وأمّا مذاهبُ (١) القراء فيها، فقد أجمعوا على حذفِها بينَ الأنفالِ وبراءةَ، وكذلكَ في الابتداءِ ببراءةَ، وأمّا الابتداءُ بالآي وسطَ براءة، ففيه خلافٌ، ويجوزُ بينَ الأنفالِ وبراءةَ كلّ من الوصلِ والسكتِ والوقفِ لجميعِ القراء إذا لم يقطعْ على آخرِ الأنفالِ، فالقطعُ: هو قطع القراءةِ رأسًا، فهو كالانتهاء، والوقفُ: هو قطعُ الصوتِ على الكلمةِ زمنًا يتنفَّس فيه عادةً بنيةِ استئنافِ القراءة، والسكتُ: هو قطعُ الصوتِ زمنًا دونَ زمنِ الوقفِ عادةً من غيرِ تنفُّسٍ، والله أعلمُ.
* * *
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)﴾.
[١] قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ﴾ خروجٌ من الشيءِ، ومفارقةٌ له بشدَّةٍ، والتقديرُ: هذِه براءةٌ ﴿مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾ أيُّها المؤمنون.
﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ والمعنى: أن الله ورسوله قد برءا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين، رُوي أنّه لما خرجَ رسولُ اللهِ - ﷺ - إلى تبوكَ، كان المنافقون يُرْجِفون الأراجيفَ، وجعلَ المشركونَ ينقُضون عهودًا كانت
* * *
﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢)﴾.
[٢] ﴿فَسِيحُوا﴾ رجع من الخبر إلى الخطاب؛ أي: قل لهم: سِيحُوا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أى: سيروا فيها آمنينَ.
﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ تأجيلٌ من اللهِ للمشركين، فمن كانتْ مدةُ عهدِهِ أقلَّ من أربعةِ أشهرٍ، رُفِعَ إليها، ومن كانت مدَّتُه أكثرَ منها، حُطَّ إليها، ومن كانت مدةُ عهدِه بغيرِ أجلٍ محدودٍ، حَدَّهُ بأربعةِ أشهرٍ، ثمّ هو حربٌ بعدَ ذلكَ للهِ ورسوله يُقتل حيث أُدْرِكَ، ويؤسرُ، إِلَّا أن يتوب، وابتداءُ هذا الأجل يومَ الحجِّ الأكبرِ، وانقضاؤه إلى عشرٍ من ربيعٍ الآخرِ، فأمّا من لم يكنْ له عهدٌ، فإنما أجلُه انسلاخُ المحرَّمِ، وذلك خمسون يومًا، وقيل: الأشهرُ الأربعةُ: شوالٌ وذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمحرَّمُ، والأول أصوبُ، وعليه الأكثرُ.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيّها الناكثون ﴿أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي﴾ أي: فائتي ﴿اللَّهَ﴾ بعدَ الأربعةِ أشهرٍ.
* * *
﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣)﴾.
[٣] ونزلت براءةُ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، وفيها فُتحت مكةُ، فلما كان سنةُ تسعٍ تجهَّزَ النبيُّ - ﷺ -، فقيل له: إنَّ المشركينَ يطوفون بالبيتِ عُراةً فقالَ: "لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَى ذَلِكَ"، فبعثَ أبا بكرٍ أميرًا على الموسمِ ليقيمَ للناسِ الحجَّ، وبعثَ معه بأربعينَ آيةً من صدرِ براءةَ ليقرأها على أهل الموسم، ثمّ بعثَ بعده عليًّا على ناقتِهِ العضْباءِ ليقرأ على النَّاس صدر براءة، وأمره أن يؤذن بمكةَ ومِنًى وعرفةَ: أن قد بَرِئَتْ ذمةُ اللهِ وذمةُ رسوله من كلِّ مشركٍ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريان، فرجعَ أبو بكر وقال: يا رسولَ الله! أنزلَ في شأني شيءٌ؛ قالَ: "لَا، وَلَكِنْ لا يَنْبَغِي أَنْ يُبَلِّغَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي، أَمَا تَرْضَى أَنَّكَ كُنْتَ مَعِي فِي الْغَارِ، وأَنَّكَ صاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ؟ "، قال: بلى. فسار أبو بكرٍ أميرًا على الحاجِّ، وعليٌّ ليؤذِّنَ ببراءةَ، وكانَ من عادةِ العربِ في عقدِ العُهودِ ونقضِها ألَّا يتولَّى ذلكَ إِلَّا سيدُهم، أو رجلٌ من قومِه، أقربُهم إليه نَسَبًا، فلما كانَ قبلَ الترويةِ بيوم، خطبَ أبو بكرٍ الناسَ، وحدثهم عن مناسِكِهم، وأقام للناسِ الحجَّ، والعربُ في تلكَ السنةِ على منازِلهم الّتي كانوا عليها في الجاهليةِ من الحجِّ، حتّى إذا كانَ يومُ النَّحر، قام عليٌّ عندَ جمرةِ العقبةِ، وأَذَّنَ في النَّاس بما أُمر به من الآيات، وألَّا
﴿وَأَذَانٌ﴾ عطفٌ على قوله: ﴿براءةٌ﴾ أي: وإعلامٌ.
﴿مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ مبتدأٌ، خبرُهُ ﴿إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾ هو يومُ عرفةَ، والحجُّ الأصغرُ العمرةُ؛ لنقصِ عملِها.
﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أي: من عهودِهم.
﴿وَرَسُولُهُ﴾ قراءةُ العامةِ برفعِ (رَسُولُهُ) مبتدأُ خَبَرٍ؛ أي: ورسولُه بريءٌ أيضًا من المشركين. وقرأ يعقوبُ: (وَرَسُولَهُ) بنصبِ اللام عطفًا على اسمِ (أَنَّ) (١)، ولا يجوزُ عطفهُ على (المشركين)؛ لأنّه كفرٌ، وتقدَّم في أول التفسير عندَ شكلِ القرآنِ ونقطِه أنَّ سببَ وضعِ الإعرابِ في المصاحفِ أن أبا الأسودِ الدؤليَّ التابعيَّ البصريَّ حكي أنّه سمعَ قارئًا يقرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بكسرِ اللام، فأعظمَه ذلكَ، وقالَ: "عَزَّ وَجْهُ اللهِ أن يبرأَ من رسولِه"، ثمّ جعلَ الإعرابِ في المصاحف (٢)، تلخيصُهُ: براءةٌ وإعلامٌ من اللهِ ورسولهِ بأنْ لا عهدَ لناكثٍ.
