(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
بما كان ويكون، أي: عن علم بما كان منهم خلقهم، لا عن جهل؛ إذ خلقه إياهم ليس لمنافع نفسه وحاجته، إنما خلقهم لحاجتهم ومنافعهم (حَكِيمٌ) وضع كل شيء موضعه.
ويحتمل: (عَلِيمٌ): بما كان من هَؤُلَاءِ من التكذيب لرسول اللَّه والكفر بآياته، (حَكِيمٌ) أي: فيما جعل عليهم من القتل والتعذيب والخزي كأنه وضع الشيء موضعه.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
وأيضًا قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وقوله أيضًا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكوا...) الآية هذه الآيات كلها في المنافقين الذين أظهروا الإيمان باللسان، وأروا المؤمنين الذين حققوا الإيمان وأخلصوا الإسلام الموافقة لهم، فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال؛ جعل لله - تعالى - القتال مع الكفرة - واللَّه أعلم - وأمر به لمعنيين:
أحدهما: تطهيرًا للأرض من الكفر؛ كقوله - تعالى -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
والثاني: امتحانًا للمنافقين؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة، وصدق من أظهره حقيقة؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا في الدنيا؛ لتسلم
312
لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه؛ كقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) خوفًا وإشفاقًا على أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية، هذا وصف المنافق.
وأما المؤمن المحق للإيمان، المخلص للإسلام: فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله، وإن كان فيه تلف نفسه؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق، ولكن على الوجوه كلها، والأحوال جميعًا، عبادته تكون لله، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى، ولا كذلك المنافق.
وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام.
ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم، فلا تحسبوا ذلك.
والثاني: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي: لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال.
أحد التأويلين يخرج على النهي، والثاني على الإخبار عما حسبوا، وعما عندهم.
ثم قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا، لا على حدوث علمه بذلك؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون؛ فيكون قوله: ليعلم المجاهدين من كذا، وليعلم الصابرين من كذا؛ أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا؛ لأنه لا يجوز أن يوصف اللَّه بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائنا، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه، ومن المتحرك السكون في حال حركته، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه، واللَّه الموفق.
ويحتمل هذا وجهًا آخر: أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه؛
313
كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا أولياءه ينصركم، أو إن تنصروا دينه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله ينصركم؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، أي: ليعلم أولياءه المنافق المرائي، والمؤمن المحقق المخلص، وليبين لهم، كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياءه إذ اللَّه لا يخادع ولا ينصر؛ إذ هو ناصر كل أحد، ولا يخفى عليه شيء، عالم بما يكون في وقت ما يكون.
أو أن يكون المراد من العلم الذي ذكر المعلوم، وذلك جائز في اللغة جار، وفي القرآن كثير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).
أي: لم يجدوا ملجأ يلجئون إليه من دون ما ذكر، ولو وجدوا ذلك لاتخذوا ذلك، ولكن لما لم يجدوا لم يتخذوا؛ كقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) الآية.
أخبر أنهم لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه لولوا، ولا يظهرون ذلك.
وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها من الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج.
وقال البعض: الوليجة أصلها من الدخول؛ كقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يقال أيضًا: فلان وليجة فلان، أي: خاصته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: الخيانة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: ما يلجأ إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة؛ وبعضه قريب من
314
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
وقوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... (١٩)
في الآية إضمار فعل أو فاعل لكي تصح المقابلة؛ لأنه إنما يقابل فعل بفعل، أو فاعل بفاعل، لا يقابل فعل بفاعل، ولا فاعل بفعل، فهاهنا ذكر السقاية وعمارة المسجد مقابل من آمن باللَّه، فهو - واللَّه أعلم -: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كإيمان من آمن باللَّه واليوم الآخر؟!
أو أن يقال: أجعلتم القائم بإصلاح سقاية الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟! ليكون مقابلة شخص بشخص، أو فعل بفعل.
ثم لا يصح أن يجمع بين الكافر والمؤمن، فيقال: لا يستويان عند اللَّه، وإن كان الكافر قد أتى بالمحاسن، إلا أن يقال: ليس من فعل محاسن في حال كفره ثم آمن من بعده كمن آمن وفعل محاسن وهو مؤمن، هذا يجوز أن يجمع فيقال: لا يستوون عند اللَّه، وأما الكافر الذي مات على الكفر وإن عمل خيرات، والمؤمن الذي عمل الصالحات فمات على ذلك، فيجمع فيقال: لا يستويان فلا.
أو أن يقابل بالجهاد الذي ذكر: لا يستوي من بذل نفسه للقتل والتلف كمن سقى الحاج وعمر المسجد الحرام ولم يبذل نفسه لذلك؛ فأما أن يقال: لا يستوي الكافر والمؤمن، فذلك غير محتمل؛ لأنه إنما يقابل الشيء بالشيء إذا قرب بعضه من بعض، وأما عند البعد منه فلا يقال ولا يقابل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
ما داموا في ظلمهم، وما داموا اختاروا الظلم، لا يهديهم وقت اختيارهم الظلم، أو لقوم مخصوصين، وقد ذكرنا معناه في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) قوله: (آمَنُوا)، أي: صدقوا رسول اللَّه في جميع ما يخبر عن اللَّه أنه صادق، وفي جميع ما دعا إليه
318
وأمرهم به ونهاهم عنه أنه محق، وإلا كانوا مؤمنين باللَّه؛ كقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، كانوا مؤمنين باللَّه، لكنهم يكذبون الرسل ورسالتهم.
أي: فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم وأموالهم ومنازلهم وبلدهم، وهجروا جميع ما تحبه أنفسهم وتهواه، وتميل إليه القلوب مما ذكر في الآية التي تتلو هذه الآية، وفارقوا ذلك الكل؛ إشفاقًا على دينهم؛ ليسلم ما لو أعطوا قبل الإسلام الدنيا وما فيها مما أوعدوا بكل وعيد وخوف، ما فارقوا آباءهم وإخوانهم وعشائرهم وأولادهم الذين ذكر في الآية، ثم إذا أسلموا فارقوهم وأجابوا رسول اللَّه في ذلك ابتغاء مرضاة اللَّه، وطلبًا لرضوانه؛ ليعلم عظيم قدر الدِّين في قلوبهم، وخطير منزلته عندهم؛ ليعلم أن محن أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أعظم وأشد من محننا؛ لأن محنهم كانت على خلاف عادتهم وخلاف ما طبعوا عليه؛ لأن الإنسان مطبوع على حب ما ذكرنا، مجبول عليه، فهم مع ذلك تركوا وفارقوا ذلك، وتحملوا كراهة ذلك؛ ابتغاء مرضاة ربهم.
وأما محننا: فإنها على سبق من العادة، فهي أهون وأيسر.
وقوله: (وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ).
أي: بذلوا لله ألذ الأشياء وأحبها وهي الأموال والأنفس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ).
قال بعض أهل التأويل: من صدقوا بتوحيد اللَّه، وهاجروا إلى المدينة، وجاهدوا العدو بأموالهم وأنفسهم - أعظم درجة عند اللَّه من الذين افتخروا بعمران البيت وسقاية الحاج وهم كفار.
وكذلك قالوا في قوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) ولكن الوجه في ذلك عندنا ومعنى المقابلة: أُولَئِكَ الذين ذكر أعظم درجة عند اللَّه من الذين أسلموا أمن بعد ولحقوا.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
319
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، يقال ذلك، لسعة الأرض في أوهام الخلق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (٢٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: السكينة: الملائكة؛ كقوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ)، أي: نصرته.
وقيل: وقاره.
وقيل: رحمته.
وقيل: طمأنينته.
وأصله: سكنت قلوبهم واطمأنت بعد شدة الخوف والحزن بأي وجه ما، تسكن بالملائكة أو بغيرها، فأسكن قلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما اشتد عليه رجوع أصحابه ومفارقتهم إياه (وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا): وهم الملائكة، (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا): بالقتال والهزيمة، وذلك جزاؤهم.
وفي قوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنه سماهم مؤمنين بعد ما كان منهم التولي، والتولي لم يخرجهم من الإيمان على ما قالوا.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.
وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة
326
نفسها للحج وإقامة العبادات؛ دليله وجوه: أحدها: قوله: (بَعْدَ عَامِهِم هَذَا) ولو كان لدخول المسجد، لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.
والثاني: قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
والثالث: قوله: " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ". وفي آخر الآية دلالة ذلك؛ لأنه قال: ، (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه، لكان لا خوف عليهم في ذلك؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة، فلا خوف عليهم في ذلك.
أو أن يقال: إنه ذكر المسجد الحرام؛ لما أنهم كانوا يقصدون البيت والحج به، فيكون النهي عن دخول المسجد نهيًا عن الحج نفسه، وهو ما روي في الخبر أنه بعث عليًّا في الموسم بأربع، وأمره أن ينادي في الناس ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول اللَّه عهد فاجله إلى مدته، فإذا مضت مدته فإن اللَّه بريء من المشركين ورسوله، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك.
فالنهي الذي ورد عن دخول المسجد إنما هو نهي عن الحج نفسه؛ لأن البيت هو الذي يقصد إليه فيه.
ألا ترى أنه قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...) الآية، وقال: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ...) الآية، وقال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ذكر البيت، وهو المقصود بالحج في الإسلام والكفر جميعًا؛ فعلى ذلك خرج النهي، لكنه ذكر المسجد؛ لما أن البيت فيه.
فإذا كان ما ذكرنا: فإن شئت فاجعل آخر الآية تفسير أولها، وهو قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وهو ما ذكرنا أن النهي لو كان لدخول المسجد
333
نفسه دون غيره من البقعة، لكان ليس عليهم خوف العيلة؛ لأنهم يدخلون مكة، ويتجرون فيها، ولا يدخلون المسجد.
وإن شئت فاجعل أول الآية تفسير آخرها، وهو قوله: (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) وهو ما ذكرنا.
فإذا كان ما ذكرنا، دل أن المشرك لا يدخل المسجد الحرام، وخبر علي بن أبيِ طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضًا يدل على ذلك، فأما من كان من أهل الذمة والعبيد منهم: فليسوا - واللَّه أعلم - بداخلين في الآية إذا كانوا ممن لا يحج.
فَإِنْ قِيلَ: فقد روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نادى: ألا لا يدخل الحرم مشرك، ولم يذكر الحج.
قيل له: روي عنه أنه قال: ناديت ألا يحج بعد العام مشرك؛ فيكون قوله: لا يدخل الحرم مشرك؛ على الحج؛ على ما ذكرنا.
وقد روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص في دخول المسجد للعبيد والإماء، وروي عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا، إلا أن يكون عبدًا أو أمة ". يحتمل استثناء العبد والأمة؛ لأن العبد لا يدخل للحج ولإقامة العبادة، إنما يدخل لخدمة المولى إذا كان مسلمًا.
وفي بعض الأخبار: " أو أحدًا من أهل الذمة ".
وعن جابر بن عبد اللَّه موقوفًا كذلك: " أو أحدًا من أهل الذمة ".
وفيه دلالة لقول أبي حنيفة - رحمه اللَّه -: " أن لا بأس للكافر أن يدخل المسجد "،
334
وقال: أرأيت لو أراد أن يسمع كلام اللَّه ليؤمن فيمنع عن ذلك، ويؤمر الْمُستمعُ إتيان ذلك المشرك فيسمع كلامه، فيكون الآمر إبلاغ المأمن لذلك المشرك الإمام دل أنه لا بأس لذلك.
وقد ذكرنا أن ليس في ظاهر الآية دلالة النهي عن دخول المسجد؛ بل المراد من ذكر المسجد ما ذكرنا من الحج وإقامة العبادة لغير اللَّه.
ألا ترى إلى قول اللَّه: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) وأن سبيل مكة كلها هذا السبيل، وكذلك قوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) والحرم كله منحر؛ إلا أن المعنى في ذلك - واللَّه أعلم - ما ذكرنا ألا يدخل المشركون حجاجًا؛ ألا ترى أنا نعلم أن المشركين لم يزالوا مقيمين في الحرم بعد النداء، ولم يخلو عنه.
ومما يدل على ذلك -أيضًا- قول اللَّه: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)، فإن كان يعني به موضع العهد، فإن ذلك العهد يوم الحديبية عند الشجرة، فقد صار ذلك الموضع من المسجد الحرام، وهو في المسافة بعيد منه، وإن كان يعني به الذين عوهدوا، فإنهم كانوا يوم نادى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذلك خارج من مكة؛ لأن أهل مكة فد كانوا أسلموا قبل ذلك حين فتحها النبي، فحاضري المسجد الحرام هم من كان نازلًا خارج مكة في الحرم وما حوله.
وقوله: " ولا يقرب المسجد الحرام مشرك ".
يخرج على وجوه:
أحدها: لا تدعوهم يقربوا المسجد الحرام.
والثاني: قولوا لهم: لا تقربوا المسجد الحرام.
335
والثالث: على البشارة؛ أي: إذا قلتم لهم ذلك فلا يقربوا بعد ذلك.
وقوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) أي: أفعال المشركين نجس، والعبادات التي يأتون فيها نجس، وهو ما ذكر حيث قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) صير عمل الشيطان رجسًا؛ فعلى ذلك العبادات التي يقيمونها نجسة، فالنهي عن الحج نهي عن إقامة العبادات لغير اللَّه؛ لأن تلك البقعة نزهت عن إقامة العبادة لغير اللَّه.
ثم اختلف في قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأفعال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نجس الأحوال.
والأشبه أن يكون نجس الأفعال؛ لأن قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) يخرج مخرج الذم، ولا يحتمل أن يذموا ويشتموا بنجاسة الأحوال؛ دل أنه إنما لحقهم ذلك الذم بما اكتسبوا من الأفعال الذميمة، وهو كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، رجس نجس؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، أي: نجسة الأفعال؛ لأن ذلك من كسبهم، فاستوجبوا المذمة لكسبهم، وأما الأحوال فلا صنع لهم فيها.
وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
قيل: خافوا من العيلة لما نُفي المشركون من مكة؛ لأن معايش أهل مكة إنما كانت من الآفاق، وبأهل الآفاق كانت سعتهم وتجارتهم، لكن اللَّه وعدهم السعة والغنى بقوله: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: دل قوله: (إِنْ شَاءَ) على أنه إنما وعدهم الإغناء في بعض الأوقات.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (إِنْ شَاءَ) كان من رسول اللَّه؛ لأنه أمر رسوله أن يعدهم الإغناء، وهو مأمور أن يستثني في جميع ما يعده؛ بقوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
ويحتمل أن يكون قوله: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ): بهَؤُلَاءِ الذين نفوا
336
عنه؛ لأنه حبب إليهم التجارة والمكاسب وما ينالون الأرباح بها يحملهم ذلك على الإسلام فيسلمون، فيدخلون فيها يحملهم حب التجارة على الإسلام، فيكون لهم بهم غنى، كما كان يحملهم حب التجارة والربح على الهجرة، وقوله: (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا)، فعلى ذلك الأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): الجزية التي ذكرها في الآية التي تتلو هذه.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
بما أضمروا من خوف العيلة أو (عَلِيمٌ) بما لهم وعليهم، وممن يكون لهم الغنى.
قوله تعالى: (حَكِيمٌ) في أمره وحكمه.
وفي قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أنهم أضمروا ذلك في أنفسهم، ثم أخبرهم رسول اللَّه بذلك؛ دل أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)
ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى، أخبر أنهم لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر؛ وهم في الظاهر يقرون بوحدانية اللَّه واليوم الآخر فما المعنى منه؟!
قيل: هم وإن آمنوا في الظاهر باللَّه واليوم الآخر، فإنما يؤمنون بإلهٍ له ولد كما ذكره على أثره، وهو قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) فالإيمان بإلهٍ له ولد ليس بإيمان باللَّه، فهم غير مؤمنين، وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة، فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به.
أو أن يقال: إنهم وإن أقروا بما ذكرنا وآمنوا به، فقد استحلوا أشياء حرمها اللَّه عليهم، وحرموا أشياء أحلها اللَّه لهم، ومن آمن بالكتب كلها والرسل ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم، فهو غير مؤمن باللَّه واليوم الآخر ولا مصدق له.
337
وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...) إلى آخر الآية.
فإن قال لنا ملحد: إنكم تقاتلون الكفرة للكفر، ثم إذا أعطوكم شيئًا من المال تركتم مقاتلتهم، فلو كان قتالكم إياهم لذلك لا لطمع في الدنيا، لكنتم لا تتركون مقاتلتهم لشيء يبذلونكم، وكذلك لو كانت المقاتلة للكفر نفسه، لكان النساء في ذلك والرجال سواء؛ إذ هم في الكفر شرعًا سواء.
وقالوا: لو كانت المقاتلة معهم لما ذكرنا، وهو حكمة، والآمر بذلك حكيم لكان الناس جميعًا في ذلك سواء، ولا تتركون أحدًا لشيء من ذلك؛ بل يقاتلون أبدًا ولا ترضون منهم غيره.
فيقال لهم: إنا لن نقاتل الكفرة للكفر، ولكنا ندعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا إلى ذلك وإلا قتلناهم ليضطرهم القتل إلى الإسلام؛ لهذا ما نقاتلهم لشيء سواه فإذا كان في أخذ الجزية، معنى ما ندعوهم إلى الإسلام، فإذا قبلوا ذلك تركناهم على ذلك؛ لعلهم يرغبون في الإسلام إذا رأوا شرائعنا وأحكامنا؛ لا أنا تركناهم رغبة فيما نأخذ منهم أو طمعًا في ذلك.
وأصله المحنة؛ إذ الدار دار المحنة، ليست بدار الجزاء، والمحنة تكون بمختلف الأشياء لا يجوز تلفها؛ مرة يمتحنهم بالقتال، ومرة بأخذ الأموال، ومرة بالشدائد؛ كقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ...) الآية، وقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ)، وقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحو ذلك، فإذا كان ذلك محنة لا جزاء جاز ذلك، وكان ذلك حكمة.
وأما قولهم بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ونسترقهن؛ لأنهن أتباع الرجال في جميع الأحوال وخدم لهم، فإذا أسلموا أسلمن؛ هذا معروف فيما بينهم؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاءوا، وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة، ليس هو جزاء الكفر؛ إذ الدار دار محنة، فله أن يمتحن بعضًا بالقتل، وبعضًا بأخذ المال، وبعضًا لا بذا ولا ذاك،
338
ولو كان جزاء لسوى بينهم، وهو التخليد في النار أبدًا.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أخذ الجزية من سائر الكفرة إذا كانوا أهل الكتاب أو المجوس، وترك الأخذ من مشركي العرب؟
قيل: لوجوه:
أحدها: أن ليس لمشركي العرب دين يدينون به يقاتلون عن ذلك الدِّين، ولا لهم أصل يعتمدون عليه، أو كتاب يكلون إليه، إنما هم قوم يقاتلون عن قبائلهم، ويتناصرون بهم، ولغيرهم من الكفرة دين يدينون به، وأصل يعتمدون عليه، ويحاجون الناس بالحجاج التي
339
لهم؛ فإذا كان كذلك، أمكن إقامة الحجج على هَؤُلَاءِ، وإلزام البراهين، ولا كذلك مشركو العرب؛ إذ لا دين لهم ينسبون إليه، ولا مذهب يدعون غيرهم إليه بالحجاج، وأمكن في غيرهم؛ لذلك افترقا، واللَّه أعلم بذلك.
والثاني: أنهم تمنوا أن يكون لهم رسول من جنسهم يتبعونه فيما يدعوهم إليه، ونذير يجيبونه، حتى أقسموا على ذلك، وأكدوا القول في ذلك؛ كقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) الآية، ولم يكن من غيرهم من الكفرة ما كان منهم؛ فإذا كان كذلك فهم يقاتلون أبدًا حتى يوفوا ما وعدوا؛ كقوله: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ).
والثالث: لفضل رسول اللَّه؛ إذ كان منهم ومن جنسهم، فلا يترك أحد في تلك البقعة على غير دينه.
وأمكن أن يكون وجه آخر: وهو أن مشركي العرب في حد القليل أمكن المقاتلة معهم والقيام لهم؛ فلا يرضى منهم إلا الإسلام، وأما غيرهم من الكفرة في بقاع مختلفة: فهم كثير، إذا اجتمعوا لم يكن في وسع أهل الإسلام القيام لهم والقتال معهم، فيلحق المسلمين في ذلك ضرر بين؛ لذلك كان ما ذكر.
وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ...) الآية.
قد ذكرنا أنهم وإن كانوا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر عند أنفسهم أنهم - في الحقيقة - غير مؤمنين؛ لأن شرط إيمانهم الإيمان بالرسل جميعًا والكتب أجمع، فهم قد تركوا الإيمان ببعض الرسل، وببعض الكتب، ومن كفر برسول من الرسل، أو بكتاب من الكتب، أو بحرف منها - كان كافرًا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
يحتمل أنهم لا يحرمون تحريف الكتب وكتمان نعت رسول اللَّه، واللَّه حرم ذلك عليهم.
أو لا يحرمون عبادة الأوثان، واللَّه ورسوله يحرم ذلك.
أو لا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله من الخمر والخنزير وغيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ).
وهو الإسلام؛ لأنه دين توجبه العقول كلها، وتشهد به خلقة الخلائق كلها.
أو أن يقول: لا يدينون دين الذي له الحق، إنما يدينون بدين الذي لا حق له، وهو دين الشيطان، وهو ما يدعوهم إلى عبادة الأصنام، فيجيبونه، واللَّه أعلم.
340
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
يحتمل قوله: (يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، أي: يقبلوها، لا على الإعطاء نفسه، وهو ما ذكرنا في قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، هو على القبول لها، لا على الفعل نفسه.
ويحتمل: نفس الإعطاء، وهو - واللَّه أعلم - لما جعلت الجزية لحقن الدماء، فتقدم؛ لتحقن بها الدماء.
وقوله: (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (عَنْ يَدٍ)، أي: لا يؤخر قبضها عن وقت قبولها؛ بل تؤخذ يدًا بيد، وقَالَ بَعْضُهُمْ: عن يد، أي: عن قهر وغلبة.
وقيل: (عَنْ يَدٍ)، أي: عن طوع وطيب.
وقيل: عن جماعتهم.
لكنا لا ندري ما يعنون بالجماعة.
وقوله: (صَاغِرُونَ) قيل: ذليلون، وهو من الذل؛ يقال: صغر الرجل يصغر صغارًا، فهو صاغر، أي: ذل؛ فهو ذليل.
وقيل: (صَاغِرُونَ) أي: مذ مو مون.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يمشون بها متبلين.
وأصله: الذلة، وهو الخضوع - واللَّه أعلم - الذلة التي ذكر اللَّه في قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا)، فإذا قبلوا ذلك، فقد أذعنوا بالذل والصغار.
وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) الآية، أما اليهود والنصارى: فلا خلاف بيهن أهل العلم في أن من بذل منهم الجزية، أخذت منه وأقر على دينه.
وأمّا المجوس: فإنه تؤخذ منهم الجزية؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما أدري ما أصنع بالمجوس فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا من أهل الكتاب قال عبد الرحمن بن عوف: أشهد أني سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".
341
وفي بعض الروايات: أشهد أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر.
وعن علي أن أبا بكر وعمر أخذا الجزية من المجوس. وقال علي ابن أبي طالب: أنا أعلم الناس بهم، كانوا أهل كتاب يقرءونه، وأهل علم يدرسونه، فنزع ذلك من صدورهم. وعن أبي رزين عن أبي موسى قال: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجولس ما أخذتها.
وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المنذر: " من استقبل قبلتنا،
342
وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا - فذلك المسلم الذي له ذمة اللَّه وذمة رسوله، ومن أحبَّ ذلك من المجوس فهو آمن، ومن أبى فعليه الجزية ".
وفي بعض الروايات: " استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن ترك ذلك فعليه الجزية ".
وعلى ذلك مضت الأئمة، ولم ينكر أحد من السلف، حتى قال قوم في المجوس: إنما أخذت منهم الجزية؛ لأنهم أهل كتاب، فأحلوا ذبائحهم ونساءهم، وذهبوا إلى ما روي عن علي.
وقال آخرون: ليسوا من أهل كتاب، ولكن الجزية تؤخذ منهم؛ اتباعًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم "، وما روي عن الصحابة وأئمة الهدى.
ثم المسألة في تقدير الجزية:
روي في بعض الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا ".
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث عثمان بن حنيف إلى السواد، وأمره أن يضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهمًا، وأربعة وعشرين درهمًا، واثني
343
عشر درهمًا.
وفي بعض الروايات أنه ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا وجعل مع ذلك إرزافًا للمسلمين، وضيافة ثلاثة أيام.
وأصحابنا يجعلونهم ثلاث طبقات: أغنياء، وأوساطًا، وفقراء، فيأخذون من الغني
344
الموسر ثمانية وأربعين درهمًا، ومن الوسط أربعة وعشرين درهمًا، ومن الفقير المحترف اثني عشر درهمًا.
وفي بعض الأخبار: أربعين درهمًا وأربعة دنانير، وضيافة ثلاثة أيام وعشرين درهمًا
345
ودينارًا، وهو ما ذكرنا ثمانية وأربعين بغير الضيافة وغير المؤنة.
وما روي من أربعين درهمًا أو أربعة دنانير مع الضيافة والرزق الذي ذكر في الخبر، وهذا من عمر بحضرة المهاجرين والأنصار، فلم يأت عن أحد منهم النكير عليه ولا الرد،
346
فهو كالاتفاق منهم على ذلك.
ثم لا يحتمل أن يكون عمر قدر ذلك التقدير رأيًا منه؛ لأن المقدرات والمحدودات سبيل معرفتها التوقيف والسمع، لا العقل؛ فهو كالمسموع عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
347
وما روي من حديث معاذ حين أمره النبي - عليه السلام - أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم دينارًا، فذلك يحتمل أن يكون أمر بذلك؛ لما كانوا أهل ضعف وفقر، على ما روي عن عمر في الضعفاء من أهل مصر والشام، وليس هو الحد الذي لا يلزم أكثر من ذلك؛ لما ذكرنا أن عمر ألزم المياسير أكثر من دينار، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة؛ فدل فعلهم على ما وصفناه.
ثم المسألة في تمييز أصحاب الطبقات بين الموسر الغني، وبين الوسط والفقير.
قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: من يحترف وليس له مال تجب في مثله الزكاة على المسلمين، وهم الفقراء المحترفون، فمن كانت له أقل من مائتي درهم فهو من أهل هذه الطبقة، والطبقة الثانية: أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم.
فقَالَ بَعْضُهُمْ: إذا بلغ ماله أربعة آلاف درهم وزاد عليها، صار من أهل الطبقة الثالثة، واحتجوا بقول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابن عمر؛ حيث قالا: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما فوق ذلك كنز.
وقد يجوز أن يجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم، وما زاد على ذلك يجعل من الطبقة الثالثة؛ لحديث روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة قال: " من ترك عشرة آلاف درهم، جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة ".
348
ثم في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) دلالة على أن الجزية إنما تؤخذ ممن يجب أن يقاتل إن لم يبذلها، والنساء والصبيان ألا يقاتلون، ولا يفتلن إن ظهر بهم، فلا يجب أن توضع عليهم الجزية بدليل الكتاب؛ إذ كان اللَّه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن يقاتل، وكذلك فعل عمر والأئمة بعده.
روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمراء الجيوش: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، ولا تقتلوا الصبيان والنساء، ولا تقتلوا إلا من جرت عليه المواسي.
وكتب إلى عماله: أن يضربوا الجزية، ولا يضربوها على النساء والصبيان.
وفي بعض الروايات أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ألا تأخذوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، قال: والجزية أربعون درهمًا أو أربعة دنانير.
وفي خبر معاذ دلالة لذلك؛ حيث قال: بعثني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافريًّا.
بين معاذ أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يأخذ ذلك من الرجال دون النساء والصبيان.
349
فَإِنْ قِيلَ: روي عن معاذ: قال: أمرني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن آخذ من كل حالم وحالمة دينارًا.
وفي بعض الروايات عنه أنه قال: أن آخذ من كل حالم ذكرًا أو أنثى دينارًا؛ فإن كان هذا مثبتًا محفوظًا، فهو دليل لما يؤخذ من نصارى بني تغلب، ويكون حكم نساء
350
العرب من أهل الكتاب فيما يؤخذ منهم خلاف نساء العجم منهم.
أو أن يقال: إنه غير محفوظ؛ لما عمل الأمة بخلافه؛ لأن الوفاق قد جرى على أن لا جزية على النساء، ولو كان محفوظًا لظهر العمل به.
