هذه السورة مدنية كلها، وقيل : إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسماً واختلافاً في سبب ابتدائها بغير بسملة، وخلافاً عن الصحابة : أهي والأنفال سورة واحدة، أو سورتان ؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك، فأخلينا كتابنا منه، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٣٠]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
وَلَقَدْ عَلِمْتَ وَمَا إِخَالُكَ نَاسِيًا | أَنَّ الْمَنِيَّةَ لِلْفَتَى بِالْمَرْصَدِ |
لِإِلٍّ عَلَيْنَا وَاجِبٌ لَا نُضَيِّعُهُ | مَتِينٌ قُوَاهُ غَيْرُ مُنْتَكِثِ الْحَبْلِ |
أَفْسَدُ النَّاسِ خُلُوفٌ خَلَفُوا | قَطَعُوا الْإِلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ |
لَعَمْرُكَ أن لك من قريش | كل السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعَامِ |
أَبَى يَأْبَى مَنَعَ، قَالَ:
أَبَى الضيم والنعمان يخرق نَابَهُ | عَلَيْهِ فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ |
أَبَى اللَّهُ إِلَّا عَدْلَهُ وَوَفَاءَهُ | فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعُرْفُ ضائع |
شَفَاهُ: أَزَالَ سَقَمَهُ. الْعَشِيرَةُ جماعة مجتمعة بِسَبَبٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ وِدَادٍ كَعَقْدِ الْعَشِيرَةِ.
اقْتَرَفَ اكْتَسَبَ. كَسَدَ الشَّيْءُ كَسَادًا وَكُسُودًا بَارَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاقٌ. الْمَوْطِنُ: الْمَوْقِفُ وَالْمُقَامُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى | بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوَى |
الْعَيْلَةُ: الْفَقْرُ، عَالَ يَعِيلُ افْتَقَرَ. قَالَ:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ | وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ |
الْمُضَاهَاةُ: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُحَاكَاةُ، وَثَقِيفُ تَقُولُ: الْمُضَاهَأَةُ بِالْهَمْزِ، وَقَدْ ضَاهَأْتُ فَمَادَّتُهَا مُخَالِفَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا إِنْ كَانَ ضَاهَتْ يُدْعَى أَنَّ أَصْلَهَا الْهَمْزُ كَقَوْلِهِمْ فِي تَوَضَّأْتُ وَقَرَأْتُ وَأَخْطَأْتُ: تَوَضَّيْتُ، وَقَرَيْتُ، وَأَخْطَيْتُ فَيُمْكِنُ. وَأَمَّا ضَهْيَأَ بِالْهَمْزِ مَقْصُورًا فَهَمْزَتُهُ زائدة كهمزة عرفىء، أَوْ مَمْدُودًا فَهَمْزَتُهُ لِلتَّأْنِيثِ زَائِدَةٌ، أَوْ مَمْدُودًا بَعْدَهُ هَاءُ التَّأْنِيثِ. حَكَاهُ الْبُحْتُرِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ فِي النَّوَادِرِ قَالَ: جَمَعَ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ. وَمَدْلُولُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي ثَلَاثِ لُغَاتِهَا الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا تَحِيضُ، أَوِ الَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا شَابَهَتْ بِذَلِكَ الرِّجَالَ.
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُضَاهَاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ ضَهْيَاءَ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ، لِأَصَالَةِ هَمْزَةِ الْمُضَاهَأَةِ، وَزِيَادَةِ هَمْزَةِ ضَهْيَاءَ فِي لُغَاتِهَا الثَّلَاثِ.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا، وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِهَا فَإِنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لَهَا اسْمًا وَاخْتِلَافًا فِي سَبَبِ ابْتِدَائِهَا بِغَيْرِ بَسْمَلَةٍ، وَخِلَافًا عَنِ الصَّحَابَةِ: أَهِيَ وَالْأَنْفَالُ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ، أَوْ سُورَتَانِ؟ وَلَا تَعَلُّقَ لِمَدْلُولِ اللَّفْظِ بِذَلِكَ، فَأَخْلَيْنَا كِتَابَنَا مِنْهُ، وَيُطَالَعُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَيُقَالُ: بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَبْرَأُ بَرَاءَةً، أَيِ انْقَطَعَتْ بَيْنَنَا الْعِصْمَةُ، وَمِنْهُ بَرِئْتُ مِنَ الدَّيْنِ.
وَارْتَفَعَ بَرَاءَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ. وَمِنَ اللَّهِ صِفَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بَرَاءَةً بِالنَّصْبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ الْزَمُوا، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِغْرَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْمَعُوا بَرَاءَةً. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
بِمَ تَعَلَّقَتِ الْبَرَاءَةُ، بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُعَاهَدَةِ بِالْمُسْلِمِينَ؟ (قُلْتُ) : قَدْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُعَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ أَوَّلًا، فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاهَدُوهُمْ، فَلَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى النَّبْذَ إِلَيْهِمْ، فَخُوطِبَ الْمُسْلِمُونَ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُمْ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ قَدْ بَرِئَا مِمَّا عَاهَدْتُمْ بِهِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا كَانَ عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَازِمًا لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ حَسُنَ أَنْ يَقُولَ: عَاهَدْتُمْ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ نَكَثُوا إِلَّا بَنِي ضَمْرَةَ وَكِنَانَةَ فَنُبِذَ الْعَهْدُ إِلَى النَّاكِثِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ بِالْمُشْرِكِينَ هُنَا ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ: خُزَاعَةُ، وَبَنُو مُدْلِجٍ، وَبَنُو خُزَيْمَةَ.
وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعُوا الْحَرْبَ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ، وَبَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ لَبَنِي الدَّيْلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ دَمٌ عِنْدَ خُزَاعَةَ فَاغْتَنَمُوا الْفُرْصَةَ وَغَفْلَةَ خُزَاعَةَ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِيُّ فِيمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَبَيَّتُوا خُزَاعَةَ فَاقْتَتَلُوا، وَأَعَانَتْ قُرَيْشُ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ، وَقَوْمٌ أَعَانُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَهُزِمَتْ خُزَاعَةُ إِلَى الْحَرَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَخَرَجَ مِنْ خُزَاعَةَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَعَمْرُو بْنُ سَالِمٍ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مُسْتَغِيثِينَ، وَأَنْشَدَهُ عَمْرٌو فَقَالَ:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا | كُنْتَ لَنَا أَبًا وَكُنَّا وَلَدَا |
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا | فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا عبدا |
وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا | فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا |
أَبْيَضَ مِثْلَ الشَّمْسِ يَنْمُو صُعَدَا | إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا |
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا | إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا |
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤْكَدَا | وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا |
وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عددا | هم بيتونا الحطيم هُجَّدًا |
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ» فَتَجَهَّزَ إِلَى مَكَّةَ وَفَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَخَلَّفَ مَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَرْجَفُوا الْأَرَاجِيفَ، فَجَعَلَ الْمُشْرِكُونَ يَنْقُضُونَ عُهُودَهُمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَاءِ عَهِدَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَأَذِنَ فِي الْحَرْبِ.
يُقَالُ: سَاحَ سِيَاحَةً وَسَوْحًا وَسَيَحَانًا، وَمِنْهُ سَيْحُ الْمَاءِ وَهُوَ الْجَارِي الْمُنْبَسِطُ. وَقَالَ طَرَفَةُ:
لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَنِي | حَتَّى تَرَى خَيْلًا أَمَامِي تَسِيحُ |
وَخَرَجَتْ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْجِوَارِ كَمَا أَنَّهُمْ نَعَتُوا وَأَكَّدُوا عَلَى الْجِوَارِ. وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْقَسَمِ. وروي أن أعرابيا سمع مَنْ يَقْرَأُ بِالْجَرِّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ بَرِيئًا مِنْ رَسُولِهِ فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، فَلَبَّبَهُ الْقَارِئُ إِلَى عُمَرَ، فَحَكَى الْأَعْرَابِيُّ قِرَاءَتَهُ فَعِنْدَهَا أَمَرَ عُمَرُ بِتَعْلِيمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ فَعَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وَجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِ فِي بَرِيءٌ، وَحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فَصَلَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَيْنَ مُتَحَمِّلِهِ، وَالْمَعْطُوفِ. وَمَنْ أَجَازَ الْعَطْفَ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ الْمَكْسُورَةِ أَجَازَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمَفْتُوحَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مَعَ الْمَكْسُورَةِ، وَمَنَعَ مَعَ الْمَفْتُوحَةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَذْهَبُ الْأُسْتَاذِ يَعْنِي أَبَا الْحَسَنِ بْنِ الْبَاذِشِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ
وَالْإِجْمَاعُ إِلَى آخِرِهِ يُرِيدُ: أَنَّ لَيْتَ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَرَّاءُ خَالَفَ وَجَعَلَ حُكْمَ لَيْتَ وَلَعَلَّ وَكَأَنَّ وَلَكِنَّ، وَأَنَّ حُكْمَ إِنَّ فِي كَوْنِ اسْمِهِنَّ لَهُ مَوْضِعٌ.
وَإِعْرَابُ وَأَذَانٌ كَإِعْرَابِ بَرَاءَةٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مِثْلِهَا وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَرَاءَةٌ، كَمَا لَا يُقَالُ عَمْرٌو مَعْطُوفٌ عَلَى زَيْدٍ فِي زَيْدٌ قَامَ وَعَمْرٌو قَاعِدٌ.
وَالْأَذَانُ بِمَعْنَى الْإِيذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ كَمَا أَنَّ الْأَمَانَ وَالْعَطَاءَ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ وَالْإِعْطَاءِ، وَيَضْعُفُ جَعْلُهُ خَيْرًا عَنْ. وَأَذَانٌ إِذَا أَعْرَبْنَاهُ مُبْتَدَأً، بَلِ الْخَبَرُ قَوْلُهُ: إِلَى النَّاسِ.
وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا وُصِفَتْ بِقَوْلِهِ: من الله ورسوله. ويوم مَنْصُوبٌ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ نَصْبَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَذَانٌ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ إِذَا وُصِفَ قَبْلَ أَخْذِهِ مَعْمُولَهُ لَا يَجُوزُ إِعْمَالُهُ فِيمَا بَعْدَ الصِّفَةِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ أَخْذِهِ مَعْمُولَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَى النَّاسِ.
لَمَّا كَانَ سَنَةُ تِسْعٍ أَرَادَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُجَّ، فَكَرِهَ أَنْ يَرَى الْمُشْرِكِينَ يَطُوفُونَ عُرَاةً، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا لِيَقْرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَهْلِ الْمَوْسِمِ رَاكِبًا نَاقَتَهُ الْعَضْبَاءَ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ بَعَثْتَ بِهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «لَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي» فَلَمَّا اجْتَمَعَا قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ، قَالَ: مَأْمُورٌ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ»، فَقَالُوا: بِمَاذَا؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ ثُمَّ قَالَ: «أُمِرْتُ بِأَرْبَعٍ أَنْ لَا يَقْرَبَ الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَأَنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا كُلُّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ، وَأَنْ يَتِمَّ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ» فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: يَا عَلِيُّ أَبْلِغِ ابْنَ عَمِّكَ أَنَّا قَدْ نَبَذْنَا الْعَهْدَ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ إِلَّا طَعْنٌ بِالرِّمَاحِ وَضَرْبٌ بِالسُّيُوفِ. وَقِيلَ: عَادَةُ الْعَرَبِ فِي نَقْضِ عُهُودِهَا أَنْ يَتَوَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْقَبِيلَةِ، فَلَوْ تَوَلَّاهُ أَبُو بَكْرٍ لَقَالُوا هَذَا خِلَافُ مَا يُعْرَفُ مِنَّا فِي نَقْضِ الْعُهُودِ، فَلِذَلِكَ جَعَلَ عَلِيًّا يَتَوَلَّاهُ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَعَ عَلِيٍّ، فَإِذَا صَحِلَ صَوْتُ عَلِيٍّ نَادَى أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم
فقال عُمَرُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو جحيفة، وطاووس، وَعَطَاءٌ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلُّهَا، قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ أَنَّ عَلِيًّا أَذَّنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِثْرَ خُطْبَةِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَعُمَّ النَّاسَ بِالْإِسْمَاعِ فَتَتَبَّعَهُمْ بِالْأَذَانِ بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ يُعِينُهُ بِهَا كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَيَتَّبِعُوا بِهَا أَيْضًا أَسْوَاقَ الْعَرَبِ كَذِي الْمَجَازِ وَغَيْرِهِ
، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ قَوْلُ سُفْيَانُ. وَيَقُولُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ صِفِّينَ، وَيَوْمَ الْجَمَلِ، يُرِيدُ جَمِيعَ أَيَّامِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيَّامُ مِنًى كُلُّهَا، وَمَجَامِعُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ كَانُوا بِذِي الْمَجَازِ وَعُكَاظٍ وَمَجَنَّةٍ حَتَّى نُودِيَ فِيهِمْ: أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَوَصَفَهُ بِالْأَكْبَرِ. قَالَ الْحَسَنُ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ بْنِ نَوْفَلٍ: لِأَنَّهُ حَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَصَادَفَ عِيدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَعَظُمَ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَصِفُهُ بِالْأَكْبَرِ لِهَذَا. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لِأَنَّهُ حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُودُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يُشْبِهُ نَظَرَ الْحَسَنِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ الْمُفْتَتَحَ بِالْحَقِّ وَأَمَارَةَ الْإِسْلَامِ بِتَقْدِيمِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُبِذَتْ فِيهِ الْعُهُودُ، وَعَزَّ فِيهِ الدِّينُ، وَذَلَّ فِيهِ الشِّرْكُ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَامِ ثَمَانٍ حِينَ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسَدٍ كَانَ أَمِيرَ الْعَرَبِ عَلَى أَوَّلِهِ، فَكُلُّ حَجٍّ بَعْدَ حَجِّ أَبِي بَكْرٍ فَمُتَرَكِّبٌ عَلَيْهِ، فَحَقُّهُ لِهَذَا أَنْ يُسَمَّى أَكْبَرَ انْتَهَى. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَسُمِّيَ الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ وَاجِبَاتِهِ، فَإِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَوْمُ مِنًى فَلِأَنَّ فِيهِ مُعْظَمَ الْحَجِّ، وَتَمَامَ أَفْعَالِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ. وَقِيلَ: وُصِفَ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ تُسَمَّى بِالْحَجِّ الْأَصْغَرِ. وَقَالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ: كَانَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ مُفْتَرِقِينَ إِذَا كَانَتِ الْحُمْسُ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ الْجَمْعُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَيِ الْأَكْبَرِ مِنَ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُفْتَرِقُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ: أَنَّ الْحُمْسَ وَمَنِ اتَّبَعَهَا وَقَفُوا بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَرَادَ بِهِ الْعَامَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَحَجَّ مَعَهُ الْأُمَمُ
، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا الْأَذَانُ حُكْمُهُ مُتَحَقِّقٌ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَامُ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى. وَسُمِّيَ أَكْبَرَ لِأَنَّهُ فِيهِ ثَبَتَتْ مَنَاسِكُ الْحَجِّ.
وَقَالَ فِيهِ: «خُذُوا
وَجُمْلَةُ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِخْبَارٌ بِثُبُوتِ الْبَرَاءَةِ، وَجُمْلَةُ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِخْبَارٌ بِوُجُوبِ الْإِعْلَامِ بِمَا ثَبَتَ، فَافْتَرَقَتَا وَعُلِّقَتِ الْبَرَاءَةُ بِالْمُعَاهَدِينَ لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ نَاكِثِيهِمْ وَغَيْرِ نَاكِثِيهِمْ، وَعُلِّقَ الْأَذَانُ بِالنَّاسِ لِشُمُولِهِ مُعَاهَدًا وَغَيْرَهُ نَاكِثًا، وَغَيْرَهُ مُسْلِمًا وَكَافِرًا، هَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْكَفَّارِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْآيَةِ، وَبِدَلِيلِ مُنَادَاةِ عَلِيٍّ بِالْجُمَلِ الْأَرْبَعِ. فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِتِلْكَ الْجُمَلِ الْكُفَّارُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجْرُورُ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ وَأَذَانٌ، كَانَ بِإِلَى أَيْ مُفْتَدٍ إِلَى النَّاسِ وَوَاصِلٌ إِلَيْهِمْ. وَلَوْ كَانَ الْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ لَكَانَ بِاللَّامِ، وَمِنْ فِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ بَرِيءٌ تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ. تَقُولُ: بَرِئْتُ مِنْكَ، وَبَرِئْتُ مِنَ الدِّينِ بِخِلَافِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَإِنْ تُبْتُمْ أَيْ: من الشرك الموجب لتبرىء اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ. فَهُوَ أَيْ التَّوْبُ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا لِعِصْمَةِ أَنْفُسِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ لِدُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ وَخَلَاصِكُمْ مِنَ النَّارِ. وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أَيْ لا تفوتوته عَمَّا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ نَقِمَاتِهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَعَلَ الْإِنْذَارَ بِشَارَةً عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُشْرِكِينَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَغَيْرَهُمْ، وَفِي هَذَا وَعِيدٌ عَظِيمٌ بِمَا يَحِلُّ بِهِمْ.
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ فَثَبَتُوا عَلَى الْعَهْدِ أَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الزَّجَّاجُ:
هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «١» لِأَنَّ الْكَلَامَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَعْنَاهُ:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُولُوا لَهُمْ: سِيحُوا، إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، كَأَنَّهُ قِيلَ بَعْدَ أَنْ أُمِرُوا فِي النَّاكِثِينَ: وَلَكِنَّ الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَا تُجْرُوهُمْ مَجْرَاهُمْ، وَلَا تَجْعَلُوا الْوَفِيَّ كَالْغَادِرِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَقَبْلُهُ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ تَقْدِيرُهَا: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهَدِينَ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا لِطُولِ الْفَصْلِ بِجُمَلٍ كَثِيرَةٍ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَبَيْنَهُ.
قَالَ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ بَرَاءَةٌ قَالَ لَبَنِي ضَمْرَةَ وَحَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ وَحَيٍّ مِنْ سُلَيْمٍ: إِنَّ اللَّهَ قَدِ اسْتَثْنَاكُمْ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
والظاهر أن قَوْلَهُ: إِلَى مُدَّتِهِمْ، يَكُونُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ أُمِرُوا بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ بَقِيَ لِحَيٍّ مِنْ كِنَانَةَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَأُتِمَّ إِلَيْهِمْ عَهْدُهُمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: إِلَى مُدَّتِهِمْ، إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي فِي الْآيَةِ.
وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يُفِيدُ تَجْدِيدَ حُكْمٍ، إِذْ يَكُونُ حُكْمُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَثْنَيْنَ حُكْمَ بَاقِي الْمُعَاهَدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَّصِفُوا بِمَا اتَّصَفَ بِهِ هَؤُلَاءِ من عدم النقض وَعَدَمِ الْمُظَاهَرَةِ.
وَقَرَأَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ الْكُوفِيُّ وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: يَنْقُضُوكُمْ بِالضَّادِ مُعْجَمَةً وَتُنَاسِبُ الْعَهْدَ، وَهِيَ بِمَعْنَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَنْ نَقَصَ مِنَ الْعَهْدِ فَقَدْ نَقَصَ مِنَ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ. وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَكُمْ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: هِيَ بِالضَّادِ أَقْرَبُ إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ، إِلَّا أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالصَّادِ أَحْسَنُ لِيَقَعَ فِي مُقَابَلَتِهِ التَّمَامُ فِي قَوْلِهِ: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ. وَالتَّمَامُ ضِدُّ النَّقْصِ. وَانْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: لَا قَلِيلًا مِنَ النَّقْصِ وَلَا كَثِيرًا، وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا كَمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ بِبَنِي بَكْرٍ حِينَ أَعَانُوهُمْ بِالسِّلَاحِ عَلَى خزاعة.
وتعدى أتموا بِإِلَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى فَأَدُّوا، أَيْ: فَأَدُّوهُ تَامًّا كَامِلًا. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَيْنَ هُمْ قُرَيْشٌ عُوهِدُوا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَرْدُودٌ بِإِسْلَامِ قُرَيْشٍ فِي الْفَتْحِ قَبْلَ الْإِذْنِ بِهَذَا كُلِّهِ. وَقَوْلُهُ:
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الوفاء العهد مِنَ التَّقْوَى، وَأَنَّ مِنَ التَّقْوَى أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ.
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى انْسَلَخَ فِي قَوْلِهِ: فَانْسَلَخَ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: يُقَالُ أَهْلَلْنَا هِلَالَ شَهْرِ كَذَا أَيْ دَخَلْنَا فِيهِ وَلَبِسْنَاهُ، فَنَحْنُ نَزْدَادُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى مُضِيِّ نِصْفِهِ لِبَاسًا مِنْهُ، ثُمَّ نَسْلَخُهُ عَنْ أَنْفُسِنَا بَعْدَ تَكَامُلِ النِّصْفِ مِنْهُ جزءا فجزءا حَتَّى نَسْلَخَهُ عَنْ أَنْفُسِنَا كُلَّهُ، فَيَنْسَلِخُ. وَأَنْشَدَ:
إِذَا مَا سَلَخْتَ الشَّهْرَ أَهْلَلْتَ مِثْلَهُ | كَفَى قَاتِلًا سَلْخُ الشُّهُورِ وَإِهْلَالُ |
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هِيَ غَيْرُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ الْأَشْهُرُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِيهَا الْقِتَالَ مُنْذُ خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ فِيهَا «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ»
فَتَكُونُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، فَتَكُونُ مِنْ سَنَةٍ. وَجَاءَ الْأَمْرُ بِالْقَتْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ وَتَقْوِيَةِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُمْ لَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُقْتَلُوا. وَفِي إِطْلَاقِ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَقَدْ قَتَلَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ الرِّدَّةِ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ، وَبِالْحِجَارَةِ، وَبِالرَّمْيِ مِنْ رؤوس الْجِبَالِ، وَالتَّنْكِيسِ فِي الْآبَارِ. وَتَعَلَّقَ بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحْرَقَ عَلِيٌّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ،
وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ.
وَلَفْظُ الْمُشْرِكِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِاسْتِثْنَاءِ الْأَطْفَالِ وَالرُّهْبَانِ وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَيْسُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ قُتِلَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي الَّذِينَ نَقَصُوكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَيْكُمْ. وَلَفْظُ: «حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» عَامٌّ فِي الْأَمَاكِنِ مِنْ حِلٍّ وَحَرَمٍ.
«وَخُذُوهُمْ» عِبَارَةٌ عَنِ الْأَسْرِ، وَالْأَخِيذُ الْأَسِيرُ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَسْرِهِمْ: وَاحْصُرُوهُمْ، قَيِّدُوهُمْ وَامْنَعُوهُمْ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْبِلَادِ وَقِيلَ: اسْتَرِقُّوهُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَاصِرُوهُمْ إِنْ تَحَصَّنُوا. وقرىء: فَحَاصِرُوهُمْ شَاذًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا: حُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقِيلَ: امْنَعُوهُمْ عَنْ دُخُولِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى اقْعُدُوا لَهُمْ مَوَاضِعَ الْغِرَّةِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الْأَذَى إِلَيْهِمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ، إِمَّا بِطْرِيقِ الْقِتَالِ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاغْتِيَالِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ السَّرِقَةِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِسْلَالِ خَيْلِهِمْ، وَإِتْلَافِ مَوَاشِيهِمْ إِذَا عُجِزَ عَنِ الْخُرُوجِ بِهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ يُصَالِحُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
«وَاقْعُدُوا لَهُمْ» لَيْسَ مَعْنَاهُ حَقِيقَةَ الْقُعُودِ، بَلِ الْمَعْنَى ارْصُدُوهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ يُرْصَدُ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ قِيَاسًا أَنْ يُحْذَفَ مِنْهُ فِي كَمَا قَالَ: وقد قعدوا منها كُلَّ مَقْعَدٍ.
فَمَتَى كَانَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ عَامِلًا مِنْ لَفْظِهِ أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ، جَازَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ فِي، فَيَجُوزُ جَلَسْتُ مَجْلِسَ زِيدٍ، وَقَعَدْتُ مَجْلِسَ زِيدٍ، تُرِيدُ فِي مَجْلِسِ زِيدٍ.
فَكَمَا يَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَاهُ، فَكَذَلِكَ إِلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: مَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ مَرْصَدٍ، فَحُذِفَ وَأُعْمِلَ الْفِعْلُ، وَحُذِفَ عَلَى، وَوُصُولُ الْفِعْلِ إِلَى مَجْرُورِهَا فَتَنْصِبُهُ، يَخُصُّهُ أَصْحَابُنَا بِالشِّعْرِ. وَأَنْشَدُوا:
تَحِنُّ فَتُبْدِي مَا بِهَا مِنْ صَبَابَةٍ | وَأُخْفِي الَّذِي لَوْلَا الْأَسَى لَقَضَانِي |
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ. وَالتَّوْبَةُ تَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَتَرْكَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَذَلِكَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَهِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْمَالِيَّةِ، وَبِهِمَا تَظْهَرُ الْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، كَمَا بِالتَّوْبَةِ تَظْهَرُ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ عَنِ الْجَهْلِ. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، كِنَايَةٌ عَنِ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَإِجْرَائِهِمْ مَجْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ حَيْثُ مَا شاؤوا، وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يُبْنَى الْمَنَارُ بِهِ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: فَأَطْلِقُوهُمْ مِنَ الْأَسْرِ وَالْحَصْرِ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، لِشُمُولِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ مَأْسُورًا وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: افْتُرِضَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ جَمِيعًا، وَأَبَى اللَّهُ أَنْ لَا تُقْبَلَ الصَّلَاةُ إِلَّا
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ مُحْكَمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنْ أَرَادَ الرَّجُلُ مِنَّا أَنْ يَأْتِيَ مُحَمَّدًا بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، أَوْ يَأْتِيَهُ لِحَاجَةِ قُتِلَ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ الْآيَةَ
انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا كَانَ حُكْمُهَا مُدَّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي ضُرِبَتْ لَهُمْ أَجَلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، وَأَخْذِهِمْ وَحَصْرِهُمْ وَطَلَبِ غِرَّتَهُمْ، ذَكَرَ لَهُمْ حَالَةً لَا يُقْتَلُونَ فِيهَا وَلَا يُؤْخَذُونَ وَيُؤْسَرُونَ، وَتِلْكَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مُسْتَرْشِدًا طَالِبًا لِلْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ، أَيْ طَلَبَ مِنْكَ أَنْ تَكُونَ مُجِيرًا لَهُ وَذَلِكَ بَعْدَ انْسِلَاخِ الْأَشْهُرِ لِيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَيَقِفَ عَلَى مَا بُعِثْتَ بِهِ، فَكُنْ مُجِيرًا لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ وَيَتَدَبَّرَهُ، وَيَطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ دَارَهُ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْهُ إِنْ شِئْتَ مِنْ غَيْرِ غَدْرٍ ولا خيانة. وحتى يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ لِلْغَايَةِ أَيْ: إِلَى أَنْ يَسْمَعَ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْحَالَيْنِ بِأَجِرْهُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِاسْتَجَارَكَ أَوْ بِفَأْجِرْهُ، وَذَلِكَ لِمَانِعٍ لَفْظِيٍّ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي التَّوْحِيدِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ، إِذْ عُصِمَ دَمُ الْكَافِرِ الْمُهْدَرِ الدَّمِ بِطَلَبِهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ، وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ. وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ، إِذْ كَانَ لَا يُمْهَلُ بَلْ يُقَالُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ.
وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ لَا يُقَرُّ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يُبْلَغُ مَأْمَنَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ حِفْظُهُ وَحَوْطَتُهُ مُدَّةً يَسْمَعُ فِيهَا كَلَامَ اللَّهِ. وَالْخِطَابُ بقوله: استجارك وفأجره، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمَانَ السُّلْطَانِ جَائِزٌ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَالْحُرُّ يَمْضِي أَمَانُهُ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ وَالْعَبْدُ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدَ: لَهُ الْأَمَانُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَمَانَ لَهُ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْحُرَّةُ لَهَا الْأَمَانُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا، إِلَّا أَنْ يُجِيرَهُ الْإِمَامُ، وَقَوْلُهُ شَاذٌّ. وَالصَّبِيُّ إِذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ جَازَ أَمَانُهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِجَارَةِ وَإِبْلَاغِ الْمَأْمَنِ، بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ لَا يَعْلَمُونَ مَا الْإِسْلَامُ وَمَا حَقِيقَةُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِعْطَائِهِمُ الْأَمَانَ حَتَّى يَسْمَعُوا وَيَفْهَمُوا الْحَقَّ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا اللُّطْفِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِسْمَاعِ وَتَبْلِيغِ الْمَأْمَنِ، لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عِلْمَهُمْ بِمَرَاشِدِهِمْ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِنْكَارُ وَالِاسْتِبْعَادُ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ وَالْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ النَّفْيُ، أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ وَهُمْ لَكُمْ ضِدٌّ. وَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ انْتِفَاءِ الْعَهْدِ بِالْوَصْفِ الَّذِي قَامَ بِهِ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَالِاسْتِفْهَامُ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ كَثِيرًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَهَا ذِي سُيُوفٌ يَا هُدَى بْنَ مَالِكٍ | كَثِيرٌ وَلَكِنْ لَيْسَ بِالسَّيْفِ ضَارِبٌ |
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فِي موضع خبر عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ النَّفْيُ، أَيْ: لَيْسَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ إِلَّا الَّذِينَ لَمْ يَنْكُثُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ قُرَيْشٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَنُو جَذِيمَةَ بْنِ الدِّيلِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَبَائِلُ بَنِي بَكْرٍ كَانُوا دَخَلُوا وَقْتَ الْحُدَيْبِيَةَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَبَنِي كِنَانَةَ وَبَنِي ضَمْرَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ: هُمْ خُزَاعَةُ وَرُدَّ بِإِسْلَامِهِمْ عَامَ الْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ قُرَيْشٌ نَزَلَتْ فَلَمْ يَسْتَقِيمُوا، فَنَزَلَ تَأْجِيلُهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ ذَلِكَ. وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ قُرَيْشًا بَعْدَ الْأَذَانِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا مُسْلِمٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِسَنَةٍ، وَكَذَلِكَ خُزَاعَةُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ.
وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ يَكُونُ كَيْفَ، لِقَوْلِهِ: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ للمشركين. وعند عَلَى هَذَيْنِ ظَرْفٌ لِلْعَهْدِ، أَوْ لِيَكُونَ، أَوْ لِلْحَالِ، أَوْ هِيَ وَصْفٌ لِلْعَهْدِ. وَأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عِنْدَ الله، وللمشركين تَبْيِينٌ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِيَكُونَ، وَكَيْفَ حَالٌ مِنَ الْعَهْدِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: اسْتَقِيمُوا لَهُمْ مُدَّةَ اسْتِقَامَتِهِمْ، وَلَيْسَتْ شَرْطِيَّةً. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هِيَ شَرْطِيَّةٌ كَقَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «١» انْتَهَى. فَكَانَ التَّقْدِيرُ: مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ مِنْ زَمَانٍ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مَا شَرْطٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ استقاموا، ولكم مُتَعَلِّقٌ بِاسْتَقَامُوا، فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ الْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ انْتَهَى. فَكَانَ التَّقْدِيرُ فَأَيُّ: وَقْتٍ اسْتَقَامُوا فِيهِ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. وَإِنَّمَا جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً لِوُجُودِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَقِيمُوا، لِأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ الزَّمَانِيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْفَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمَصْدَرِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَتَجْزِمَ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ التَّكْمِيلِ، وَتَأَوَّلْنَا مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ. فَعَلَى قَوْلِهِ تَكُونُ زَمَانِيَّةً شَرْطِيَّةً: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، يَعْنِي أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ من أخلاق المتقين،
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ كَيْفَ تَأْكِيدٌ لِنَفْيِ ثَبَاتِهِمْ عَلَى الْعَهْدِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ بَعْدَهَا هُوَ مِنْ جِنْسِ أَقْرَبِ مَذْكُورٍ لَهَا، وَحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ فِي كَيْفَ السَّابِقَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: كيف لَهُمْ عَهْدٌ وَحَالُهُمْ هَذِهِ؟ وَقَدْ جَاءَ حَذْفُ الْفِعْلِ بَعْدَ كَيْفَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «١». وَقَالَ الشاعر:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى | فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ |
فَكَيْفَ وَلَمْ أَعْلَمْهُمْ خَذَلُوكُمْ | عَلَى مُعْظَمٍ وَأَنَّ أَدِيمَكُمْ قَدُّوا |
قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو مِجْلَزٍ: إِلٌّ اسْمُ اللَّهِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ وَعُرِّبَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ. أَبِي بَكْرٍ حِينَ سَمِعَ كَلَامَ مُسَيْلِمَةَ، فَقَالَ: هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: أَلًّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ فِعْلِ الْأَلِّ الَّذِي هُوَ الْعَهْدُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ: إِيلًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَيَاءٌ بَعْدَهَا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ اللَّهَ تَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إل أُبْدِلَ مِنْ أَحَدِ الْمُضَاعَفَيْنِ يَاءً، كَمَا قَالُوا فِي: إِمَّا إِيمَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
يا ليتما أمنا سالت نعامتها | أيما إلى جنة إِيمَا إِلَى نَارِ |
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٦٩.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: اشْتَرَوْا بِالْقُرْآنِ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ لَمَّا تَرَكَتْ دِينَ اللَّهِ وَآثَرَتِ الْكُفْرَ، كَانَ ذَلِكَ كَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى طَعَامِهِ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَآيَاتُ اللَّهِ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ الطَّائِفِ كَانُوا يَمُدُّونَ النَّاسَ بِالْأَمْوَالِ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أَيْ صَرَفُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَدَلُوا عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَاءَ هُنَا مُحَوَّلَةٌ إِلَى فِعْلٍ. ومذ هو بَابِهَا مَذْهَبُ بِئْسَ، وَيَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَى وَصْفِهَا الْأَوَّلِ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً أَيْ: أَنَّهُمْ سَاءَهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَحُذِفَ الْمَفْهُومُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى.
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْعَدَاوَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ «١» يُتَوَهَّمُ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، نَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ ذَلِكَ، وَأَنَّ سَبَبَ الْمُنَافَاةِ هُوَ الْإِيمَانُ، وَأُولَئِكَ أَيِ
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أَيْ فَإِنْ تَابُوا عَنِ الْكُفْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَإِخْوَانُكُمْ، أَيْ: فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَالْإِخْوَانُ، وَالْإِخْوَةُ جَمْعُ أَخٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ دِينٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِخْوَةَ تَكُونُ فِي النَّسَبِ، وَالْإِخْوَانَ فِي الصَّدَاقَةِ، فَقَدْ غَلَطَ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «١» وَقَالَ: أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ، وَعَلَّقَ حُصُولَ الْأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ عَلَى الِالْتِبَاسِ بِمَجْمُوعِ الثَّلَاثَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أَيْ نُبَيِّنُهَا وَنُوَضِّحُهَا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ، بَيْنَ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَابُوا، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ نَكَثُوا، بَعْثًا وَتَحْرِيضًا عَلَى تَأَمُّلِ مَا فَصَّلَ تَعَالَى مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَمَّلُ تَفْصِيلَهَا إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَيْ: وَإِنْ نَقَضُوا أَقْسَامَهُمْ من بعد ما تَعَاهَدُوا وَتَحَالَفُوا عَلَى أَنْ لَا يَنْكُثُوا. وَطَعَنُوا: أَيْ عَابُوهُ وَثَلَبُوهُ وَاسْتَنْقَصُوهُ. وَالطَّعْنُ هُنَا مَجَازٌ، وَأَصْلُهُ الْإِصَابَةُ بِالرُّمْحِ أَوِ الْعُودِ وَشَبَهِهِ، وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَيْبِ كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثِ إِمَارَةِ أُسَامَةَ: «إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ»
أَيْ عِبْتُمُوهَا وَاسْتَنْقَصْتُمُوهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّرْدِيدَ فِي الشَّرْطَيْنِ هُوَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ أَصْلًا، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، أَيْ رُؤَسَاءَ الْكُفْرِ وَزُعَمَاءَهُ. وَالْمَعْنَى: فَقَاتِلُوا الْكُفَّارَ، وَخَصَّ الْأَئِمَّةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ الْأَتْبَاعَ عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كُلُّ كَافِرٍ إِمَّامُ نَفْسِهِ، فَالْمَعْنَى فَقَاتِلُوا كُلَّ كَافِرٍ. وَقِيلَ: مَنْ أَقْدَمَ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ وَالطَّعْنِ فِي الدِّينِ صَارَ رَأْسًا فِي الْكُفْرِ، فَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَئِمَّةُ الْكُفْرِ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَحِينَ نَزَلَتْ كَانَ اللَّهُ قَدِ اسْتَأْصَلَ شَأْفَةَ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُرَادُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَغَيْرُهُمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِكَثِيرٍ. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لم يجىء هَؤُلَاءِ بَعْدُ، يُرِيدُ لَمْ يَنْقَرِضُوا فَهُمْ يَجِيئُونَ أَبَدًا وَيُقَاتِلُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
أَصْوَبُ مَا فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْنَى بِهَا مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الْأَمْرَ بِقِتَالِ أَئِمَّةِ الناكثين
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَهْدِ الْإِسْلَامُ، فَمَعْنَاهُ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. وَلِذَلِكَ قَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَإِنْ نَكَثُوا إِيمَانَهُمْ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ فَقَاتِلُوهُمْ، فَوَضَعَ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ، إِشْعَارًا بِأَنَّهُمْ إِذَا نَكَثُوا فِي حَالَةِ الشِّرْكِ تَمَرُّدًا وَطُغْيَانًا وَطَرْحًا لِعَادَاتِ الْكِرَامِ الْأَوْفِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ، ثُمَّ آمَنُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَصَارُوا إِخْوَانًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَنَكَثُوا مَا بَايَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَقَعَدُوا يَطْعَنُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُونَ لَيْسَ دِينُ مُحَمَّدٍ بِشَيْءٍ، فَهُمْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَذَوُو الرِّئَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِيهِ، لَا يَشُقُّ كَافِرٌ غُبَارَهُمْ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَب مَالِكٍ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا طَعَنَ فِي الدِّينِ فَفَعَلَ شَيْئًا مِثْلَ تَكْذِيبِ الشَّرِيعَةِ وَالسَّبِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوَهُ قُتِلَ.
وَقِيلَ: إِنْ أَعْلَنَ بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ مُعْتَقَدِهِ وَكُفْرِهِ أُدِّبَ عَلَى الْإِعْلَانِ وَتُرِكَ، وَإِنْ كَفَرَ بِمَا هُوَ لَيْسَ مِنْ مُعْتَقَدِهِ كَالسَّبِّ وَنَحْوِهِ قُتِلَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَتَابُ، وَاخْتُلِفَ إِذَا سَبَّ الذِّمِّيُّ ثُمَّ أَسْلَمَ تَقِيَّةَ الْقَتْلِ. فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُتْرَكُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَلَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُسْلِمِ.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو: بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ يَاءً. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَدُّ الْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ نَافِعٍ: بِهَمْزَتَيْنِ، وَأَدْخَلَ هِشَامٌ بَيْنَهُمَا أَلِفًا وَأَصْلُهُ أَأْمِمَةٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعِلَةٌ جَمْعُ إِمَامٍ، أَدْغَمُوا الْمِيمَ فِي الْمِيمِ فَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْهَمْزَةِ قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ لَفْظُ أَئِمَّةٍ؟ (قُلْتُ) : هَمْزَةٌ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، أَيْ بَيْنَ مَخْرَجِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ. وَتَحْقِيقُ الْهَمْزِ هِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْيَاءِ فَلَيْسَ بِقِرَاءَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ. وَمَنْ صَرَّحَ بِهَا فَهُوَ لَاحِنٌ مُحَرِّفٌ انْتَهَى. وَذَلِكَ دأبه في تلحين المقرءين. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ لَحْنًا وَقَدْ قَرَأَ بِهِ رَأْسُ الْبَصْرِيِّينَ النُّحَاةِ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، وَقَارِئُ مَكَّةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَارِئُ مَدِينَةِ الرسول ﷺ نَافِعٌ، وَنَفَى إِيمَانَهُمْ لَمَّا لَمْ يَثْبُتُوا عَلَيْهَا وَلَا وَفَّوْا بِهَا جُعِلُوا لَا أَيْمَانَ لَهُمْ، أَوْ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ الْوَصْفِ أَيْ: لَا أَيْمَانَ لَهُمْ يُوَفُّونَ بِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا إِيمَانَ لَهُمْ أَيْ لَا إِسْلَامَ وَلَا تَصْدِيقَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا غَيْرُ قَوِيٍّ،
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَلَا حَرْفُ عَرْضٍ، وَمَعْنَاهُ هُنَا الْحَضُّ عَلَى قِتَالِهِمْ. وَزَعَمُوا أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا النَّافِيَةِ، فَصَارَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْصِيصِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتِ الْهَمْزَةُ عَلَى تَقْرِيرٍ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُقَاتَلَةِ، وَمَعْنَاهَا: الْحَضُّ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَلَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِقَتْلِ أَهْلِ الْكُفْرِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ جَمَعُوهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ كَافٍ فِي الْحَضِّ عَلَى مُقَاتَلَتِهِمْ. وَمَعْنَى نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ: نَقَضَ الْعَهْدَ. قَالَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْكَلْبِيُّ:
نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ مَكَّةَ، نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ بَعْدَ عَهْدِ الْحُدَيْبِيَةَ، وَأَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ انْتَهَى.