(٢) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (٢٥/ ١٩٢).
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرَضتُم عن الإيمان.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ لا تعجزونه، ولا تفوتونه في الدنيا.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ في الآخِرةِ.
* * *
﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)﴾.
[٤] ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ استثناءٌ من المشركين، وهم بنو ضَمْرَةَ: حَيٌّ منْ كنانةَ، أَمَرَ - ﷺ - بإتمامِ عهدِهم إلى مُدَّتهم، وكان قد بقيَ منها تسعةُ أشهر، والسببُ فيه أنّهم لم ينقُضوا العهدَ، وثبتوا عليه، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا﴾ من عهدِكم.
﴿وَلَمْ يُظَاهِرُوا﴾ يعينوا ﴿عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾ من أعدائِكم.
﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ أدُّوه إليهم ﴿إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾ كملًا، ولا تُجروهم مُجرى الناكثين.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ تنبيهٌ على أن تمامَ عهدِهم من بابِ التقوى.
* * *
﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ﴾ انقضى ﴿الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ﴾ الّتي أُبيح للناكثين أن يَسيحوا
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الناكثينَ ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ من حِلٍّ وحرمٍ.
﴿وَخُذُوهُمْ﴾ وأْسِرُوهم، والأَخيذُ: الأسيرُ ﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ احْبِسوهم.
﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ على كلِّ طريقٍ، والمرصدُ، كلُّ مكانٍ يُرْصَدُ منه العدوُّ؛ أي: يرقَبُ فيه؛ لتأخذوهم من أيِّ وجهةٍ توجَّهوا.
﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ من الشركِ.
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ تصديقًا لتوبتِهم وإيمانِهم.
﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ اتركوهم يدخلون مكةَ، ويتصرَّفون في البلاد، وفيه دليلٌ على أن تاركَ الصّلاةِ ومانعَ الزكاةِ لا يخلَّى سبيلُه، فالكفَّارُ مخاطَبون بالإيمان بالاتفاق، وبالفروعِ عندَ الشّافعيِّ وأحمدَ، وقالَ أكثرُ الحنفيةِ: ليسوا مخاطَبين بالفروعِ، وهو قولُ مالكٍ، ويأتي ذكرُ حكمِ تاركِ الصّلاةِ ومانعِ الزكاةِ في سورةِ الماعونِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لمن تابَ ﴿رَحِيمٌ﴾ به.
* * *
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَإِنْ أَحَدٌ﴾ أي: وإن جاءكَ أحدٌ.
﴿فَأَجِرْهُ﴾ فَأَمِّنْهُ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ أي: قراءتَكَ كلامَ الله؛ ليعلم شرائعَ الإسلامِ.
﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ الموضعَ الّذي يأمَنُ فيه، وهو دارُ قومه إنْ لم يُسْلِمْ، فإنْ قاتلكَ بعدُ، فاقتلْه.
﴿ذَلِكَ﴾ المأمورُ به من الإجارة ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ﴾ جَهَلَةٌ.
﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ دينَ الله، فهم محتاجون إلى سماعِ كلامِه.
ولا خلافَ بينَ الأئمةِ في جواز أمانِ السلطان؛ لأنّه مقدَّمٌ للنظرِ والمصلحةِ، وكذا أمانُ الحرِّ جائزٌ بالاتفاقِ، وأمّا العبدُ المسلمُ إذا أَمَّنَ شخصًا أو مدينةً، فقال الثلاثة: يَمْضي أمانُه مطلَقًا، وقال أبو حنيفةَ: لا يَمْضي إِلَّا أن يكونَ سيدُه أذنَ له في القتال.
* * *
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ والاستبعادِ، المعنى: ممتنعٌ ثبوتُ عهدٍ للمشركين.
﴿عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ وهم يغدرونَ وينقضونَ العهدَ، ثمّ استثنى فقال:
﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ﴾ أي: فما قاموا على الوفاء بعهدكم.
﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ أي: فأقيموا لهم على مثلِ ذلك.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه.
* * *
﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿كَيْفَ﴾ أعادَ الإنكارَ والاستبعاد؛ أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ.
﴿وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ يظفروا بكم.
﴿لَا يَرْقُبُوا﴾ يحفضوا ﴿فِيكُمْ إِلًّا﴾ قرابةً ﴿وَلَا ذِمَّةً﴾ عهدًا، والذمَّةُ في اللُّغة: عبارةٌ عن العهدِ، وفي الشرعِ: عبارةٌ عن وصفٍ يصيرُ فيه أهلًا للإيجاب والاستحباب.
﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ يُظْهِرون الجميلَ، ويُضْمرون القبيحَ، ﴿وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ﴾ الإيمانَ ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ناقضو العهد؛ لأنَّ منهم من وفى.
* * *
[٩] ﴿اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ استبدلوا بالقرآنِ ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ من حُطامِ الدنيا ونيلِ الشهوات، وذلك أنّهم نقضوا العهدَ بأكلةٍ أطعمهم أبو سفيان.
﴿فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أي: فمنعوا الناسَ من الدخولِ إلى ديِنه.
﴿إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ عملُهم هذا.
* * *
﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ لا تُبْقوا عليهم أيها المؤمنون؛ فإنهم لا يُبْقون عليكم إنْ ظَفِروا بكم.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ بنقضِ العهد.
* * *
﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)﴾.
[١١] ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ من الشركِ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانُكم ﴿فِي الدِّينِ﴾ لهم ما لَكُم، وعليهم ما عليكم.
﴿وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ نُبَيَّنُها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قال ابنُ عباسٍ: "حُرِّمَتْ بهذهِ الآيةِ دماءُ أهلِ القبلةِ" (١).
[١٢] ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضوا عهودَهم ﴿مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ يعني: مشركي قريش، ﴿وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ﴾ عابوا الإسلامَ.
﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ رؤوسَ المشركين وقادتهم، نزلتْ في أبي سفيانَ وأصحابِه رؤساءِ قريشٍ الذين نقضوا العهد. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ: (أَئِمَّةَ) بهمزتين محققتين على الأصل، والباقون: بتحقيق الأولى، وتسهيل الثّانية بينَ بينَ، وروي عنهم وجهٌ أنّها تُجعل ياءً خالصةً مكسورة تخفيفًا؛ لاستثقالهم تحقيقَ همزتينِ في كلمةٍ واحدة، وأبو جعفرٍ يدخِلُ بينهما ألفًا مع تسهيل الثّانية، وهشامٌ راوي ابنِ عامرٍ رُوي عنه المدُّ مع تحقيقِ الهمزة الثّانية (١).
