاري ٦٧٥.
وقد تقدم في الآية الأولى جميع ما يحتاج إليه في تفسير هذه الآية، وذكر في الخازن ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين ولا يأتي بكثير فائدة.
ثم عاد الله سبحانه إلى توبيخ المنافقين فقال:
(استأذنك أولوا الطول منهم) أي ذوو الفضل والسعة والقدرة وأهل الغنى والثروة، من طال عليه طولاً، كذا قال ابن عباس والحسن، وقال الأصم: هم الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصهم بالذكر. لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود، ولأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان.
(وقالوا) عطف تفسيري (ذرنا) أي اتركنا (نكن مع القاعدين) أي المتخلفين عن الغزو من المعذورين كالضعفاء والزَّمْنَى.
(وطبع على قلوبهم) كقوله ختم الله على قلوبهم وقد مر تفسيره (فهم لا يفقهون) شيئاً مما فيه نفعهم وضرهم بل هم كالأنعام أي لا يفهمون الخير الذي في الجهاد ولا الشر الذي في التخلف.
ثم ذكر منافع الجهاد فقال: (وأولئك لهم الخيرات) جمع خير فيشمل منافع الدنيا والدين من النصر والغنيمة والجنة والكرامة، وقيل المراد بها النساء الحسان أي الحور، قاله الحسن كقوله تعالى: (فيهن خيرات حسان) ومفرده خيرة بالتشديد ثم خففت مثل هينة وهينة (وأولئك هم المفلحون) قد تقدم معنى الفلاح والمراد بهم هنا الفائزون بالمطلوب وتكرير اسم الإشارة لتفخيم شأنهم وتعظيم أمرهم.
وقرأ الجمهور بالتشديد وفيه وجهان (أحدهما) أن يكون أصله المعتذرون وهم الذين لهم عذر فالمعذرون على هذا هم المحقون في اعتذارهم، وقد روي هذا عن الفراء والزجاج وابن الأنباري وأبي عبيد والأخفش وأبي حاتم، وقيل هو من عذر وهو الذي يعتذر ولا عذر له يقال عذر في الأمر إذا قصر فيه واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف.
فالمعذرون على هذا هم المبطلون لأنهم اعتذروا بأعذار كاذبة باطلة لا أصل لها، والمعنى أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين، قال الضحاك: هم رهط عامر، وقيل من أسد وغطفان، وقال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بعذر.
(ليؤذن لهم) أي لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتخلف عن الغزو (وقعد) طائفة أخرى لم يعتذروا بل قعدوا عن الغزو بغير عذر وهم منافقو الأعراب (الذين كذبوا الله ورسوله) بالتخفيف أي كذبوا في ادعاء إيمانهم وبالتشديد أي لم يؤمنوا ولا صدقوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره.
قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء، وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا، وقيل منافقو الأعراب قسمان: قسم جاءوا واعتذروا بالأعذار الكاذبة وقسم لم يجىء ولم يعتذر.
ثم توعدهم سبحانه فقال: (سيصيب الذين كفروا منهم) أي من الأعراب وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة والذين لم يعتذروا بل كذبوا الله ورسوله. وأتى بمن التبعيضية، لأن منهم من أسلم فلم يصبه العذاب (عذاب أليم) أي كثير الألم فيصدق على عذاب الدنيا بالقتل والأسر، وعذاب الآخرة بالنار المؤبدة.
ولما ذكر سبحانه المعذرين ذكر بعدهم أهل الأعذار الصحيحة المسقطة للغزو، وبدأ بالعذر في أصل الخلقة فقال: (ليس على الضعفاء) وهم أرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ونحو ذلك كالشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفاً نحيفاً، والضعفاء جمع ضعيف، وهو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو.
ئم ذكر العذر العارض فقال: (ولا على المرضى) المراد بالمرض كل ما يصدق عليه اسم المرض لغة أو شرعاً، وقيل أنه يدخل في المرضى الأعمى والأعرج ونحوهما. ثم ذكر العذر الراجع إلى المال لا إلى البدن فقال: (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) أي ليست لهم أموال ينفقونها فيما يحتاجون إليه من التجهز للجهاد لفقرهم، كجهينة ومزينة وبني عذرة، فنفى سبحانه عن هؤلاء الثلاثة الحرج، وأبان أن الجهاد مع هذه الأعذار ساقط عنهم غير واجب عليهم مقيداً بقوله: (إذا نصحوا لله ورسوله) في حال قعودهم بالطاعة وعدم الأرجاف والتثبيط، وأصل النصح إخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النصوح.
قال نفطويه: نصح الشيء إذا خلص ونصح له القول أي أخلصه له، والنصح لله الإيمان به والعمل بشريعته وترك ما يخالفها كائناً ما كان، ويدخل تحته دخولاً أولياً نصح عباده ومحبة المجاهدين في سبيله وبذل النصيحة لهم في أمر الجهاد وترك المعاونة لأعدائهم بوجه من الوجوه، ونصيحة الرسول صلى الله
وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الدين النصيحة " ثلاثاً، قالوا لمن؟ " قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (١). وفي الخازن: النصح أن يقيموا في البلد ويحترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن ويسمعوا في إيصال الخير إلى أهل الجهاد ويقوموا بمصالح بيوتهم.
(ما على المحسنين من سبيل) جملة مقررة لمضمون ما سبق، أى ليس على المعذورين الناصحين طريق عقاب ومؤاخذة، ومن مزيدة للتأكيد، وعلى هذا فيكون لفظ المحسنين موضوعاً في موضع الضمير الراجع إلى المذكورين سابقاً، وأتى بالظاهر للدلالة على انتظامهم بنصحهم في سلك المحسنين، أو يكون المراد ما على جنس المحسنين من سبيل، وهؤلاء المذكورون سابقاً من جملتهم، فتكون الجملة تعليلية، وقولهم لا سبيل عليه معناه لا حرج ولا عتاب، وأنه بمعنى لا عاتب يمر عليه فضلاً عن العتاب، وإذا تعدى بإلى كقوله:
ألا ليت شعري هل إلى أم سالم | سبيل فأما الصبر عنها فلا صبر |
هل من سبيل إلى خمر فأشربها | أم من سبيل إلى نصر بن حجاج |
_________
(١) مسلم ٥٥.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وقوله (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
وإسقاط التكليف عن هؤلاء المعذورين لا يستلزم عدم ثبوت ثواب الغزو لهم الذي عذر الله عنه مع رغبتهم إليه لولا حبسهم العذر عنه، ومنه حديث أنس عند أبي داود وأحمد، وأصله في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: " لقد تركتم بعدكم قوماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم فيه " قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال " حبسهم العذر " (١).
