وهو أيضا يقول: ﴿لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٤٣].
إذن فالبراءة يلزم منها أنه كان هناك عهد واستمساك به، وجاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد الذي عهده رسول الله معهم، وكانوا معتصمين بالمعاهدة، ثم جاء الأمر الإلهي بقطع هذه المعاهدة. وكلمة «براءة» تجدها في «الدَّيْن» ويقال: «برىءَ فلانٌ من الدَّيْن». أي أن الدَّيْنَ كان لازماً في رقبته، وحين سَدَّده وأدَّاه يقال: «برىء من الدَّين». ويُقال: «برىء فلان من المرض» إذا شُفِي منه أي أن المرضَ كان يستمسك به ثم انقطع الاستمساك بينه وبين المرض.
وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عاهد قريشاً وعاهد اليهود، ولم يُوَفِّ هؤلاء بالعهود، وكان لزاماً أن ينقض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه العهود. وإذا سأل سائل: لماذا لم ينقض هذه العهود من البداية، ولماذا تأخر نقضه لها إلى السنة التاسعة من الهجرة. رغم أن مكة قد فتحت في العام الثامن من الهجرة؟
لقد حرر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكعبة من الأصنام والوثنية، وبعد أن استقرت دولة الإسلام بدأ تحرير «المكين» وهو الإنسان الذي يحيا بجانب البيت
ولم يقل براءة من الله وبراءة من الرسول، ذلك لأنها براءة واحدة، والبراءة صادرة من الله المشرع الأعلى، ومبلغة من الرسول الخاتم، والبراءة موجهة إلى المشركين الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان له حلف مع قبيلة خزاعة، وكانت هناك قبيلة مضادة لها اسمها قبيلة بكر متحالفة مع قريش. وقد أعانت قريش قبيلة بكر على قبيلة خزاعة، فذهب إلى المدينة شاعر من خزاعة هو عمرو بن سالم الخزاعي وقال القصيدة المشهورة ومنها هذه الأبيات:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحَّمدا | حلف أبينا وأبيه الأ تلَدا |
كُنت لنا أباً وكنَّا ولدا | ثُمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا |
فانصر هداك الله نَصْراً عتدا | وادع عباد الله يأتوا مددَا |
إن قريشاً أخلفُوك الموعدا | ونَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّدا |
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا | وقتلونا ركَّعاً وسُجَّدا |
إذن فالمشركون هم الذين نقضوا العهد أولاً، وصاروا لا يؤمن لهم جانب لأنهم
الخطاب هنا للمسلمين، والبراءة من المشركين. ونزل بعد ذلك قول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله... ﴾
ولكننا نرد على هذا بأن المعاهدة تكون بين اثنين، ولذلك لا بد أن يكون هناك خطاب للذين قطعوا، وخطاب للمقطوعين، ويتمثل خطاب الذين قطعوا في قوله تعالى: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ [التوبة: ١].
وخطابه للمقطوعين يتمثل في قوله سبحانه وتعالى:
﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢].
ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهد أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده.
﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢].
والإجابة: أن سماحة الإسلام تمنع أن نأخذكم على غرة، وعلى الذين قطع الإسلام معهم العهد أن يسيروا وهم مطمئنون وفي أمن وأمان ولا يتعرض لهم أحد. ووقف العلماء عند تحديد أربعة الأشهر، ونظر بعضهم إلى تاريخ النزول، وقد نزلت هذه الآية في شوال؛ إذن فتكون الأشهر الأربعة هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال علماء آخرون: إن ساعة النزول لا علاقة لها بالأشهر الأربعة، وإن الأشهر الأربعة تبدأ من ساعة الإبلاغ أي في الحج؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر﴾ [التوبة: ٣].
وعلى ذلك فتكون من يوم العاشر من ذي الحجة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر. وقال بعض العلماء: إن نزول هذه الآية كان في عام النسيء الذي كان الكفار يؤخرون ويقدمون في الأشهر الحرم، والذي قال فيه الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله﴾ [التوبة: ٣٧].
وأضاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الذي رواه أبو بكرة حيث قال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان».
فيكون عدد الأشهر مناسبا لعدد الأشهر الحرم. ولكن هذه المرة فيها ثلاثة أشهر حرم فقط هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع هو رجب فكيف يقال أربعة؟
ونقول: إن الأشهر الأربعة الحرم التي فيها رجب هي الأشهر الحرم الدائمة، أمّا الأشهر الأربعة التي ذكرت في هذه الآية فهي أربعة أشهر للعهد تنتهي بانتهائها، ولكن أربعة الأشهر الحرم الأصلية تبقى محرمة دائماً، ولقد شرع الله عَزَّ وَجَلَّ الأشهر الحرم ليحرم دماء الناس من الناس؛ ذلك أن الحروب بين العرب كانت تستمر سنوات طويلة دون نصر حاسم. فجعل الله الأشهر الحرم حتى يجنح الناس إلى السلم، ويتحكم فيها العقل وتنتهي الحروب.
وهنا يبلغنا الحق تبارك وتعالى أنه قد أعطى المشركين أربعة أشهر يسيرون فيها آمنين، لماذا؟ لأن الذي يكون ضعيفا مع خصمه ينتهز أي فرصة يقدر عليه فيها ليستغلها ويقضي عليه، ولا يمهله أربعة أشهر حتى ولا أربعة أيام. ولكن القوي لا يبالي بمد الأجل لخصمه لأنه يستطيع أن يأتي به في أية لحظة. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ [التوبة: ٢].
ويقال فلان أعجز فلاناً، أي جعله ضعيفا عاجزاً. ولذلك فإن كلّ شيء مُعجز شرف للمُعْجَز، والمثال: عندما جاء القرآن الكريم معجزاً للعرب وكان ذلك شرفا
ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفطنته النبوية كان يعرف أن العرب لا يقبلون نقض العهود والمواثيق إلا من أهلها: فأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيدنا عليا بن أبي طالب ليعلن نقض العهود؛ لأنه علم أن الكفار كانوا سيقولون: لا نقبل نقض العهد من أبي بكر، بل لا بد أن يكون من واحد من آل الناقض.
وحينما قال المولى سبحانه وتعالى:
﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾ [التوبة: ٢].
أعطى هذه المهلة الطويلة، لأنهم مهما فعلوا في هذه المهلة، فالله غالب على أمره. فلن يفوت أو يغيب شيء عنه سبحانه وتعالى، ومهما حاولوا أن يجدوا حلفاء لهم فلن يستطيعوا شيئا مع الله، صحيح أنهم ضعاف في هذه الفترة، وصحيح أنَّ الضعيف قد تكون قدرته على القوي مميتة لأنه يعرف أن فرصته واحدة، وإن لم يقدر على خصمه فسوف ينتهي، لكن الله غالب على أمره. وأراد الشاعر العربي أن يعبر عن ذلك فقال:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة | قتلت كذلك قدرة الضعفاء |
﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾ [التوبة: ٢].
الإخزاء هو الإذلال بفضيحة وعار ولا يكون ذلك إلا لمن كان متكبراً متعالياً. أي أن الله قادر على أن يخزي الكفار بفضيحة وعار مهما بلغت قوتهم وكبرهم.
فلماذا يعيد سبحانه وتعالى:
﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣].
ونقول: إن البراءة جاءت إعلاماً بالمبدأ، والأذن جاء لإبلاغ البراءة، و «أذان» معناها إعلام يبلغ للناس كلهم، تماماً كأذان الصلاة؛ فهو إعلام للناس بدخول وقت الصلاة. والأذان مأخوذ من الأذن. لأن الإنسان حين يعلم الناس بشيء لا بد أن يخطب فيهم فيسمعون كلامه بآذانهم، ولذلك تجد الأذن هي الوسيلة الأولى للإدراك، فقبل أن ترى تسمع، وقبل أن تتكلم لا بد أن تسمع، فإن لم تسمع من يتكلم لا تقدر أنت على الكلام. ولذلك يقول الحق جل جلاله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ [البقرة: ١٨].
