تفسير سورة التوبة

تفسير ابن أبي زمنين

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين.
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة براءة وهي مدنية كلها
قال يحيى : وحدثني أبو الجراح المهري، عن عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس قال :" قلت لعثمان بن عفان : كيف جعلتم الأنفال وهي من المئين مع براءة وهي من الطوال، ولم تكتبوا بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الثلاث الآيات والأربع الآيات، وأقل من ذلك وأكثر ؛ فيقول : اجعلوا آية كذا وكذا في سورة كذا وكذا من موضع كذا وكذا. وإنه قبض ولم يقل لنا في الأنفال شيئا، ونظرنا فرأينا قصصهما متشابها، فجعلناها معها ولم نكتب بينهما سطر : بسم الله الرحمن الرحيم " ١.
١ أخرجه أبو داود (١/٥٠٨ – ٥٠٩) ح (٧٨٢ – ٧٨٣) والنسائي في الكبرى (٥/١٠) ح (٨٠٠٧)، والترمذي (٥/٢٥٤) ح (٣٠٨٦) وقال: حسن. والحاكم في مستدركه (٢/٢٢١) وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه..
قَوْلُهُ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ يَقُولُ لِنَبِيِّ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ: بَرَاءَةُ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ الله وَبَين مُشْركي الْعَرَب
﴿فسيحوا فِي الأَرْض﴾ أَي: اذْهَبُوا ﴿أَرْبَعَة أشهر﴾ يَقُولُهُ لأَهْلِ الْعَهْدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ سَابِقِي اللَّهَ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْكُمْ ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾.
﴿وأذان من الله وَرَسُوله﴾ أَيْ: وإعلامٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
﴿إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ﴾ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ﴿أَنَّ اللَّهَ بريءٌ من الْمُشْركين وَرَسُوله﴾ إِنْ لَمْ يَؤْمِنُوا.
تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ تَبُوكَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا؛ فَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ يَحْضَرُ الْبَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً، وَلا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لَا يَكُونَ ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا فَطَافَا فِي النَّاسِ بِذِي الْمَجَازِ، وَبِأَمْكِنَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِيهَا، وَبِالْمَوْسِمِ كُلِّهِ، فَآذَنُوا أَصْحَابَ الْعَهْدِ بَأَنَّ يَأْمَنُوا أَرْبَعَةَ [أَشْهُرٍ] مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرِ لَيَالٍ يَمْضِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ، ثُمَّ لَا عَهْدَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أُمِّرَ عَلَى الْحَاجِّ يومئذٍ، وَنَادَى عليٌّ فِيهِ بِالأَذَانِ، وَكَانَ عَامًا حَجَّ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ.
192
وَقَالَ الْحَسَنُ:
كَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُؤَذِّنَ النَّاسَ بِالْبَرَاءَةِ، فَلَمَّا مَضَى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَلِّغُ عَنِّي فِي هَذَا الأَمْرَ إِلا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ".
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
إِنَّمَا أَمر النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَلِيًّا بِذَلِكَ دُونَ أَبِي بَكْرٍ؛ لأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي عَقْدِ عُهُودِهَا لَوْ نَقَضَتْهَا أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَلَى الْقَبِيلَةِ رجلٌ مِنْهَا، فَكَانَ جَائِزًا أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ: [إِذَنْ عَلَيْكَ] نَقْضَ الْعُهُودِ مِنَ الرَّسُولِ، هَذَا خِلافُ مَا نَعْرِفُ فِينَا فِي نَقْضِ الْعُهُودِ؛ فَأَزَاحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلَّةَ، وَكَانَ هَذَا فِي سَنَةِ تسعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، بَعْدَ افْتِتَاحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْله ﴿بَرَاءَة﴾ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى خَبْرِ الابْتِدَاءِ؛ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الآيَاتُ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُوله﴾.
وعَلى الِابْتِدَاء، وَيكون الْخَبَر ﴿إِلَّا الَّذين عاهدتم﴾.
قَوْله: ﴿فَإِن تبتم﴾ يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ: فَإِنْ تُبْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ توليتم﴾ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم﴾ يَعْنِي: الْقَتْلَ قَبْلَ عَذَابَ الآخِرَةِ،
193
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْعَهْدِ؛ فَقَالَ: ﴿إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا﴾ أَيْ: لَمْ يَضُرُّوكُمْ ﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾ يعاونوا ﴿عَلَيْكُم أحدا﴾ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مدتهم﴾.
193
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٥) إِلَى الْآيَة (٦).
194
﴿فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم﴾ قَالَ الْحَسَنُ: رَجَعَ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْعَهْدِ، وَالأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: هِيَ الأَشْهَرُ الَّتِي أُجِلُّوا آخِرَ عَشْرَ ليالٍ يَمْضِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، وَسَمَّاهَا حُرُمًا؛ لأَنَّهُ نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ فِيهَا وَحَرَّمَهُ.
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كل مرصد﴾ يَعْنِي: عَلَى كُلِّ طَرِيقٍ تَأْمُرُونَ بِقَتَالِهِمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرِمِ وَعِنْدَ الْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: ﴿وَخُذُوهُمْ﴾ مَعْنَاهُ: وَأْسِرُوهُمْ؛ يُقَالُ لِلأَسِيرِ: أخيذٌ، وَمعنى ﴿واحصروهم﴾: احْبِسُوهُمْ؛ الْحَصْرُ: الْحَبْسُ.
﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ يَعْنِي: مِنَ الشِّرْكِ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاة﴾ يَعْنِي: أَقَرُّوا بِهَا ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾.
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ﴾ لِيَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يسمع كَلَام الله﴾ فَإِنْ أَسْلَمَ أَسْلَمَ، وَإِنْ أَبَى أَن يسلم فأبلغه ﴿مأمنه﴾ أَيْ: لَا تُحَرِّكْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ.
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ محكمةٌ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
194
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٧) إِلَى الْآيَة (١١).
195
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَيْ: لَيْسَ الْعَهْدُ إِلا لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا.
﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لكم﴾ على الْعَهْد ﴿فاستقيموا لَهُم﴾ عَلَيْهِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.
﴿كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم﴾ (ل ١٢٤) أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشُرِكِينَ عهدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ، وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴿لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلَّا وَلَا ذمَّة﴾ الإل: الْجوَار، والذمة: الْعَهْد
﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ يُرِيدُ: مَتَاعَ الدُّنْيَا ﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبيله﴾.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢) إِلَى الْآيَة (١٣).
﴿ لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾ الإل : الجوار، والذمة : العهد.
﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ تَفْسِير الْكَلْبِيّ:
أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَادِعَ أَهْلَ مَكَّةَ سَنَةً؛ وَهُوَ يومئذٍ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَحَبَسُوهُ عَنِ الْبَيْتِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ؛ عَلَى أَنَّكَ تَرْجِعُ عَامَكَ هَذَا وَلا تَطَأُ بَلَدَنَا، وَلا تَنْحَرُ الْبُدْنَ مِنْ أَرْضِنَا، وَأَنْ نُخَلِّيَهَا لَكَ عَامًا قَابِلا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلا تَأْتِينَا بِالسِّلاحِ إِلا سِلاحًا تَجْعَلُهَا فِي قِرَابٍ وَأَنَّهُ مَنْ صَبَأَ مِنَّا إِلَيْكَ فَهُوَ إِلَيْنَا ردٌّ. فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا، ثُمَّ إِنَّ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ خُزَاعَةَ قَاتَلُوا حُلَفَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي كَنَانَةَ؛ فَأَمَدَّتْ بَنُو أُمَيَّةَ حُلَفَاءَهُمْ بِالسِّلاحِ وَالطَّعَامِ، فَرَكِبَ ثَلاثُونَ رَجُلا مِنْ حُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ خُزَاعَةَ فِيهِمْ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَنَاشَدُوا رَسُولَ اللَّهِ الْحلف، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْ يُعِينَ حُلَفَاءَهُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَان لَهُم﴾: لَا عَهْدَ لَهُمْ ﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾.
﴿أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ ﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمَدِينَةِ ﴿وَهُمْ بدءوكم أول مرّة﴾ فاستحلوا قتال حلفائكم ﴿أتخشونهم﴾ عَلَى الاسْتِفْهَامِ؛ فَلا تُقَاتِلُونَهُمْ ﴿فَاللَّهُ أَحَق﴾ أَوْلَى ﴿أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين﴾ يَعْنِي: إِذا كُنْتُم مُؤمنين.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٤) إِلَى الْآيَة (١٦).