وَهَمُّهُمْ هُوَ هَمُّ قُرَيْشٍ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ مِنْ مَكَّةَ حِينَ تَشَاوَرُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، أَوْ بَنُو بَكْرٍ بِإِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، أَوِ الْيَهُودُ، هَمُّوا بِغَدْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَأَعَانُوا الْمُنَافِقِينَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثلاثة أقوال أو لها لِلسُّدِّيِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ لِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَالْأَحْزَابِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ مِنْهُمُ الْبُدَاءَةُ بِالْمُقَاتَلَةِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُمْ أَوَّلًا بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ وَتَحَدَّاهُمْ بِهِ، فَعَدَلُوا عَنِ الْمُعَارَضَةِ لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا إِلَى الْقِتَالِ، فَهُمُ الْبَادِئُونَ، وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ، فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُقَاتِلُوهُمْ بِمِثْلِهِ تَصْدِمُونَهُمْ بِالشَّرِّ كَمَا صَدَمُوكُمْ؟ وَبَّخَهُمْ بِتَرْكِ مُقَاتَلَتِهِمْ، وَحَضَّهُمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْحَضَّ عَلَيْهَا. وَتَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي مِثْلِ صِفَاتِهِمْ مِنْ نَكْثِ الْعُهُودِ وَإِخْرَاجِ الرسول
الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ تَكْثِيرٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوَّلَ مَرَّةٍ. قِيلَ: يُرِيدُ أَفْعَالَهُمْ بِمَكَّةَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَدَأَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنْ مَعُونَةِ بَنِي بَكْرٍ حُلَفَائَهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ حُلَفَاءِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ هَذَا بَدْءَ النَّقْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَعْنِي فِعْلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ انْتَهَى.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بَدَوْكُمْ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ مِنْ بَدَأْتُ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، كَمَا قَالُوا فِي قَرَأْتُ: قَرَيْتُ، فَصَارَ كَرَمَيْتُ. فَلَمَّا أُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى وَاوِ الضَّمِيرِ سَقَطَتْ، فَصَارَ بَدَوْكُمْ كَمَا تَقُولُ: رَمَوْكُمْ. أَتَخْشَوْنَهُمْ تَقْرِيرٌ لِلْخَشْيَةِ مِنْهُمْ، وَتَوْبِيخٌ عَلَيْهَا. فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فَتَقْتُلُوا أَعْدَاءَهُ. وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأٌ وخبره أحق، وأن تَخْشَوْهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ:
وَخَشْيَةُ اللَّهِ أَحَقُّ مِنْ خَشْيَتِهِمْ وَأَنْ تَخْشَوْهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ على الْخِلَافِ إِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ، وَتَقْدِيرُهُ: بِأَنْ تَخْشَوْهُ أَيْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ تَخْشَوْهُ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ أَنْ تَخْشَوْهُ مُبْتَدَأً، وَأَحَقُّ خَبَرُهُ قُدِّمَ عَلَيْهِ. وَأَجَازَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ أَحَقُّ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ أَنْ تَخْشَوْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. وَحَسُنَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِأَنَّهَا أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ، وَقَدْ أَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْمَعْرِفَةُ خَبَرًا لِلنَّكِرَةِ فِي نَحْوِ: اقْصِدْ رَجُلًا خَيْرٌ مِنْهُ أَبُوهُ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ كَامِلِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَعْنِي أَنَّ قَضِيَّةَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَخْشَى الْمُؤْمِنُ إِلَّا رَبَّهُ وَلَا يُبَالِي بِمَنْ سِوَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ «١».
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَرَّرَتِ الْآيَاتُ قَبْلَ هَذَا أَفْعَالَ الْكَفَرَةِ الْمُقْتَضِيَةَ لِقِتَالِهِمْ، وَالْحَضَّ عَلَى الْقِتَالِ، وَحَرُمَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ فِي هَذِهِ، وَتَعْذِيبُهُمْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ هُوَ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ، وَهَذِهِ وُعُودٌ ثَبَّتَتْ قُلُوبَهُمْ وَصَحَّحَتْ نِيَّاتِهِمْ، وَخِزْيُهُمْ هُوَ إِهَانَتُهُمْ وَذُلُّهُمْ، وَيَنْصُرْكُمْ يُظْفِرُكُمْ بِهِمْ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ بِإِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَتَعْذِيبِ الْكُفَّارِ وَخِزْيِهِمْ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَشْفِ بِالنُّونِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ لِيَشْمَلَ الْمُخَاطَبِينَ وَكُلَّ مُؤْمِنٍ، لِأَنَّ مَا يُصِيبُ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخِزْيِ هُوَ شِفَاءٌ لِصَدْرِ كُلِّ مُؤْمِنٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ قَوْمٌ مُعَيَّنُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ بُطُونٌ مِنَ الْيَمَنِ وَسَبَأٍ قَدِمُوا مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا، فَلَقُوا مِنْ أَهْلِهَا أَذًى شَدِيدًا، فَبَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون إليه
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ خُزَاعَةُ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ نُقِضَ فِيهِمُ الْعَهْدُ وَنَالَتْهُمُ الْحَرْبُ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ فِي خُزَاعَةَ مُؤْمِنُونَ كَثِيرٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْخُزَاعِيِّ الْمُسْتَنْصِرِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ثَمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا وَفِي آخِرِ الرَّجَزِ:
وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا وَإِذْهَابُ الْغَيْظِ بِمَا نَالَ الْكُفَّارَ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالتَّأْكِيدِ لِلَّتِي قَبْلَهَا، لِأَنَّ شِفَاءَ الصَّدْرِ مِنْ آلَةِ الْغَيْظِ هُوَ إِذْهَابُ الْغَيْظِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: وَيَذْهَبُ فِعْلًا لَازِمًا غَيْظُ فَاعِلٌ بِهِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ الْبَاءَ. وَهَذِهِ الْمَوَاعِيدُ كُلُّهَا وُجِدَتْ، فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة نبوته وبدىء أَوَّلًا فِيهَا بِمَا تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ وَهُوَ تَعْذِيبُ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَإِخْزَاؤُهُمْ، إِذَا كَانَتِ الْبُدَاءَةُ بِمَا يَنَالُ الْكُفَّارَ مِنَ الشَّرِّ هِيَ الَّتِي يُسَرُّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ السَّبَبُ وَهُوَ نَصْرُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ أَيْضًا عَنِ النَّصْرِ مِنْ شِفَاءِ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِذْهَابِ غَيْظِهِمْ تَتْمِيمًا لِلنِّعَمِ، فَذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ عَنِ النَّصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ، وَذَكَرَ مَا تَسَبَّبَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِإِدْرَاكِ الثَّأْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ وَالْمَطَاعِمِ، إِذِ الْعَرَبُ قَوْمٌ جُبِلُوا عَلَى الْحَمِيَّةِ وَالْأَنَفَةِ، فَرَغْبَتُهُمْ فِي إِدْرَاكِ الثَّأْرِ وَقَتْلِ الْأَعْدَاءِ هِيَ اللَّائِقَةُ بِطِبَاعِهِمْ.
إِنَّ الْأُسُودَ أُسُودَ الْغَابِ هِمَّتُهَا | يَوْمَ الْكَرِيهَةِ فِي الْمَسْلُوبِ لَا السَّلَبِ |
وَهَذَا أَمْرٌ مَوْجُودٌ سَوَاءٌ قُوتِلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتَلُوا، فَلَا وَجْهَ لِإِدْخَالِ الْيَوْمَ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ الَّذِي فِي قَاتِلُوهُمْ انْتَهَى. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْأَعْرَجُ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ قَائِدٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمَا: وَيَتُوبَ اللَّهُ بِنَصْبِ الْبَاءِ، جَعَلَهُ دَاخِلًا فِي جَوَابِ الْأَمْرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى. قِيلَ: وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ دَاخِلَةً فِي الْجَزَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَوَجَّهُ ذَلِكَ عِنْدِي إِذَا ذُهِبَ إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ يُرَادُ بِهَا أَنَّ قَتْلَ الْكَافِرِينَ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ تَوْبَةٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَكَمَالٌ لِإِيمَانِكُمْ، فَتَدْخُلُ التَّوْبَةُ عَلَى هَذَا فِي شَرْطِ الْقِتَالِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْمُقَاتَلَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ، فَإِذَا
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تُتْرَكُونَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْخُلَّصُ مِنْكُمْ وَهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَلَمْ يَتَّخِذُوا مَعْطُوفٌ عَلَى جَاهَدُوا. غَيْرَ مُتَّخِذِينَ وَلِيجَةً، وَالْوَلِيجَةُ فَعَيْلَةٌ مِنْ وَلَجَ كَالدَّخِيلَةِ مِنْ دَخَلَ، وَهِيَ الْبِطَانَةُ.
وَالْمُدْخَلُ يُدْخَلُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِسْرَارِ، شُبِّهَ النِّفَاقُ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَلِيجَةُ الْخِيَانَةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْخَدِيعَةُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَوْدَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ شَيْءٍ أَدْخَلْتَهُ فِي شَيْءٍ وَلَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ وَلِيجَةٌ، وَالرَّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَلِيجَةٌ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَلِيجَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَخْتَصُّ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَجَمْعُهَا وَلَائِجُ وَوُلُجٌ، كَصَحِيفَةٍ وَصَحَائِفَ وَصُحُفٍ. وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ صَفْوَانَ الْغَنَوِيُّ:
وَلَائِجُهُمْ فِي كُلِّ مَبْدًى وَمَحْضَرٍ | إِلَى كُلِّ مَنْ يُرْجَى وَمَنْ يَتَخَوَّفُ |
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ مُنَاسَبَةً لِقَوْلِهِ: أَمْ حَسِبْتُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ رُوَيْسٍ وَسَلَّامٌ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا.
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَرَأَ ابْنُ السميفع: أَنْ يُعْمِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، أَنْ يُعِينُوا عَلَى عِمَارَتِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْجَحْدَرِيُّ: مَسْجِدٌ بِالْإِفْرَادِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ وَشَيْبَةُ بِالْجَمْعِ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْوَاعًا مِنْ قَبَائِحِهِمْ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، ذَكَرُوا أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ تُوجِبُ انْتِفَاءَ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا كَوْنُهُمْ عَامِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
رُوِيَ أَنَّهُ أَقْبَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَلَى أُسَارَى بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، وَطَفِقَ عَلِيٌّ يُوَبِّخُ الْعَبَّاسَ، فَقَالَ الرَّسُولُ: وا قطيعة الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تُظْهِرُونَ مَسَاوِينَا، وَتَكْتُمُونَ مَحَاسِنَنَا؟ فَقَالَ: أو لكم مَحَاسِنُ؟ قَالُوا:
نَعَمْ، وَنَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ أَجْرًا، إِنَّا لَنَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ.
وَمَعْنَى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ: أَيْ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَإِلَّا فَقَدَ عَمَرُوهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ مَا صَحَّ وَمَا استقام انتهى. وعمارته وحوله وَالْقُعُودُ فِيهِ وَالْمُكْثُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَعْمُرُ الْمَسْجِدَ أَيْ يُكْثِرُ غَشَيَانَهُ، أَوْ رَفْعَ بِنَائِهِ، وَإِصْلَاحَ مَا تَهَدَّمَ مِنْهُ، أَوِ التَّعَبُّدَ فِيهِ، وَالطَّوَافَ بِهِ.
وَالصَّلَاةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِفْرَادِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لِقَوْلِهِ: وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَوِ الْجِنْسُ فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، إِذْ هُوَ صَدْرُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مُقَدِّمَتُهُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالْجَمْعِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَكَانٍ مِنْهُ مَسْجِدٌ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا وَإِمَامُهَا، فَكَانَ عَامِرُهُ عَامِرَ الْمَسَاجِدِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَهُوَ آكَدُ، لِأَنَّ طَرِيقَتَهُ طَرِيقَةُ الْكِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُلْتَ: فُلَانٌ لَا يَقْرَأُ كُتُبَ اللَّهِ، كُنْتَ أَنْفَى لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ تَصْرِيحِكَ
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شَاهِدُونَ عَلَى إضمارهم شَاهِدُونَ، وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ قَوْلُهُمْ فِي الطَّوَافِ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. أَوْ قَوْلُهُمْ إِذَا سُئِلُوا عَنْ دِينِهِمْ: نَعْبُدُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، أَوْ تَكْذِيبُهُمُ الرَّسُولَ، أَوْ قَوْلُ الْمُشْرِكِ: أَنَا مُشْرِكٌ كَمَا يَقُولُ الْيَهُودِيُّ: هُوَ يَهُودِيٌّ، وَالنَّصْرَانِيُّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَالْمَجُوسِيُّ هُوَ مَجُوسِيٌّ، والصابىء هو صابىء، أَوْ ظُهُورُ أَفْعَالِ الْكَفَرَةِ مِنْ نَصْبِ أَصْنَامِهِمْ وَطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ أَقْوَالٌ خَمْسَةٌ، هَذَا إِذَا حُمِلَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ شَاهِدِينَ عَلَى رَسُولِهِمْ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّهُ مَا مِنْ بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُ فِيهِمْ وِلَادَةٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ عَلَى أَنْفَسِهِمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ أَشْرَفِهُمْ وَأَجَلِّهُمْ قَدْرًا.
أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الَّتِي هِيَ الْعِمَارَةُ وَالْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَفَكُّ الْعُنَاةُ وَغَيْرُهَا مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَمِيدَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذَا هَدَمَ الْكُفْرُ أَوِ الْكَبِيرَةُ الْأَعْمَالَ الثَّابِتَةَ الصَّحِيحَةَ إِذَا تَعَقَّبَهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِالْمُقَارِنِ؟ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
شاهِدِينَ «١» حَيْثُ جَعَلَهُ حَالًا عَنْهُمْ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَارِنُونِ بَيْنَ الْعِمَارَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْكُفْرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: أَوِ الْكَبِيرَةُ، دَسِيسَةُ اعْتِزَالٍ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ.
وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ذَكَرَ مَآلَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ النَّارُ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِالْيَاءِ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، وَفِي النَّارِ هُوَ الْخَبَرُ. كَمَا تقول: في الدار زيد قَاعِدًا. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَمْنُوعُونَ مِنْ عِمَارَةِ مَسْجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أَوْصَى لَمْ تُقْبَلْ وَصِيَّتُهُ، وَيُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنِ مُسْلِمٍ اسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ، وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنٍ لم يعزر، والأولى تعظم الْمَسَاجِدِ وَمَنْعُهَا مِنْهُمْ. وَقَدْ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ ثَقِيفَ وَهُمْ كُفَّارٌ الْمَسْجِدَ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ كَافِرٌ.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ»
وَلَمْ يُذْكَرِ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إِنَّمَا هُوَ مُتَلَقَّفٌ مِنْ أَخْبَارِ الرَّسُولِ، فَيَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ. أَوْ لَمْ يُذْكَرْ لِمَا عُلِمَ وَشُهِرَ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَرِينَتُهُ الْإِيمَانُ بالرسول، لِاشْتِمَالِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَغَيْرِهَا عَلَيْهِمَا مُقْتَرِنَيْنِ مُزْدَوِجَيْنِ، كَأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَنْفِكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، فَانْطَوَى تَحْتَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: دَلَّ عَلَيْهِ بِذِكْرِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَا يُتَلَقَّى ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَعِمَارَتِهَا هُوَ كَوْنُهَا مُجْتَمَعًا لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا وَالتَّعَبُّدَاتِ مِنَ الذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِهِمَا، وَنَاسَبَ ذِكْرُ إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَجْمَعًا لِلنَّاسِ بَانَ فِيهَا أَمْرُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَعُرِفَتْ أَحْوَالُ مَنْ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ خَشْيَةَ التَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَخْشَى غَيْرَهُ، وَيَخْشَى الْمَحَاذِيرَ الدُّنْيَوِيَّةَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْشَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَضَاءَ اللَّهَ وَتَصْرِيفَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى فِي أَبْوَابِ الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَخْتَارَ عَلَى رِضَا اللَّهِ رِضَا غيره، وإذا اعترضه أمر أن أَحَدُهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْآخَرُ حَقُّ نَفْسِهِ، خَافَ اللَّهَ وَآثَرَ حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَخْشَوْنَ الْأَصْنَامَ وَيَرْجُونَهَا، فَأُرِيدَ نَفْيُ تِلْكَ الْخَشْيَةِ عَنْهُمُ انْتَهَى. وَعَسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ حَيْثُمَا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي ذَلِكَ قَطْعُ أَطْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ إِذْ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِصَالَ الْأَرْبَعَةَ جُعِلَ حَالُهُ حَالَ مَنْ تُرْجَى لَهُ الْهِدَايَةُ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ عَارٍ مِنْهَا: وَفِي ذَلِكَ تَرْجِيحُ الْخَشْيَةِ عَلَى الرَّجَاءِ، وَرَفْضُ الِاغْتِرَارِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَرُبَّمَا دَخَلَهَا بَعْضُ الْمُفْسِدَاتِ وَصَاحِبُهَا لَا يَشْعُرُ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَيْ: مِنَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، بَلْ جُعِلُوا بَعْضًا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وَكَوْنُهُمْ مِنْهُمْ أَقَلَّ فِي التَّعْظِيمِ مِنْ أَنْ يُجَرَّدَ لَهُمُ الْحُكْمُ بِالْهِدَايَةِ.
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رسول الله ﷺ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ. وَقَالَ الْآخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِّي إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَقَوْلُهُ أَقْوَالًا أُخَرَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى الِافْتِخَارِ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: سِقَايَةَ وَعِمَارَةَ وَهُمَا مَصْدَرَانِ نَحْوُ الصِّيَانَةِ وَالْوِقَايَةِ وَقُوبِلَا بِالذَّوَاتِ، فَاحْتِيجَ إِلَى حَذْفٍ مِنَ الْأَوَّلِ أَيْ: أَهْلَ سِقَايَةِ، أَوْ حَذْفٍ مِنَ الثَّانِي أَيْ: كَعَمَلِ مَنْ آمَنَ.
وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْبَاقِرُ وَأَبُو حَيْوَةَ: سَقَاةَ الْحَاجِّ، وَعَمَرَةَ الْمَسْجِدِ
، جَمْعُ سَاقٍ وَجَمْعُ عَامِرٍ كَرَامٍ وَرُمَاةٍ وَصَانِعٍ وَصَنَعَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ الْمَسْجِدَ عَلَى إِرَادَةِ التَّنْوِينِ فِي عَمَرَةً. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: سُقَايَةَ بِضَمِّ السِّينِ، وَعِمْرَةَ بُنِيَ الْجَمْعُ عَلَى فِعَالٍ كَرِخْلٍ وَرُخَالٍ، وَظِئْرٍ وَظُؤَارٍ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ هَاءٍ، لَكِنَّهُ أَدْخَلَ الْهَاءَ كَمَا دَخَلَتْ فِي حِجَارَةٍ.
وَكَانَتِ السِّقَايَةُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّاهَا،
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إِلَّا أَتْرُكُ السِّقَايَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «أَقِيمُوا عَلَيْهَا فَهِيَ لَكُمْ خَيْرٌ» وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ هِيَ السدانة، وكانت فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَشَيْبَةُ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ هُمَا اللَّذَانِ دَفَعَ إِلَيْهِمَا رسول الله ﷺ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فِي ثَامِنِ يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ وَشَيْبَةَ: «خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يُنَازِعُكُمَا عَلَيْهَا إِلَّا ظَالِمٌ»
يَعْنِي السِّدَانَةَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْكَارُ أَنْ يُشَبَّهَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالُهُمُ الْمُحْبَطَةُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُثَبِّتَةِ. وَلَمَّا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا أَوْضَحَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، مِنَ الرَّاجِحِ مِنْهُمَا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ هُمُ الظَّالِمُونَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، وَظَلَمُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِذْ جَعَلَهُ الله متعبدا له فَجَعَلُوهُ مُتَعَبَّدًا لِأَوْثَانِهِمْ. وَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ إِثْبَاتَ الْهِدَايَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ «١» وَفِي الْمُشْرِكِينَ هُنَا نَفَى الْهِدَايَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين.
فشركما لخير كما الْفِدَاءُ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَظِيمُونَ درجة. وعند اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «٢» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَرْوَاحُ الْمُقَدَّسَةُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا تَطَهَّرَتْ عَنْ دَنَسِ الْأَوْصَافِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ أَشْرَقَتْ بأنوار الجلال وغلا فِيهَا أَضْوَاءُ عَالَمِ الْجَمَالِ، وَتَرَقَّتْ مِنَ الْعَبْدِيَّةِ إِلَى الْعِنْدِيَّةِ، بَلْ كَأَنَّهُ لَا كَمَالَ فِي الْعَبْدِيَّةِ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «٣» انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُوَ الْفَائِزُ الظَّافِرُ بِأُمْنِيَتِهِ، النَّاجِي مِنَ النَّارِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً انْتَهَى، وَأُسْنِدَ التَّبْشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبُّهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَالِكَ أَمْرِهِمْ وَالنَّاظِرَ فِي مَصَالِحِهِمْ هُوَ الَّذِي يُبَشِّرُهُمْ، فَذَلِكَ عَلَى تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِمْ لِرَبِّهِمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَوْصَافُ الَّتِي تَحَلَّوْا بِهَا وَصَارُوا بِهَا عَبِيدَهَ حَقِيقَةً هِيَ ثَلَاثَةٌ: الْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، قُوبِلُوا فِي التَّبْشِيرِ بِثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ، وَالرِّضْوَانِ، وَالْجَنَّاتِ. فَبَدَأَ بِالرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا الْوَصْفُ الْأَعَمُّ النَّاشِئُ عَنْهَا تَيْسِيرُ الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَثَنَّى بِالرِّضْوَانِ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ مِنْ إِحْسَانِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجِهَادِ، إِذْ هو
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٩.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا كَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ بَاعَدْتَنَا عَنْ نَارِكَ وَأَدْخَلْتَنَا جَنَّتَكَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: وَمَا أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهَا» وَأَتَى ثَالِثًا بِقَوْلِهِ: وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
، أَيْ دَائِمٌ لَا يَنْقَطِعُ. وَهَذَا مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ «وَهَاجَرُوا» «١» لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أوطانهم التي نشأوا فِيهَا وَكَانُوا فِيهَا مُنَعَّمِينَ، فَآثَرُوا الْهِجْرَةَ عَلَى دَارِ الْكُفْرِ إِلَى مُسْتَقَرِّ الْإِيمَانِ وَالرِّسَالَةِ، فَقُوبِلُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْجَنَّاتِ ذَوَاتِ النَّعِيمِ الدَّائِمِ، فَجَاءَ التَّرْتِيبُ فِي أَوْصَافِهِمْ عَلَى حَسَبِ الْوَاقِعِ: الْإِيمَانُ، ثُمَّ الْهِجْرَةُ، ثُمَّ الْجِهَادُ. وَجَاءَ التَّرْتِيبُ فِي الْمُقَابِلِ عَلَى حَسَبِ الْأَعَمِّ، ثُمَّ الْأَشْرَفِ، ثُمَّ التَّكْمِيلِ. قَالَ التَّبْرِيزِيُّ: وَنَكَّرَ الرَّحْمَةَ وَالرِّضْوَانَ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ. بِرَحْمَةٍ أَيْ: رَحْمَةٍ لَا يَبْلُغُهَا وَصْفُ وَاصِفٍ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: يَبْشُرُهُمْ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الشِّينِ خَفِيفَةً. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: وَرُضْوَانٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَالضَّادِ مَعًا. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ هَذَا انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، فَقَدْ قَالَتِ الْعَرَبُ: سُلُطَانٌ بِضَمِّ اللَّامِ، وَأَوْرَدَهُ التَّصْرِيفِيُّونَ فِي أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْ آمَنَ لَمْ يَتِمَّ إِيمَانُهُ إِلَّا بِأَنْ يُهَاجِرَ وَيُصَادِمَ أَقَارِبَهُ الْكَفَرَةَ وَيَقْطَعُ مُوَالَاتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ نَحْنُ اعْتَزَلْنَا مَنْ يُخَالِفُنَا فِي الدِّينِ قَطَعْنَا آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَعَشَائِرَنَا، وَذَهَبَتْ كَادَتُنَا وَهَلَكَتْ أَمْوَالُنَا، وَخَرِبَتْ دِيَارُنَا، وَبَقِينَا ضَائِعِينَ، فَنَزَلَتْ. فَهَاجَرُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ ابْنُهُ أَوْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يُنْزِلُهُ وَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رُخِّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا بمكة وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ خُوطِبُوا أَنْ لَا يُوَالُوا الْآبَاءَ وَالْإِخْوَةَ، فَيَكُونُوا لَهُمْ تَبَعًا فِي سُكْنَى بِلَادِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي التِّسْعَةِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ. وَذَكَرَ الْآبَاءَ وَالْإِخْوَانَ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَبْنَاءَ لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ تَبَعٌ لآبائهم.
بِمَعْنَى أَحَبَّ. وَضُمِّنَ مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِعَلَى. وَلَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ أُخْبِرَ أَنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مُشْرِكٌ مِثْلُهُمْ، لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِالشِّرْكِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ظُلْمُ الْمَعْصِيَةِ لَا ظُلْمُ الْكُفْرِ.
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ الْأَبْنَاءُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَحَبَّةَ، وَهُمْ أَعْلَقُ بِالنَّفْسِ، بِخِلَافِ الْآيَةِ قَبْلَهَا فَلَمْ يُذْكَرُوا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ. وَقَدَّمَ الْآبَاءَ لِأَنَّهُمُ الَّذِي يَجِبُ بِرُّهُمْ وَإِكْرَامُهُمْ وَحُبُّهُمْ، وَثَنَّى بِالْأَبْنَاءِ لِكَوْنِهِمْ أَعْلَقَ بِالْقُلُوبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ ذَكَرَ الْحَاشِيَةَ وَهِيَ الْإِخْوَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَهُنَّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْإِيثَارِ كَالْأَبْنَاءِ، ثُمَّ الْأَبْعَدَ بَعْدَ الْأَقْرَبِ فِي الْقَرَابَةِ فَقَالَ:
وَعَشِيرَتُكُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
بِأَلْفٍ عَلَى الْجَمْعِ. وَزَعَمَ الْأَخْفَشُ أَنَّ الْعَرَبَ تَجْمَعُ عَشِيرَةً عَلَى عَشَائِرَ، وَلَا تَكَادُ تَقُولُ عَشِيرَاتٌ بِالْجَمْعِ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا أَيِ اكْتَسَبْتُمُوهَا، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ يُعَادِلُ حُبُّهَا حُبَّ الْقَرَابَةِ، بَلْ حُبُّهَا أَشَدُّ، كَانَتِ الْأَمْوَالُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَزِيزَةً، وَأَكْثَرُ النَّاسِ كَانُوا فُقَرَاءَ. ثُمَّ ذَكَرَ: وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا، وَالتِّجَارَةُ لَا تَتَهَيَّأُ إِلَّا بِالْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ تَعَالَى التِّجَارَةَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْأَمْوَالِ وَنَمَائِهَا. وَتَفْسِيرُ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِأَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَنَاتِ اللَّوَاتِي لَا يَتَزَوَّجْنَ لِقِلَّةِ خُطَّابِهِنَّ، تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ يَنْبُو عَنْهُ اللَّفْظُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَسَدْنَ مِنَ الْفَقْرِ فِي قَوْمِهِنَّ | وَقَدْ زَادَهُنَّ مَقَامِي كُسُودَا |
وَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ بِالتَّرَبُّصِ التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ:
الْإِشَارَةُ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَذَابٍ أَوْ عُقُوبَةٍ مِنَ اللَّهِ، والفاسقين عُمُومٌ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِيمَنْ تَوَافَى عَلَى فِسْقِهِ، أَوْ عُمُومٌ مُطْلَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا هِدَايَةَ مِنْ حَيْثُ الْفِسْقُ، وَفِي التَّحْرِيرِ الْفِسْقُ هُنَا الْكُفْرُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَابَلَهُ مِنَ الْهِدَايَةِ. وَالْكُفْرُ ضَلَالٌ، وَالضَّلَالُ ضِدُّ الْهِدَايَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا، فَيَكُونُ الْفِسْقُ الْخُرُوجَ عَنِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَا أَمْرَ رَسُولِهِ فِي الْهِجْرَةِ.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ «١» وَاسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا اسْتَطْرَدَ ذَكَّرَهُمْ تَعَالَى نَصْرَهُ إِيَّاهُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَالْمَوَاطِنُ مَقَامَاتُ الْحَرْبِ وَمَوَاقِفُهَا. وَقِيلَ: مَشَاهِدُ الْحَرْبِ تُوَطِّنُونَ أَنْفُسَكُمْ فِيهَا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَهِيَ جَمْعُ مَوْطِنٍ بِكَسْرِ الطَّاءِ قَالَ:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى | بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوَى |
وَوُصِفَتْ بِالْكَثْرَةِ لِأَنَّ أَئِمَّةَ التَّارِيخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَغَازِي نَقَلُوا أَنَّهَا كَانَتْ ثَمَانِينَ مَوْطِنًا. وَحُنَيْنٌ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْمَجَازِ. وَصُرِفَ مذ هو بابه مَذْهَبَ الْمَكَانِ، وَلَوْ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْبُقْعَةِ لَمْ يُصْرَفْ كَمَا قَالَ:
نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ وَشَدُّوا أَزْرَهُ | بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكَلَ الْأَبْطَالُ |
وَنُقِلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاءَهُ كَلَامُ هَذَا الْقَائِلِ، وَوُكِلُوا إِلَى كَلَامِ الرَّجُلِ.
وَالْكَثْرَةُ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَيُجْمَعُ عَلَى كَثْرَاتٍ. وَتَمِيمٌ تَكْسِرُ الْكَافَ، وَتُجْمَعُ عَلَى كُثُرٍ كَشَذْرَةٍ وَشُذُرٍ، وَكَسْرَةٍ وَكُسُرٍ، وَهَذِهِ الْكَثْرَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنِ النَّحَّاسِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيِّ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَعَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا وَخَمْسُمِائَةٍ. وَالْبَاءُ فِي بِمَا رَحُبَتْ لِلْحَالِ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ:
ضَاقَتْ بِكُمُ الْأَرْضُ مَعَ كَوْنِهَا رَحْبًا وَاسِعَةً لِشِدَّةِ الْحَالِ عَلَيْهِمْ وَصُعُوبَتِهَا كَأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَكَانًا يَسْتَصْلِحُونَهُ لِلْهَرَبِ وَالنَّجَاةِ لِفَرْطِ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الرُّعْبِ، فَكَأَنَّهَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ.
وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، وَبِفَتْحِ الرَّاءِ الْوَاسِعُ. يُقَالُ: فُلَانٌ رَحْبُ الصَّدْرِ، وَبَلَدٌ رَحْبٌ، وَأَرْضٌ رَحْبَةٌ، وَقَدْ رَحُبَتْ رَحْبًا وَرَحَابَةً. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِمَا رَحْبَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِسُكُونِ الْحَاءِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يُسَكِّنُونَ ضَمَّةَ فَعُلَ فَيَقُولُونَ فِي ظَرُفَ ظَرْفَ. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ:
وَلَّيْتُمْ فَارِّينَ عَلَى أَدْبَارِكُمْ مُنْهَزِمِينَ تَارِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَسْنَدَ التَّوَلِّي إِلَى جَمِيعِهِمْ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ أَكْثَرِهِمْ، إِذْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ مِنَ الْأَبْطَالِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ كَانَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ أَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ فَصَارُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَا انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ سُلَيْمٍ، وَبَنِي كِلَابٍ، وَعَبْسٍ، وَذُبْيَانَ، وَسَمِعَ بِذَلِكَ كُفَّارُ الْعَرَبِ فَشَقَّ عليهم، فجمعت له هوزان وَأَلْفَافُهَا وَعَلَيْهِمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَثَقِيفُ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ أَخْلَاطٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى كَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا تَصَافَّ النَّاسُ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ من مجاني الْوَادِي وَكَانَ قَدْ كَمَنُوا بِهَا، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَيُقَالُ إِنَّ الطُّلَقَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرُّوا وَقَصَدُوا إِلْقَاءَ الْهَزِيمَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَ فَلُّهُمْ مَكَّةَ، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرْكَزِهِ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تُسَمَّى دُلْدُلَ لَا يَتَخَلْخَلُ، وَالْعَبَّاسُ قَدِ اكْتَنَفَهُ آخِذًا بِلِجَامِهَا، وَابْنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَرْثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَرْثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ أَيْمَنُ ابْنِ أُمِّ أيمن، وقتل بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَثَبَتَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَكَانُوا عَشَرَةَ رِجَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْعَبَّاسُ:
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةٌ | وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ مِنْهُمْ وأقشعوا |
وعاشرنا لا قى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ | بِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ |
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: أَنَّ هَوَازِنَ كَانُوا رُمَاةً فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُودُ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ:
«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ اللَّهُمَّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ» قَالَ الْبَرَاءُ: كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنّ الشجاع منا الذي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ: «أكنتم وليتم يوم حنين يا أَبَا عُمَارَةَ؟» فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّكِينَةُ: النَّصْرُ الَّذِي سَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الزمخشري: رَحْمَتُهُ الَّتِي سَكَنُوا بِهَا. وقيل: الوقار وَالثَّبَاتُ بَعْدَ الِاضْطِرَابِ وَالْقَلَقِ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ ثابت الجأش ساكنه، وعلى الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ شُمُولُ مَنْ فَرَّ وَمَنْ ثَبَتَ. وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْصَارُ إِذْ هُمُ الَّذِينَ كَرُّوا وَرَدُّوا الْهَزِيمَةَ. وَقِيلَ: مَنْ ثَبَتَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حَالَةَ فَرَّ النَّاسَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سِكِّينَتَهُ بِكَسْرِ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ مُبَالَغَةً فِي السَّكِينَةِ. نَحْوُ شِرِّيبٍ وَطِبِّيخٍ.
وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها هُمُ الْمَلَائِكَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِعَدَدِهِمْ.
فَقَالَ الْحَسَنُ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ثَمَانِيَةُ آلَافٍ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: خَمْسَةُ آلَافٍ.
وَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ:
حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ يوم حنين قال: لَمَّا كَشَفْنَا الْمُسْلِمِينَ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ، فَلَمَّا
وَالظَّاهِرُ انْتِفَاءُ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْخِطَابَ هُوَ لَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي النَّضِيرِ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْقِتَالِ: أَيْنَ الْخَيْلُ الْبُلْقُ وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَيْهَا بِيضٌ مَا كُنَّا فِيهِمْ إِلَّا كَهَيْئَةِ الشَّامَةِ، وَمَا كَانَ قَتْلُنَا إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ؟ فَأَخْبَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ».
وَقِيلَ: لَمْ تَرَوْهَا، نَفَى عَنِ الْجَمِيعِ، وَمَنْ رَأَى بَعْضَهُمْ لَمْ يَرَ كُلَّهُمْ.
وَقِيلَ: لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُمْ يُلْقُونَ التَّثْبِيتَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالرُّعْبَ وَالْجُبْنَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَامِرٍ: كَانَ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلُ ضَرْبَةِ الْحَجَرِ فِي الطَّسْتِ مِنَ الرُّعْبِ.
وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أَيْ بِالْقَتْلِ الَّذِي اسْتَحَرَّ فِيهِمْ، وَالْأَسْرِ لِذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَالنَّهْبِ لِأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَ السَّبْيُ أَرْبَعَةَ آلَافِ رَأْسٍ. وَقِيلَ: سَتَّةَ آلَافٍ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا سِوَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنَ الْغَنَمِ، وَقَسَّمَهَا الرَّسُولُ بِالْجِعْرَانَةِ، وَفِيهَا قِصَّةُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَشِعْرُهُ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ قَدْ أَخْرَجَ النَّاسَ لِلْقِتَالِ وَالذَّرَارِيَّ لِيُقَاتِلُوا عَلَيْهَا، فَخَطَّأَهُ فِي ذَلِكَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ قَالَ: هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قُتِلَ دُرَيْدٌ الْقِتْلَةَ الْمَشْهُورَةَ، قَتَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ السَّلَمِيُّ وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الدِّغِنَةِ.
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ بَقِيَ مِنَ الْكُفَّارِ لِلْإِسْلَامِ، وَوَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ كَمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّضْرِيِّ رَئِيسِ هَوَازِنَ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ جاؤوا فَبَايَعُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ خَيْرُ النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَقَدْ سُبِيَ أَهْلُونَا وَأَوْلَادُنَا وَأُخِذَتْ أَمْوَالُنَا، وَكَانَ سَبْيُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ آلَافِ نَفْسٍ، وَأُخِذَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ مَا لَا يُحْصَى، فَقَالَ: «إِنْ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ، اخْتَارُوا إِمَّا ذَرَارِيَّكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَإِمَّا أَمْوَالَكُمْ» فَقَالُوا: مَا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا. وَتَمَامُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إِلَّا امْرَأَةً وَقَعَ عَلَيْهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمْ يَرُدَّهَا.
أَخْبَرَنَا الْقَاضِي الْعَالِمُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي الْأَحْوَصِ الْقُرَشِيُّ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ بِمَدِينَةِ مَالِقَةَ. قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِيقَى بْنِ حَبْلَةَ الْخَزْرَجَيُّ بَاوُو بولَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ (ح) وَأَخْبَرَنَا أُسْتَاذُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الزُّبَيْرِ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ قَالَ التَّنُوخِيُّ عَنْ زِيَادٍ أَنْبَأَنَا زُهَيْرُ أَبُو جَنْدَلٍ وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا صُرَدٍ. قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حنين أسرنا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا هُوَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَثَبْتُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُذَكِّرُهُ حَيْثُ شَبَّ وَنَشَأَ فِي هَوَازِنَ، وَحَيْثُ أَرْضَعُوهُ فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ: وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَرْوَلٍ زُهَيْرَ بْنَ صُرَدٍ الْجُشَمِيَّ يَقُولُ: لَمَّا أَسَرَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين قوم هَوَازِنَ، وَذَهَبَ يُفَرِّقُ السَّبْيَ وَالشَّاءِ، فَأَتَيْتُهُ فَأَنْشَأْتُ أَقْولُ هَذَا الشِّعْرَ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ | فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ |
امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ | مُفَرِّقٌ شَمْلَهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ |
أَبْقَتْ لَنَا الْحَرْبُ هُتَافًا عَلَى حرن | عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغِمَاءُ وَالْغَمْرُ |
إِنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا | يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ |
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ ترضعها | إذ فوك يملأوها مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ |
إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا | وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ |
يَا خَيْرَ مَنْ مَرَحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ | عِنْدَ الْهِيَاجِ إِذَا مَا اسْتَوْقَدَ ا |
لشرر لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ | وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ |
زُهُرُ إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ نَلْبَسُهُ | هَذِي البرية أن تعفو وت |
نتصر إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَقَدْ كُفِرَتْ | وَعِنْدَنَا بَعْدُ هَذَا اليوم م |
دّخر فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ | مِنْ أُمَّهَاتِكَ أن العفو م |
شتهر وَاعْفُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ | يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ |
وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ التَّنُوخِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلِلَّهِ وَلَكُمْ» وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، رَدَّتِ الْأَنْصَارُ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهَا مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَمْوَالِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
لَمَّا أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَقْرَأَ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ أَوَّلَ بَرَاءَةٌ، وَيَنْبِذُ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قَالَ أُنَاسٌ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ سَتَعْلَمُونَ مَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَانْقِطَاعِ السُّبُلِ وَفَقْدِ الْحُمُولَاتِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، شَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَنْ يَأْتِينَا بِطَعَامِنَا، وَكَانُوا يَقْدُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالتِّجَارَةِ، فَنَزَلَتْ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الْآيَةَ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ مَنِ اتَّخَذَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَعَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَيْسُوا بِمُشْرِكِينَ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِشْرَاكِ لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «١»
أَيْ يُكْفَرَ بِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَجَسٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْجِيمِ، وَهُوَ مَصْدَرُ نَجِسَ نَجَسًا أَيْ قَذِرَ قَذَرًا، وَالظَّاهِرُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَجَسٌ أَيْ ذَوُو نَجَسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرُهُ: الشِّرْكُ هُوَ الَّذِي نَجَّسَهُمْ، فَأَعْيَانُهُمْ نَجِسَةٌ كالخمر والكلاب
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: نِجْسٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْجِيمِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ، أَيْ:
جِنْسٌ نِجْسٌ، أَوْ ضَرْبٌ نِجْسٌ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ نَجِسَ، فَخَفَّفُوهُ بَعْدَ الْإِتْبَاعِ كَمَا قَالُوا فِي كَبِدٍ كِبْدٌ وَكَرِشٍ كِرْشٌ. وَقَرَأَ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: أَنْجَاسٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نَجَسٍ الْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا أَصْنَافٌ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ نِجْسٍ اسْمِ فَاعِلٍ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبَانِ مَنْعُهُمْ عَنْ دُخُولِهِ وَالطَّوَافِ بِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا النَّهْيُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَتْرُكُونَهُمْ يَقْرَبُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَغَيْرَهُ، وَدُخُولَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» فَلَا يَحُجُّوا وَلَا يَعْتَمِرُوا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُ عَلِيٍّ حين نادى ببراءة: لَا يَحُجُّ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا مُشْرِكٌ
، قَالَ: وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ:
هِيَ عَامَّةٌ فِي الْكُفَّارِ، خَاصَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَبَاحَ دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْوَثَنِيِّينَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. وَقَاسَ مَالِكٌ جَمِيعَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَاسَ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ الْجَمِيعِ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ، وَأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يمنكوهم مِنْ دُخُولِهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْقُرْبَانِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ تَوَلِّي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، وَيُعْزَلُوا عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَتَادَةُ: لَا يَقْرُبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حرية، أو عبد المسلم، وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا: هُوَ عَامُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ وَأُتْبِعَ بِعَلِيٍّ وَنُودِيَ فِيهَا ببراءة.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْعَامُ الْعَاشِرُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، والعيلة الْفَقْرُ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ: عَائِلَةٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ، أَوْ نَعْتٌ لِمَحْذُوفٍ أَيْ: حَالًا عائلة، وإنّ
أَغْنَاهُمْ بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ، وَأَسْلَمَتِ الْعَرَبُ فَتَمَادَى حَجُّهُمْ وَنَحْرُهُمْ، وَأَغْنَى اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بِالْجِهَادِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأُمَمِ، وَعَلَّقَ الْإِغْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي حَقِّ بَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَقِيلَ: لِإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ، فَإِنِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ إِغْنَاءَكُمْ أَغْنَاكُمْ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِعْلَامًا بِأَنَّ الرِّزْقَ لَا يَأْتِي بِحِيلَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ. وَيُرْوَى لِلشَّافِعِيِّ:
لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتَنِي | بِنُجُومِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي |
لَكِنْ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى | ضِدَّانِ مُفْتَرِقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ |
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ | بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ |
عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ، حَكِيمٌ فِيمَا حَكَمَ فِي الْمُشْرِكِينَ.
قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ
نَزَلَتْ حِينَ أمر الرسول ﷺ بغز والروم، وَغَزَا بَعْدَ نُزُولِهَا تَبُوكَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَصَالَحَهُمْ، وَكَانَتْ أَوَّلَ جِزْيَةٍ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَصَابَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ نَفْيُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَنْهُمْ، لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، إِذْ يَصِفُونَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا وَبَدَّلُوا كِتَابَهُمْ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرَّمْ، وَحَلَّلُوا مَا لَمْ يُحَلَّلْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمُ الدُّخُولُ فِيهِ، فَصَارَ جَمِيعُ مَا لَهُمْ فِي الْبَعْثِ وَفِي اللَّهِ مِنْ تَخَيُّلَاتٍ وَاعْتِقَادَاتٍ لَا مَعْنَى لَهَا، إِذْ يُلْقُونَهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا. وَأَيْضًا فَلَمْ تَكُنِ اعْتِقَادَاتُهُمْ مُسْتَقِيمَةً، لِأَنَّهُمْ شَبَّهُوا وَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَهُمْ أَيْضًا فِي الْبَعْثِ آرَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ مِنَ الرُّهْبَانِ. وَقَوْلُ الْيَهُودِ فِي النَّارِ يَكُونُ فِيهَا أَيَّامًا انْتَهَى. وفي الغيبان نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ لِأَنَّهُمْ مُجَسِّمَةٌ، وَالْمُؤْمِنُ لَا يُجَسِّمُ انْتَهَى. وَالْمَنْقُولُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِنْكَارُ الْبَعْثِ الْجُسْمَانِيِّ، فَكَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْبَعْثَ الرُّوحَانِيَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَرَسُولُهُ فِي
لَئِنْ حَلَلْتَ بجوفي بَنِي أَسَدٍ | فِي دِينِ عمرو وحلت بَيْنَنَا فَدَكُ |
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بُعِثَ فِي الْمَجُوسِ نَبِيٌّ اسْمُهُ زَرَادِشْتُ
، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي مَجُوسِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا السَّامِرَةُ وَالصَّابِئَةُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ:
لَا تُؤْخَذُ منهم جزية، ولا توكل ذَبَائِحُهُمْ. وَقِيلَ: تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ عَابِدِ وَثَنٍ أَوْ نار أو جاحد مُكَذِّبٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِلَّا الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ، وَتُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ سَائِرِ كُفَّارِ الْعَجَمِ الْجِزْيَةُ. وَقَالَ مَالِكٌ: تُؤْخَذُ مِنْ عَابِدِ النَّارِ وَالْوَثَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ عَرَبِيٍّ تَغْلِبِيٍّ أَوْ قُرَشِيٍّ أَوْ عَجَمِيٍّ إِلَّا الْمُرْتَدَّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَقَطْ. وَالظَّاهِرُ شُمُولُ جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ، وَلَا تُضْرَبُ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ الْمُنْقَطِعِينَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: إِنْ كَانَتْ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ انْقَطَعُوا لَمْ تَسْقُطْ، وَتُضْرَبُ عَلَى رُهْبَانِ الْكَنَائِسِ. وَاخْتُلِفَ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِمِقْدَارِ مَا عَلَى كُلِّ رَأْسٍ وَلَا لِوَقْتِ إِعْطَائِهَا. فَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَذَهَبَ مَالِكٌ
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١١١.
عَلَى كُلِّ رَأْسٍ دِينَارٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ فِي الْمَعْنَى ضِعْفُهَا، وَعَلَى الْمُكْثِرِ ضِعْفُ الضِّعْفِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا يُؤْخَذُ عِنْدَهُ مِنْ فَقِيرٍ لَا كَسْبَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْفَتْرَةِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَأَمَّا وَقْتُهَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلُ كُلِّ سَنَةٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ آخِرُ السَّنَةِ.
وَسُمِّيَتْ جِزْيَةً من جزى يجزي إذا كَافَأَ عَمَّا أُسْدِيَ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ أَعْطَوْهَا جَزَاءَ مَا مُنِحُوا مِنَ الْأَمْنِ، وَهِيَ كَالْعِقْدَةِ وَالْجِلْسَةِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَجْزِيكَ أَوْ نُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ | أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ فَقَدْ جَزَى |
يُعْطُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا يُرْسِلُونَ بِهَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: يُعْطُونَهَا نَقْدًا لَا نَسِيئَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُعْطُونَهَا وَأَيْدِيهِمْ تَحْتَ يَدِ الْآخِذِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُسْتَعْلًى عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: عَنِ اعْتِرَافٍ. وَقِيلَ: عَنْ قُوَّةٍ مِنْكُمْ وَقَهْرٍ وَذُلٍّ وَنَفَاذِ أَمْرٍ فِيهِمْ، كَمَا تَقُولُ: الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَيِ الْأَمْرُ لَهُ. وَقِيلَ: عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ قَبُولَهَا مِنْهُمْ عِوَضًا عَنْ أَرْوَاحِهِمْ إِنْعَامٌ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُ: عَلَيَّ يَدٌ أَيْ: نِعْمَةٌ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: يُقَالُ أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ وَعَنْ ظَهْرِ يَدٍ، إِذَا أعطاه مبتدئا غير مكافىء.
وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ عَنْ جَمَاعَةٍ أَيْ: لَا يُعْفَى عَنْ ذِي فَضْلٍ مِنْهُمْ لِفَضْلِهِ. وَالْيَدُ جَمَاعَةُ الْقَوْمِ، يُقَالُ الْقَوْمُ عَلَى يَدٍ وَاحِدَةٍ أَيْ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ غِنًى، وَقُدْرَةٍ فَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْفَقِيرِ. وَلَخَّصَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ يَدَ الْآخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يَعْلُوهَا عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ وَعَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَتَرْكَ أَرْوَاحِهِمْ لَهُمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ. وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ الْمُعْطِي فَالْمَعْنَى عَنْ يَدٍ مُوَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، لِأَنَّ مَنْ أَبَى وَامْتَنَعَ لَمْ يُعْطِ يَدَهُ بِخِلَافِ الْمُطِيعِ الْمُنْقَادِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: أَعْطَى بِيَدِهِ إِذَا انْقَادَ وَاحْتَجَبَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: نَزَعَ يَدَهُ عَنِ الطَّاعَةِ، أَوْ عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ أَيْ نَقْدًا غَيْرَ نسيئة، أولا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ آخَرَ وَلَكِنْ عَنْ يَدِ الْمُعْطِي الْبَرِيدِ الْآخِذِ. وَهُمْ صَاغِرُونَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ.
وَذَكَرُوا كَيْفِيَّاتٍ فِي أَخْذِهَا مِنْهُمْ وَفِي صَغَارِهِمْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِتَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْهَا الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَمْشُونَ بِهَا مُلَبَّبِينَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ الْفَارِسِيُّ: لَا يُحْمَدُونَ عَلَى إِعْطَائِهِمْ. وَقَالَ
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ بَيَّنَ تَعَالَى لَحَاقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِأَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الشِّرْكِ فلا فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الصَّنَمَ وَبَيْنَ مَنْ يَعْبُدُ الْمَسِيحَ وَغَيْرَهُ، لِأَنَّ الشِّرْكَ هُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مَعَ اللَّهِ مَعْبُودًا، بَلْ عَابِدُ الْوَثَنِ أَخَفُّ كُفْرًا مِنَ النَّصْرَانِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَثَنَ خَالِقُ الْعَالَمِ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَقَائِلُ ذَلِكَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ: سَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. وَقِيلَ: قَالَهُ فِنْحَاصُ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: لَمْ يَبْقَ يَهُودِيٌّ يَقُولُهَا بَلِ انْقَرَضُوا، وَتُذَمُّ الطَّائِفَةُ أَوْ تُمْدَحُ بِصُدُورِ مَا يُنَاسِبُ ذلك من بعضهم. قِيلَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ فِيهِمْ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَمَا أَنْكَرُوا وَلَا كَذَّبُوا مَعَ تَهَالُكِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ، وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّوْرَاةَ وَمَحَاهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَخَرَجَ عُزَيْرٌ وَهُوَ غُلَامٌ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قَالَ: أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَحَفَّظَهُ التَّوْرَاةَ، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِمْ عَنْ ظَهْرِ لِسَانِهِ لَا يَخْرِمُ حَرْفًا فَقَالُوا: مَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْرَاةَ فِي صَدْرِهِ وَهُوَ غُلَامٌ إِلَّا أَنَّهُ ابْنُهُ، وَنَقَلُوا حِكَايَاتٍ فِي ذَلِكَ. وَظَاهِرُ قَوْلِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ نبوّة النَّسْلِ كَمَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَكَذَا يَقْتَضِي قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْهُمْ: أَنَّ الْمَسِيحَ إِلَهٌ، وَأَنَّهُ ابْنُ الْإِلَهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَهُمْ يَعْتَقِدُهَا بُنُوَّةَ حُنُوٍّ وَرَحْمَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَظُهُورِ دَلَائِلِ صِدْقِهَا، وَبَعْدَ أَنْ خَالَطُوا الْمُسْلِمِينَ وَنَاظَرُوهُمْ، فَرَجَعُوا عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي عِيسَى.
وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ عُزَيْرٌ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ مَمْنُوعُ الصَّرْفِ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ، كعاذر وغيذار وَعِزْرَائِيلَ، وَعَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ فَابْنٌ خَبَرٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَعْجَمِيٌّ خَفِيفٌ فَانْصَرَفَ كَنُوحٍ وَلُوطٍ وَهُودٍ. قِيلَ: وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ وَلَيْسَ بِمُصَغَّرٍ، إِنَّمَا هُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ جَاءَ عَلَى هَيْئَةِ الْمُصَغَّرِ، كَسُلَيْمَانَ جَاءَ عَلَى هَيْئَةِ عُثْمَانَ وَلَيْسَ بِمُصَغَّرٍ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّنْوِينَ حُذِفَ مِنْ عُزَيْرٍ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَقِرَاءَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ «١» وقول الشاعر:
فَقَوْلُهُ مُتَمَحِّلٌ، لِأَنَّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُوَ نِسْبَةُ الْبُنُوَّةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى بِأَفْوَاهِهِمْ:
أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعَضِّدُهُ بُرْهَانٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا لَفْظٌ فَارِغٌ يَفُوهُونَ بِهِ كَالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي هِيَ أَجْرَاسٌ وَنَغَمٌ لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ الدَّالَّ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةٍ مَقُولٌ بِالْفَمِ وَمَعْنَاهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَا لَا مَعْنَى لَهُ يُقَالُ بِالْفَمِ لَا غَيْرُ. وَقِيلَ: معنى بأفواهم إِلْزَامُهُمُ الْمَقَالَةَ وَالتَّأْكِيدَ، كَمَا قَالَ: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «١» وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «٢» وَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ مُضَافٍ فِي قَوْلِهِ: يُضَاهُونَ أَيْ يُضَاهِي قَوْلُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا قُدَمَاؤُهُمْ فَهُوَ كُفْرٌ قَدِيمٌ فِيهِمْ أَوِ الْمُشْرِكُونَ الْقَائِلُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. أَوِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى النَّصَارَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا الْيَهُودُ أَيْ: يُضَاهِي قَوْلُ النَّصَارَى فِي دَعْوَاهُمْ بُنُوَّةَ عِيسَى قَوْلَ الْيَهُودِ فِي دَعْوَاهُمْ بُنُوَّةَ عُزَيْرٍ، وَالْيَهُودُ أَقْدَمُ مِنَ النَّصَارَى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: يُضَاهِئُونَ بِالْهَمْزِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ. قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ: دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ عَامٌّ لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ، وَمَنْ قَاتَلَهُ اللَّهُ فَهُوَ الْمَقْتُولُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلَبٍ:
قَاتَلَهَا اللَّهُ تَلْحَانِي وَقَدْ عَلِمَتْ | أَنِّي لِنَفْسِيَ إِفْسَادِي وَإِصْلَاحِي |
وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
يَا قَاتَلَ اللَّهُ لَيْلَى كَيْفَ تُعْجِبُنِي | وَأُخْبِرُ النَّاسَ أَنِّي لَا أُبَالِيهَا |
كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلِيلِ عَلَى سبيل التعجب!.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٣٨.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ تَعَدَّتِ اتَّخَذَ هنا المفعولين، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ حُذَيْفَةُ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ وَلَكِنْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَحَرَّمُوهُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي التِّرْمِذِيِّ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ. وَقِيلَ: كَانُوا يَسْجُدُونَ لَهُمْ كَمَا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، وَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَجَازًا. وَقِيلَ: عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحُلُولَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَجَلَّى فِي بَوَاطِنِهِمْ فَيَسْجُدُونَ لَهُ مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّ فِيهِمْ وَتَجَلَّى فِي سَرَائِرِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا حَقِيقَةً. وَمَذْهَبُ الْحُلُولِ فَشَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَثِيرًا، وَقَالُوا بِالِاتِّحَادِ. وَأَكْثَرُ مَا فَشَا فِي مَشَائِخِ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ فِي وَقْتِنَا هَذَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَكَابِرُ. وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ أَنَّهُ كَانَ فَاشِيًا فِي زَمَانِهِ، حَكَاهُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الْمَرْوَزِيِّينَ كَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ عَبِيدِي، وإذا خلا ببعض الحمقا مِنْ أَتْبَاعِهِ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ انْتَهَى! وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ كِتَابِ التَّحْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ، وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا الْمُحَدِّثُ الْمُتَصَوِّفُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَسْطَلَانِيُّ كِتَابًا فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ، فَذَكَرَ فِيهِمُ الْحُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّوْذِيَّ كَانَ بِتِلْمِسَانَ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَهَّانٍ عُرِفَ بِابْنِ الْمَرْأَةِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحلى المتأمر بلورقة، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الطَّائِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْفَارِضِ، وَعَبْدَ الْحَقِّ بْنَ سَبْعِينَ، وَأَبَا الْحَسَنِ الشَّشْتُرِيَّ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنَ مُطَرِّفٍ الْأَعْمَى مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ أَحْلَى، وَالصُّفَيْفِيرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَالْعَفِيفَ التِّلْمِسَانِيَّ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا المذهب. وقال السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَحْمَرِ مَلِكُ الْأَنْدَلُسِ الصُّفَيْفِيرَ بِغَرْنَاطَةَ وَأَنَابَهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ الْعَفِيفَ الْكُوفِيَّ وَأَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ يَتَكَتَّمُ هذا المذهب.
وكان بو عَبْدِ اللَّهِ الْأَيْكِيُّ شَيْخُ خَانْكَاهْ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ مُخَالِطًا لَهُ خُلْطَةً كَثِيرَةً، وَكَانَ مُتَهَمًا بِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَخَرَجَ التِّلْمِسَانِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ. وَأَمَّا مُلُوكُ العبيدتين بِالْمَغْرِبِ وَمِصْرَ فَإِنَّ أَتْبَاعَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الْإِلَهِيَّةَ، وَأَوَّلُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ فِي اتَّخَذُوا، أَيْ: أُمِرُوا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: فِي الْكُتُبِ الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ:
فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَعَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ وَالنُّصُوصِ فِي الْإِنْجِيلِ وَالْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
وَقِيلَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الْمُتَّخِذِينَ أَرْبَابًا أَيْ: وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَيُوَحِّدُوهُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونُوا أَرْبَابًا وَهُمْ مَأْمُورُونَ مُسْتَعْبَدُونَ؟ وَفِي قَوْلِهِ: عَمَّا يُشْرِكُونَ، دَلَالَةٌ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الشِّرْكِ عَلَى الْيَهُودِ والنصارى.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ حَالِهِمْ فِي طَلَبِهِمْ أَنْ يُبْطِلُوا نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالتَّكْذِيبِ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْفُخَ فِي نُورٍ عَظِيمٍ مُنْبَثٍّ فِي الْآفَاقِ، وَنُورُ اللَّهِ هُدَاهُ الصَّادِرُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ الْمُنْبَثِّ، فَمِنْ حَيْثُ سَمَّاهُ نُورًا سَمَّى مُحَاوَلَةَ إِفْسَادِهِ إِطْفَاءً. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: النُّورُ الْقُرْآنُ وَكَنَّى بِالْأَفْوَاهِ عَنْ قِلَّةِ حِيلَتِهِمْ وَضِعْفِهَا. أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَمْرًا جَسِيمًا بِسَعْيٍ ضَعِيفٍ، فَكَانَ الْإِطْفَاءُ بِنَفْخِ الْأَفْوَاهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَقْوَالٍ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَا تَتَجَاوَزُ الْأَفْوَاهَ إِلَى فَهْمِ سَامِعٍ، وَنَاسَبَ ذِكْرُ الْإِطْفَاءِ الْأَفْوَاهَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلًا مَقْرُونًا بِالْأَفْوَاهِ وَالْأَلْسُنِ إِلَّا وَهُوَ زُورٌ، وَمَجِيءُ إِلَّا بَعْدَ وَيَأْبَى يَدُلُّ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْهُ مَحْذُوفٍ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُوجَبٌ، وَالْمُوجَبُ لَا تَدَخُلَ مَعَهُ إِلَّا، لَا تَقُولُ كَرِهْتُ إِلَّا زَيْدًا. وَتَقْدِيرُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: جَازَ هَذَا فِي أَبَى، لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَامْتِنَاعٌ، فَضَارَعَتِ النَّفْيَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: مَعْنَى أَبَى هُنَا لَا يَرْضَى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بِدَوَامِ دِينِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: دَخَلَتْ إِلَّا لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ طَرَفًا مِنَ الْجَحْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَجْرَى أَبَى مَجْرًى لَمْ يَرِدْ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قُوبِلَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا بِقَوْلِهِ: وَيَأْبَى اللَّهُ، وَكَيْفَ أُوقِعَ مَوْقِعَ وَلَا يُرِيدُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ؟
ودين الْحَقِّ: الْإِسْلَامِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «١» وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِيُظْهِرَهُ عائد على الرسول لِأَنَّهُ الْمُحَدِّثُ عَنْهُ، وَالدِّينُ هُنَا جِنْسٌ أَيْ: لِيُعْلِيَهُ عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهِمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَتْ أُمَّتُهُ الْيَهُودَ وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، وَغَلَبُوا النَّصَارَى عَلَى بِلَادِ الشَّامِ إِلَى نَاحِيَةِ الرُّومِ وَالْمَغْرِبِ، وَغَلَبُوا الْمَجُوسَ عَلَى مُلْكِهِمْ، وَغَلَبُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِهِمْ مِمَّا يَلِي التُّرْكَ وَالْهِنْدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدْيَانِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى يُطْلِعُهُ عَلَى شَرَائِعَ الدِّينِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَالدِّينُ هُنَا شَرْعُهُ الَّذِي جَاءَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى الدِّينِ،
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَاقِرُ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِظْهَارُ الدِّينِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَرُجُوعِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ دِينٌ آخَرُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لِيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا وَأَظْهَرُهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَانَ دُونَهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى نُزُولِ عِيسَى، بَلْ كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ بَاقٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَدَّى الْخَرَاجَ. وَقِيلَ:
مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ مَا أَبْقَى فِيهَا أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ:
مَخْصُوصٌ بِقُرْبِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ. وَضُعِّفَ هَذَا الْقَوْلُ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ حَاصِلًا أَوَّلَ الْأَمْرِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ لِقُرَيْشٍ رِحْلَتَانِ: رِحْلَةُ الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا انْقَطَعَتِ الرِّحْلَتَانِ لِمُبَايَنَةِ الدِّينِ وَالدَّارِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَالْمَعْنَى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فِي بِلَادِ الرِّحْلَتَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَ هَذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْيَمَنِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَالْعِرَاقَيْنِ.
وَفِي الحديث: «رويت لِيَ الْأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلِذَلِكَ اتَّسَعَ مَجَالُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَمْ يَتَّسِعْ فِي الْجَنُوبِ انْتَهَى. وَلَا سِيَّمَا اتِّسَاعُ الْإِسْلَامِ بِالْمَشْرِقِ فِي زَمَانِنَا، فَقَلَّ مَا بَقِيَ فِيهِ كَافِرٌ، بَلْ أَسْلَمَ مُعْظَمُ التُّرْكِ التَّتَارِ وَالْخَطَا،
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٦٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
لَا دَرَّ دَرِّيَ إِنْ أَطْعَمْتُ ضائعهم | قرف الجثى وَعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ |
عَلَى شَدِيدٍ لَحْمُهُ كِنَازٌ | بَاتَ يُنَزِّينِي عَلَى أَوْفَازِ |
مَفْعَلٌ مِنْ لَجَأَ إِلَى كَذَا انْحَازَ وَالْتَجَأَ وَأَلْجَأْتُهُ إِلَى كَذَا اضْطَرَرْتُهُ. جَمَحَ نَفَرَ بِإِسْرَاعٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فَرَسٌ جَمُوحٌ أَيْ لَا يَرُدُّهُ اللِّجَامُ إِذَا حَمَلَ. قَالَ:
سَبُوحًا جَمُوحًا وَإِحْضَارُهَا | كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ الْمُوقَدِ |
وَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمْ | حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَجْسَامِهِمْ جَمَدُوا |
إِذَا جَمَحَتْ نِسَاؤُكُمُ إِلَيْهِ | أَشَظَّ كَأَنَّهُ مَسَدٌّ مُغَارُ |
قَارَبْتُ بَيْنَ عُنُقِي وَجَمْزِي اللَّمْزُ قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ كَالْغَمْزِ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَيْبُ، وَأَصْلُهُ الْإِشَارَةُ بِالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَصْلُ اللَّمْزِ الدَّفْعُ، لَمَزْتُهُ دَفَعْتُهُ. الْغُرْمُ: أَصْلُهُ لُزُومُ مَا يَشُقُّ، وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ الشَّاقُّ، وَسُمِّيَ الْعِشْقُ غَرَامًا لِكَوْنِهِ شَاقًّا وَلَازِمًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، ذَكَرَ مَا هُوَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَنْقِيصًا مِنْ شَأْنِهِمْ وَتَحْقِيرًا لَهُمْ، وَأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُمْ، فَضْلًا عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَرْبَابًا لِمَا اشْتَمَلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَانْدَرَجُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الْخَصْلَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ: أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَكَنْزِ الْمَالِ إِنْ ضَنُّوا أَنْ يُنْفِقُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَكْلُهُمُ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ أَتْبَاعِهِمْ ضَرَائِبَ بِاسْمِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُونَهُمْ بِهِ أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَحْجُبُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ كَالرَّاهِبِ الَّذِي اسْتَخْرَجَ سَلْمَانُ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ يَكْنِزُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَهُوَ مُبْتَدَأٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي خَبَرِهِ فِي قَوْلِهِ: فَبَشِّرْهُمْ. وَقِيلَ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ مِنْ أَوْصَافِ الْكَثِيرِ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ. وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُثْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ.
وَقِيلَ: كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ أَرَادَ بِهِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ السُّدِّيِّ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ كَمَا قُلْنَاهُ، فَيَقْرِنُ بَيْنَ الْكَانِزِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ الْمُرْتَشِينَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ تَغْلِيظًا وَدَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي التَّبْشِيرِ بِالْعَذَابِ. وَرُوِيَ الْعُمُومُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُصَرِّفٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وَالْعُمُومَ. وَالظَّاهِرُ ذَمُّ مَنْ يَكْنِزُ وَلَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَمَا جَاءَ فِي ذَمِّ مَنْ تَرَكَ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ، وَأَنَّهُ يُكْوَى بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ أَحَادِيثَ هُوَ قَبْلُ أَنْ تُفْرَضَ الزَّكَاةُ، وَالتَّوَعُّدُ فِي الْكَنْزِ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْمَالُ الْمَدْفُونُ إِذَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ بَاعَ أَرْضًا أَحْرِزْ مَالَكَ الَّذِي أَخَذْتَ احْفِرْ لَهُ تَحْتَ فِرَاشِ امْرَأَتِكَ فَقَالَ: أَلَيْسَ بِكَنْزٍ، فَقَالَ:
«مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ». وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دَوَّنَهَا نَفَقَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ.
وقال أبوذر وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ: مَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ عَلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَنْزٌ. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ يَقْتَضِيَانِ أَنَّ الذَّمَّ فِي جِنْسِ الْمَالِ، لَا فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ فَقَطْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» «١» فَأَتَى فَرْضُ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، كَأَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ: لَا تَجْمَعُوا مَالًا فَتُعَذَّبُوا، فَنَسَخَهُ التَّقْرِيرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا مِنْ جِهَةٍ أَذِنَ لَهُ فِيهَا وَيُؤَدِّي عَنْهُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فِيهِ ثُمَّ يُعَاقِبُهُ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وطلحة بن عبيد الله، يَقْتَنُونَ الْأَمْوَالَ وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَمَا عَابَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ أعرض
وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ: يُكْنِزُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَخَصَّ بِالذِّكْرِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَمْوَالِ وَأَثْمَانُهَا، وَهُمَا لَا يُكْنَزَانِ إِلَّا عَنْ فَضْلَةٍ وَعَنْ كَثْرَةٍ، وَمَنْ كَنَزَهُمَا لَمْ يُعْدَمْ سَائِرَ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، وَكَنْزُهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهُمَا. وَالضَّمِيرُ فِي:
وَلَا يُنْفِقُونَهَا، عَائِدٌ عَلَى الذَّهَبِ، لِأَنَّ تَأْنِيثَهُ أَشْهَرُ، أَوْ عَلَى الْفِضَّةِ. وَحُذِفَ الْمَعْطُوفُ فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَحْتَهُمَا أَنْوَاعًا، فَرُوعِيَ الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «١» أَوْ لِأَنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى جَمْعِ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى الْمَكْنُوزَاتِ، لِدَلَالَةِ يَكْنِزُونَ. أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَوْ عَلَى النَّفَقَةِ وَهِيَ الْمَصْدَرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ. وَلَا يُنْفِقُونَهَا، أَوْ عَلَى الزَّكَاةِ أَيْ: وَلَا يُنْفِقُونَ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ أَقْوَالٌ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: عَادَ عَلَى أَحَدِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً «٢» وَلَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ هَذَا عَطْفٌ بَأَوْ، فَحُكْمُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاوِ، إِلَّا إِنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَاوَ فِي وَالْفِضَّةَ بِمَعْنَى أَوْ لِيَمْكُنَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يُقَالُ: حَمَيْتُ الْحَدِيدَةَ فِي النَّارِ أَيْ أَوْقَدْتُ عَلَيْهَا لِتُحْمَى، وَتَقُولَ: أَحَمَيْتُهَا أَدْخَلْتُهَا لِكَيْ تُحْمَى أَيْضًا فَحَمِيَتْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا بِالْيَاءِ، أَصْلُهُ يَحْمِي النَّارَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا حَذْفُ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَى الْجُمْلَةِ وَالْمَجْرُورِ، لَمْ تَلْحَقِ التَّاءُ كَمَا تَقُولُ: رَفَعْتُ الْقِصَّةَ إِلَى الْأَمِيرِ. وَإِذَا حُذِفَتِ الْقِصَّةُ وَقَامَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَقَامَهَا قُلْتَ: رُفِعَ إِلَى الْأَمِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مُسْنَدٌ إِلَى النَّارِ، قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ تُحْمَى بِالتَّاءِ. وَقِيلَ: مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ، فَالْمَعْنَى: يُحْمَى الْوَقُودُ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فالمعنى: تحمى النار. والناصب لِيَوْمٍ أَلِيمٍ أَوْ مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ عَذَابٌ أَيْ: يُعَذَّبُونَ يَوْمَ يُحْمَى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَيُكْوَى بِالْيَاءِ، لَمَّا كَانَ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ ليس تَأْنِيثُهُ حَقِيقِيًّا، وَوَقَعَ الْفَصْلُ أَيْضًا ذُكِرَ، وَأَدْغَمَ قَوْمٌ جِبَاهُهُمْ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَبِي عُمَرَ وَذَلِكَ فِي الْإِدْغَامِ الْكَبِيرِ، كَمَا أُدْغِمَ مناسككم وما سَلَكَكُمْ، وَخُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بِالْكَيِّ. قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الجهة أَشْنَعُ، وَفِي الْجَنْبِ وَالظَّهْرِ أوجع. وقيل: لأنها
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ١١.
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ»
وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَبْصَرُوا الْفَقِيرَ عَبَسُوا، وَإِذَا ضَمَّهُمْ وَإِيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرُّوا عَنْهُ، وَتَوَلَّوْا بِأَرْكَانِهِمْ، وَوَلَّوْا ظُهُورَهُمْ. وَأُضْمِرَ الْقَوْلُ فِي هَذَا مَا كَنَزْتُمْ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ الْكَيِّ وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْمَالِ الْمَكْنُوزِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى الْكَيِّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مِنَ مَا كَنَزْتُمْ، أَيْ: هَذَا الْكَيُّ نَتِيجَةُ مَا كَنَزْتُمْ، أَوْ ثَمَرَةُ مَا كَنَزْتُمْ. وَمَعْنَى لِأَنْفُسِكُمْ: لِتَنْتَفِعَ بِهِ أَنْفُسُكُمْ وَتَلْتَذَّ، فَصَارَ عَذَابًا لَكُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ. فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ أَيْ: وَبَالَ الْمَالِ الَّذِي كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: وَبَالَ كَوْنِكُمْ كَانِزِينَ. وقرىء يَكْنُزُونَ بِضَمِّ النُّونِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «بَشِّرِ الكانزين برصد يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ وَتُزَلْزِلُهُ وَتُكْوَى الْجِبَاهُ وَالْجُنُوبُ وَالظُّهُورُ حَتَّى يَلْتَقِيَ الْحَرُّ فِي أَجْوَافِهِمْ»
وَفِي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ».
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا عَيْشَ لِأَكْثَرِهَا إِلَّا مِنَ الْغَارَاتِ وَأَعْمَالِ سِلَاحِهَا، فَكَانَتْ إِذَا تَوَالَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ صَعُبَ عَلَيْهَا وَأَمْلَقُوا، وَكَانَ بَنُو فُقَيْمٍ مِنْ كِنَانَةَ أَهْلَ دِينٍ وَتَمَسُّكٍ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْتُدِبَ مِنْهُمُ الْقَلَمَّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمٍ فَنَسَأَ الشُّهُورَ لِلْعَرَبِ، ثُمَّ خَلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ ابْنُهُ قَلَعٌ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفٌ، ثُمَّ ابْنُهُ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مَنْ حَجَّهَا جَاءَ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ مُجْتَمِعِينَ فَقَالُوا: أَنْسِئْنَا شَهْرًا أَيْ: أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ الْمُحَرَّمِ فَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ، فَيُغِيرُونَ فِيهِ وَيَعِيشُونَ. ثُمَّ يَلْزَمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ لِيُوَافِقُوا عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الصَّفَرَ الْمُحَرَّمَ، وَيُسَمُّونَ رَبِيعًا الْأَوَّلَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: ثُمَّ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرَيْنِ وَلَاءً، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُبَدِّلُونَ فَيَحُجُّونَ عَامَيْنِ وَلَاءً، ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَقِيقَةً، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ ذَا الْحِجَّةِ ثُمَّ حج رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ عَشْرٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ حَقِيقَةً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ والمحرم وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِنْ قَبَائِحِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، ذَكَرَ أَيْضًا نَوْعًا مِنْهُ وَهُوَ تَغْيِيرُ الْعَرَبِ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ حَكَمَ فِي وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ فَقَدْ غَيَّرُوا حُكْمَ اللَّهِ. وَالشُّهُورُ: جَمْعُ كَثْرَةٍ لَمَّا كَانَتْ أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ» «١» فَجَاءَ بِلَفْظِ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَالْمَعْنَى: شُهُورُ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِالسَّنَةِ القمرية لا شمسية، تَوَارَثُوهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَإِبْرَاهِيمَ. وَمَعْنَى عِنْدَ اللَّهِ: أَيْ، فِي حُكْمِهِ وَتَقْدِيرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ عِدَّةُ الشُّهُورِ الَّتِي تُسَمَّى سَنَةً واثنا عَشَرَ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَشْهُرَ الْعَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَرَأَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ مَعَ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ عَلَى غَيْرِ حَدِّهِ، كَمَا رُوِيَ: الْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ بِإِثْبَاتِ أَلِفِ حَلْقَتَا. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: بِإِسْكَانِ الشِّينِ، وَانْتَصَبَ شَهْرًا عَلَى التَّمْيِيزِ الْمُؤَكِّدِ كَقَوْلِكَ: عِنْدِي مِنَ الرِّجَالِ عِشْرُونَ رَجُلًا. وَمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: فِي إِيجَابِ اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي حُكْمِهِ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السَّنَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «٢» وَقَالَ:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ «٣» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فِيمَا كَتَبَهُ وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَغَيْرِهِ، فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ مِثْلُ خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى قَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ قَبْلَ خلق السموات وَالْأَرْضِ انْتَهَى. وَعِنْدَ اللَّهِ متعلق بعدة. وقال الحوفي: في
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٨٩.
لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ قَوْلُهُ في كتاب الله بعدة، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْخَبَرِ الَّذِي هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: عِدَّةَ مَصْدَرٌ مثل العدد، وفي كِتَابِ اللَّهِ صِفَةٌ لَاثْنَا عشر، ويوم معمول لكتاب عَلَى أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لَا جُثَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُثَّةً، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِي يَوْمَ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ انْتَهَى.
وَقِيلَ: انْتَصَبَ يَوْمَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: كُتِبَ ذلك يوم خلق السموات، وَلَمَّا كَانَتْ أَشْيَاءُ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ فِيهَا أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «١» جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا تَعَارُضَ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهَا عَائِدٌ عَلَى اثْنَا عَشَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ، لَا عَلَى الشُّهُورِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِاثْنَا عشر، وفي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ في مستقر.
وأربعة حُرُمٌ سُمِّيَتْ حُرُمًا لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا، أَوْ لِتَعْظِيمِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ فِيهَا.
وَتَسْكِينُ الرَّاءِ لُغَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الَّتِي أُجِّلَ الْمُشْرِكُونَ فِيهَا أَنْ يَسِيحُوا، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ. وَأَوَّلُهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ رَجَبٌ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَتَيْنِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ، فَيَكُونُ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: الْقَضَاءُ الْمُسْتَقِيمُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْعَدَدُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: الشَّرْعُ الْقَوِيمُ، إِذْ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ عَائِدٌ عَلَى الِاثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى: لَا تَجْعَلُوا حَلَالًا حَرَامًا، وَلَا حَرَامًا حَلَالًا كَفِعْلِ النَّسِيءِ. وَيُؤَيِّدُهُ كَوْنُ الظُّلْمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعِ الْحُرُمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ، نَهَى عَنِ الْمَظَالِمِ فِيهَا تَشْرِيفًا لَهَا وَتَعْظِيمًا بِالتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَظَالِمُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ: تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا. وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
أَحَلَّتِ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَأْثَمُوا فِيهِنَّ بَيَانًا لِعِظَمِ حُرْمَتِهِنَّ، كَمَا عُظِّمَ أَشْهُرُ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «٢» وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ عَوْدَهُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ كَوْنُهَا أَقْرَبَ مَذْكُورٍ، وَكَوْنُ الضَّمِيرِ جَاءَ بِلَفْظِ فيهن، ولم يجىء بلفظ فيها كما
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٩٧.
وَانْتَصَبَ كَافَّةً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا. وَلَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَلَا تَدْخُلُهُ أَلْ، وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الْحَالِ. وَتَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «١» فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَالْمَعِيَّةُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِي ضِمْنِهِ الْأَمْرُ بِالتَّقْوَى وَالْحَثُّ عَلَيْهَا.
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ: يُقَالُ: نَسَأَهُ وَأَنْسَأَهُ إِذَا أَخَّرَهُ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ:
النَّسِيءُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، مِنْ نَسَأْتُ الشَّيْءَ فَهُوَ مَنْسُوءٌ إِذَا أَخَّرْتُهُ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى نَسِيءٍ كَمَا حُوِّلَ مَقْتُولٌ إِلَى قَتِيلٍ. ورجل ناسىء، وَقَوْمٌ نَسَأَةٌ، مِثْلُ فَاسِقٍ وَفَسَقَةٍ انْتَهَى. وَقِيلَ: النَّسِيءُ مَصْدَرٌ مِنْ أَنْسَأَ، كَالنَّذِيرِ مِنْ أَنْذَرَ، وَالنَّكِيرُ مِنْ أَنْكَرَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ لِأَنَّهُ قَالَ:
النَّسِيءُ تَأْخِيرُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: النَّسِيءُ بِالْهَمْزِ مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ انْتَهَى. فَإِذَا قُلْتَ: أَنْسَأَ الله اللَّهُ أَجَلَهُ بِمَعْنَى أَخَّرَ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ، فَلَيْسَ النَّسِيءُ مُرَادِفًا لِلزِّيَادَةِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَإِذَا كَانَ النَّسِيءُ مَصْدَرًا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِمَصْدَرٍ وَاضِحًا، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ إِمَّا فِي النَّسِيءِ أَيْ: إِنْ نَسَأَ النَّسِيءُ، أَوْ فِي زِيَادَةٍ أَيْ: ذُو زِيَادَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ هَذَا الْإِضْمَارِ يَرِدُ عَلَى مَا يَرِدُ عَلَى قَوْلُهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، لِأَنَّهُ يَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤَخَّرُ زِيَادَةٌ، وَالْمُؤَخَّرُ الشَّهْرُ، وَلَا يَكُونُ الشَّهْرُ زِيَادَةً فِي الْكُفْرِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النسيء مهموز عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو جَعْفَرَ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَالْحَلْوَانِيُّ: النَّسِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي نَبِيءٍ وَخَطِيئَةٍ فَقَالُوا: نَبِيٌّ وَخَطِّيَّةٌ بِالْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ.
أنسنا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ | شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا |
نسؤ الشُّهُورَ بِهَا وَكَانُوا أَهْلَهَا | مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْعِزُّ لَمْ يَتَحَوَّلِ |
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يَضَلُّ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ ضَلِلْتُ بِكَسْرِ اللَّامِ، أَضَلَّ بِفَتْحِ الضَّادِ مَنْقُولًا، فَتْحُهَا مِنْ فَتْحَةِ اللَّامِ إِذِ الْأَصْلُ أَضْلَلَ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَمَحْبُوبٌ عَنِ الْحَسَنِ: نُضِلُّ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ وَكَسْرِ الضَّادِ، أَيْ: نُضِلُّ نَحْنُ. وَمَعْنَى تَحْرِيمِهِمْ عَامًا وَتَحْلِيلِهِمْ عَامًا: لا يرادان ذَلِكَ، كَانَ مُدَاوَلَةً فِي الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَامٌ حَلَالٌ وَعَامٌ حَرَامٌ. وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ الْقِصَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا شَقَّ عَلَيْهِمْ تَوَالِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَحَلَّ لَهُمُ الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ صَفَرًا بَدَلًا مِنَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ مَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى أَسْمَائِهَا الْمَعْهُودَةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ حُرِّمَ الْمُحَرَّمُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأُحِلَّ صَفَرٌ وَمَشَتِ الشُّهُورُ مُسْتَقِيمَةً، وَإِنَّ هَذِهِ كَانَتْ حَالَ الْقَوْمِ.
وَتَقَدَّمَ لَنَا أَنَّ الَّذِي انْتَدَبَ أَوَّلًا لِلنَّسِيءِ الْقَلَمَّسُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
الَّذِينَ شَرَعُوا النَّسِيءَ هُمْ بَنُو مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أول من فعل ذلك عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ، أي ليوافقوا
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٤.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَحَسِبُوا أَعْمَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ حَسَنَةً. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي أَيْ:
لَا يَلْطُفُ بِهِمْ، بَلْ يَخْذُلُهُمُ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: لَا يَحْكُمُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ. وَقِيلَ: لَا يَفْعَلُ بِهِمْ خَيْرًا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ خَيْرٍ هُدًى، وَكُلَّ شَرٍّ ضَلَالَةً انْتَهَى. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِغَزَاةِ تَبُوكَ، وَكَانَ زَمَانَ جَدْبٍ وَحَرٍّ شَدِيدٍ وَقَدْ طَابَتِ الثِّمَارُ، عَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَثَاقَلْتُمْ وَهُوَ أَصْلُ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ اثَّاقَلْتُمْ، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ عَامِلٌ فِي إِذَا أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْمَاضِي هُنَا بِمَعْنَى الْمُضَارِعِ أَيْ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ، وَمَوْضِعُهُ نَصْبٌ. أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي التَّثَاقُلِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَلِيلِ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَذْفُ أَنْ، لِأَنَّهُ لَا يَنْسَبِكُ مَصْدَرٌ إِلَّا مِنْ حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَالْفِعْلِ، وَحَذْفُ إِنَّ فِي نَحْوِ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا أَوْ ضَرُورَةٌ. وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي التَّثَاقُلِ فَلَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ فِي إِذَا، لِأَنَّ مَعْمُولَ الْمَصْدَرِ الْمَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّاصِبُ لِإِذَا، وَالْمُتَعَلِّقُ بِهِ فِي التَّثَاقُلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لَكُمُ الْوَاقِعُ خَبَرًا لِمَا. وقرىء: اثَّاقَلْتُمْ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْمَلَ فِي إِذَا مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يَعْمَلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، أَوْ مَا فِي مَا لَكُمْ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمْ، كَمَا تَعْمَلُهُ فِي الْحَالِ إِذَا قُلْتَ: مَا لَكَ قَائِمًا. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا لَكُمْ تَتَثَاقَلُونَ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا، وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ اثَّاقَلْتُمْ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ: مِلْتُمْ إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا حِينَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ثِمَارَهَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَكَرِهْتُمْ مَشَاقَّ السَّفَرِ. وَقِيلَ مِلْتُمْ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ قَالَهُ: الزَّجَّاجُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ عُدِّيَ بِإِلَى. وَفِي قَوْلِهِ: أَرَضِيتُمْ، نَوْعٌ مِنَ الْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ أَيْ: أَرَضِيتُمْ بِالنَّعِيمِ الْعَاجِلِ فِي الدُّنْيَا الزَّائِلِ بدل النعيم الباقي. ومن تَظَافَرَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى بَدَلَ أَيْ: بَدَلَ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ:
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً «١» أَيْ بَدَلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً | مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طهيان |
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: هَذَا سُخْطٌ عَلَى الْمُتَثَاقِلِينَ عَظِيمٌ، حَيْثُ أَوْعَدَهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ مُطْلَقٍ يَتَنَاوَلُ عَذَابَ الدَّارَيْنِ، وَأَنَّهُ يُهْلِكُهُمْ وَيَسْتَبْدِلُ قَوْمًا آخَرِينَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَطْوَعَ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، لَا يَقْدَحُ تَثَاقُلُهُمْ فِيهَا شَيْئًا. وَقِيلَ: يُعَذِّبُكُمْ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْكُمْ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَنْفَرَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِيلَةً فَقَعَدَتْ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهَا الْمَطَرَ وَعَذَّبَهَا بِهِ.