أي لا يسمعون، وما داموا لا يسمعون لا يتكلمون. وقد يأتي بعض الناس ويقول: إنَّ وسيلة الإعلام قد تعتمد على العين ويقرأ منها الإنسان. ولكن من يقول ذلك
والله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن وسائل الإدراك يأتي بالسمع أولاً فيقول جل جلاله: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ [النحل: ٧٨].
لأن الأذن تبدأ عملها فوراً - كما قلنا - والعين لا تبدأ عملها إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. والأذن تستقبل بها أصواتاً متعددة في وقت واحد. ولكن مجال الرؤية محدود. وأنت حين لا تريد أن ترى شيئا تبعد عينيك عنه. ولكن الأصوات تصل إلى أذنك من كل مكان دون أن تستطيع منعها. ولذلك يأتي السمع مفرداً، والأبصار متعددة؛ لأن هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً. لكنك بالأذن تسمع نائماً أو متيقظاً، وتأتيك الأصوات ويتوحد المدرك من السمع؛ فهي آلة الاستدعاء والإيقاظ. ولذلك حين تكلم الله عن أهل الكهف يريد أن ينيمهم ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا. رغم أن أقصى ما ينامه الإنسان هو يوم أو بعض يوم، قال سبحانه وتعالى عنهم في هذا الشأن: ﴿فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً﴾ [الكهف: ١١].
وكان الضرب على الآذان حتى لا يوقظهم صوت عال لإنسان أو حيوان. وهم عندما قاموا: ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩].
لأن الإنسان عادة لا ينام أكثر من هذه المدة، وهذا يدل على أنهم حين استيقظوا كانوا على الهيئة التي ناموا عليها لم يتغير فيهم شيء، مما يدل على أن الله أوقف تأثير الزمن عليهم، ولولا أن الله قد ضرب على آذانهم لأيقظهم صوت الرعد أو الحيوانات المفترسة أو غيرها من الأصوات.
وأثبت لنا العلم الحديث أن مَنْ يرقد في الفراش بسبب المرض مدة طويلة يخاف الأطباء من إصابته بقروح الفراش، فلا يخاف
ولأن الأذن هي وسيلة السمع، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ [الانشقاق: ١ - ٢].
وهذا القول يدل على أن السماء فور سماعها من الله أمره بأن تنشق؛ تستجيب على الفور وتطيع أمره بالانشقاق وذلك يوم القيامة، وإذا كان الذي بلغ الأذان من الله ورسوله إلى كل الناس يوم الحج هو علي بن أبي طالب؛ فكيف يقال؟
﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٣].
نقول: إن الله تعالى أعلم رسوله، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلم عليا، وعلي هو الذي نادى وبلَّغ، لكن هناك من يقول: إن الله طلب البلاغ إلى الناس. مع أن البراءة كانت للمشركين.
ونقول: إن الإعلام كان لكل الناس للمؤمن وغير المؤمن حتى يعرف جميع الناس موقفهم؛ فيعرف المؤمن أن العهد قد قطع، ويعرف غير المؤمن أن العهد قد قطع، فلا يؤخذ أحد على غرة، وليرتب كل إنسان موقفه في ضوء البلاغ الصادر من الله عَزَّ وَجَلَّ؛ والله سبحانه وتعالى أراد اعتدال الميزان بأيدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك فهو لا يخاطب المؤمنين وحدهم، بل كان الخطاب للعالم كله، وإن كان المؤمنون هم الذين سيجاهدون لتنسجم حركة الأرض مع منهج السماء. ومن هذا يستفيذ المؤمن والكافر؛ لأن الكل سينتفع بالعدل والأمانة والنزاهة التي يضعها المنهج على الأرض.
ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء
أي أن الحكم بين الناس جميعاً هو المطلوب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسب منهج السماء.
وقوله سبحانه وتعالى:
﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر﴾ [التوبة: ٣].
وهذا القول فيه تعميم في المكان وتعميم في المكين، فيوم الحج يجتمع الناس كلهم في مكان واحد.
وقد يتساءل البعض: لماذا سمي الحج الأكبر؟ نقول: لأنه الحج الوحيد الذي اجتمع فيه الكفار والمؤمنون. وبعد ذلك لم يعد هناك حج للكفار أو المشركين.
وبعض المفسرين يقولون: إن كلمة الحج الأكبر جاءت لتميز بين الحج الأصغر وهي العمرة وبين الحج الذي يكون فيه الوقوف بعرفات، ونقول: إن العمرة لا يطلق عليها الحج الأصغر.
وقيل إنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. ولكن بعض العلماء قالوا: إنه يوم النحر؛ لأن فيه مناسك كثيرة: رمي الجمرات والتقصير وطواف الإفاضة؛ لذلك سمي يوم النحر بالحج الأكب لكثرة مناسكه، وقيل: إنها أيام الحج كلها وأنها قد سميت بيوم الحج على طريقة العرب في أداء الحدث الواحد بظرفه الملائم، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: يوم حنين؟. وحنين استغرقت أياماً فكأن اليوم يراد به الظرف الجامع لحدث كبير، فكأن أيام الحج كلها يطلق عليها «يوم الحج».
أو أن الإعلان قاله سيدنا علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يوم عرفة، وبلغ هذا الإعلام كل من سمعه إلى غيره، والآية الكريمة تقول: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣].
أي فتح لهم باب التوبة فإن تابوا عفا الله عنهم، وإن لم يتوبوا فالقول الفصل هو: ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣].
إذن فالحق سبحانه وتعالى قادر عليهم وقادر أن يأتي بهم مهما كانوا، وعلى النبي والمبلغين عنه أن يبشروا الكفار بالعذاب الأليم، والبشارة إعلام بخبر سار، والإنذار إخبار بسوء. فهل العذاب بشارة أم إنذار؟. نقول: إن هذا هو جمال أسلوب القرآن الكريم، يبشر الكفار فيتوقعون خبراً سارا: ثم يعطيهم الخبر السيىء بالعذاب الذي ينتظرهم؛ تماماً كما تأتي إلى إنسان يعاني من العطش الشديد، ثم تأتي بكوب ماء مثلج وعندما تصل به إليه ويكاد يلمس فمه تفرغه على الأرض، فيكون هذا زيادة في التعذيب وزيادة في الحسرة، فالنفس تنبسط أولاً ثم يأتي القبض.
وفي هذا يقول الشاعر:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ | فَلَمَّا رَأَوْها أقْشَعتْ وتَجلَّتِ |
حين تسمع «يغاثوا» تتوقع الفرج فيأتي الجواب:
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: ٣].
والعذاب من الله يوصف مرة بأنه عظيم ومرة أخرى يوصف بأنه مهين وثالثة يوصف بأنه أليم، والسبب هو أن الوصف يختلف باختلاف المُعَذَّبين، وسيأخذ كل مسيء وعاص وكافر من العذاب ما يناسبه، فهناك إنسان يحتمل العذاب ولا يحتمل الإهانة، وهناك إنسان يحتمل الإهانة ولا يحتمل الألم، فكأن كل واحد من الناس سيأتيه العذاب الذي يتعبه، فإن كان لا يتعبه إلا العذاب العظيم جاءه، وإن كان لا يتعبه إلا الإهانة جاءته، وإن كان لا يتعبه إلا الألم جاءه.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: ﴿إِلاَّ الذين عاهدتم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً... ﴾
إذن ففي الإنقاص هنا مرحلتان؛ مرحلة في الذوات أي بالقتل، ومرحلة في تابع الذوات وهي الأشياء المملوكة، ولذلك قال: ﴿لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ أي شيء كان، سواء في الذوات أو متعلقات الذوات، وأيضا لم يغروا عليكم أحداً ولم يشجعوا أحداً على أي عمل ضد الرسول.