﴿قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ يَعْنِي: الْقَتْلَ ﴿وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غيظ قُلُوبهم﴾ وَالْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ شَفَى اللَّهُ صُدُورَهُمْ: حُلَفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنِي خُزَاعَةَ، فَأَصَابُوا يومئذٍ وَهُوَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ مِقْيَسَ بْنَ صَبَابَةَ فِي خَمْسِينَ رَجُلا مِنْ قَوْمِهِ ﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاء﴾ لَيْسَ بجوابٍ لقَوْله: ﴿قاتلوهم﴾ وَلكنه مُسْتَأْنف.
﴿ ويذهب غيظ قلوبهم ﴾ والقوم المؤمنون الذين شفى الله صدورهم : حلفاء رسول الله من مؤمني خزاعة، فأصابوا يومئذ وهو يوم فتح مكة مقيس بن ضبابة في خمسين رجلا من قومه ﴿ ويتوب الله على من يشاء ﴾ ليس بجواب لقوله :﴿ قاتلوهم ﴾ ولكنه مستأنف.
قَوْلُهُ: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُم﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَبْلَ أَمْرِهِمْ بِالْقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ، لَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْبًا؛ فَأَرَادَ اللَّهُ الْعِلْمَ الَّذِي يُجَازِي عَلَيْهِ، وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ؛ وَهُوَ عِلْمُ الْفِعَالِ.
﴿وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً﴾ بطانةً.
قَالَ مُحَمَّد: ﴿وليجة﴾ مَأْخُوذَةٌ مِنَ: الْوُلُوجِ؛ وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ رجلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَخِيلا من الْمُشْركين وخليطاً.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٧) إِلَى الْآيَة (١٨).
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالْكفْر﴾
197
هَذَا حِينَ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: ﴿شَاهِدِينَ﴾ حَالُ؛ الْمَعْنَى: مَا كَانَتْ لَهُمْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ إِقْرَارِهِمْ بالْكفْر.
198
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر﴾ الْآيَة و ﴿عَسى﴾ من الله وَاجِبَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٩) إِلَى الْآيَة (٢٢).
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: أَنَا أَسْقِي الْحَاجَّ، وَقَالَ طَلْحَةُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَا حَاجِبُ الْكَعْبَةِ؛ فَلا نُهَاجِرُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْده أجر عَظِيم﴾ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٢٣) إِلَى الْآيَة (٢٤).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ﴾ قال مجاهد : أمروا بالهجرة، فقال عباس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا حاجب الكعبة ؛ فلا نهاجر. فنزلت هذه الآية إلى قوله :﴿ إن الله عنده أجر عظيم ﴾ وكان هذا قبل فتح مكة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ﴾ قال مجاهد : أمروا بالهجرة، فقال عباس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا حاجب الكعبة ؛ فلا نهاجر. فنزلت هذه الآية إلى قوله :﴿ إن الله عنده أجر عظيم ﴾ وكان هذا قبل فتح مكة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:﴿ أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ﴾ قال مجاهد : أمروا بالهجرة، فقال عباس بن عبد المطلب : أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار : أنا حاجب الكعبة ؛ فلا نهاجر. فنزلت هذه الآية إلى قوله :﴿ إن الله عنده أجر عظيم ﴾ وكان هذا قبل فتح مكة.
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ على الْإِيمَان﴾.
﴿فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي: فَتْحَ مَكَّةَ.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ عَلَى شَرْكِهِمْ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٢٥) إِلَى الْآيَة (٢٧).
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة﴾ يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ، وَالأَيَّامَ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ.
﴿وَيَوْم حنين﴾ أَي: وَفِي يَوْم (ل ١٢٥) حُنَيْنٍ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِيهِ ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا﴾ الآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى حُنَيْنٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعَ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ، وَهُمْ قريبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ - فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ رجلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَلِمَتِهِ وِجْدًا شَدِيدًا، وَخَرَجَتْ هَوَازِنُ وَمَعَهَا دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَهُوَ
199
شيخٌ كَبِيرٌ. فَقَالَ دُرَيْدٌ: يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَمَعَكُمْ مِنْ بَنِي كِلابٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ بَنِي كَعْبٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ بَنِي عَامِرٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَمَعَكُمْ مَنْ بَنِي هِلالِ بْنِ عَامِرٍ أحدٌ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ؛ فَأَطِيعُونِي فَارْجِعُوا. فَعَصَوْهُ، فَاقْتَتَلُوا فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ بِثَغْرِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا؛ إِنَّ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلُمَّ لَكُمْ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلا صَيِّتًا؛ فَأَسْمَعَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فَأَقْبَلُوا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَأَقْبَلُوا لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَقْبَلُوا لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، فَالْتَقَوْا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا
200
﴿ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لم تَرَوْهَا﴾ يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ ﴿وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وَهُوَ الْقَتْلُ قَبْلَ عَذَابِ الآخِرَةِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٢٨) إِلَى الْآيَة (٢٩).
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ أَيْ: قذرٌ.
200
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ لِكُلِّ مستقذرٍ: نَجَسٌ، فَإِذَا ذَكَرْتَ الرِّجْسَ، قُلْتَ: هُوَ رِجْسٌ نجسٌ.
﴿فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ هُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَنَادَى فِيهِ عليٌّ بِالأَذَانِ.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ﴾ كَانَ لأَهْلِ مَكَّةَ مكسبةٌ ورفقٌ مِمَّنْ كَانَ يَحُجُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا عُزِلُوا عَنْ ذَلِكَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعَوِّضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ محمدٌ: الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ؛ يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ؛ إِذَا افْتَقَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
201
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخر﴾ الآيَةُ، فَأَمَرَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ: ﴿عَنْ يَدٍ﴾ يُقَالُ: أَعْطَاهُ عَنْ يدٍ، وَعَنْ ظَهْرِ يدٍ؛ أَيْ: أَعْطَاهُ ذَلِكَ مبتدئاً غير مكافئ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٣٠) إِلَى الْآيَة (٣٣).
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ذَلِكَ قَوْلهم بأفواههم﴾.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَنَّهُ قولٌ بفمٍ؛ أَيْ: لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَلَا صِحَة تَحْتَهُ.
﴿يضاهئون﴾ يُشَابِهُونَ؛ يَعْنِي: النَّصَارَى ﴿قَوْلَ الَّذِينَ كفرُوا من قبل﴾ يَعْنِي: الْيَهُودَ؛ أَيْ: ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ؛ قَالَتْ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ أَيْ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقيل: ﴿قَاتلهم﴾ بِمَعْنى: قَتلهمْ.
﴿أَنى يؤفكون﴾ كَيْفَ يُقْلَبُونَ عَنِ الْحَقِّ وَيُصْرَفُونَ؟!
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ أَي: وَاتَّخذُوا الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ رَبًّا ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ﴾ يُنَزِّهُ نَفْسَهُ ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بأفواههم﴾ يَعْنِي: مَا يَدَّعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَمَا حَرَّفُوا مِنْ كتاب الله - عز وَجل
- -ayah text-primary">﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُله﴾ قَالَ ابْنُ عباسٍ: يَعْنِي: شَرَائِعَ الدِّينِ كُلِّهِ، فَلَمْ يُقْبَضْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ل ١٢٦) حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
202
ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ: ﴿لِيظْهرهُ على الدّين كُله﴾: حَتَّى يَكُونَ الْحَاكِمُ عَلَى أَهْلِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا؛ فَكَانَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، وَحَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْجِزْيَة، وَمن الْمَجُوس.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٣٤) إِلَى الْآيَة (٣٥).
203
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ يَعْنِي: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَ الرُّشَا فِي الْحُكْمِ، وَعَلَى مَا حَرَّفُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تكنزون﴾ يَعْنِي: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ يحيى: وسمعتهم يَقُولُونَ:
نَسَخَتِ الزَّكَاةُ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا.
يحيى: عَنْ خالدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَالِهِ، وَمَنِ ازْدَادَ فَهُوَ خيرٌ لَهُ ".
203
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٣٦) إِلَى الْآيَة (٣٧).