﴿إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ حقيقةً؛ لنقضهم العهدَ قراءة العامة: (أَيْمَانَ) بفتح الهمزة، جمعُ يمين، وقرأ ابنُ عامرٍ: بكسر الهمزة بمعنى
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٣٧٨ - ٣٧٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٩).
﴿لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ عمَّا هم عليه.
واختلفوا في يمينِ الكافرِ هل تنعقدُ؟ فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: لا تنعقدُ، وسواءٌ حَنِثَ حالَ كفرِه أو بعدَ إسلامه، ولا يصحُّ منه كفارةٌ؛ استشهادًا بظاهرِ ﴿لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾.
وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: تنعقدُ يمينُه؛ بدليلِ وصفِها بالنكثِ، وتلزمه الكفارةُ بالحنث فيها في الموضعين، ويكفِّرُ بغيرِ الصومِ.
وأمّا الذميُّ إذا طعنَ في الدينِ، بأنْ ذكرَ اللهَ سبحانَه بما لا يليقُ بجلاله، أو ذكرَ كتابَه المجيدَ، أو رسولَه الكريمَ ودينَه القويمَ بما لا ينبغي، فإنّه ينتقضُ عهدُه عندَ مالكٍ وأحمدَ، سواءٌ شُرِطَ تركُ ذلكَ عليهم، أو لم يُشْتَرَطْ، وقال الشافعيُّ: إنَّ شُرِطَ انتقاضُ العهد بها، انتقضَ، وإلا فلا، فإذا انتقضَ عهدُه، فقال مالكٌ: يُقتل، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: يخيرُ الإمامُ فيه قتلًا وَرِقًا ومَنًّا وفِداءً، ولا يردُّ إلى مأمنِه، وقال أبو حنيفةَ: لا ينتقضُ عهدُه إِلَّا باللحاقِ بدارِ الحرب، أو أن يغلبوا على موضعٍ فيحاربوا، فيصير أحكامُهم كالمرتدين، إِلَّا أنّه إذا ظفرنا بهم، نسترقُّهم، ولا نجبرُهم على الإسلامِ، ولا على قبولِ الذِّمَّة، فإن أسلمَ، لم يقتلْ بالاتفاق.
* * *
[١٣] ثمّ حَرَّضَ المسلمين على قتالهم، فقال تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ نقضوا عهودَهم، وهم الذين نقضوا عهدَ الصلحِ بالحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعةَ.
﴿وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ﴾ من مكةَ حينَ اجتمعوا في دارِ الندوة.
﴿وَهُمْ بَدَءُوكُمْ﴾ بالقتالِ ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يومَ بدرِ، ذلك أنّهم قالوا حين سلم العيرُ: لا ننصرفُ حتّى نستأصلَ محمدًا وأصحابَه، ثمّ وَبَّخهم على خوفِهم منهم فقال:
﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ فتتركون قتالَهم ﴿فَاللَّهُ أَحَقُّ﴾ من غيرِه.
﴿أَنْ تَخْشَوْهُ﴾ فقاتِلوا أعداءه ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
* * *
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ثمّ شَجَّعهم عليهم فقال: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ﴾ يقتلْهم اللهُ.
﴿بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ﴾ يُذِلَّهم بالأسرِ والقتل. قرأ رُويسٌ عن يعقوبَ: (وَيُخْزِهُمْ) بضم الهاء، والباقون: بالكسر (١).
﴿قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ بما كانوا ينالونَهُ من الأذى منهم.
* * *
﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ كَرْبَها ووجْدَها.
﴿وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ فيهديه للإسلام؛ كأبي سفيانَ، وعكرمةَ بنِ أبي جهل، وسُهيلِ بنِ عمرٍو. وقراءةُ العامَّةِ: (وَيَتُوبُ) برفع الباء استئنافًا إخبارًا عن توبتِه على من أسلم، وقرأ رويسٌ عن يعقوبَ بخلافِ عنه: بنصبِ الباء على تقديرِ وأن (يَتُوبَ) أو حَتَّى (١).
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما كانَ وسيكونُ ﴿حَكِيمٌ﴾ لا يفعلُ شيئًا عَبثًا.
* * *
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ أظننتم، خطابٌ للمؤمنين حينَ كرهَ بعضُهم القتالَ ﴿أَنْ تُتْرَكُوا﴾ فلا تؤمَروا بالجهادِ ولا تُمتحنوا ليظهرَ الصادقُ من الكاذبِ.
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ أي: ولما يَرَى الله.
﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يعلمُ غرضَكم منه.
* * *
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧)﴾.
[١٧] ولما أُسر العباسُ يومَ بدرٍ، وَعَيَّرَه المسلمون بالكفرِ وقطيعةِ الرّحمِ، وأغلظَ عليٌّ له القولَ، قال العباسُ: وما لكم تذكرونَ مساوِئَنا، ولا تذكرونَ محاسِنَنا، فقال له عليٌّ: ألكمْ محاسِنُ؟ فقال: نعم، إنا نَعْمُرَ المسجدَ الحرامَ، ونحجُبُ الكعبةَ، ونسقي الحاجَّ، فنزلَ ردًّا عليه: ﴿مَا كَانَ﴾ (٢) ما جازَ ولا ينبغي.
﴿لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ: (مَسْجِدَ اللهِ) على التّوحيد، والمرادُ: الكعبةُ، والباقون: (مَسَاجِدَ) على الجمع (٣)، والمرادُ: جنسُ المساجدِ، والكعبةُ داخلة فيه، المعنى: ليس
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١).
﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ بإظهارِ الشركِ، وتكذيبِ الرسولِ، وعبادةِ الأصنام، وقولِ النصراني: أنا نصرانيٌّ، وقولِ اليهوديِّ: أنا يهوديٌّ، ونصبُ (شاهدين) على الحالِ.
﴿أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ لأنّها لغيرِ الله.
﴿وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ لكفرِهم.
* * *
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ثمّ قال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ اتفقَ جميعُ القراء على الجمعِ في هذا الحرف؛ لأنّ المرادَ به: جميعُ المساجد.
﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ لم يتركْ أمرَ اللهِ خشيةً من غيره، وعمارةُ المسجد: بناؤه، ورمُّ متشعثه، وكنسُه، والصلاةُ والذكرُ ودرسُ العلمِ الشرعيِّ فيه، وصيانتُه ممّا لم يُبْنَ له؛ كحديثِ الدنيا ونحوِه (١)، وفي الحديثِ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ فَيَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا، ذِكْرُهُمُ الدُّنْيَا وَحُبُّ الدُّنْيَا، فَلَا تُجَالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ للهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ" (٢)، ويحرمُ البصاقُ في
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٠٤٥٢)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (٤/ ١٠٩)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (٢/ ٩٨)، =
﴿فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ و (عسى) من اللهِ واجبٌ؛ أي: أولئكَ هم المهتدون.
قال - ﷺ -: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدَ، فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيَمانِ" (١).
ورُويَ أن عثمانَ بنَ عفانَ رضي الله عنه أرادَ بناءَ المسجدِ، فكرهَ النّاسُ ذلكَ وأَحَبُّوا أن يدعَه، قالَ عثمان رضي الله عنه: سمعتُ النبيَّ - ﷺ - يقولُ: "مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدًا، بَنَى اللهُ لهُ كَهَيْئَتِهِ فِي الْجَنَّةِ" (٢).
* * *
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾.
(١) رواه الترمذي (٣٠٩٣)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (٨٠٢)، كتاب: الصّلاة، باب: لزوم المساجد وانتظار الصّلاة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(٢) رواه البخاريّ (٤٣٩)، كتاب: المساجد، باب: من بنى مسجدًا، ومسلم (٥٣٢)، كتاب: المساجد ومواضع الصّلاة، باب: فضل بناء المساجد والحث عليها.
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (١) والسقايةُ والعمارةُ: مَصْدَرا سَقَى وعَمَرَ. ورُوي عن أبي جعفرٍ أنّه قرأ: (سُقَاةَ) بضم السين وحذف الياء بعدَ الألف (وَعَمَرَة) بفتح العين وحذف الألف على جمع ساقي والعامر (٢)، تقديره: أجعلتم أصحابَ سقايةِ الحاجِّ، وأصحابَ عِمارةِ المسجدِ.
﴿كَمَنْ آمَنَ﴾ كإيمان مَنْ آمنَ ﴿بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المعنى: إنكارٌ أن يشبه المشركين وأعمالُهم المحبَطَةُ بالمؤمنينَ وأعمالِهم المثبتَةِ، ثمّ قَرَّرَ ذلكَ بقولِه:
﴿لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ تنبيهٌ على أن التسويةَ بينَهم ظلمٌ.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٢٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١١ - ١٢)، وقد ذكرها البغوي من قراءة ابن الزبير وأبيّ.
[٢٠] ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ أعلى رتبةً.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ ممّن افتخروا بعِمارةِ المسجدِ الحرامِ وسقايةِ الحاجِّ.
﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ الظافرونَ (١) بأمنياتهم.
* * *
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ دائمٌ. قرأ حمزةٌ: (يَبْشُرُهُمْ) بفتح الياء وتخفيف الشين وضمِّها من البشر، وهو البشرى والبشارة، وقرأ الباقون: بضم الياء وتشديد الشين مكسورةً، من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثير، والبشرُ والتبشيرُ والإبشارُ لغاتٌ فصيحاتٌ (٢)، وقرأ عاصمٌ بروايةِ أبي بكبر: (وَرُضوَانٍ) بضم الراء، والباقون: بكسرها (٣).
* * *
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٢).
[٢٢] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ أكد الخلودَ بالتأبيدِ؛ لأنّه قد يستعمل للمكثِ الطويل ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] عن ابن عبّاس رضي الله عنه: "لما أمرَ رسولُ الله - ﷺ - الناسَ بالهجرةِ إلى المدينة، فمنهم من تعلَّقَ به أهلُه وولدُه يقولون: ننشدُكَ بالله ألَّا تُضَيِّعَنا، فيرقُّ، فيقيمُ عليهم، ويدعُ الهجرةَ، فأنزل اللهُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (١) أصفياءَ وبطانةً يمنعونكم عن الإيمان، ويصدُّونكم عن الطاعةِ.
﴿إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ﴾ واختلافُ القراء في الهمزتين من (أَوْلِياءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا) كاختلافِهم فيهما من (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ) في سورة البقرة.
﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ﴾ يؤثر المقامَ على الهجرةِ والجهادِ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ بوضعِهم الموالاةَ في غيرِ موضعِها، وكان في ذلك الوقتِ لا يُقَبل الإيمانُ إِلَّا من مهاجرٍ.
* * *
[٢٤] نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إنَّ نحنْ هاجرْنا، ضاعتْ أموالُنا، وذهبتْ تجارتنُا، وخربَتْ دورُنا، وقطعْنا أرحامَنا ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ للمتخلِّفينَ عن الهجرةِ:
﴿إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَعَشِيَراتُكُمْ) بالألف على الجمع، والباقون: بغير ألف (١)؛ أي: قومُكم بمكة.
﴿وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا﴾ اكتسبتموها ﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾ عدمَ نَفاقِها ﴿وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ تستطيبونَها.
﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ الحبّ الاختياري دونَ الطبيعيِّ؛ فإنّه لا يدخلُ تحتَ التكليفِ التحفظ عنه.
﴿فَتَرَبَّصُوا﴾ أي: انتظروا ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ بقضائِه، وهو تهديدٌ لمن يؤثرُ لذاتِ الدنيا على الآخرة.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ لا يرشدُهم، والفسقُ: الخروجُ عن الطّاعة.
* * *
[٢٥] ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ﴾ مشاهدَ.
﴿كَثِيرَةٍ﴾ كبدرٍ، وفتحِ مكةَ، وقريظةَ، والنضيرِ.
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾ اسمُ وادٍ بينَ مكَّةَ والطائفِ، بينهما ثلاثةُ أميال.