أو أن يكون قوله: " خذ من كل حالم وحالمة، دينارًا "، أي: خذ منهما دينارًا ولا
351
تأخذ من كل واحد دينارًا؛ كقوله: " لكل سهو سجدتان لا يلزمه أكثر من ذلك ".
ثم نذكر مسألة ليس في الآية ذكرها، وهي أن الجزية إذا ضربت، فدخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها - أخذت منه للسنة الثانية، ولم تؤخذ للسنة الأولى الماضية، ليس كسائر الديون؛ لأن مجوسيًّا لو أسلم بعد مضي السنة لم يطالب بجزية العام الماضي، فلو كانت كسائر الديون لطولب بها المسلم كما يطالب بمال يكون عليه إذا أسلم أو بقي على مجوسيته، فلما لم يطالب، دل أنه ليست كسائر الديون.
فَإِنْ قِيلَ: أليس الخراج يطالب به من أخره من سنة إلى سنة؟!
قيل: ليست الجزية مثل الخراج؛ لأن الخراج يجب على المسلم في أرضه، فهو كسائر الديون.
فَإِنْ قِيلَ: إن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة، طولب بالجزية للسنة الماضية.
قيل: روي عن عمر أنه رفع الجزية بالإسلام، فقال: واللَّه، إن في الإسلام لمعاذًا إن فعل ترفع عنه الجزية.
وروي في بعض الأخبار عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ليس على مسلم جزية "، فمن طالبه بالجزية بعد الإسلام، فقد خالف الخبر.
فَإِنْ قِيلَ: إنما يزول عن المسلم ما كان عليه من الجزية في حال كفره؛ لأنه صار إلى حال لا يجوز أن توضع عليه ابتداء.
352
قيل: إن الذمي إذا اجتمع عليه الجزية سنتين، فصار إلى حال لا يجوز أن يلزم في الابتداء في مثلها أكثر من اثني عشر درهما لفقره - لم يجز أن يلزم أكثر منها؛ لأنه جعل حكم مستدبر الجزية التي وجبت، فأسلم صاحبها حكم الابتداء في توظيف الجزية عليه، فوجب أن يجعل حكم مستدبر من أتت عليه سنتان حكم ابتدائه، وأصله أن الجزية إنما جعلت لحقن الدم، فإذا مضت سنة، صار دمه محقونا في السنة الماضية؛ لذلك لم تؤخذ.
وقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) إلى آخره.
تضمنت هذه الآية أحكامًا: منها الأمر بقتال من لم يؤمن باللَّه واليوم الآخر، وهم يقرون بالأمرين، لكنه يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم مشبهة من تشبيههم اللَّه بخلقه احتمل قولهم القول له بالولد؛ إذ الذين شهدوا من الخلائق على ذلك وجدوا بولد بعض من بعض، وإذا كان كذلك فهو غير مؤمن - في الحقيقة - باللَّه الذي هو الحق حتى يؤمنوا به، وأنه به تكون الآخرة دون الذي ادعوه.
والثاني: أن الذي جبل عليه الخلق هو تعظيم رسل الملوك وأجلتهم حتى يوجد من بر الرسل بين ملوك قد ظهرت بينهم العداوة، فلما كذبوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع البراهين التي قد أعجزت الخلائق، وشهادة كتبهم به، وتظاهر من عرفوا أنهم يكذبون بكتبهم وبرسلهم على من صدق بذلك - ثبت أنهم في الحقيقة مكذبون جميع الرسل والكتب وإن أظهروا الوفاق، وأن ذلك لا يكون إلا لتكذيب منهم باللَّه؛ فعلى ذلك إيمانهم باللَّه يكون بإيمانهم بالرسل، وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وفد عبد قيس أنه قال: " آمر بأربع: آمركم بالإيمان باللَّه "، ثم قال: " أتدرون ما الإيمان باللَّه؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه "؛ فلذلك لم يكن إيمانهم باللَّه إيمانَا حتى يؤمنوا برسول اللَّه، وعلى هذا يحاربون.
والثالث: أن يكون نفى عنهم الإيمان بنفي منفعة الإيمان عنهم؛ إذ أقل المنفعة به الإيمان برسله، والقبول عنهم بالتعظيم، فإذا ظهرت منهم هذه المنفعة تركوا القتال.
353
ثم الترك على قبول الجزية جائز، وإن كان الأمر قد تقدم بالقتل من غير أن يكون دليل، إما لأجل ذلك المال نقاتل، كما كتب على كل نفس الموت.
ثم قد يتركون على ما هم عليه من اختلاف الأديان وتفرق الأهواء، وإن كان لا يدل ذلك على الإقرار بما هم عليه، والرضا بما اختاروا، فمثله في الأول لا يدل على الرضا بكفرهم، ولا على القتال لأخذ تلك الأموال منهم.
ثم الأصل أن القتال لم يجعل ليكون القتل، عقوبة للكفر؛ إذ نوع القتل ومعناه قد يوجد في الأخيار والأشرار جميعًا، وهو الموت ثبت أنه لم يجعل لذلك، ولكن لوجهين: أن يضطرهم إلى الإجابة على ما فيه نجاتهم وبه نيل كرامة الأبد، وكان ذلك بعد أن ألزمناهم كل أنواع الحجج، فلم يقنعهم، قاتلناهم بما كان الذي يمنعهم عن النظر في الحجج حب اللذات وألذها الحياة، قاتلنا حتى ييأسوا عن تلك اللذة المانعة عن النظر في الحجج، والصادة عن الإجابة فتزول عنهم.
وفي قبول الجزية - قيل - بعض الذل والصغار الذي تنفر عنه الطباع، ويدعو إلى ما فيه الزوال، فينظرون في الحجج، ويقبلون ما دعوا إليه؛ فتكون به نجاتهم، وزيادة لنا في الكرامة.
والثاني: أن المحن كلها منقسمة على الحسنات والسيئات، والخيرات والشرور؛ ولذلك جعل الموت والحياة، وعلى ذلك جميع أمور الدنيا هو التقلب على مختلف الأحوال، فمثله الدعاء إلى الإسلام يكون مرة بمحاجة إليه، ومرة باللسان، ومرة بالترك، لا أن جعل شيء من ذلك لشيء، ولكن بما عليه أمر المحن؛ ليتذكر به وجود الموعود بالآثار له في أحوال المحن، فعلى هذا أمر القتال في قوم، والعفو عن قوم، والدعاء إلى الإسلام في قوم، وإلى قبول الذل في قوم على ما في علم اللَّه من المصلحة، وعلى ما عليه حق الحكمة.
ثم الفرق بين مشركي العرب وغيرهم يخرج على وجوه:
أحدها: أنهم قد كانوا أقسموا باللَّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فجاءهم، فكذبوه، ثم أقسموا لئن جاءهم نذير ليؤمنن به، فجاءتهم آيات
354
فلم يؤمنوا، فاستوجبوا القتال إلى أن يفوا بالعهد الذي سبق، والقسم الذي جهدوا به، وليس غيرهم هكذا.
أو على قوله: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ...) الآية، فبين الإياس عن إيمانهم إلا أن يشاء اللَّه، فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: الإياس عن إيمانهم.
وقبول الجزية ليخالطوا أهل شريعة اللَّه، فيسمعوا منهم الحجج، ويعاينوا الأفعال المحمودة في العقول، والأخلاق الكريمة التي جاء بها الرسول فيؤمنوا، وهَؤُلَاءِ قد أيأس اللَّه من إيمانهم، وأخبرهم أنهم ييأسون أبدًا؛ فلذلك لم يعط لهم عهد، وعلى ذلك ظهر نقضهم العقود مرة بعد مرة، واللَّه أعلم.
والثاني: أنه استثنى فيهم ألا يؤمنوا بالآيات إلا أن يشاء اللَّه، فلعل اللَّه شاء أن يكون إيمانهم بالقتال خاصة، ففرض فيهم ذلك إلى أن يؤمنوا.
ووجه آخر: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو بعث فيهم ومنهم؛ فأوجبت لهم الفضيلة به ألا يقبل منهم غير الإيمان، كما فضلت البقعة التي فيها بعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ومنها ألا يترك فيها غير المؤمن تفضيلا.
ووجه آخر: أنهم قوم ليس لهم أسٌّ، ولا أئمة في الدِّين إليهم يرجعون في التأسيس، ومعلوم أن لا قوام في العقول لأمر الدِّين إلا بالأئمة؛ كالسياسات كلها والأمور فيها القوام من الملك وغيره؛ بل إنما كانوا جروا على عادتهم، وقاتلوا خن القبائل فلا يرجعون - في الحقيقة - إلا إلى عادة خارجة عن التدبير، وغيرهم يرجعون إلى مذاهب أسست مما أسس أمر الديانات، فقد تعلقوا بضرب من ذلك، فتركوا إذا خضعوا وأذعنوا لهم بحق التبع، فيتركون رجاء أن يتأملوا؛ إذ لكل مذهب نظر، وليس لأُولَئِكَ سوى العادة وتقليد الآباء، ومن ذلك وصفه لا ينظر فيمهل للنظر، واللَّه أعلم.
وأيضًا: إن لسائر المذاهب أصول يكثر أهلها، وفي الإقامة على القتال إلى الفناء
355
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
ألا ترى أنه قال في الآية التي تتلو هذه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)، قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللَّه في غزوة تبوك؛ كقوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ...) الآية، فيفهم ذكر ذلك الوعيد.
368
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في المؤمنين؛ أمروا أن ينفروا في سبيل اللَّه.
(اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ).
قيل: استثقلتم النفر في سبيل اللَّه وأقمتم.
ويحتمل التثاقل: هو أن يروا من أنفسهم الثقل من غير أن أقاموا؛ كما يقال: يتصامم ويتعامى، من غير أن كان به الصمم والعمى، ولكن لما يرى من نفسه ذلك.
وقال بعض أهل الأدب: قوله: (اثَّاقَلْتُمْ).
أي: تثاقلتم وركنتم إلى المقام، وذلك في القرآن كثير؛ كقوله: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) أي: تداركوا.
وقوله: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).
أي: ما متعكم في الدنيا قليل بما وعد أن يمتعكم في الآخرة.
أو أن يقال: متاع الحياة الدنيا من أولها إلى آخر ما تنتهي قليل من متاع الآخرة وكراماتها؛ لأن كرامات الدنيا على شرف الزوال، وكرامات الآخرة على الدوام أبدًا.
أو أن يقول: متاع الحياة الدنيا قليل من متاع الآخرة؛ لأن متاع الدنيا ومنافعها تشوبه الآفات والمضرات، ومتاع الآخرة لا تشوبه الآفات والمضرات.
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) الآية.
عاتب المؤمنين بالتثاقل بالخروج إلى الأرض، ونهاهم عن الركون إلى الدنيا.
370
وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).
أي: لما أحدث أُولَئِكَ الملوك من تحليل ما حرم اللَّه، وتحريم ما أحل اللَّه زيادة في كفر أُولَئِكَ أحدثوا من وقت إحداثهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا).
يحتمل وجهين:
يحتمل: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: يهلك به الذين كفروا، أي: الذين أحدثوا.
ويحتمل: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: ما أحدثوا أُولَئِكَ الملوك إنما أحدثوا؛ ليضلوا به الأتباع (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) على ما ذكر في القصة أنهم كانوا يستحلون المحرم عاما فيصيبون فيه الدماء والأموال، ويحرمونه عامًا فلا يستحلون فيه الدماء والأموال.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، قيل: ليوافقوا عدد ما حرم اللَّه؛ كان عندهم أن التحريم إنما كان لعدد الأشهر لا للأشهر؛ لما في الأشهر، فحفظوا عدد الأشهر، ولم يحفظوا الوقت، وذلك تأويل قوله: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) أي: زين تأخير المحلل وتقديم المحرم (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
قيل: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ولا يهديهم في الآخرة طريق الجنة؛ لكفرهم في الدنيا، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: النسيء: التأخير؛ يقال: نسأت الشهر، أي: أخرته، ويقال: أنسأ اللَّه في أجلك، أي: أخره اللَّه.
وقوله: (لِيُوَاطِئُوا).
المواطأة: أن يدخلوا شهرًا مكان شهر، وهو التتابع؛ يقال: تواطأ القوم على حديث كذا وكذا، أي: تتابعوا، وواطأت فلانًا، أي: تابعته.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: النسيء: التأخير، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم منها سنة، ويحرمون
371
ألا ترى أنه قال في آخره: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
وقوله: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا).
هو ما ذكرنا، أي: لا تضروا رسول اللَّه بالتخلف عنه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تضروا اللَّه شيئًا.
والأول أشبه؛ لما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) يقول: إن لم تنصروا رسول الله فاللَّه ينصره، على ما نصره في الوقت الذي كان في الغار، لم يكن معه أحد من البشر إلا واحد، فإن لم تنصروه فاللَّه كافيه في النصر، على ما كفاه ونصره في الحال التي لم يكن معه من البشر أحد إلا واحد، فاليوم لا ينصره ومعه من الأنصار والأعوان ما لا يحصى؟!
وكان ما استنفرهم رسول اللَّه وأمرهم بالخروج إلى العدو، لم يكن يستنفرهم لمكان نفسه؛ إذ يعلم أن اللَّه كافيه في نصره، ولكن إنما كان يستنفرهم ويأمرهم بالخروج لمكان أنفسهم؛ ليكتسبوا بذلك قربًا وثوابًا عند اللَّه وزلفى؛ ألا ترى أنه قال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، وقال: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا)، أي: إن لم تنفروا ولم تنصروا رسول اللَّه فلا تضروه شيئًا؛ إذ اللَّه كافيه في نصره.
وإِنَّمَا عاتبهم بترك النفر والخروج؛ لئلا يركنوا إلى الدنيا، ولا يرضوا بالحياة الدنيا من الآخرة على ما ركن أُولَئِكَ الكفرة؛ لأن ركونهم إلى الدنيا وحبهم إياها هو الذي منعهم عن اتباع مُحَمَّد، وهو الذي حملهم على الكفر باللَّه، والتكذيب لرسوله، وترك الإجابة له فيما يدعوهم إليه، فيقول - واللَّه أعلم - للمؤمنين: ولا تركنوا إلى الدنيا، ولا ترضوا بها من الآخرة؛ ليمنعكم ذلك عن النفر والخروج إلى ما يأمركم رسول اللَّه، على ما منع أُولَئِكَ الكفرة؛ على ما ذكرنا.