وَالْمُسْتَبْدَلُ الْمَوْعُودُ بِهِمْ، قَالَ: جَمَاعَةٌ أَهْلُ الْيَمَنِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ التَّابِعُونَ، وَالظَّاهِرُ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَدِينَةِ أَقْوَامًا يُعِينُونَهُ عَلَى الْغَزْوِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَقْوَامٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِ هُنَاكَ. وَالضَّمِيرُ فِي: وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا، عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ: وَلَا تَضُرُّوا دِينَهُ شَيْئًا. وَقِيلَ: عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَصَمَهُ وَوَعَدَهُ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلَمَّا رَتَّبَ عَلَى انْتِفَاءِ نَفْرِهِمُ التَّعْذِيبَ وَالِاسْتِبْدَالَ وَانْتِفَاءَ الضَّرَرِ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ إِرَادَتُهُ بِهِ قَدِيرٌ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالتَّغْيِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فِيهِ انْتِفَاءُ النَّصْرِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ مِنْ نَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ محذوف تفسيره: فَسَيَنْصُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ: يَنْصُرُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا نَصَرَهُ فِي الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ؟ (قُلْتُ) : فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: فَسَيَنْصُرُهُ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهُ النُّصْرَةَ وَجَعَلَهُ مَنْصُورًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُخْذَلْ مِنْ بَعْدِهِ انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَظْهَرُ مِنْهُ جَوَابُ الشَّرْطِ، لِأَنَّ إِيجَابَ النُّصْرَةِ لَهُ أَمْرٌ سَبَقَ، وَالْمَاضِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ يَخْرُجُ مَعِي؟» قَالَ: أَبُو بَكْرٍ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا صَحِبَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ خَرَجَ مِنْهَا كُلُّ مَنْ شَاهَدَ غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَإِنَّمَا الْمُعَاتَبَةُ لِمَنْ تَخَلَّفَ فَقَطْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنَوِّهَةٌ بِقَدْرِ أَبِي بَكْرٍ وَتَقَدُّمِهِ وَسَابِقَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبُهُمْ فِي الْجِهَادِ وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، إِذْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ، إِذْ كَانَ فِي الْغَارِ وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ أَحَدٌ سِوَى أَبِي بَكْرٍ.
وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: ثَانِي اثْنَيْنِ بِسُكُونِ يَاءِ ثَانِي. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: حَكَاهَا أَبُو عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ سَكَّنَ الْيَاءَ تَشْبِيهًا لَهَا بِالْأَلِفِ. وَالْغَارُ: نَقْبٌ فِي أَعْلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ فِي يُمْنَى مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةِ سَاعَةٍ، مَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا. إِذْ هُمَا: بَدَلٌ. وإذ يَقُولُ: بَدَلٌ ثَانٍ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ فَقَدْ كَفَرَ لِإِنْكَارِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ حَزْنِ أَبِي بَكْرٍ خَوْفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَاهُ الرَّسُولُ تَسْكِينًا لِقَلْبِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، يَعْنِي: بِالْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ قُتِلْتُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ وَذَهَبَ دِينُ اللَّهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنَّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي | وَنَحْنُ فِي سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ |
لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا | وَقَدْ تَكَفَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ |
وَإِنَّمَا كَيْدُ مَنْ تخشى بوارده | كَيْدُ الشَّيَاطِينِ قَدْ كَادَتْ لِكُفَّارِ |
وَاللَّهُ مُهْلِكُهُمْ طُرًّا بِمَا صَنَعُوا | وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ |
الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأَحْزَابِ، وَحُنَيْنٍ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الْوَقْتُ يُلْقُونَ الْبِشَارَةَ فِي قَلْبِهِ، وَيَصْرِفُونَ وُجُوهَ الْكُفَّارِ عَنْهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ عَائِدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ ثَابِتَ الْجَأْشِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا. وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي وَأَيَّدَهُ عَائِدٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ «١» يَعْنِي الرَّسُولَ، وَتُسَبِّحُوهُ:
يَعْنِي اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالسَّكِينَةُ عِنْدِي إِنَّمَا هِيَ مَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِنَ الْحِيَاطَةِ لَهُمْ، وَالْخَصَائِصِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُمْ كَقَوْلِهِ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «٢» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ مَا صَنَعَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ إِلَى وَقْتِ تَبُوكَ مِنَ الظُّهُورِ وَالْفُتُوحِ، لَا أَنْ يَكُونَ هَذَا يَخْتَصُّ بِقِصَّةِ الْغَارِ. وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ الشِّرْكُ، وَهِيَ مَقْهُورَةٌ. وَكَلِمَةُ اللَّهِ: هِيَ التَّوْحِيدُ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ. هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَلَّمَهُ الْكَافِرِينَ مَا قَرَّرُوا بَيْنَهُمْ مِنَ الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: أَنَّهُ نَاصِرُهُ.
وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَلِمَةُ الْكُفَّارِ قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: يَا لِبَنِي فُلَانٍ، وَيَا لِفُلَانٍ.
وَقِيلَ: كَلِمَةُ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «٣» وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَوْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ: اعْلُ هُبَلَ، يَعْنُونَ صَنَمَهُمُ الْأَكْبَرَ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَأَيَدَهُ وَالْجُمْهُورُ وَأَيَّدَهُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ. وقرىء: وَكَلِمَةُ اللَّهِ بِالنَّصْبِ أَيْ: وَجَعَلَ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالرَّفْعِ أَثْبَتُ فِي الْإِخْبَارِ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: وَجَعَلَ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعَلْيَاءَ، وَنَاسَبَ الْوَصْفُ بِالْعِزَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يَصْنَعُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ عَادَاهُمْ مِنْ إِعْزَازِ دِينِهِ وَإِخْمَادِ الْكُفْرِ.
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: لَمَّا تَوَعَّدَ تَعَالَى مَنْ لَا يَنْفِرُ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَرَبَ لَهُ مِنَ الْأَمْثَالِ مَا ضَرَبَ، أَتْبَعَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَزْمَ. وَالْمَعْنَى: انْفِرُوا عَلَى الْوَصْفِ الذي يحف عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجِهَادُ، أَوْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَثْقُلُ. وَالْخِفَّةُ وَالثِّقَلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَنْ يُمْكِنُهُ السَّفَرُ بِسُهُولَةٍ،
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٤٨.
(٣) سورة المجادلة: ٥٨/ ٢١.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَعَلَيَّ أَنْ أَنْفِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى نَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ «١»
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ أَشْيَاءَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ. قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: شَبَابًا وَشُيُوخًا. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ:
رُكْبَانًا وَمُشَاةً. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عُزْبَانًا وَمُتَزَوِّجِينَ. وَقَالَ جُوَيْبِرٌ: أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ أَيْ مُقِلِّينَ فِيهِ، وَثِقَالًا أَيْ مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: خِفَافًا مِنَ الْأَشْغَالِ وَثِقَالًا بِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خِفَافًا مِنَ الْعِيَالِ، وَثِقَالًا بِهِمْ. وَحَكَى التَّبْرِيزِيُّ: خِفَافًا من الأتباع والحاشية، ثقالا بِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: هُوَ مِنْ خِفَّةِ الْيَقِينِ وَثِقَلِهِ عِنْدَ الْكَرَاهَةِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: خِفَافًا إِلَى الطَّاعَةِ، وَثِقَالًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ. وَحَكَى صَاحِبُ الْفِتْيَانِ: خِفَافًا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، وَثِقَالًا فِي الْمُصَابَرَةِ. وَحَكَى أَيْضًا: خِفَافًا بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُبَادَرَةِ، وَثِقَالًا بَعْدَ التَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الثَّقِيلُ، وَغَيْرُ ذَوِي صَنْعَةٍ وَهُوَ الْخَفِيفُ. وحكى النقاش: شجعانا وجبنا. ويقل: مَهَازِيلَ وَسِمَانًا. وَقِيلَ: سِبَاقًا إِلَى الْحَرْبِ كَالطَّلِيعَةِ وَهُوَ مُقَدَّمُ الْجَيْشِ، وَالثِّقَالُ الْجَيْشُ بِأَسْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: النَّشِيطُ وَالْكَسْلَانُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَوْقُوفٌ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عُنِيَ بِهِ فَرْضُ الْأَعْيَانِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «٢» وَانْتَصَبَ خِفَافًا وَثِقَالًا عَلَى الْحَالِ. وَذُكِرَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ إِذْ ذَلِكَ وَصْفٌ لِأَكْمَلِ مَا يَكُونُ مِنَ الْجِهَادِ وَأَنْفَعِهِ عِنْدَ اللَّهِ، فَحَضَّ عَلَى كَمَالِ الْأَوْصَافِ وَقُدِّمَتِ الْأَمْوَالُ إِذْ هِيَ أَوَّلُ مَصْرِفٍ وَقْتَ التَّجْهِيزِ، وَذُكِرَ مَا الْمُجَاهِدُ فِيهِ وَهُوَ سَبِيلُ اللَّهِ. وَالْخَيْرِيَّةُ هِيَ فِي الدُّنْيَا بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَوِرَاثَةِ الْأَرْضِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ وَرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَدْ غَزَا أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى غَزَا فِي الْبَحْرِ وَمَاتَ فِيهِ، وَغَزَا الْمِقْدَادُ عَلَى ضَخَامَتِهِ وَسِمَنِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ مَعَ كَوْنِهِ أَعْمَى.
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ: أَيْ لَوْ كَانَ مَا
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٢.
لا تبعوك: لَبَادَرُوا إِلَيْهِ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ، وَلَا لِظُهُورِ كَلِمَتِهِ، وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أَيْ:
الْمَسَافَةُ الطَّوِيلَةُ فِي غَزْوِ الرُّومِ. وَالشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيَابِ، وَالشُّقَّةُ أَيْضًا السَّفَرُ الْبَعِيدُ، وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ قَالَهُ: الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الشُّقَّةُ الْغَايَةُ الَّتِي تُقْصَدُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: الشُّقَّةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَرْضِ يَشُقُّ رُكُوبُهَا. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الشُّقَّةُ الْمَسِيرُ إِلَى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الشَّقِّ، أَوْ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ: بَعِدَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقَّةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالشِّينِ، وَافَقَهُ الْأَعْرَجُ فِي بَعِدَتْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّهَا لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ فِي اللَّفْظَيْنِ انْتَهَى. وَحَكَى الْكِسَائِيُّ: شُقَّةً وَشِقَّةً. وَسَيَحْلِفُونَ: أَيِ الْمُنَافِقُونَ، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِغَيْبٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ، مَا نَصُّهُ بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِسَيَحْلِفُونَ، أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَالْقَوْلُ مُرَادٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَيْ: سَيَحْلِفُونَ مُتَخَلِّصِينَ عِنْدَ رُجُوعِكَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مُعْتَذِرِينَ، يَقُولُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، أَوْ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يَقُولُونَ لَوِ اسْتَطَعْنَا. وَقَوْلُهُ: لَخَرَجْنَا سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا وَالْإِخْبَارُ بِمَا سَوْفَ يَكُونُ بَعْدَ الْقَوْلِ مِنْ حَلِفِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ. وَمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ اسْتِطَاعَةُ الْعُدَّةِ، وَاسْتِطَاعَةُ الْأَبْدَانِ، كَأَنَّهُمْ تَمَارَضُوا انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَخَرَجْنَا، سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَلَوْ جَمِيعًا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ لِلنَّحْوِيِّينَ فِي هَذَا مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ عَلَى قَاعِدَةِ اجْتِمَاعِ الْقَسَمِ وَالشَّرْطِ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بن عصفور. والآخران لَخَرَجْنَا هُوَ جَوَابُ لَوْ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ هُوَ لَوْ وَجَوَابُهَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنُ مَالِكٍ. أَنَّ لَخَرَجْنَا يَسُدُّ مسدهما، فلا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُتَأَوَّلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا حُذِفَ جَوَابُ لَوْ، وَدَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الْقَسَمِ جُعِلَ، كَأَنَّهُ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ لَوْ جَمِيعًا.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوِ اسْتَطَعْنَا بِضَمِّ الْوَاوِ، فرّ مِنْ ثِقَلِ الْكَسْرَةِ عَلَى الْوَاوِ وَشَبَّهَهَا بِوَاوِ الْجَمْعِ عِنْدَ تَحْرِيكِهَا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِفَتْحِهَا كَمَا جاء:
سيلحفون بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا؟ يُقَالُ: حَلَفَ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَالْغَيْبَةُ عَلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ، وَالتَّكَلُّمُ على الحكام انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُ يُهْلِكُونَ بَدَلًا مِنْ سَيَحْلِفُونَ فَبَعِيدٌ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْحَلِفِ، وَلَا هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَلِفِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ فِعْلٌ مِنْ فِعْلٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادِفًا لَهُ أَوْ نَوْعًا مِنْهُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لَخَرَجْنَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَخَرَجْنَا فِيهِ ضَمِيرُ التَّكَلُّمِ، فَالَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ. فَلَوْ كَانَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَخَرَجْنَا لَكَانَ التَّرْكِيبُ: نُهْلِكُ أَنْفُسَنَا أَيْ: مُهْلِكِي أَنْفُسِنَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ ذَلِكَ عَلَى حَلِفٍ بِاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِذَا أَجْرَاهُ عَلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، لَوْ قُلْتُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَيَفْعَلَنَّ وَأَنَا قَائِمٌ، عَلَى أَنْ يَكُونَ وَأَنَا قَائِمٌ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَيَفْعَلَنَّ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا عَكْسُهُ نَحْوُ: حَلَفَ زَيْدٌ لَأَفْعَلَنَّ يَقُومُ، تُرِيدُ قَائِمًا لَمْ يَجُزْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَجَاءَ بِهِ عَلَى لَفْظِ الْغَائِبِ لِأَنَّهُ مُخْبَرٌ عَنْهُمْ فَهِيَ مُغَالَطَةٌ لَيْسَ مُخْبَرًا عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ، بَلْ هُوَ حَاكٍ لَفْظَ قَوْلِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَرَى لَوْ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَاعُوا لَخَرَجُوا لَكَانَ سَدِيدًا إِلَى آخِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، بَلْ حِكَايَةً. وَالْحَالُ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِمُ الْمَحْكِيِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ ذِي الْحَالِ وَحَالِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعَامِلِ. لَوْ قُلْتَ: قَالَ زَيْدٌ: خَرَجْتُ يَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ أَضْرِبُ خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ قُلْتَ: قَالَتْ هِنْدُ: خَرَجَ زَيْدٌ أَضْرِبُ خَالِدًا، تُرِيدُ خَرَجَ زَيْدٌ ضَارِبًا خَالِدًا، لَمْ يَجُزْ.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي صِنْفٍ مُبَالِغٍ فِي النِّفَاقِ. وَاسْتَأْذَنُوا دُونَ اعْتِذَارٍ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي، والجد بن قيس، وَرِفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي.
قَالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً»
لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ «١» لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ. وَاسْتَأْذَنَهُ الْمُخَلَّفُونَ فِي التَّخَلُّفِ وَاعْتَذَرُوا، اخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَأَقَامُوا لِلنِّفَاقِ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي إِظْهَارِ الطَّاعَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْكَ عِنْدَهُ افْتِتَاحُ كَلَامٍ أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ، أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَهُ مِنَ الْإِذْنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَفْوًا عَنْ ذَنْبٍ، إِنَّمَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الْإِذْنِ لَهُمْ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَفَا اللَّهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ»
وَمَا وَجَبَتَا قَطُّ وَمَعْنَاهُ: تَرَكَ أَنْ يُلْزِمَكُمْ ذَلِكَ انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَقَالُوا: ذِكْرُ الْعَفْوِ هُنَا لَمْ يَكُنْ عَنْ تَقَدُّمِ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ جَرَتْ عَادَةُ العربان تُخَاطِبَ بِمِثْلِهِ لِمَنْ تُعَظِّمُهُ وَتَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الدُّعَاءَ لَهُ فَيَقُولُونَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ كَانَ كَذَا وَكَذَا، فَعَلَى هَذَا صِيغَتُهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ انْتَهَى.
وَلِمَ وَلَهُمْ مُتَعَلِّقَانِ بِأَذِنْتَ، لَكِنَّهُ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ اللَّامَيْنِ، إِذْ لَامُ لِمَ لِلتَّعْلِيلِ، وَلَامُ لَهُمْ لِلتَّبْلِيغِ، فَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَمُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَمَا قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْقُعُودُ أَيْ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ عَنْ الْغَزْوِ حَتَّى تَعْرِفَ ذَوِي الْعُذْرِ فِي التَّخَلُّفِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْإِذْنِ هُوَ الْخُرُوجُ مَعَهُ لِلْغَزْوِ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى خُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَيْنًا لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «٢» وَكَانُوا يَخْذُلُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فِي إِخْرَاجِهِمْ وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ؟ وَبَيَّنَ أَنَّ خُرُوجَهُمْ مَعَهُ لَيْسَ مَصْلَحَةً بِقَوْلِهِ:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «٣». وَحَتَّى غَايَةٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِفْهَامُ أَيْ: مَا كَانَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَنْ لَهُ الْعُذْرُ، هَكَذَا قَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٤٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٤٧.
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ تَبُوكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الِاسْتِئْذَانِ هُوَ أَنْ يُجَاهِدُوا أَيْ: لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنُوكَ فِي أَنْ يُجَاهِدُوا، وَكَانَ الْخُلَّصُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا، وَيَقُولُونَ: لَنُجَاهِدَنَّ مَعَهُ بِأَمْوَالِنَا وَأَنْفُسِنَا.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْخُرُوجِ وَلَا الْقُعُودِ كَرَاهَةَ أَنْ يُجَاهِدُوا، بَلْ إِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ ابْتَدَرُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَامَةً عَلَى النِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ، شَهَادَةٌ لَهُمْ بِالِانْتِظَامِ فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ، وَعِدَةٌ لَهُمْ بِأَجْزَلِ الثَّوَابِ.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَكَانُوا تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. وَمَعْنَى ارْتَابَتْ: شَكَّتْ. وَيَتَرَدَّدُونَ:
يَتَحَيَّرُونَ، لَا يَتَّجِهُ لَهُمْ هُدًى فَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ صِحَّةُ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَتَارَةً يَخْطُرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ وَالرَّاحِلَةِ، لِأَنَّ سَفَرَهُمْ بَعِيدٌ فِي زَمَانِ حَرٍّ شَدِيدٍ. وَفِي تَرْكِهِمُ الْعُدَّةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّخَلُّفَ. وَقَالَ قَوْمٌ: كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ: كُلُّ مَا يُعَدُّ لِلْقِتَالِ مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ: عُدَّ بِضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ: تَسْقُطُ التَّاءُ لِلْإِضَافَةِ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ أَيْ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ. وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ أَبْيَاتٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ لَا يَقِيسُ ذَلِكَ، إِنَّمَا نَقِفُ فِيهِ مَعَ مَوْرِدِ السَّمَاعِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: لَمَّا أضاف جعل الكناية تائبة عَنِ التَّاءِ فَأَسْقَطَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَّ بِغَيْرِ تَاءٍ، وَلَا تَقْدِيرُهَا هُوَ الْبَثْرُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ جَمْعُ عُدَّةٍ كَبُرَّةٍ وَبُرٍّ وَدُرَّةٍ وَدُرٍّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ عُدَدٌ، وَلَكِنْ لَا يُوَافِقُ خط المصحف. وقرأ ذر بْنُ حُبَيْشٍ وَأَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: عِدَّهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَهَاءِ إِضْمَارٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ عِنْدِي اسْمٌ لِمَا يُعَدُّ كَالذَّبْحِ وَالْقَتْلِ لِلْعَدِّ، وَسُمِّيَ قَتْلًا إِذْ حقه أن يقتل.
وقرىء أَيْضًا: عِدَّةً بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَبِالتَّاءِ دُونَ إِضَافَةٍ أَيْ: عِدَّةً مِنَ الزَّادِ وَالسِّلَاحِ، أَوْ مِمَّا لَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَدَدِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَجَاءَ بَعْدَهَا وَلَكِنْ، وَكَانَتْ لَا تَقَعُ إِلَّا بَيْنَ نَقِيضَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، لَا بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ، وَكَانَ ظَاهِرُ مَا بَعْدَ لَكِنْ مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كيف مَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ؟ (قُلْتُ) : لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مُعْطِيًا مَعْنَى نَفْيِ خُرُوجِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْغَزْوِ. قِيلَ: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا خَرَجُوا وَلَكِنْ تَثَبَّطُوا عَنِ الْخُرُوجِ لِكَرَاهَةِ انْبِعَاثِهِمْ، كَمَا تَقُولُ:
مَا أَحْسَنَ إِلَيَّ زِيدٌ وَلَكِنْ أَسَاءَ إِلَيَّ انْتَهَى. وَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَظِيرَ هَذَا الْمِثَالِ، لِأَنَّ الْمِثَالَ وَاقِعٌ فِيهِ لَكِنْ بَيْنَ ضِدَّيْنِ، وَالْآيَةُ وَاقِعٌ فِيهَا لَكِنْ بَيْنَ مُتَّفِقَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَالِانْبِعَاثُ الِانْطِلَاقُ وَالنُّهُوضُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَثَبَّطَهُمْ كَسَلُهُمْ وَفَتْرُ نِيَّاتِهِمْ. وَبُنِيَ وَقِيلَ لِلْمَفْعُولِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ: إِذْنَ الرَّسُولِ لَهُمْ فِي الْقُعُودِ، أَوْ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى، أَوْ حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي سَابِقِ قَضَائِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ إِلْقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ أَمْرًا بِالْقُعُودِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ. قَالَ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
كَيْفَ جَازَ أَنْ يُوقِعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِهِمْ كَرَاهَةَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْهَامِ الْقَبِيحِ. (قُلْتُ) : خُرُوجُهُمْ كَانَ مَفْسَدَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «١» فَكَانَ إِيقَاعُ كَرَاهَةِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ فِي نُفُوسِهِمْ حَسَنًا وَمَصْلَحَةً انْتَهَى. وَهَذَا
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي |
لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ فِيمَنْ تَخَلَّفَ فَنَزَلَتْ بِعُرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ كَارِهُونَ.
وَفِيكُمْ أَيْ: فِي جَيْشِكُمْ أَوْ فِي جُمْلَتِكُمْ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى مَعَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْخَبَالُ الْفَسَادُ وَمُرَاعَاةُ إِخْمَادِ الْكَلِمَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمَكْرُ وَالْغَدْرُ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى:
الِاضْطِرَابُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الشَّرُّ، وَقَالَهُ: ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ: إِيقَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالْأَرَاجِيفِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْخَبَالِ فِي آلِ عِمْرَانَ. وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ مُفَرَّغٌ، إِذِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِزَادَ لَمْ يُذْكَرْ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُنَافِقُونَ كَثِيرٌ، وَلَهُمْ لَا شَكَّ خَبَالٌ، فَلَوْ خَرَجَ هَؤُلَاءِ لَتَأَلَّبُوا فَزَادَ الْخَبَالُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ، فَكَانَ هُوَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لأنّ بَعْضُ أَعَمِّ الْعَامِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا زَادُوكُمْ شَيْئًا إِلَّا خَبَالًا. وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَسْكَرِ الرَّسُولِ خَبَالٌ. فَالْمَعْنَى: مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً وَلَا شِدَّةً لَكِنْ خَبَالًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: مَا زَادُوكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، يَعْنِي: مَا زَادَكُمْ خُرُوجُهُمْ إِلَّا خَبَالًا. وَالْإِيضَاعُ الْإِسْرَاعُ قَالَ:
أُرَانَا مُوضِعِينَ لأمر غريب | وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ |
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ | أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ |
وَمَفْعُولُ أَوْضَعُوا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَأَوْضَعُوا رَكَائِبَكُمْ بَيْنَكُمْ، لِأَنَّ الراكب أسرع من
بِزُجَاجَةٍ رَفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا | رَفْضَ الْقَلُوصِ بِرَاكِبٍ مُسْتَعْجِلِ |
وَالرَّافِضَاتُ إِلَى مِنًى فالقبقب والخلاف جَمْعُ الْخَلَلِ، وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: تَخَلَّلْتُ الْقَوْمَ دَخَلْتُ بَيْنَ خَلَلِهِمْ وَخِلَالِهِمْ، وَجَلَسْنَا خِلَالَ الْبُيُوتِ وَخِلَالَ الدُّورِ أَيْ: بَيْنَهَا، وَيَبْغُونَ حَالٌ أَيْ: بَاغِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَبْغُونَهَا لَكُمْ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا الْكُفْرُ قَالَهُ: مُقَاتِلٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالضَّحَّاكُ. أَوِ الْعَيْبُ وَالشَّرُّ قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ. أَوْ تَفْرِيقُ الْجَمَاعَةِ أَوِ الْمِحْنَةُ بِاخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ أَوِ النَّمِيمَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحَاوِلُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ بِأَنْ يُوقِعُوا الْخِلَافَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَيُفْسِدُوا نِيَّاتِكُمْ فِي مَغْزَاكُمْ. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ: نَمَّامُونَ يَسْمَعُونَ حَدِيثَكُمْ فَيَنْقُلُونَهُ إِلَيْهِمْ، أَوْ فِيكُمْ قَوْمٌ يَسْتَمِعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ انْتَهَى. فَاللَّامُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَفِي الثَّانِي لِتَقْوِيَةِ التَّعْدِيَةِ كَقَوْلِهِ: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «٢» وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَهُ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ زَيْدٍ، قَالُوا: مَعْنَاهُ جَوَاسِيسُ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ قَالُوا: مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مُطِيعُونَ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.
وَمَعْنَى وَفِيكُمْ فِي خِلَالِكُمْ مِنْهُمْ، أَوْ مِنْكُمْ مِمَّنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يَعُمُّ كُلَّ ظَالِمٍ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ يُجَازِيهِ عَلَى ظُلْمِهِ. وَانْدَرَجَ فِيهِ مَنْ يَقْبَلُ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ، وَمَنْ يُؤَدِّي إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّبَبِ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ رُجُوعِ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ، حَقَّرَ شَأْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدِيمًا سَعَوْا عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَلَ اللَّهُ سَعْيَهُمْ، وَفِي الْأُمُورِ الْمُقَلَّبَةِ أَقْوَالٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغَوْا لَكَ الْغَوَائِلَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَفَ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الثَّنِيَّةِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ كَيْ يَفْتِكُوا بِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: احْتَالُوا فِي تَشْتِيتِ أَمْرِكَ وَإِبْطَالِ دِينِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانْصِرَافِ ابْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ
(٢) سورة هود: ١١/ ١٠٧.
هُوَ حُوَّلٌ قُلَّبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: وَقَلَبُوا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ. حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ أَيْ: الْقُرْآنُ وَشَرِيعَةُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ. وَلَفْظَةُ جَاءَ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ذَهَبَ. وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَصَفَهُ بِالظُّهُورِ لِأَنَّهُ كَانَ كَالْمَسْتُورِ أَيْ: غَلَبَ وَعَلَا دِينُ اللَّهِ. وَهُمْ كَارِهُونَ لِمَجِيءِ الْحَقِّ وَظُهُورِ دِينِ اللَّهِ. وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي إِثَارَةِ الشَّرِّ فَإِنَّهُمْ مُذْ رَامُوا ذَلِكَ رَدَّهُ اللَّهُ فِي نَحْرِهِمْ، وَقَلَبَ مُرَادَهُمْ، وَأَتَى بِضِدِّ مَقْصُودِهِمْ، فَكَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَذَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ:
نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ، وَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِالْغَزْوِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ حَرَّضَ النَّاسَ فَقَالَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: «هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ» وَقَالَ لَهُ وَلِلنَّاسِ:
«اغْزُوا تَغْنَمُوا بَنَاتِ الْأَصْفَرِ».
فَقَالَ الْجَدُّ: ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلَا تفتني بكر بَنَاتِ الْأَصْفَرِ، فَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي لَا أَتَمَالَكُ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا رَأَيْتُهُنَّ وتفتني، وَلَا تَفْتِنِّي بِالنِّسَاءِ.
هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ زَيْدٍ. وَقِيلَ: وَلَا تَفْتِنِّي أَيْ وَلَا تُصَعِّبْ عَلَيَّ حَتَّى أَحْتَاجَ إِلَى مواقعة معصيتك فسهّل أنت عَلَيَّ، وَدَعْنِي غَيْرَ مُخْتَلِجٍ. وَقَالَ قَرِيبًا مِنْهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ قَالُوا: لَا تُكْسِبُنِي الْإِثْمَ بِأَمْرِكَ إِيَّايَ بِالْخُرُوجِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَسِّرٍ لِي، فَآثَمُ بِمُخَالَفَتِكَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا تُكَفِّرْنِي بِإِلْزَامِكَ الْخُرُوجَ مَعَكَ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: لَا تَصْرِفْنِي عَنْ شُغْلِي فَتُفَوِّتْ عَلَيَّ مَصَالِحِي وَيَذْهَبْ أَكْثَرُ ثِمَارِي. وَقِيلَ: ولا تفتني فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنِّي إِذَا خَرَجْتُ مَعَكَ هَلَكَ مَالِي وَعِيَالِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ أُعِينُكَ بِمَالِي. وَمُتَعَلَّقُ الْإِذْنِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فِي الْقُعُودِ وَفِي مُجَاوَرَتِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقَرَأَ وَرْشٌ: بِتَخْفِيفِ هَمْزَةِ ائْذَنْ لِي بِإِبْدَالِهَا وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ مَا مَعْنَاهُ: إِذَا دَخَلَتِ الْوَاوُ أو الفاء على أأئذن، فَهِجَاؤُهَا فِي الْخَطِّ أَلِفٌ وَذَالٌ وَنُونٌ بِغَيْرِ يَاءٍ، أَوْ ثُمَّ فَالْهِجَاءُ أَلِفٌ وَيَاءٌ وَذَالٌ وَنُونٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ ثُمَّ يُوقَفُ عَلَيْهَا وَتَنْفَصِلُ بِخِلَافِهِمَا. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عَمْرٍو: لَا تُفْتِنِّي بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى مِنْ أَفْتَنَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَهِيَ أيضا قراءة ابن السميفع، وَنَسَبَهَا ابْنُ مُجَاهِدٍ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ. وَجَمَعَ الشَّاعِرُ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فَقَالَ:
لَئِنْ فَتَنَتْنِي فَهِيَ بِالْأَمْسِ أَفْتَنَتْ | سَعِيدًا فَأَمْسَى قَدْ قَلَا كُلَّ مُسْلِمِ |
إِنَّ السُّعَاةَ عَصَوْكَ حِينَ بَعَثْتَهُمْ | لَمْ يَفْعَلُوا مِمَّا أَمَرْتَ فَتِيلًا |
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَيِّدًا | فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ |
يَتِمُّ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْصِبَاءِ. وَقِيلَ: مِنْ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالشَّافِعِيُّ: هُوَ الثَّمَنُ عَلَى قَسْمِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَدَاوُدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْهُ: يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْإِمَامِ، هَلْ لَهُ حق في الصدقات؟ فهمنهم مَنْ قَالَ: هُوَ الْعَامِلَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ وَمَنِ اسْتَنَابَهُ، فَلَوْ فَرَّقَهَا الْمُزَكِّي بِنَفْسِهِ دُونَ إِذْنِ الْإِمَامِ أَخَذَهَا مِنْهُ ثَانِيًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الصَّدَقَةِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَيَأْخُذَ عَمَالَتَهُ مِنْهَا، فَإِنْ تَبَرَّعَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَوَازِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بَأْسَ لَهُمْ بِالْعَمَالَةِ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَقِيلَ: إِنْ عَمِلَ أُعْطِيهَا مِنَ الْخُمُسِ.
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ أَشْرَافُ الْعَرَبِ مُسْلِمُونَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، أَعْطَاهُمْ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمُؤَلِّفَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَمِنَ الْمُؤَلِّفَةِ: أَبُو سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَرْثُ بْنُ هِشَامٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَالْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ، فَهَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَعِيرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ. وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهَبٍ الْجُمَحِيُّ، وَهِشَامُ بن عمرو لعايدي، أَعْطَاهُمْ دُونَ الْمِائَةِ. وَمِنَ الْمُؤَلَّفَةِ: سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْحَرْثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ. وَحَسُنَ إِسْلَامُ الْمُؤَلَّفَةِ حَاشَا عُيَيْنَةَ فَلَمْ يَزَلْ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَفِي الرِّقَابِ فَالتَّقْدِيرُ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ فَيُعْطِي مَا حَصَلَ بِهِ فَكُّ الرِّقَابِ مِنِ ابْتِدَاءِ عِتْقٍ يَشْتَرِي مِنْهُ الْعَبْدَ فَيُعْتَقُ، أَوْ تَخْلِيصِ مُكَاتَبٍ أَوْ أَسِيرٍ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ سيرين: لا يجزيء أَنْ يُعْتِقَ مِنَ الزَّكَاةِ رَقَبَةً كَامِلَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ: أَعْتِقْ مِنْ زَكَاتِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يُعْتِقُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِلْمُعَتَقِ. وَعَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: لَا يُعْطَى الْمُكَاتَبُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا، وَلَا عَبْدٌ كَانَ مَوْلَاهُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمَالِكٍ: هُوَ ابْتِدَاءُ الْعِتْقِ وَعَوْنِ الْمُكَاتَبِ بِمَا يَأْتِي عَلَى حُرِّيَّتِهِ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ. وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّ فَكَّ رِقَابِ الْأُسَارَى يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: وَفِي الرِّقَابِ، فَيُصْرَفُ فِي فِكَاكِهَا مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَهْمُ الرِّقَابِ نِصْفَانِ: نِصْفٌ لِلْمُكَاتَبِينَ، وَنِصْفٌ يُعْتَقُ مِنْهُ رِقَابٌ مُسْلِمُونَ مِمَّنْ صَلَّى.
وَالْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَهُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَزَادَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا إِسْرَافٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ إِذْ هُوَ غَارِمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْضَى مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَلَا يُقْضَى مِنْهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْوُهَا مِنْ صُنُوفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا الْغَارِمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحْبَسُ فِيهِ. وَقِيلَ: يَدْخُلُ فِي الْغَارِمِينَ مَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَاتٍ فِي إِصْلَاحٍ وَبِرٍّ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ.
لَا يُعْطَى الْغَنِيُّ إِلَّا إِنِ احْتَاجَ فِي غَزْوَتِهِ، وَغَابَ عَنْهُ وَفْرُهُ. وقال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحَبَاهُ:
لَا يُعْطَى إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ مُنْقَطِعًا بِهِ، وَإِذَا أُعْطِيَ مَلَكَ، وَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي غَزْوَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَيُجْعَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْهَا إِلَى الْحُجَّاجِ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ، وَالْحَجِيجِ الْمُنْقَطَعِ بِهِمُ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ تَعْدَادُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، وَاشْتِرَاطُ الْفَقْرِ فِي بَعْضِهَا يَقْضِي بِالتَّدَاخُلِ. فَإِنْ كَانَ الْغَازِي أَوِ الْحَاجُّ شَرْطُ إِعْطَائِهِ الْفَقْرَ، فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ الْفُقَرَاءِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ بِوَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ جَازَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى، لِأَنَّهُ قَامَ بِهِ الْوَصْفُ الَّذِي اقْتَضَى الصَّرْفَ إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يُعْطَى مِنْهَا فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، وَلَا قَنْطَرَةٍ، وَلَا شِرَاءِ مُصْحَفٍ انْتَهَى.
وَابْنُ السَّبِيلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَابِرُ السَّبِيلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي آخَرِينَ: هُوَ الضَّيْفُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هُوَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي بَلَدِهِ. وَقَالَتْ جماعة: هو إلحاح الْمُنْقَطِعُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ الَّذِي قُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ. وَفِي كِتَابِ سَحْنُونَ قَالَ مَالِكٌ: إِذَا وُجِدَ الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بِهِ مَنْ يُسْلِفُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالظَّاهِرُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَا يُغْنِيهِ فِي طَرِيقِهِ لِأَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ لَا يُعْطَى.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ عَدَلَ عَنِ اللَّامِ إِلَى فِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ؟
(قُلْتُ) : لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لِأَنَّ فِي لِلْوِعَاءِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقَاتُ وَيُجْعَلُوا مَظِنَّةً لَهَا وَمَصَبًّا، وَذَلِكَ لِمَا فِي فَكِّ الرِّقَابِ من الكتابة أو الرق أَوِ الْأَسْرِ، وَفِي فَكِّ الْغَارِمِينَ مِنَ الْغُرْمِ مِنَ التَّخْلِيصِ وَالْإِنْقَاذِ، وَلِجَمْعِ الْغَازِي الْفَقِيرِ أَوِ الْمُنْقَطِعِ فِي الْحَجِّ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جَامِعٌ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَتَكْرِيرُ فِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي سبيل الله وابن السبيل، فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَكَيْفَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَضَاعِيفِ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَمَكَائِدِهِمْ؟ (قُلْتُ) : دَلَّ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ، مَعْنَاهُ فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ الصَّدَقَاتُ لهم. وقرىء فَرِيضَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى تِلْكَ فَرِيضَةٌ انْتَهَى. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ: فَرِيضَةً حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الفقر، أَيْ مَفْرُوضَةً.
قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَمَا تَقُولُ هِيَ لَكَ طَلَقًا انْتَهَى. وَذُكِرَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا مَصْدَرٌ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقَاتِ فَرِيضَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْقَطْعِ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، لِأَنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ هُوَ عَنْ عِلْمٍ مِنْهُ بِخَلْقِهِ وَحِكْمَةٍ مِنْهُ فِي الْقِسْمَةِ، أَوْ عَلِيمٌ بِمَقَادِيرِ الْمَصَالِحِ، حَكِيمٌ لَا يَشْرَعُ إِلَّا مَا هُوَ الأصلح.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦١ الى ٧٢]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
قَدْ كُنْتَ تَعْرِفُ آيَاتٍ فَقَدْ جَعَلَتْ | إِطْلَالَ إِلْفِكَ بِالْوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ |
أَبُو زَيْدٍ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِنْ يَسْتَضِيفُوا إِلَى حِلْمِهِ | يُضَافُوا إِلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنَ |
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
كَانَ
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَبْتَلَ بن الحرث كَانَ يَنُمُّ حَدِيثَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ وَزَمْعَةَ بْنِ ثَابِتٍ فِي آخَرِينَ أَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي الرَّسُولِ وَعِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فَحَقَرُوهُ، فَقَالُوا: لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَغَضِبَ الْغُلَامُ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَنْتُمْ لَشَرُّ مِنَ الْحَمِيرِ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَدَعَاهُمْ، فَسَأَلَهُمْ، فَحَلَفُوا إِنَّ عَامِرًا كَاذِبٌ، وَحَلَفَ عَامِرٌ إِنَّهُمْ كَذَبَةٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَنَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ صِدْقُ الصَّادِقِ وَكَذِبُ الْكَاذِبِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: أُذُنٌ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ مَقَالَ كُلِّ أَحَدٍ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْأُذُنُ الرَّجُلُ الَّذِي يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، وَيَقْبَلُ قَوْلَ كُلِّ أَحَدٍ، سُمِّيَ بِالْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ آلَةُ السَّمَاعِ، كَأَنَّ جُمْلَتَهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ لِلرِّئْيَةِ: عَيْنٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ صِرْتُ أُذُنًا لِلْوُشَاةِ سَمِيعَةً | يَنَالُونَ مِنْ عِرْضِي وَلَوْ شِئْتُ مَا نَالُوا |
رَجُلُ صِدْقٍ، تُرِيدُ الْجَوْدَةَ وَالصَّلَاحَ. كَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ، وَلَكِنْ نِعْمَ الْأُذُنُ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ هُوَ أُذُنٌ فِي الْخَيْرِ وَالْحَقِّ وَمَا يَجِبُ سَمَاعُهُ وَقَبُولُهُ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عليه خير ورحمة فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَرَّهَا عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُمَا وَلَا يَقْبَلُهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ قُلْ: أُذُنٌ بِالتَّنْوِينِ خَيْرٌ بِالرَّفْعِ. وَجَوَّزُوا فِي أُذُنٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وخير خَبَرٌ ثَانٍ لِذَلِكَ الْمَحْذُوفِ أَيْ: هُوَ أُذُنٌ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ وَلَا يُكَافِئُكُمْ عَلَى سُوءِ خَلَّتِكُمْ. وَأَنْ يَكُونَ خير صفة لأذن أَيْ: أُذُنٌ ذُو خَيْرٍ لَكُمْ. أَوْ عَلَى أَنَّ خَيْرًا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ أَيْ: أَكْثَرُ خَيْرًا لَكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ أُذُنٌ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ خبر. وَجَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِالنَّكِرَةِ عَنِ النَّكِرَةِ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ فِيهِ قَالَهُ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ وَصْفٍ أَيْ:
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَصَدَ التَّصْدِيقَ بِاللَّهِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْكُفْرِ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ، وَقَصَدَ الِاسْتِمَاعَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ مَا يَقُولُونَ فَعُدِّيَ بِاللَّامِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ «١» مَا أنباه عَنِ الْبَاءِ وَنَحْوُهُ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ «٢» أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «٣» آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ «٤» انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يُصَدِّقُ بِاللَّهِ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ كَمَا هِيَ فِي رَدِفَ لَكُمْ «٥» وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الْفِعْلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَإِيمَانُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: وَتَصْدِيقُهُ. وَقِيلَ: يُقَالُ آمَنْتُ لَكَ بِمَعْنَى صَدَّقْتُكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «٦» وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الَّتِي مَعَهَا اللَّامُ فِي ضِمْنِهَا بَاءٌ فَالْمَعْنَى: وَيُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يُخْبِرُونَهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا بِمَا نَقُولُهُ لَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ أُبَيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، والأعمش، وَحَمْزَةُ: وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا على خبر، فَالْجُمْلَةُ مِنْ يُؤْمِنُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يُؤْمِنُ، ويؤمن صفة لأذن خَيْرٍ. وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالنَّصْبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ التَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً يَأْذَنُ لَكُمْ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَيْهِ. وَأَبْرَزَ اسْمَ الرَّسُولِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ ضَمِيرًا عَلَى نَسَقِ يُؤْمِنُ بِلَفْظِ الرَّسُولِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَجَمْعًا لَهُ فِي الْآيَةِ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي تَشْرِيفِهِ، وَحَتَمَ عَلَى مَنْ أَذَاهُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَذَوْا هَذَا الْإِيذَاءَ الخاص وغيرهم.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٨٣.