وأخرجه أحمد ومسلم من حديث جابر (٢) عن قتادة قال: أنزلت هذه الآية في عائد بن عمر المزني، وقال الضحاك: عذرهم وجعل لهم من العذر ما جعل للمجاهدين.
قال الرازي: ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج، لأن الواحد لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم، بشرط أن لا يجعل نفسه كلاًّ ووبالاً عليهم لكان ذلك طاعة مقبولة.
_________
(١) البخاري كتاب الجهاد باب ٣٥.
(٢) مسلم ١٩١١.
ثم ذكر الله سبحانه من جملة المعذورين من تضمنه قوله (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) العطف على جملة ما على المحسنين أو على الضعفاء أى لا عليهم حرج، والمعنى أن من جملة المعذورين هؤلاء الذين أتوك لتحملهم على ما يركبون عليه في الغزو فلم تجد ذلك الذي طلبوه منك قيل هم سبعة من الأنصار وقيل بنو مقرن، وقيل المعنى إذا ما أتوك قائلاً لا أجد وقيل غير ذلك وهذا أولى.
وفي إيثار هذا التعبير على " ليس عندي " لطف في الكلام وتطييب لقلوب السائلين كأنه قال أنا أطلب ما تسألونه وأفتش عنه فلا أجده فأنا معذور، وعن أنس في الآية قال: الماء والزاد. وعن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالوا: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحملان فقالوا ما سألناه إلا الحملان على النعال.
وعن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه في الآية قال: ما سألوه الدواب، ما سألوه إلا النعال. وعن الحسن بن صالح قال استحملوه النعال.
(تولوا) أى انصرفوا عنك لما قلت لهم لا أجد ما أحملكم عليه (وأعينهم تفيض) أي تسيل (من الدمع) أي حال كونهم باكين، ومن للبيان، وفي الشهاب أن الفيض انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، يعني أن الفيض مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية فإن الثاني سبب للأول، فالمجاز في المسند والدمع هو
(حزناً ألا يجدوا) قال الفراء: أى ليس يجدوا، وقيل حزناً على أن لا يجدوا وقيل المعنى حزناً أنهم لا يجدوا، وقيل لأجل أن لا يجدوا (ما ينفقون) في الجهاد لا عند أنفسهم ولا عندك.
عن محمد بن كعب قال: هم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف: سالم ابن عمير ومن بني واقف حرمى بن عمرو، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر؛ ومن بني حارثة عبد الرحمن ابن زيد أبو غيلة، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله ابن عمرو المزني، من ثَمَّ (١) قيل لهم البكاءون فحمل العباس منهم اثنين وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف. وحمل يامين بن عمرو النضرى اثنين، كذا في مختصر سيرة الحلبى.
وقد اتفق الرواة على بعض هؤلاء السبعة واختلفوا في البعض ولا يأتي التطويل في مثل ذلك بكثير فائدة.
_________
(١) بفتح الثاء أي ومن هنا.
ثم ذكر الله سبحانه من عليه السبيل من المتخلفين فقال
(على الذين يستأذنوك) في التخلف عن الغزو (وهم) أي والحال أنهم (أغنياء) يجدون ما يحملهم وما يتجهزون به (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) وهم النساء والصبيان، والجملة مستأنفة كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء، فقيل رضوا أي بالدناءة والضعة والانتظام فيهم وإليه مال الزمخشري وقيل أنه في محل نصب على الحال وقد مقدرة. قاله الكرخي.
(وطبع على قلوبهم) معطوفه على رضوا أي سبب الاستئذان مع الغنى أمران (أحدهما) الرضا بالصفقة الخاسرة وهي أن يكونوا مع الخوالف (والثاني) الطبع من الله على قلوبهم (فهم) وبسبب هذا الطبع (لا يعلمون) ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسر. عن مجاهد قال: هي في المنافقين، قال السيوطي؛ ؤقد تقدم مثله اهـ.
قال في الجمل: لكن مع نوع اختلاف في الألفاظ كما لا يخفى.
ويحتمل أن يكون الضمير في إليكم لرسول الله (- ﷺ -) على التأويل المشهور في هذا. روي أن المعتذرين كانوا بضعة وثمانين رجلاً.
ثم أخبر الله سبحانه رسوله ﷺ بما يجيب به عليهم فقال: (قل لا تعتذروا) فنهاهم أولاً عن الاعتذار بالباطل ثم علله بقوله: (لن نؤمن لكم) أي لن نصدقكم كأنهم ادعوا أنهم صادقون في اعتذارهم، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به؛ فإذا عرف أنه لا يصدق ترك الاعتذار، وإنما خص الرسول ﷺ بالجواب عليهم مع أن الاعتذار منهم كائن إلى جميع المؤمنين لأنه ﷺ رأسهم والمتولي لما يرد عليهم من جهة الغير.
وجملة (قد نبأنا الله من أخباركم) تعليلية للتي قبلها أي لا يقع منا تصديق لكم لأن الله لمحد أعلمنا بالوحي ما هو مناف لصدق اعتذاركم (وسيرى الله عملكم) أي ما ستفعلونه من الأعمال فيما بعد هل تقلعون عما أنتم عليه الآن من الشر أم تبقون عليه، وقيل سيعلم عملكم السيء واقعاً أي مستمراً على الوقوع، والظاهر أن الاستقبال في علم الله بالنظر لظهوره لنا.