وملخَّصُ القصةِ: أنَّ رسولَ الله - ﷺ - لما فتحَ مكةَ في شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ من الهجرةِ، تجمعَتْ هوازنُ بحريمِهم وأموالِهم لحربِ رسولِ الله - ﷺ -، ومقدَّمُهم مالكُ بنُ عوفٍ النَّصْريُّ، وانضمَّتْ إليه ثقيفُ، وهم أهلُ الطائف، وبنو سعدٍ، وهم الذين كانَ النبيُّ - ﷺ - مرتَضَعًا عندَهم، فلما سمعَ رسولُ الله - ﷺ - باجتماعِهم، وكانوا أربعةَ آلافٍ، خرجَ من مكةَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ من شوالٍ، وخرجَ معه اثنا عشرَ ألفًا، منها عشرة آلاف كانتْ معه، وألفانِ من أهلِ مكةَ، وحضر جماعةٌ كثيرةٌ من المشركين، وهم مع رسولِ اللهِ - ﷺ -، وانتهى إلى حُنَيْنٍ، وركبَ بغلتَهَ الدُّلدُل، وقال رجلٌ من الأنصار يقالُ له سلمةُ بنُ سلامةَ لما رأى كثرةَ مَنْ معَ النّبيّ - ﷺ -: لنْ يغلب هؤلاءِ من قلة، فساءَ رسولَ اللهِ - ﷺ - كلامُه، فلما التقى الجمعان، انكشفَ المسلمونَ، لا يَلْوي أحدٌ على أحدٍ، وانحازَ رسولُ اللهِ - ﷺ - في نفرٍ من المهاجرينَ والأنصارِ وأهلِ بيتِه، واستمرَّ رسولُ اللهِ - ﷺ - ثابتًا، وتراجعَ المسلمون، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ - ﷺ - حَصياتٍ فرمى بها في وَجْهِ المشركينَ، فكانتِ الهزيمةُ، ونصرَ الله المسلمين، واتَّبَع المسلمون المشركين يقتلونهم ويأسرونهم.
فَأَصْبحَ نهبي وَنْهب الْعُبَيْـ | ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَة وَالأَقْرَعِ |
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ | يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ |
وَمَا كُنْتُ دُونَ أمْرِئٍ مِنهُما | وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَمْ يُرْفَعِ |
أَلاَ كُلُّ مَنْ لاَ يَقْتَدِي بِأَئِمَّةٍ | فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ |
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ | سَعِيدٌ سُلَيْمَان أَبُو بَكْرٍ خَارِجَهْ |
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (١٠١)﴾.
[١٠١] قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ أي: حولَ بلدِكم، وهي المدينةُ ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ﴾ وهم مُزَيْنَةُ وجُهَيْنَةُ، وأَشْجَعُ وأَسْلَمُ، وَغِفارٌ كانوا نازلينَ حولَ المدينة.
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ﴾ قومٌ منافقون ﴿مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ﴾ مَرَنوا وتَمَهَّروا فيه، وهم من الأوسِ والخزرجِ ﴿لَا تَعْلَمُهُمْ﴾ أنتَ يا محمدُ.
﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيِمِ﴾ بأن يخلَّدوا في جهنمَ.
* * *
﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿وَآخَرُونَ﴾ مبتدأٌ ﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ صفتُه، وخبرُه:
﴿خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا﴾ وهو إقرارُهم وتوبتُهم.
﴿وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ هو تخلُّفُهم، وضعَ الواوَ موضعَ الباءِ كما يقالُ: خلطتُ الماءَ واللبنَ؛ أي: باللبنِ.
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ يقبلَ توبتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ يتجاوزُ عن التائب.
* * *
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] فجاؤوا النبيَّ - ﷺ - وقالوا: خذْ أموالَنا التي تخلَّفْنا عنكَ بسببِها،
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ (١) من ذنوبهِم.
﴿وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ أي: تنمِّي حسناتِهم، وترفَعُهم من منازلِ المنافقينَ إلى منازلِ المخلِصين.
﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ أي: ادعُ لهم واستغفرْ.
﴿إِنَّ صَلَاتَكَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (إِنَّ صَلاَتَكَ) على التوحيد، وفتحِ التاءِ، والباقون: بالجمعِ وكسرِ التاء (٢) ﴿سَكَنٌ لَهُمْ﴾ طُمَأْنينةٌ ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لاعترافِهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بندامَتِهم.
* * *
﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] فلما نزلتْ توبةُ هؤلاءِ، قال الذين لم يتوبوا من المتخلِّفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمسِ لا يُكَلَّمون ولا يُجالَسون، فما لهم؟! فقال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ إذا صحَّتْ.
﴿وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ﴾ أي: يقبلُها ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ وأنَّ من شأنِه قبولَ توبةِ التائبينَ، قالَ - ﷺ -: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٩ - ٤٠).
* * *
(٢) في "ت": "به".
(٣) انظر: "شرح السنة" للبغوي (١/ ١٦٨).
[١٠٥] ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ ما شئتُمْ ﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنَّه لا يخفى على اللهِ، خيرًا كانَ أو شرًّا.
﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالمجازاةِ عليه.
* * *
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿وَآخَرُونَ﴾ من المتخلِّفينَ التائبينَ ﴿مُرْجَوْنَ﴾ مُؤَخَّرون.
﴿لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ فيهم بما يشاءُ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مُرْجَؤُونَ) بالهمز، والباقون: بالواو بغير همز (١)، والمرجَؤُون هم الثلاثةُ الذين تأتي قصَّتُهم، وهم كعبُ بنُ مالكٍ، وهلالُ بنُ أميةَ، ومرارةُ بنُ الربيع، لم يبالِغوا في التوبةِ والاعتذار كما فعلَ أبو لُبابةَ، فتوقَّفَ رسولُ الله - ﷺ - في توبَتِهم.
﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُم﴾ إنْ لم يتوبوا ﴿وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ إنْ تابوا.
* * *
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرو: (الَّذيِنَ) بغيرِ واوٍ قبلَ الذين، وكذلكَ هو في مصاحِفهم، والباقون: بالواو.
﴿مَسْجِدًا ضِرَارًا﴾ أي: مضارَّةً، نزلتْ في جماعةٍ من المنافقين بَنَوا مسجِدًا يضارُّونَ به مسجدَ قُباء، وكانوا اثني عشرَ رجلًا، فعلوا ذلكَ مضارَّة للمؤمنين.
﴿كُفْرًا﴾ باللهِ ورسولهِ.
﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين كانوا يجتمعونَ للصلاةِ في مسجدِ قُباء، فلما فرغوا، أتوا الرسولَ - ﷺ - وهو يتجهَّزُ إلى تبوكَ، وقالوا: يا رسولَ الله! إنا قد بنينا مسجِدًا لذي العِلَّةِ والحاجَةِ والليلةِ المَطِيَرةِ، وإنَّا نحبُّ أن تأتيَنا وتصلِّي لنا فيه، وتدعوَ بالبركة، فقالَ رسولُ الله - ﷺ -: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وإِنْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللهُ صَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ"، وكان أبو عامرٍ الراهبُ رَجُلًا منهم قد تنَصَّرَ في الجاهليةِ، وتَرَهَّبَ، ولم يزلْ يقاتلُ النبيَّ - ﷺ - حتى هُزِمَ يومَ حُنين، وسماهُ: أبا عامرٍ الفاسقَ، كان قال لهم:
﴿وَإِرْصَادًا﴾ (١) أي: إعدادًا.