(٣) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١١.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١٢٣.
(٥) سورة النمل: ٢٧/ ٧٢.
(٦) سورة يوسف: ١٢/ ١٧.
عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا، فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ الرسول ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ اعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا وَاعْتَلُّوا، قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ، وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ حَلَفَ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ، فَقَبِلَ الرَّسُولُ أَعْذَارَهُمْ وَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ بِالْحَقِّ ثَلَاثَةٌ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى كَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَهَلَكُوا جَمِيعًا بِآفَاتٍ، وَنَجَا الَّذِينَ صَدَقُوا. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ حَلَفُوا أن لا يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمُرَادُ جَمِيعُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي الدِّينِ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ وَحَرْبٍ، وَهُمْ يُبْطِنُونَ النِّفَاقَ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. وَاللَّامُ فِي لِيُرْضُوكُمْ لَامُ كَيْ، وَأَخْطَأَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا جَوَابُ الْقَسَمِ، وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ فِي أَنْ يُرْضُوهُ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ مَرْضِيٍّ وَاحِدٍ، إِذْ رِضَا اللَّهِ هُوَ رِضَا الرَّسُولِ، أَوْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ، حُذِفَتِ الْأُولَى لِدَلَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهَا، وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ. وَهَذَا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ |
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ | كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ |
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أَيْ أَلَمْ يَعْلَمِ الْمُنَافِقُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالْإِنْكَارُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْرَجُ: بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْتِفَاتٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرَ. وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ فَهُوَ خِطَابُ تَعْظِيمٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلتَّعَجُّبِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا تَعْجَبَ مِنْ جَهْلِهِمْ فِي مُحَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى: وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ أَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى.
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلسَّامِعِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَلَمْ تَعْلَمْ، الْخِطَابُ لِمَنْ حَاوَلَ تَعْلِيمَ إِنْسَانٍ شَيْئًا مُدَّةً وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّعْلِيمِ فَلَمْ يَعْلَمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ بَعْدَ الْمَبَاحِثِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُدَّةِ الْمَدِيدَةِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ طَالَ مُكْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ، وَكَثُرَ مِنْهُ التَّحْذِيرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّرْغِيبُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُحَادَّةُ الْمُخَالَفَةُ، حَادَدْتُهُ خَالَفْتُهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَدِّ أَيْ كَانَ عَلَى حَدٍّ غَيْرِ حَادَّةٍ كَقَوْلِكَ: شَاقَّهُ، كَانَ فِي شِقٍّ غَيْرِ شِقِّهِ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ:
الْمُحَادَّةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيدِ، حَدِيدِ السِّلَاحِ. وَالْمُحَادَّةُ هُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُخَالَفَةُ.
وَقِيلَ: الْمُحَارَبَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَانَدَةُ. وَقِيلَ: الْمُعَادَاةُ. وَقِيلَ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمُخَالَفَةِ.
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَأَنَّ لَهُ بِالْفَتْحِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ. فَتَقْتَضِي جُمْلَةً وإنّ لَهُ مُفْرَدٌ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقَدَّمًا نَكِرَةً أَيْ:
فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُ: مُتَأَخِّرًا أَيْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَاجِبٌ، قَالَهُ: الْأَخْفَشُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ أَنَّ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ. وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو حَاتِمٍ الِابْتِدَاءَ بِهَا مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْخَبَرِ، فَالْأَخْفَشُ خَرَجَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ. أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ أَنَّ لَهُ النَّارَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ:
وَقَالَ الْجَرْمِيُّ وَالْمُبَرَّدُ: أَنَّ الثَّانِيَةُ مُكَرَّرَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلَهُ نَارُ جَهَنَّمَ، وَكَرَّرَ أَنَّ تَوْكِيدًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَأَنَّ لَهُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنَّهُ، عَلَى أَنَّ جَوَابَ مَنْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَهْلَكْ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ انْتَهَى، فَيَكُونُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَهَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا حُذِفَ الْجَوَابُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَانَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا فِي اللَّفْظِ، أو مضارعا مجزوما بلم، فَمِنْ كَلَامِهِمْ: أَنْتَ ظَالِمٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ تَفْعَلْ، وَهُنَا حُذِفَ جَوَابُ الشَّرْطِ،
وَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَأْتِ خَبَرُهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَتِمَّ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ هِيَ الْخَبَرُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاءَ مَانِعُ الْبَدَلِ وَأَيْضًا، فَهِيَ مَعْنًى آخَرُ غَيْرُ الْأَوَّلِ، فَيَقْلَقُ الْبَدَلُ. وَإِذَا تُلُطِّفَ لِلْبَدَلِ فَهُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهَذَا يَعْنِي الْبَدَلَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَاءَ الَّتِي مَعَهَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْحُكْمُ بِزِيَادَتِهَا ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ جَعْلَهَا بَدَلًا يُوجِبُ سُقُوطَ جَوَابِ الْكَلَامِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى إِسْقَاطِ اللَّامِ أَيْ: فَلِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ، فَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ مَا يَتِمُّ بِهِ جَوَابُ الشَّرْطِ جُمْلَةً أَيْ:
فَمُحَادَّتُهُ لِأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: فَإِنَّ لَهُ بِالْكَسْرِ فِي الْهَمْزَةِ حَكَاهَا عَنْهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مَحْبُوبٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَرِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَوَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ قَوِيٌّ لِأَنَّ الْفَاءَ تَقْتَضِي الِاسْتِئْنَافَ، وَالْكَسْرُ مُخْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، بِخِلَافِ الْفَتْحِ. وَقَالَ الشَّاعِرِ:
فَمَنْ يَكُ سَائِلًا عَنِّي فَإِنِّي | وَجِرْوَةَ لَا تَرُودُ وَلَا تُعَارُ |
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ:
كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَعِيبُونَ الرَّسُولَ وَيَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أن لا يُفْشِيَ سِرَّنَا فَنَزَلَتْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَدِدْتُ أَنِّي جُلِدْتُ مِائَةً وَلَا يَنْزِلُ فِينَا شَيْءٌ يَفْضَحُنَا، فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَقَفَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِهِ فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ قَالُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ:
أَيَرْجُو هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَحُصُونُهَا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ فأنزل الله قل استهزؤوا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَحْذَرُ خَبَرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ. فَقِيلَ: هُوَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لَمَّا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَكْتُمُونَهُ، وَقَعَ الْحَذَرُ وَالْخَوْفُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: كَانُوا يَعْرِفُونَهُ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَكَفَرُوا حَسَدًا، وَاسْتَبْعَدَ الْقَاضِي فِي العالم بالله
حَذَرَ أُمُورًا لَا تَضُرُّ وَآمَنَ | مَا لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنَ الْأَقْدَارِ |
وَمَعْنَى تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ: تُذِيعُ أَسْرَارَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوهَا مُذَاعَةً مُنْتَشِرَةً، فَكَأَنَّهَا تُخْبِرُهُمْ بِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالضَّمِيرُ فِي عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قُلُوبِهِمْ لِلْمُنَافِقِينَ، وَصَحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَعُودُ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِهْزَاءِ أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ «٢» وَمَعْنَى مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ مُبْرِزٌ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ، مَا تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِنْزَالِ السُّورَةِ، أَوْ مُظْهِرٌ مَا كُنْتُمْ تَحْذَرُونَهُ مِنْ إِظْهَارِ نِفَاقِكُمْ. وَفَعَلَ ذَلِكَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَهِيَ تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ، لِأَنَّهَا فَضَحَتِ الْمُنَافِقِينَ. قِيلَ: كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَنْزَلَ اللَّهُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ وَنُسِخَ رَحْمَةً وَرَأْفَةً مِنْهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَبْنَاءَهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ: أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْقَبِيحِ فِي حَقِّكَ وَحَقِّ أَصْحَابِكَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ قُصُورَ الشَّامِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: كَأَنَّكُمْ غَدًا فِي الْجِبَالِ أَسْرَى لِبَنِي الْأَصْفَرِ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَا رَأَيْتُ كَهَؤُلَاءِ لَا أَرْغَبَ بُطُونًا ولا أكثر
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَعْنِي: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَةُ تَنْكُتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ يقول: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون؟»
وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: نُهُوا عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّهَا اعْتِذَارَاتٌ كَاذِبَةٌ فَهِيَ لَا تَنْفَعُ. قَدْ كَفَرْتُمْ أَظْهَرْتُمُ الْكُفْرَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أَيْ: بَعْدَ إِظْهَارِ إِيمَانِكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ فَأَظْهَرُوهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ، وَجَاءَ التَّقْسِيمُ بِالْعَفْوِ عَنْ طَائِفَةٍ، وَالتَّعْذِيبِ لِطَائِفَةٍ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ أُمِرَ بِجِهَادِهِمْ: «جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» «١» وَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُعْلِنُونَ بِالْأَرَاجِيفِ، فَعُذِّبُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْكِشَافِ مُعْظَمِ أَحْوَالِهِمْ. وَصِنْفٌ ضَعَفَةٌ مُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ، لَمْ يؤذوا الرسول فعفى عَنْهُمْ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْعَفْوُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهَا مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيُخْلِصُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَيُخْلِصُونَ الْإِيمَانَ، وَالْمُعَذَّبُونَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ مَخْشِيُّ بْنُ حمير بضم الخاء وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، كَانَ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا: «إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «٢» وَقِيلَ: كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مُخْلِصًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ وَقَدْ كَانَ تَابَ، وَيُسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَدَعَا اللَّهُ أَنْ يستشهدوا وَيُجْهَلَ أَمْرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْيَمَامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَاصِمُ مِنَ السَّبْعَةِ: إِنْ نَعْفُ بِالنُّونِ، نُعَذِّبْ بِالنُّونِ طَائِفَةً. وَلَقِيَنِي شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَامِلُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحِّلِ
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٥.
لِعَاصِمٍ قِرَاءَةْ... لِغَيْرِهَا مُخَالِفَةْ
إن نعف عن طائفة... مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةْ
وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: أَنْ تَعْفُ تُعَذَّبْ طَائِفَةٌ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ: إِنْ يَعْفُ يُعَذِّبُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ فِيهِمَا، أَيْ: إِنْ يَعْفُ اللَّهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: إِنْ تُعْفَ بِالتَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، تُعَذَّبْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِالتَّاءِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى تَقْدِيرِ إِنْ تُعْفَ هَذِهِ الذُّنُوبُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْوَجْهُ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ الظَّرْفُ كَمَا تَقُولُ: سِيَرَ بِالدَّابَّةِ، وَلَا تَقُولُ سِيرَتْ بِالدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ تُرْحَمْ طَائِفَةٌ فَأَنَّثَ لِذَلِكَ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالْجَيِّدُ قِرَاءَةُ العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طَائِفَةٌ بِالتَّأْنِيثِ انْتَهَى.
مُجْرِمِينَ: مُصِرِّينَ عَلَى النِّفَاقِ غَيْرَ تَائِبِينَ.
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ «١» بَلْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالنِّفَاقِ، فَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى التَّبْعِيضِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ وَوَصَفَهُمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكِرِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْمَعَاصِي، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ قُدْرَةٍ وَلَا أَفْعَالٍ ظَاهِرَةٍ، وَذَلِكَ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعِزَّتِهِ. وَقَبْضُ الْأَيْدِي عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: عَنِ الْجِهَادِ وَحَمْلِ السِّلَاحِ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنِ الرَّفْعِ فِي الدُّعَاءِ. وَقِيلَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الشُّحِّ فِي النَّفَقَاتِ فِي الْمَبَارِّ وَالْوَاجِبَاتِ، وَالنِّسْيَانُ هُنَا التَّرْكُ. قَالَ قَتَادَةُ: تَرَكُوا طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَنَسِيَهُمْ، أَيْ: تَرَكَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ، أَمَّا مِنَ الشَّرِّ فَلَمْ يَنْسَهُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَغْفَلُوا ذِكْرَهُ فَنَسِيَهُمْ تَرَكَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَيُعَبَّرُ بِالنِّسْيَانِ عَنِ التَّرْكِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّهُ لَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالٍ. هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ: هُمُ الْكَامِلُونَ فِي الْفِسْقِ الَّذِي هُوَ التَّمَرُّدُ في
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ: الْكُفَّارُ هُنَا الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ، وخالدين فِيهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْخُلُودَ لَمْ يُقَارِنِ الْوَعْدَ. وحسبهم كَافِيهُمْ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي عظم عَذَابِهِمْ، إِذْ عَذَابُهُمْ شَيْءٌ لا يزاد عليه، ولعنهم أَهَانَهُمْ مَعَ التَّعْذِيبِ وَجَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ مُلْحَقِينَ بِالشَّيَاطِينِ الْمَلَاعِينِ كَمَا عَظَّمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. مُقِيمٌ: مُؤَبَّدٌ لَا نَقْلَةَ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ مَعَهُمْ فِي الْعَاجِلِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ تَعَبِ النِّفَاقِ. وَالظَّاهِرُ الْمُخَالِفُ لِلْبَاطِنِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْذَرُونَهُ أَبَدًا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ إِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ أَيْ: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَعَدَ كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِوَعَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا قَلَقٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ التَّقْدِيرُ أَنْتُمْ كَالَّذِينَ. وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْخَوْضِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا أَشَدَّ، تَفْسِيرٌ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ، وَتَمْثِيلٌ لِفِعْلِهِمْ بِفِعْلِهِمْ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ أَيْ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ مُغْنٍ عَنْهُ، كَمَا أَغْنَى كَالَّذِي خَاضُوا؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ أَنْ قَدَّمَ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَرِضَاهُمْ بِهَا، وَالْتِهَائِهِمْ، فَشَبَّهُوا بِهِمُ الْفَانِيَةَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَطَلَبِ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُخَسَّسَ أَمْرُ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُهَجَّنَ أَمْرَ الرَّاضِي بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِهِمْ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى سَمَاجَةِ فِعْلِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَيُعَذِّبُ وَيَعْسِفُ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَأَمَّا وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ مُسْتَغْنٍ
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ:
لَمَّا شَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ لَفْظُ الذين
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٧٠.
(٤) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٢٧.
نُوحٌ أَوَّلُ الرُّسُلِ، وَإِبْرَاهِيمُ الْأَبُ الْأَقْرَبُ لِلْعَرَبِ وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْأُمَمِ مُقَارِبُونَ لَهُمْ فِي الشِّدَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. فَقَوْمُ نُوحٍ أُهْلِكُوا بِالْغَرَقِ، وَعَادٌ بِالرِّيحِ، وَثَمُودُ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ، حَتَّى سُلِّطَتِ الْبَعُوضَةُ عَلَى نَمْرُودَ مَلِكِهِمْ، وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِجَعْلِ أَعَالِي أَرْضِهَا أَسَافِلَ، وَإِمْطَارِ الْحِجَارَةِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الِائْتِفَاكِ الِانْقِلَابُ، أَفَكْتُهُ فَائْتَفَكَ أَيْ قَلَبْتُهُ فَانْقَلَبَ.
وَالْمُؤْتَفِكَاتُ صِفَةٌ لِلْقُرَى الَّتِي ائْتَفَكَتْ بِأَهْلِهَا، فَجُعِلَ أَعْلَاهَا أَسْفَلَهَا. وَالْمُؤْتَفِكَاتُ مَدَائِنُ قَوْمِ لُوطٍ. وَقِيلَ: قَرْيَاتُ قَوْمِ لُوطٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ. وَائْتِفَاكُهُنَّ: انْقِلَابُ أَحْوَالِهِنَّ عَنِ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ أَهْلُ الْقُرَى الْأَرْبَعَةِ. وَقِيلَ: التِّسْعَةُ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهِمْ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مُفْرَدَةً تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ، وَمِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ قَوْلُ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ:
لِمَنْطِقٍ مُسْتَبِينٍ غَيْرِ مُلْتَبِسٍ | بِهِ اللِّسَانُ وَرَأْيٍ غَيْرِ مُؤْتَفِكِ |
وَفِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ، تَذْكِيرٌ بِأَنْبَاءِ الْمَاضِينَ وَتَخْوِيفٌ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ عَالِمِينَ بِأَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمَمِ، وَقَدْ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي أَشْعَارِ جَاهِلِيَّتِهِمْ كَالْأَفْوَهِ الْأَزْدِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ، وَغَيْرُهُمَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ تَذْكِيرًا بِمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ وَتَفَاصِيلِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَمِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْجُمْلَةُ شَرْحٌ لِلنَّبَأِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ خَاصَّةً، وَأَتَى بِلَفْظِ رُسُلٍ وَإِنْ كَانَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى كُلِّ قَرْيَةٍ رَسُولًا دَاعِيًا، فَهُمْ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ، ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: قِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْتَفِكَاتِ أَيْ: أَتَاهُمْ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ. وَالْبَيِّنَاتُ الْمُعْجِزَاتُ، وَهِيَ وَأَصْحَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِّ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَذِّبِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَظْلِمَهُمْ لِيُهْلِكَهُمْ حَتَّى يبعث فيهم
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لِيَظْلِمَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ، يَظْلِمُونَ بِالْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ وَهُوَ حَكِيمٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْقَبِيحُ، وَأَنْ يُعَاقِبَهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ كَفَرُوا بِهِ فَاسْتَحَقُّوا عِقَابَهُ انْتَهَى. وَذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقَوْلِهِ: فَمَا كَانَ كَلَامًا مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- فَكَذَّبُوا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ: لَمَّا ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَقَالَ فِي أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَفِي هَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِذْ لَا وِلَايَةَ بَيْنَ الْمُنَافِقِينَ وَلَا شَفَاعَةَ لَهُمْ، وَلَا يَدْعُو بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَكَانَ الْمُرَادُ هُنَا الْوِلَايَةَ فِي اللَّهِ خَاصَّةً. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِفَاقَ الْأَتْبَاعِ وَكُفْرَهُمْ حَصَلَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ لِأُولَئِكَ الْأَكَابِرِ، وَسَبَبِ مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ وَالْعَادَةِ. أَمَّا الْمُوَافَقَةُ الْحَاصِلَةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ لَا بِسَبَبِ الْمَيْلِ وَالْعَادَةِ، بَلْ بِسَبَبِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَالْوِلَايَةُ ضِدُّ الْعَدَاوَةِ. وَلَمَّا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ بَعْضِهِمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ لَهُ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُمَيَّزُ بِهَا الْمُؤْمِنُ عَلَى الْمُنَافِقِ. فَالْمُنَافِقُ يَأْمُرُ بِالْمُنْكِرِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْرُوفِ وَلَا يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِلَّا وَهُوَ كَسْلَانُ، وَيَبْخَلُ بِالزَّكَاةِ، وَيَتَخَلَّفُ بِنَفْسِهِ عَنِ الْجِهَادِ، وَإِذَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَثَبَّطَ وَثَبَّطَ غَيْرَهُ. وَالْمُؤْمِنُ بِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْجِهَادِ. وَهُوَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَهُوَ دُعَاءٌ مِنَ الشِّرْكِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالشَّيَاطِينِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَبِحَسَبِ هَذَا تَكُونُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَدْحُ عِنْدِي بِالنَّوَافِلِ أَبْلَغُ، إِذْ مَنْ يُقِيمُ النَّوَافِلَ أَجْدَى بِإِقَامَةِ الْفُرُوضِ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ جَامِعٌ لِلْمَنْدُوبَاتِ انْتَهَى، سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، فَهِيَ تؤكد الوعيد كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتُنِي وَإِنْ تَبَطَّأَ ذَلِكَ. وَنَحْوُهُ: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «١» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ «٢» سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «٣» انْتَهَى. وَفِيهِ دَفِينَةٌ خَفِيَّةٌ مِنَ الِاعْتِزَالِ بِقَوْلِهِ:
السِّينُ مُفِيدَةٌ وُجُوبَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِثَابَةُ الطَّائِعِ، كَمَا تَجِبُ عُقُوبَةُ الْعَاصِي. وَلَيْسَ مَدْلُولُ السِّينِ تَوْكِيدُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَخْلِيصِ الْمُضَارِعِ لِلِاسْتِقْبَالِ فَقَطْ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّحْمَةُ هُنَا عِبَارَةً عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، أَتَى بِالسِّينِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْفِعْلِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، قَادِرٌ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ وَاضِعٌ كُلًّا مَوْضِعَهُ.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا أَعْقَبَ الْمُنَافِقِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَارِ جَهَنَّمَ، أَعْقَبَ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ نَعِيمِ الْجِنَانِ. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ «٤» وَعْدًا إِجْمَالِيًّا فَصَّلَهُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ هِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ دُورُ الْمُقَرَّبِينَ. وَقِيلَ: دُورٌ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّفَاتِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالَيْنِ بِهَا. وَقِيلَ: قُصُورُ زَبَرْجَدٍ وَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ يَفُوحُ طِيبُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي أَمَاكِنِ إِقَامَتِهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ فِيهِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا»
وَذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَشْيَاءُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ أَيْ: إِقَامَةٍ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هِيَ بِالْفَارِسِيَّةِ الْكُرُومِ وَالْأَعْنَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَظُنُّ هَذَا مَا اخْتَلَطَ بِالْفِرْدَوْسِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَدْنٌ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ وَشَرْقُهَا، وَعَنْهُ: وَسَطُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، جِنَانُهُ عَلَى حَافِيَتِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَدِينَةُ الْجَنَّةِ، وَعِظَمُهَا فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُمْ بَعْدُ، وَالْجَنَّاتُ حَوْلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ في الجن لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أو حكم عدل، ومدتها صَوْتَهُ. وَعَنْهُ: قُصُورٌ مِنَ اللؤلؤ والياقوت الأحمر
(٢) سورة الضحى: ٩٣/ ٥.
(٣) سورة النساء: ٤/ ١٥٢.
(٤) سورة التوبة: ٩/ ٧١. [.....]
وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَدْنٌ دَارُ اللَّهِ الَّتِي لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَا يَسْكُنْهَا غَيْرُ ثَلَاثَةٍ: النَّبِيُّونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ»
وَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنِ الرَّسُولِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو: قَصْرٌ حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ، لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خِيرَةٌ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَقِيلَ: قَصَّتُهُ الْجَنَّةُ فِيهَا نَهْرٌ عَلَى حَافَّتَيْهِ بَسَاتِينُ. وَقِيلَ: التَّسْنِيمُ، وَفِيهِ قُصُورُ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ، وَالْأَرَائِكُ عَلَيْهَا الْخَيِّرَاتُ الْحِسَانُ، سَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ لَا يَنْزِلُهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، يَفُوحُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنِ السَّلَفِ كَثِيرَةُ الِاخْتِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ، وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، إِذْ وَعَدَ اللَّهُ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعَدْنٌ عَلَمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ «١» وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ الذِّكْرِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ عَدْنًا عَلَمٌ، لِأَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهَا وُصِفَ بالتي وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ جَنَّاتُ مُضَافَةً لِمَعْرِفَةٍ لَمْ تُوصَفْ بِالْمَعْرِفَةِ وَلَا يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي: أَوْ أَمْدَحُ، أَوْ بَدَلًا مِنْ جَنَّاتُ.
وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ: الْجَنَّةَ لِلْفَصْلِ بِالْبَدَلِ الَّذِي هُوَ جَنَّاتٍ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ النَّعْتُ وَالْبَدَلُ قُدِّمَ النَّعْتُ، وَجِيءَ بَعْدَهُ بِالْبَدَلِ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَرِضْوَانٌ: بِضَمَّتَيْنِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهِيَ لُغَةٌ، وَرِضْوَانٌ مُبْتَدَأٌ.
وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، وَأَتَى بِهِ نَكِرَةً لِيَدُلَّ عَلَى مُطْلَقٍ أَيْ: وَشَيْءٌ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ. وَالْعَبْدُ إِذَا عَلِمَ بِرِضَا مَوْلَاهُ عَنْهُ كَانَ أَكْبَرَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا وَرَاءَهُ مِنَ النَّعِيمِ، وَإِنَّمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ النَّعِيمُ بِعِلْمِهِ بِرِضَاهُ عَنْهُ. كَمَا أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ بِسُخْطِهِ تَنَغَّصَتْ حَالُهُ، وَلَمْ يَجِدْ لَهَا لَذَّةً. وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُوَافِقٌ لِمَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِعِبَادِهِ إِذَا اسْتَقَرُّوا فِي الْجَنَّةِ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَكَيْفَ لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا؟ فَيَقُولُ: إِنِّي سَأُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رِضْوَانِي، أَرْضَى عَنْكُمْ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا»
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَصَلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ بِرِضْوَانِ اللَّهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا هُوَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ وَأَقَرُّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَصَابُوهُ مِنْ لَذَّةِ الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ورضوان
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٩٢]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. فَقِيلَ: هُوَ حَلِفُ الْجُلَاسِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ. وَقِيلَ:
حَلَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ أَنَّهُ مَا قَالَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «١» الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
حَلِفُهُمْ حِينَ نَقَلَ حُذَيْفَةُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُمْ أَصْحَابَهُ وَإِيَّاهُ فِي خَلْوَتِهِمْ، وَأَمَّا وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فَنَزَلَتْ قِيلَ: فِي ابْنِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَيُخْرِجَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ:
بِقَتْلِ الرَّسُولِ، وَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ مِنْ قُرَيْشٍ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَتَوَافَقُوا عَلَى أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ راحلته إلى الوادي إذ تَسَنَّمَ الْعَقَبَةَ، فَأَخَذَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِخِطَامِ رَاحِلَتَهُ يَقُودُهَا، وَحُذَيْفَةُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ حُذَيْفَةُ بِوَقْعِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ وَقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا قَوْمٌ مُتَلَثِّمُونَ فَقَالَ: إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَهَرَبُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرِ بْنُ نُعْمَانَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَقِيلَ: هَمُّهُمْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا، هُوَ أَنْ يُتَوِّجُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ إِذَا رَجَعُوا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ يُبَاهُونَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنَالُوا مَا هَمُّوا بِهِ، فَنَزَلَتْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ شَيْطَانٌ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ فَدَعَاهُ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟
فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ
قَوْلُ ابْنِ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَ الْجَهْجَاهَ الْغِفَارِيَّ وَسِنَانَ بْنَ وَبَرَةَ الجهني، وقد
يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَثَارَ النَّاسُ، وَهَدَّأَهُمُ الرَّسُولُ فَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ
، أَوِ الِاسْتِهْزَاءُ، أَوْ قَوْلُ الْجُلَاسِ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ قَوْلُهُمْ: نَعْقِدُ التَّاجَ، أَوْ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوِ الْقَوْلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْوَالٌ. وَكَفَرُوا: أَيْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، أَيْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ. وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ أَلْسِنَتَهُمْ. وَالْهَمُّ دُونَ الْعَزْمِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْهَامِّ وَالْمَهْمُومِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ هَمُّ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْجُلَاسِ بِقَتْلِ نَاقِلِ حَدِيثِ الْجُلَاسِ إِلَى الرَّسُولِ، وَفِي تَعْيِينِ اسْمِ النَّاقِلِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: حُذَيْفَةُ. وَقِيلَ:
ابْنُ امْرَأَةِ الْجُلَاسِ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ مُصْعَبٌ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَشْيَاءَ لَمْ يَنَالُوهَا «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «١» وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا «٢» وَكَانَ حَقُّ الْغَنِيِّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَشْكُرَ لا أين يَنْقِمَ، جَعَلُوا الْغِنَى سَبَبًا يَنْتَقِمُ بِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ لِلْجُلَاسِ.
وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي ضَنْكٍ مِنَ الْعَيْشِ، لَا يركبون الخيل. ولا يجوزون الْغَنِيمَةَ، فَأُثِرُوا وَقَالَ الرَّسُولُ لِلْأَنْصَارِ:
«وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي»
وَقِيلَ: كَانَ عَلَى الْجُلَاسِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَقَضَاهُ الرَّسُولُ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ مَالٌ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا نَقَمُوا الْجُمْلَةُ كَلَامٌ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِ، كَمَا تَقُولُ:
مَا لِي عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لِئَامًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا | أَنَّهُم يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا |
وَأَنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوكِ وَلَا | يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ |
وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ | كِرَامٍ وَأَنَّا لَا نَحُطُّ عَلَى النَّمْلِ |
(٢) سورة البروج: ٨٥/ ٨.
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: قَالَ الضَّحَّاكُ: هم نبتل بن الحرث، وَجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: فِي مُعَتِّبٍ وَثَعْلَبَةَ خَرَجَا عَلَى ملأ قالا ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ، فَجَهِدَ لِذَلِكَ جَهْدًا شَدِيدًا، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ لَأَصَّدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ، فَآتَاهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ،
وَذَكَرُوا لَهُ حَدِيثًا طَوِيلًا وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ: أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مَالًا فَقِيلَ لَهُ: قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا كَثُرَتْ حَتَّى ضَاقَتْ عَنْهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا وَمَا زَالَتْ تَنْمُو، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُصَدِّقَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَأَخْبَرَهُ قَرِيبٌ لَهُ بِهَا، فَجَاءَ بِصَدَقَتِهِ إِلَى الرَّسُولِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَلَمَّا قُبِضَ الرَّسُولُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَهَلَكَ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَنَصَّدَّقَنْ وَلَنَكُونَنْ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ فِيهِمَا، وَالظَّاهِرُ وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِذَلِكَ وَلَفَظُوا بِهِ. وَقَالَ مَعْبَدُ بْنُ ثَابِتٍ وَفِرْقَةٌ: لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ، وَإِنَّمَا
وَقَوْلُهُ: خَذَلَهُمْ هُوَ لَفْظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي فَأَعْقَبَهُمْ لِلْبُخْلِ، أَيْ فَأَوْرَثَهُمُ الْبُخْلَ نِفَاقًا مُتَمَكِّنًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فَأَعْقَبَهُمْ أَيِ الْبُخْلُ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ كُفْرٍ، وَيَكُونَ تَقْرِيرُ ثَعْلَبَةَ بَعْدَ هَذَا النَّصِّ وَالْإِبْقَاءِ عَلَيْهِ لِمَكَانِ إِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ، وَتَعَلُّقِهِ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ مَعْصِيَةٍ وَقِلَّةِ اسْتِقَامَةٍ، فَيَكُونَ تَقْرِيرُهُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ تَرْكُ قَبُولِ الزَّكَاةِ مِنْهُ عِقَابًا لَهُ وَنَكَالًا.
وَهَذَا نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلًا كَتَبَ إِلَى عمر بن عبد العزيز أَنَّ فُلَانًا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
أَنْ دَعْهُ، وَاجْعَلْ عُقُوبَتَهُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَقْتِ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي: يَلْقَوْنَهُ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَلْقَوْنَ الْجَزَاءَ. فَقِيلَ:
جَزَاءَ بُخْلِهِمْ. وَقِيلَ: جَزَاءَ أَفْعَالِهِمْ.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُكَذِّبُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَلَفْظَةُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا، لَا تَدُلُّ وَلَا تُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لما بخل بالمال وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، لِأَنَّ الْمُعَقَّبَ نِفَاقٌ مُتَّصِلٌ إِلَى وَقْتِ الْمُوَافَاةِ، فَهُوَ نِفَاقٌ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ، وَلَا يَدُلُّ الْمُقَيَّدُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُطْلَقِ قَبْلَهُ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ اللِّقَاءُ مُتَضَمِّنًا رُؤْيَةَ اللَّهِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِاللِّقَاءِ عَلَى الرُّؤْيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «٢» لَيْسَ بِظَاهِرٍ،
وَلِقَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ ليقطع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَقِيَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ.
أَلَمْ يَعْلَمُوا هَذَا اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّقْرِيعَ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ: تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ،
وَهُوَ خِطَابٌ للمؤمنين على سبيل
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٤.
مَا أَسَرُّوهُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْعَزْمِ عَلَى إِخْلَافِ مَا وَعَدُوهُ، وَمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي الدِّينِ، وَتَسْمِيَةِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةً، وَتَدْبِيرِ مَنْعِهَا. وَقِيلَ: أَشَارَ بِسِرِّهِمْ إِلَى مَا يُخْفُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَبِنَجْوَاهُمْ إِلَى مَا يُفِيضُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَعْيِيبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: سِرُّهُمْ مَا يُسَارُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنَجْوَاهُمْ مَا تَحَدَّثُوا بِهِ جَهْرًا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ عَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَمْسَكَ مِثْلَهَا، فَبَارَكَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمْسَكَ وَفِيمَا أَعْطَى.
وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ، وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَبُو عَقِيلٍ الْأَرْلَشِيُّ بِصَاعِ تَمْرٍ، وَتَرَكَ لِعِيَالِهِ صَاعًا، وَكَانَ آجَرَ نَفْسَهُ لِسَقْيِ نَخِيلٍ بِهِمَا،
وَرَجُلٌ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ قَالَ: هِيَ وَذُو بَطْنِهَا صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَلْقَى إِلَى الرَّسُولِ خِطَامُهَا فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا تَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمَا تَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ إِلَّا لِيُذْكَرَ مَعَ الْأَكَابِرِ، أَوْ لِيُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَصَدَّقَ بِالنَّاقَةِ وَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَكَانَ الرَّجُلُ أَقْصَرَ النَّاسِ قَامَةً وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم وقال: قُلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمِنْهَا يَقُولُهَا ثَلَاثًا.
وَأَصْلُ الْمُطَّوِّعِينَ الْمُتَطَوِّعِينَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَهُمُ الْمُتَبَرِّكُونَ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ هُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، ذُكِرُوا تَشْرِيفًا لَهُمْ، حَيْثُ مَا فَاتَتْهُمُ الصَّدَقَةُ بَلْ تَصَدَّقُوا بِالشَّيْءِ، وَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَأَتْعَبَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ كَأَبِي عَقِيلٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَكَانَ قَدْ لُمِزَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْقَلِيلِ وَنُظِرَ أَيُّهُمَا. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «١» وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ تلميذه
«١».
وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَجَمَاعَةٌ: جَهْدَهُمْ بِالْفَتْحِ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بِالضَّمِّ الْقُوتُ، وَبِالْفَتْحِ فِي الْعَمَلِ. وَقِيلَ: بِالضَّمِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ يُعَاشُ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر اللَّهُ مِنْهُمْ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يمكن مشاركة الذين لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ مَعَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ إِلَّا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. قَالَ: وَخَبَرُ الْأَوَّلِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا فَيَسْخَرُونَ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الَّذِينَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ مَنْ عَابَ وَغَمَزَ أَحَدًا هُوَ سَاخِرٌ مِنْهُ، فَقَرُبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ سَيِّدُ الْجَارِيَةِ مَالِكُهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. قَالَ:
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ سَخِرَ، تَقْدِيرُهُ عَابَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْهُمُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ حَالٌ كَمَا قُرِّرَ، وَإِذَا كَانَ حَالًا جَازَ الْفَصْلُ بِهَا بَيْنَ الْعَامِلِ فِيهَا، وَبَيْنَ الْمَعْمُولِ أُخِّرَ، لِذَلِكَ الْعَامِلُ نَحْوُ: جَاءَنِي الَّذِي يَمُرُّ رَاكِبًا بِزَيْدٍ. وَالسُّخْرِيَةُ:
الِاسْتِهْزَاءُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُرَجِّحُهُ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ. وَلَمَّا قَالَ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَمْهَلَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ أَهْمَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَذَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جَازَاهُمْ عَلَى سُخْرِيَتِهِمْ، وَجَزَاءُ الشَّيْءِ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٢» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْمِيَةٌ لِلْعُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَقْتِ وَالذُّلِّ فِي نُفُوسِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:
سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ فِي مَرَضِهِ فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ رُخِّصَ لِي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» فَنَزَلَتْ سَوَاءٌ عليهم أستغفرت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، سَأَلُوا الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ.
وَعَلَى هَذَا فَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَانِ.
وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلرَّسُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ الَّذِي
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كيف تستغفروا لِعَدُوِّ اللَّهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ؟
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَانِي وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي» فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ شِئْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَسْتَغْفِرْ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرَ سَبْعِينَ مَرَّةً.
وَقِيلَ: لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ الشَّرْطُ، بِمَعْنَى إِنِ اسْتَغْفَرْتَ أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ «١» وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً | لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ |
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٥٣.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٥٣.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٧٥. [.....]
فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَجُوزُ نَحْوُ هَذَا؟ قُلْتُ: إِذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: غَفَرَ اللَّهُ لِزَيْدٍ وَرَحِمَهُ (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِعَزَّةَ: امْتَحِنِي لُطْفَ مَحَلِّكِ عِنْدِي، وَقُوَّةَ مَحَبَّتِي لَكِ، وَعَامِلِينِي بِالْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَانْظُرِي هَلْ تَتَفَاوَتُ حَالِي مَعَكِ مُسِيئَةً كُنْتِ أَوْ مُحْسِنَةً. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
أُحَوِّلُ الَّذِي إِنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدًا | لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَغْشِكَ فِي الْوُدِّ |
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِابْنِ سَلُولَ وَكَسَاهُ ثَوْبَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْخَزْرَجِ لَمَّا رَأَوْهُ يَطْلُبُ الِاسْتِشْفَاءَ بِثَوْبِ الرَّسُولِ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيِّدَهُمْ.
وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ وَلَدِهِ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَسْتَغْفِرَ لِقَوْمِهِمُ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يُخْلِصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ رَجَاءَ الْغُفْرَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ رَجَاءَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَقِّقَ خُرُوجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَنَهَاهُ عَنْهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ:
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْهُورًا فِي الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُصِرًّا عَلَى الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ
الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنَ الرَّسُولِ لَكَانَ قَلِيلُهُ مِثْلَ كَثِيرِهِ فِي حُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا منه أن يستغفر لهم مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ تَحْدِيدَ الْمَنْعِ، بَلْ هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَوْ سَأَلْتَنِي سَبْعِينَ مَرَّةً لَمْ أَقْضِهَا لَكَ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا زَادَ قَضَاهَا، فَكَذَا هَاهُنَا.
وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَنْفَعُهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ، وَإِنْ بَلَغَ سَبْعِينَ مَرَّةً، هِيَ كُفْرُهُمْ وَفِسْقُهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ، فَصَارَ هَذَا الْقَلِيلُ شَاهِدًا بِأَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةُ الطَّمَعِ أَنْ يَنْفَعَهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيُؤَكِّدُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِسْقَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: السَّبْعُونَ هُنَا جَمْعُ السَّبْعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلْكَثْرَةِ، لَا السَّبْعَةِ الَّتِي فَوْقَ السِّتَّةِ انْتَهَى. وَالْعَرَبُ تَسْتَكْثِرُ فِي الْآحَادِ بِالسَّبْعَةِ، وَفِي الْعَشَرَاتِ بِالسَّبْعِينَ، وَفِي الْمِئِينَ بِسَبْعِمِائَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالسَّبْعُونَ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَلَامِهِمْ لِلتَّكْثِيرِ.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
لَأُصَبِّحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي | سَبْعِينَ أَلْفًا عَاقِدِي النَّوَاصِي |
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: إِنَّ التَّصْرِيفَ الَّذِي يَكُونُ مِنَ السِّينِ وَالْبَاءِ وَالْعَيْنِ شَدِيدُ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهَا عَدَدٌ مُقْنِعٌ هي في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَدَنِهِ، وَفِي أَعْضَائِهِ الَّتِي بِهَا يُطِيعُ اللَّهَ، وَبِهَا يَعْصِيهِ، وَبِهَا تَرْتِيبُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهِيَ: عَيْنَاهُ، وَأُذُنَاهُ، وَأَسْنَانُهُ، وَبَطْنُهُ، وَفَرْجُهُ، وَيَدَاهُ، وَرِجْلَاهُ. وَفِي سِهَامِ الْمَيْسِرِ، وَفِي الْأَقَالِيمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ السَّبْعِ الْعُبُوسُ، وَالْعَنْبَسُ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ انْتَهَى وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ بِمَا
رَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ»
وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى نَزَلَ:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «١» فَكَفَّ عَنْهُ. قِيلَ:
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَأَخْبَرُهُمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ كَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ كَيْفَ؟
وَقَدْ تَلَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا الْآيَةَ، فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ حَتَّى
قَالَ: «رَخَّصَ لِي رَبِّي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» ؟
(قُلْتُ) : لَمْ يخف عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ خُيِّلَ بِمَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» وَفِي إِظْهَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لُطْفٌ لِأُمَّتِهِ، وَدُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى تَرَحُّمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ انْتَهَى. وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَسُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ. وَإِذَا
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»
أَوْ كَمَا قَالَ: وَهِيَ الْإِشَارَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ النُّطْقُ بِشَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْيِيلِ؟
حَاشَا مَنْصِبَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُسَرِّحُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، وَلَقَدْ تَكَلَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «٢» بِكَلَامٍ فِي حَقِّ الرَّسُولِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا أَنْ أَنْقُلَهُ فِيهِ، وَاللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُنَا مِنَ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ وَتَبْيِينُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَانْتِفَاءُ هِدَايَةِ اللَّهِ الْفَاسِقِينَ هُوَ لِلَّذِينَ حَتَمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا ظَهَرَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْهُزْءِ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ وَعِلَلٍ كَاذِبَةٍ، حَتَّى أَذِنَ لَهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَعْلَمَهُ بِسُوءِ فِعَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَيْ: عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَكَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَلَّفَهُمْ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اعْتَذَرُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي التَّوْبِيخَ وَالْوَعِيدَ. وَلَفْظَةُ الْمُخَلَّفُونَ تَقْتَضِي الذم والتحقير، ولذلك
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.