(ورسوله) معطوف على الاسم الشريف ووسط مفعول الرؤية إيذاناً بأن رؤية الله سبحانه لما سيفعلونه من خير أو شر هي التي تدور عليها الإثابة أو العقوبة. وفي جملة (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) تخويف شديد لما هي مشتملة عليه من التهديد ولا سيما ما اشتملت عليه من وضع الظاهر موضع المضمر لإشغار ذلك بإحاطته بكل شيء يقع منهم مما يكتمونه ويتظاهرون به وإخباره لهم به ومجازاتهم عليه.
(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم) ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاءوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد (لتعرضوا عنهم) أي يعرض المؤمنون عنهم فلا يوبخونهم ولا يؤاخذونهم بالتخلف ويظهرون الرضا عنهم كما يفيده ذكر الرضا من بعد، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدل عليه، وهو اعتذارهم الباطل.
(فأعرضوا عنهم) أي دعوهم وما اختاروا لأنفسهم، والمراد به تركهم والمهاجرة لهم لا الرضا عنهم والصفح عن ذنبهم كما تفيده جملة (إنهم رجس) الواقعة علة للأمر بالإعراض، والمعنى أنهم في أنفسهم رجس لكون جميع أعمالهم نجسة فكأنها قد صيرت ذواتهم رجساً أو أنهم ذوو رجس أي ذوو أعمال قبيحة، ومثله (إنما المشركون نجس).
وهؤلاء لما كانوا هكذا كانوا غير متأهلين لقبول الإرشاد إلى الخير والتحذير من الشر فليس لهم إلا الترك، قال أهل المعاني: إن هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت.
(ومأواهم جهنم) ومن تمام التعليل فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، أو تعليل مستقل قاله أبو السعود، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء ليلاً أو نهاراً، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي (جزاء) أي يجزون جزاء أو مفعول من أجله (بما كانوا يكسبون) الباء للسببية.
وإذا كان هذا هو ما يريده الله سبحانه من عدم الرضا عن هؤلاء الفسقة العصاة فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتد به ولا مفيداً لهم.
والمقصود من إخبار الله سبحانه بعدم رضاه عنهم هو نهي المؤمنين عن ذلك لأن الرضا عمن لا يرضى الله عنه مما لا يفعله مؤمن، ونكتة العدول لهذا الظاهر التسجيل عليهم حيث وصفهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم في ذلك.
وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: (وكان الإنسان كفوراً) إذ ليس كلهم كما ذكر على ما ستحيط به خبراً.
والأعراب هم من سكن البوادي بخلاف العرب فإنه عام لهذا النوع من بني آدم سواء سكنوا البوادي أو القرى، هكذا قال أهل اللغة، ولهذا قال سيبويه: إن الأعراب صيغة جمع وليست بصيغة جمع العرب، لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده.
قال النيسابوري: قال أهل اللغة رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً وجمعه عرب كالمجوسي والمجوس، واليهودي واليهود، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي، ومن نزل البادية فهو أعرابي، ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، وإنما هم عرب.
فإن قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤوا بالعرب وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم.
وقيل. لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة انتهى.
وفي المصباح وأما الأعراب بالفتح فأهل البدو من العرب، الواحد أعرابي بالفتح أيضاً وهو الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ وزاد الأزهري: سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن نزل البادية وجاور البادين وظعن بظعنهم فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عرب وإن لم يكونوا فصحاء.
وقد نبه الراغب على أصل اشتقاق هذه المادة وأنها من الجدار أي الحائط فقال والجدير المنتهي لانتهاء الأمر إليه انتهاء الشيء إلى الجدار، والذي يظهر أن اشتقاقه من الجدر وهو أصل الشجرة فكأنه ثابت كثبوت الجدر في قولك جدير بكذا.
(ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) من الشرائع والأحكام والفرائض وما أمر به من الجهاد لبعدهم عن مواطن الأنبياء وديار التنزيل، ومشاهدة المعجزات، ومعاينة ما ينزل عليه من تضاعيف الكتاب والسنة.
ووصف العرب بأنهم جاهلون لا ينافي صحة الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ إذ وصفهم بالجهل إنما هو في أحكام القرآن لا في ألفاظه، ونحن لا نحتج بلغتهم في بيان الأحكام بل في معاني بيان الألفاظ لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم قاله الكرخي.
(والله عليم) بأحوال مخلوقاته على العموم وهؤلاء منهم (حكيم) فيما يجازيهم به من خير وشر، عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أسد وغطفان.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن " (١) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
وأخرج أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ " من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى أبواب السلطان افتتن. وما ازداد أحد من سلطانه قرباً إلا ازداد من الله بعداً " (٢).
_________
(١) الترمذي، كتاب الفتن، باب ٦٩.
(٢) أبو داوود، كتاب الأضاحي، باب ٢٤.
قال الضحاك: يعني بالمغرم أنه لا يرجو له ثواباً عند الله ولا مجازاة، وإنما يعطي ما يعطي من الصدقات كرهاً، وعن ابن زيد قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياء اتقاء أن يغزوا، ويحاربوا ويقاتلوا ويرون نفقاتهم مغرماً وهم بنو أسد وغطفان.
(ويتربص) أي ينتظر (بكم الدوائر) جمع دائرة وهي الحالة المتقلبة عن النعمة إلى البلية، وأصلها ما يحيط بالشيء ودوائر الزمان نوبه وتصاريفه ودوله وكأنه لا تستعمل إلا في المكروه، وفي الدائرة مذهبان أظهرهما أنها صفة على فاعلة كقائمة وقال الفارسي: يجوز أن تكون مصدراً كالعاقبة، والمعنى ينتظر بكم تقلب الزمان وصروفها التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر، قال يمان بن رباب: يعني يموت الرسول ويظهر المشركون.