﴿وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ [التوبة: ٤].
ويظاهر أي يعادل، وكلها مأخوذة من مادة الظهر، وهو يتحمل أكثر من اليد، فالإنسان لا يقدر أن يحمل جوال قمح بيده مثلا، ولكنه يقدر أن يحمله على ظهره. ولذلك يقول المثل العامي: من له ظهر لا يضرب على بطنه. إذن فالظهر للمعونة. والحق يقول: ﴿فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤].
أي عالين.
والحق سبحانه وتعالى حين قص علينا نبأ تآمر بعض من نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عليه، قال: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤].
فظهير في الآية الكريمة أي معين. ويأتي الحق هنا إلى منطقة القوة في الإنسان، لذلك يقال: فلان يشد ظهري. أي يعاونني بقوة. ويقال: ظهر فلان على فلان. أي غلبه وتفوق عليه، ويقال: وعلا ظهره. أي استولى على منطقة القوة منه؛ لذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في سورة الكهف عن ذي القرنين ذكر بعض اللقطات وقال:
فالله سبحانه وتعالى لفتنا هنا إلى حقيقة علمية لم نعرفها إلا في العصر الحديث. فالسد إذا كان كله من مادة صلبة؛ يتعرض للانهيار إذا ما جاءت هزة أثرت في كل جوانبه، أما إن كان هناك جزء من بناء صلب على الحافة، وجزء صغير في المنتصف وجزء ثالث، ثم رابع، ويفصل بين كُلٍّ جزء ردم من تراب فالردم فيه تنفسات بحيث يمتص الصدمة، وهي نفس فكرة الإسفنج التي نحيط بها الأشياء التي نخاف عليها من الكسر لنحفظها، فلو أن الصندوق من الخشب أو الحديد أو أي مادة صلبة لتحطم الشيء الموضوع فيه بمجرد اصطدامه بالأرض صدمة قوية، ولكن إذا أحطناه بوسادة من الإسفنج فهي تمتص الصدمات.
وأنواع السدود التي تتلقى الصدمات يقال عنها: السد الركامي.
ونلتفت إلى قول الحق سبحانه: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ [الكهف: ٩٥].
وهذا يدلنا على أن القوي يجب أن يعين الضعيف معونة لا تحوجه له مرة أخرى؛ لذلك يقال: لا تعط الجائع سمكة؛ ولكن علمه أن يصطاد السمك ليعتمد على نفسه بعد ذلك، وهذه هي المعونة الصحيحة، ولذلك نجد أن ذا القرنين رفض أن يأخذ مقابلا لبناء الردم؛ لأن مهمة الأقوياء في الأرض من أصحاب الطاقة الإيمانية أن يمنعوا الظلم بلا مقابل حتى يعتدل ميزان الحياة؛ لأن الضعيف قد لا يملك ما يدفعه للقوي. ولو أن كل قَوِيٍّ أراد ثمناً لنصرة الضعيف لاختل ميزان الكون وطغى الناس، ولكن الأقوياء في عالمنا يريدون أن يظلموا بقوتهم؛ لذلك يختل ميزان الكون الذي نعيش فيه. ولننظر إلى تفويض الله لذي القرنين وكيف أحسن ذو القرنين الحكم بين الناس، وأقام العدل فيهم وكيف ترصد الظالمين، قال القرآن الكريم على لسان ذي القرنين:
هكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم وتكريم المؤمن صاحب العمل الصالح.
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين: «أعينوني» يعطينا كيفية إدارة العدل في الكون، فذلك الذي أعطاه الله الأسباب إن أراد أن يعين الضعفاء فعليه أن يشركهم في العمل معه، ولا يعمل هو وهم يتفرجون وإلاَّ تعودوا على الكسل فتفسد همة كل منهم. ولكن إذا جعلهم يعملون معه سيتعلمون العمل ثم يتقنونه فتزداد مهارتهم وقوتهم في مواجهة الحياة؛ لذلك نجد أن ذا القرنين أشرك معه الضعفاء، وقال لهم: ﴿آتُونِي زُبَرَ الحديد﴾ [الكهف: ٩٦].
إذن فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة، بل إننا نجده قد تفاهم معهم رغم أن الحق تبارك وتعالى قال فيهم: ﴿لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ [الكهف: ٩٣].
كيف تفاهم معهم؟ لعله استخدم لغة الإشارة وتحايل ليفهموا مقصده. ويدلنا القرآن على تفهمهم له أن قال الحق على لسانهم: ﴿قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً﴾
[الكهف: ٩٤].
قد تَمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، وقد حاول كل منهما أن يصعد فوق السد ليتغلب عليه، ولكنه كان فوق طاقة كل منهما فلم يستطيعا اختراقه، وهذا وضحه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً﴾ [الكهف: ٩٧].
﴿وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤].
أي لم يعينوا ولم يساعدوا أحداً من أعدائكم حتى يتغلب عليكم، وسماحته سبحانه وتعالى بإتمام مدة العهد تعني أن هذه المدة كانت أكثر من أربعة أشهر. وهكذا يعطينا سبحانه جلال عدالته، فسمح لمن كان العهد معهم أقل من أربعة أشهر، أن يأخذوا مهلة أربعة أشهر، والحق سبحانه لا يحب نقض العهد؛ لذلك طلب من المؤمنين أن يعطوا المشركين الذين عاهدوهم مدة العهد ولو كانت أكثر من أربعة أشهر؛ حتى يتعلم المؤمن أن يُوفِيَ بالعهد ما دام الطرف الآخر يحترمه. وزيادة المدة هنا؛ أو زيادة المهلة نابعة من قوة الله تعالى وقدرته؛ لأن كل من في الأرض غير معجزي الله، فإن طالت المدة أو قصرت فلن تعطي المشركين ميزة ما، فالله يستطيع أن ينالهم في أي وقت وفي أي مكان.
ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله:
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ [التوبة: ٤].
والمتقون هم الذين يجعلون بينهم وبين أي شيء، يغضب الله وقاية. وإن تعجب بعض الناس من قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واتقوا الله﴾ وقوله: ﴿واتقوا النار﴾ فإننا نقول: إن معنى ﴿اتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجبروت لله وقاية، اتقوا صفات الجبروت في الله حتى لا يصيبكم عذابه، فلله صفات جلال منها المنتقم والجبار والقهار، وله صفات جمال مثل الرحيم، والوهاب، الرزاق، الفتاح، إذن اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية لكم وحماية من أن تتعرضوا لغضب الله تعالى، والإنسان يتقي صفات الجلال في الله بأن يتبع منهجه ويطيعه في كل ما أمر به لينال من فيض صفات الجمال. وقوله الحق سبحانه وتعالى: ﴿واتقوا النار﴾ أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية حتى لا تمسكم النار.
وهذه الآية الكريمة التي نزلت في ابن باعوراء الذي أعطاه الله العلم والحكمة والآيات، ولكنه تهاون فيها وتركها، فكأنه هو الذي انسلخ بإرادته وليست هي التي انسلخت منه، وصار بذلك مقابلا للشاة، ونحن نسلخ جلد الشاة من الشاة.
والحق سبحانه وتعالى أيضا يقول: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار﴾ [يس: ٣٧].
وماذا يحدث عندما تنتهي الأشهر الحرم؟ يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥].
فكأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطى المشركين مهلة أربعة أشهر، والذين لهم عهد أكثر من ذلك يتركون إلى أن تنتهي مدة العهد، ومن بعد ذلك يكون عقاب المشرك هو القتل، لماذا؟ لأنه لا يجتمع في هذا المكان دينان.