﴿لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي: لأجلِ هذا المنافقِ الذي حاربَ.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبلِ بناءِ مسجدِ الضِّرارِ إلى جنبِ مسجدِ قُباء، ولما خرجَ إلى الشامِ ليأتيَ من قَيْصَرٍ بجنودٍ يحاربُ بهم رسولَ الله - ﷺ -، هَلَكَ بِقِنَّسْرينَ طَريدًا وحيدًا.
﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا﴾ أي: ما أردْنا ﴿إِلَّا﴾ الفعلَةَ ﴿الْحُسْنَى﴾ ببناءِ هذا المسجد، وهي الرفقُ بالمسكينِ والضعيفِ في الليلةِ الشاتيةِ وشدَّةِ الحرِّ، والسَّعَة على المسلمينَ.
﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في حلفِهم.
* * *
﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] فلما خرجَ - ﷺ - إلى تبوكَ، سألوهُ إتيانَ مسجدِهم ليصلِّي فيهِ، فنزلَ: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ لا تصلِّ في مسجدِ الضِّرارِ، وأُخبر بحالِهم فأرسل وَحْشِيًّا بجماعةٍ، فحرقوهُ وهدموهُ، وتفرَّقَ أهلُه فجُعل مكانَه كُناسةٌ تُلْقى فيها (٢) الجِيَفُ.
(٢) في "ظ": "فيه".
﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ وُضِع أساسُه.
﴿أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ مصلِّيًّا، خبرُ الابتداء، والمسجدُ المؤَسَّسُ على التقوى هو مسجدُ رسولِ الله - ﷺ -، وردَ بهِ الحديثُ عنه عليه السلام، وقيل: مسجدُ قُباء؛ لأنه - ﷺ - أَسَّسَه وصلَّى فيهِ أيامَ مُقامِه بقُباء من الاثنينِ إلى الجمعةِ.
﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ بالتوبةِ من المعاصي، وقيلَ: بالماءِ من الأحداث.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ يَرْضَى عنهم.
* * *
﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ: (أُسِّسَ) بضم الهمزة وكسر السين (بُنْيَانُهُ) رفعٌ فيه جميعًا على غير تسميةِ الفاعلِ، والباقون بفتح الهمزةِ والسينِ والنونِ على تسميةِ الفاعلِ (١)، والمرادُ: قواعدُ البنيانِ.
﴿عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ﴾ أي: على طلب التقوى، ورضا الله.
قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (جُرْفٍ) ساكنة الراء، والباقون: بضم الراء، وهما لغتان (١).
﴿هَارٍ﴾ أي: أشرفَ على السقوط. قرأ أبو عمرو، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (هَارِ) بالإمالة، واختلِفَ عن قالونَ وابنِ ذكوانَ، ورُوي عن يعقوبَ، وقنبلٍ الوقفُ بالياءِ على (هَارِي) (٢).
﴿فَانْهَارَ بِهِ﴾ أي: سقطَ بالباني.
﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ يريدُ: بناءُ هَذا المسجدِ الضِّرارِ كالبناءِ على شفيرِ جهنَّمَ يتهوَّرُ بأهلِها فيها.
﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إلى ما فيه نجاتُهم، المعنى: أفمنْ أَسَّسَ دينَه على أثبتِ القواعدِ، وهو الإيمانُ خيرٌ، أم مَنْ أَسَّسه على أضعفِ القواعدِ، وهو الكفرُ، فيسقطُ صاحبُه في النار؟ ورُوي أنه حُفِرَتْ بقعةٌ في مسجدِ الضرار، فرئي الدخانُ يخرجُ منها (٣).
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٥ - ٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٣ - ٤٤).
(٣) رواه الطبري في "تفسيره" (١١/ ٣٢)، عن قتادة.
[١١٠] ﴿لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ﴾ يعني: المنافقينَ البانينَ للمسجدِ، ومَنْ شركَهم في غرضِهم، وقوله: ﴿الَّذِي بَنَوْا﴾ تأكيدٌ وتصريحٌ بأمرِ المسجدِ ورفع الإشكالِ.
﴿رِيبَةً﴾ شَكًّا ونفاقًا ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾ يحسبون أنهم كانوا في بنائِه مُحسنينَ، ولما هدمَهُ - ﷺ -، ازدادوا تصميمًا على النفاقِ.
﴿إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: لا تفارقُهم الريبةُ حتى تُقَطَّعَ قلوبُهم بحيثُ لا يبقى لها قابليةُ الإدراكِ والإضمار. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلفٌ: (إلا) بتشديدِ اللامِ على أنه حرفُ استثناء (تُقَطَّعَ) بضم التاءِ وبناءِ الفعل للمفعول، وقرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وعاصمٌ بروايةِ حفصٍ، وأبو جعفرٍ: (إلا) بالتشديد كما تقدَّم (تَقَطَّعَ) بفتحِ التاء؛ أي: تتقطع، وقرأ يعقوبُ: (إِلىَ) بتخفيفِ اللام، فجعلَه حرفَ جر (تَقَطَّعَ) بفتح التاء كابنِ عامرٍ ومَنْ وافقَهُ، ورُوي عنه أيضًا: بضمِّ التاءِ خفيف من القطع (١).
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بنيَّاتِهم ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما أَمَرَ بهدمِ بنائهم.
* * *
[١١١] ولما بايعَ رسولُ الله - ﷺ - الأنصارَ ليلةَ العقبةِ أن يعبدوا اللهَ، ولا يُشركوا به شيئًا، وأن يمنعوه ما يمنعونَ منه أنفسَهم وأموالَهم، ولهم إن وفَوا بذلك الجنةُ، فقبلوا وقالوا: لا نقيلُ ولا نستقيلُ، نزل:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (١) قرأ حمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَيُقْتَلُونَ) بتقديِم المفعولِ على الفاعلِ على معنى قُتِلَ بعضُهم، وقاتلَ الباقون منهم، وقرأ الآخرونَ بتقديمِ الفاعل (٢).
﴿وَعْدًا عَلَيْهِ﴾ مصدرٌ مؤكِّدٌ ﴿حَقًّا﴾ صفتُه، المعنى ما وُعِدوا به حقٌّ ثابت ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ فيه دليلٌ على أن الجهادَ كان في شريعةِ مَنْ تقدَّمنا.
﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ استفهامٌ على جهةِ التقرير؛ أي: لا أحدَ أوفى بعهدِهِ من الله.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٩٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٤٦ - ٤٧).