ثم دعا سبحانه عليهم بقوله: (عليهم دائرة السوء) وجعل ما دعا به
وقال غيره: المضموم العذاب والضرر، والمفتوح الذم، وقرأ ابن كثير وغيره بضم السين وهو المكروه، قال الأخفش: عليهم دائرة الهزيمة والشر، وقال الفراء: دائرة العذاب والبلاء قال: والسوء بالفتح سؤته سؤاً ومساءة وبالضم اسم لا مصدر وهو كقولك دائرة البلاء والمكروه، قال الخفاجي: وبين الفتح والضم شبه طباق، وقال الضحاك: الدوائر الهلكات (والله سميع) لما يقولونه (عليم) بما يضمرونه.
(ويتخذ ما ينفق قربات) أي سبب قربات (عند الله) وهي جمع قربة بالضم وهي ما يتقرب به إلى الله سبحانه، تقول منه قربت لله قرباناً والجمع قرب وقربات والمعنى أنه يجعل ما ينفقه في سبيل الله سبباً لحصول القربات عند الله (وصلوات الرسول) أي سبباً لدعوات الرسول لهم لأنه ﷺ كان يدعو للمتصدقين، ومنه قوله: (وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم) ومنه قوله: (- ﷺ -) " اللهم صلّ على آل أبي أوفى " (١).
_________
(١) مسلم ١٠٧٨ - البخاري ٨٠٠.
ثم إنه سبحانه بين بأن ما ينفقه هذا النوع من الأعراب تقرباً إلى الله مقبول واقع على الوجه الذي أرادوه فقال: (ألا إنها قربة لهم) أخبر سبحانه بقبولها خبراً مؤكداً باسمية الجملة وحرفي التنبيه والتحقيق؛ وفي هذا من التطييب لخواطرهم والطمأنينة لقلوبهم ما لا يقادر قدره مع ما يتضمنه من النعي على من يتخذ ما ينفق مغرماً والتوبيخ له بأبلغ وجه، والضمير في (إنها) راجع إلى ما في ما ينفق وتأنيثه باعتبار الخبر وقيل راجع إلى صلوات الرسول ﷺ والأول أولى. ثم فسر سبحانه القربة بقوله: (سيدخلهم الله في رحمته) السين لتحقيق الوعد. وهذه النعمة هي أقصى مرادهم (إن الله غفور) لأهل طاعته (رحيم) بعباده
وقرأ عمر بن الخطاب الأنصار بالرفع عطفاً على والسابقون، وقرأ سائر القراء من الصحابة فمن بعدهم بالجر. قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه لأن السابقين منهم يدخلون في قوله: (والسابقون).
وفي هذه الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا للقبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية في قول الشعبي أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار. ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها. قال محمد بن كعب القرظي: هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو منصور البغدادي في أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون ثم البدريون ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
(والذين اتبعوهم) أي اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم الأميين الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة، وليس المراد بهم التابعين اصطلاحاً، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي صلى الله
وقيل إنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة إلى يوم القيامة كما قال ابن زيد هم من بقي من أهل الإسلام إلى أن تقوم الساعة.
قال جماعة من الصحابة. لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لأمتي كلهم وليس بعد الرضا سخط.
عن حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أريد الفتن قال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي ﷺ وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم، قلت له وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؛ قال ألا تقرؤون قوله تعالى: (والسابقون الأولون) الآية، أوجب لجميع أصحاب النبي ﷺ الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه فيهم، قلت وما اشترط عليهم؛ قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك ولا عرفت تفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب.
وقوله: (بإحسان) قيد للتابعين أي والذين اتبعوهم متلبسين بإحسان في الأفعال والأقوال اقتداء منهم بالسابقين الأولين (رضي الله عنهم) أي قبل طاعتهم وتجاوز عنهم ولم يسخط عليهم (ورضوا عنه) بما أعطاهم من فضله ومع رضائه عنهم فقد (أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار) في الدار الآخرة وفي قراءة بزيادة (من) قاله السيوطي. وفي الجمل أي سبعية لابن كثير،
(خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) اختلفوا في أول الناس إسلاماً بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاماً على أقوال يطول ذكرها. وقال إسحاق ابن إبراهيم: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن العبيد زيد بن حارثة؛ فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام. وأسلم على يد أبي بكر عثمان والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة، ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول في الإسلام، فهؤلاء السابقون الأولون من المهاجرين.
وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله ﷺ ليلة العقبة وهي العقبة الأولى، وكانوا خمسة نفر: سعد وعوف ورافع وقطبة وجابر، ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً، فهؤلاء سابقو الأنصار. وقيل غير ذلك مما ليس في ذكره كثير فائدة
وأطلق الطبري القول ولم يعين أحداً من القبائل المذكورة بل قال من القوم الذين حول مدينتكم؛ أيها المؤمنون من الأعراب منافقون (ومن أهل
في منزل شيد بنيانه... يزل عنه ظفرالطائر
فالمعنى أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنواعنه ولم يتوبوا منه،
قال ابن زيد: معناه لجوا فيه وأبوا غيره.
قال الخفاجي: أصل معنى التمرد التمرن أي الاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهراً فيه لاتخاذه صنعة وديدناً له، ولذا خفي نفاقهم عليه ﷺ مع كمال فطنته وفراسته.
وقال الراغب: أنه من قولهم شجرة مرداء أي لا ورق عليها أي أنهم خلوا من الخير. وروى أهل الجنة جرد مرد وهو محمول على ظاهره، أو المراد أنهم خالصون من الشوائب والقبائح.
وجملة (لا تعلمهم) مبنية للجملة الأولى وهي مردوا على النفاق أي ثبتوا عليه ثبوتاً شديداً ومهروا فيه حتى خفي أمرهم على رسول الله ﷺ فكيف سائر المؤمنين، والمراد عدم علمه ﷺ بأعيانهم لا من حيث الجملة، فإن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم.
ولا ينافي هذا قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) لأن آية النفي نزلت قبل آية الإثبات، وهذه الجملة صفة المنافقون أو مستأنفة، والعلم هنا إما على بابه فيتعدى لإثنين أي لا تعلمهم منافقين أو عرفاني فيتعدى لواحد. قاله أبو البقاء.