ولقائل أن يقول: وأين هي حرية التدين؟ ونقول: فيه فرق بين بيئة نزل فيها القرآن بلغة أهلها؛ وعلى رسول من أنفسهم، أي يعرفونه جيدا ويعرفون تاريخه وماضيه، وبيئة لها أحكامها الخاصة بحكم التنزيل، فأولئك الذين نزل القرآن في أرضهم وجاءت الرسالة على رسول منهم وهو موضع ثقة يعرفون صدقة وأمانته ويأتمنونه على كل نفيس وغال يملكونه، وكان كل ذلك مقدمة للرسالة، وكانت المقدمة كفيلة إذا قال لهم إنني رسول الله لم يكذبوه؛ لأنه إذا لم يكن قد كذب عليهم طوال أربعين سنة عاشها بينهم، فهل يكذب على الله؟ الذي لا يكذب على المخلوق أيكذب على الله؟ هذا كلام لا يتفق مع العقل والمنطق؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨].
أي ليس غريبا عليكم، تعرفونه جيدا حتى إنكم كنتم تأتمنونه على أغلى ما تملكون، وتلقبونه بالأمين في كل شئون الدنيا، فكيف ينقلب الأمين غير صادق عندكم؟ كما أن القرآن الكريم وهو معجزة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء
فإن سأل سائل: أين هي حرية التدين؟ وأين تطبيق قول الحق تبارك وتعالى؟ ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ [البقرة: ٢٥٦].
نقول: نعم، لا إكراه في أن تؤمن بالله وتؤمن بدينه، ولكن ما دمت قد آمنت فلا بد أن تلتزم بما يوجبه هذا الإيمان، أما عند التفكير في مبدأ التدين فأنت حر في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن.
ولكن إذا آمنت فالواجب أن نطلب منك أن تلتزم. ثم إن الحق سبحانه وتعالى شاء ألاَّ يجتمع في الجزيرة العربية دينان أبداً.
ولكن في أيِّ مكان آخر مثل فارس، الروم، فهم لن يعرفوا إعجاز القرآن الكريم كلغة، ولكن يسمعون أنَّه معانٍ سامية بقوانين فعالة تنظم الحياة وترتقي بها.
أما الذين يعرفون الرسول وفصاحة المعجزة التي جاء بها، فلن يُقبل منهم إلاَّ أن يسلموا، ولا يُقبل منهم أن يظلوا في أرض الرسالة دون إسلام، وإن أرادوا أن يظلوا على الشرك فليرحلوا بعيداً عن هذه الأرض.
وهناك من يقول: إنَّ الإسلام انتشر بالسيف أو الجزية، ونقول: إن الإسلام انتشر بالقدوة، أما السيف فكان دفاعاً عن حق اختيار العقيدة في البلاد التي دخلها الإسلام فاتحاً، والجزية كانت لقاء حماية من يريد أن يبقى على دينه.
ونجد في حياتنا اليومية من يستخدم ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ في غير موضعها، فحين يقول مسلم لآخر: لماذا لا تصلي؟ يرد عليه بهذا القول: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾. ونقول: إن ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين﴾ مسألة تخص قمة التدين، أي مسألة اعترافك بأنك مسلم أو غير ذلك، لكن ما دمت قد أعلنت الإسلام وحُسبت على المسلمين،
إذن فلماذا أُكْرِه العرب على الإسلام؟
قيل في ذلك سببان: الأول أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم، والثاني أنَّ المعجزة جاءت بلسانهم.
ويتابع الحق سبحانه وتعالى قوله: ﴿وَخُذُوهُمْ واحصروهم﴾ [التوبة: ٥].
فإن عز عليكم أن تقتلوهم فخذوهم أسرى؛ ما داموا لم يدافعوا عن أنفسهم بقتالكم، ولم يهددوكم في حياتكم، وهنا يحقن الدم ويستفاد بهم كأسرى.
وإن خفتم من شرورهم فاحصروهم في مكان مراقب. إذا قاموا بأي حركة معادية يكون من السهل عليكم كشفها، وإنزال العقاب بهم. والحصر هنا تقييد الحركة مع السماح لهم بحركة محدودة بحيث لا يغيبون عن نظركم.
ثم يتابع المولى سبحانه وتعالى قوله:
﴿واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥].
أي ارصدوا حركاتهم حتى تأمنوا مكرهم؛ وحتى لا يتصل بعضهم بالبعض الآخر، وينشئوا تكتلاً يعادي الإسلام. ارصدوا حركاتهم، وارصدوا كلامهم، وارصدوا أفعالهم، ولا تجعلوهم يخرجون عن رقابتكم وافعلوا ما بوسعكم لتكونوا في مأمن من شرورهم، ولكن لا تخوجوا بالاستطلاع إلى حيز استذلالهم، فالاستدلال غير الاستذلال.
وقد يتساءل البعض: لماذا هذا الاختلاف في العقوبة حيث هناك القتل وهناك الحصر وهناك الرصد لهم في طرقهم ومسالكهم، ؟. نقول: إن العقوبة تختلف باختلاف مواقع المشركين من العداء للإسلام، فهناك أئمة الكفر الذين يحاربون هذا الدين؛ ويدعون الناس لعدم الإيمان، ويحرضون على قتال المسلمين وقتلهم
وهناك من لا يؤذون المسلمين، وإنما يجاهرون بالعداء للدعوة، هؤلاء شأنهم أقل؛ فنأخذهم أسرى. وهناك من الكفار من لا يفعل شيئا إلا أنه غير مؤمن؛ فهؤلاء نراقب حركاتهم ليتقي المسلمون شرّهم ليكونوا على استعداد بصفة دائمة لمواجهتهم إذا ما انقلبوا ليؤذوا المسلمين ويهاجموهم ويقاتلوهم.
إذن فلم توضع عقوبة واحدة تشمل الجميع. لأن الجميع غير متساوين في عدائهم للإسلام؛ فأئمة الكفر لهم حكم، والذين عداوتهم للإسلام أقل لهم حكم آخر. ثم تأتي رحمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده فلا ييئسهم أبداً من الرجوع إليه فيقول: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ٥].
ويفتح سبحانه باب التوبة أمام عباده جميعاً ولا يغلقه أبداً، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فيما يرويه عنه أبو حمزة أنس بن مالك - خادم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة».
أي أنك وأنت مسافر في صحراء جرداء بعيدة تماماً عن أي عمران ثم جلست لتستريح ومعك الجمل الذي تسافر عليه؛ عليه الماء والطعام وكل ما تملك من وسائل الحياة، ثم غفلت عن الجمل فانطلق شارداً وسط الصحراء، وتنبهت فلم تجده ولا تعرف مكانه، وفجأة وأنت تمضي على غير هدى وجدت الجمل أمامك، فكيف تكون فرحتك؟ إنها بلا شك فرحة كبيرة جدا لأنك وجدت ما ينجيك من الهلاك، وهذه الفرحة تملأ النفس وتغمرها تماماً، كذلك يفرح الله بتوبة عباده، لذلك
وهنا نجد ثلاثة شروط: أولها التوبة والعودة إلى الإيمان. وإقامة الصلاة، هذا هو الشرط الثاني، ثم يأتي الشرط الثالث وهو إيتاء الزكاة، ولا بد أن يؤدي الثلاثة معاً؛ لأن التوبة عن الكفر هي دخول في حظيرة الإيمان، والدخول إلى حظيرة الإيمان يقتضي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم إقامة الصلاة ثم إيتاء الزكاة ثم صوم رمضان ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
ولو نظرت إلى أركان الإسلام الخمسة تجد أن المسلم قد يؤدي بعضها ولا يؤدي البعض الآخر، فالمسلم الفقير الذي لا يجد إلا ضروريات الحياة تسقط عنه الزكاة ويسقط عنه الحج، والمسلم المريض مرضاً مزمناً يسقط عنه الصوم، وتبقى شهادة أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه يكفي أن يقولها المسلم في العمرة مرة، ويبقى ركن إقامة الصلاة لا يسقط أبداً، لا في الفقر ولا في الغنى ولا في الصحة ولا في المرض؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم، وهي عماد الدين لأنه تتكرر كلَّ يوم خمس مرات، فالمريض عليه أن يصلي بقدر الاستطاعة. فإن لم يستطع أن يؤديها واقفا فجالساً وإن لم يستطع أن يؤديها جالساً فراقداً.