وأصله: أنه إنما استنصرهم لا لحاجة له إلى نصرهم؛ إذ هو قادر أن ينصر رسوله بما شاء، لكن طلب منهم النصر له؛ ليكتسبوا بذلك ثوابًا لأنفسهم، وذكرًا في الأجل، وكذلك ما طلب منهم الشكر له على نعمه، لا لحاجة له في ذلك، ولكن ليستديموا النعمة، ويصلوا إلى الباقية الدائمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
373
أي: اضطروه إلى الخروج حين هموا بقتله، حتى خرج من بين أظهرهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).
ثاني اثنين، أي: لم يكن معه من البشر إلا واحد؛ ليعلموا أن النصر لم يكن بأحد من البشر، إنما كان باللَّه - تعالى - إذ بالواحد لا تكون النصرة والحفظ من ألوف، يذكر فضل أبي بكر، وكان هو ثانيه في كل أمره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) لم يكن حزن أبي بكر خوفًا على نفسه، ولكن إشفاقًا على رسول اللَّه أن يصاب، وكذلك روي في الخبر أنه قال لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: يا رسول اللَّه، إنك إن تُصبْ يذهب دين اللَّه، ولن يعبد اللَّه على وجه الأرض.
وفي بعض الأخبار أن أبا بكر كان يبكي إشفاقًا على رسول اللَّه، فقال له رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ما يبكيك؟ "، فقال له: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين ثالثهما اللَّه ".
وقيل: إنهما لما أتيا باب الغار سبق أبو بكر فدخل الغار، وكان الغار معروفًا بالهوام، فألقمها أبو بكر قدميه، فأطال ذلك، فقال: إن كان فيه شيء بدا لي، أو كلام نحو هذا - واللَّه أعلم -.
وقوله، (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): ليس بنهى عن الحزن والخوف على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن على تخفيف الأمر عليه وتيسير الحال التي هو عليها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).
قيل: أنزل سكينته على أبي بكر حين قال له رسول اللَّه: " ما ظنك باثنين ثالثهما
374
اللَّه؟! "، حتى سكن قلب أبي بكر من الحزن والخوف على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أنزل السكينة على رسول اللَّه؛ فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه أنزل السكينة عليه حتى رأى هو جنودًا لم يروها هم؛ حيث قال: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا).
والثاني: أنزل سكينته بالحجج والبراهين، لكنه إن كان ما ذكر، فهو قد أنزل السكينة عليه في البدء؛ لأنه كان رسول اللَّه لا يخاف سوى اللَّه، ويعلم أنه ينصره، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ قال: فأنزل اللَّه، سكينته على أبي بكر؛ لأن النبي لم تزل السكينة معه؛ وهو أشبه.
وقوله: (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا).
يحتمل: في ذلك الوقت.
ويحتمل: في الغزوات التي نصره بالملائكة يوم بدر وغيره؛ يخبر أنه قادر أن ينصره لا بالبشر؛ ليعلموا أنه إنما يأمرهم بالنصر، لا لنصر رسول اللَّه، ولكن ليكتسبوا بذلك ما ذكرنا من الثواب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا).
يحتمل (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا): وهو ما مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهموا بقتله جعل مكرهم ومكيدتهم واجتماعهم على ذلك هي السفلى وكلمة اللَّه هي العليا.
أي: مكر اللَّه بهم، ونصرة رسوله هي العليا؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) الآية.
ويحتمل قوله؛ (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا): دينهم الذي يدينون به، ومذهبهم الذي ينتحلونه.
(السُّفْلَى)، أي: جعل ذلك السفلى بالحجج، وجعل دين مُحَمَّد هو العليا بالحجج والبراهين على ذلك ما كان.
375
يحتمل قوله: (وَقِيلَ اقْعُدُوا): لما استأذنوا رسول اللَّه بالقعود، أذن لهم في ذلك؛ على ما وقع عنده أن لهم عذرًا في ذلك.
وإن كان من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو على التهديد والوعيد.
ويحتمل أن يكون من الشيطان، وسوس إليهم أن اقعدوا؛ ترغيبًا منه إياهم بالقعود والتخلف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
قوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ)، أي: لو كانوا خرجوا فيكم؛ ألا ترى أنه قال: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)؛ دل هذا أنهم لم يكونوا خرجوا، ولو كانوا خرجوا لم يكن يثبطهم، دل أنه ما ذكرنا.
والانبعاث: هو الخروج، وكذلك في حرف ابن مسعود: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ).
والتثبيط: الحبس، وأصل التثبيط: التثقيل.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الانبعاث: هو القيام، والخبال: قيل: الفساد والشر.
وقيل: الغي، وهو واحد.
وقوله: (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)، يحتمل زيادة الخبال وجوهًا:
يحتمل: أن يكونوا عيونًا للعدو، ويخبروهم عن عورات المسلمين، أو كانوا يجبنون أهل الإسلام؛ كقولهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ) قيل: هو من إيضاع الإبل (خِلَالَكُمْ) يتخلل فيما بينكم.
وقيل: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ).
أي: رواحلهم حتى يدخلوا بينكم حتى لا يصيبهم الأذى، كانوا يستترون بالمسلمين؛ لئلا يصيبهم شيء من البلاء والشدة.
381
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ): من الوضع، وهو سرعة السير.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو من الإيضاع يكون على الإبل.
وهو عندي من عدو الإبل، يقال: أوضعت البعير، وركضت الفرس، وأجريت الحمار.
(خِلَالَكُمْ): بينكم.
وقيل: الخلال: القتال، وهو ما ذكرنا أنهم يدخلون فيهم النقصان والقتال والفشل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).
قيل: يبغون منكم الفتنة، وهو الشرك الذي كانوا هم عليه.
ويحتمل ما ذكرنا من القتل، وإدخال الفشل والجبن فيهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ).
هذا يحتمل وجهين أيضًا:
يحتمل: أن هَؤُلَاءِ المنافقين يكونون سماعًا لهم وخبرًا وعيونًا، يخبرونهم عن عورات المسلمين وضعفهم.
ويحتمل قوله: (وَفِيكُمْ): من المؤمنين.
(سَمَّاعُونَ لَهُمْ)؛ لأنه قيل: إنه كان من أصحاب النبي أهل محبة لهم وطاعة؛ لشرفهم فيهم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ): كان الرجل يرى الجماعة من المسلمين فيضرب دابته حتى يدخل بينهم، ثم يقول: أبلغكم ما بلغني؛ إن العدو أمامكم قد غوروا المياه، وفعلوا كذا، وهيئوا.
ويحتمل قوله: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: فيكم من المنافقين الذين قعدوا ولم يخرجوا يسمعون المؤمنين الذين لم يخرجوا -أيضًا- ما يكرهونه يقولون: الدبرة على المؤمنين، ونحو ذلك من الهزيمة.
وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
أي: لا عن جهل أمهلهم على ما هم عليه، ولكن أخرهم ليوم؛ كقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ
382
اللَّهَ غَافِلًا...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (٤٨) تحتمل الفتنة الوجهين اللذين ذكرتهما.
وقول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ).
أي: تكلفوا واجتهدوا ليطفئوا هذا النور، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) قيل: دين الله الإسلام.
ويحتمل: حجج اللَّه وأدلته، وهو ما ذكر: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ).
ويحتمل قوله: (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ): ظهرًا لبطن؛ ليمكروا برسول اللَّه، ويقتلوه؛ كقوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ...) الآية، وقوله: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) ما ذكرنا من دين اللَّه وحججه، (وَهُمْ كَارِهُونَ) لذلك؛ كقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، فظهر دين الإسلام وهم كارهون له.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٤٩)
فيه دلالة أنه لا كل المنافقين قالوا، إنما قال ذلك بعضهم، وبعضهم قالوا غير هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَفْتِنِّي).
قيل: لا تؤثمني.
وقيل: ولا تخرجني.
وقيل: ولا تكفرني، والكل واحد، يقول: ومنهم من قال: ولا تفتني، أي: لا تكن سبب فتنتي ومعصيتي، أي: لا تأمرني بالخروج، ولكن ائذن لي بالقعود؛ لأنك إن
383
أمرتني بالخروج ولم تأذن بالقعود والتخلف فقعدت وتخلفت، كنت عاصيًا، تاركًا لأمرك، فكنت أنت سبب عصياني وفتنتي.
والثاني: قوله: (وَلَا تَفْتِنِّي)، أي: لا تأمرني المشقة والشدة، ولكن الدعة والسعة والرخاء حيث كانوا مالوا إليهم؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ...) الآية يقول: لا تكن سبب إثمي وانقلابي.
ومنهم من قال: إن رجلًا منهم يقال له: الجد بن قيس قال: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمال، ففيه نزل قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)، وهو قول ابن عَبَّاسٍ؛ يقول: لا تأمرني بالخروج؛ فإني مولع بالنساء، لا أصبر إذا رأيتهن.
ولا ندري كيف كانت القصة، لكن الوجوه فيه ما ذكرنا آنفًا.
وقوله: (وَلَا تَفْتِنِّي)، أي: ولا تمتحني بالمحنة التي فيها الهلاك والمشقة، فقال: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: ألا في المشقة والفتنة والبلاء والهلاك سقطوا؛ وهذا يدل أن أهل النفاق هم كفرة.
وقوله: (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: ألا في الشر والإثم سقطوا؛ على تأويل من تأول قوله: (وَلَا تَفْتِنِّي): لا تؤثمنى، ولا تخرجني.
وعلى تأويل من قال: (وَلَا تَفْتِنِّي): لا تشق على، ولا تأمرني بالمشقة والشدة والضيق، يقول: ألا في الشدة والضيق يسقطون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).
أي: تحيط بهم حتى لا يجدوا منقذا ولا مخلصًا.
أو تحيط بهم من تحت ومن فوق، وأمام وخلف، ويمين وشمال، تحيط بهم حتى تصيب كل جارحة منهم؛ كقوله: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ...)، أخبر أنها تحيط بهم.
وفيه دلالة: أن المنافقين هم كفار؛ لأنه ذكر في أول الآية صفة المنافقين، ثم أخبر أن جهنم تحيط بالكافرين.
384
كان من الخوارج، وهو الذي قتله علي بن أبي طالب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (٥٩)
ما آتاهم اللَّه من الرزق، ورسوله من الصدقات.
(وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
أي: من دينه ورسوله، وقالوا: حسبنا اللَّه، كان خيرًا لهم مما طمعوا في هذه الصدقات، وطعنوا رسول اللَّه في ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لو رضوا ما آتاهم اللَّه ورسوله من فضله مما رزق لهم، لكان خيرًا لهم مما فعلوا.
وقال بعض أهل التأويل: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، أي: من الصدقات التي كان أعطاهم رسول اللَّه منها وإلى اللَّه رغبوا، لكان خيرًا مما طمعوا في تلك الصدقات، وطعنوا رسول اللَّه، وسخطوا عليه.
ويقرأ (ويلمُزك): برفع الميم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: اللمز: العيب؛ يقال له: لماز ولامز، وهماز وهامز.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَلْمِزُكَ)، أي: يعيبك ويطعن عليك؛ يقال: همزت فلانًا ولمزته: إذا اغتبته وعبته، وكذلك قول اللَّه: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ... (٦٠)
يشبه أن تكون الآية في بيان موضع الصدقة؛ على ما تقدم من الذكر بقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا...) الآية، ما ذكر أن المنافقين كانوا يأتون رسول اللَّه، يسألونه من الصدقات، فإن أعطاهم رضوا عنه، وإن لم يعطهم طعنوا فيه، وعابوا عليه، فبين أن الصدقات ليست لهَؤُلَاءِ، ولكن للفقراء من المسلمين، والمساكين من المسلمين، وكذلك ما ذكر من الأصناف:
392
المكاتبين والغارمين... أنها لهَؤُلَاءِ من المسلمين، لا لهم.
396
ويدل على ذلك ما جاء من الأخبار: ورُويَ عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع صدقات بأعيانها حملت إليه في صنف واحد مثل: ما روي أنه أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى فلانًا كذا.
ورُويَ عن الصحابة أنهم وضعوا الصدقة في صنف واحد.
398
وروي عن حذيفة أنه قال: هَؤُلَاءِ أهلها، ففي أي صنف وضعتها أجزأك.
وعن ابن عَبَّاسٍ أنه قال كذلك.
وعن عمر: أنه كان إذا جمع صدقات الناس، المواشي والبقر والغنم، نظر ما كان منتجة للبن، فيعطي لأهل البيت على قدر ما يكفيهم، فكان يعطي العشرة شاة للبيت الواحد، ثم يقول: عطية تكفي خير من عطية لا تكفي، أو كلام نحو هذا.
وقد روي عنه أنه سئل عن ذلك، فقال: واللَّه، لأردن عليهم الصدقة حتى يروح على أحدهم مائة ناقة، أو مائة بعير.
399
وعن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بصدقة، فبعثها إلى أهل بيت واحد.
هَؤُلَاءِ نجباء الصحابة استجازوا وضع الصدقة في صنف واحد، ولو كان حق كل صدقة أن تقسم بين هَؤُلَاءِ الأصناف الذين ذكر بالسوية على ما قال القوم، لكان قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من معهم من الأصناف، كما يقال: الميراث لقرابة فلان، أي: ليس للأجنبيين في ذلك حق، ولا يقال: الميراث بين قرابة فلان؛ لأن لكل في ذلك حقا؛ لأن حرف " بين " يقتضي التسوية بجميعهم، وقوله: " لهم " يقتضي أنه لا حق فيه لغيرهم.
ألا ترى أنه يقال: الخلافة لولد العباس، يراد أنه لا حظ فيها لغيرهم، والسقاية لبني هاشم، ونحوه، ليس يراد ذلك بينهم بالتسوية، وإنما يراد ذلك أن لا حق لغيرهم فيها؟!
وبعد، فإنه لو كان في الآية: إنما الصدقات بين الفقراء وبين من ذكر معهم، لكان لا يجب قسمة كل صدقة بين هَؤُلَاءِ الأصناف المذكورة في الآية؛ لأنه ليس للصدقات انقطاع، بل لها مداد إذا دفع صدقة واحدة إلى صنف واحد، فإذا أتى بصدقة أخرى دفع إلى صنف آخر، هكذا يعمل في الأصناف كلها.
وبعد، فإنه لم يذكر عن أحد من الأئمة أنه تكلف طلب هَؤُلَاءِ الأصناف فقسمها بينهم، وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال أنهم دفعوا صدقة واحدة بين هَؤُلَاءِ الذين ذكر؛ فدل أنه خرج على ما ذكرنا؛ لأنه لو كان على تسوية كل صدقة بينهم، لم يجز ألا يقسموها كذلك ويضيعون حق البعض من هَؤُلَاءِ.