204
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ﴾ يعني : ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكم، وعلى ما حرفوا من كتاب الله عز وجل.
﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة... ﴾ إلى قوله :﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ يعني : من وجب عليه الإنفاق في سبيل الله.
قال يحيى : و سمعتهم يقولون : نسخت الزكاة كل صدقة كانت قبلها.
يحيى : عن خالد، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أدى الزكاة، فقد أدى حق الله عز وجل في ماله، ومن ازداد فهو خير له " ١.
١ أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٣/٩) (برقم/١٦) وابن عدي في الكامل (٤/٣١٢) والبيهقي في الكبرى (٤/٨٤)..

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله﴾.
قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي تُنْسَخُ مِنْهُ كُتُبُ الأَنْبِيَاءِ وَفِي جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ ﴿مِنْهَا أَرْبَعَة حرم﴾ الْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحجَّة.
﴿ذَلِك الدّين الْقيم﴾ يَعْنِي: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ هَذِهِ الأَرْبَعَةَ الأَشْهُرَ ﴿فَلا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم﴾ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: يَقُولُ: اعْلَمُوا أَنَّ الظُّلْمَ فِيهِنَّ أَعْظَمُ خَطِيئَةٍ [وَوِزْرًا] فِيمَا سِوَاهُنَّ.
﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ أَيْ: جَمِيعًا، وَهَذَا حِينَ أَمَرَ بقتالهم جَمِيعًا.
﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ الآيَةُ، تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: النَّسِيءُ: هُوَ الْمُحَرَّمُ كَانُوا يُسَمُّونَهُ صَفَرَ الأَوَّلَ، وَكَانَ الَّذِي يُحِلُّهُ لِلنَّاسِ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ
204
الْكِنَانِيُّ كَانَ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ: إِنَّ الصفر الأول حلالٌ، فيحله للنَّاس، وَيُحَرِّمُ صَفَرَ مَكَانَ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَرَّمَ الْمُحَرَّمَ، وَأحل صفر.
وَمعنى ﴿ليواطئوا﴾: لِيُوَافِقُوا ﴿عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِهِ أربعةٌ بِمَنْزِلَةِ أَرْبَعَةٍ.
قَالَ محمدٌ: النَّسِيءُ فِي اللُّغَةِ: التَّأْخِيرُ؛ يَقُولُ: تَأْخِيرُهُمُ الْمُحَرَّمِ سَنَةً وَتَحْرِيمُ غَيْرِهِ سَنَةً؛ فَإِذَا كَانَ فِي السَّنَةِ الأُخْرَى رَدُّوهُ إِلَى التَّحْرِيمِ فَنَسْؤُهُمْ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي كُفْرِهِمْ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْكَلْبِيّ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٣٨) إِلَى الْآيَة (٤٠).
205
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض﴾ هِيَ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الأَرْض﴾ يَعْنِي: الرِّضَا بالدنيا
(إِلا
205
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قوما غَيْركُمْ} يَقُولُ: يَهْلِكَكُمْ بِالْعَذَابِ، وَيَسْتَبْدِلُ قَوْمًا غَيْركُمْ ﴿وَلَا تضروه شَيْئا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ هَذَا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ فِي الصَّيْفِ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَهَوْا الظِّلَّ، وشق عَلَيْهِم الْخُرُوج.
206
﴿إِلَّا تنصروه﴾ يَعْنِي: النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذين كفرُوا﴾ مِنْ مَكَّةَ ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار﴾ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ، فَتَآمَرُوا بِالنَّبِيِّ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى مَا قَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ؛ وَقَدْ فَسَّرْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ فَأَوْحَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَيْهِ؛ فَخَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَيْلا؛ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْغَارِ، فَطَلَبَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَطَلَبُوا، [... ] وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ دَخَلَ الْغَارَ قَبْلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَسَ الْغَارَ فَنَظَرَ مَا بِهِ؛ لِئَلا يَكُونُ فِيهِ سبعٌ أَوْ حيةٌ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَارَ، وَأَخَذَتْ يمامةٌ فَوَضَعَتْ عَلَى بَابِ الْغَارِ فَجَعَلا يَسْتَمِعَانِ وَقْعَ حَوَافِرِ دَوَابِّ الْمُشْرِكِينَ فِي طَلَبِهِمَا، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْكَ الْمُشْرِكُونَ فَيَقْتُلُوكَ؛ فَلا يُعْبَدُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَكَ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وَجعل أَبُو بكر يمسح (ل ١٢٧) الدُّمُوعَ عَنْ خَدِّهِ ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سكينته عَلَيْهِ﴾.
قَالَ الْحَسَنُ: السَّكِينَةُ: الْوَقَارُ.
قَالَ محمدٌ: وَهِيَ مِنَ السُّكُونِ؛ الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَلْقَى فِي قَلْبِهِ مَا سَكَنَ بِهِ،
206
وَعَلِمَ أَنَّهُمْ غَيْرُ وَاصِلِينَ إِلَيْهِ ﴿وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا﴾ يَعْنِي: الْمَلائِكَةَ عِنْدَ قِتَالِهِ الْمُشْرِكِينَ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٤١) إِلَى الْآيَة (٤٢).
207
﴿انفروا خفافا وثقالا﴾ قَالَ الْمَعْنى: شبَابًا وشيوخاً.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ حِينَ اسْتَنْفَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى تَبُوكَ فِي حرٍّ شَدِيدٍ، وَعُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ الْخُرُوجَ، وَجَعَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي الْمَقَامِ مِنْ بَيْنَ [... ] وَمَنْ لَيْسَتْ بِهِ عِلَّةٌ؛ فَيَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْذَنَ، وَتَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَغَيْرِ إِذْنٍ؛ فَأَنْزَلَ الله - عز وَجل
- فَقَالَ: -ayah text-primary">﴿لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ يَعْنِي: غَنِيمَةً قَرِيبَةً -ayah text-primary">﴿وَسَفَرًا قَاصِدًا﴾ أَيْ: قَرِيبًا -ayah text-primary">﴿لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِم الشقة﴾ يَعْنِي: السَّفَرَ -ayah text-primary">﴿وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ استطعنا﴾ يَعْنِي: لَوْ وَجَدْنَا سَعَةً فِي الْمَالِ -ayah text-primary">﴿لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ بِالْكَذِبِ -ayah text-primary">﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أَي: إِنَّمَا اعتلوا بِالْكَذِبِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٤٣) إِلَى الْآيَة (٤٧).
﴿عَفا الله عَنْك لما أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذين صدقُوا﴾ يَعْنِي: مَنْ لَهُ عذرٌ ﴿وَتَعْلَمَ الْكَاذِبين﴾ أَيْ: مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنت لَهُم﴾ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّور: ﴿فَإِذا استئذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُم﴾ فَنَسَخَتِ الآيَةَ الَّتِي فِي بَرَاءَةَ.
﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم﴾ فَيَتَخَلَّفُوا عَنْكَ، وَلا عُذْرَ لَهُمْ
﴿إِنَّمَا يستئذنك الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر﴾ كَرَاهِيَة للْجِهَاد ﴿وارتابت قُلُوبهم﴾ أَيْ: شَكَّتْ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجل - وَفِي دينه
﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عدَّة﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ.
﴿وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبعاثهم﴾ خُرُوجَهُمْ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عُيُونٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِمَا يَمْشُونَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْفَسَادِ ﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أَي: صرفهم
﴿لَو خَرجُوا فِيكُم﴾ يَقُولُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلا خبالا ولأوضعوا خلالكم﴾ أَيْ: مَشُوا بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَضْعُ فِي اللُّغَةِ: سُرْعَةُ السَّيْرِ؛ يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ
208
وأوضعته.
﴿يبغونكم الْفِتْنَة﴾ أَيْ: يَبْغُونَ أَنْ تَكُونُوا مُشْرِكِينَ، وَأَنْ يَظْهَرَ عَلَيْكُمُ الْمُشْرِكُونَ ﴿وَفِيكُمْ سماعون لَهُم﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ عيونٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارِكُمْ، فيرسلون بهَا إِلَى الْمُشْركين.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٤٨) إِلَى الْآيَة (٤٩).