إننا نعلم أن كل صلاة إنما تضم كل أركان الإسلام؛ ففي كل صلاة نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وكل صلاة فيها زكاة؛ لأن الزكاة إخراج بعض المال للفقراء، والمال يأتي من العمل، والعمل محتاج لوقت، والصلاة تأخذ بعض وقتك الذي يمكن أن تستخدمة في العمل فيعطيك رزقاً تزكي به، فكأنك وأنت تصلي أعطيت بعض مالك لله سبحانه وتعالى؛ لأنك أخذت الوقت الذي كان يمكن أن تعمل فيه فتكسب مالاً للزكاة، فكأن الصلاة فيها زكاة الوقت.
إن الوقت هو ما نحتاج إليه في حركة الحياة للحصول على المال فتكون في الصلاة زكاة. ونأتي بعد ذلك للصوم وأنت في الصوم إنما تمتنع عن شهوة البطن وشهوة
فإذا جئنا إلى حج بيت الله الحرام؛ نقول إنَّك ساعة تصلي لا بد أن تتجه إلى بيت الله الحرام، وتتحرى القبلة، إذن فكأن بيت الله الحرام في بالك وفي ذكرك وأنت تتجه إليه في كل صلاة. وعلى ذلك فقد جمعت الصلاة أركان الإسلام كلها. ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يرويه عنه سيدنا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الصلاة عماد الدين» وإذا كانت الصلاة هي عماد الدين كما بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمن أقامها فقد أقام الدَّين - ومن عجائب ترتيب آيات القرآن أنك تجد الصلاة مقرونة دائما بالزكاة؛ لأن الزكاة بالمال، والصلاة زكاة بالوقت، نحن محتاجون إلى الوقت لنعمل فيه حتى نأتي بالمال، والحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
ومعنى ذلك أنهم إذا لم يؤدوا الثلاثة معاً لا نخلي سبيلهم، وما دمنا لا نخلي سبيلهم فهم يدخلون تحت العقوبات التي حددها الله وهي: «اقتلوهم» أو «خذوهم» أو: ﴿واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة: ٥].
وأول العقوبات هو القتل وذلك لأئمة الكفر، فإذا آمن كافر وترك الصلاة لا يكون قد تاب وآمن: وإذا لم يؤد الزكاة لا يكون قد تاب وآمن؛ لذلك إذا لم يقوموا بالعبادات الثلاث لا نخلي سبيلهم، ولقد أفتى بعض الأئمة بأن تارك الصلاة يقتل، ونقول: لا، تارك الصلاة إمَّا أن يكون قد تركها إنكاراً لها وجحودا بها، وإما أن
وهذا كما قلنا هو الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم عليه السلام، فقد أمر الله تعالى إبليس بالسجود فعصى، وآدم أمره الله فعصى، فلماذا قضى الله على إبليس عليه اللعنة إلى يوم القيامة، بينما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وغفر له؟ نقول: لأن إبليس رد الحكم على الله؛ فقال:
﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ [الإسراء: ٦١].
وقال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [ص: ٧٦].
فكأن إبليس رد الحكم على الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن آدم لم يقل ذلك. وإنما قال: حكمك يا ربي صحيح وما أمرتني به هو الحق، ولكني لم أقدر على نفسي فظلمتها فتب عليّ واغفرلي وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ [الأعراف: ٢٣].
إذن فالتعامل مع المشركين إن لو يتوبوا ولم يُصَلُّوا ولم يُزكُّوا، ولم يقدر عليهم المسلمون، ماذا يحدث؟. إن على المسلمين أن يحاولوا تطبيق ما أمر به الله سبحانه وتعالى بشأنهم.
ولكن ماذا إن استجار واحد من المشركين بالمسلمين؟.
وهنا ينزل قول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كلام الله... ﴾
جاء الحكم من الله تعالى بأنه ما دام قد استجار بك فأجره، وإذا أجرته أسمعه كلام الله تعالى وحاول أن تهديه إلى الإيمان وإلى الطريق المستقيم؛ فإن آمن واقتنع وأعلن إسلامه أصبح واحداً من المسلمين، وإن لم يسمع كلام الله ولم يقتنع فلا تقتله؛ ولكن أبلغه مأمنه، أي اسأله من أين جاء؟ فإذا قال لك اسم القبيلة التي ينتمي إليها أو حدد المكان الذي جاء منه فتأكد أنه سوف يكون آمناً حتى يبلغ المكان الذي يجد فيه الأمان. وهذه هي المرحلة الأخيرة من علاقة الإيمان بالكفر،
فالله سبحانه وتعالى تفضل على خلقه في الأرض فأرسل إليهم رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان ذلك بعد أن مرت فترة طويلة على إرسال من سبقوه من الرسل. وكان الناس قد نسوا منهج السماء، بل وحرَّف أهل الكتاب ما نزل إليهم من تعاليم.
وكان لا بد أن تتدخل السماء بإرسال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد جعل في الإيمان مناعات متعددة، توجد أولا في النفس، فحين تستشرف النفس إلى معصية، فالضمير الإيماني ما زال موجوداً فيها، وهذا الإيمان هو الذي يكبح الشهوة ويمنع النفس من الركون إلى المعصية ويرد صاحبه إلى الطريق الصحيح والمنهج السوي.
وهب أن نفساً ولعت بمخالفة المنج ولم تعد نفسا لوامة، وتظل ترتكب المعاصي حتى تعتاد على المعصية، ويموت فيها الوازع الإيماني، فتجدها قد عشقت - والعياذ بالله - مخالفة المنهج، بل أصبحت نفساً أمارة بالسوء، وهنا ينقل الله المناعة الإيمانية من النفس إلى المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بمرتكب المعاصي يردعونه عن المعصية، ويقفون منه مواقف الإيمان من الردع والمقاطعة والجفوة حتى يفيء إلى ربه يعود إلى رشده. وتلك مرحلة ثانية من مراحل الإيمان. أما إن فسد المجتمع كله ولم تعد هناك طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا بد أن تتدخل السماء برسالة جديدة وبرسول جديد مؤيد بمعجزة من السماء ليوقظ الناس من هذا السبات العميق الذي شمل الأفراد والمجتمعات.
وعندما جاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وواجه هذا المجتمع الذي انتشر فيه الكفر أفراداً وجماعات كان لا بد أن يحدث تصادم بين الإيمان ومجتمع الكفر؛ ذلك أن
والمنتفعون بالفساد يكرهون أي مصلح جاء ليعدل ميزان حركة الحياة في الكون. فلا بد أن يقفوا في وجهه؛ ليدافعوا عن سيادتهم وعن منافعهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل والظلم، ومن استعبادهم للناس. وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت مكونة من قبائل متعددة، وكان لكل قبيلة قانونها الذي يضعه شيخها ليستأثر لنفسه بكل شيء.