400
وبعد، فإنه لو تكلف الإمام أن يظفر بهَؤُلَاءِ الثمانية ما قدر على ذلك، دل أنه لم يخرج الخطاب على توهم خصومنا.
ولأن الحق لو كان التسوية بينهم في كل صدقة، لكان إذا لم يجد في بلدة مكاتبين أو واحدا من هَؤُلَاءِ الأصناف، فيجب أن يسقط مقدار حصة من لم يجد عن أربابها، فذلك بعيد؛ فقد جاء في الخبر أنه بعث معاذًا إلى اليمن، فقال له: " خذ من أغنيائهم ورد في فقرائهم ".
ويكره إخراج صدقة كل بلد إلى غيره من البلدان.
401
ثم تحتمل الآية جميع الصدقات التي يتصدق بها على الفقراء والمساكين من الفيء وغيره، فبين أن هَؤُلَاءِ موضع لذلك كله، من نحو قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وقوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
ويحتمل زكاة الأموال المفروضة، والوجه فيه ما ذكرنا.
فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل إذا أوصى فقال: ثلث مالي لفلان وفلان وفلان، أليس هو مقسومًا بينهما بالسويّة؟ ما منع أن الأول بمثله؟
قيل: لا تشبه الصدقات الوصايا؛ وذلك أن الوصية إنما وقعت في مال معلوم، لا يزيد فيه بعد موت الميت شيئًا، ولا يتوهم له مدد، والصدقات يزيد بعضها بعضًا، وإذا فني مال جاء مال آخر، وإذا مضت سنة جاءت سنة أخرى بمال جديد، فإذا دفع الإمام صدقة جميع ما عنده إلى الفقراء ثم حضره غارمون فتحمل إليه صدقة أخرى يجعلها فيهم، فيصلح بذلك أحوال الجميع؛ لما لا انقطاع للأموال إلى يوم القيامة.
وكيف تقسم الصدقة على ثمانية أسهم؟ ولا خلاف في أن للعاملين بقدر عمالتهم زاد ذلك على الثمن أو نقص منه، فإذا زالت القسمة في أحد الأصناف زالت في الجميع، فأعطي كل صنف منهم بقدر حاجته كما أعطي العاملون، وكيف يصنع بسهم المؤلفة قلوبهم وقد ارتفع ذلك ونسخ؟ وعلى ذلك جاء عن بعض الصحابة، من نحو أبي بكر وعمر أنهم لم يعطوهم شيئًا، أليس يرد ذلك على سائر السهام؟! فإذا جاز أن يزاد على الثمن في وقت، جاز أن ينقص منه في وقت.
وفي قوله: (وَالْعَامِلِينَ) دلالة أن لا بأس للأئمة والقضاة أخذ الكفاية من بيت المال، ولكل عامل للمسلمين أخذ كفايته ورزقه من ذلك إذا فرغ نفسه لذلك، وكفها عن
402
غيره من المنافع والأعمال.
ثم اختلف في الفقراء والمساكين؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم من المهاجرين؛ كقوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)، والمساكين: من الذين لم يهاجروا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقير: الذي به زمانة، والمسكين: الذي ليست به زمانة، وهو محتاج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقراء: هم المتعففون الذين لا يخرجون ولا يسألون الناس؛ كقوله - تعالى -: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) والمساكين: هم الذين يسألون، وكذلك قال الحسن.
وعن عمر قال: ليس المسكين الذي لا مال له، ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين: الطوافون. وهو قريب مما قاله الحسن.
وعن الأصم قال: الفقير: الذي لا يسأل، وهو ما ذكرنا بدءًا، والمسكين: الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى.
وروي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - برواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان " قيل: فما المسكين يا رسول اللَّه؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه، ولا
403
يقوم فيسأل الناس ".
فهذا لو حمل على ظاهره لدفع قول من قال: إن المسكين هو الذي يسأل الناس، ولكن يجوز أن يكون معناه - واللَّه أعلم - أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينًا، فإن الذي لا يسأل أشد مسكنة منه، ولا يحمل على غير ذلك؛ لأن اللَّه قد سمى الذين لا يسألون الناس فقراء، ولا يجوز أن يجعل الحديث مخالفًا للآية ما أمكن أن يكون موافقًا لها؛ قال اللَّه - تعالى -:
(يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦).
فقوله (ذَا مَقْرَبَةٍ) قيل: هو الذي لا حائل بينه وبين التراب لفقره؛ فدل بذلك - والله أعلم - على أن المسكين هو الشديد الفقر، والفقير هو الذي لا يملك شيئًا، ولم يبلغ في الفقر والضرورة حال المسكين، ويدل لذلك قول عمر: ليس المسكين من لا مال له، ولكن المسكين من لا مكسب له؛ كأنه يقول: إن الذي لا مال له وله مكسب هو فقير، والمسكين أشد حالًا من الفقير، وليس له مال ولا مكسب.
وإن حمل قول النبي - عليه السلام -: " ليس المسكين الذي يسأل، ولكن المسكين الذي لا يفطن له ولا يسأل " على أن ذلك الذي لا يفطن به هو أشد مسكنة من الآخر، وإن كان الآخر مسكينًا -أيضًا- كان موافقًا للمعنى الذي ذكرنا؛ لأنا قلنا: إن المسكين هو الشديد الفقر، وقد يكون فقيرًا وإن لم يبلغ به الضر مبلغ الضر الأول.
وقد يخرج قول من قال: إن المسكين الذي يخرج هذا المخرج؛ لأن من شأن المسلم الفقير أنه يتحمل ما كانت له حيلة، ويتعفف، ولا يخرج فيسأل وله حيلة فخروجه يدل على شدة ضيقه، وعلى الزيادة في سوء حاله، فكان القولان جميعًا يرجعان إلى معنى واحد.
وإذا كان الفقير أحسن حالا من المسكين لما ذكرنا، فقد يجوز أن تدفع الصدقة إلى من له مال قليل؛ لأنه فقير، وإن لم يكن حاله في فقره حال المسكين الذي لا يملك شيئًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا).
اختلف فيه:
404
قَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم الثمن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر عمالتهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يعطى لهم قدر كفايتهم وعيالهم.
أما قول من قال: يعطى لهم الثمن: فلا معنى له؛ لما يجوز ألا يبلغ الثمن الوفاء أو عمالته لا تبلغ عشر عشر ذلك.
ومن قال: يعطى لهم قدر كفايتهم وكفاية عيالهم، فهو - واللَّه أعلم - إذا كان هو يسلم نفسه لذلك واستعمله الإمام في جميع أمور المسلمين، فإذا كان كذلك يعطى له عند ذلك الكفاية له ولعياله، وأما إذا تولى شيئًا من تلك العمالة في وقت، فيعطي له الكفاية فلا.
والأشبه عندنا: أن يعطى لهم قدر عمالتهم، وهكذا الإمام إذا استعمل أحدًا في عمل من أعمال اليتيم فإنه يعطى له قدر أجر عمله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ).
قد ذكرنا فيما تقدم أنه - عليه السلام - كان يعطي الرؤساء من المنافقين من الصدقات، يتألف به قلوبهم ليسلموا؛ على ما روي أنه كان يعطي فلانًا مائة من الإبل، وفلانًا كذا.
روي أنه قسم ذهبة أو أديمًا مقروطًا، بعثها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من اليمن، بين الأقرع بن حابس وبين فلان وفلان.
والحديث في هذا كثير أن النبي كان يخص به الرؤساء منهم بالصدقة يتألفهم، والإسلام في ضعف وأهله في قلة، وأُولَئِكَ كثير ذوو قوة وعدة، فأما اليوم فقد كثر أهل
405
الإسلام، وعز الدِّين، وصار أُولَئِكَ إذ لا يحمد اللَّه، فقد ارتفع ذلك وذهب " إذ قوي المسلمون وكثروا، فيقاتلون حتى يسلموا، وعلى ذلك جاء الخبر عن أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عنهما - فدل على ما ذكرنا.
روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالا: يا خليفة رسول اللَّه، إن عندنا أرضًا سبخة، ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعناها، فأقطعنا إياها، وكتب لهما عليها كتابًا، وأشهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر ليشهداه، فلما سمع عمر ما في الكتاب، فتناوله من أيديهما، ثم نظر فيه، فمحاه، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة، فقال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، وإن اللَّه - تعالى - قد أعز الإسلام، اذهبا فاجهدا
جهدكما، لا أرعى اللَّه عليكما إن رعيتما.
ونحن نذهب إلى هذا الحديث؛ لأن أبا بكر لم ينكر على عمر قوله وفعله، فصار ذلك وفاقًا منه له، فكفى بقولهما حجة لنا.
ولنا في ذلك وجهان من الحجج:
أحدهما: أن النبي - عليه السلام - كان يعاهد قومًا وهو إلى مداراتهم ومعاهدتهم محتاج؛ لما ذكرنا من قلة أهل الإسلام وضعفهم، فلما أعز اللَّه الإسلام وأكثر أهله ردّ إلى أهل العهود عهودهم، ثم أمر بمحاربتهم جميعًا.
والثاني: ما قال اللَّه - تعالى -: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)، فكانت الحال الثانية التي عز فيها الإسلام وقوي أهله وعزوا
406
مخالفة للحال الأولى في هذه الأشياء، فكذلك أمر المنافقين جائز الرضا في الحال الأول محظور في الحال الثانية، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلالة جواز النسخ بالاجتهاد؛ لارتفاع المعنى الذي به كان؛ ليعلم أن النسخ قد يكون بوجوه.
وفي خبر أبي بكر، وعمر - رضي اللَّه عنهما - دلالة أن إذن الإمام شرط في إحياء الأرض الموات التي لا تملك إلا بالإذن؛ لأن ذَيْنَك الرجلين اللذين أتيا أبا
407
بكر، والأرض لا كلأ فيها، وذلك صورة أرض الموات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي الرِّقَابِ).
اختلف فيه؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: العتق، ويجوز أن يعتق عن الزكاة.
408
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم المكاتبون، يستأدونهم في كتابتهم، وقالوا: لا يشبه الإعتاق ما يدفع إلى المكاتب فيؤدي فيعتق؛ لأن العتق ليس بتمليك، وإنما هو إبطال ملك، وما يدفع إلى المكاتب فهو تمليك، فذلك مختلف، وإنما تكون الزكاة زكاة إذا زالت من مالك إلى مالك.
والثاني: أن العتق يوجب الولاء للمعتق، فحقه فيه باق، والذي يديم الزكاة إلى مكاتب لغيره لا يرجع إليه بذلك حق، ولا يجب فيه ولاء، فهما مختلفان.
والثالث: وهو أن اللَّه - تعالى - قال: (وَالْغَارِمِينَ)، ولو أن رجلا قضى من غارم دينه بغير أمره، لم يجز من زكاة ماله، وإنما يكون زكاة إذا دفعها إلى الغارم، فعتق المزكي العبد بمنزلة قضاء دين الغارم؛ لأنه لا يحتاج في واحد منهما إلى قبول من الغارم والعبد، وإعطاؤه المكاتب في الزكاة كدفعه إياها إلى الغارم؛ لأنه قد دفعها في كلا الحالين إلى من قبلها منه من زكاة وقبضها، وفي ذلك وجه آخر: وذلك أن أشتري عبدًا من رجل لأعتقه، فقد صار ثمنه دينًا في ذمتي قبل أن أنقد المال، فإذا أقبضته فإنما قضيته عن ذمتي دينًا قد لزمني، ولا يجوز أن أقضي ديني.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ).
قيل: هم الغزاة.
409
ويحتمل: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: في طاعة اللَّه أن كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات، فإنه داخل في ذلك.
وقوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ)
قيل: الضيف ينزل به.
وقيل: هو المار عليك وإن كان غنيًّا، المنقطع عن ماله.
وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) يحتمل: بيانًا من اللَّه وإعلامًا أهل الصدقات منهم من غيرهم.
ويحتمل قوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) أي: واجبًا من اللَّه وفرضًا (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (٦٥) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
410
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦١)
أخبر أنهم يؤذون النبي، ولم يبين بما كانوا يؤذونه، فيحتمل: يؤذون النبي بتكذيبهم إياه، وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه.
ويحتمل: يؤذونه بكلمات يسمعونه، وطعن يطعنونه، ويعيبون عليه (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ).
قيل: الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه، ويسمع من كل أحد يعتذر إليه ويقبل، وكذلك كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقبل العذر ممن اعتذر إليه ويسمع، منه سواء كان له عذر أو لا عذر له؛ لكرمه وشرفه، وحسن خلقه، فظن أُولَئِكَ لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه، وصغر همته، وقصور يده، وهم كانوا أهل كبر وأنفة، قالوا: هو أذن، نقول ما شئنا ثم نتخلف ونعتذر إليه فيصدقنا، ويقبل عذرنا؛ قال اللَّه - تعالى -: (قُلْ) يا مُحَمَّد (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي: الذي يقبل العذر ويسمع خير لكم من الذي لا يقبل ولا يسمع، فكيف تؤذونه، وتطعنون عليه وتعيبونه، ولا تصدقونه ولا تؤمنون به؟ يخبر عن سفههم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: الأذن: الذي من قال له شيئًا، أو حدثه حديثًا، صدقه واستمع منه، وكذلك كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصدق كل من قال له شيئًا أو حدثه حديثًا، واستمع منه؛ لكرمه، وشرفه، ومجده، وحسن خلقه، لا لما ظن أُولَئِكَ.
وقيل: يقولون: هو أذن، أي: يسر في نفسه ويكتم، ولا يكافئ من آذاه، ولا يجازيه؛ قال اللَّه: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُؤمِنُ بِاللَّهِ)، أي: يصدق باللَّه بما ينزل عليه من آياته.
(وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: يصدقهم فيما بينهم من شهاداتهم، وأيمانهم على حقوقهم، وفروجهم، وأموالهم.
ويحتمل قوله: يؤمن باللَّه ويصدقه بما يخبره من سرّ المنافقين، وما استكتموه منه من
411
الكيد له، والمكر به، ويؤمن للمؤمنين بما يخبرونه من قبل أُولَئِكَ المنافقين من الطعن فيه، والعيب عليه، والإيمان بآخر هو التصديق بجميع ما فيه، والإيمان له من خبره وحديثه.
