تفسير سورة التوبة

تفسير النسائي

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير النسائي
لمؤلفه النسائي . المتوفي سنة 303 هـ
قوله تعالى: ﴿ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [٢]٢٣٤- أنا محمد بن بشار، حدثني محمد، وعثمان بن عمر قالا: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن الشعبي، عن المُحرَّر ابن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة. قال: ما كنتم تُنَادون؟ قال: كنا نُنَادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفسٌ مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأَجَلُه وأَمَدَه إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحُجُّ بعد العام مشرك، وكنت أُنادي حتى صَحِل صوتي. ذيل التفسيرقوله تعالى: [ ﴿ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [٢] ]١٣/ ٧٤٨- أخبرني محمد بن قُدامة الْمِصِّيصِيُّ، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن محرر بن أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كُنت أنادي (ومعي) عليٌّ حين أذًّن في المشركين، كنا نقول: لا يحُجَّنَّ بعد عامنا مشرك ولا يطوفنَّ بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدة، فإن أجله إلى أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين.
قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ ﴾ [٣]٢٣٣- أنا هنَّاد بن السَّري، عن أبي الأحوص، عن ابن غَرْقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوداع يقول:" " يا أيها الناس " ثلاث مرات " أيُّ يوم هذا؟ " قالوا: يوم النَّحر يوم الحجِّ الأكبر. قال: " فإن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم بينكم حرام كحُرمة يومكم هذا، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد أَيس أن يُعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى، ألا وإنَّ كل رِبا الجاهلية موضوع، لكم رُؤُسُ أموالكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون، ألا وإن كل دم من دماء الجاهلية موضوع، وأوَّل ما أضع منها دم الحارث ابن عبد المطلب "، كان مُسْتَرضعا في بني ليث فقتلت هُذيل، " ألا يا أمتاه هل بَلَّغت؟ " ثلاث مرات قالوا: نعم قال: " اللهمَّ اشهَدْ " ".
قوله تعالى: ﴿ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ ﴾ [١٢]٢٣٥- أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا المُعتمر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب قال: سمعت حُذيفة، وهو يُقلب يده قال: / ما بقى من المنافقين إلا أربعة، إن أحدهم اليوم لَشَيخ كبير، لو شرب الماء البارد لما وجد بَرْده.
قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ ﴾ [٣٤]٢٣٦- أنا عِمران بن بكَّار بن راشد، نا علي بن عياش، نا شعيب، حدثني أبو الزِّناد، مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يحدِّث به قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" يكون كنز أحدهم يوم القيامة شجاعا أقرع يفِرُّ منه صاحبه، ويُطْلُبُه أنا كنزك، فلا يزال به حتى يَلْقِمه أُصْبعه ". ٢٣٧- أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث، عن ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يكون كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع ذا زَبيبتَيْن، يتبع صاحبه، وهو يتعوذُّ منه، ولا يزال يتبعه حتى يَلْقِمه أُصبعه ". ٢٣٨- أنا أبو صالح المكي، نا فضيل - يعني ابن عياض - عن حُصين، عن زيد بن وهب قال: أتيت الرَّبذة فدخلت على أبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فقرأت هذه الآية ﴿ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾ إلى آخر الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية نزلت فينا، إنما هي في أهل الكتاب فقلت: إنها فينا وفي أهل الكتاب، إلى أن كان قول وتنازع، وكتب إلى عثمان يشكوني، كتب إليَّ عثمان رحمه الله (أن) اقْدُم، فقدمت المدينة، فكُثَر ورائي الناس كأنهم لم يروني قط، فدخلت على عثمان، فشكوت إليه ذلك، فقال: تَنَحَّ، وكن قريبا، فنزلت هذا المنزل، والله لو أمر علي حَبَشي ما عصيته، ولا أرجع عن قولي.
قوله تعالى: ﴿ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ ﴾ [٤٠]٢٣٩- أنا نصر بن علي، نا عبد الله بن داود قال سلمة بن نُبَيط: أنا نُعيم بن أبي هند، عن نُبَيط بن شَريط. سالم بن عُبيد أن رسول الله / صلى الله عليه وسلم لما قُبِض، قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فقال عمر: من له مثل هذه الثلاث؟ ﴿ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ ﴾ من هما؟ ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ﴾ من هو؟ ﴿ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ﴾ من هما؟ ثم بسط يده وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة.
قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ [٥٨]٢٤٠- أنا محمد بن عبد الأعلى، نا محمد - يعني ابن ثور، عن مَعمر، عن الزُّهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي سعيد قال:" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً، إذ جاء ابن أبي الخُوَيْصرة التَّميمي، فقال/ اعْدِل يا رسول الله قال: " ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ " فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي، فأضرب عنقه، قال: " دعه، فإن له أصحابا يَحْقِرُ أحدكم صلاتَه مع صلاتِه، وصيامَه مع صيامِه، يَمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية، فينظر في قُذّذه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نَضيِّه، فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر في رِصافه، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نَضلِه، فلا يوجد فيه شيء، سبق الفَرثَ والدَّم، آيَتُهم رجل أسود في إحدى يده - أو إحدى يديه - مثل ثَدي المرأة، أو مثل البَضْعة تدَرْدَرُ، يخرجون على حين فترة من الناس ". قال: فنزلت فيهم ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾ قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا حين قتلهم جيء بالرجل على النَّعت الذي نعَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قوله تعالى: ﴿ وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ [٦٠]٢٤١- أنا هناد بن السَّري، عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد الخُدري قال:" بعث علي عليه السلام، وهو باليمن بذُهيبة يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين أربعة، بين الأقرع بن / حابس الحنظلي، وعُيينة بن بدر الفَزَاري، وعلقمة بن عُلاثَة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الطَّائي، ثم أحد بني نبهان، فغضبت قريش، وقال مرَّة أخرى صناديدُ قريش، فقالوا: يُعْطي صناديد نجد، ويدعنا، فقال: " إني إنما فعلت ذلك لأتَأَلَّفهم " فجاء رجل كثُّ اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتِيءُ الجبين، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد، قال: " فمن يُطع الله إن عَصَيْتُه، يأْمَنني على أهل الأرض، ولا يَأْمَنوني؟ " قال: وأَدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله - يرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا، إن من ضِئضئي هذا قوما يقرأون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمية، لئن أدركتهم لأقتُلَهم قتل عاد ". ٢٤٢- أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، نا عمي، نا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، حدثني أنس بن مالك أنه قال:" لما أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال يقولون - يوم حُنين - طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي رجالا من قريش المائة من الإبل، فقال رجل من الأنصار: يغفر الله لرسول الله، يُعطي رجالاً من قريش، ويتركنا، وسيُوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأُعطي رجالاً حديث عهدهم بالكفر، فأتَأَلفهم، أَوَلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لما تنقلبون خَيْر، خيرٌ مما ينقلبون به " قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا ". مختصر
قوله تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [٧٩]٢٤٣- أنا بشر بن خالد، نا غُندر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما أمَرَنا رسول / الله صلى الله عليه وسلم بالصَّدقة، تصدَّق أبو عَقِيل بنصف صاع، وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغنيٌّ عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياءً، فنزلت ﴿ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ﴾.
قوله تعالى: ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [٨٠]٢٤٤- أنا عمرو بن علي، نا يحيى، نا عُبيد الله، حدثني نافع، عن عبد الله بن عمر قال:" لما مات عبد الله (بن) أُبَيٍّ، جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فقال:) اعطني قميصك حتى أُكَفِّنه وَصَلِّ عليه، واستَعْفر له، فأعطاه قميصه، ثم قال: " إذا فَرَغتم فآذِنُوني أُصلي عليه " فجذبه عمر، وقال: قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين، قال: " أنا بين خِيرَتين، قال ﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ " فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ﴾ [٨٤] فترك الصلاة عليهم ". قوله تعالى ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ [٨٤]٢٤٥- أنا محمد بن رافع، ومحمد بن عبد الله بن المبارك قالا: حدثنا حُجَين بن المُثنى، نَا لَيث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب رحمه الله قال:" لما مات عبد الله بن أُبَي بن سَلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثَبْت إليه، ثم قلت: يا رسول الله، أَتُصلي على ابن أُبيٍّ؟ وقد قال يوم كذا وكذا كذا وكذا، أُعَدِّدُ عليه قوله، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: " أَخِّر عني يا عمر " فلما أكثرت عليه، قال: " إني خُيِّرت، فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السَّبعين غُفر له لزِدت عليها، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يمْكُث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة ﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ / أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾ فعجِبْتُ من جُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسُوله أعلم " ".