ومعنى ذلك أنه لا توجد رابطة تربط بين هذه القبائل، ولا يوجد قانون عام يحكمها، وكل قبيلة لها عزوتها ولها شوكتها ولها حروبها. وكل فرد في قبيلة لا بد أن يكون مقاتلا يحمل سلاحه مستعدا للحرب في أي وقت، لأنه مهدد في أي لحظة أن تغير عليه قبيلة أخرى، إلا قبيلة واحدة هي قريش. فقد أخذت السيادة ولا يعتدي عليها أحد ولا تُهَاجَم قوافلها، ولا تستطيع قبيلة في الشمال أو في الجنوب أن تهاجم تجارتها؛ لأن هذه القبائل كلها ستأتي في يوم من الأيام قاصدة حج بيت الله الحرام في مكة. وخلال الحج تكون هذه القبائل في حاجة إلى الأمان من قريش؛ ولذلك حرصت كل قبائل العرب أن تحافظ على علاقتها مع قريش، لأن السيادة على بيت الله الحرام التي جعلها الله لقريش هي الضمان. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحماية البيت الحرام من أي عدوان، حتى عندما جاء أبرهة بأفياله ليهدم الكعبة؛ جعله الله هو وجيشه كعصف مأكول مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [الفيل: ١ - ٥].
فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظاً من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلاً من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلاً من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذباً بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم.
لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال: هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقاً وليس إيماناً حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعاً؛ أن العصبية لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تخلق الإيمان برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولكن الإيمان برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي خلق العصبية لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
ولذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان
المرحلة الأولى كانت الدعوة للإيمان، والدعوة الى المحبة، والدعوة إلى المساواة. وعدم مقابلة التعذيب والقتل بالعنف. وهذه البداية لم تعجب سادة قريش بل جعلتهم يستهينون بالمؤمنين ويمنعون في إيذائهم وتعذيبهم ويعتقدون أنهم سيقضون عليهم، فلما وجدوا الدعوة تقوى رغم كل ما تواجهه من مراحل التعذيب والبطش؛ ازدادوا تنكيلاً بالمؤمنين، فهاجر بعض من المؤمنين إلى الحبشة، وأصبحوا يبحثون عمن يحميهم ويستجيرون به؛ وشاء الحق تبارك وتعالى ذلك حتى لا يدخل الإسلام إلا من أُشرب قلبه حب الإسلام واستهان بكل الصعاب والاضطهاد والقتل والتشريد؛ وهؤلاء هم الذين سيصبحون مأمونين على الدعوة. وبعد ذلك ظل الكفر على كفره، وظل الإيمان يأخذ إليه بهدوء بعض الأفراد، وحاول الكفار أن يستميلوا المؤمنين بالحيلة بعد أن فشلت القوة والبطش والإرهاب؛ فقالوا: نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة فيها ما يسمى بالعرف الحديث «قطع العلاقات»، فقال الحق عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ١ - ٦].
وكان هذا إعلاناً بمرحلة ثانية تتسم بأنه لا مهادنة
وكان النهي هنا في هذه الآية الكريمة يشمل الحاضر والمستقبل. وهذا ما يسمى في السياسة الدولية باسم قطع العلاقات، بل إن قطع العلاقات الدولية إنما يكون بسبب طارئ، أما الخلاف بين المسلمين الأوائل وأهل الشرك فلم يكن صراعاً بين فكر بشر وفكر بشر آخرين، ولكن المسألة كانت صراعات بين منهج تريده السماء لأهل الأرض، وبين المنتفعين بالفساد في الأرض؛ لذلك كان لا بد أن يكون القطع نهائياً، فلا لين ولا مهادنة. ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان، وهكذا فشلت حيلة الكفار في تمييع وتضييع قضية الدين، وضاع مكرهم، وبقي الوجود الإيماني قويا متحداً في مواجهة جبروت الكفار بعد أن كان مهدداً.
ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الثالثة؛ مرحلة اعتراف الكفر بقوة الإيمان، فقد كان الكفار يواجهون المؤمنين بالقهر والتعذيب، والمؤمنون يواجهون هذا بالصبر والاحتمال حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وحدثت المواجهة المسلحة بين الإيمان والكفر في غزوة بدر، وانتصر المؤمنون وأصبح لهم كيان يحميهم، فلم يعودوا هم القلة الضعيفة المستذلة والمستكينة، بل أصبحت لهم قوة ولهم قدرة، وإن لم تصبح لهم سيطرة. ولكنهم أصبحوا قوة قادرة على مواجهة الكفار أو قوة مساوية لهم؛ تستطيع أن تصد الاعتداءات وتواجه الضربة بالضربة.
وحين أصبح للإيمان هذه القوة والقدرة على حماية أنفسهم والمساواة والكيان تجاه الكفار؛ كانت هذه بداية المرحلة التي أعطت الإسلام تفرغاً لنشر الدعوة خارج محيط مكة، وأمن المسلمون وهم ينشرون دعوتهم من هجوم الكفار وتنكيلهم بهم بعد صلح الحديبية، وكان مجرد التعاقد والتعاهد هو اعتراف بدولة الإيمان، وهي المسألة التي فطن لها سيدنا أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقد ظن البعض لأول وهلة أن معاهدة الحديبية كان فيها إهدار لحق المؤمنين، حتى إن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: علام نعطي الدنية في ديننا.
هذه المسألة أخذت جدلاً كبيراً كاد يصل إلى أن يصادم المؤمنون أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما رأت أم سلمة رضوان الله عليها خوف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على المؤمنين من عدم إطاعة ما قاله لهم، ووجدت الحزن الشديد على وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قالت: «يا رسول الله لا تحزن. إن القوم مكروبون لأن أملهم أن يطوفوا بالبيت الحرام، وها هم أولاء الآن على مقربة من البيت ولكنهم
فقد قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذبح الهدي وتحلل من إحرامه وفعل المسلمون مثلما فعل، وشاءت قدرة الله سبحانه وتعالى قبل أن يعود المؤمنون إلى المدينة، أن يبين لهم سبب قبول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لصلح الحديبية مع ما يبدو ظاهراً وليس حقيقة من أن فيه إجحافاً بالمسلمين.
لقد كان الصلح ينص على أنه إن جاء أحد هارباً من قريش والتجأ إلى المدينة ردوه إلى قريش مرة أخرى. وإن فر أحد بعد إسلامه والتجأ إلى كفار مكة لا يردونه. وقد وجد البعض في هذا إجحافاً وعدم مساواة، وكان الموقف غاية في الدقة، وعندما جاء سهيل بن عمرو ليتفاوض على المعاهدة، وكان على بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يكتب عن رسول الله وأملى: هذا ما تعاقد عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو. اعترض سهيل قائلا: لو كنا نؤمن بأنك رسول الله ما حدث بيننا هذا القتال، ولكن اكتب: هذا ما تعاقد عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو. هنا ثار علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وقال: لا، لا بد أن نكتب هذا ما تعاقد عليه محمد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفض سهيل بن عمرو.
وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينهي الموقف فنظر إلى علي وقال: «يا علي اكتب فإنَّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد» أيْ أنه سوف يحدث لك نفس الشيء الذي ترفضه الآن فتقبل، وكان هذا من علامات النبوة لأن عليا وقف فعلا هذا الموقف عندما جاءت معاهدة صفين وأراد أن يكتب فيها هذا ما تعاقد عليه علي بن ابي طالب أمير المؤمنين فقالوا له: لو كنت أمير المؤمنين ما حاربناك، اكتب هذا ما تعاقد عليه علي بن أبي طالب. وتذكر علي بن أبي طالب قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد».
على أن الحق سبحانه وتعالى أراد ألا يدخل المسلمون المدينة إلا وقد صفت نفوسهم دون إحساس بأن منهم من انكسر وأن الآخرين قد انتصروا، فنزل قول الحق
وهكذا أخبر الله المؤمنين بسبب عدم السماح لهم بدخول مكة لأن فيها عددا من المؤمنين والمؤمنات الذين يكتمون إيمانهم، وهؤلاء غير مميزين لأنهم مختلطون بالكفار؛ وليس لهم مكان محدد بحيث يستطيع المؤمنون معرفتهم وتمييزهم، فلا يتعرضون لهم في قتالهم داخل مكة، ولو نشب القتال فعلاً لتم قتل عدد كبير من هؤلاء المؤمنين والمؤمنات المقيمين في مكة بأيدي المؤمنين، ولكان عاراً أن يقتل مؤمن مؤمنا أو مؤمنة.