وأما قوله: (نحن نعلمهم) فلا يجوز أن يكون إلا على بابه وهي مقررة
وعن أبي مالك قال: بالجوع وعذاب القبر. وعن قتادة قال: عذاب في القبر وعذاب في النار، وقد روي عن جماعة من السلف نحو هذا في تعيين العذابين وقيل غير ذلك مما يطول ذكره مع عدم الدليل على أنه المراد بعينه، والظاهر أن هذا العذاب المكرر هو في الدنيا بما يصدق عليه اسم العذاب وأنهم يعذبون مرة بعد مرة ثم يردون بعد ذلك إلى عذاب الآخرة، وهو المراد بقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم).
ومن قال أن العذاب في المرة الثانية هو عذاب الآخرة قال معنى قوله (ثم يردون) أنهم يردون بعد عذابهم في النار كسائر الكفار إلى الدرك الأسفل منها أو أنهم يعذبون في النار عذاباً خاصاً بهم دون سائر الكفار ثم يردون بعد ذلك إلى العذاب الشامل لهم ولسائر الكفار.
وفي مسند أحمد عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله ﷺ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إن منكم منافقين فمن سميته فليقم "، ثم قال: " قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين (١).
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ٢٧٢.
ثم ذكر سبحانه حال طائفة من المسلمين وهم المخلطون في دينهم فقال:
(خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) المراد بالعمل الصالح ما تقدم من إسلامهم وقيامهم بشرائع الإسلام وخروجهم إلى الجهاد في سائر المواطن، والمراد بالعمل السىء هو تخلفهم عن هذه الغزوة، وقد أتبعوا هذا العمل السيّء عملاً صالحاً وهو الاعتراف به والتوبة عنه. وأصل الاعتراف الإقرار بالشيء ومجرد الإقرار لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال والاستقبال، وقد وقع منهم ما يفيد هذا.
ومعنى الخلطة أنهم خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك خلطت الماء باللبن واللبن بالماء؛ ذكره غالب المفسرين وأنكره الرازي وقال: الواو لمطلق الجمع، وفيه تنبيه على نفي القول بالمخالطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر.
ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء، كقولك بعت الشاء شاة ودرهماً أي بدرهم وقال الواحدي: الواو أحسن من الباء لأنه أريد به معنى الجمع لا حقيقة الخلط ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسىء كما لا يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما؛ وقال التفتازاني: وتحقيقه أن الواو للجمع والباء
وفي قوله: (عسى الله أن يتوب عليهم) دليل على أنه قد وقع منهم مع الاعتراف ما يفيد التوبة أو أن مقدمة التوبة وهي الاعتراف قامت مقام التوبة وحرف الترجي هو (عسى) في كلام الله سبحانه يفيد تحقق الوقوع، لأن الإطماع من الله سبحانه إيجاب لكونه أكرم الأكرمين، وفي المواهب واتفق المفسرون على ذلك، قال القسطلاني: وعبر بعسى للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه حتى لا يتكل المرء بل يكون على خوف وحذر (إن الله غفور رحيم) يغفر الذنوب ويتفضل على عباده، وهذا يفيد إنجاز الوعد.
عن ابن عباس قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله ﷺ في غزوة تبوك فلما حضر رجوع رسول الله ﷺ أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي ﷺ إذا رجع عليهم، فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم، قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تطلقهم وتعذرهم قال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فنزلت (عسى الله أن يتوب عليهم).
وقيل الآية تعم جميع المسلمين، والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصاً بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، وروى الطبراني عن أبي عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من هذه الآية.
(تطهرهم وتزكيهم بها) الضمير المرفوع في الفعلين للنبي ﷺ أي تطهرهم وتزكيهم يا محمد بما تأخذه من الصدقة منهم، وقيل الضمير في تطهرهم للصدقة والضمير في تزكيهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأول أولى لما في الثاني من الاختلاف في الضميرين في الفعلين المتعاطفين، ومعنى التطهير إذهاب ما يتعلق بهم من أثر الذنوب، ومعنى التزكية المبالغة في التطهير.
قاق الزجاج: الأجود أن يكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي فإنك يا محمد تطهرهم وتزكيهم بها على القطع والاستئناف ويجوز الجزم على جواب الأمر والمعنى أن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم، قال السيوطي: فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها على سبيل الكفارة لذنوبهم فإن كل من أتى ذنباً يسن له التصدق.
(وصل عليهم) أي ادع لهم بعد أخذك لتلك الصدقة من أموالهم، قال النحاس: وحكى أهل اللغة جميعاً فيما علمناه أن الصلاة في كلام العرب الدعاء؛ ثم علل سبحانه أمره لرسوله ﷺ بالصلاة على من يأخذ منه الصدقة فقال: (إن صلاتك سكن لهم) السكن ما تسكن إليه النفس وتطمئن به وهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض والمعنى يسكنون إليها، قال ابن عباس: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوها إن صلاتك رحمة لهم.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى قال كان
رسول الله ﷺ إذا أتى بصدقة قال: " اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى " (١).
(والله سميع) لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم (عليم) بما في ضمائرهم من الندم والغم لا فرط منهم.
ولما تاب الله سبحانه على هؤلاء المذكورين سابقاً قال:
_________
(١) مسلم ١٠٧٨ - البخاري ٨٠٠.
(عن عباده) قيل لا فرق بين عن ومن، قال ابن عطية: وكثيراً ما يتوصل في موضع واحد بهذه وهذه نحو لا صدقة إلا عن غني ومن غني وفعل ذلك فلان من أشره وبطره وعن أشره وبطره، وقيل بينهما فرق ولعل (عن) في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشير القبول للتوبة مع تسهيل سبيلها، وقيل لفظة عن تشعر ببعد ما، تقول جلس عن يمين الأمير أي مع نوع من البعد،
(ويأخذ الصدقات) أي يتقبلها منهم وفي إسناد الأخذ إليه سبحانه بعد أمره لرسوله (- ﷺ -) بأخذها تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها، وفي ذكر لفظ الأخذ ترغيب في بذل الصدقة وإعطائها الفقراء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله " (١) أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث يطول ذكرها.