عَقَبَ الربيع خلافهم فكأنما | بسط السواطب بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا |
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى | تَأَهَّبْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا وَكَأَنْ قَدِ |
مَسَرَّةُ أَحْقَادٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا | مَسَاءَةَ يوم إربها شِبْهَ الصَّابِ |
فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَةٍ | وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةَ أَحْقَابِ |
رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ يَكُونُونَ فِي النَّارِ عُمْرَ الدُّنْيَا، لَا يَرْقَأُ لَهُمْ دَمْعٌ، وَلَا يَكْتَحِلُونَ بِنَوْمٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مُدَّةِ الْعُمُرِ فِي الدُّنْيَا، وَلْيَبْكُوا كثيرا إشارة إلى تأييد الْخُلُودِ، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِمْ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ صِفَةَ حَالِهِمْ أَيْ: هُمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحظر مَعَ اللَّهِ وَسُوءِ الْحَالِ، بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ضَحِكُهُمْ قَلِيلًا وَبُكَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ فِي الدُّنْيَا نَحْوُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لأمته: «لو يعلمون مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا»
وَانْتَصَبَ قَلِيلًا وكثيرا عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُمَا نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ: ضَحِكًا قَلِيلًا وَبُكَاءً كَثِيرًا. وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْمَنْعُوتُ، وَيَقُومُ نَعْتُهُ مَقَامَهُ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَعْتًا لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، وَزَمَانًا كَثِيرًا انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِحُرُوفِهِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ بِهَيْئَتِهِ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى. وَانْتَصَبَ جَزَاءً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ مِنْ سَفَرِكَ هَذَا وَهُوَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. قِيلَ: وَدُخُولُ إِنْ هُنَا وَهِيَ لِلْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ غَالِبًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ بِمُسْتَقْبَلَاتِ أَمْرِهِ مِنْ أَجَلٍ وَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ،
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يَعْنِي إِلَى غَزْوَةٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِسْقَاطُهُمْ مِنْ دِيوَانِ الْغُزَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَخَلُّفِهِمُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا النِّفَاقُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ انْتَهَى. وَانْتَقَلَ بِالنَّفْيِ مِنَ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزَاةِ، إِلَى الْأَشَقِّ وَهُوَ قِتَالُ الْعَدُوِّ، لِأَنَّهُ عِظَمُ الْجِهَادِ وَثَمَرَةُ الْخُرُوجِ وَمَوْضِعُ بَارِقَةِ السُّيُوفِ الَّتِي تَحْتَهَا الْجَنَّةُ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ بِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ورضاهم ناشىء عَنْ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٢» وَقَالُوا هُمْ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَعَلَّلَ بِالْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرِّضَا النَّاشِئُ عَنِ السبب وهو النفاق.
وأول مَرَّةٍ هِيَ الْخَرْجَةُ إِلَى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل: أو خَرْجَةٍ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِلْغَزَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهَا، إِذِ الْأَوَّلِيَّةُ تَقْتَضِي السَّبْقَ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِغَزْوَةِ الرُّومِ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوَّلَ مَرَّةٍ ظَرْفٌ، وَنَعْنِي ظَرْفَ زَمَانٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
(٢) سُورَةِ التَّوْبَةِ: ٩/ ٤١.
أَكْبَرُ النِّسَاءِ، وَهِيَ أَكْبَرُهُنَّ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَكَ هِيَ كُبْرَى امْرَأَةٍ لَا تَكَادُ تَعْثُرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ هِيَ أَكْبَرُ امْرَأَةٍ، وَأَوَّلُ مَرَّةٍ، وَآخِرُ مَرَّةٍ انْتَهَى. فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ أَيْ: أَقِيمُوا، وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْقُعُودِ الَّذِي هُوَ نَظِيرَ الْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَ بَعْدَ خَارِجٍ فَقَعَدَ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: الْخَالِفِينَ الْمُخَالِفِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَبْدٌ خَالِفٌ أَيْ: مُخَالِفٌ لِمَوْلَاهُ. وَقِيلَ: الْأَخِسَّاءُ الْأَدْنِيَاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
فُلَانٌ خَالِفَةُ قَوْمِهِ لِأَخَسِّهِمْ وَأَرْذَلِهِمْ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَوَقِّي صُحْبَةِ مَنْ يَظْهَرُ مِنْهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَكَيْدٌ، وَقَطْعِ الْعَلَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخَالِفُونَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ نِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ وَأَهْلِ عُذْرٍ. غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ نِسَاءٌ وَهُوَ جَمْعُ خَالِفٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَالِفُونَ النِّسَاءُ، وَهَذَا مَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الرِّجَالُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفَاسِدِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ خَلَفَ الشَّيْءُ إِذَا فَسَدَ، وَمِنْهُ خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وعكرمة: مع الخلفين، وَهُوَ مَقْصُورٌ مِنْ الْخَالِفِينَ كَمَا قَالَ:
عِدَدًا وَبِدَدًا يُرِيدُ عَادِدًا وَبَادِدًا، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
مِثْلُ النَّقَى لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظُّلَلْ يُرِيدُ الظِّلَالَ.
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا عُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ وَخِزْيٌ مُتَأَبَّدٌ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ فِيمَا
رُوِيَ يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا، وَيَقُومُ عَلَى قُبُورِهِمْ بِسَبَبِ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَفَّظُونَ بِكَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَتْ وَاقِعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّتِهِ،
فَتَظَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَجَذَبَهُ بِثَوْبِهِ وَتَلَا عَلَيْهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ.
وَذَكَرُوا مُحَاوَرَةَ عُمَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ ليصلي عليه. ومات صفة لا حد،
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يُصَلِّ بَعْدُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ.
إِنَّهُمْ كَفَرُوا تَعْلِيلٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ: تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَأُعِيدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجَدُّدَ النُّزُولِ لَهُ شَأْنٌ فِي تَقْرِيرِ مَا نَزَلَ لَهُ وَتَأْكِيدِهِ، وَإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ لَا يَنْسَاهُ وَلَا يَسْهُو عَنْهُ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُهِمٌّ يَفْتَقِرُ إِلَى فَضْلِ عِنَايَةٍ بِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا تَرَاخَى مَا بَيْنَ النُّزُولَيْنِ. فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الَّذِي أَهَمَّ صَاحِبَهُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ، وَيَتَخَلَّصُ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِقُوَّتِهِ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُ تَكْرِيرِهَا تَوْكِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَكْرِيرٌ وَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ كَانَ تَكْرِيرًا لَكَانَ مَعَ تَبَاعُدِ الْآيَتَيْنِ لِفَائِدَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّذْكِيرِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأُولَى لَا تُعَظِّمُهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَبِالثَّانِيَةِ لَا تُعَظِّمُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ لِمَانِعِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَقَدْ تَغَايَرَتِ الْآيَتَانِ فِي أَلْفَاظٍ هُنَا، وَلَا، وَهُنَاكَ، فَلَا وَمُنَاسَبَةُ الْفَاءِ أَنَّهُ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ أَيْ: لِلْإِنْفَاقِ، فَهُمْ مُعْجَبُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَنَهَاهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. وَمُنَاسَبَةُ الْوَاوِ أَنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلَى نَهْيٍ قَبْلَهُ.
وَلَا تُصَلِّ، وَلَا تَقُمْ، وَلَا تُعْجِبْكَ، فَنَاسَبَتِ الْوَاوُ وَهُنَا وَأَوْلَادُهُمْ وَهُنَاكَ، وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَذِكْرُ لَا مُشْعِرٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ على انفراد. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْمَجْمُوعِ، وَهُنَا سَقَطَتْ، فَكَانَ نَهْيًا عَنْ إِعْجَابِ الْمَجْمُوعِ. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ. وَهُنَا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ، وَهُنَاكَ لِيُعَذِّبَهُمْ، فَأَتَى بِاللَّامِ مُشْعِرَةً بِالتَّعْلِيلِ. وَمَفْعُولُ يُرِيدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ابْتِلَاءَهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِتَعْذِيبِهِمْ.
وأتى بأن لِأَنَّ مَصَبَّ الْإِرَادَةِ هُوَ التَّعْذِيبُ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلَّقُ الْفِعْلِ فِي الْآيَتَيْنِ هَذَا الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ زِيَادَةُ اللَّامِ. وَالتَّعْلِيلُ بأنّ وَهُنَاكَ الدُّنْيَا، وَهُنَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَأُثْبِتَ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحُذِفَتْ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا،
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ هُنَا كُلُّ سُورَةٍ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَقِيلَ:
بَرَاءَةٌ لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِهِمَا. وَقِيلَ: بَعْضُ سُورَةٍ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ سُورَةٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ وَكِتَابٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ، فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَتَى تَنْزِلُ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ اسْتَأْذَنُوا، وَلَيْسَتْ هُنَا إِذَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ فَقَطْ، بَلِ انْجَرَّ مَعَهَا مَعْنَى التَّكْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ أَنَّهُ بِحُكْمٍ غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ، لَا الْوَضْعِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي النَّحْوِ، وَمِمَّا وُجِدَ مَعَهَا التَّكْرَارُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ النَّارِ فِي كَبِدِي | أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ |
وَقَالُوا: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ الزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعُذْرِ، وَمَنْ تُرِكَ لِحِرَاسَةِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ. وَفِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، تَهْجِينٌ لَهُمْ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ.
وَالْخَوَالِفُ: النِّسَاءُ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَشَمِرِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ كَمَا قَالَ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي | أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ |
فَإِنْ تَكُنِ النِّسَاءُ مُخَبَّآتٍ | فَحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ |
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا | وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ |
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ اخْتَارُوا الدَّعَةَ وَكَرِهُوا الْجِهَادَ، وَفَرُّوا مِنَ الْقِتَالِ، وَذَكَرَ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ذَكَرَ حَالَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَلَكِنَّ وَضْعَهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ ذَرْنَا، وَاسْتِئْذَانُهُمْ فِي الْقُعُودِ، كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِانْتِفَاءِ الْجِهَادِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
رَضُوا بِكَذَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَلَكِنَّ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَادِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَخْلَصُ نِيَّةً. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «١» فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ «٢» وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ وَهُوَ الْمُسْتَحْسَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَاسِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي النِّسَاءِ وَمِنْهُ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلَاتِ | رَبَلَاتِ هِنْدٍ خيرة الملكات |
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣٨.
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُعَذِّرُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فَاحْتَمَلَ وَزْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ: تَكَلَّفَ الْعُذْرَ وَلَا عُذْرَ لَهُ، وَيُقَالُ عَذَّرَ فِي الْأَمْرِ قَصَّرَ فِيهِ وَتَوَانَى، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فِيمَا يَفْعَلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ افْتَعَلَ، وَأَصْلُهُ اعْتَذَرَ كَاخْتَصَمَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْمُعْتَذِرُونَ بِالتَّاءِ مِنِ اعْتَذَرَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ افْتَعَلَ. الْأَخْفَشُ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِيسَى بْنُ هِلَالٍ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ، فِي رِوَايَةٍ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ أَعْذَرَ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ: الْمُعَّذِّرُونَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالذَّالِ، مِنْ تَعَذَّرَ بِمَعْنَى اعْتَذَرَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَرَادَ الْمُتَعَذِّرِينَ، وَالتَّاءُ لَا تُدْغَمُ فِي الْعَيْنِ لِبُعْدِ الْمَخَارِجِ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعَذِّرِينَ أَهُمُ مُؤْمِنُونَ أَمْ كَافِرُونَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وجماعة: هو مُؤْمِنُونَ، وَأَعْذَارُهُمْ صَادِقَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَفِرْقَةٌ: هُمْ كَافِرُونَ وَأَعْذَارُهُمْ كَذِبٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:
رَحِمَ اللَّهُ الْمُعْذِرِينَ وَلَعَنَ الْمُعَذِّرِينَ. قِيلَ: هُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ قَالُوا. إِنَّ لَنَا عِيَالًا وَإِنَّ بِنَا جَهْدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ.
وَقِيلَ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ قَالُوا: إِنْ غَزَوْنَا مَعَكَ غَارَتْ أَعْرَابُ طَيٍّ عَلَى أَهَالِينَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ»
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَائِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «١» فَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا لَمْ يَكُنْ لِوَصْفِ الَّذِينَ قَعَدُوا بِالْكَذِبِ اخْتِصَاصٌ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ سَيُصِيبُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَانْقَسَمُوا إِلَى جَاءَ مُعْتَذِرٌ وَإِلَى قَاعِدٍ، وَاسْتُؤْنِفَ إِخْبَارٌ بِمَا يصيب
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِهِ. وَالضُّعَفَاءُ جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ الْهَرِمُ، وَمَنْ خُلِقَ فِي أَصْلِ البنية شديد المخافة والضؤولة، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْجِهَادُ. وَالْمَرِيضُ مَنْ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ، أَوْ كَانَ زَمِنًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَمَى وَالْعَرَجُ. والذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ هُمُ الْفُقَرَاءُ. قِيلَ: هُمْ مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَبَنُو عُذْرَةَ، وَنَفَى الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَنَفْيُ الْحَرَجِ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ، فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ لِيُعِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ مَتَاعِهِمْ أَوْ تَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ وَلَا يَكُونُ كَلًّا عَلَيْهِمْ، كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ جَزِيلٌ.
فَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ وَهُوَ مِنْ أَتْقِيَاءِ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْجَيْشِ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَحْفِرَنَّ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ.
وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أَعْمَى، فَخَرَجَ إِلَى أُحُدٍ وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى اللِّوَاءَ فَأَخَذَهُ، فَأُصِيبَتْ يَدُهُ الَّتِي فِيهَا اللِّوَاءُ فَأَمْسَكَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَضُرِبَتْ فَأَمْسَكَهُ بِصَدْرِهِ. وَقَرَأَ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «١» وَشَرَطَ فِي انْتِفَاءِ الْحَرَجِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِيَّاتُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ سِرًّا وَجَهْرًا خَالِصَةً لِلَّهِ مِنَ الْغِشِّ، سَاعِيَةً فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، دَاعِيَةً لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ.
فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بَعْدَكُمْ قَوْمًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا هُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: إِذَا نَصَحُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْطُوفِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: مِنْ لَائِمَةٍ تُنَاطُ بِهِمْ أَوْ عُقُوبَةٍ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ
وَمِنْهُ قَوْلُ يَسَارِ بْنِ عَدِيٍّ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَخِيهِ، وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ:
الْيَوْمَ خَمْرٌ وَيَبْدُو فِي غَدٍ خَبَرُ | وَالدَّهْرُ مِنْ بَيْنِ إِنْعَامٍ وَإِيئَاسِ |
وَرَوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَدَبْتَنَا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ، فَاحْمِلْنَا عَلَى الْخِفَافِ الْمَرْقُوعَةِ وَالنِّعَالِ الْمَخْصُوفَةِ نَغْزُ مَعَكَ فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ.
وَقَرَأَ مَعْقِلُ بْنُ هَارُونَ: لِنَحْمِلَهُمْ بنون الجماعة، وإذا تَقْتَضِي جَوَابًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا وهو قلب، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَوَلَّوْا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ حَالُهُمْ إِذْ أَجَابَهُمُ الرَّسُولُ؟ قِيلَ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ. وَقِيلَ: جَوَابُ إذا تولوا، وقلب جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، أَيْ: إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ، وَقَدْ قَبْلَهُ مُقَدَّرٌ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العطف أَيْ: وَقُلْتَ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةِ وَقَدَّرَهُ: فَقُلْتَ بِالْفَاءِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْتَ لَا أَجِدُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ يَعْنِي: مِثْلَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ؟ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ تَوَلَّوْا، فَقِيلَ: مَا لَهُمْ تَوَلَّوْا بَاكِينَ؟ قُلْتُ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَالِاعْتِرَاضِ (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَيَحْسُنُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ وَلَا يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ فَهْمٌ أَعْجَمِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي أَوَائِلِ حِزْبِ لَتَجِدَنَّ «١» مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كَقَوْلِكَ:
تَفِيضُ دَمْعًا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَفِيضُ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّ كلها دمع فائض. ومن لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ: أَفْدِيكَ مِنْ رَجُلٍ، وَمَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّصْبُ عَلَى التَّمْيِيزِ انْتَهَى.
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ الَّذِي أَصْلُهُ فَاعِلٌ لا يجوز جره بمن، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَانْتَصَبَ حَزَنًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وأن لا يَجِدُوا مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا، وَالنَّاصِبُ لَهُ حَزَنًا، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بتفيض انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى إِعْرَابِهِ حَزَنًا مَفْعُولًا لَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ، لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَقْضِ اثْنَيْنِ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ إِلَّا بِالْعَطْفِ أَوِ الْبَدَلِ. وقوله: أن لا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ:
وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا ينفقون حرج.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٣ الى ١٢١]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
وَلِلْفَرْقِ نُسِبَ إِلَيْهِ عَلَى لَفْظِهِ فَقِيلَ: الْأَعْرَابِيُّ، وَجُمِعَ الْأَعْرَابُ عَلَى الْأَعَارِبِ جَمْعِ الْجَمْعِ.
أَجْدَرُ أَحَقُّ وَأَحْرَى، قَالَ اللَّيْثُ: جَدَرَ جَدَارَةً فَهُوَ جَدِيرٌ وَأَجْدَرُ، بِهِ يُؤَنَّثُ وَيُثَنَّى وَيُجْمَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
نَخِيلٌ عَلَيْهَا جَنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ | جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا |
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ | تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ |
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «١» وَقِيَاسُهُ فَوَاعِلُ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوهُ لِجَمْعِ الْوَاوَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
وَلَا أَعْرِفُ فَاعِلًا أفعلة سِوَاهُ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ نَادٍ وَأَنْدِيَةً قَالَ الشَّاعِرُ:
وَفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمُ | وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ |
عَرَفْتُ بِبُرْقَةِ الأوداء رسما | مجيلا طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ |
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ
إِنَّمَا السَّبِيلُ فِي اللَّائِمَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْإِثْمِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهِ لِغِنَاهُمْ، وَكَانَ خَبَرُ السَّبِيلُ عَلَى وَإِنْ كَانَ قَدْ فُصِلَ بإلى كَمَا قَالَتْ:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا | أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ |
وَعُطِفَ وَطَبَعَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي تَخَلُّفِهِمْ رضاهم بالدناءة، وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِهَادِ مِنْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّ عرض الْمُعْتَذِرِ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا يَعْتَذِرُ بِهِ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ فِي اعْتِذَارِهِ كُفَّ عَنْهُ. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ عِلَّةٌ لِانْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَخْبَرَ الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ سَرَائِرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، لَمْ يُمْكِنْ تَصْدِيقُهُمْ فِي مَعَاذِيرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: قد نبأ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ، وَنَحْوُ هذا. ونبأ هُنَا تَعَدَّتْ إِلَى مَفْعُولَيْنِ كَعَرَّفَ، نَحْوُ قَوْلِهِ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ وَالثَّانِي هُوَ مِنْ أَخْبَارِكُمْ أَيْ: جُمْلَةٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَعَلَى رَأْيِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ تَكُونُ مِنْ زَائِدَةً أَيْ أَخْبَارَكُمْ. وَقِيلَ: نَبَّأَ بِمَعْنَى أَعْلَمَ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَالثَّالِثُ مَحْذُوفٌ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَيْ: مِنْ أَخْبَارِكُمْ كَذِبًا أَوْ نَحْوَهُ. وَسَيَرَى اللَّهُ تَوَعُّدٌ أَيْ: سَيَرَاهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ، فَيَقَعُ الْجَزَاءُ مِنْهُ عَلَيْهِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أَتُنِيبُونَ أَمْ تَثْبُتُونَ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُورِ وَالتَّنَبُّؤِ بِأَعْمَالِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ جَزَائِهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عِيسَى: وَسَيَرَى لِجَعْلِهِ مِنَ الظُّهُورِ بِمَنْزِلَةِ مَا يُرَى، ثُمَّ يُجَازِي عَلَيْهِ. وَقِيلَ: كَانُوا يُظْهِرُونَ
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَصْدُرُ مِنْهُمُ الِاعْتِذَارُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ سَيُؤَكِّدُونَ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ الْكَاذِبَ بِالْحَلِفِ، وَأَنَّ سَبَبَ الْحَلِفِ هُوَ طِلْبَتُهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يَلُومُوهُمْ وَلَا يُوَبِّخُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَيْ: فأجيبوهم إِلَى طِلْبَتِهِمْ. وَعَلَّلَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ، أَيْ مُسْتَقْذَرُونَ بِمَا انْطَوَوْا عَلَيْهِ مِنَ النِّفَاقِ، فَتَجِبُ مُبَاعَدَتُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ كَمَا قَالَ: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «١» فَمَنْ كَانَ رِجْسًا لَا تَنْفَعُ فِيهِ الْمُعَاتَبَةُ، وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الرِّجْسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْحَلِفِ مَخَافَتَهُمْ أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَلَا يُقْبِلُوا عَلَيْهِمْ وَلَا يُوَادُّوهُمْ، فَأَمَرَ تَعَالَى بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَعَدَمِ تَوَلِّيهِمْ، وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ بِرِجْسِيَّتِهِمْ، وَبِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهِمْ إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لَا تُكَلِّمُوهُمْ.
وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ قَالَ: «لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ».
قِيلَ: إِنَّ هذه الآية من أول مَا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ قَدِ اعْتَذَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ وَاسْتَأْذَنُوهُ فِي الْقُعُودِ قَبْلَ مَسِيرِهِ، فَأَذِنَ فَخَرَجُوا وَقَالَ أَحَدُهُمْ: مَا هُوَ إِلَّا شَحْمَةٌ لِأَوَّلِ آكِلٍ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ نَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ، فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ لِلْمُنَافِقِينَ فِي مَجْلِسٍ مِنْهُمْ: نَزَلَ فِيكُمْ قُرْآنٌ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا أَحْفَظُ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ وَصْفَكُمْ فِيهِ بِالرِّجْسِ، فَقَالَ لَهُمْ مَخْشِيٌّ: لَوَدِدْتُ أَنْ أُجْلَدَ مِائَةً وَلَا أَكُونُ مَعَكُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى لَحِقَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «مَا جَاءَ بِكَ» ؟ فَقَالَ لَهُ: وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْفَعُهُ الرِّيحُ، وَأَنَا فِي الْكِنِّ.
فَرُوِيَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَابَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ أَمْرٌ بِانْتِهَارِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِالْإِعْرَاضِ وَالْوَصْمِ بِالنِّفَاقِ، وَهَذَا مَعَ إِجْمَالٍ لَا مَعَ تَعْيِينٍ مُصَرِّحٍ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَيْدَانُ الْمَقَالَةِ مَبْسُوطًا. وَقَوْلُهُ: رِجْسٌ أَيْ نَتَنٌ وَقَذَرٌ.
وَنَاهِيكَ بِهَذَا الْوَصْفِ مَحَطَّةً دُنْيَوِيَّةً، ثُمَّ عَطَفَ لِمَحَطَّةِ الْآخِرَةِ. وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُمْ جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ وَيَحْلِفُونَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلى الله.
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بَعْدَهَا، وَحَلَفَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ لَنَكُونُنَّ مَعَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَطَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، فَنَزَلَتْ
، وَهُنَا حُذِفَ الْمَحْلُوفُ بِهِ، وَفِي قَوْلِهِ: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ «١» أُثْبِتَ كَقَوْلِهِ:
إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها «٢» وَقَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ «٣» فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَذْفِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي انْعِقَادِ ذَلِكَ يَمِينًا. وَغَرَضُهُمْ فِي الْحَلِفِ رضا الرسول والمؤمنين عنهم لِنَفْعِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، لَا أَنَّ مَقْصِدَهُمْ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُرَادُ: هِيَ أَيْمَانٌ كاذبة، وأعذار مختلفة لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا لَمَّا ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِأَجْلِ الْإِعْرَاضِ، جَاءَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ نَصًّا، لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، وَهُنَا ذَكَرَ الْحَلِفَ لِأَجْلِ الرِّضَا فَأَبْرَزَ النَّهْيَ عَنِ الرِّضَا فِي صُورَةٍ شَرْطِيَّةٍ، لِأَنَّ الرِّضَا مِنَ الْأُمُورِ الْقَلْبِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى، وَخَرَجَ مَخْرَجَ الْمُتَرَدَّدِ فِيهِ، وَجَعَلَ جَوَابَهُ انْتِفَاءَ رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ، فَصَارَ رِضَا الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُمْ أَبْعَدَ شَيْءٍ فِي الْوُقُوعِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ عَمَّنْ لَا يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُمْ. وَنَصَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الرِّضَا وَهُوَ الْفِسْقُ، وَجَاءَ اللَّفْظُ عَامًّا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ، وَيُحْتَمَلُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ وَيَكُونُونَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ، إِذِ الْعَامُّ إِذَا نَزَلَ عَلَى سَبَبٍ مَخْصُوصٍ لَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنَ الْعُمُومِ بِتَخْصِيصٍ وَلَا غَيْرِهِ.
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابٍ مِنْ أَسَدٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَطَفَانَ. وَمِنْ أَعْرَابِ حَاضِرِي الْمَدِينَةِ أَيْ: أَشَدُّ كُفْرًا مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ. وَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَلْبِ فَقَطْ، فَالتَّقْدِيرُ أَشَدُّ أَسْبَابِ كُفْرٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الشِّدَّةُ. وَكَانُوا أَشَدَّ كُفْرًا وَنِفَاقًا لِتَوَحُّشِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْهَوَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِمْ، فَيَزِيدُ فِي تِيهِهِمْ وَنَخْوَتِهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَطَيْشِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ بِلَا سَائِسٍ وَلَا مُؤَدِّبٍ وَلَا ضَابِطٍ، فنشأوا كَمَا شَاءُوا لِبُعْدِهِمْ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْعُلَمَاءِ وَمَعْرِفَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلِبُعْدِهِمْ عَنْ مَهْبِطِ الْوَحْيِ. كَانُوا أَطْلَقَ لِسَانًا بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مِنْ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ كُفْرُهُمْ سِرًّا وَلَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ إِلَّا تَعْرِيضًا. وأجدر أي: أحق أن لا يَعْلَمُوا أَيْ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا. وَالْحُدُودُ: هُنَا الْفَرَائِضُ. وقيل: الوعيد عل مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ، وَالتَّأَخُّرِ عَنِ الْجِهَادِ. وَقِيلَ: مَقَادِيرُ التَّكَالِيفِ
(٢) سورة القلم: ٦٨/ ١٧. [.....]
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٩.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْجَفَاءَ وَالْقَسْوَةَ فِي الْفَدَّادِينَ»
وَاللَّهُ عَلِيمٌ يَعْلَمُ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أهل الوبر والمدبر، حَكِيمٌ فِيمَا يُصِيبُ بِهِ مُسِيئَهُمْ وَمُحْسِنَهُمْ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَتَمِيمٍ، كَانُوا يَتَّخِذُونَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنَ الزَّكَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَا هِيَ إِلَّا جِزْيَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَقِيلَ: كُلُّ نَفَقَةٍ لَا تَهْوَاهَا أَنْفُسُهُمْ وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ شَرْعًا، وَهُوَ مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا تَقِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرِيَاءً، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءِ الْمَثُوبَةِ عِنْدَهُ.
فَعَلَ هَذَا الْمَغْرَمُ إِلْزَامُ مَا لَا يَلْزَمُ. وَقِيلَ: الْمَغْرَمُ الْغُرْمُ وَالْخُسْرُ، وَهُوَ قَوْلُ: ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَقَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْمَغْرَمُ مَا لَزَمَ أَصْحَابَهُ وَالْغَرَامُ اللَّازِمُ، وَمِنْهُ الْغَرِيمُ لِلُزُومِهِ وَإِلْحَاحِهِ. وَالتَّرَبُّصُ: الِانْتِظَارُ. وَالدَّوَائِرُ: هِيَ الْمَصَائِبُ الَّتِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهَا، تُحِيطُ بِهِ كَمَا تُحِيطُ الدَّائِرَةُ. وَقِيلَ: تَرَبُّصُ الدَّوَائِرِ هُنَا مَوْتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِ الشِّرْكِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا | تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتُ حَلِيلُهَا |
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر: والسوء هُنَا. وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ ثَانِيَةٌ بِالضَّمِّ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْفَتْحِ، فَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ. قَالَ الفراء: سوأته سوأ وَمَسَاءَةً وَسَوَائِيَةً، وَالضَّمُّ الِاسْمُ وَهُوَ الشَّرُّ وَالْعَذَابُ، وَالْفَتْحُ ذَمُّ الدَّائِرَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وُصِفَتِ الدَّائِرَةُ بِالْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا: رَجُلُ سَوْءٍ فِي نَقِيضِ رَجُلِ صِدْقٍ، يَعْنُونَ فِي هَذَا الصَّلَاحَ لَا صِدْقَ اللِّسَانِ، وَفِي
وَكُنْتَ كَذِيبِ السُّوءِ لَمَّا رَأَى دَمًا | بِصَاحِبِهِ يَوْمًا أَحَالَ عَلَى الدَّمِ |
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيَنَةَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُغَفَّلِ بْنِ مُقَرِّنٍ: كُنَّا عَشَرَةً وَلَدَ مُقَرِّنٍ فَنَزَلَتْ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ الْآيَةَ يُرِيدُ: السِّتَّةَ وَالسَّبْعَةَ الْإِخْوَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدَدِهِمْ وبينهم. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي عَبْدِ اللَّهِ ذِي النِّجَادَيْنِ وَرَهْطِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَجُهَيْنَةَ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ذَكَرَ مُقَابِلَهُ وَهُوَ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْنَمًا، وَذَكَرَ هُنَا الْأَصْلَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْقُرُبَاتِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، إِذْ جَزَاءُ مَا يُنْفَقُ إِنَّمَا يَظْهَرُ ثَوَابُهُ الدَّائِمُ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي قِصَّةِ أُولَئِكَ اكْتَفَى بِذِكْرِ نَتِيجَةِ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اتِّخَاذُهُ مَا يُنْفِقُ مغرما وتربصه بالمؤمنين بالدوائر. وَالْأَجْوَدُ تَعْمِيمُ الْقُرُبَاتِ مِنْ جِهَادٍ وَصَدَقَةٍ، وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُهُ سَبَبَ وَصْلٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَدْعِيَةِ الرَّسُولِ،
وَكَانَ يَدْعُو لِلْمُصَدِّقِينَ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَيَسْتَغْفِرُ لهم كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»
وَقَالَ تَعَالَى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ «٢» وَالظَّاهِرُ عَطْفُ وَصَلَوَاتِ عَلَى قُرُبَاتٍ. قَالَ ابن عطية:
ويحتمل أن يَكُونَ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ عَطْفًا عَلَى مَا يُنْفِقُ، أَيْ: وَيَتَّخِذُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَلَوَاتِ الرَّسُولِ قُرْبَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَلَوَاتُ الرَّسُولِ هِيَ اسْتِغْفَارُهُ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
أَدْعِيَتُهُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ سَمَّاهَا صَلَوَاتٍ جَرْيًا عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، أَوْ لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا،
وَحِينَ جَاءَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ قَالَ: «آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَجَعَلَهُ لَكَ طَهُورًا»
وَالضَّمِيرُ فِي أَنْهَا قِيلَ: عَائِدٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ. وَقِيلَ: عَائِدٌ عَلَى النَّفَقَاتِ. وَتَحْرِيرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا، وَالْمَعْنَى: قُرْبَةٌ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُتَصَدِّقِ بِصِحَّةِ مَا اعْتَقَدَ مِنْ كَوْنِ نَفَقَتِهِ قُرُبَاتٍ وَصَلَوَاتٍ وَتَصْدِيقُ رَجَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ مَعَ حَرْفِ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ أَلَا وَحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَهُوَ إِنَّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا فِي السِّينِ مِنْ تَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَمَا أَدَلُّ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى رِضَا اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تعالى بمكان إذا
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٠٣.
وَقَرَأَ وَرْشٌ: قُرُبَةٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالسُّكُونِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قُرُبَاتٍ أَنَّهُ بِالضَّمِّ، فَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرُبَةٍ فَجَاءَ الضَّمُّ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ قُرْبَةٍ بِالسُّكُونِ فَجَاءَ الضَّمُّ اتِّبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالُوا: ظُلُمَاتٌ فِي جَمْعِ ظُلْمَةٍ.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَقَتَادَةُ: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا قَالَ: وَحُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَدْرَكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، بَيْعَةَ الْحُدَيْبِيَةِ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ. وَمَنْ فَسَّرَ السَّابِقِينَ بِوَاحِدٍ كَأَبِي بَكْرٍ أَوْ عَلِيٍّ، أَوْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، أَوْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَوْلُهُ بِعِيدٌ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْقَ هُوَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: هُمُ السَّابِقُونَ بِالْمَوْتِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، سَبَقُوا إِلَى ثَوَابِ الله وحسن جزائه، ومن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَيْ: وَمِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ أَوَّلًا وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، وَأَهْلُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَعَلَّمَهُمُ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ هُمْ جَمِيعُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَنِ انْقَضَتِ الْهِجْرَةُ، لَكَانَ قَوْلًا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَتَكُونُ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمْ سَائِرُ الصَّحَابَةِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ التَّابِعُونَ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِحْسَانِ. وَقَدْ لَزِمَ هَذَا الِاسْمُ الَّذِي هُوَ التَّابِعُونَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمُ السَّابِقُونَ في الهجرة والنصرة، لِأَنَّ فِي لَفْظِ السَّابِقَيْنِ إِجْمَالًا، وَوَصْفُهُمْ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ يُوجِبُ صَرْفَ ذَلِكَ إِلَى مَا اتَّصَفَ بِهِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ وَالنُّصْرَةُ، وَالسَّبْقُ إِلَى الْهِجْرَةِ صِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا شَاقَّةً عَلَى النَّفْسِ وَمُخَالِفَةً لِلطَّبْعِ، فَمَنْ أَقْدَمَ أَوَّلًا صَارَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ السَّبْقُ فِي النُّصْرَةِ فَازُوا بِمَنْصِبٍ عَظِيمٍ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَلَمَّا بين تعالى الصائل الْأَعْرَابِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ، بَيَّنَ حَالَ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْإِعْدَادَيْنِ وَالثَّنَاءَيْنِ، هُنَاكَ قَالَ: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ «١» وَهُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُنَاكَ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ «٢» وَهُنَا وَأَعَدَّ لَهُمْ
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٩٩.
وَيَكُونُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِالرِّضَا سَابَقُوهُمْ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ الضَّمِيرُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ عَائِدٌ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّابِقُونَ مبتدأ ورضي اللَّهُ الْخَبَرُ، وَجَوَّزُوا فِي الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُونَ أَيْ: هُمُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَجَوَّزُوا فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يُؤْمِنُ أَيْ: وَمِنْهُمُ السَّابِقُونَ. وَجَوَّزُوا فِي وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَفِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ خَبَرُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالسَّابِقُونَ وَجْهُ الْعَطْفِ، وَوَجْهٌ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَبَرُ رَضِيَ اللَّهُ، وَهَذِهِ أَعَارِيبُ مُتَكَلَّفَةٌ لَا تُنَاسِبُ إِعْرَابَ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْ تَحْتِهَا بِإِثْبَاتِ مِنْ الْجَارَّةِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي مَصَاحِفِ مكة. وباقي السباعة بِإِسْقَاطِهَا عَلَى مَا رُسِمَ فِي مَصَاحِفِهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ، بِغَيْرِ وَاوٍ صِفَةً لِلْأَنْصَارِ، حَتَّى قَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّهَا بِالْوَاوِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُبَيٍّ فَقَالَ: تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ الْجُمُعَةِ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «٢» وَأَوْسَطِ الحشر:
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ «٣» وَآخِرِ الْأَنْفَالِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ «٤».
وَرُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَؤُهُ بِالْوَاوِ فَقَالَ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟ فَقَالَ: أُبَيٍّ فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَانَا وَقَعْنَا وَقْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ: لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَحْوَالَ مُنَافِقِي الْأَعْرَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ، مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ صَالِحٌ، ثُمَّ بَيَّنَ رُؤَسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ هُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مُنَافِقِينَ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَفِي الْمَدِينَةِ لَا تَعْلَمُونَهُمْ أَيْ: لَا تَعْلَمُونَ أَعْيَانَهُمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ مُنَافِقِينَ. وَمَعْنَى حَوْلَكُمْ: حَوْلَ بَلْدَتِكُمْ وَهِيَ الْمَدِينَةُ. وَالَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَأَشْجَعُ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَعُصَيَّةُ، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز الْمَدِينَةَ. وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: وممن، فيكون المجرور أن
(٢) سورة الجمعة: ٦٢/ ٣.
(٣) سورة الحشر: ٥٩/ ١٠.
(٤) سورة الأنفال: ٨/ ٧٥.
كَقَوْلِهِ: أَنَا ابْنُ جَلَا. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي مُطْلَقٍ حُذِفَ الْمَوْصُوفُ، وَإِنْ كَانَ شِبْهَهُ فِي خُصُوصِيَّتِهِ فَلَيْسَ بِحَسَنٍ، لِأَنَّ حَذْفَ الْمَوْصُوفِ مَعَ مِنْ وَإِقَامَةَ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَهِيَ فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ، وَلَا سِيَّمَا فِي التَّفْصِيلِ مُنْقَاسٌ كَقَوْلِهِمْ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ. وأما أن ابْنُ جَلَا فَضَرُورَةُ شِعْرٍ كَقَوْلِهِ:
يَرْمِي بِكَفَّيْ كَانَ مِنْ أَرَمَى الْبَشَرْ أَيْ بِكَفَّيْ رَجُلٍ. وَكَذَلِكَ أَنَا ابْنُ جَلَا تَقْدِيرُهُ: أَنَا ابْنُ رَجُلٍ جَلَا أَيْ كَشَفَ الْأُمُورَ. وَبَيَّنَهَا وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ مَرَدُوا شَامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَرَدُوا فِي قَوْلِهِ: شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ «١» وَقَالَ هُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَرَدُوا، مَرَنُوا وَثَبَتُوا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَتَوْا مِنْ قَوْلِهِمْ تَمَرَّدَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَامُوا عَلَيْهِ لَمْ يَتُوبُوا لَا تَعْلَمُهُمْ أَيْ: حَتَّى نُعْلِمَكَ بِهِمْ، أَوْ لَا تَعْلَمُ عَوَاقِبَ أَمْرِهِمْ، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. أَوْ لَا تَعْلَمُهُمْ مُنَافِقِينَ، لِأَنَّ النِّفَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْقَلْبِ. وَتَقَدَّمَ لَفْظُ مُنَافِقِينَ فَدَلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، فَتَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ قَالَهُ: الْكَرْمَانِيُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُخْفُونَ عَلَيْكَ مَعَ فِطْنَتِكَ وَشَهَامَتِكَ وَصِدْقِ فِرَاسَتِكَ لِفَرْطِ تَوَقِّيهِمْ مَا يُشَكِّكُ فِي أَمْرِهِمْ. وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ:
لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قَالَ: فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَكَلَّفُونَ عِلْمَ النَّاسِ؟ فُلَانٌ فِي الْجَنَّةِ، فُلَانٌ فِي النَّارِ، فَإِذَا سَأَلْتَ أَحَدَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنْتَ لَعَمْرِي بِنَفْسِكَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِأَعْمَالِ النَّاسِ، وَلَقَدْ تَكَلَّفْتَ شَيْئًا مَا تَكَلَّفَهُ الرُّسُلُ. قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ نُوحٍ: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «٢» وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «٣» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ انْتَهَى. فَلَوْ عَاشَ قَتَادَةُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي هُوَ قَرْنُ ثَمَانِمِائَةٍ وَسَمِعَ مَا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْمَنْسُوبُونَ إِلَى الصُّوفِ من الدعاوى
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١١٢.
(٣) سورة هود: ١١/ ٨٦.
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ تَهْدِيدٌ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ إِرَادَةُ التَّثْنِيَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يُرَادُ بِهَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «١» أَيْ كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ. كَذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى هَذَا سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَإِذَا كَانَتِ التَّثْنِيَةُ مُرَادَّةً فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الثَّانِيَ هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَأَمَّا الْمَرَّةُ الْأُولَى فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ: هُوَ فَضِيحَتُهُمْ وَوَصْمُهُمْ بِالنِّفَاقِ.
وَرُوِيَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةِ بَدْرٍ فَنَدَرَ بِالْمُنَافِقِينَ وَصَرَّحَ وَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فُلَانُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ، وَاخْرُجْ أَنْتَ يَا فُلَانُ» حَتَّى أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَرَآهُمْ عُمَرُ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى الْجُمُعَةِ فَظَنَّ أَنَّ النَّاسَ انْتَشَرُوا، وَأَنَّ الْجُمُعَةِ فَاتَتْهُ، فَاخْتَفَى مِنْهُمْ حَيَاءً، ثُمَّ وَصَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تُقْضَ وَفَهِمَ الْأَمْرِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جهة التأديب اجتهاد مِنْهُ فِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلُخْهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا يَخْرُجُ الْعُصَاةُ وَالْمُتَّهَمُونَ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ دُونَ تَعْيِينٍ، فَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَيَبْعُدُ مَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لِأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى نِفَاقِ مَنْ أُخْرِجَ بِعَيْنِهِ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ إِخْرَاجِ الْعُصَاةِ، بَلْ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ عِنْدَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْعَذَابُ الْأَوَّلُ عِلَلٌ وَأَدْوَاءٌ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّهُ سَيُصِيبُهُمْ بِهَا،
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَسَرَّ إِلَى حُذَيْفَةَ بِاثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ وَقَالَ: «سِتَّةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ تَأْخُذُ فِي كَتِفِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى صَدْرِهِ، وَسِتَّةٌ يَمُوتُونَ مَوْتًا»
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ عَذَابُهُمْ بِالْقَتْلِ وَالْجُوعِ. قِيلَ: وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هو هو أنهم بِإِقَامَةِ حُدُودِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَرَاهِيَتِهِمْ فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ هَمُّهُمْ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ. وَقِيلَ: ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَوَّلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا، والثاني
إِحْرَاقُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْآخَرُ إِحْرَاقُهُمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ سَيُعَذِّبُهُمْ بِالْيَاءِ، وَسَكَّنَ عَيَّاشُ عن أبي عمر والياء.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: نَزَلَتْ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْثَقَ سَبْعَةً مِنْهُمْ. وَقِيلَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ: كَرْدَمُ، وَمِرْدَاسُ، وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ. وَقِيلَ: سِتَّةٌ أَوْثَقَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، فِيهِمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقِيلَ: كَانُوا خَمْسَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثَةً أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَأَوْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَحْدَهُ. وَيَبْعُدُ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ وَآخَرُونَ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ حِينَ قَدِمَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُ كُلَّمَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَرَآهُمْ مُوَثَّقِينَ فَسَأَلَ عَنْهُمْ: فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا لَا يَحُلُّونَ أَنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحُلُّهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فِيهِمْ، رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» فَنَزَلَتْ
، فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ فِي شَأْنِهِ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ اسْتَشَارُوهُ فِي النُّزُولِ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَشَارَ هُوَ لَهُمْ إِلَى حَلْقِهِ يُرِيدُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْبَحُهُمْ إِنْ نَزَلُوا، فَلَمَّا افْتَضَحَ تَابَ وَنَدِمَ، وَرَبَطَ نَفْسَهُ فِي سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَقْسَمَ أن لا يَطْعَمَ وَلَا يَشْرَبَ حَتَّى يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ يَمُوتَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ حَتَّى عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَالِاعْتِرَافُ: الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ عَمَلًا صَالِحًا تَوْبَةً وَنَدَمًا، وَآخَرَ سَيِّئًا. أَيْ تَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ قَالَهُ: الطَّبَرِيُّ، أَوْ خُرُوجًا إِلَى الْجِهَادِ قَبْلُ. وَتَخَلُّفًا عَنْ هَذِهِ قَالَهُ: الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ. أَوِ تَوْبَةً وَإِثْمًا قَالَهُ: الْكَلْبِيُّ.
وَعَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، كَقَوْلِكَ:
خَلَطْتُ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، وَهُوَ بِخِلَافِ خَلَطْتُ الْمَاءَ بِاللَّبَنِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ الْمَاءَ خُلِطَ بِاللَّبَنِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَتَى خلطت شيئا شيء صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ مَخْلُوطٌ وَمَخْلُوطٌ بِهِ، مِنْ حَيْثُ مَدْلُولِيَّةُ الْخَلْطِ، لِأَنَّهَا أَمْرٌ نِسْبِيٌّ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِعْتُ الشَّاءَ شَاةً وَدِرْهَمًا، بِمَعْنَى شاة بدرهم.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنْ تَخْرِيجِ الْبَيْهَقِيِّ: أَنَّ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَتَابُوا رَآهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ، وَأَنَّهُمْ خُلِطَتْ أَلْوَانُهُمْ بَعْدَ اغْتِسَالِهِمْ فِي أَنْهُرَ ثَلَاثَةٍ، وَجَلَسُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْبِيضِ الْوُجُوهِ.
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ خَلَطُوا
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا، فَقَالَ: «مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا» فَنَزَلَتْ.
فَيُرْوَى أَنَّهُ أَخَذَ ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ مُرَاعَاةً لِقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا فِي هَؤُلَاءِ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ:
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. فَقَوْلُهُ: عَلَى هَذَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ هُوَ لِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ، وَالنَّاسُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ فِي الْأَمْوَالِ، إِذْ يَخْرُجُ عَنْهُ الْأَمْوَالُ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِيهَا كَالرَّبَاعِ وَالثِّيَابِ. وَفِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ كالعبيد، وصدقة مُطْلَقٌ، فَتَصْدُقُ بِأَدْنَى شَيْءٍ. وَإِطْلَاقُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ. وَفِي قَوْلِهِ: خُذْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَخْذَ الصَّدَقَاتِ وَيَنْظُرُ فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ خُذْ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرُ خُذْ. وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً، فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَانَ حَالًا، وَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةً، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا، وَأَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ تُطَهِّرُهُمْ عَائِدًا عَلَى صَدَقَةٍ، وَيَبْعُدُ هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضمير أن، فَأَمَّا مَا حَكَى مَكِّيٌّ مِنْ أَنَّ تُطَهِّرُهُمْ صِفَةٌ للصدقة وتزكيهم حَالٌ مِنْ فَاعِلِ خُذْ، فَقَدْ رُدَّ بِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: صَدَقَةً مُطَهِّرَةً وَمُزَكِّيًا بِهَا، وَهَذَا فَاسِدُ الْمَعْنَى، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ وَاوٍ جَازَ انْتَهَى. وَيَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ:
وَأَنْتَ تُزَكِّيهِمْ، لَكِنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ ضَعِيفٌ لِقِلَّةِ نَظِيرِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالتَّزْكِيَةُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّطَهُّرِ وَزِيَادَةٌ فِيهِ، أَوْ بِمَعْنَى الْإِنْمَاءِ وَالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: تُطَهِّرُهُمْ مِنْ أَطْهَرَ وَاطَّهَّرَ وَطَهَّرَ لِلتَّعْدِيَةِ مَنْ طَهُرَ. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أَيْ ادْعُ لَهُمْ، أَوِ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ، أَوْ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِذَا
يَا جَارَةَ الْحَيِّ إِنْ لَا كُنْتِ لِي سَكَنًا | إِذْ لَيْسَ بَعْضٌ مِنَ الْجِيرَانِ أَسْكَنَنِي |
وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ: إِنَّ صَلَاتَكَ هُنَا، وَفِي هُودٍ صَلَاتَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَمْعِ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بِاعْتِرَافِهِمْ، عَلِيمٌ بِنَدَامَتِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا بِالْأَمْسِ مَعَنَا لَا يُكَلَّمُونَ وَلَا يُجَالَسُونَ، فَنَزَلَتْ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ بِخِلَافٍ عَنْهُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُتَخَلِّفِينَ الَّذِينَ قَالُوا: مَا هَذِهِ الْخَاصَّةُ الَّتِي يُخَصُّ بِهَا هَؤُلَاءِ؟ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، وَأَنْ يَكُونَ خِطَابًا عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ مِنْ غَيْرِ إِضْمَارٍ لِلْقَوْلِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ التَّائِبِينَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَهُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْكِيدٌ أَنَّ اللَّهَ مِنْ شَأْنِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَمَا عَلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُتَابَ عَلَيْهِمْ وَتُقْبَلَ صَدَقَاتُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ، وَيَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ الْخَالِصَةَ النِّيَّةِ لِلَّهِ؟
وقيل: وجه التخصيص بهو، هُوَ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ وَأَخْذَ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، فَاقْصِدُوهُ وَوَجِّهُوهَا إِلَيْهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ مَعْنَاهُ قَبُولُهَا، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَنَّى فِيهَا عَنِ الْقَبُولِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ قَدْرَ اللُّقْمَةِ، فَيَأْخُذُهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى يَأْمُرُ بِهَا وَيَشْرَعُهَا كَمَا تَقُولُ: أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنَ النَّاسِ كَذَا إِذَا حملهم على
رُوِيَ: «وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» ؟.
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: صِيغَةُ أَمْرٍ ضَمَّنَهَا الْوَعِيدَ، وَالْمُعْتَذِرُونَ التَّائِبُونَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ، هُمُ الْمُخَاطَبُونَ. وَقِيلَ: هُمُ الْمُعْتَذِرُونَ الَّذِينَ لَمْ يَتُوبُوا. وَقِيلَ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُنَافِقُونَ. فَسَيَرَى اللَّهُ إِلَى آخِرِهَا تَقَدَّمَ شَرْحُ نَظِيرِهِ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْتَذِرِينَ الْخَالِطِينَ التَّائِبِينَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَدْ أُبْرِزُوا بِقَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ، إِبْرَازَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ «١» وَسَيَرَى الْآيَةَ تَنْقِيصًا مِنْ حَالِهِمْ وَتَنْفِيرًا عَمَّا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُمْ وَإِنْ تَابُوا لَيْسُوا كَالَّذِينَ جَاهَدُوا مَعَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لَا يَرْغَبُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ.
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ: هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الْمُعْرِضِينَ لِلتَّوْبَةِ مَعَ بِنَائِهِمْ مسجد الضرار. وقرأ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ لَمَّا ذَكَرَ طَرَائِقَ ذَمِيمَةً لِأَصْنَافِ الْمُنَافِقِينَ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا ذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي الشَّرِّ حَتَّى ابْتَنَى مَجْمَعًا لِلْمُنَافِقِينَ يُدَبِّرُونَ فِيهِ مَا شَاءُوا مِنَ الشَّرِّ، وَسَمَّوْهُ مَسْجِدًا.
وَلَمَّا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَبَعَثُوا إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَصَلَّى فِيهِ وَدَعَا لَهُمْ، حَسَدَهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ بَنُو غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ، وَبَنُو سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَحَرَّضَهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْفَاسِقُ عَلَى بِنَائِهِ حِينَ نَزَلَ الشَّامَ هَارِبًا من وقعة حنين فراسلهم فِي بِنَائِهِ وَقَالَ: ابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ آتِي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَبَنَوْهُ إِلَى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ. وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ الْمَسْجِدَ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَحَارِثَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ، وَنَبْتَلُ بْنُ الحرث، وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَنِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ الْأَزْهَرُ، وبخرج بْنُ عَمْرٍو، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالشَّاتِيَةِ، وَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تصلي لنا فيه، وتدعوا لَنَا بِالْبَرَكَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ وشغل، وَإِذَا قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَلَّيْنَا فِيهِ» وَكَانَ إِمَامُهُمْ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وَكَانَ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ حَسَنَ الصَّوْتِ، وَهُوَ مِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ إِمَامَةَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى الْكُوفَةِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ بَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي شَأْنِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَدَعَا مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنًا وَعَاصِمًا ابْنَيْ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: بَعَثَ عَمَّارَ بْنَ
وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَشَيْبَةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَابْنُ عَامِرٍ: الَّذِينَ بِغَيْرِ وَاوٍ، كَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ، وَأَنْ يَكُونَ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ تَقْدِيرُهُ: هُمُ الَّذِينَ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: الْخَبَرُ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَّجِهُ بِإِضْمَارِ إِمَّا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَإِمَّا فِي آخِرِهَا بِتَقْدِيرِ لَا تَقُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ. وَقَالَ النَّحَّاسُ وَالْحَوْفِيُّ: الْخَبَرُ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ:
الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مُعَذَّبُونَ أَوْ نَحْوُهُ.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ: وَالَّذِينَ بِالْوَاوِ عَطْفًا عَلَى وَآخَرُونَ أَيْ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خبره كخبر بِغَيْرِ الْوَاوِ إِذَا أُعْرِبَ مُبْتَدَأً. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَا مَحَلُّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ؟ (قُلْتُ) : مَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «١» وَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، مَعْنَاهُ فِيمَنْ وَصَفْنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ «٢» وَانْتَصَبَ ضِرَارًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ أَيْ: مُضَارَّةً لِإِخْوَانِهِمْ أصحاب مسجد قباء، ومعازّة وَكُفْرًا وَتَقْوِيَةً لِلنِّفَاقِ، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ مُجْتَمِعِينَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَيَغْتَصُّ بِهِمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَفْتَرِقُوا عَنْهُ وَتَخْتَلِفَ كَلِمَتُهُمْ، إِذْ كَانَ مَنْ يُجَاوِزُ مَسْجِدَهُمْ يَصْرِفُونَهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى صَرْفِهِ عَنِ الْإِيمَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لا تخذوا، وَإِرْصَادًا أَيْ: إِعْدَادًا لِأَجْلِ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ أَعَدُّوهُ لَهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَيَظْهَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ تَعَبَّدَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَسُمِّيَ الرَّاهِبَ، وَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ نَظِيرًا وَقَرِيبًا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بن سَلُولَ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ نَافَقَ وَلَمْ يَزَلْ مُجَاهِرًا بِذَلِكَ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مُحَاوَرَةٍ: «لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَكَ إِلَّا قَاتَلْتُكَ مَعَهُمْ» فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ وَحَزَّبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْزَابَ، فَلَمَّا رَدَّهُمُ الله بغيظهم أقام بمكة مُظْهِرًا لِلْعَدَاوَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ هَرَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطَّائِفِ هَرَبَ إِلَى الشَّامِ يُرِيدُ قيصر
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٣٨.
، وَفِيهِ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ فِعْلٍ خَبِيثٍ | كَسَعْيِكَ فِي الْعَشِيرَةِ عَبْدَ عَمْرٍو |
وَقُلْتَ بِأَنَّ لِي شَرَفًا وَذِكْرًا | فَقَدْ تَابَعْتَ إِيمَانًا بِكُفْرِ |
وَفِي قَوْلِهِ: أَوْ لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى جَعَلَهُ عِلَّةً، وَكَأَنَّهُ ضَمَّنَ أَرَادَ مَعْنَى قَصَدَ أَيْ: مَا قَصَدْنَا بِبِنَائِهِ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا لِإِرَادَةِ الْحُسْنَى وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَهَذَا وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ، وَنَهَاهُ أَنْ يَقُومَ فِيهِ فَقَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا نَهَاهُ لِأَنَّ بُنَاتَهُ كانوا خادعوا الرسول، فَهَمَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَشْيِ مَعَهُمْ، وَاسْتَدْعَى قَمِيصَهُ لِيَنْهَضَ فَنَزَلَتْ:
«لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا»، وَعَبَّرَ بِالْقِيَامِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِرْقَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: الْمُؤَسَّسُ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدُ قُبَاءٍ، أَسَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى فِيهِ أَيَّامَ مَقَامِهِ بقباء، وَهِيَ: يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَخَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمُوَازَنَةَ بَيْنَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ أَوْقَعُ مِنْهَا بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَلِكَ لَائِقٌ بِالْقِصَّةِ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدِي هَذَا» لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى.
وَإِذَا صَحَّ هَذَا النَّقْلُ لَمْ يُمْكِنْ خِلَافُهُ، وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ عَلَى الزَّمَانِ، وَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْكُوفِيُّونَ عَلَى أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ، وَتَأَوَّلَهُ الْبَصْرِيُّونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهَا لَا تَجُرُّ الْأَزْمَانَ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْسُنُ عِنْدِي أَنْ يُسْتَغْنَى عَنْ تَقْدِيرِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ تَجُرُّ لَفْظَةَ أَوَّلِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبُدَاءَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ مُبْتَدَأِ
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدٍ: فِيهِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهُ الثَّانِيَةَ بِضَمِّ الْهَاءِ جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَالْأَصْلُ الضَّمُّ، وَفِيهِ رَفْعُ تَوَهُّمِ التَّوْكِيدِ، وَرَفَعَ رِجَالٌ فَيَقُومُ إِذْ فِيهِ الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. وَجَوَّزُوا فِي فِيهِ رِجَالٌ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَسْجِدٍ، وَالْحَالَ، وَالِاسْتِئْنَافَ.
وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ لَهُمْ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ رَأَيْتُ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْكُمْ بِالطَّهُورِ فَمَاذَا تَفْعَلُونَ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا رَأَيْنَا جِيرَانَنَا مِنَ الْيَهُودِ يَتَطَهَّرُونَ بِالْمَاءِ يُرِيدُونَ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ نَدَعْهُ فَقَالَ: «فَلَا تَدَعُوهُ إِذًا»
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ وَاخْتِلَافٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ أَوْ بِالْمَاءِ أَيُّهِمَا أَفْضَلُ؟ وَرَأَتْ فِرْقَةٌ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا، وَشَذَّ ابْنُ حَبِيبٍ فَقَالَ: لَا يُسْتَنْجَى بِالْحِجَارَةِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَعَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَكُونُ التَّطْهِيرُ عِبَارَةً عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي النَّجَاسَاتِ كُلِّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ التَّطْهِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِالْحُمَّى الْمُكَفِّرَةِ لِلذُّنُوبِ، فَحُمُّوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَفِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ. أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ شَكَوَا الْحُمَّى فَقَالَ «إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَزَالَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُهَا لَكُمْ طُهْرَةً»
فَقَالُوا: بَلِ اجْعَلْهَا لَنَا طُهْرَةً. وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِمُ التَّطْهِيرُ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ حِرْصَ الْمُحِبِّ الشَّيْءَ الْمُشْتَهَى لَهُ عَلَى أَشْيَاءَ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ بِمَحْبُوبِهِ. وَقَرَأَ ابْنٌ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ: يَطَّهَرُوا بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمُتَطَهِّرِينَ.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ:
أَسَّسَ بُنْيَانَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ ذَلِكَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَبِنَصْبِ بُنْيَانَ. وَقَرَأَ عُمَارَةُ بْنُ عَائِذٍ الْأُولَى عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، وَرُوِيَتْ عَنْ نصر بن عاصم أسس بُنْيَانَهُ، وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي حَيْوَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَيْضًا، أَسَاسُ جَمْعُ أُسٍّ. وَعَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ أَسُسَ بِهَمْزَةٍ
كَبُنْيَانَةِ الْقَارِيِّ مَوْضِعُ رَحْلِهَا | وَآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنَ الدَّفِّ أَبْلَقُ |
قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قِيَاسُهَا أَنْ تَكُونَ أَلِفُهَا لِلْإِلْحَاقِ كَأَرْطَى. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: حَمْزَةُ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ، جُرْفٍ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَجَمَاعَةٌ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ:
الْأَصْلُ الضَّمُّ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ فَانْهَارَتْ بِهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ تَبْيِينُ حَالَيِ الْمَسْجِدَيْنِ: مَسْجِدِ قُبَاءٍ، أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَمَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَانْتِفَاءُ تَسَاوِيهِمَا وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَانْهَارَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ إِذْ أَرْسَلَ الرسول بهدمه رؤي مِنْهُ الدُّخَانُ
يَخْرُجُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يُدْخِلُ فِيهِ سَعَفَةً مِنْ سَعَفِ النَّخْلِ فَيُخْرِجُهَا سَوْدَاءَ مُحْتَرِقَةً، وَكَانَ يَحْفِرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي انْهَارَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ دُخَانٌ.
وَقِيلَ: هَذَا ضَرْبُ مَثَلٍ أَيْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَبَيَّنَ أَنَّ بِنَاءَ الْكَافِرِ كَبِنَاءٍ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَتَهَوَّرُ أَهْلُهُ فِي جَهَنَّمَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قِيلَ: بَلْ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ بِعَيْنِهِ انْهَارَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ قَالَهُ: قتادة، وابن جريج. وخير لَا شَرِكَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي خَيْرٌ إِلَّا عَلَى مُعْتَقَدٍ بَانِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَبِحَسَبِ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدِ صَحَّ التَّفْضِيلُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَوْهَاهَا وَأَقَلُّهَا بَقَاءً وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مَثَلُهُ مَثَلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فِي قِلَّةِ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْسَاكِ؟ وُضِعَ شَفَا الْجُرُفِ فِي مُقَابَلَةِ التَّقْوَى، لَا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ مَا يُنَافِي التَّقْوَى.
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبُنْيَانُ هُنَا مَصْدَرًا أَيْ: لَا يَزَالُ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ الْبُنْيَانُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَبْنَى، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: لَا يَزَالُ بِنَاءَ الْمَبْنَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَزَالُونَ شَاكِّينَ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: غَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ سَبَبَ غَيْظٍ. وَقِيلَ: كُفْرًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: أَسَفًا وَنَدَامَةً. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ: حَسْرَةً وَنَدَامَةً، لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بُنْيَانِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ:
لَا يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أَيْ: حَزَازَةً وَغَيْظًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الَّذِي بَنَوْا تَأْكِيدٌ وَتَصْرِيحٌ بِأَمْرِ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْإِشْكَالِ، وَالرِّيبَةُ الشَّكُّ، وَقَدْ يُسَمَّى رِيبَةً فَسَادُ الْمُعْتَقَدِ وَاضْطِرَابُهُ، وَالْإِعْرَاضُ فِي الشَّيْءِ وَالتَّخْبِيطُ فِيهِ. وَالْحَزَازَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَكًّا فَقَدْ يَرْتَابُ مَنْ لَا يَشُكُّ، وَلَكِنَّهَا فِي مُعْتَادِ اللُّغَةِ تَجْرِي مَعَ الشَّكِّ. وَمَعْنَى الرِّيبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعُمُّ الْحَيْقَ، وَاعْتِقَادَ صَوَابِ فِعْلِهِمْ، وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُؤَدِّي كُلُّهُ إِلَى الرِّيبَةِ فِي الْإِسْلَامِ. فَمَقْصِدُ الْكَلَامِ: لَا يَزَالُ هَذَا الْبُنْيَانُ الَّذِي هُدِمَ لَهُمْ يُبْقِي فِي قُلُوبِهِمْ حَزَازَةً وَأَثَرَ سُوءٍ. وَبِالشَّكِّ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرِّيبَةَ هُنَا، وَفَسَّرَهَا السُّدِّيُّ بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ لَهُ: أَفَكَفَرَ مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهَا حَزَازَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمُجَمِّعٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ أَقْسَمَ لِعُمَرَ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بَاطِنَ القوم، ولا قصد سوء. وَالْآيَةُ إِنَّمَا عَنَتْ مَنْ أَبْطَنَ سُوءًا. وَلَيْسَ مُجَمِّعٌ مِنْهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لَا يَزَالُونَ مُرِيبِينَ بِسَبَبِ بُنْيَانِهِمُ الَّذِي اتَّضَحَ فِيهِ نِفَاقُهُمْ.
وَجُمْلَةُ هَذَا أَنَّ الرِّيبَةَ فِي الْآيَةِ نعم مَعَانِيَ كَثِيرَةً يَأْخُذُ كُلُّ مُنَافِقٍ مِنْهَا بِحَسَبِ قَدْرِهِ مِنَ
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: يَتَقَطَّعَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالضَّمِّ، مُضَارِعُ قَطَّعَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقرىء يَقْطَعَ بِالتَّخْفِيفِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَيَعْقُوبُ: إِلَى أَنْ نَقْطَعَ، وَأَبُو حَيْوَةَ إِلَى أَنْ تُقَطِّعَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ مُشَدَّدَةً، وَنَصْبِ قُلُوبَهَمْ خِطَابًا لِلرَّسُولِ أَيْ: تَقْتُلَهُمْ، أَوْ فِيهِ ضَمِيرُ الرِّيبَةِ. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا أَصْحَابُهُ. وَحَكَى أَبُو عَمْرٍو هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: إِنْ قَطَعْتَ بِتَخْفِيفِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَلَوْ قَطَّعْتَ قُلُوبَهُمْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كُلِّ مُخَاطَبٍ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: حَتَّى الْمَمَاتِ، وَفِيهِ حَتَّى تُقْطَعَ. فَمَنْ قَرَأَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَنَصْبِ الْقُلُوبِ فَالْمَعْنَى: بِالْقَتْلِ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ قَرَأَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنِ زيد وغيرهم: بِالْمَوْتِ أَيْ: إِلَى أَنْ يَمُوتُوا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِلَى أَنْ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: إِلَى أَنْ يَتُوبُوا عَمَّا فَعَلُوا، فَيَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قُطِعَ قَلْبُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ، إِلَّا أَنْ يُتَأَوَّلَ أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً نَصُوحًا يَكُونُ مَعَهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ مَا يَقْطَعُ الْقُلُوبَ هَمًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَزَالُ يُبْدِيهِ سَبَبُ شَكٍّ وَنِفَاقٍ زَائِدٌ عَلَى شَكِّهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، لَا يَزَالُ وَسْمُهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا يَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا وَتُفَرَّقَ أَجْزَاءً، فَحِينَئِذٍ يَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَأَمَّا مَا دَامَتْ سَلِيمَةً مُجْتَمِعَةً فَالرِّيبَةُ قَائِمَةٌ فِيهَا مُتَمَكِّنَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةَ تَقْطِيعِهَا وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ بِقَتْلِهِمْ، أَوْ فِي الْقُبُورِ، أَوْ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَتَقَطَّعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ، حَكِيمٌ فِي عُقُوبَاتِهِمْ.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:
نَزَلَتْ فِي الْبَيْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَنَافَ فِيهَا رِجَالٌ الْأَنْصَارِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَكَانَ أَصْغَرُهُمْ سِنًّا عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو.
وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ النَّاسُ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَانِيًا طَرَفَ رِكَابِهِ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَالَ:
بَيْعٌ رَبِحٌ لَا تُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَخَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا وَاللَّهِ إِنْ فِي الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ أَحْدَثَ بَيْعَتَهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْأَعْمَشُ: وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ، مَثَّلَ تَعَالَى إِثَابَتَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَذْلِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ بِالشِّرَاءِ، وَقَدَّمَ الْأَنْفُسَ عَلَى الْأَمْوَالِ ابْتِدَاءً بِالْأَشْرَفِ وَبِمَا لَا عِوَضَ لَهُ إِذَا فُقِدَ. وَفِي لَفْظَةِ اشْتَرَى لَطِيفَةٌ وَهِيَ: رَغْبَةُ الْمُشْتَرِي فِيمَا اشتراه واعتباطه بِهِ، وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَاعُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ هُوَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَا يَعْمَلُوهَا إِلَّا فِي طَاعَةٍ، وَأَمْوَالَهُمْ أَنْ لَا يُنْفِقُوهَا إِلَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا أَعَمُّ مِنْ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ مُسْتَأْنَفًا، ذَكَرَ أَعْظَمَ أَحْوَالِهِمْ، وَنَبَّهَ عَلَى أَشْرَفَ مَقَامِهِمْ. وَعَلَى الظَّاهِرِ وَقَوْلِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ يُقَاتِلُونَ، فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْعَرَبِيَّانِ، وَالْحَرَمِيَّانِ، وَعَاصِمٌ: أَوَّلًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَثَانِيًا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْأَخَوَانِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِذِ الْغَرَضُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُقَاتَلُونَ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَنْ يُقْتَلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَقْتُلُ، وَفِيهِمْ مَنْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقَعُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، بَلْ تَحْصُلُ مِنْهُمُ الْمُقَاتَلَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَاتِلُونَ فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ «١» انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ لَا يَقَعُ حَالًا. وَانْتَصَبَ وَعْدًا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَعْنَى اشْتَرَى بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي التوراة
فَاسْتَبْشِرُوا، خَاطَبَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ فِي مُوَاجَهَتِهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْخِطَابِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ، وَهِيَ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ هُنَا. وَلَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ هُنَا لِلطَّلَبِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ كَاسْتَوْقَدَ وأوقد. والذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَصْفٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وَمُحِيلٌ عَلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ. ثُمَّ قَالَ:
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ: الظَّفَرُ لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّبْحِ التَّامِّ، وَالْغِبْطَةُ فِي الْبَيْعِ لِحَطِّ الذَّنْبَ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ زَنَا، وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ؟ فَنَزَلَتْ التَّائِبُونَ الْآيَةَ.
وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْكَمَلَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِيَسْتَبِقَ إِلَى التَّحَلِّي بِهَا عِبَادُهُ، وَلِيَكُونُوا عَلَى أَوْفَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ. وَآيَةُ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ سِوَى الْإِيمَانُ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَالشَّهَادَةُ مَاحِيَةٌ لِكُلِّ ذَنْبٍ، حَتَّى
رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْمِلُ عَنِ الشَّهِيدِ مَظَالِمَ الْعِبَادِ وَيُجَازِيهِمْ عَنْهُ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الصِّفَاتُ شَرْطٌ فِي الْمُجَاهِدِ. وَالْآيَتَانِ مُرْتَبِطَتَانِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُبَايَعَةِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَيَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَسَأَلَ الضَّحَّاكَ رَجُلٌ عَنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ
«١» الْآيَةَ وَقَالَ: لِأَحْمِلَنَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأُقَاتِلُ حَتَّى أُقْتَلَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَيْلَكَ أَيْنَ الشَّرْطُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْآيَةَ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ حَرَجٌ وَتَضْيِيقٌ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَرَتَّبَ إِعْرَابُ التَّائِبُونَ، فَقِيلَ: هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَذْكُورٌ وَهُوَ الْعَابِدُونَ، وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَيْ: التَّائِبُونَ فِي الْحَقِيقَةِ الْجَامِعُونَ لِهَذِهِ الْخِصَالِ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ الْآمِرُونَ.
وَقِيلَ: خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ بَعْدَ تَمَامِ الْأَوْصَافِ، وَتَقْدِيرُهُ: مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَالَهُ الزَّجَّاجُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «٢» وَلِذَلِكَ جَاءَ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «٣» وَعَلَى هَذِهِ الْأَعَارِيبِ تَكُونُ الْآيَةُ مَعْنَاهَا مُنْفَصِلٌ مِنْ مَعْنَى الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: التَّائِبُونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُمُ التَّائِبُونَ، أَيْ الَّذِينَ بَايَعُوا اللَّهَ هُمْ التَّائِبُونَ، فَيَكُونُ صِفَةً مَقْطُوعَةً لِلْمَدْحِ، وَيُؤَيِّدُهُ قراءة أبي وعبد الله وَالْأَعْمَشِ: التَّايِبِينَ بِالْيَاءِ إِلَى وَالْحَافِظِينَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَهُ أَيْضًا: ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُقَاتِلُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقِيلَ: عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَابِدُونَ بِالصَّلَاةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْمُطِيعُونَ بِالْعِبَادَةِ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الْمُوَحِّدُونَ السَّائِحُونَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس وَغَيْرُهُمَا:
الصَّائِمُونَ شُبِّهُوا بِالسَّائِحِينَ في الأرض، لا متناعهم مِنْ شَهَوَاتِهِمْ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصِّيَامُ، وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: قِيلَ: لِلصَّائِمِ سَائِحٌ، لِأَنَّ الَّذِي يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ مُتَعَبِّدٌ لَا زَادَ مَعَهُ، كَانَ مُمْسِكًا عَنِ الْأَكْلِ، وَالصَّائِمُ مُمْسِكٌ عَنِ الْأَكْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: السَّائِحُونَ الْمُجَاهِدُونَ.
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السِّيَاحَةِ فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
صَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ السِّيَاحَةُ فِي الْأَرْضِ. فَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: الْمُسَافِرُونَ فِي الْأَرْضِ لِيَنْظُرُوا مَا فِيهَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَغَرَائِبِ مُلْكِهِ نَظَرَ اعْتِبَارٍ. وَقِيلَ: الْجَائِلُونَ بِأَفْكَارِهِمْ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَلَكُوتِهِ. وَالصِّفَاتُ إِذَا تَكَرَّرَتْ وَكَانَتْ لِلْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ أَوِ التَّرَحُّمِ جَازَ فِيهَا الْإِتْبَاعُ لِلْمَنْعُوتِ وَالْقَطْعُ فِي كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَإِذَا تَبَايَنَ مَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ جَازَ الْعَطْفُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ مُبَايِنًا لِلنَّهْيِ، إِذِ الْأَمْرُ طَلَبُ فِعْلٍ وَالنَّهْيُ تَرْكُ فِعْلٍ، حَسُنَ الْعَطْفُ فِي قوله: والناهون ودعوى
(٢) سورة النساء: ٤/ ٩٥.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ١١٢.
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ:
قَالَ الْجُمْهُورُ: وَمَدَارُهُ عَلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ احْتُضِرَ فَوَعَظَهُ وَقَالَ: «أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا لِلَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» وَكَانَ بِالْحَضْرَةِ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَا لَهُ:
يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمَاتَ فَنَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «١» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لِأَبِي طَالِبٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا رَأَوْهُ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ جَعَلُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ، فَلِذَلِكَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا».
وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ وَوَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى سَخُنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَجَعَلَ يَرْغَبُ فِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهَا وَمُنِعَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتْ بسبب قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ»
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ. وَتَضَمَّنَ قَوْلُهُ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، وَلَوْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أُولِي قُرْبَى. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ كَانُوا جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ وَلَوْ تَأْتِي لِاسْتِقْصَاءِ مَا لَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِيَدْخُلَ فِيمَا قَبْلَهَا مَا بَعْدَهَا.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْمَنْعِ مِنْ مواصلتهم ولو
حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».
وَلَمَّا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِصَدَدِ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:
نَسْتَغْفِرُ لِمَوْتَانَا كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ حِينَ اتَّضَحَتْ لَهُ عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ. وَالْمَوْعِدَةُ الَّتِي وَعَدَهَا إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ هِيَ قَوْلُهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي «٢» وَقَوْلُهُ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «٣». وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي وَعَدَهَا عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ أَبُوهُ بِقَيْدِ الحياة، فكان يرجوا إِيمَانَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُ مِنْهُ، تَبَرَّأَ مِنْهُ وَقَطَعَ اسْتِغْفَارَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ فِي وَعَدَ ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ: قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَحَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ، وابن السميفع، وَأَبِي نَهِيكٍ، وَمُعَاذٍ الْقَارِئِ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبو أَنَّهُ سَيُؤْمِنُ فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ قَوِيَ طَمَعُهُ فِي إِيمَانِهِ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُ حَتَّى نُهِيَ عَنْهُ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ: وَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَعَنْهُ وَمَا يَسْتَغْفِرُ إِبْرَاهِيمُ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ كَانَ فِي حَالَةِ الدُّنْيَا. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لِأَبِي
(٢) سورة مريم: ١٩/ ٤٧.
(٣) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٤.
مِنْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ فَيَعْرِفُهُ وَيَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، فَيَقُولُ لَهُ: الْزَمْ حِقْوِي فَلَنْ أَدَعَكَ الْيَوْمَ لِشَيْءٍ، فَيَدَعُهُ حَتَّى يَأْتِيَ الصِّرَاطَ، فَيَلْتَفِتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ مُسِخَ ضِبْعَانًا، فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ حِينَئِذٍ انْتَهَى مَا قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَلَا يَظْهَرُ رَبْطُهُ بِالْآخِرَةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : خَفِيَ عَلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ غَيْرُ جَائِزٍ حَتَّى وَعَدَهُ. (قُلْتُ) : يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّهُ مَا دَامَ يُرْجَى لَهُ الْإِيمَانُ جَازَ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ عَلَى أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ. أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»
وَعَنِ الْحَسَنِ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فُلَانًا يَسْتَغْفِرُ لِآبَائِهِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ»
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَقُلْتُ لَهُ: فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ
انْتَهَى؟ وَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلْكَافِرِ رُجُوعٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالْأَوَّاهُ: الدَّعَّاءُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ، أَوِ الْفَقِيهُ، أَوِ الرَّحِيمُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ، أَوِ الْمُسَبِّحُ، أَوِ الْكَثِيرُ الذِّكْرِ لَهُ، أَوِ التَّلَّاءُ لِكِتَابِ اللَّهِ، أَوِ الْقَائِلُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ، أَوَّاهٌ الْمُكْثِرُ ذَلِكَ، أَوِ الْجَامِعُ الْمُتَضَرِّعُ، أَوِ الْمُؤْمِنُ بِالْحَبَشِيَّةِ، أَوِ الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، أَوِ الْمُوَفِّي، أَوِ الْمُسْتَغْفِرُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَطَايَا، أَوِ الشَّفِيقُ، أَوِ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أَقْوَالٌ لِلسَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَدْلُولَهُ فِي اللُّغَةِ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوَّاهٌ فَقَالَ: مِنْ أَوَّهَ كَلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَهُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ: لَأَرْجُمَنَّكَ انْتَهَى. وَتَشْبِيهُ أَوَّاهٍ مِنْ أَوَّهَ بِلَآلٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّ مَادَّةَ أَوَّهَ مَوْجُودَةٌ فِي صورة أوّاه، ومادة لؤلؤة مَفْقُودَةٌ فِي لَآلٍ لِاخْتِلَافِ التَّرْكِيبِ، إِذْ لَآلٌ ثُلَاثِيٌّ، وَلُؤْلُؤٌ رُبَاعِيٌّ، وَشَرْطُ الِاشْتِقَاقِ التَّوَافُقُ فِي الْحُرُوفِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفَسَّرُوا الْحَلِيمَ هُنَا بِالصَّافِحِ عَنِ الذَّنْبِ الصَّابِرِ عَلَى الْأَذَى، وَبِالصَّبُورِ، وَبِالْعَاقِلِ، وَبِالسَّيِّدِ، وَبِالرَّقِيقِ الْقَلْبِ الشَّدِيدِ الْعَطْفِ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: مَاتَ قَوْمٌ كَانَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ: كَاسْتِقْبَالِ بَيْتِ المقدس، وشرب الخمر،
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٤١. [.....]
وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَسْلَمَ قَوْمٌ مِنَ الْأَعْرَابِ فَعَمِلُوا بِمَا شَاهَدُوا الرَّسُولَ يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ، ثُمَّ قَدِمُوا عليه فوجوده يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ وَيَصُومُ رَمَضَانَ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ دِنَّا بَعْدَكَ بِالضَّلَالِ، إِنَّكَ عَلَى أَمْرٍ وَإِنَّا عَلَى غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: خَافَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُؤْنِسَةً أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ هَدَى لِلْإِسْلَامِ وَأَنْقَذَ مِنَ النَّارِ لِيُحْبِطَ ذَلِكَ وَيُضِلَّ أَهْلَهُ لِمُقَارَفَتِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ نَهْيٌ عَنْهُ. فَأَمَّا إِذْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ مِنَ الْأَمْرِ، وَيَتَجَنَّبُونَ مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَحِينَئِذٍ مَنْ وَاقَعَ بَعْدَ النَّهْيِ اسْتَوْجَبَ الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي مَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّقَائِهِ وَاجْتِنَابِهِ كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِ مِمَّا نَهَى عَنْهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ، وَلَا يُؤَاخِذُ بِهِ عِبَادَهُ الَّذِينَ هَدَاهُمْ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ إِلَّا إِذَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَعْدَ بَيَانِ حَظْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّهُ وَاجِبُ الِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ، وَأَمَّا قَبْلَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا يُؤَاخَذُونَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا بِبَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ. وَهَذَا بَيَانٌ لِعُذْرِ مَنْ خَافَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ قَبْلَ وُرُودِ النَّهْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَدِيدَةٌ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُغْفَلَ عَنْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ لِلْإِسْلَامِ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى بَعْضِ مَحْظُورَاتِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الضَّلَالِ، وَالْمُرَادُ بما يَتَّقُونَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ لِلنَّهْيِ. فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَالصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ فَغَيْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّوْقِيفِ انْتَهَى. وَفِي هَذَا الْأَخِيرِ مِنْ كَلَامِهِ وَفِي قَوْلِهِ: قَبْلُ فِي تَفْسِيرِ لَيُضِلَّ وَلَا يُسَمِّيهِمْ ضُلَّالًا وَلَا يَخْذُلُهُمْ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَفِي كَلَامِهِ إِسْهَابٌ، وَهُوَ بَسْطُ مَا قَالَ مُجَاهِدٌ، قَالَ:
مَا كَانَ لِيُضِلَّكُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنَهُ لَكُمْ فَتَتَّقُوهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ مَا يَشْرَحُ بِهِ الْآيَةَ مِنْ سُؤَالِهِمْ عَمَّنْ مَاتَ، وَقَدْ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَشَرِبَ الْخَمْرَ، وَمِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي مُنَاسَبَةِ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَفِي شَرْحِهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، كَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا تَبَايُنٌ مَا بَيْنَ الْقَرَابَةِ حَتَّى مُنِعُوا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَمُنِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من الِاسْتِغْفَارِ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ وَنَصْرَهُ وَحِفْظَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَمُنِعَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ وَهُوَ أَصْلُ نَشْأَتِهِ وَمُرَبِّيهِ، وَكَذَلِكَ مُنِعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ أَقْرِبَاءَ وَغَيْرَ أَقْرِبَاءَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَعْجَبْ لِتَبَايُنِ هَؤُلَاءِ، هَذَا خَلِيلُ اللَّهِ، وَهَذَا حَبِيبُ اللَّهِ، وَالْأَقْرِبَاءُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، فَإِضْلَالُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَاسْتَطْرَدَ إِلَى تَقْسِيمِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَعْرَابٍ وَغَيْرِهِمْ، وَذَكَرَ مَا فَعَلُوا مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَذَكَرَ مُبَايَعَةَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَايِنُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى الَّذِينَ مَاتُوا مِنْهُمْ بِتَرْكِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ مَا بَقِيَ مِنْ أَحْوَالِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ يَشْرَعُونَ فِي شَيْءٍ ثُمَّ يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ أَشْيَاءَ مُنَاسِبَةً وَيُطِيلُونَ فِيهَا، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانُوا شَرَعُوا فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: التَّوْبَةُ مِنَ اللَّهِ رُجُوعُهُ لِعَبْدِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أَرْفَعَ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ رُجُوعًا عَنْ حَالَةِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ رُجُوعًا مِنْ حَالَةِ طَاعَةٍ إِلَى أَكْمَلَ مِنْهَا. وَهَذِهِ تَوْبَتُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ رَجَعَ بِهِ مِنْ حَالَةٍ قَبْلَ تَحْصِيلِ الْغَزْوَةِ وَتَحَمُّلِ مَشَاقِّهَا، إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ أَكْمَلَ مِنْهَا. وَأَمَّا تَوْبَتُهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَحَالُهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَنْ تَكُونَ مِنْ نُقْصَانٍ إِلَى طَاعَةٍ وَجِدٍّ فِي الْغَزْوِ وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَأَمَّا توبته على
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ | عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا |
إِذَا جَاءَ يَوْمًا وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ كَانَتْ تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ السَّاعَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا عَزْمُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، إِذِ السَّفْرَةُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، وَبِهَا وَفِيهَا يَقَعُ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَتَرْتَبِطُ النِّيَّةُ، فَمَنِ اعْتَزَمَ عَلَى الْغَزْوِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَقَدْ أَنْفَعَ فِي سَاعَةِ عُسْرَةٍ، وَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَطْرَأَ لَهُمْ غِنًى فِي سَائِرِ سَفَرِهِمْ لَمَا اخْتَلَّ كَوْنُهُمْ مُتَّبِعِينَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.
وَالْعُسْرَةُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْعَدَمُ، وَهَذَا هُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ الَّذِي
قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»
فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَلْفِ جَمَلٍ وَأَلْفِ دِينَارٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّبَ الدَّنَانِيرَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «وَمَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا»
وَجَاءَ أَنْصَارِيٌّ بِسَبْعِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ بُرٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: بَلَغَتِ الْعُسْرَةُ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَعْتَقِبُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَإِلَى أَنْ قَسَّمُوا التَّمْرَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ،
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ٤٠. ومحمد: ٤٧/ ٤٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِهَا عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ وَيَشْرَبُونَ مَا فِي كُرُوشِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَيَعْصِرُونَ الْفَرْثَ حَتَّى اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يديه يدعو، فما رجعهما حتى انكسبت سَحَابَةٌ، فَشَرِبُوا وَادَّخَرُوا ثُمَّ ارْتَحَلُوا، فَإِذَا السَّحَابَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعَسْكَرِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ هَمُّوا مِنَ الْمَجَاعَةِ بِنَحْرِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ فَضْلِ أَزْوَادِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أوعيتكم فملأوها حَتَّى لَمْ يَبْقَ وِعَاءٌ» وَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ.
وَكَانَ الْجَيْشُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وهي آخر مغازيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا خَلَّفَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ
فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»
؟ وَوَصَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَوَائِلِ بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُ أَذْرَحَ وَأَيْلَةَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَانْصَرَفَ.
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ قَالَ الْحَسَنُ: هَمَّتْ فِرْقَةٌ بِالِانْصِرَافِ لِمَا لَقَوْا مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ:
زَيْغُهَا كَانَ بِظُنُونٍ لَهَا سَاءَتْ فِي مَعْنَى عَزْمِ الرَّسُولِ عَلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، لِمَا رَأَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْعُسْرَةِ وَقِلَّةِ الْوَفْرِ، وَبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَزِيغُ، تَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُبَايَعَةِ. وَكَادَ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، لَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالزَّيْغِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ:
يَزِيغُ بِالْيَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَارْتِفَاعُ قُلُوبُ بتزيغ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد وتزيغ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبٌ يَزِيغُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد، وتزيغ الْخَبَرُ وَسَطٌ بَيْنِهِمَا، كَمَا فعل ذلك بكان. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي عَسَى، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ كاد ضمير يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ هُوَ أَيْ: الْجَمْعُ. وَقَدْ قَدَّرَ الْمَرْفُوعَ بِكَادَ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ الْقَوْمُ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ الثَّلَاثَةِ إِشْكَالٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا رَافِعًا ضَمِيرَ اسْمِهَا.
فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ، وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ بِغَيْرِ عَسَى مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ كَانَ. فَإِنَّ خَبَرَهَا يَرْفَعُ الضَّمِيرَ، والسبي لِاسْمِ كَادَ، فَإِذَا قَدَّرْنَا فِيهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمَرْفُوعُ لَيْسَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَادَ بَلْ وَلَا سَبَبًا لَهُ، وَهَذَا يَلْزَمُ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَوْسِيطُ الْخَبَرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ هَذَا
وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ بَعْدِ مَا زَاغَتْ، بِإِسْقَاطِ كَادَ. وَقَدْ ذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ إِلَى زِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها «١» مَعَ تَأْثِيرِهَا لِلْعَامِلِ، وَعَمَلِهَا هِيَ. فَأَحْرَى أَنْ يُدَّعَى زِيَادَتُهَا، وَهِيَ لَيْسَتْ عَامِلَةً وَلَا مَعْمُولَةً.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْجَحْدَرِيُّ: تُزِيغُ بِرَفْعِ التَّاءِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَتْ تَزِيغُ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ، الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى الْأَوَّلِينَ، أَوْ عَلَى الْفَرِيقِ فَالْجُمْلَةُ كُرِّرَتْ تَأْكِيدًا.
أَوْ يُرَادُ بِالْأَوَّلِ إِنْشَاءُ التَّوْبَةِ، وَبِالثَّانِي اسْتَدَامَتُهَا. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ كَادَتْ قُلُوبُهُمْ تَزِيغُ نَصَّ عَلَى التَّوْبَةِ ثَانِيًا رَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهُمْ مَسْكُوتٌ عَنْهُمْ فِي التَّوْبَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ التَّوْبَةِ وَهُوَ رَأْفَتُهُ بِهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَهُمْ. وَالثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا تَقَدَّمَتْ أَسْمَاؤُهُمْ، وَمَعْنَى خُلِّفُوا عَنِ الْغَزْوِ غَزْوِ تَبُوكَ قَالَهُ: قَتَادَةُ. أَوْ خُلِّفُوا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ تِيبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ إرجاء أَمْرِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ. وَقَدْ رَدَّ تَأْوِيلَ قَتَادَةَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: مَعْنَى خُلِّفُوا تُرِكُوا عَنْ قَبُولِ الْعُذْرِ، وَلَيْسَ بِتَخَلُّفِنَا عَنِ الْغَزْوِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: خُلِّفُوا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ أَبُو مَالِكٍ كَذَلِكَ وَخَفَّفَ اللَّامَ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ بْنُ هَارُونَ الْمَخْزُومِيُّ، وَذِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وَعَمْرُو بْنُ عبيد، ومعاذ القاري، وَحُمَيْدٌ:
بِتَخْفِيفِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْ: خَلَفُوا الْغَازِينَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ فَسَدُوا مِنَ الْخَالِفَةِ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ كَذَلِكَ مُشَدَّدَ اللَّامِ.
وَقَرَأَ أَبُو زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ يَعْمَرَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَابْنَاهُ زَيْدٌ، وَمُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ:
خَالَفُوا بِأَلِفٍ أَيْ: لَمْ يُوَافِقُوا عَلَى الْغَزْوِ.
وَقَالَ الْبَاقِرُ: وَلَوْ خُلِّفُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْمُخَلَّفِينَ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ كَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ. حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ. وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ اسْتِعَارَةٌ، لِأَنَّ الْهَمَّ وَالْغَمَّ مَلَأَهَا بِحَيْثُ لَا يَسَعُهَا أُنْسٌ وَلَا سُرُورٌ، وَخَرَجَتْ عَنْ فَرْطِ الْوَحْشَةِ وَالْغَمِّ، وَظَنُّوا أَيْ: عَلِمُوا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: أَيْقَنُوا، كَمَا قَالُوا فِي قول الشاعر:
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مدحج | سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ |
وَدَعْوَى أَنَّ ثُمَّ زَائِدَةٌ وَجَوَابَ إِذَا مَا بَعْدَ ثُمَّ بَعِيدٌ جِدًّا، وَغَيْرُ ثَابِتٌ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ زِيَادَةُ ثُمَّ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِذَا بَعْدَ حَتَّى قَدْ تُجَرِّدُ مِنَ الشَّرْطِ وَتَبْقَى لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ بَلْ تَكُونُ غَايَةً لِلْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: خُلِّفُوا أَيْ: خُلِّفُوا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، ثُمَّ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ كَرَّةً أُخْرَى لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى تَوْبَتِهِمْ وَيُنِيبُوا، أَوْ لِيَتُوبُوا أَيْضًا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ عِلْمًا مِنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ عَلَى مَنْ تَابَ، وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَى لِيَتُوبُوا لِيَدُومُوا عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا يُرَاجِعُوا مَا يُبْطِلُهَا. وَقِيلَ:
لِيَتُوبُوا، لِيَرْجِعُوا إِلَى حَالِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَكِنُّ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، لَمَّا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ بَدَأَ فِي تَرْتِيبِهِ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى تَلَقِّي النِّعْمَةِ مِنْ عِنْدِهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيدِ ذَنْبٍ لَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْجِهَةِ الَّتِي هِيَ عَنِ الْمُذْنِبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «٣» لِيَكُونَ هَذَا أَشَدَّ تَقْرِيرًا لِلذَّنْبِ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ نَظْمِهِ وَمُعْجِزِ اتِّسَاقِهِ. وَبَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَوَاقِعِ أَلْفَاظِهَا أَنَّهَا تكمل مع
(٢) سورة الصف: ٦١/ ٥.
(٣) سورة الصف: ٦١/ ٥.
وَالْعَيْبُ يَعْلَقُ بالكبير كبير انتهى.
وَرُوِيَ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ بَدَا لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِمْ كَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ مِنْهُمُ الثَّلَاثَةُ. وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: أَنْ تَضِيقَ عَلَى التَّائِبِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَضِيقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ كَتَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، أُمِرُوا بِكَوْنِهِمْ مَعَ أَهْلِ الصِّدْقِ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ نَفَعَهُمْ صِدْقُهُمْ وَأَزَاحَهُمْ عَنْ رِبْقَةِ النِّفَاقِ. واعترضت هذه الحملة تَنْبِيهًا عَلَى رُتْبَةِ الصِّدْقِ، وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا ثَانِيَةٌ لِرُتْبَةِ النُّبُوَّةُ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ «١» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ:
الصِّدْقُ هُنَا صِدْقُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَنَافِعٌ: مَا مَعْنَاهُ اللَّفْظُ أَعَمُّ مِنْ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الصِّحَّةِ فِي الدِّينِ، وَالتَّمَكُّنِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجُلُ صِدْقٍ. وَقَالَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: كُونُوا مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَخِيَارِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: هُمُ الثَّلَاثَةُ أَيْ: كُونُوا مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي صِدْقِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
هُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ وَمُعَاهَدَتُهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَوْلِهِ: رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «٢» وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي دِينِ اللَّهِ نِيَّةً وَقَوْلًا وَعَمَلًا انْتَهَى. وَقِيلَ: الْخِطَابُ بِالَّذِينَ آمَنُوا لِمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الطُّلَقَاءِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْخِطَابُ لِمَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ: كُونُوا مع المهاجرين والأنصار، ومع تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ فِي الْحَالِ والمشاركة في
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢٣.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عباس: مِنَ الصَّادِقِينَ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوَّلَهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ وَقَالَ: الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، وَلَا أَنْ يَعِدَ مِنْكُمْ أحد صببه ثم لا ينجزه، اقرأوا إِنْ شِئْتُمْ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: ومن أَعَمُّ مِنْ مَعَ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ قَوْمِ فَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ ذَلِكَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابن السميفع، أو أبو المتوكل، ومعاذ القاري: مَعَ الصَّادِقِينَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ النُّونِ عَلَى التَّثْنِيَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لقوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «١» وَلَمَّا تَقَدَّمَ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، أُمِرُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: كُنْ مَعَ اللَّهِ يَكُنْ مَعَكَ.
مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: نَزَلَتْ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِيمَنْ تَخَلَّفَ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَمَرَ بِكَيْنُونَتِهِمْ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّادِقِينَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، اقْتَضَى ذَلِكَ مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَصُحْبَتَهُ أَنَّى تَوَجَّهَ مِنَ الْغَزَوَاتِ وَالْمَشَاهِدِ، فَعُوتِبَ الْعِتَابَ الشَّدِيدَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الرَّسُولِ فِي غَزْوَةٍ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ الْأَمْرُ لِصُحْبَتِهِ وَبَذْلِ النُّفُوسِ دُونَهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنْ يَصْحَبُوهُ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأُمِرُوا أَنْ يُكَابِدُوا مَعَهُ الْأَهْوَالَ بِرَغْبَةٍ وَنَشَاطٍ وَاغْتِبَاطٍ، وَأَنْ يُلْقُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الشَّدَائِدِ مَا يَلْقَاهُ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِلْمًا بِأَنَّهَا أَعَزُّ نَفْسٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَكْرَمُهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا تَعَرَّضَتْ مَعَ كَرَامَتِهَا وَعِزَّتِهَا لِلْخَوْضِ فِي شِدَّةٍ وَهَوْنٍ وَجَبَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْفُسِ أَنْ تَتَهَافَتَ فِيمَا تَعَرَّضَتْ لَهُ، وَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا أَصْحَابُهَا، وَلَا يُقِيمُوا لَهَا وَزْنًا، وَتَكُونُ أَخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ وَأَهْوَنَهُ، فضلا أن يربأوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ مُتَابَعَتِهَا وَمُصَاحَبَتِهَا، وَيَضِنُّوا بِهَا عَلَى مَا سَمَحَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَهْيٌ بَلِيغٌ مَعَ تَقْبِيحٍ لِأَمْرِهِمْ وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَهْيِيجٍ لِمُتَابَعَتِهِ بِأَنَفَةٍ وَحَمِيَّةٍ. قال الكرماني:
كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَالْإِلْزَامُ فِي قِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَاحْتِيَاجٍ إِلَى اتِّصَالِ الْأَيْدِي، ثُمَّ نُسِخَ عِنْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «١» قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِانْبِعَاثِ إِلَى غَزْوِ الْعَدُوِّ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا إِذَا أَلَمَّ الْعَدُوُّ بِجِهَةٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كل أحد القيام بذنبه وَمُكَافَحَتِهِ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَضَمَّنَهُ انْتِفَاءُ التَّخَلُّفِ مِنْ وُجُوبِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَبَذْلِ النَّفْسِ دُونَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ذَلِكَ الْوُجُوبُ لِلْخُرُوجِ وَبَذْلِ النَّفْسِ هُوَ بِسَبَبِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ الْجَسِيمِ عَلَى الْمَشَاقِّ الَّتِي تَنَالُهُمْ، وَمَا يَتَسَنَّى عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ إِيذَاءِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَالظَّمَأُ الْعَطَشُ.
وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ظِمَاءٌ بِالْمَدِّ مِثْلُ: سَفِهَ سِفَاهًا، وَلَمَّا كَانَ العطش أشق الأشياء المؤدية لِلْمُسَافِرِ بِكَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَإِزْعَاجِ النَّفْسِ وَخُصُوصًا فِي شِدَّةِ الحر كغزوة تبوك بدىء بِهِ أَوَّلًا، وَثَنَّى بِالنَّصَبِ وَهُوَ التَّعَبُ لِأَنَّهُ الْكَلَالُ الَّذِي يَلْحَقُ الْمُسَافِرَ وَالْإِعْيَاءُ النَّاشِئُ عَنِ الْعَطَشِ وَالسَّيْرِ، وَأَتَى ثَالِثًا بِالْجُوعِ لِأَنَّهُ حَالَةٌ يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَلَيْهَا الْأَوْقَاتِ الْعَدِيدَةَ، بِخِلَافِ الْعَطَشِ وَالنَّصَبِ الْمُفْضِيَيْنِ إِلَى الْخُلُودِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ السَّفَرِ. فَكَانَ الْإِخْبَارُ بِمَا يَعْرِضُ لِلْمُسَافِرِ أولا فثانيا فثالثا. وموطئا مَفْعِلٌ مِنْ وَطِئَ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَكَانًا، وَاحْتَمَلَ مَصْدَرًا. وَالْفَاعِلُ فِي يَغِيظُ عَائِدٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، إِمَّا عَلَى موطىء إِنْ كَانَ مَصْدَرًا، وَإِمَّا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ موطىء إِنْ كَانَ مَكَانًا، أَيْ يغيظ ووطؤهم إِيَّاهُ الْكُفَّارَ. وَأَطْلَقَ مَوْطِئًا إِذَا كَانَ مَكَانًا لِيَعُمَّ كل موطىء يَغِيظُ وَطْؤُهُ الْكُفَّارَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَمْكِنَةِ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنْ أَمْكِنَةِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ فِي سُلُوكِهِ غَيْظُهُمْ. وَالْوَطْءُ يَدْخُلُ فِيهِ بِالْحَوَافِرِ وَالْأَخْفَافِ وَالْأَرْجُلِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ:
يُغِيظُ بِضَمِّ الْيَاءِ. وَالنَّيْلُ مَصْدَرٌ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْقَى عَلَى مَوْضُوعِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنِيلُ. وَأَطْلَقَ نَيْلًا لِيَعُمَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِمَّا يَسُوءُهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا وَغَنِيمَةً وَهَزِيمَةً، وَلَيْسَتِ الْيَاءُ فِي نَيْلٍ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ خِلَافًا لِزَاعِمِ ذَلِكَ، بَلْ نَالَ مَادَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ نِلْتُهُ أَنُولُهُ نَوْلًا وَنَوَالًا مِنَ الْعَطِيَّةِ، وَمِنْهُ التَّنَاوُلُ. وَالْأُخْرَى: هَذِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ، نِلْتُهُ أناله نَيْلًا إِذَا أَصَابَهُ وَأَدْرَكَهُ. وبدىء فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأَسْبَقِ أَيْضًا وَهُوَ الْوَطْءُ، ثُمَّ ثنى بالنيل من
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «آخِرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ».
وَالْكَتْبُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَيْ: كُتِبَ فِي الصَّحَائِفِ، أَوْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لِيُجَازَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً، عَبَّرَ عَنِ الثُّبُوتِ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ شَيْئًا كَتَبَهُ. وَالْجُمْلَةُ مِنْ كُتِبَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَبِهِ أُفْرِدَ الضَّمِيرُ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى اسْمِ الْإِشَارَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِذَلِكَ عَمَلٌ صَالِحٌ أَيْ: بِإِصَابَةِ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْمَخْمَصَةِ وَالْوَطْءِ وَالنَّيْلِ.
وفي الحديث: «من أغرث قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ»
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِكُلِّ رَوْعَةٍ تَنَالُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ. وَالنَّفَقَةُ الصَّغِيرَةُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالتَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْكَبِيرَةُ مَا فَوْقَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَغِيرَةً وَلَوْ تَمْرَةً، وَلَوْ عَلَاقَةَ سَوْطٍ،. وَلَا كَبِيرَةً مِثْلُ مَا أَنْفَقَ عُثْمَانُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ انْتَهَى. وَقَدَّمَ صَغِيرَةً عَلَى سَبِيلِ الِاهْتِمَامِ كَقَوْلِهِ: لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً «١» وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ «٢» وَإِذَا كُتِبَ أَجْرُ الصَّغِيرَةِ فَأَحْرَى أَجْرُ الْكَبِيرَةِ. وَمَفْعُولُ كُتِبَ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ ينفقون ويقطعون، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُتِبَ لَهُمْ هُوَ أَيِ الْإِنْفَاقُ وَالْقَطْعُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ: عَمَلٌ صَالِحٌ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ. وَتَأَخَّرَتْ هَاتَانِ الْجُمْلَتَانِ وَقُدِّمَتْ تِلْكَ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لِأَنَّهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ وَأَنْكَى فِي الْعَدُوِّ، وَهَاتَانِ أَهْوَنُ لِأَنَّهُمَا فِي الْأَمْوَالِ وَقَطْعِ الْأَرْضِ إِلَى الْعَدُوِّ، سَوَاءٌ حَصَلَ غَيْظُ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلُ مِنَ الْعَدُوِّ أَمْ لَمْ يَحْصُلَا، فَهَذَا أَعَمُّ وَتِلْكَ أَخَصُّ. وَكَانَ تَعْلِيلُ تِلْكَ آكَدُ، إِذْ جَاءَ بالجملة الاسمية المؤكدة بأنّ، وَذَكَرَ فِيهِ الْأَجْرَ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ حَازُوا رُتَبَ الْإِحْسَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى رُتَبِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ أَتَى بِلَامِ الْعِلَّةِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بكتب وَالتَّقْدِيرُ: أَحْسَنَ جَزَاءَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَهُ جَزَاءٌ حَسَنٌ، وَلَهُ جَزَاءٌ أَحْسَنُ، وَهُنَا الْجَزَاءُ أَحْسَنُ جَزَاءٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَحْسَنَ مِنْ صِفَةِ فِعْلِهِمْ، وَفِيهَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ دُونَ الْمُبَاحِ انْتَهَى. هَذَا الْوَجْهُ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ لِيَجْزِيَهُمُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَجْزِيَ الله أحسن أفعالهم
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٦١. [.....]
يَجْزِيَهُمْ جَزَاءً هُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَجَلُّ وَأَفْضَلُ، وَهُوَ الثَّوَابُ انْتَهَى، هَذَا الْوَجْهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَحْسَنُ مِنْ صِفَةِ الْجَزَاءِ فَكَيْفَ أُضِيفَ إِلَى الْأَعْمَالِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا مِنْهَا؟ وَكَيْفَ يَقَعُ التَّفْضِيلُ إِذْ ذَاكَ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الْأَعْمَالِ، وَلَمْ يُصَرَّحْ فيه بمن؟.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٩]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ: لَمَّا سَمِعُوا مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ أَهَمَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَفَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى الرَّسُولِ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ حِينَ نَزَلَتْ: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الْآيَةَ هَكَذَا أَهْلُ الْبَوَادِي فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: لَمَّا دَعَا الرَّسُولُ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ
أَيْ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا يكون النفير إلى الغزو، وَالضَّمِيرُ الَّذِي فِي لِيَتَفَقَّهُوا عائد على الطائفة الناقرة، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْآيَةُ فِي الْبُعُوثِ وَالسَّرَايَا. وَالْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مَعَ خُرُوجِ الرَّسُولِ فِي الْغَزْوِ، وَهَذِهِ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ إِذَا لَمْ يَخْرُجْ أَيْ: يَجِبُ إِذَا لم يخرج أن لا يَنْفِرَ النَّاسُ كَافَّةً، فَيَبْقَى هُوَ مُفْرَدًا.
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفِرَ طَائِفَةٌ وَتَبْقَى طَائِفَةٌ لِتَتَفَقَّهَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي الدِّينِ، وَتُنْذِرَ النَّافِرِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِكُلِّ مَا وَرَدَ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ كَافَّةً النَّفِيرَ وَالْقِتَالَ، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ الضَّمِيرُ فِي لِيَتَفَقَّهُوا عَائِدًا عَلَى الطَّائِفَةِ الْمُقِيمَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ مَعْنَى وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أَيْ: الطَّائِفَةَ النَّافِرَةَ إِلَى الْغَزْوِ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَجَدَّدَ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَتَكَالِيفِهَا، وَكَانَ ثَمَّ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا تَقْسِيمُهَا أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَقَعَدَتْ أُخْرَى لِيَتَفَقَّهُوا. وَقِيلَ: عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفِيرُ إِلَى الْغَزْوِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي ليتفقهوا عَائِدًا عَلَى النَّافِرِينَ، وَيَكُونَ تَفَقُّهُهُمْ فِي الْغَزْوِ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ لِدِينِهِ، وَإِظْهَارِهِ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَثِيرَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْبَارِ الرَّسُولِ بِظُهُورِ هَذَا الدِّينِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْحَضِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْحَلَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ فَتَعْرَى بِلَادُهُمْ مِنْهُمْ وَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا وَعَلَى ذَرَارِيِّهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ، فَهَلَّا رَحَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَلِإِنْذَارِ قَوْمِهِمْ؟ فَذَكَرَ الْعِلَّةَ لِلنَّفِيرِ وَهِيَ التَّفَقُّهُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِعْلَامُ لِقَوْمِهِمْ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ أَيْ: فَهَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ جَمَاعَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْهُمْ فَكَفَوْهُمُ النَّفِيرَ؟ وَقَامَ كُلٌّ بِمَصْلَحَةٍ هَذِهِ بِحِفْظِ بِلَادِهِمْ، وَقِتَالِ أَعْدَائِهِمْ، وَهَذِهِ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَإِفَادَتِهَا الْمُقِيمِينَ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كِلِا النَّفِيرَيْنِ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ دِينِهِ هَذَا بِالْعِلْمِ، وَهَذَا بِالْقِتَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، لِيَتَكَلَّفُوا الْفَقَاهَةَ فِيهِ، وَيَتَجَشَّمُوا الْمَشَاقَّ فِي أَخْذِهَا وَتَحْصِيلِهَا، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ فِي التَّفَقُّهِ إِنْذَارَ قَوْمِهِمْ وَإِرْشَادَهُمْ وَالنَّصِيحَةَ لَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إِرَادَةَ أَنْ يَحْذَرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَيَعْمَلُوا عَمَلًا صَالِحًا. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ فِي الْمُتَخَلِّفِينَ مِنَ الْآيَاتِ الشَّدَائِدِ اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ آخِرِهِمْ إِلَى النَّفِيرِ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ: لَمَّا حَضَّ تَعَالَى عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَحَرَّضَ عَلَى رِحْلَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ، أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِقِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَجَمَعَ مِنَ الْجِهَادِ جِهَادَ الْحُجَّةِ وَجِهَادَ السَّيْفِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
مَنْ لَا يُعَدِّلُهُ الْقُرْآنُ كَانَ لَهُ | مِنَ الصَّغَارِ وَبِيضِ الْهِنْدِ تَعْدِيلُ |
وَضَعُفَ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا تَجَاوَزَ قَوْمًا مِنَ الْكُفَّارِ غَازِيًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ أَبْعَدَ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِغَزْوِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ مُبِيِّنَةٌ صُورَةَ الْقِتَالِ كَافَّةً، فَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ كَافَّةً، وَمَعْنَاهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُقَاتِلَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْجَيْشَ الَّذِي يُضَايِقُهُ مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِتَالُ لِكَلِمَةِ اللَّهِ وَرَدُّ الْبَأْسِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا إِذَا مَالَ الْعَدُوُّ إِلَى صُقْعٍ مِنْ أَصْقَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كِفَايَةُ عَدُوِّ ذَلِكَ الصُّقْعِ وَإِنْ بَعُدَتِ الدَّارُ وَنَأَتِ الْبِلَادُ. وقال: قاتلوا هَذِهِ الْمَقَالَةِ نَزَلَتِ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى قِتَالِ الرُّومِ بِالشَّامِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ الْعَدُوَّ الَّذِي يَلِي وَيَقْرُبُ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ عَمَّهَا الْإِسْلَامُ، وَكَانَتِ الْعِرَاقُ بَعِيدَةً، ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَ نِطَاقُ الْإِسْلَامِ تَوَجَّهَ الْفَرْضُ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ وَالدَّيْلَمِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأُمَمِ، وَسَأَلَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلٌ عَنْ قِتَالِ الدَّيْلَمِ فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالرُّومِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَالْحَسَنُ: هُمُ الرُّومُ وَالدَّيْلَمُ
، يَعْنِي فِي زَمَنِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقْتَ نُزُولِهَا الْعَرَبُ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْهُمْ نَزَلَتْ فِي الرُّومِ وَغَيْرِهِمْ: قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «١» إِلَى آخِرِهَا. وَقِيلَ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَفَدَكٌ وَخَيْبَرُ. وَقَالَ قَوْمٌ:
تَحَرَّجُوا أَنْ يُقَاتِلُوا أَقْرِبَاءَهُمْ وَجِيرَانَهُمْ، فَأُمِرُوا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في
وَأَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالشِّدَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «١» وَذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَهْيَبَ وَأَوْقَعَ لِلْفَزَعِ فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «٢»
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقَوُا الْكُفَّارَ بِوُجُوهٍ مُكْفَهِرَّةٍ»
وَقَالَ تَعَالَى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا «٣» وَقَالَ: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا «٤» وَالْغِلْظَةُ: تَجْمَعُ الْجُرْأَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى الْقِتَالِ وَشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ، وَالْغِلْظَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، وَاسْتُعِيرَتْ هُنَا لِلشِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: غِلْظَةً بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَهِيَ لُغَةُ أَسَدٍ، وَالْأَعْمَشُ وَأَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ وَالْمُفَضَّلُ كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ بِفَتْحِهَا وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَأَبُو حَيْوَةَ وَالسُّلَمِيُّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْمُفَضَّلُ وَأَبَانُ أَيْضًا بِضَمِّهَا وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وعن أبي عمر وثلاث اللُّغَاتِ ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى الْقِتَالِ وَوُجُودِ الْغِلْظَةِ إِنَّمَا هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَلَا يَقْصِدُ بِقِتَالِهِ الْغَنِيمَةَ، وَلَا الْفَخْرَ، وَلَا إِظْهَارَ الْبَسَالَةِ.
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا عَيْبُ الْمُنَافِقِينَ خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَّضَ بِهِمْ فِي خُطْبَتِهِ، فَيَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ يُرِيدُونَ
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٣٩.
(٤) سورة آل عمران: ٣/ ١٤٦.
وَكَانَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا إِشَارَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُمْ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولُوا: ذَلِكَ لِقَرَابَاتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَقِيمُونَ إِلَيْهِمْ وَيَطْمَعُونَ فِي رَدِّهِمْ إِلَى النِّفَاقِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ: هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيرِ لِلسُّورَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ غَرِيبٍ فِي هَذَا وَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا، وَفِي الفتيان قِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْبَحْثِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رأيكم بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: أَيَّكُمْ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَالنَّصْبُ فِيهِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ أفصح كهو بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ نَحْوُ: أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ. وَالتَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ عَامٌّ لِلْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِبَارَةٌ عَنْ حُدُوثِ تَصْدِيقٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنْ قَصَصٍ وَتَجْدِيدِ حُكْمٍ مِنْ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْبِيهٍ عَلَى دَلِيلٍ تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ وَيَكُونُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِأَدِلَّةٍ، فَنَبَّهَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى دَلِيلٍ راد فِي أَدِلَّتِهِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ شَكٍّ يَسِيرٍ، أَوْ شُبْهَةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ مُسْتَحْكِمَةٍ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الشَّكُّ وَتَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ بِتِلْكَ السُّورَةِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي الطَّاعَةَ إِيمَانًا، وَذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَتَتَرَتَّبُ الزِّيَادَةُ بِالسُّورَةِ إِذْ يَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: فَزَادَتْهُمْ: إِيمَانًا أَيْ خَشْيَةً أَطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلَى بَعْضِ ثَمَرَاتِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا لِأَنَّهَا أَزْيَدُ لِلْمُتَّقِينَ عَلَى الثَّبَاتِ، وَأَثْلَجُ لِلصُّدُورِ. أَوْ فَزَادَتْهُمْ عَمَلًا، فَإِنَّ زِيَادَةَ الْعَمَلِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقَعُ عَلَى الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ انْتَهَى. وَهِيَ نَزْعَةٌ اعْتِزَالِيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ فِي الْأَجْسَامِ، فَنُقِلَ إِلَى الِاعْتِقَادِ مَجَازًا وَالرِّجْسُ القذر، وَالرِّجْسُ الْقَذَرُ، وَالرِّجْسُ الْعَذَابُ، وَزِيَادَتُهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَمُّقِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَخَبْطِهِمْ فِي الضَّلَالِ. وَإِذَا كَفَرُوا بِسُورَةٍ. فَقَدْ زَادَ كُفْرُهُمْ وَاسْتَحْكَمَ وَتَزَايَدَ عِقَابُهُمْ. قَالَ قُطْرُبٌ وَالزَّجَّاجُ: أَرَادَ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: شَكًّا إِلَى شَكِّهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْمُتَجَدِّدِ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْتَجَ نُزُولُ السُّورَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ شَيْئَيْنِ: زِيَادَةُ الْإِيمَانِ، وَالِاسْتِبْشَارُ بِمَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ. وَلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ زِيَادَةُ رِجْسٍ، والموافاة على الكفر أذاهم كُفْرُهُمُ الْأَصْلِيُّ، وَالزِّيَادَةُ إِلَى أَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ.
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ بِمَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ رَائِحُونَ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَيْضًا فِي الدُّنْيَا لَا يَخْلُصُونَ مِنْ عَذَابِهَا. وَالضَّمِيرُ فِي يَرَوْنَ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةٌ: بِالتَّاءِ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ. وَالرُّؤْيَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ، وَمِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، والأعمش: أو لا تَرَى أَيْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟
وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا: أو لم تَرَوْا؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ عنه: أو لم يَرَوْا؟ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُفْتَنُونَ، يُخْتَبَرُونَ بِالسَّنَةِ وَالْجُوعِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ عَنْهُ: مَرْضَةً أَوْ مَرْضَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:
يُخْتَبَرُونَ بِالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَةِ وَمِمَّا بَعْدَهَا أَنَّ الْفِتْنَةَ وَالِاخْتِبَارَ إِنَّمَا هِيَ بِكَشْفِ اللَّهِ أَسْرَارَهُمْ وَإِفْشَائِهِ عَقَائِدَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الِاخْتِبَارُ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِرُؤْيَتِهِ وَتَرْكِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الْجِهَادُ أَوِ الْجُوعُ فَلَا يَتَرَتَّبُ مَعَهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: أَفَلَا يَزْدَجِرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُفْضَحُ سَرَائِرُهُمْ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بِحَسَبِ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَتُوبُونَ، وَيَذْكُرُونَ وَعْدَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ انْتَهَى. وَقَالَهُ مُخْتَصَرًا مُقَاتِلٌ قَالَ: يُفْضَحُونَ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ، وَأَمَّا الِاخْتِبَارُ بِالْمَرَضِ فَهُوَ فِي الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ:
أَفِي كُلِّ عَامٍ مَرْضَةٌ ثُمَّ نَقْهَةٌ | فَحَتَّى مَتَى حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى |
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «١» فَكَانَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُفْتَنُونَ فِي ذَلِكَ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنَ الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
يُفْتَنُونَ يُبْتَلَوْنَ بِالْمَرَضِ وَالْقَحْطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِهِمْ، وَلَا يَذَكَّرُونَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، أَوْ يُبْتَلَوْنَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعَايِنُونَ أَمْرَهُ وَمَا يُنَزِّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ النَّصْرِ وَتَأْيِيدِهِ، أَوْ يَفْتِنُهُمُ الشَّيْطَانُ فَيَكْذِبُونَ وَيَنْقُضُونَ الْعُهُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتُلُهُمْ وَيُنَكِّلُ بِهِمْ، ثُمَّ لَا يَنْزَجِرُونَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَا هُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِصَرْفِ قُلُوبِهِمْ عَمَّا فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، قَالَهُ الفراء. والظاهر أنه خير لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ، بَدَأَ بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ ذَكَرَ فِعْلَهُ تَعَالَى بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَازَاةِ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «١». قَالَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمْ. وَقِيلَ: عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ كُلِّ رُشْدٍ وَخَيْرٍ وَهُدًى. وَقَالَ الْحَسَنُ: طُبِعَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دُعَاءٌ عليهم بالخذلان، وبصرف قلوبهم عما في قلوب أَهْلِ الْإِيمَانِ مِنَ الِانْشِرَاحِ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بانصرفوا، أو بصرف، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِعْمَالِ أَيْ: بِسَبَبِ انْصِرَافِهِمْ، أَوْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن فيفقون مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إِيمَانَهُمْ وَالْوُقُوفَ عِنْدَهُ.
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِبَنِي آدَمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ بَنِي آدَمَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «١» وَلَمَّا كَانَ الْمُخَاطَبُونَ عَامًّا، إِمَّا عَامَّةَ الْعَرَبِ، وَإِمَّا عَامَّةَ بَنِي آدَمَ، جَاءَ الْخِطَابُ عَامًّا بِقَوْلِهِ: عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هِدَايَتِكُمْ حَتَّى لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَيَهْلَكَ. وَلَمَّا كَانَتِ الرَّأْفَةُ وَالرَّحْمَةُ خَاصَّةً جَاءَ مُتَعَلَّقُهَا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُهُ:
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «٢» وَقَالَ: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «٣» وَقَالَ فِي زُنَاةِ الْمُؤْمِنِينَ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ «٤». قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَوْلُهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَأَشْرَفِهَا، وَيَنْظُرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى بَنِي هَاشِمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»
وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي مِنْ نِكَاحٍ وَلَسْتُ مِنْ سِفَاحٍ»
مَعْنَاهُ أَنَّ نَسَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنِ النَّسْلُ فِيهِ إِلَّا مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ زِنًا انْتَهَى. وَصَفَ اللَّهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسِتَّةِ: أَوْصَافٍ الرِّسَالَةُ وَهِيَ صِفَةُ كَمَالِ الْإِنْسَانِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ كَمَالِ ذَاتِ الرَّسُولِ وَطَهَارَةِ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ، وَكَوْنِهِ مِنَ الْخِيَارِ بِحَيْثُ أُهِّلَ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ هذه الصفة أشرف الأشياء بدىء بِذِكْرِهَا. وَكَوْنُهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي البليغ وَالْفَهْمِ عَنْهُ وَالتَّآنُسِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلْعَرَبِ فَفِي هَذِهِ الصِّفَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى شَرَفِهِمْ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِبَنِي آدَمَ فَفِيهِ التَّنْوِيهُ بِهِمْ وَاللُّطْفُ فِي إِيصَالِ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُمْ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعَفَافِ وَالصِّيَانَةِ. وَكَوْنُهُ يَعِزُّ عَلَيْهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ، فَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ نَتَائِجِ الرِّسَالَةِ. ومن كونه من
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٧٣.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٤) سورة النور: ٢٤/ ٢.
«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى تُحِبَّ لِأَخِيكَ الْمُؤْمِنِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ».
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَحْبُوبٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُسَيْطٍ الْمَكِّيُّ، وَيَعْقُوبُ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ:
مِنْ أَنْفَسِكُمْ بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ
، وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْمَعْنَى: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَعَزِّكُمْ، وَذَلِكَ مِنَ النَّفَاسَةِ، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَعْنَى النَّفَسِ، فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الفاعل بعزيز أَيْ: يَعِزُّ عَلَيْهِ مَشَقَّتُكُمْ كَمَا قَالَ:
يُسِرُّ الْمَرْءَ مَا ذَهَبَ اللَّيَالِي | وَكَانَ ذَهَابُهُنَّ لَهُ ذَهَابًا |
إِثْمُكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: ضَلَالُكُمْ. وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: مَا ضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: مَا أَهْلَكَكُمْ. وَقِيلَ: مَا غَمَّكُمْ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي عَلَيْكُمْ أَيْ: عَلَى هُدَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «٣» وَقَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «٤». وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرَاتِ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْحَرِيصُ هُوَ الشَّحِيحُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ شَحِيحٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا النَّارَ. وَقِيلَ: حَرِيصٌ عَلَى دُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ. وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى الْإِضْمَارِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ. وَيُحْتَمَلُ بالمؤمنين أن يتعلق برءوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّنَازُعِ. وفي جواز
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٢٠.
(٣) سورة النحل: ١٦/ ٣٧. [.....]
(٤) سورة يوسف: ١٠/ ١٠٣.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ: أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ إِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ وَاتِّصَافِكَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أَيْ:
فَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ وَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَهِيَ آيَةٌ مُبَارَكَةٌ لِأَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، وَخَصَّ الْعَرْشَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَرْشُ لَا يَقْدُرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ انْتَهَى. وَذُكِرَ فِي مَعْرِضِ شَرْحِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْمَعُونَ حَدِيثَ وُجُودِ الْعَرْشِ وَعَظَمَتِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُمْ كَانُوا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: الْعَظِيمُ بِرَفْعِ الْمِيمِ صِفَةٌ لِلرَّبِّ، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ: وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ، لِأَنَّ جَعْلَ الْعَظِيمُ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ صِفَةً لِلْعَرْشِ، وَعِظَمُ الْعَرْشِ بِكِبَرِ جُثَّتِهِ وَاتِّسَاعِ جَوَانِبِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ، وَعِظَمُ الرَّبِّ بِتَقْدِيسِهِ عَنِ الْحَجْمِيَّةِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، وَبِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي الْأَوْهَامِ، أَوْ تَصِلَ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آخِرُ مَا نَزَلْ لَقَدْ جَاءَكُمْ إِلَى آخِرِهَا. وَعَنْ أُبَيٍّ أَقْرَبُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ الْآيَتَانِ، وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ لَمْ تُوجَدَا حِينَ جُمِعَ الْمُصْحَفِ إِلَّا فِي حِفْظِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ ذِي الشَّهَادَتَيْنِ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا تَذَكَّرَهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ يَعْرِفُهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ: فَقَدْتُ آيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ نَدْرِ هَلْ فقد شيئا أولا، فَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الْآيَةُ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِخُزَيْمَةَ وَحْدَهُ. وَقَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا فُرِغَ مِنْ تَنَزُّلِ بَرَاءَةٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَنْ يَبْقَى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ شَيْءٌ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَهَمَّهُ».
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).