هنا عرف الصحابة العلة وهي صيانة دم المؤمنين. وفي الوقت ذاته نجد أن صلح الحديبية جعل الدعوة الإسلامية تنتشر في الجزيرة العربية كلها. وقد اعتبره بعض الصحابة رضوان الله عليهم الفتح الحقيقي للإيمان، وجاء في ذلك تلك المقولة المأثورة: «لا فتح في الإسلام بعد فتح الحديبية» ولكن الناس لم يتسع فكرهم إلى الحكمة مما حدث، والعباد دائما يعجلون. والله لا يعجل لعجلة عباده حتى يبلغ الأمر ما أراد. وقد انتشر الإسلام في الجزيرة العربية بالدعوة، وزاد عدد المسلمين زيادة كبيرة.
إذن فمراحل الإيمان بدأت بمرحلة التعذيب والاضطهاد، ثم مرحلة محاولة الخداع للقضاء على هذا الدين، ثم المرحلة الثالثة وهي التعاهد والتعاقد، ولقد وفَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعهده، ولكن قريشاً نقضت العهد بأن أعانت قبيلة بني بكر وهم حلفاؤها على قبيلة خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقام بنو بكر بمهاجمة قبيلة خزاعة وقتلوهم وهم يصلون، وذهب مندوب قبيلة خزاعة مستنجدا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنهاء
لقد أراد الله أن يحرر «المكان» وهو أرض الكعبة أولاً، ثم يحرر «المكين» وهم البشر فلا بد - إذن - أن تتطهر الكعبة من الأوثان، وأن يُمنع العراة من الطواف حول البيت الحرام ويُمنع المشركون من الوجود في البلد الآمن بالإسلام. وسبق حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قطع العلاقات وإنهاء المعاهدات، لكن سماحة الإيمان وحب الله لخلقه جميعا لم يجعله يأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقطع المعاهدة فوراً، أو أن يقاتل المؤمنون المشركين ويأسروهم فوراً، لا، بل منحهم أربعة أشهر لعلهم يفيئون إلى الإسلام وأن يتوبوا إلى بارئهم.
لقد بين سبحانه وتعالى للكافرين أن هذه المدة لن تفيدهم في حربهم ضد الإسلام؛ لأنهم غير معجزي الله في الأرض، أي لن يعجز الله استعدادهم أو مكرهم أو أي شيء يفعلونه خلال هذه الأشهر الأربعة، فإذا انتهت هذه الأشهر وقعت العقوبة على الكفار إما بالقتل وإما بالحصار، أو بالترصد، أو عليهم أن يدبروا أمر حياتهم بالسياحة في الأرض ما داموا قد أصروا على الكفر؛ لأن حكماً من الله قد نزل بعدم وجود المشركين في هذه البقعة المقدسة.
وأراد الحق سبحانه وتعالى برحمته أن يبقي الباب مفتوحاً للكفار لكي يعودوا إلى منهجه فقال عَزَّ وَجَلَّ:
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٦].
وبعد انقضاء مدة الأشهر الأربعة، اذا استجار بك أحد من المشركين فأجره، ونحن نعلم في اللغة العربية أنّ «إِنْ» الشرطية لا تدخل إلا على فعل ولا تدخل على
فهذه ليست «إن» الشرطية؛ ولكنها «إنْ النافية» وهي مع «إلا» التي بعدها لإفادة التأكيد والقصر، أي قصر الأم على الوالدة، إلا أنه من بلاغة إعجاز القرآن الكريم جاء بعد «إن» الشرطية اسم في قوله تعالى:
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ﴾ [التوبة: ٦].
وكان القياس أن يقال: «إن استجار بك أحد المشركين فأجره» ؛ ولكن الله سبحانه وتعالى جاء ب «أحد» بعد «إن» في أول الكلام، ولذلك فعندما نعرب كلمة «أحد» في الآية الكريمة السابقة نعربها فاعلاً ونقدر له فعله من جنس المتأخر، والتقدير هو: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره.
ولماذا هذه اللفتة من القرآن الكريم؟ نقول: إن هناك مستجيراً وهنا طلب استجارة؛ فهل الاستجارة عرف بها المستجير، أم عُرفت الاستجارة منه؟.
وأقول: لنفرض أن واحداً من المؤمنين قد جلس على الحدود قرب أماكن الكفار، ثم سمع صوتاً يقول: أنا مستجير بمحمد، ومستجير بالمؤمنين، ومن بعد ذلك ظهر المستجير بجسده أمام المؤمنين، هنا تكون الاستجارة قد سبقت ظهور المستجير، وكأن الأذن هي التي استجيرت أولاً ثم رأت العين جسد هذا المستجير، وقد يختلف الأمر؛ فيظهر المستجير أولاً، ثم يصرخ طالباً الأمان والاستجارة، وبذلك تكون العين قد رأت أولاً ثم سمعت الأذن طلب الاستجارة ثانياً.
وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أهمية الالتفات إلى صدق الاستجارة، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يصرخ المستجير أولاً، ويظهر من بعد ذلك، ولا بد أن يأخذ المؤمن حذره حتى لا ينقلب عليه المستجير أو يكون قد خدعه بطلب الاستجارة.
والاستجارة تعني طلب الجوار والحماية، ولهذا فعادة ما يكون المستجير ضعيفاً
أو يريد أن يسمع كلام الله بما يقذف في قلبه الإيمان، أو أنه يريد أن يسمع شيئا فيما يطلب فيه الدليل، أو يسمع كلام الله فيما يرد عليه الشبهة؟.
إن فطنة المؤمن يجب أن تتسع لتسبر أغوار المستجير، وطلب الجوار أو الاستجارة كان معروفاً عند العرب، فإذا استجار شخص بعدوه فعليه أن يجيره، وهذا دليل على شهامته. وإذا كان الإيمان قد فرض على المسلمين إجازة من يطلب الجوار، فهذا دليل على قوة الإيمان وعظمته وسماحته، ولعل خميرة الإيمان الفطري في نفس الكفار قد استيقظت وتطلب معرفة قواعد الإسلام.
إن على الوالي أو أي واحد من المسلمين أن يجير المستجير، ولماذا لا نسمعه ونتكلم معه عله يؤمن، ويدخل حظيرة الإسلام وفي الإسلام يجير الوالي أو أي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ولا يوجد دم سيد ودم عبد، ولا دم شريف ودم رخيص؛ وإنما يسعى بذمتهم أدناهم، ولذلك إذا أجار أي مسلم إنساناً غير مسلم أو إنساناً كافراً يجار من جميع المسلمين؛ حتى الصبي الذي لم يبلغ الحلم وحتى المجنون الذي لا يعقل. لهذا أو لذاك أن يجير بشرط أن يوافق الوالي أو المسلمون على ذلك. لماذا؟ لأننا نأخذ على الكفر أنه يغدر بالتعاهد ويتناسى المروءة، فلا بد أن نتمسك نحن المؤمنين بالعهد، فإذا استجار أحد من الكفار فلا بد أن نفي بالعهد.
ولكن كيف يكون للصبي والمجنون حق الإجارة؟. نقول: إن الصبي من المؤمنين انتفع بالإسلام لأنه تمت تربيته تربية إيمانية وفقاً لمنهج الله ونشأ في ضوء قول الحق تبارك وتعالى:
بل إن الإسلام يعطي التربية الإيمانية للابن حتى قبل الحمل، فيأمر الأب أن يختار الأم ذات الدين لتكون وعاء صالحاً، ويأمر الأم أن تختار الرجل المتدين ليكون أباً صالحاً.