وقوله: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
فيما يشهدون في الآخرة له بالتبليغ إليهم؛ كقوله؛ (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أو أن يكون قوله: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي: يؤمن بالمؤمنين فيما بينهم بالأخوة في الدِّين؛ كقوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ).
كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رحمة للمؤمنين؛ لما استنقذهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الهلاك إلى النجاة، يشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا.
(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
في الآخرة، بقية من الآية الأولى.
وقوله: (وَالْغَارِمِينَ).
جعل اللَّه الغارم موضعًا للصدقة، وهو الذي عليه الدِّين والغرم من أي وجه لحقه؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: من فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو لذي دم موجع ".
وفي بعض الأخبار: " إن الصدقة لا تحل إلا لخمس: للعاملين عليها، أو رجل اشتراها، أو غارم، أو غاز في سبيل اللَّه، أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ".
وروي عن الحسن، والحسين وابن عمر، وابن جعفر أن رجلاً سألهم شيئًا فقالوا:
412
إن كانت مسألتك في إحدى ثلاث فقد وجب حقك: في فقر مدقع، أو غرم مفظع، أو دم موجع.
هذه الأخبار كلها تدل على أن الغارم موضع للصدقة، قل دينه أو كثر.
فَإِنْ قِيلَ: في الخبر: " أو غرم مفظع "، قيل: لا خلاف بينهم في أن من دينه غير مفظع فله أن يأخذ بقدر دينه من الصدقة، فهذا يدل أن الذي روي في الخبر إنما هو لكراهة المسألة، لا على التحريم، وهكذا نقول: إن المسألة لا تحل له إذا كان غرمه غير مفظع، ولكن يحل وضعه عنه وأخذه له.
مسألة: قوله: (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو ما ذكرنا أنه المنقطع من ماله، جعله اللَّه موضعًا للصدقة، وإن كان غنيا في مقامه للحاجة التي بدت له؛ وعلى ذلك روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللَّه، أو ابن السبيل، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له ".
وفي بعض الأخبار عنه ما ذكرنا قال: " لا تحل الصدقة إلا لخمس، وفيه: أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ".
وقد يكون الرجل غنيًّا بأن يكون له دار يسكنها، ومتاع يتهيأه، وثياب وعزم على الخروج في سفر غزو احتاج من آلات سفره، وسلاح يستعمله في غزوه، ومركب يغزو عليه، وخادم يستغني بخدمته إلى ما لم يكن محتاجًا إليه في حال إقامته، فيجوز أن يعطى من الصدقة ما يستغني به في حوائجه التي يحدثها لسفره، فهو في مقامه غني بما يملكه؛ لأنه غير محتاج حينئذ إلى ما وصفنا، وهو في حال سفره غير غني، فيحتمل أن يكون معنى قوله: " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل اللَّه " على من كان غنيًّا في حال مقامه، فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره؛ لما أحدث له السفر من الحاجة.
ألا ترى أن الرجل قد يكون له المتاع لا يحتاج إليه، والدابة لا يركبها، فإذا صار ذلك مائتي درهم لم يجز له أن يأخذ من الزكاة، فإن عرض له مرض أو سفر فاحتاج إلى دابة
413
ليركبها، أنه يخرج من الغناء بما حدث له من الحاجة إلى الركوب، وكان له أن يأخذ من الصدقة عندنا لا يستغني عما هو له، وإنما الغني من استغني عما يملكه.
فكذلك الغارم على العرف قد تحدث له الحاجة إلى أكثر مما يملك، وصار ممن يجوز أن يعان، وإن كان ملكه الذي كان به غنيا قبل ذلك لم ينقص، فهذا - واللَّه أعلم - يحتمل.
وابن السبيل -أيضًا- ما ذكرنا من الخبر ألا تحل الصدقة لغني إلا لابن السبيل ومن ذكر معه، وعلى ذلك اتفاق الأمة، وهو ما قيل: المجتاز من أرض إلى أرض.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه تعالى عنه - في تأويل قوله: (إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ): هو المسافر. وهو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في مقامه، والفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة.
روي عن الحسن بن علي - رضي اللَّه عنهما - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " للسائل حق وإِن جاء على فرس ".
وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس ".
وجاء في بعض الأخبار عن رسول اللَّه قال: " لا يسأل عبدٌ - أو قال: أحد - مسألة ما يغنيه إلا جاءت يوم القيامة خدوشًا وكدوحًا في وجهه " قيل: يا رسول اللَّه، وماذا
414
يغنيه؟ أو ما أغناه؟ قال: " خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب ".
وفي بعض الأخبار يقول: " من سأل وله أربعون درهمًا فقد ألحف ".
وعن علي وعبد اللَّه قالا: لا تحلّ الصدقة لمن له خمسون درهمًا، أو عوضها من الذهب.
وعن عمر كذلك.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: سال رجل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن لي أربعين درهمًا، أمستكثر أنا؟ قال: " نعم ".
وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي ".
وفي بعض الأخبار:
ولا " لقوي مكتسب ".
وإنما يحمل قوله: " لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي " على الزجر عن
415
ويحتمل -أيضًا-: الأمر بالمجاهدة الكفار، يجاهدهم بالسيف، ويغلظ القول ويشدده على المنافقين، ويقيم عليهم الحدود.
فإن كان على مجاهدة الفريقين جميعًا بالسيف، فهو - واللَّه أعلم - في المنافقين الذين انفصلوا من المؤمنين، وخرجوا من بين أظهرهم، وأظهروا الخلاف للمؤمنين بعد ما أظهروا الموافقة لهم، فأمثال هَؤُلَاءِ يجاهدون بالسيف ويقاتلون به، وهو كقوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ)، إلى قوله: (مَلْعُونِينَ) الآية، أخبر أنهم يؤخذون ويقتلون أينما وجدوا، فيشبه أن تكون الآية في الأمر بالجهاد في هَؤُلَاءِ المنافقين.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن المنافقين كانوا يطعنون في رسول اللَّه ويعيبون عليه، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك، وهم قد علموا أن اللَّه أطلعه على ما يطعنون فيه ويذكرونه بسوء، فيقول - واللَّه أعلم -: جاهدهم إذا طعنوا فيك وذكروك بسوء بعد ذلك.
وإن كان الأمر على المجاهدة مجاهدة بالحجج، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد حاج الفريقين جميعًا بالحجج، وخاصة سورة براءة إنما أنزلت في محاجة المنافقين.
ويحتمل الأمر بالجهاد في الكفار خاصة، وفي المنافقين تغليظ القول والتشديد، وإقامة الحدود التي ذكرنا، والتعزير إذا ارتكبوا شيئًا مما يجب فيه الحد أو التعزير - واللَّه أعلم بذلك - لما أقاموا بين أظهر المؤمنين مظهرين لهم الموافقة.
وقوله: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذا في المنافقين الذين ماتوا على النفاق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٧٤)
429
قال بعض أهل التأويل: الآية نزلت في شأن رجل منافق قال يومًا: واللَّه، لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير. فسمع ذلك غلام وهو ربيب ذلك القائل، فقال له: تُبْ إلى اللَّه. وجاء الغلام إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره، فأرسل إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه، فجعل يحلف: ما قال ذلك؛ فنزلت الآية فيه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا...).
لكن غير هذا كان أشبه؛ لأن الآية: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وقول الرجل: لئن كان ما يقول مُحَمَّد حقا لنحن شر من الحمير - هذا القول نفسه ليس هو كلام كفر؛ إنما كلامُ ذم، ذمَّ به نفسه في الآية (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) وفهو قول جماعة.
وقيل: نزل في شأن عبد اللَّه بن أبي، قال أصحابه: فواللَّه، ما مثلنا ومثل مُحَمَّد إلا كما قال القائل: " سمّنْ كلبك يأكلك "، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، فأخبر النبي بذلك، فدعاه فسأله فجعل يحلف باللَّه ما قاله.
ولكن يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...) الآية. كانوا يستهزءون باللَّه وبآياته وبرسوله، والاستهزاء بذلك كفر، أو أن قالوا قول كفر لم يبين اللَّه لنا ذلك فلا أنهم قالوا كذا؛ لما ليس لنا إلى معرفة ذلك القول الذي قالوه حاجة.
وقوله: (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ):
يحتمل: كفروا بعد ما أسلموا إسلام تَقِيَّة.
ويحتمل قوله بعد ما أظهروا الإسلام، أي: رجعوا عما أظهروا من الإسلام.
وفي الآية دلالة أن الإسلام والإيمان واحد؛ لأنه قال: (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) وقال في آية أخرى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، ثم قال: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، وقال في آية أخرى: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا)؛ فدل أن الإسلام والإيمان واحد.
وقوله: (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).
430
قيل: هموا بقتل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمكر به، فلم ينالوا ما هموا به.
وفيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أسروا ما هموا به، ثم أخبر عن ذلك وهو غيب، دل أنه باللَّه علم ذلك.
وقوله: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ).
قال بعض أهل التأويل: إن الرجل الذي قال ذلك تاب عن ذلك، فقبل منه ذلك، وكان له قتيل في الإسلام فوداه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه ديته، فاستغنى بذلك.
وقال ابن عَبَّاسٍ: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ): كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعطي المنافقين من الغنائم والصدقات، يقول: ما نقموا ما أعطاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغنيمة والصدقة.
وقوله: (نَقَمُوا)، قال بعض أهل الأدب - أبو معاذ وغيره -: نقموا، أي: طعنوا، فيه لغتان: نقِموا - بالخفض - ونقَموا - بالنصب - يقال: نقِم ينقَم، ونقَم ينقِم - بكسر القاف - فهو - واللَّه أعلم - يقول: ما طعنوا مني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما ذكروه بسوء إلا أن أغناهم اللَّه؛ لأنهم لو كانوا أهل فقر وحاجة ما اجترءوا على الطعن على رسول اللَّه وما ذكروه بسوء، ولكن طعنوا فيه لما أغناهم اللَّه.
ويحتمل قوله: (وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ): ما عاملهم رسول اللَّه معاملة الكرام وتبسط إليهم حتى قالوا: إنه أذن يقبل العذر، فذلك الذي حملهم على الطعن.
وقوله: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ) فيه أن المنافق تقبل منه التوبة. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) بما ذكرنا في الدنيا: الأمر بالجهاد والقتل والخوف، هذا التعذيب في الدنيا، والتعذيب في الآخرة.
وقوله: (وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) قد ذكرنا هذا في غير موضع.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨)
431
وقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨)
يحتمل هذا وجهين:
أن قد علموا أن اللَّه يعلم سرهم ونجواهم؛ لكثرة ما يطلع رسوله على ما أسروا من الخلاف له وذكرهم السوء في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: ألم يعلموا أي: الذين نافقوا أن يعلموا أن اللَّه يعلم سرهم ونجواهم، فيطلع رسوله على سرهم ونجواهم فيتركوا الطعن في رسول اللَّه، وذِكْرِ ذلك والخلاف له.
وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
أي: علام بالغيوب التي غابت عن الخلق، وإلا ليس شيء يغيب عنه، ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنده بمحل واحد. أو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: علام بما يكون أبدًا في جميع الأوقات التي تكون. وفيه دلالة أنه عالمًا بما في الضمائر والسرائر وما كان غائبًا عن الخلق والغيب: هو ما علم أنه يكون له أنه كان ولم يزل عالمًا؛ لما ذكرنا.
* * *
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (٨٠)
وقوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ...) الآية.
يشبه أن تكون الآية صلة قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) إلى قوله: (وَتَوَلَّوْا).
إن أهل النفاق كانوا أهل بخل لا ينفقون إلا مراءاة وسمعة، فظنوا بمن أنفق من المسلمين وتصدق ظنًّا بأنفسهم، فقالوا: إنهم أنفقوا وتصدقوا مراءاة وسمعة.
وقد ذكر في بعض القصة أن عبد الرحمن بن عوف أتى بنصف ماله في غزوة تبوك يتقرب به إلى اللَّه، وقال: يا نبي اللَّه، هذا نصف مالي أتيتك به، وتركت نصفه لعيالي، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يبارك له فيما أعطى وفيما أمسك، فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى إلا رياء وسمْعة. وجاء رجل آخر من فقراء المسلمين بصاع من تمر فنثره في تمر الصدقة، فقال له نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خيرًا ودعا له، فقال المنافقون: إن اللَّه لغني عن صاع هذا، فذلك لمزهم.
434
فأنزل اللَّه تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يعني: الذي جاء بصاع.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الذين يلمزون المطوعين، أي: يصيبون المتطوعين بالصدقة، (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي: طاقتهم، والجهد: الطاقة، قال: والجهد: المشقة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الجهد: إنفاق الرجل من الشيء القليل، يقال: جهد الرجل، إذا كان من الضعف أو من الفقر.
ويقال: جهد في العمل، يجهد جهدًا؛ إذا بالغ في العمل.
قال أبو عبيد: الجهد مثل الوسع، والجهد: الطاقة، وكذلك قال أبو معاذ.
وفي الآية معنيان:
أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه معلوم أن ما كان منهم من اللمز لم يكن ظاهرًا، ولكن كان سرًّا، ثم أخبرهم رسوله بذلك، دل أنه إنما عرف ذلك باللَّه.
والثاني: أن الأمور التي فيما بين الخلق إنما ينظر إلى ظواهرها، وإن كان في الباطن على خلاف الظواهر، حيث عوتبوا هم بما طعنوا فيهم بالرياء والسمعة؛ ليعلم أن الأمور التي فيما بين الخلق تحمل على ظواهرها، ولا ينظر فيها إلى غير ظاهرها، والحقيقة هو ما بطن وأسروا به يخلص العمل لله، والسر: هو ما يسر المرء في نفسه، والنجوى: هو اجتماع جماعة على نجو؛ من الأرض، أي: المرتفع من المكان.
وقوله: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن من اعتذر إلى آخر فيقبل عنه، على علم من المعتذَر إليه أنه لا عذر له فيما يعتذر إليه، وأنه كاذب في ذلك - فقبول المعتذَر إليه ما يعتذر من المعتذِر: سخرية من المعتذَر إليه إلى المعتذِر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سَخِرَ اللَّهُ مِنهُم) أي: يجزيهم جزاء السخرية؛ فسمى جزاءه باسم السخرية، وإن لم يكن الجزاء سخرية، كما سُمّي جزاء [السيئة: سيئة] (١)، وإن لم تكن الثانية [سيئة]، وكذلك سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الثاني اعتداء، فعلى ذلك سمي جزاء السخرية سخرية، وإن لم يكن سخرية.