(وإن الله هو التواب الرحيم) أي أن هذا شأنه سبحانه؛ وفي صيغة المبالغة في التواب مع توسيط ضمير الفصل والتأكيد من التبشير لعباده والترغيب لهم ما لا يخفى.
_________
(١) مسلم ١٠١٤ - البخاري ٧٥١.
ومهما يكن عند امرئ من خليقة | وإن خالها تخفى على الناس تعلم |
إذا ما قمت أرحلها بليل | تأوه آهة الرجل الحزين |
(حليم) الكثير الحلم كما تفيده صيغة المبالغة، وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم مع أبيه حين قال له لئن لم تنته لأرجمنك فأجابه بقوله: (سلام عليك سأستغفر لك ربي) وقيل الذي لا يعاقب أحداً قط إلا لله، قال ابن عباس: كان من حلمه إذا آذاه الرجل من قومه قال له هداك الله، وقيل الحليم السيد.
(حتى يبين لهم ما يتقون) أي ما يجب عليهم اتقاؤه من محرمات الشرع وقال الضحاك: ما يأتون وما يذرون، وقال مقاتل والكلبي: هذا قي المنسوخ أي ما كان الله ليبطل عمل قوم قد عملوا بالمنسوخ حتى يبين الناسخ، قال ابن عباس: نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى قال: لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه حتى يبين لهم ما يتقون أي ينهاهم قبل ذلك.
وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في طاعته ومعصيته عامة فافعلوا أو اتركوا (إن الله بكل شيء عليم) مما يحل لعباده ويحرم عليهم ومن سائر الأشياء التي خلقها ومنه مستحق الإضلال والهداية.
ثم بين لهم
ويجوز أن يكون ذكر النبي ﷺ لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ويتوبوا عما قد لابسوه منها، قال أهل المعاني: هو مفتاح كلام للتبرك وفيه تشريف لهم في ضم توبتهم إلى توبة النبي ﷺ كما ضم اسم الرسول إلى اسم الله في قوله: (فإن لله خمسه وللرسول) فهو تشريف له.
(و) كذلك تاب الله سبحانه على (المهاجرين والأنصار) فيما قد
ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم (الذين اتبعوه) أي النبي ﷺ فلم يتخلفوا عنه (في ساعة العسرة) هي غزوة تبوك فإنهم كانوا فيها في عسرة شديدة، وقد ذكر بعض العلماء أن النبي ﷺ سار إلى تبوك في سبعين ألفاً ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل، فالمراد بالساعة أوقات جميع تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها، والعسرة صعوبة الأمر والشدة والضيق.
وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك وتسمى غزوة العسرة، والجيش الذي سار يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الزاد والظهر والماء.
وأخرج ابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: حدثنا من شأن ساعة العسرة فقال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء؛ فأهطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
(من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) في كاد ضمير الشأن بيان
وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: (ثم تاب عليهم) تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني فلا تكرار، وذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم.
ثم أتبعه بقوله: (إنه بهم رؤوف رحيم) تأكيداً لذلك أي رفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات، وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى، قال الخطابي: قد تكون الرحمة مع الكراهة ولا تكاد الرأفة تكون معها، وقيل الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع.
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) كناية عن شدة التحير وعدم الاطمئنان، يعني أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض برحبها لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد لأن النبي ﷺ نهى الناس أن يكالموهم، والرحب الواسع يقال منزل رحب ورحيب وراحب والمضموم مصدر والمفتوح مكان، وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم لينزجروا عن المعاصي.
(وضاقت عليهم أنفسهم) أي أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة وشدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم فلا يسعها سرور ولا أنس، وعبر بالظن في قوله: (وظنوا) عن العلم أي علموا وأيقنوا (أن لا ملجأ) يلجؤون إليه قط (من الله) أي من عذابه أو من سخطه (إلا إليه) سبحانه بالتوبة والاستغفار.
قال أبو بكر الوراق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة، وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والرأفة والإحسان من الله تعالى، وأنه لا يجب عليه شيء.
قال ابن جرير: مع المهاجرين وقيل مع الذين خرجوا مع رسول الله - ﷺ - إلى تبوك، وقيل مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الباطلة، وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق.
روي أن أبا بكر احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة حين قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فقال: إن الله يقول في كتابه (للفقراء المهاجرين) إلى قوله: (أولئك هم الصادقون) فمن هؤلاء قال الأنصار أنتم هم؛ فقال إن الله يقول: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم.
قيل والآية تدل على أن الإجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم، وقيل مع بمعنى من، أي كونوا منهم والله أعلم.
(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله ﷺ وتحريم التخلف عنه أي ما صح وما استقام لهم ولمن حولهم كمزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار أن يتخلفوا عنه ﷺ في غزوة تبوك، وقيل هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى، وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا فلم ينفروا بخلاف غيرهم من العرب فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن زيد: هذا حين كان الإسلام قليلاً لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله ﷺ فلما كثر الإسلام وفشا قال الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة).
(ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) أي وما كان لهم ذلك فيشحون بها ويصونونها ولا يشحون بنفس رسول الله ﷺ ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها، يقال رغبت عن كذا أي ترفعت عنه وأعرضت.
والمعنى ولا يجعلوا أنفسهم راغبة معرضة عما ألقى فيه نفسه الكريمة، بل
وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم والتقريع الشديد والتهييج لهم والإزراء عليهم.
والإشارة بقوله: (ذلك) إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صل الله عليه وسلم أي ذلك الوجوب (بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة) أي بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد، والظمأ العطش والنصب التعب، والمخمصة الجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن، وتوسيط كلمة لا هاهنا للدلالة على استقلال كل واحد منها بالفضيلة والاعتداد به.
ومعنى (في سبيل الله) في طاعة الله (ولا يطأون موطئاً يغيظ) بفتح الياء باتفاق السبعة وإن كان يجوز لغة ضمها إذ يقال لغة غاظه وأغاظه بمعنى واحد، أي يغضب والكفار أي لا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأقدامهم، أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم، فيحصل بسبب ذلك الغيظ والغم والحزن للكفار، والمَوْطِئ اسم مكان ويجوز أن يكون مصدراً، وفيه أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم.