* * *
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿التَّائِبُونَ﴾ رفعٌ على المدحِ؛ أي: هم التائبون، والمرادُ بهم: المؤمنونَ المذكورون الذين تابوا من الشرك.
﴿الْعَابِدُونَ﴾ المخلِصونَ العبادةَ للهِ تعالى.
﴿الْحَامِدُونَ﴾ في السَّراءِ والضَّراءَ.
﴿السَّائِحُونَ﴾ الصائِمونَ؛ سُمُّوا بذلك لتركِهم اللذاتِ؛ المطعمَ والمشربَ والمنكحَ، في الحديثِ: "سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ" (١).
﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾ في الصلاةِ.
﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الإيمانِ.
﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الشركِ، وتقدَّمَ تفسيرُ المعروفِ والمنكرِ في السورةِ.
﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ القائمونَ بأوامره.
﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: هؤلاء الموصوفينَ بتلكَ الفضائل.
[١١٣] رُوي أن أبا طالبٍ لما حضرَتْهُ الوفاةُ، جاءَهُ رسولُ الله - ﷺ -، فوجدَ عندَه أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أميةَ بنِ المغيرةِ، فقال: "أَيْ عَمِّ قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ"، فقالَ أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ: أَتَرْغَبُ عن ملَّةِ عبدِ المطَّلب؟! فلم يزلْ رسولُ اللهِ - ﷺ - يعرضُها عليه، ويعيدانِه بتلكَ المقالةِ حتى قالَ أبو طالبٍ آخرَ ما كلَّمَهُمْ: هو على ملَّةِ عبدِ المطلبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، قالَ رسولُ اللهِ - ﷺ -: "وَاللهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فأنزلَ الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معه (١).
﴿أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (٢) بأنْ ماتوا كفار.
* * *
﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)﴾.
[١١٤] ثم بينَ عذرَ إبراهيمَ في الاستغفارِ لأبيهِ فقال: {وَمَا كَانَ
(٢) رواه البخاري (١٢٩٤)، كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، ومسلم (٢٤)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه.
﴿لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ﴾ بقوله: ﴿لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة: ٤] لأطلبنَّ مغفرتَكَ بالتوفيقِ للإيمانِ.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ﴾ أي: ظهرَ لإبراهيمَ بطريقِ الوحيِ أن آزرَ.
﴿عَدُوٌّ لِلَّهِ﴾ لموتِه على الكفرِ ﴿تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ أضربَ عن الاستغفارِ لأبيه في الدنيا.
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ﴾ مُتَأَوِّهٌ تضرُّعًا ﴿حَلِيمٌ﴾ صفوحٌ عَمَّنْ نالَه بسوءٍ.
* * *
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا﴾ أي: ليسمِّيَهم ضُلَّالًا، ويؤاخذَهم مؤاخذَتَهم ﴿بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾ للإسلامِ.
﴿حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ خطرَ ما يجبُ اتقاؤه، المعنى: ما كانَ ليحكمَ بضلالِ من استغفرَ للمشركينَ قبلَ النهيِ حتى يتبيَّنَ لهم ما يأتون، فإذا بَيَّنَ، ولم يأخذوا به بعدَ ذلكَ يستحقُّون الضلال.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فيعلمُ أمرَهم في الحالين.
* * *
[١١٦] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يحكمُ ما يشاء ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير﴾ تقدَّمَ تفسيُره في السورةِ.
* * *
﴿لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿لَّقَدْ تَابَ اللَّهُ﴾ أي: تجاوزَ وصفحَ.
﴿عَلَى النَّبِيِّ﴾ مِنْ إذنهِ للمنافقينَ في التخلُّف.
﴿وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ فيما ندموا على الخروج؛ لما قاسَوا. قرأ أبو جعفر: (العُسُرَةِ) بضمِّ السينِ، والباقون: بالإسكان (١)، والمرادُ: وقتَ العسرة، وليس المراد ساعةً بعينها، والمرادُ: الذين اتبعوه في غزوةِ تبوكَ، ويسمَّى جيشَ العسرةِ؛ لقلة الظَّهْر، كان العشرةُ يَعْتَقِبون على البعير الواحد، والزاد والماء وشدة الحر، حتى كادتْ أعناقُهم تنقطع عطشًا، ومنهم من نحرَ بعيرَه واعتصرَ ماءَ فرثِه، وجعلَ فرثَهُ: على صدرِه.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ﴾ همَّ ﴿يَزِيغُ﴾ تميلُ.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ تكرير لتأكيدِ التوبة ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (رَؤُوفٌ) بالإشباعِ حيثُ وقعَ على وزن فَعُول، والباقونَ: بالاختلاسِ على وزن فَعُل (٢)، والرأفةُ: أشدُّ الرحمةِ.
* * *
﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ عن غزوةِ تبوكَ هم: كعبُ بنُ مالكٍ الشاعرُ، ومُرارَةُ بنُ الرَّبيعِ، وهلالُ بنُ أميةَ، وملخَّصُ القِصَّةِ: أنَّ غزوةَ تبوكَ تسمَّى: غزوةَ العُسْرَةِ؛ لوقوعِها في زمنِ الحرِّ، والبلادُ مجدبةٌ، والناس في عسرةٍ، وكانت في السنةِ التاسعةِ من الهجرةِ، فأنفقَ أبو بكرٍ جميعَ مالِه، وأنفقَ عثمانُ نفقةً عظيمةً، وسارَ النبيُّ - ﷺ - إلى تبوكَ، واستخلَفَ عليًّا رضي الله عنه، فقال عليٌّ: أتخلفني في الصبيانِ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٤٥)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥٠).
(٢) في "ش": "الأصحاب".
﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ (١) أي: برَحْبِها وسَعَتِها.
﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أي: قلوبُهم من فرطِ الوحشةِ والغمِّ. قرأ حمزة: (ضَاقَتْ) بالإمالة (٢).
﴿وَظَنُّوا﴾ أيقنوا.
﴿أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ﴾ من سَخَطِهِ ﴿إِلَّا إِلَيْهِ﴾ إلا إلى الاستغفارِه.
﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ ليدوموا على التوبةِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ﴾ لمن تاب ﴿الرَّحِيمُ﴾ متفضلٌ عليهم بالنعم.
* * *
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٩)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٥١).