209
﴿لقد ابْتَغوا الْفِتْنَة﴾ يَعْنِي: الشّرك ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُهَاجِرُوا ﴿وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ﴾ هُوَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك﴾ وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُهُ ﴿حَتَّى جَاءَ الْحق﴾ الْقُرْآن ﴿وَظهر أَمر الله﴾ الْإِسْلَام ﴿وهم كَارِهُون﴾ لظُهُوره.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ يَا مُحَمَّدُ أَقِمْ فِي أَهْلِي ﴿وَلَا تفتني﴾ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغْزُوا تَبُوكَ تَغْنَمُوا بَنَاتَ الأَصْفَرِ نِسَاءَ الرُّومِ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: ائْذَنْ لَنَا وَلا تَفْتِنَّا بِالنِّسَاءِ " قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (أَلا
209
فِي الْفِتْنَة} يَعْنِي: الهلة؛ وَهُوَ الشّرك ﴿سقطوا﴾ أَي: وَقَعُوا.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٥٠) إِلَى الْآيَة (٥٤).
210
﴿إِن تصبك حسنةٌ﴾ يَعْنِي: النَّصْر ﴿تسؤهم﴾ تِلْكَ الْحَسَنَةُ.
﴿وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ﴾ أَيْ: نَكْبَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: أَخَذْنَا الْوَثِيقَةَ فِي مُخَالَفَةِ مُحَمَّد، وَالْجُلُوس عَنهُ ﴿ويتولوا﴾ إِلَى مَنَازِلهمْ ﴿وهم فَرِحُونَ﴾ بِالَّذِي دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ النكبة.
قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا﴾ ولينا.
﴿قل هَل تربصون بِنَا﴾ تَنْتَظِرُونَ بِنَا؛ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ ﴿إِلا إِحْدَى الحسنيين﴾ أَنْ نَظْهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَقْتُلَهُمْ ونغنمهم، أَو نقْتل (ل ١٢٨) فَنَدْخُلَ الْجَنَّةَ ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بعذابٍ مِنْ عِنْده﴾ يُهْلِكهُمْ بِهِ ﴿أَو بِأَيْدِينَا﴾ أَيْ: نَسْتَخْرِجُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ النِّفَاقِ؛ حَتَّى تُظْهِرُوا الشِّرْكَ فنقتلكم.
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ يَعْنِي: مِمَّا يُفْرَضُ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ
210
﴿لن يتَقَبَّل مِنْكُم﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا﴾ قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ فِيهِ: هَذَا لَفْظُ أَمْرٍ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْخَبَرِ؛ أَيْ: يَقُولُ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَائِعِينَ أَوْ مُكْرَهِينَ، لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُ كُثَيْرٍ:
(وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ)
(أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا ملومةٌ لَدَيْنَا وَلا مقليةٌ إِنْ تَقَلَّتِ)
فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالإِسَاءَةِ، لَكِنْ أَعْلَمَهَا أَنَّهَا إِنْ أَسَاءَتْ أَوْ أَحْسَنَتْ فَهُوَ على عهدها.
211
قَوْلُهُ: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّه وبرسوله﴾ وَأَظْهَرُوا الإِيمَانَ ﴿وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون﴾ للإنفاق فِي سَبِيل الله.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٥٥) إِلَى الْآيَة (٥٩).
﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيُشْخِصُونَ أَبْدَانَهُمْ يُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَهُمُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ أَعْدَائِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لأَنَّهُمْ يُخْفُونَ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ؛ فَهُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴿وَتَزْهَقَ أنفسهم﴾ أَي: تذْهب.
﴿ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم﴾ فِيمَا أَظْهَرُوا مِنَ الإِيمَانِ ﴿وَمَا هم مِنْكُم﴾ فِيمَا يُسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ ﴿وَلَكِنَّهُمْ قوم يفرقون﴾ عَلَى دِمَائِهِمْ إِنْ أَظْهَرُوا الشِّرْكَ.
﴿لَو يَجدونَ ملْجأ﴾ يَعْنِي: حِصْنًا يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ ﴿أَوْ مغارات﴾ يَعْنِي: غيرانا ﴿أَو مدخلًا﴾ أَي: سرباً ﴿لولوا إِلَيْهِ﴾ مُفَارَقَةً لِلنَّبِيِّ وَلِدِينِهِ ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أَي: يسرعون.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ أَيْ: يَعِيبُكَ، وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ ﴿فَإِنْ أعْطوا مِنْهَا رَضوا﴾ الآيَةَ، قَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّ رَجُلا حَدِيثُ عهدٍ بِأَعْرَابِيَّةٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَقْسِمُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ كَانَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَعْدِلَ، فَمَا عَدَلْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي؟! ثُمَّ قَالَ: احْذَرُوا هَذَا وَأَشْبَاهَهُ؛ فَإِنَّ فِي أُمَّتِي أَشْبَاهُ هَذَا؛ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوز تراقيهم ".
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٦٠) فَقَط.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ الله وَرَسُوله﴾ أَيْ: أَعْطَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
يَعْنِي: مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُوله﴾ الآيَةُ. وَهِيَ تُقْرَأُ أَيْضًا: (وَرَسُولَهُ) بِالنَّصْبِ؛ أَيْ: يُؤْتِي رَسُولَهُ.
وَفِيهَا إِضْمَارٌ؛ أَيْ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِمَّا أظهرُوا من النِّفَاق.
﴿إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين﴾ قَالَ الْحَسَنُ: الْفَقِيرُ: الْقَاعِدُ فِي بَيْتِهِ لَا يَسْأَلُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ ﴿وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾ يَعْنِي: عَلَى الصَّدَقَاتِ الَّذِينَ يَسْعَونَ فِي جَمْعِهَا؛ جَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ فِيهَا سَهْمًا ﴿وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبهم﴾ ناسٌ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُعْطِيهِمْ يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ لِكَيْ يُسْلِمُوا، جَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ سَهْمًا؛ مِنْهُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حصنٍ ﴿وَفِي الرّقاب﴾ يَعْنِي:
كل عبدٍ ﴿والغارمين﴾ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دينٌ أَوْ غرمٌ مِنْ غَيْرِ فسادٍ ﴿وَفِي سَبِيل الله﴾ يُحْمَلُ مَنْ لَيْسَ لَهُ [ ] يُعْطَى مِنْهَا ﴿وَابْنُ السَّبِيلِ﴾ الْمُسَافِرُ إِذَا قُطِعَ بِهِ؛ جَعَلَ اللَّهُ لِهَؤُلاءِ فِيهَا سَهْمًا.
قَالَ عليٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا هُوَ علمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَفِي أَيْ صِنْفٍ مِنْهُمْ جَعَلْتُهَا أَجْزَأَكَ.
213
﴿فَرِيضَة من الله﴾ وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الزَّكَاةِ ﴿وَاللَّهُ عليم حَكِيم﴾ عليمٌ بِخَلْقِهِ، حكيمٌ فِي أَمْرِهِ.
قَالَ محمدٌ: ﴿فَرِيضَة﴾ بِالنَّصْبِ عَلَى التَّوْكِيدِ، الْمَعْنَى: فَرَضَ الله الصَّدقَات لهَؤُلَاء فَرِيضَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٦١) فَقَط.
(ل ١٢٩)
214
﴿وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، قَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا الرَّجُلُ أُذُنٌ، مَنْ شَاءَ صَرَفَهُ حَيْثُ شَاءَ لَيْسَتْ لَهُ عَزِيمَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجل - لنَبيه: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّه﴾ وَهِيَ تُقْرَأُ (أُذُنُ خيرٍ لَكُمْ) أَيْ: هَذَا الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ أذنٌ خَيْرٍ لَكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: قُلْ مَنْ يَسْتَمِعُ مِنْكُمْ وَيَكُونُ قَابِلا لِلْعُذْرِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويؤمن للْمُؤْمِنين﴾ يُصَدِّقُ اللَّهَ، وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ.
﴿وَرَحْمَةٌ للَّذين آمنُوا مِنْكُم﴾ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِهِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْجَاهِلِيَّة وظلمتها.
214
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٦٢) إِلَى الْآيَة (٦٣).