(ولا ينالون) أي لا يصيون (من عدو نيلاً) أي قتلاً وأسراً أو هزيمة أو غنيمة وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت، قال الكسائي: هو من قولهم أمر منيل منه، وليس هو من التناول إنما التناول من نلته بالعطية، قال
(إلا كتب لهم به) أي بكل واحد من الأمور الخمسة (عمل صالح) حسنة مقبولة يجازيهم بها وثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل ونيل الزلفى.
قال الأوزاعي وجماعة من الأئمة: هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة، وقال قتادة: هذا الحكم خاص برسول الله ﷺ والأول أولى، وفي الآية دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله وكان سعيه مشكوراً.
(إن الله لا يضيع أجر المحسنين) جملة في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن ويصدق على المذكورين هنا صدقاً أولياً، والعدول من الإضمار إلى الإظهار لأجل مدحهم.
(إلا كتب لهم) ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد (ليجزيهم الله) وبه (أحسن) جزاء (ما كانوا يعملون) من الأعمال، وقال الرازي: الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، فالله يجزيهم على الأحسن، وهو الواجب والمندوب دون المباح والأول أولى.
وقيل يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم، وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد.
وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها وهي قوله
(فلولا) تحضيضية فالمعنى على الطلب أي فهلا (نفر من كل فرقة منهم طائفة) الطائفة في اللغة الجماعة، أي بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرق، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة، قالوا ويكون الضمير في قوله: (ليتفقهوا في الدين) عائداً إلى الفرقة الباقية، والمعنى أن طائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ويعلمون الغزاة أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين.
(ولينذروا قومهم) عطف علة ففيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد كما هو دأب أبناء الزمان (إذا رجعوا) أي وقت رجوعهم (إليهم) من الغزو.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله الله سبحانه متصلاً بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد فيكون السفر نوعين (الأول) سفر الجهاد (والثاني) السفر لطلب العلم، ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول، وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين، وهما تعلم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني.
(لعلهم يحذرون) الترجي لوقوع الحذر منهم عن التفريط فيما يجب
فعله فيترك أو فيما يجب تركه فيفعل، واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم تعتبر الأخبار ما لم تتواتر لم يفد ذلك.
أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار في الدار والبلاد والنسب، قيل مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها، قاله ابن عباس.
وقال ابن عمر: هم الروم لأنهم كانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق، وقيل هم الديلم، وقال ابن زيد: هم العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم، ثم أمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة كما قال.
(وليجدوا) أي ليدركوا (فيكم غلظة) أي شدة وقوة وشجاعة، قال الخفاجي: قالوا أنها كلمة جامعة للجرأة والصبر على القتال وشدة العدواة والأنف في القتل والأسر، وظاهرها أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة، والمقصود أمر المؤمنين بالاتصاف بصفات كالصبر وما معه حتى يجدهم الكفار المتصفين بها
حكى أبو عمرو اللغات الثلاث وبها قرئ لكن السبعة على الكسر، والغلظة أصلها في الإجرام فاستعيرت هنا للشدة والتجلد والصبر، وقال الحسن: صبراً على جهادهم والجهاد واجب لكل الكفار وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم ثم الأقرب فالأقرب.
ونقل عن بعض العلماء أنه قال أنزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت (وقاتلوا المشركين كافة) صارت ناسخة لهذه الآية.
وقال المحققون من العلماء: ولا وجه للنسخ فإنه تعالى أمرهم بقتالهم كافة وأرشدهم الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب قرباً مكانياً لا قرباً نسبياً حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور، ولهذا السبب قد قاتل رسول الله ﷺ أولاً قومه، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال أهل الكتاب، وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم أنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب أولاً تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد.
ثم أخبرهم الله بما يقوي عزائمهم ويثبت أقدامهم فقال: (واعلموا أن الله مع المتقين) بالنصرة لهم وتأييدهم على عدوهم ومن كان الله معه لم يقم له شيء.
والحال إذا ما أنزل الله على رسوله ﷺ سورة من كتابه العزيز
(فمنهم) أي فمن المنافقين (من يقول) لإخوانه منهم (أيكم زادته هذه) السورة النازلة (إيماناً) يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم على الإسلام وتزهيدهم فيه، وقد تقدم بيان معنى السورة (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً) حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيماناً إلى إيمانهم لتصديقهم بها، والزيادة ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته، وقد تقدم الكلام على زيادة الإيمان (وهم يستبشرون) أي والحال أنهم يفرحون مع هذه الزيادة بنزول الوحي شيئا بعد شيء وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية.
(في كل عام مرة أو مرتين) عن أبي سعيد قال: كانت لهم في كل عام كذبة. أو كذبتان قال حذيفة: فيضل بها فئام من الناس كثير، وقيل أنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم، وقيل ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون؛ وقيل ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ويرون ما وعد الله من النصر.
(ثم لا يتوبون) بسبب ذلك من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى الله مع أن الابتلاء يقتضي الرجوع والتذكر، وثم للعطف على يرون (ولا هم يذكرون) أي لا يرون ولا ينظرون ولا يتعظون، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق وإهمالهم للنظر والاعتبار.
ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه فقال:
وحكى ابن جرير عن بعض أهل العلم أنه قال: (نظر) في هذه الآية موضوع موضع قال أي قال بعضهم لبعض (هل يراكم من أحد) من المؤمنين لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي فإنه لا صبر لنا على استماعه أو لنتكلم بما بزيد من الطعن والسخرية والضحك، وقيل المعنى وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم قال بعض من يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبعض الآخر منهم هل يراكم من أحد.
(ثم انصرفوا) إلى منازلهم عن ذلك المجلس أو عما يقتضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضي الكفر والنفاق، والتراخي باعتبار وجدان الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين.