[١١٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فيما لا يرضاهُ ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ الذين صَدَقوا في إيمانهم، وصدقوا اللهَ نيةً وقولًا وعملًا، قال كعبٌ: "فو اللهِ! ما أنعمَ اللهُ عليَّ نعمةً قَطُّ بعدَ إذ هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله - ﷺ - ألَّا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فإنَّ اللهَ قالَ للذين كذَبوا حينَ أنزلَ الوحيَ شَرَّ ما قالَ لأحدٍ، فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
* * *
﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ نهيٌ عُبِّرَ عنه بصيغةِ النفيِ للتأكيدِ.
﴿أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ - ﷺ - إذا غَزا ﴿وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ أي: لا يصونوا أنفسَهم عَمَّا يصيبُ نفسَه.
﴿وَلَا نَصَبٌ﴾ تعبٌ ﴿وَلَا مَخْمَصَةٌ﴾ مجاعةٌ.
﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا﴾ يدوسونَ موضِعًا.
﴿يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ يُغْضِبُهم. قرأ أبو جعفرٍ: (يَطُونَ) بإسكان الواو (مَوْطِيًا) بنصب الياء بغير همز فيهما وشبهِه حيثُ وقع (١).
﴿وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ أَسْرًا وقتلًا وهزيمةً.
﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ إلا استوجبوا به الثوابَ.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانِهم.
* * *
﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً﴾ تمرة ونحوها ﴿وَلَا كَبِيرَةً﴾ كنفقةِ عثمانَ في جيشِ العسرةِ.
﴿وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا﴾ في مسيرِهم في الغزوِ في الذهابِ والمجيءِ.
﴿إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ﴾ بذلكَ.
﴿أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لام قسم تأكيد، تقديُره: واللهِ لَيَجْزِيَنَّهُمُ اللهُ،
* * *
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ولما أنزل الله عز وجل عيوبَ المنافقين في غزوةِ تبوكَ، كان النبيُّ - ﷺ - يبعثُ السرايا، فكان المسلمون ينفرون إلى الغزِو ويتركون النبي - ﷺ - وحدَه، فأنزل الله عز وجل:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ (٢) نفيٌ بمعنى النهيِ.
﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ أي: فحينَ لم يكنْ نفيرٌ للكافةِ، فهلَّا نفرَ من كلِّ فرقةٍ بعضُها، ويبقى مع النبيِّ جماعة.
﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ أي: الباقونَ مع رسولِ الله - ﷺ -.
﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ النافرينَ ويعلِّموهم القرآنَ.
﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ وفيه دليلٌ على أن التفقُّهَ والتذكيرَ من فروضِ الكفايةِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ولا يعملون بخلافِه.
قال - ﷺ -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (٣).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (١٥٠).
(٣) رواه البخاري (٧١)، كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، =
وقالَ - ﷺ -: "فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (٢).
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ وهو عامٌّ في قتالِ الأقربِ فالأقربِ.
﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ شِدَّةً عليهم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ بالنصرِ.
* * *
﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ﴾ أي: المنافقينَ ﴿مَنْ يَقُولُ﴾ بعضُهم لبعضٍ ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا﴾ يقينًا وتصديقًا.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ بزيادةِ العلمِ الحاصلِ.
(١) رواه الترمذي (٢٦٨٥)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، عن أبي أمامة -رضي الله عنه-، وقال: غريب.
(٢) رواه الترمذي (٢٦٨٥)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة، وقال: غريب، وابن ماجه (٢٢٢) في المقدمة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
* * *
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شكٌّ ونفاقٌ.
﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ كُفْرًا إلى كفرِهم، فعندَ نزوِل كلِّ سورةٍ ينكرونها، فيزدادُ كفرُهم.
﴿وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ واستحكمَ ذلكَ فيهم حتى ماتوا عليه.
* * *
﴿أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿أَوَلَا يَرَوْنَ﴾ قرأ حمزةُ، ويعقوبُ: (تَرَوْنَ) بالتاء والخطاب للمؤمنين، والباقون: بالغيب على خبر المنافقين (١).
﴿أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ﴾ يُبْتَلَون ﴿فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ﴾ بالمرضِ وغيرِه.
﴿ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ﴾ من نفاقِهم ﴿وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَتَّعِظون.
* * *
[١٢٧] ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ﴾ فيها عيبُ المنافقين ﴿نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ عندَ تعريضِ النبيِّ - ﷺ - بنفاقهم يريدونَ الهربَ يقولونَ:
﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ من المؤمنين إنْ قمتُم من المسجد.
﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا﴾ عن مكانِهم خارجين ﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ عن الهدى، وهو يحتملُ الإخبارَ والدعاءَ، ذلك:
﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسببِ أنهم ﴿قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ لسوءِ فهمِهم، والفقهُ لغةً: الفهمُ، وهو إدراكُ معنى الكلامِ، وشرعًا: معرفةُ الأحكامِ الشرعيةِ المتعلقةِ بأفعالِ العبادِ.
قالَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "لا تقولوا إذا صليتُم: انصرفْنا من الصلاةِ، فإنَّ قومًا انصرفوا، فصرفَ اللهُ قلوبهم، ولكنْ قولوا: قد قَضَينا الصلاةَ" (١).
* * *
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] عن أُبيٍّ -رضي الله عنه- أن آخرَ ما نزل: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ من جنسِكم عربيٌّ مثلُكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائِه من لَدُنْ آدمَ سِفاحٌ، كلُّهم نكاحٌ. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ،
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ﴾ شديدٌ عليه عَنَتكم؛ أي: مَشَقَّتكُم.
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ حتى لا يخرجَ أحدٌ منكم عن اتباعِه.
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ ومعنى رؤوف: مبالغٌ في الشفقةِ (٢)، وتقدم اختلافُ القراءِ في رؤوف عندَ قوله: ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
* * *
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أعرَضوا عن الإيمانِ.
﴿فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ كافيَّ وناصرِي.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدْتُ، فلا أرجو غَيرَه.
﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ وخُصَّ العرشُ بالذكرِ إذْ هو أعظمُ المخلوقاتِ، فيدخلُ فيه ما دونَهُ إذا ذكره، وهاتان الآيتان لم توجدا حينَ جمعِ المصاحفِ إلا في حفظِ خزيمةَ بن ثابتٍ، فلمَّا جاءَ بهما، تَذَكَّرَهما كثيرٌ من الصحابةِ، وقد كانَ زيدٌ يعرفُهما، ولذلكَ قالَ: "فقدتُ آيتينِ من
(٢) عند تفسير الآية (١١٧) من هذه السورة.
ورويَ أنَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - عاشَ بعدَ نزولها خمسةً وثلاثين يومًا، والله أعلمُ.
* * *
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).