215
﴿يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم﴾ بِالْكَذِبِ ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يرضوه﴾ بِالصّدقِ من قُلُوبهم
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُوله﴾ أَيْ: مَنْ يُعَادِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
﴿فَأن لَهُ نَار جَهَنَّم﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: ﴿مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُوله﴾ مَعْنَاهُ: مَنْ يَكُونُ فِي حدٍّ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي حدٍّ؛ أَيْ: جَانب. وتقرأ (فَأن لَهُ) بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ فَمَنْ كَسَرَ فَعَلَى الاسْتِئْنَافِ؛ كَمَا تَقُولُ: فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَدَخَلَتْ (إِنَّ) مُؤَكِّدَةً. وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ (فَأَنَّ لَهُ)، فَإِنَّمَا أَعَادَ (أَنَّ) الأُولَى تَوْكِيدًا؛ لأَنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلامُ كَانَ إِعَادَتهَا أوكد.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٦٤) إِلَى الْآيَة (٦٧).
﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ مِنَ النِّفَاقِ؛ أَيْ: تُبَيِّنُ؛ فَفَعَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ذَلِكَ بِهِمْ، فَأَخْرَجَ أَضْغَانَهُمْ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يُكِنُّونَ فِي صُدُورِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ " بَرَاءَةٌ " تُسَمَّى: فَاضِحَةُ الْمُنَافِقِينَ؛ لأَنَّهَا أَنْبَأَتْ بِمَقَالَتِهِمْ وأعمالهم.
﴿قل استهزئوا﴾ بمحمدٍ وَأَصْحَابِهِ؛ وَهَذَا وعيدٌ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَأَخْرَجَ أَضْغَانَهُمْ؛ وَهُوَ مَا كَانُوا يُكِنُّونَ فِي صُدُورهمْ.
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ:
بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ إِذَا هُوَ برهطٍ أربعةٍ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ - تَعَالَى ذِكْرِهِ - وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَقَالَ: أَدْرِكْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحْتَرِقُوا، وَاسْأَلْهُمْ: مِمَّ يَضْحَكُونَ؟ فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ إِذَا سَارُوا. فَلَحِقَهُمْ عمار،
216
فَقَالَ: مِم تَضْحَكُونَ؟ وَمَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا: مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ إِذَا سَارُوا.
فَقَالَ عمار (عَرفْنَاهُ) اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَبَلَّغَ الرَّسُولَ احْتَرَقْتُمْ لَعَنَكُمُ اللَّهُ وَكَانَ يُسَايِرُهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَنْهَهُمْ، وَجَاءُوا إِلَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانكُمْ﴾ أَيْ: بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾ فَيُرْجَى أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمَنْ لَمْ يمالئهم، وَلم ينههم.
217
﴿ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ أي : بعد إقراركم ﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ﴾ فيرجى أن يكون العفو من الله -عز وجل- لمن لم يمالئهم، ولم ينههم.
﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أَيْ: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴿يَأْمُرُونَ بالمنكر﴾ بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوف﴾ عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ يَعْنِي: لَا يَبْسُطُونَهَا بِالنَّفَقَةِ فِي الْحق.
﴿نسوا الله﴾ أَيْ: تَرَكُوا ذِكْرَهُ بِالإِخْلاصِ مِنْ قُلُوبهم ﴿فنسيهم﴾ فَتَرَكَهُمْ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا يُذَكِّرُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْخَيْرِ ﴿إِنَّ الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ﴾ يَعْنِي: بِهِ فسق الشّرك.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٦٨) إِلَى الْآيَة (٧٠).
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿هِيَ حسبهم﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: حَسْبُ فُلانٍ مَا نَزَلَ بِهِ؛ أَيْ: ذَلِكَ على قدر فعله.
﴿كَالَّذِين من قبلكُمْ﴾ يَعْنِي: مِنَ الْكُفَّارِ ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُم قُوَّة﴾ قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ على الْكفْر (ل ١٣٠) كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ﴾.
تَفْسِيرُ الْكَلْبِيِّ: يَقُولُ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِنَصِيبِكُمْ مِنَ الآخِرَةِ، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِنَصِيبِهِمْ من الْآخِرَة ﴿وخضتم﴾ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ ﴿كَالَّذِي خَاضُوا﴾.
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قبلهم﴾ إِلَى قَوْله: ﴿والمؤتفكات﴾ يَقُولُ: بَلَى قَدْ أَتَاهُمْ خَبَرُهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابه ﴿والمؤتفكات﴾ يَعْنِي: الْمُنْقَلِبَاتِ؛ وَهِيَ (قُرَيَّاتُ) قَوْمِ لُوطٍ الثَّلاثُ؛ رَفَعَهَا جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ ثُمَّ قَلَبَهَا ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ ليظلمهم﴾ بِإِهْلاكِهِ إِيَّاهُمْ ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يظْلمُونَ﴾ بِجُحُودِهِمْ وَشِرْكِهِمْ؛ يَحْذَرُ هَؤُلاءِ مَا فعل بِمن قبلهم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٧١) إِلَى الْآيَة (٧٢).
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طيبَة فِي جنَّات عدن﴾ قَالَ الْحَسَنُ: (عدنٌ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ.
قَالَ محمدٌ: الْعَدْنُ فِي اللُّغَةِ: الإِقَامَةُ؛ يُقَالُ: عَدَنْتُ بِمَوْضِعِ كَذَا؛ أَيْ: أَقَمْتُ بِهِ.
﴿ورضوان من الله أكبر﴾ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ مُلْكِ الْجَنَّةِ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَرَأَوْا مَا فِيهَا قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. قَالُوا: رَبَّنَا لَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: بَلَى أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ".
قَالَ الْحَسَنُ: يَصِلُ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ وَأَقَرُّ لأَعْيُنِهِمْ مِنْ كُلِّ شيءٍ أَصَابُوهُ مِنْ لَذَّة الْجنَّة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٧٣) إِلَى الْآيَة (٧٤).
﴿يَا أَيهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم﴾ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: جَاهِدِ الْمُنَافِقِينَ بِالسَّيْفِ، وَاغْلُظْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ بِالْحُدُودِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يُصِيبُ الْحُدُود يومئذٍ المُنَافِقُونَ.
﴿يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا﴾ قَالَ الْحَسَنُ:
لَقِيَ رجلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ رَجُلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ محمدٌ حقًّا، فَنَحْنُ شرٍّ مِنَ الْحُمُرِ! فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَحَقٌّ، وَأَنَّكَ شرٌّ مِنْ حمارٍ. ثمَّ أخبر بذلك النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إِلَى الْمُنَافِقِ؛ أَقُلْتَ كَذَا؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قَالَهُ، وَحَلَفَ الْمُسْلِمُ لَقَدْ قَالَهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكفْر وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ﴾ بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ ينالوا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: هَمَّ الْمُنَافِقُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ؛ حَيْثُ قَالَ لِلْمُنَافِقِ: فَوَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ محمدٌ كُلُّهُ حقٌّ، وَلأَنْتَ شرٌّ مِنْ حِمَارٍ.
﴿وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُوله من فَضله﴾ يَقُولُ: لمْ يَنْقِمُوا مِنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، إِلا أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْغِنَى فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ تَمَسَّكُوا بِهِ لأَصَابُوا الْجَنَّةَ فِي الآخِرَةِ.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنَى: أَيْ: لَيْسَ يَنْقِمُونَ شَيْئًا، وَلا يَتَعَرَّفُونَ (حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلا الصُّنْعَ)، وَهَذَا مِمَّا لَيْسَ ينقم.
﴿فَإِن يتوبوا﴾ أَيْ: يَرْجِعُوا عَنْ نِفَاقِهِمْ ﴿يَكُ خيرا لَهُم وَإِن يتولوا﴾ عَنِ التَّوْبَةِ، وَيُظْهِرُوا الشِّرْكَ ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله عذَابا أَلِيمًا﴾ الْآيَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٧٥) إِلَى الْآيَة (٧ ٨).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا من فَضله﴾ فَأَوْسَعَ عَلَيْنَا مِنَ الرِّزْقِ ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ يَعْنِي: الصَّدَقَةَ ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَرَسُوله
﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ﴾ مَنَعُوا حَقَّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿وتولوا﴾ عَن الصّلاح ﴿وهم معرضون﴾ عَن أَمر الله
﴿فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم﴾ لَا يَتُوبُونَ مِنْهُ ﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾.
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرهم ونجواهم﴾ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ [ ] إِذْ ذَاكَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ، وَقَامَتْ بِهِ الْحجَّة عَلَيْهِم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٧٩) إِلَى الْآيَة (٨٠).