ثم دعا الله سبحانه عليهم فقال: (صرف الله قلوبهم) وعن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية وهو سبحانه مصرف القلوب ومقلبها، وقيل المعنى إنه خذلهم عن قبول الهداية، قال الزجاج: أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وقيل هو دعاء لا يراد به وقوع مضمونه كقولهم قاتله الله، وقيل إخبار بحالهم.
ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن مواطن الهداية أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله صرف الله قلوبهم فقال: (بأنهم قوم لا يفقهون) ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم.
عن ابن عباس: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة، وعن ابن عمر نحوه.
وأقول الانصراف يكون عن الخير كما يكون عن الشر وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك، والإلزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعددة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير كالرجوع والذهاب والدخول والخروج والقيام والقعود، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى.
ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهون عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة فقال موبخاً (لقد جاءكم) يا معشر العرب، والخطاب لهم عند جمهور المفسرين، وقال الزجاج: هي خطاب لجميع العالم أي لقد جاءكم (رسول) أرسله الله إليكم له شأن عظيم (من أنفسكم) أي من جنسكم في كونه عربياً قرشياً مثلكم تعرفون نسبه وحسبه، وأنه من ولد إسماعيل لا من العجم ولا من الجن ولا من الملك، وقرئ أنفس أفعل تفضيل من النفاسة والمراد الشرف أي أشرفكم وأفضلكم وسيأتي تخريجه.
(عزيز عليه ما عنتم) ما مصدرية والعنت التعب لهم والمشقة عليهم ولقاء المكروه بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه أو بعذاب الآخرة بالنار أو بمجموعها والمعنى شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ومبعوثاً لهدايتكم (حريص) شحيح (عليكم) بأن تدخلوا النار أو حريص على إيمانكم وهدايتكم والأول أولى، وبه قال الفراء.
(بالمؤمنين رؤوف رحيم) قد تقدم بيان معناهما اي هذا الرسول بالمؤمنين الطائعين منكم أيها العرب أو الناس رؤوف رحيم، فسماه الله رؤوفاً رحيماً لم يجمع لأحد من أنبيائه بين اسمين من أسمائه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن ابن الفضل قرئ رؤوف بالمد وبالقصر وهما قراءتان سبعيتان في هذه الكلمة أينما وقعت في القرآن، والرؤوف أخص من الرحيم، وإنما قدم عليه رعاية للفواصل وعن ابن عباس في هذه الآية ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي " - ﷺ - " مضريها وربيعيها ويمانيها، وعلى هذا يكون المقصود ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزهم وفخرهم بفخره، فإنه من عشائرهم.
وقال علي ما معنى من أنفسكم يا رسول الله؛ قال: " نسباً وصهراً وحسباً ليس فيّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح ". وعن ابن عباس: أن رسول الله " - ﷺ - " قرأ من أنفسكم، يعني من أعظمكم قدراً، وبه قرأ الزهري، وفي الباب أحاديث بمعناه. ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " (١).
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً " (٢)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " (٣) أخرجه البخاري وفي الباب أحاديث.
_________
(١) مسلم ٢٢٧٦.
(٢) الإمام أحمد ١/ ٢١٠.
(٣) البخاري كتاب المناقب باب ٢٣.
ثم قال مخاطباً لرسوله ومسلياً له ومرشداً له إلى ما يقوله عند أن يعصى (فإن تولوا أي أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه (فقل) يا محمد (حسبي) أي كافي (الله) سبحانه (لا إله إلا الله) أي المتفرد بالألوهية وهذه الجملة الحالية كالدليل لما قبلها (عليه توكلت) أي فوضت جميع أموري إليه لا إلى غيره (وهو رب العرش العظيم) وصفه بالعظيم لأنه أعظم المخلوقات قرأ الجمهور بالجر على أنه صفة العرش وقرئ بالرفع صفة لرب، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إليّ لأن جعل العظيم صفة للرب أولى من جعله صفة للعرش.
قال ابن عباس: إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته وقدره، وقال السيوطي الكرسي، قال الصاوي: قوله الكرسي مرور على القول باتحاد العرش مع الكرسي، وهو خلاف الصحيح أن العرش غير الكرسي. اهـ
وعبارة الخازن اعترض بعضهم على هذا التفسير بأن العرش غير الكرسي وأن الكرسي أصغر من العرش فكيف يفسر به وهو مدفوع بأن المسألة خلافية والمشهور ما سمعته؛ وقيل إنهما اسمان لشيء واحد فالعرش والكرسي معناهما الجسم العظيم المحيط بجميع المخلوقات المسمى بالعرش على القول المشهور. أ. هـ.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن آخر ما نزل هاتان الآيتان. ذكره القاضي والمفتي وغيرهما. قال السيوطي رواه الحاكم في المستدرك وقال الخفاجي أخرجه أحمد بن حنبل.
تم بعون الله الجزء الخامس من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء السادس.
وأوله سورة يونس
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء السادس
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
بسم الله الرحمن الرحيم
أوله تفسير سورة يونس من قوله تعالى:الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١)
- سورة هود
- سورة يوسف إلى آخر السورة
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلاموهي مائة وتسع آيات وهي مكيّة. قال الحسن وعطاء وعكرمة وجابر: إلا ثلاث آيات (فإن كنت في شك) إلى آخرهن قاله ابن عباس وبه قال قتادة. وقال مقاتل إلا آيتين (فإن كنت في شك) إلى آخرهما أو ثلاث، وقال الكلبى إلا قوله (ومنهم من يؤمن به) الآية فإنها نزلت بالمدينة.
وقالت فرقة من أولها نحو من أربعين آية مكي وباقيها مدني. قاله القرطبي، وقال ابن سيرين: كانت هذه السورة بعد السابعة، وأخرج بن مردويه عن أنس قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: إن الله أعطاني الرائيات أي الطواسين مكان الإنجيل.
وعن الأحنف قال: صليت خلف عمر غداة فقرأ يونس وهود وغيرهما: قال الصاوي: سميت السورة بذلك لذكر اسمه فيها وقصته، وقد جرت عادة الله بتسمية السورة ببعض أجزائها.
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).