435
ثم طلب المغفرة من اللَّه والشفاعة لو يجيء لا يكون إلا للخواص من الخلق وهم الرسل والأنبياء، على ما يكون في الشاهد لا يرفع إلى ملوك الأرض الحاجة ليقربهم إلا الخواص لهم ولا يشفعون إلا أهل الشرف عندهم والمنزلة، لكن اللَّه - تعالى - أذن لنا في استغفار غيرنا بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ).
وقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).
يحتمل قوله: (عَلَيْهِم) أي: سواء عندهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ويكون طلب استغفارهم من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استهزاءً منهم به، حيث قال: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)، يخرج قولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) مخرج الاستهزاء على هذا التأويل.
ويحتمل قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) أي: سواء عند اللَّه أستغفرت لهم، أم لم تستغفر لهم - فإنه لا يغفر لهم بكفرهم باللَّه ورسوله. ثم قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) يحتمل: ذَكَرَ السبعين؛ لأن السبعين هو النهاية والغاية في الاستغفار، على ما روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يستغفر في كل يوم سبعين استغفارًا، فأخبر: أنك وإن انتهيت النهاية فيه لا يغفر لهم ولا ينفعهم ذلك.
وقوله (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
وقت اختيارهم الفسق، أو لا يهديهم طريق الجنة في الآخرة؛ لفسقهم في الدنيا، إذا ماتوا على ذلك.
* * *
قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (٨٣) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (٨٤) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)
وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ...) الآية.
جمعوا - أعني المنافقين - جميع خصال الشر التي فعلوا:
437
أحدها: ما ذكر من فرحهم بالتخلف عن رسول اللَّه.
والثاني: كراهيتهم الجهاد مع رسول اللَّه وبخلهم بأموالهم.
والثالث: صدهم الناس عن الجهاد والخروج في سبيل اللَّه بقولهم: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ).
جمع اللَّه جميع خصال المنافقين في هذه الآية.
وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ)، ذكر المخلفون، وهم كانوا متخلفين في الحقيقة، لكنه يحتمل وجهين:
مخلفون خلفهم اللَّه لما ذكر أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالا، وأنهم يبغون الفتنة خلفهم عن ذلك؛ كقوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، قيل: حبسهم؛ فعلى ذلك مخلفون خلفهم اللَّه لما علم أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا.
ويحتمل: مخلفون خلفهم أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لو أرادوا أن يخرجوهم كرهًا لقدروا على ذلك، فهم كالمخلفين من هذا الوجه لما لو أرادوا إخراجهم أخرجوهم، وإن كانوا متخلفين في الحقيقة.
وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي: مخالفة رسول اللَّه، وقرئ: (خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ)، أي: فرحوا لقعودهم بعد خروج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ).
يحتمل: القعود، أي: بقعودهم خلفه.
ويحتمل: (بِمَقْعَدِهِمْ)، أي: موضع قعودهم، وهو منازلهم وأوطانهم، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم؛ لبخلهم وخلافهم الذي في قلوبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) هذا في الظاهر يخرج على إظهار الشفقة للمؤمنين، ولكن لم يكونوا أرادوا ذلك؛ إنما أرادوا حبسهم عن الخروج في سبيل
438
فعل ذلك أسلم ألف رجل من المنافقين.
وروي أنه لم يصل عليه، فلا ندري كيف كان الأمر بعد أن جاء النهي. عن الصلاة على المنافقمن بقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)، سماهم فسقة، واسم الكفر أقبح وأذم، لكنهم جمعوا مع الكفر أنواع الفسق؛ ليعلم أن اعتقادهم الكفر والمذهب الذي يذهبون إليه إنما اعتقدوا لهواهم؛ إذ الفسق مما يحرمه كل أذي، مذهب ودين، وكل يأنف عن الفسق ويتبرأ منه، ولا كذلك الكفر؛ لأن كل من آمن بشيء كفر بضده، وأصل الفسق: هو الخروج عن الأمر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (٨٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: إنه على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا إنما يريد اللَّه أن يعذبهم بها في الآخرة.
وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح، وقد ذكرنا الوجه الذي يدل على نقض قولهم فيما تقدم.
ويحتمل قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا): وهو القتال والحروب التي أمروا بها؛ كقوله: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا).
وهو التعذيب الذي ذكر؛ لأنهم يصيرون مقتولين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُم).
441
أي: على علم بما يكون منهم خلقهم.
(حَكِيمٌ).
حيث وضع الخلائق بموضع يدل على وحدانيته وألوهيته، لو تدبروا فيه ونظروا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
أي: كان لا ينفق حسبة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ينفق ولا يراه حقا، إنما يراه غرمًا يلحقه، وغرما يغرمه.
وأصله: أنهم لو كانوا علموا حقيقة أنهم وما حوته أيديهم لله ليس لهم، لم يعدوا ذلك غرمًا وتبعة ألحقتهم، ولكن لما لم يروا لله تعالى في أموالهم حقّا ولم يعلموا أن أموالهم لله حقيقة لا لهم عدوا ذلك غرمًا وتبعة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ).
قيل: الدوائر: هو انقلاب الأمر، وهو من الدوران.
ثم يحتمل قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ): ما قَالَ بَعْضُهُمْ: موت مُحَمَّد.
وقيل: دوائر الزمان وحوادثها.
(عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)، أي: عليهم انقلاب الأمر وعليهم ما تربصوا على المؤمنين.
وقوله: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ).
ليس على حقيقة الإنزال من موضع، ولكن على خلق ذلك؛ كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ) (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا).
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ): لما قال، (عَلِيمٌ): بما أسروا وأضمروا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
ذكر في الآية أن من الأعراب من يؤمن باللَّه واليوم الآخر ليعلم أن قوله: (الْأَعْرَابُ
457
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا) كان في طائفة مشار إليها، لا كل الأعراب؛ لأنه ذكر - هاهنا - أن منهم من ينقق ويتخذ ما ينفق قربات عند اللَّه، وذكر في الآية الأولى أن منهم من يتخذ ما ينفق مغرما، أي: لا يراه حقّا واجبًا، ولكن غرما يلحقه، ومنهم من يرى ذلك حقًا لله واجبًا في أموالهم، فيجعلون ذلك قربة لهم عند اللَّه، وأُولَئِكَ يرونه غرمًا لحقهم، لا قربة.
ثم في الآية خوف دخول المؤمنين في وعيد هذه الآية، الذين لا يؤدون الزكاة، ولا ينفقون، وخوف لحوق النفاق؛ لأنه أخبر أنهم يتخذون ما ينفقون مغرمًا، فمن ترك أداءه إنما يتركه؛ لأنه لا يرى ذلك حقّا؛ لأنه لو رأى ذلك حقا واجبًا لأداه على ما أدى غيره من الحقوق، أو لو كان موقنًا بالبعث لأنفق وجعل ذلك قربة له عند اللَّه؛ لأن المؤمن إنما ينفق ويعمل للعاقبة، فإذا ترك ذلك يخاف دخوله في وعيد الآية، ولحوق اسم النفاق به، وإن كنا لا نشهد عليه بذلك.
وقوله: (وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا قربات عند اللَّه بصلوات الرسول؛ لأنهم إذا أنفقوا كان الرسول يدعو لهم بذلك ويستغفر، فكان ذلك لهم قربات عند اللَّه باستغفار الرسول ودعائه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: جعلوا ما أنفقوا وصلوات الرسول قربات عند اللَّه، ويكون لهم ما أنفقوا قربة عند اللَّه، وصلوات الرسول طمأنينة لهم وبراءة من النفاق؛ لأن الرسول كان لا يدعو لأهل الكفر والنفاق، فإذا دعا لهَؤُلَاءِ وصلى عليهم كان ذلك طمأنينة لقلوبهم، وعلمًا لهم بالبراءة من النفاق؛ وعلى ذلك يخرج قوله: (إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). أي: تسكن قلوبهم بصلاة الرسول وتطمئن بأنهم ليسوا من أهل النفاق، وأنهم برآء من ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ).
ذكر هذا مقابل ما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) أخبر - هاهنا - أن ما يتربصون هم بهم من الدوائر عليهم ذلك، وهاهنا أخبر أن ما ينفق المؤمنون ويطلبون بذلك قربة عند اللَّه أنها قربة لهم.
ثم وعدهم الجنة بقوله: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ)، أي: جنته، سمى جنته رحمة؛
458
قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) اختلف في هذه الصدقة التي أمر اللَّه رسوله بأخذها من أموالهم:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي صدقة فريضة، ثم اختلف فيها أية فريضة هي؟ فقَالَ بَعْضُهُمْ: فريضة زكاة الأموال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هي فريضة كفارة المآثم، وذلك أن أُولَئِكَ الذين تخلفوا عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك ندموا على تخلفهم، فلما رجع رسول اللَّه جاءوا بأموالهم فقالوا له: تصدق بأموالنا عنا؛ فإن أموالنا هي التي خلفتنا عنك، فأمر اللَّه رسوله أن يأخذ منهم ذلك ويتصدق به كفارة لما ارتكبوا.
ومن قال: هي فريضة زكاة المال؛ لما روي عن أبي أمامة قال: إن ثعلبة بن حاطب أتى رسول اللَّه فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، قال رسول اللَّه: " ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، قال: " ويحك يا ثعلبة! أما أترضى أن تكون مثل، رسول اللَّه لو سألت اللَّه أن يسيل الجبال عليَّ ذهبًا لسالت "، ثم أتاه فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا، فواللَّه لو أتاني اللَّه مالًا لأوتين كل ذي حق حقه. فدعا له فقال: " اللهم ارزق ثعلبة مالًا " ثلاث مرات، وذكر أنه اتخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت
464
عليه أزقة المدينة، فتنحى بها، وكان يصلي الصلوات كلها مع رسول اللَّه ويخرج إليها، ثم ضاقت عليه بها مراعى المدينة فتنحى بها فكان يصلي الظهر والعصر مع رسول اللَّه ثم يتبعها، ثم تنحى بها، فكان يصلي الجمعة مع رسول اللَّه ثم يتبعها، ثم بلغ أمره إلى أن ترك الجمعة والجماعات، فتنحى بها ويتلقى الركبان فيسألهم عن الخبر وعما أنزل على رسول اللَّه فأنزل اللَّه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...) الآية، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على الصدقة رجلين فكتب لهما فرائض الصدقة، وأمرهما أن يسعيا في الناس ويأخذا صدقاتهم، وأن يمرَّا بثعلبة ورجل من بني سليم فيأخذا صدقاتهما، فخرجا بصدقات الناس، فمرا بالسلمي فأقراه كتاب رسول اللَّه فأطاع بالصدقة، ومرَّا بثعلبة فأقرآه كتاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: واللَّه ما أدري ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية، فإذا فرغتما فمرَّا بي حتى أرى رأيي، فلما فرغا من الناس مرَّا به فقال لهما مثل، مقالته الأولى، وقال: انطلقا فإني سألقى رسول اللَّه، فأنزل اللَّه: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ...)، إلى قوله: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا)، إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل أنها نزلت في شأن ثعلبة.
ومنهم من قال ما ذكرنا أنها نزلت في شأن أهل تبوك الذين تخلفوا عن رسول اللَّه.
ومنهم من قال: الصدقة التي أمر اللَّه رسوله أن يأخذها من أموالهم هي صدقة تطوع وتبرع، وهو ما ذكر أن رسول اللَّه كان يحث الناس على الإنفاق في غزوة تبوك، فجاء عبد الرحمن بن عوف بكذا، وفلان بكذا، فأخذها منهم، وفيه نزل قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ).
ومنهم من قال: هو في كل صدقة تطوع، قلَّت الصدقة أو كثرت، أمر رسوله أن يأخذ من أموالهم ما رأى لا يأخذ الكل؛ لأن أخذ الكل يحوجهم ويشغلهم عن جميع الطاعات
465
والعبادات، ولكن أمر أن يأخذ قدرًا منها وطائفة، مقدار ما يكفر ما ارتكبوا من المآثم. وقوله: (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
إن كانت صدقة الزكاة، فهي تطهر آثامهم وتزكي أخلاقهم حتى يتيسر عليهم إخراج الصدقة وأداؤها إلى أهلها، وإن كان صدقة كفارة لمن تخلف عن غزوة تبوك، فهي تكفر آثامهم التي لحقتهم بذلك (وَتُزَكِّيهِمْ).
قيل: وتصلحهم، وهو ظاهر.
وإن كانت صدقة تطوع فهي مما يطهرهم أيضًا، ويزكيهم؛ لما ينفي عنهم البخل، ويؤدي إلى الجود والكرم؛ ألا ترى أنه مدح من أعطى، وذم من بخل ومنع بقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى...)، (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ...) الآية.
وقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا أتى أحد بصدقة دعا له ويستغفر، وكان لا يستغفر لأهل النفاق، وكانت قلوبهم تسكن وتطمئن باستغفار النبي؛ لما علموا بذلك أنهم ليسوا من أهل النفاق؛ هذا يحتمل.
ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن اللَّه أمر رسوله أن يستغفر لهم ويصلي عليهم، ثم لا يحتمل أن يأمره بذلك فلا يفعل، أو يفعل فلا يجيبه، فكانت قلوبهم تسكن، وتطمئن باستغفار النبي لهم لما قبلت توبتهم، وكفرت سيئاتهم، واللَّه أعلم.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
قد ذكرنا هذا غير مرة.
466
وفي قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) دلالة أن الصدقة إذا وقعت في يد المتولي والعامل عليها سقطت عن أربابها، وإن لم تقع في أيدي الفقراء ولم تصل إليهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يحل له الصدقة، ثم أخبر أنه إذا أخذها منهم كانت طهارة لهم وتزكية.
وفيه استدلال لمُحَمَّد بن الحسن في الوقف؛ أن الوقف إذا وقف وأخرجه من يده وجعله في يد آخر ممن لا حق له في ذلك كان جائزًا، وكان وقفًا صحيحًا.
467
ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن للإمام أن يطالب بزكاة الأموال، وكذلك
468
مضت السنة من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في مواضعها، وعلى ذلك فعل الأئمة من بعد: أبو بكر، وعمر، والأئمة الراشدون، وظهر العمل بذلك من بعدهم إلى هذا الوقت، حتى قال أبو بكر لما امتنعت العرب من إعطائه الزكاة: واللَّه لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاربتهم عليها. فذلك يؤيد ما ذكرنا من مطالبة الإمام أصحاب الأنعام والمواشي بزكاة أنعامهم ومواشيهم.