قوله تعالى: ﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ [١٠٢]٢٤٦- أنا محمد بن بشار، نا يحيى، وابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب، عن عوف، عن أبي رجاء، نا سَمُرة بن جُندب قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: " هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟ " فيقُصُّ من شاء أن يقُص، وإنه قال لنا ذات يوم " إنه أتاني آتيان الليلة، وإنهما ابتعثاني، فقالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب وفضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففُتح لنا، فدخلنا، فتلقانا فيها رجال شطر من خَلْقِهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطرٌ كأقبح ما أنت راءٍ، فقال لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النَّهر، وإذا هو معرض يجري، كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم وصاروا كأحسن صورة، فقالا لي: هذه جنة عدن، وذلك منزلك، فبينما بصري صَعْداً، فإذا قَصْر، قالا لي: هذا منزلك، قلت لهما: بارك الله فيكما، ذَرَاني أدخله، قالا: أما الآن فلا وأنت داخله، فقال: " القوم الذين كان شطراً منهم [حسن]، وشطراً منهم قبيح " فإنهم ﴿ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ﴾ فتجاوز الله عنهم ".
قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [١٠٤]٢٤٧- أنا سويد بن نصر، أنا عبد الله، عن عبيد الله بن عُمر، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي الحُبَاب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من مؤمن يتصدق بصدقة من كسب طَيِّبٍ، ولا يقبل الله إلا طيِّباً، إلا كان الله يأخذها منه بيمينه، فيُرَبِّيها كما / يُربي أحدُكم فَلُوَّهُ أو فَصيله، حتى تبلغ الثَّمرة مثل أُحُدٍ ".
قوله تعالى: ﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ﴾ [١٠٨]٢٤٨- أنا قُتيبة بن سعيد، نا الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد الخُدري، عن أبي سعيد الخُدري أنه قال:" تَمَارى رجلان في المسجد الذي أُسِّس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قُبَاء، وقال الآخر، هو مسجد رسول الله صلى الله عيه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو مسجدي هذا ". ٢٤٩- أخبرني زكريا بن يحيى، نا ابن أبي عمر، نا سفيان عن أبي الزِّناد، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال: المسجدُ الذي أُسِّس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [١١٣]٢٥٠- أنا محمد بن عبد الأعلى قال: نا محمد - يعني ابن ثور - عن مَعْمَر، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال:" لما حَضَرَت أبا طالب الوَفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن (أَبي) أُمية فقال: " أيْ عمِّ، قل لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله " فقال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المُطَّلب، فلم يزالا يُكلِّمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به، على مِلَّة عبد المُطَّلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأَستغْفِرنَّ لك ما لم أُنْه عنك " "فنزلت ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ ونزلت﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾[القصص: ٥٦].
٢٥١- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أنا المَخْزومي، أخبرني مهديُّ بن مَيمُون، عن غَيْلان بن جرير قال: قُلتُ لأنس: أرأيتم معشر الأنصار، أهذا الاسم كُنتم تُسمون به أم سمَّاكم الله تبارك وتعالى؟ قال: بل سمَّانا الله به.
قوله تعالى: ﴿ يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ [١١٩]/ ٢٥٢- أنا يوسف بن سعيد، حدثنا حجَّاج بن محمد، نا ليث بن سعد، حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِيَ قال: سمعت كعب بن مالك يُحدث حديثه حين تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال:" فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر الله منَّا قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبت، سمعت صارِخاً أوفَى على أعلى جبل بأعلى صوت: يا كعب بن مالك أَبْشِر، قال: فَخَررت ساجداً وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فَدَهم الناس يُبشرونا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إليَّ فرَسا وسعى ساع من أسلم، فأَوفى على جبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته، بشرني، نزعت ثوبي فكسوته إيَّاهما بشارة، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين، فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة يقولون: لِتَهْنِئك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عُبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنَّأني، ووالله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلَّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يَبْرُق وجهُه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " فقلت: من عِندك يا رسول الله أو من عند الله؟ قال: " لا، بل من عند الله " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استَنَارَ وجهُه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، / فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إنَّ من تَوبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك " قلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخَيبر، قلت: يا رسول الله، إن الله تعالى إنَّما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أُحدِّث إلا صدقا ما بَقِيت، فوالله ما أحد من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، فأنزل الله عز وجل ﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ ﴾ [١١٧] تلا إلى ﴿ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ [١١٩] فوالله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قطُّ بعد أن هداني للإسلام بأعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألاَّ أكون كَذَبْته فأَهْلِك كما هَلَكَ الذين كذبوه حتى أنزل الوحي حتى بِشَرِّ ما قال لأحد ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: ٩٥] إلى ﴿ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: ٩٦] قال كعب: وكنا تُخُلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فلذلك قال الله عز وجل ﴿ وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ ﴾ [١١٨] وليس الذي ذكر الله تخَلُّفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفة إِيَّانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه ". مختصر.
سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).