(ل ١٣١)
﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدقَات﴾ قَالَ قَتَادَة:
ذكر لنا أَن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ بِنِصْفِ مَالِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَبُهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نِصْفُ مَالِي أَتَيْتُكَ بِهِ، وَتَرَكْتُ نِصْفَهُ لِعَيَالِي،
221
فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَى وَفِيمَا أَمْسَكَ، فَلَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، قَالُوا: مَا أَعْطَى هَذَا إِلا سُمْعَةً وَرِيَاءً، وَأَقْبَلَ رجلٌ مِنْ فُقُرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَقِيلٍ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِتُّ اللَّيْلَةَ أَجُرُّ الْجَرِيرَ عَلَى صَاعَيْنِ مِنْ تمرٍ؛ فَأَمَّا صاعٌ فَأَمْسِكُهُ لأَهْلِي، وَأَمَّا صاعٌ فَهَذَا هُوَ، فَقَالَ لَهُ نَبِي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم خَيْرًا، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَغَنِيَّيْنِ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هَذِهِ الآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ".
222
قَالَ قَتَادَةُ: " لَمَّا نَزَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تستغفر لَهُم﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي، فَوَاللَّهِ لأَزِيدَنَّهُمْ عَلَى السَّبْعِينَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ الآيَةَ ".
قَالَ محمدٌ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلا جهدهمْ﴾ يَعْنِي: طَاقَتَهُمْ؛ الْجُهْدُ: الطَّاقَةُ، وَالْجَهْدُ - بِفَتْحِ الْجِيمِ -: الْمَشَّقَةُ؛ يُقَالُ: فَعَلْتُ ذَلِكَ بجهدٍ؛ أَيْ: بِمَشَقَّةٍ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ أَي: جازاهم جَزَاء السخرية.
222
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٨١) إِلَى الْآيَة (٨٥).
223
﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ الله﴾ قَالَ محمدٌ: قِيلَ: الْمَعْنَى: بِأَنْ قعدوا لمُخَالفَة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ قَالَ قَتَادَةُ:
خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ يومئذٍ إِلَى تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ؛ قَالَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ: لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ لَعَلِمُوا أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا.
يحيى: عَنِ النَّضْرِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ قَالَ:
بَيْنَمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مسيرٍ لَهُ فِي يومٍ شَدِيدِ الْحَرِّ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَنْتَعِلُ ثَوْبَهُ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الأَرْضِ؛ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أَرَاكُمْ تَجْزَعُونَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فُتِحَ بِالْمَشْرِقِ، ورجلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَّى دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ مُنْخَرَيْهِ ".
﴿فليضحكوا قَلِيلا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا ﴿وليبكوا كثيرا﴾ يَعْنِي فِي النَّارِ.
يحيى: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ قَتَادَةَ؛
أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَالَ: " إِنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْبُكَاءَ؛ فَلَوْ تُرْسَلُ السُّفُنُ فِي [... ] أَعْيُنُهِمْ لجرت ".
﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم﴾ يُقُولُهُ لِلنَّبِيِّ، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَاقْعُدُوا مَعَ الخالفين﴾ قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي: الأَشْرَارَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَاحِدُ الْخَالِفِينَ: خالفٌ؛ يُقَالُ لِلَّذِي هُوَ غَيْرُ نَجِيبٍ: فلانٌ خَالف أَهله، وخالفة أَهله.
﴿وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبدا﴾ قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لِنَا أَنَّهُ مَاتَ منافقٌ فَكَفَّنَهُ نَبِيُّ اللَّهِ فِي قَمِيصِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَلاهُ فِي قَبْرِهِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجل -
224
هَذِه الْآيَة فِيهِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٨٦) إِلَى الْآيَة (٨٩).
225
﴿استئذنك أولو الطول مِنْهُم﴾ أَيْ: ذَوُو الْغِنَى فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ ﴿وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ القاعدين﴾
﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾ يَعْنِي: النِّسَاءَ؛ فِي تَفْسِيرِ الْعَامَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: رَضُوا بَأَنْ يَكُونُوا فِي تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ كَالنِّسَاءِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْخَوَالِفَ جَمْعُ خَالِفَةٍ.
﴿وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: النِّسَاءُ الْحِسَانُ؛ مِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ قِيلَ: الْخَيْرَاتُ: الْفَوَاضِلُ مِنَ كُلِّ شيءٍ؛ وَوَاحَدُهَا: خيرة.
225
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٩٠) إِلَى الْآيَة (٩٢).
(ل ١٣٢)
226
﴿وَجَاء المعذرون﴾ يَعْنِي: الْمُعْتَذِرِينَ ﴿مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُم﴾ يَعْنِي: فِي الْقُعُودِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَالُ: فُلانٌ مُعَذِّرٌ؛ أَيْ: معتذرٌ، وَأُدْغِمَتُ التَّاءُ فِي الذَّالِ؛ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وَمِنْ كَلامِهِمْ أَيْضًا: عَذَّرْتُ الأَمْرَ إِذْ قَصَّرْتُ، وَأَعْذَرْتُ إِذَا جَدَّدْتُ.
﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُوله﴾ فِيمَا أَكْثَرُوا مِنَ النِّفَاقِ؛ كَانَ هَذَا فِي غَزْوَة تَبُوك.
﴿لَيْسَ على الضُّعَفَاء﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: الْعَجَزَةُ الَّذِينَ لَا قُوَّةَ لَهُمْ ﴿وَلا عَلَى المرضى﴾ يَعْنِي: مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفقُونَ حرج﴾ إثمٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ ﴿إِذا نصحوا لله وَرَسُوله﴾ إِذا كَانَ لَهُم عذرٌ.
226
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٩٣) إِلَى الْآيَة (٩٦).
227
﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ السِّرّ ﴿وَالشَّهَادَة﴾ الْعَلَانِيَة.
﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِم﴾ من غزاتكم ﴿لتعرضوا عَنْهُم فأعرضوا عَنْهُم﴾ أَلا تَقْتُلُوهُمْ مَا أَظْهَرُوا الإِيمَانَ، وَاعْتَذَرُوا.
﴿يحلفُونَ لكم﴾ بِالْكَذِبِ ﴿لترضوا عَنْهُم﴾ فِيمَا أَظْهَرُوا مِنَ الإِيمَانِ وَالاعْتِذَارِ ﴿فَإِن ترضوا عَنْهُم﴾ لِمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الإِيمَانِ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقين﴾ يُعْنِيهِمْ لِمَا بَطَنَ مِنْهُمْ مِنَ النِّفَاق.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (٩٧) إِلَى الْآيَة (٩٩).
﴿الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا﴾ يَعْنِي: أَنَّ مُنَافِقِي الأَعْرَابِ أَشَدُّ مِنْ مُنَافِقِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ﴿وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُوله﴾ قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: هُمْ أَقَلُّ علما بالسنن.
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا ينْفق﴾ فِي الْجِهَاد ﴿مغرما﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ؛ لأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ نيةٌ.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ ﴿مَغْرَمًا﴾ يَعْنِي: غُرْمًا وَخُسْرَانًا.
﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر﴾ يَعْنِي: أَنْ يَهْلِكَ محمدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَرْجِعَ إِلَى دِينِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
﴿عَلَيْهِم دَائِرَة السوء﴾ يَعْنِي: عَاقِبَة السوء.
﴿وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قربات عِنْد الله﴾ أَيْ: يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - عز وَجل - ﴿وصلوات الرَّسُول﴾ أَيْ: وَيَتَّخِذُ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَيْضًا قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ. وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ: استغفاره ودعاؤه.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٠٠) إِلَى الْآيَة (١٠١).
﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ:
مَنْ كَانَ صَلَّى مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَتَيْنِ فَهُوَ مِنَ السَّابِقين الْأَوَّلين
(وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من
228
الْأَعْرَاب} يَعْنِي: حول المدنية ﴿مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا على النِّفَاق﴾ أَيْ: اجْتَرَءُوا عَلَيْهِ ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ نَحن نعلمهُمْ﴾ قد أعلمهم الله وَرَسُوله بعد ذَلِك، وأَسَرَّهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ.
﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ﴾ أَمَّا إِحْدَاهُمَا: فَبِالزَّكَاةِ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ كُرْهًا، وَأَمَّا الأُخْرَى: فَبِعَذَابِ الْقَبْرِ ﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم﴾ أَي: جَهَنَّم.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٠٢) إِلَى الْآيَة (١٠٦).