وقد بين اللَّه تعالى وجوب ذلك بيانًا شافيًا بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية، فجعل للعاملين عليها حقًّا، فلو لم يكن على الإمام أن يطالب بصدقات الأنعام في أماكنها، وكان أداء ذلك إلى أرباب الأموال؛ ما كان لذكر العاملين وجه، ولم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورِق وأموال التجارة،
469
وأصل الريبة: التهمة؛ يقال: فلان مريب: إذا كانت به تهمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ).
هذا -أيضًا- على وجهين:
أحدهما: على التمثيل أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته؛ يقال: فلان متقطع القلب [..... ].
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).
يحتمل قوله: (اشْتَرَى)، أي: استام؛ لأن قوله: (اشْتَرَى) خبر، ولكن يحتمل الاستيام، أي: استام أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم لله؛ ليجعل لهم الجنة.
ثم بين فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ).
ويحتمل أن يكون قوله: (اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ): خبرًا عن قوم باعوا أنفسهم وأموالهم؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله: (يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) الآية، فإذا صاروا بائعين أنفسهم، كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - مشتريها منهم.
ثم بين أن كيف تباع وكيف تُشترى فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ) أي: يقتلون العدو، (وَيُقْتَلُونَ) أي: يقتلهم العدو.
وقد قرئ الأول بالرفع: فيُقْتَلُونَ، والثاني بنصب الياء، فهو ليس على الجمع أن
485
يَقتلوا ويُقتلوا، ولكن أن يقتلوا العدو أو يقتلهم العدو، أيهما كان، أو يقاتلون العدو وإن لم يقتلوا؛ كقوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) الآية؛ سمي الإيمان باللَّه والمجاهدة في سبيله تجارة، ثم قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بحق الوعد لهم فضلًا منه، لا بحق البذل.
ثم قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ).
ذكر شراء أنفسهم وأموالهم منهم، وأنفسهم في الحقيقة لله أن يأخذ منهم أنفسهم وأموالهم، وأن يتلفهم بأي وجه ما شاء، لكنه عامل عباده معاملة من لا ملك له في ذلك، ولا حق؛ كرمًا منه أوفضلًا، وجودًا، ووعدهم على ذلك أجرًا وبدلًا، وكذلك ما ذكر من القرض له، ووعدهم على ذلك الأجر مضاعفًا، وكذلك ما وعدهم من الثواب فيما يعملون لأنفسهم كالعاملين له؛ حيث قال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ونحوه، وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ...) الآية، ذكر ما ذكر ففلا منه وإكرامًا؛ إذ هي له في الحقيقة، وهو كما قال: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)، فإنما طلب بذل حق أنفسهم وأموالهم، أو ذكر - واللَّه أعلم - شرى ماله في الحقيقة؛ ليعلم الخلق أن كيف يعامل بعضهم بعضًا، وكذلك قال اللَّه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، عاملهم معاملة من لا حق له في أموالهم وأنفسهم؛ ليعامل الناس بعضهم بعضًا في أموالهم وأنفسهم، كمن لا حق له في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). أي: وعدًا واجبًا حقًّا.
486
(فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).
أي: وعد ذلك في التوراة والإنجيل والقرآن.
وفي حرف ابن مسعود: (عهدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والفرقان).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
هذه الآية تنقض قول من يقول بأن الإنجيل نزل على التخفيف والتيسير والتوراة بالشدائد، وكذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)، وذلك مذكور في حكم الإنجيل، إلا أن يقال بأن قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)، أي: كان هذا مذكورًا لهذه الأمة في التوراة والإنجيل وما ذكر.
أثم، قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).
هذا على أن قوله: (اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) الآية إنما هو عهد إليهم؛ حيث قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا أحد أوفى وأصدق بعهده من اللَّه إن وفيتم أنتم بعهده الذي عهد عليكم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ).
يشبه أن يكون الاستبشار الذي ذكر وقت الموت أن تقول لهم الملائكة: استبشروا ببيعكم الذي بايعتم به في الحياة؛ وهذا يدل أن البيع يكون بيعًا بالبدل وإن لم يتلفظ بلفظة البيع، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأحكام لم تتعلق بالألفاظ والأسامي؛ إنما علقت بمعاني فيها، فإذا وجدت المعاني حكم بها.
487
قيل: المصلون.
وقيل: الخاضعون لله والخاشعون له؛ وكذلك ذكر في حرف حفصة.
(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
يحتمل التوحيد، أي: آمرون الناس بتوحيد اللَّه.
ويحتمل: الآمرون لهم بالخيرات والمعروف كله.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
الشرك، ويحتمل: كل معصية.
(وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لفرائض اللَّه التي فرضها على عباده.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لسنن اللَّه، ولكن حافظون جميع أحكام اللَّه، لا يجاوزون ما حد لهم ولا يفرطون فيها.
(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
يحتمل البشارة لهَؤُلَاءِ الذين سبق ذكرهم.
ويحتمل: على الابتداء، أي: بشر جميع المؤمنين؛ كقوله: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (١١٦)
وقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
دلت الآية بما نهانا أن نستغفر لمن علمنا أنه من أهل النار؛ لما أن اللَّه لا يغفر له؛ لما
491
علم أنه لا يؤمن، فعلى ما علمنا أنه لا يغفر له لم نستغفر له فلم يجز لنا أن نقول: إنه أراد الإيمان لمن يعلم أنه لا يؤمن أبدًا؛ كما لم يجب أن يغفر لمن وجبت له النار، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم: إن اللَّه قد أراد لكل كافر الإيمان، لكنه لم يؤمن.
ثم قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
قال بعض أهل التأويل: إن رسول اللَّه قد استغفر لأحد والديه، وذكر أنه دخل على أبي طالب عمه فدعاه إلى شهادة أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فأبى، ثم استغفر له وقال: لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنه أو كلام نحو هذا، فنزل قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى...) الآية.
قال الحسن: لا يحتمل أن يكون رسول من رسل اللَّه لا يعلم أن اللَّه لا يغفر للكافر؛ إذ في العقل والحكمة ألا يغفر له والتعذيب له أبدًا، وعندنا في الحكمة تعذيب الكافر أبدًا وألا يغفر له لوجوه:
أحدها: أن في ذلك تسوية بين العدو ووليه، ومن سوى بين عدوه ووليه فهو ليس بحكيم؛ إذ في الحكمة التمييز بينهما.
والثاني: أنه إذا عبد غير اللَّه معه إنما يعبد غيره لجهله، وتلك الجهالة لا ترتفع أبدًا؛ لأنه إذا غفر له فيقع عنده أنه إنما جزى وغفر له لعبادة غير اللَّه.
والثالث: أنه لو غفر للكافر لذهبت حكمة الأفعال؛ لأن الأفعال إنما يؤمر بها لعواقب تتأمل:
إما حمدًا وإما ذمًّا، فإذا غفر له حمد بأفعال كان الحق له الذم بها، ففي ذلك خروجها عن الحكمة.
وجائز أن يكون رسول اللَّه يستغفر للمنافقين، قبل أن يتبين له أنهم منافقون، فلما تبين
492
والتوبة من اللَّه تعالى تخرج على وجوه:
أحدها: التوفيق وفقهم للتوبة وأكرمهم بها؛ كقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: وفقهم للتوبة فتابوا.
والثاني: التوبة منه قبولها منهم، أي: يقبل منهم التوبة؛ كقوله:
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
والثالث: (تَابَ عَلَيْهِمْ)، أي: تجاوز عنهم وعفا وصفح عنهم.
على هذه الوجوه الثلاثة تخرج إضافة التوبة إلى اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ).
قيل: في عسرة النفقة وعسرة الظهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ).
ذكر في بعض القصة أنه قد أصابهم من الجهد والشدة حتى أن الرجلين يقسمان التمرة بينهما، وكانوا يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها الماء، ثم يمصها هذا، ذكر نحو هذا، ولكن لا ندري كيف كان الأمر سوى أنه أخبر أن قلوبهم كادت تزيغ من الجهد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: خلفوا، عن التوبة؛ نحو قوله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ). فكانوا يبتهلون ويدعون اللَّه حتى تاب اللَّه عليهم فتابوا.
وقال قائلون: خلفوا عن رسول اللَّه لما تقدمهم القوم، فهم المخلفون بتقدم أُولَئِكَ.
وقال قائلون: خلفوا خلفهم اللَّه، أي: خلفهم.
ويشبه أن يكون قوله: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) هم الذين تخلفوا فخلفهم رسول اللَّه، وهو ما ذكرنا.
وقوله: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ).
504
يحتمل هذا على التحقيق، ويحتمل أن يكون على التمثيل.
وللتحقيق وجهان:
أحدهما: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ): ما ذكر أنهم شدوا أنفسهم بالسواري والأسطوانات، وأتوا بأموالهم التي منعتهم عن الخروج مع رسول اللَّه، وتصدقوا بالأرضين التي منعتهم عن الخروج، وضاقت عليهم الأرض بعد ما كانت عليهم متسعة يتسعون فيها؛ لأنه ذكر في القصة أن واحدًا من هَؤُلَاءِ ممن حبسته أرضه عن الخروج فتصدق بها على الفقراء، وكان له التوسع بتلك الأرض ثم ضاقت عليه.
والثاني: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ): لما حبسوا أنفسهم عن أراضيهم، وتركوا شهواتهم وأمانيهم وما يتلذذون به؛ ذلك ضيق الأرض.
(وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ): لما شدوا أنفسهم بالأسطوانات.
ويحتمل أن يكون على التمثيل؛ وذلك أن الخوف إذا اشتد بالإنسان وبلغ غايته حتى يمنعه عن القرار في الأرض والتلذذ فيها يقال: ضاقت عليه الأرض بسعتها، وضاقت عليهم أنفسهم؛ لما ذكر كان الناس لا يكلمونهم ولا يخالطونهم ولا يبايعونهم ولا يكلمهم أهاليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ظنوا أن لا نجاة من عقوبة اللَّه إلا عفوه، أي: أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا احتراز لهم من عقابه.
وقيل: ظنوا أن لا ملجأ من عذاب اللَّه إلا إلى رحمته.
وقيل: وظنوا أن لا ملجأ من رسول اللَّه إلا إلى اللَّه؛ لأنه ذكر أنهم سألوا رسول اللَّه، التجاوز عن ذلك فلم يجبهم، فأيقنوا عند ذلك أن المفزع والملجأ إلى اللَّه لا إلى أحد دونه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ).
أي: وفقهم للتوبة فتابوا.
505
أن يصيبه ما ذكر من العناء والشدة؛ يقول: كتب لهم بكل ما يصيبهم العمل الصالح، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
هو ما ذكرنا أنه يجزيهم بكل ما يصيبهم من الشدة والعناء في أنفسهم وفي أموالهم من النقصان وما ينفقون.
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي: يجزيهم لصالح أعمالهم وأحسنها، ولا يجزيهم لسيئاتهم؛ وهو كقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ)، أخبر أنه يتقبل منهم أحسن ما عملوا ويكفر عنهم سيئاتهم؛ فعلى ذلك الأول يخبر أنه يجزيهم أحسن ما عملوا في الغزو، ويتجاوز عن سيئاتهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
اختلف أهل التأويل:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نبي اللَّه كان إذا خرج للغزو خرجوا جميعًا، فتبقى المدينة خالية عن الرجال، فنهى اللَّه عن ذلك وقال: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث سرية خرجوا جميعًا، فبقي هو وحده لم يبق معه أحد ممن يشهد التنزيل؛ ليخبروا أُولَئِكَ إذا حضروا.
وقال آخرون: الآية في الوفود، وذلك أن الوفود إذا قدموا من الآفاق المدينة قدموا مع النساء والذراري جميعًا، فأمروا أن ينفر الرجال منهم دون النساء والذراري، أو من كل قوم نفر؛ ليتفقهوا في الدِّين.
ذكر في هذه الآية: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)، نهى الكل أن ينفروا، وأمروا في الآية الأخرى بنفر الكل بقوله: (فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا)، فهو يخرج على وجهين:
أحدهما: أمر بالنفر الجميع عند قلة المؤمنين؛ ليكون لهم الكفاية مع العدو.
508
والثاني: أمر بنفر الكل عند النفير.
فيكون إحدى الآيتين في حالة النفير، والأخرى في غير حال النفير وما ذكرنا في وقت القلة والكثرة.
فمن يقول: إن الآية في الذين كانوا يخرجون جميعًا مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج، كأنه نهى عن الخروج جملة مع رسول اللَّه؛ خوفًا على أهاليهم وذراريهم، لعل العدو سباهم وأخذ أموالهم يقول اللَّه: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، أي: هلا نفر طائفة منهم فيخبروا الكفار المقيمين بما أنزل اللَّه على رسوله من النصر والمعونة والهزيمة على الكفار الذين قاتلوا رسول اللَّه، فيكون ذلك سبب دعائهم إلى الإسلام.
وإلى هذا ذهب الحسن والأصم ويقولون: إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها وهي قوله: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ).
يقول الحسن: إن عليهم أن يخرجوا مع رسول اللَّه إذا خرج، فيقول: هذا منسوخ بالآية التي تليها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية.
ومن يقول بأن الآية في الوفود الذين كانوا يأتون رسول اللَّه المدينة بالنساء والذراري، فالنهي لذلك لما كانوا يضيقون على أهل المدينة أوطانهم ويغلون أسعارهم ونحوه؛ يقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ)، أي: يعلمون الدِّين وأحكامه، ثم ليرجعوا إلى قومهم فيعلموهم.
ومن يقول: الآية في الذين خرجوا ونفروا مع السرايا، نهاهم عن خروج الكل؛ لما لعله لما نزل على رسول اللَّه شيئًا، فلم يكن معه أحد يبلغه إليهم ثم يبلغ إلى من هو غاب عنه ضاع ذلك فيقول: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ما نزل على رسول اللَّه، وليبلغوا ذلك إلى من غاب عنه.
(مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ).
قيل: من كل عصبة، ومن كل قبيلة، ومن كل حي، ففي الآية دلالة سقوط فرض
509
السفر لتعلم العلم والتفقه في الدِّين عن الكل إذا قام بعض بذلك يخرجون ويتعلمون ثم يعلمون قومهم؛ لأنه قال: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ...) الآية.
وفيه أيضًا دلالة سقوط فرض الجهاد عن الجماعة إذا قام بعضهم عن بعض.
وفيه دلالة لزوم العمل بخبر الأحاد وإن احتمل الغلط؛ لأن ما ذكر من الطائفة
510