229
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ الآيَةُ، تَفْسِيرُ الْحَسَنِ: هُمْ نفرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ عَرَضَ فِي هِمَمِهِمْ شَيْءٌ، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ وَعَسَى مِنَ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - وَاجِبَة.
﴿خُذ من أَمْوَالهم﴾ أَي: اقبل ﴿صَدَقَة تطهرهُمْ﴾ من الذُّنُوب ﴿وتزكيهم بهَا﴾ وَلَيْسَ بِصَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ، وَلَكِنَّهَا كَفَّارَةٌ لَهُمْ ﴿وصل عَلَيْهِم﴾ أَيْ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴿إِنَّ صَلاتَكَ سكنٌ لَهُم﴾ يَعْنِي: طمأنينة لقُلُوبِهِمْ؛ يَقُوله الله - عز وَجل - للنَّبِي صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدقَات﴾ أَي: يقبلهَا.
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون﴾ يَعْنِي: بِمَا يُطْلِعُهُمْ عَلَيْهِ.
يحيى: عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ:
لَوْ أَنَّ رَجُلا عَمِلَ فِي جَوْفِ سَبْعِينَ بَيْتًا لَكَسَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - رِدَاءَ عَمَلِهِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا ".
﴿وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله﴾ هُمُ الثَّلاثَةُ الَّذِينَ فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الآيَةِ الَّتِي فِي آخر السُّورَة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٠٧) إِلَى الْآيَة (١٠٨).
230
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٠٩) إِلَى الْآيَة (١١٠).
(ل ١٣٣)
231
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ إِلَى قَوْله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حِينَ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ الأَنْصَارِ وَبَنَى مَسْجِدَ قِبَاءَ ٠ وَهُوَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى - وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الأَنْصَارِ بَنَوْا مَسْجِدًا؛ فَقَالُوا: نَمِيلُ بِهِ فَإِنْ أَتَانَا محمدٌ فِيهِ وَإِلا لمْ [... ] وَنَخْلُوا فِيهِ لِحَوَائِجِنَا وَنَبْعُثُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ - لِمُحَارِبٍ مِنْ مُحَارِبِيِّ الأَنْصَارِ كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَرَهُ - فَيَأْتِينَا؛ فَنَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِنَا، فَلَمَّا بَنَوُا الْمَسْجِدَ؛ وَهُوَ الَّذِي قَالَ الله - عز وَجل -: ﴿الَّذين اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ﴾ أَيْ: بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قبل﴾ يَعْنِي: أَبَا عَامِرٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ لَا يَأْتِيهِمْ وَلا يَأْتُونَهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَعَا بِقَمِيصِهِ لِيَأْتِيَهُمْ (فَإِنَّهُ لِيَزُرَّهُ عَلَيْهِ إِذْ أَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: ﴿لَا تقم فِيهِ أبدا﴾ يَعْنِي: ذَلِكَ الْمَسْجِدَ. ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ يَعْنِي: مَسْجِدَ قِبَاءَ ﴿أَحَقُّ أَنْ تقوم فِيهِ﴾.
قَالَ محمدٌ: قَوْلُهُ ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارب الله وَرَسُوله﴾ أَيِ: انْتِظَارًا؛ يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ بِالشَّرِّ، وَرَصَدْتُهُ بِالْمُعَافَاةِ. وَقَدْ قِيلَ: أَرْصَدْتُ لَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا.
231
﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين﴾.
يحيى: عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ؛ فَكَيْفَ طُهُورِكُمْ بِالْمَاءِ؟ قَالُوا: نَغْسِلُ أَثَرَ الْخَلاءِ بِالْمَاءِ " مِنْ حَدِيثِ يحيى بْنِ مُحَمَّدٍ.
قَالَ يحيى:
وَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بَنَوْا ذَلِكَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ؟ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ إِنَّ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى، ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
232
﴿ لا تقم فيه أبدا ﴾ يعني : ذلك المسجد. ﴿ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم ﴾ يعني : مسجد قباء ﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾.
قال محمد : قوله ﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ﴾ أي : انتظارا ؛ يقال : أرصدت له بالشر، ورصدته بالمعافاة. وقد قيل : أرصدت له بالخير والشر جميعا.
﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾ يحيى : عن همام، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال :" لما نزلت :﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار، إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ؛ فكيف طهوركم بالماء ؟ قالوا : نغسل أثر الخلاء بالماء " ١ من حديث يحيى بن محمد.
قال يحيى : وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المنافقين الذين بنوا ذلك المسجد، فقال : ما حملكم على بناء هذا المسجد ؟ فحلفوا بالله إن أردنا إلا الحسنى، ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾.
١ أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (١/٢٨٨) وانظر / الدر المنثور (٣/٣٠١ – ٣٠٢)..
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى من الله ورضوان خير أَمن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جرفٍ هار﴾ يَعْنِي: حَرْفَ جُرْفٍ.
﴿فَانْهَارَ بِهِ فِي نَار جَهَنَّم﴾ أَيْ: أَنَّ الَّذِي أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ
232
وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ مِنَ الآخَرِ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا تَنَاهَى أَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ حَفَرُوا فِيهِ بُقْعَةً فَرُئِيَ مِنْهَا الدُّخَانُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَوْلُهُ: ﴿عَلَى شفا جرف﴾ يَعْنِي: حَرْفَ جرفٍ، وَالْجُرُفُ: مَا تُجْرَفُ بِالسُّيُولِ مِنَ الأَوْدِيَةِ؛ يُقَالُ: جرفٌ هارٍ وهائرٌ؛ إِذَا كَانَ مُتَصَدِّعًا؛ فَإِذَا سَقَطَ قِيلَ: انْهَارَ وَتَهَوَّرَ.
﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن﴾ يَقُولُ: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي هَذَا، فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.
قَالَ محمدٌ: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًا﴾ بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى: فَإِنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، وَعَدَهُمْ إِيَّاهَا وَعْدًا عَلَيْهِ حقاًّ.
233
﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَة فِي قُلُوبهم﴾ أَيْ: شَكًّا. ﴿إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبهم﴾ تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ: يَقُولُ: إِلا أَنْ يَمُوتُوا.
قَالَ يحيى: أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يموتون على النِّفَاق.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١١١) إِلَى الْآيَة (١١٢).
﴿التائبون﴾ تَابُوا من الشّرك ﴿العابدون﴾ عَبَدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ﴿الْحَامِدُونَ﴾ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
﴿السائحون﴾ هُمُ الصَّائِمُونَ.
قَالَ محمدٌ: السَّائِحُ أَصْلُهُ: الذَّاهِبُ فِي الأَرْضِ، وَمَنْ سَاحَ امْتَنَعَ مِنَ الشَّهَوَاتِ، فَشَبَّهَ الصَّائِمَ بِهِ؛ لإِمْسَاكِهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشرَاب وَالنِّكَاح.
﴿الراكعون الساجدون﴾ يَقُول: هم أهل الصَّلَاة.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١١٣) إِلَى الْآيَة (١١٦).
﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين﴾ تَفْسِيرُ قَتَادَةَ: قَالَ: كَانَ أُنْزِلَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ثُمَّ أَنْزَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةَ، فَلا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيْهِ إِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلا أَنْ يَقُولَ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا (ل ١٣٤) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم﴾ أَي:
234
مَاتُوا على الْكفْر
235
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ﴾ الْآيَة.
قَالَ قَتَادَة:
ذُكِرَ لَنَا: أَنَّ رَجُلا قَالَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَن مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ، وَيَصِلُ الأَرْحَامَ، وَيَفُكُّ الْعَانِي، وَيَفِي بِالذِّمَمِ؛ أَفَلا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ لِوَالِدِي؟ كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ -: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ ".
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنه عَدو لله﴾ أَيْ: مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الأَوَّاهُ: الْمُوقِنُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الدَّعَّاءُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ أَقْرَبُ فِي الْمَعْنَى؛ لأَنَّهُ مِنَ التَّأَوُّهِ، وَهُوَ مِنَ الصَّوْتِ، مِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(فَأَوْهِ بِذِكْرَاهَا إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا وَمِنْ بُعْدِ أرضٍ دُونَهَا وَسَمَاءِ}
قَالَ محمدٌ: يُقَالُ: (أَوْهِ) بِتَسْكِينِ الْوَاو وَكسر الْهَاء، و (أوه) مُشَدَّدَةٌ، يُقَالُ: آهَ الرَّجُلُ يُئَوِّهُ إِذَا قَالَ: أَوْهِ مِنْ أَمْرٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: تَأَوَّهَ الرَّجُلُ، والمتأوه: المتلهف.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بعد إِذْ هدَاهُم﴾ الآيَةَ.
بَلَغَنَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مَاتُوا قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْفَرَائِضُ أَوْ بَعْضُهَا؛ فَقَالَ قومٌ مِنْ أَصْحَاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: مَاتَ إِخْوَانُنَا قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ
235
هَذِهِ الْفَرَائِضُ، فَمَا مَنْزِلَتُهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هَذِه الْآيَة؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَاتُوا عَلَى الإِيمَانِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١١٧) فَقَط.
236
﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة﴾ أَيْ: فِي وَقْتِ الْعُسْرَةِ ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فريق مِنْهُم﴾ أَيْ: تَمِيلُ عَنِ الْجِهَادِ؛ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ ذَلِكَ؛ فَمَضَوْا مَعَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَتَادَةُ: أَصَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ جهدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يمصها الآخر.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١١٨) إِلَى الْآيَة (١١٩).
﴿وعَلى الثَّلَاثَة﴾ أَيْ: وَتَابَ عَلَى الَّذِينَ خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ وَهُمُ الَّذِينَ أرجوا فِي الْآيَة الأولى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله﴾ وَهُمْ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ.
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحبَتْ﴾ أَي: بسعتها ﴿وظنوا﴾ عَلِمُوا
236
﴿أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَمَرَ النَّاسَ أَلا يُكَلِّمُوهُمْ وَلا يُجَالِسُوهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَلا يؤوهم وَلا يُكَلِّمُوهُمْ؛ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ نَدِمُوا وَجَاءُوا إِلَى سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ؛ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - تَوْبَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَة.
237
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين﴾ تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ: خَاطَبَ بِهَذَا مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، لِيُهَاجِرُوا إِلَى النَّبِيِّ بِالْمَدِينَةِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢٠) فَقَط.
﴿مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَن رَسُول الله﴾ وَهَذَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ﴿وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم﴾ يَعْنِي: مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ.
﴿لَا يصيبهم ظمأ﴾ عطشٌ ﴿وَلَا نصب﴾ فِي أبدانهم ﴿وَلَا مَخْمَصَة﴾ جُوعٌ.
﴿وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عدوٍّ نيلاً إِلَى كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عملٌ صالحٌ﴾.
يَحْيَى: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْمُصَبَّحِ قَالَ:
غزونا مَعَ مَالك ابْن عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِي أَرْضَ الرُّومِ، فَسَبَقَ النَّاسُ رجلٌ، ثُمَّ نَزَلَ يَمْشِي وَيَقُودُ فَرَسَهُ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلا تَرْكَبُ؟! فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
237
يَقُولُ: مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُمَا حرامٌ عَلَى النَّارِ.
قَالَ: فَلَمْ أَرَ نَازِلا أَكْثَرَ مِنْ يومئذٍ ".
يحيى: عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ل ١٣٥) " لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ
238
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مُنْخَرَيِّ عبدٍ مسلمٍ أَبْدًا ".
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانٍ قَالَ:
ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْعَمَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُضَاعَفُ؟ كَمَا تضَاعف النَّفَقَة سَبْعمِائة ضعف ".
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢١) إِلَى الْآيَة (١٢٢).
239
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٠:﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ وهذا في غزوة تبوك ﴿ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم ﴾ يعني : من خرج منهم.
﴿ لا يصيبهم ظمأ ﴾ عطش ﴿ ولا نصب ﴾ في أبدانهم ﴿ ولا مخمصة ﴾ جوع.
﴿ ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلى كتب لهم به عمل صالح ﴾.
يحيى : عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي المصبح قال :" غزونا مع مالك ابن عبد الله الخثعمي أرض الروم، فسبق الناس رجل، ثم نزل يمشي ويقود فرسه، فقال له مالك : يا عبد الله، ألا تركب ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار، فهما حرام على النار. قال : فلم أر نازلا أكثر من يومئذ " ١.
يحيى : عن المسعودي، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عيسى بن طلحة، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري عبد مسلم أبدا " ٢.
يحيى : عن إبراهيم بن محمد، عن محمد بن يزيد، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال :" ذكر لنا أن العمل في سبيل الله يضاعف ؟ كما تضاعف النفقة سبعمائة ضعف ".
١ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥/٢٢٥ – ٢٢٦) والطيالسي (١٧٧٢) وأبو يعلى (٤/٥٧ – ٥٨) ح (٢٠٧٥) وابن حبان (١٠/٤٦٣ – ٤٦٤) ح (٤٦٠٤) والبيهقي في الكبرى (٩/١٦٢) والطبراني في الكبير (١٩/٢٩٧) ح (٦٦١)..
٢ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢/٥٠٥) والطيالسي في مسنده (٢٤٤٣) والترمذي (٤/١٤٧) ح (١٦٣٣) وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي (٦/٣١٩) ح (٣١٠٨) والحاكم في مستدركه (٢٦٠١٤) وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، والبيهقي في شعب الإيمان (٣/٨٩ – ٩٠) ح (٧٧٩)..

﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ الآيَةَ، تَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ مَا أَنْزَلَ - قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَا وَاللَّهِ لَا يَرَانَا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْغَزْوَةِ يَغْزُوهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْدًا وَلا عَنْ سَرِيَّةٍ. فَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم السَّرَايَا أَنْ تَخْرُجَ فَنَفَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ آخِرِهِمْ، وَتُرِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحْدَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ أَيْ: جَمِيعًا، وَيَذَرُوكَ وَحْدَكَ بِالْمَدِينَةِ ﴿فلولا﴾ فَهَلا ﴿نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ ليتفقه المقيمون ﴿وينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم﴾ مِنْ غَزَاتِهِمْ. أَيْ: يُعَلِّمُ الْمُقِيمُ الْغَازِي مَا نَزَلَ بَعْدَهُ مِنَ الْقُرْآن.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢٣) إِلَى الْآيَة (١٢٥).
﴿يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكفَّار﴾ الآيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ من يَقُول﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فزادتهم إِيمَانًا﴾ تَصْدِيقًا ﴿وهم يستبشرون﴾ بِمَا يَجِيءُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
(وَأَمَّا
240
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ﴿شَكٌّ﴾ (فزادتهم رجساً إِلَى رجسهم} أَيْ: زَادَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ بِهَا كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ يَقُولُ: إِنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الْكُفْرِ.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢٦) إِلَى الْآيَة (١٢٧).
241
﴿أَو لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فَيَرَوْنَ نَصْرَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رَسُوله ﴿ثمَّ لَا يتوبون﴾ مِنْ نِفَاقِهِمْ ﴿وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعضهم إِلَى بعض﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أحد﴾ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لبعضٍ ﴿ثمَّ انصرفوا﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: عَزَمُوا عَلَى الْكفْر ﴿صرف الله قُلُوبهم﴾ هَذَا دعاءٌ ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يفقهُونَ﴾ لَا يرجعُونَ إِلَى الْإِيمَان.
سُورَة التَّوْبَة من الْآيَة (١٢٨) إِلَى الْآيَة (١٢٩)
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ ﴿عَزِيز عَلَيْهِ﴾ أَيْ: شَدِيدٌ عَلَيْهِ ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي: مَا ضَاقَ بِكُمْ فِي دِينِكُمْ ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ أَن تؤمنوا
﴿فَإِن توَلّوا﴾ عَنِ اللَّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - وَعَمَّا بعث بِهِ رَسُوله ﴿فَقل﴾ يَا مُحَمَّدُ: (حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ
241
رب الْعَرْش الْعَظِيم} قَالَ قَتَادَةُ: يُقَالُ: إِنَّ أَحْدَثَ الْقُرْآنِ بِاللَّهِ عَهْدًا هَاتَانِ الآيَتَانِ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
242
تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ وَهِيَ مَكِّيَةٌ كلهَا
سُورَة يُونُس من الْآيَة (١) إِلَى الْآيَة (٢).
243
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).