إذن فالإسلام يخدم الصبي قبل أن يولد باختيار الأب الصالح والأم الصالحة، ويخدمه بعد أن يولد بتربيته التربية الإسلامية السليمة، وعلى ذلك فالصبي قد استفاد بكل هذه القيم من الإسلام، والذي بلغنا منهج الإسلام هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن هنا فالتربية الإسلامية لنا جميعاً؛ لذلك يجب علينا أن نرد التحية إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي علمنا أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. فلو أن صبيا أعطى الأمان لكافر جاء ليسمع كلام الله؛ قبلت منه هذه الإجارة أو هذا الأمان، ذلك أن الصبي استفاد من تربية إسلامية جاء بها المنهج المنزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واستفاد من أمه التي تحملت حمله وآلام وضعه، ولولا أن الإسلام حمى النفس حين توجد في الرحم لأمكن للمرأة حين يتعبها الحمل أن تجهض نفسها أو أن تطرح الصبي بعيداً، ولكن الإسلام حمى الطفل وهو في بطن أمه، وحماه حتى تكتمل رضاعته، وتتمثل الأم المسلمة لكل أحكام الإسلام:
﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
لقد احترم الإسلام الطفل، وسانده، وطلب من الأب والأم أن يحسنا تسمية أولادهما وأن يحسنا تربيتهما.
وقبل أن يوجد هذا الطفل في رحم أمه حماه الإسلام - كما قلنا - بأن أمر الرجل أن يختار الأم الصالحة؛ لتكون وعاء صالحاً، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فيما يرويه عنه أبو حاتم المزني قال: «» إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض
وكذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: في حديث له: «فاظفر بذات الدين تربت يداك».
والحديث فيما يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».
فإذا كان الإسلام قد احترم هذا الصبي في كل حقوقه، ألا يحترمه المسلمون؟.
وقد يقال إن الصبي منتفع بالإسلام، أما المجنون فلا عقل له حتى إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد أعفاه من التكاليف، ونقول: انظروا إلى المجنون بالنسبة لأصحاب العقول، صاحب العقل قصارى ما يصل إليه أن تكون كلمته نافذة لا يعترض عليه أحد، وأن يقول ما يريد ولا يحاسبه أحد، أما المجنون فهو يصل إلى هذا؛ لأنه إن قال قولاً فلا أحد يعترض عليه، وإن فعل فعلاً غير لائق فلا أحد يحاسبه، بل إنه سبحانه وتعالى لا يحاسبه يوم القيامة.
إذن فالمجنون قد أخذ حظا أكثر مما يأخذه العقلاء، وصار جنونه حماية وحصانة له إن قال كلمة الحق التي قد تؤذي ذوي النفوذ فلا يعاقبه أحد، ويكفي أن يقال إنَّه مجنون حتى يعفى من العقاب، ورب كلمة حق واحدة تصدر من مجنون؛ تكون أرجح عند الله عَزَّ وَجَلَّ من أصحاب عقول كثيرة ظلوا طوال حياتهم ينافقون ويكذبون ويفعلون ما يغضب الله.
وإن كان الإنسان أعرجَ مثلاً، تجد هذا يعاونه، وهذا يأخذه معه في سيارته، وقد تقف له سيارة أجرة تأخذه إلى حيث يريد.
بينما يقضي السليم الساعات يبحث عن سيارة الأجرة بلا فائدة. بل إنك إن نظرت إلى الفقير تجد أنَّ الله قد جعل له عدداً من الأغنياء في خدمته، ففلان يحرث ويعزق ويعطيه الله خير الزراعة ليبيعه ويفيض منه على الفقير، وآخر يصنع ويتعب ويشقى ليعطي بعضاً من دخله للفقير، بل إنه يشقى مرة أخرى ليعثر على الفقير حقا ليعطيه بعضاً من ماله، والفقير بالفعل يستحق أن يأخذ شريطة ألا يكون مدعيا للفقر. فما دام قد قبل حكم الله بالفقر والعجز، يوضح له ربه: لقد رضيت بأني أعجزتك، فخذ من قدرة الأغنياء ما يعينك في حياتك، فهذا مُلْكٌ كَوْني له نظام، وأقول ذلك حتى نفهم أن الغنى والفقَر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، إنما هي أغيار، ولذلك لا أحد يضمن غَدَهُ، وعلى الواحد منا إن كان قادراً أن يعطي الفقير، حتى إذا ضاع منا المال وجدنا من يعطينا، وأن نساعد المريض، حتى يكونوا في خدمتنا وقت شدتنا. وفي نفس الوقت حين نرى من رَحِمَهُ اللَّهُ من البصر يجب علينا أن نشكر نعمة الله علينا، ولو رأينا إنساناً يعاني في مشيه تنبهنا إلى نعمة الله في أن أعطانا قدرة المشي.
وهكذا فالإنسان لا يتنبه إلى النعمة إلا إذا رأى من هو محروم منها. وكذلك أراد الحق أن يرضي كل ذي آفة قَبل آفته ولم يتمرد عليها؛ لذلك يفيض عليه بالخير.
إذن فكل إنسان أسلم يستفيد من الإسلام حتى الصبي والمجنون استفادا من
وحين نستقرئ حياة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، نجده يرد جميل كل من ساعده، ومثال ذلك حليمة السعدية التي نالت شرف إرضاعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو صغير، ثم أكرمها الرسول هي وأسرتها بعد أن صار نبيا.
ثم ألم يذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الطائف ليطلب النصير له في تبليغ الدعوة بعد وفاة خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ووفاة عمه أبي طالب، وعز عليه النصير وفكر في العودة إلى مكة، والتمس من يجيره حين يدخلها فأجاره واحد من الكفار هو المطعم بن عدي، فإذا كان كافرٌ قد أجار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي يدعو لمحاربة الكفر؛ أفلا نجير واحداً من الكفار لنرد التحية بخير منها؟
وإذا كان واحد من الكفار قد أجار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة فلا بد أن يرد المؤمنون كلهم التحية بأن يجيروا من يستجير بهم من الكفار. وبعد أن يجير المسلمون من استنجد بهم من الكفار على أن يسمعوه كلام الله. وبعد ذلك هناك أحد أمرين إما أن يعلن الكافر الإيمان، وفي هذه الحالة أصبح من المؤمنين، وإما أن يصر على كفره وعناده، وفي هذه الحالة يصبح على المسلمين مسئولية أن يبلغوه مأمنه، وذلك بأن يساعدوه على الوصول إلى المكان الذي يصبح آمنا فيه على نفسه وماله، وبعد أن يبلغ مأمنه ويسمع كلام الله فليس على المسلمين أن يطلقوا سراحه كما كان الأمر من قبل:
﴿فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
لا، بل على المسلمين أن يبلغوه مأمنه، ثم ينفذون فيه حكم الله إما أسراً، وإما حصاراً، أو قتلاً؛ حسب الحكم النازل من الله. وعلة تأمين الكافر هي أنه من قوم لا يعلمون حسبما قال الله تعالى:
﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٦].
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ [النحل: ٧٨].
وهكذا حدد لنا القرآن الكريم وسائل العلم بالسمع والبصر، فإذا استقرت هذه المعلومات في الفؤاد، لأنه الذي يحفظ كل القضايا العقلية والفكرية. وإذا كان الإنسان يسمع ولا يفقه شيئا فهو لا يعلم.
إذن فالمستجير جاء ليطلب وسائل العلم وأدلة الإيمان؛ وعذره أنه لا يعلم.
وعلينا أن نحسن الظن وأن نعتبر المستجير طالب علم بالحقيقة، ويريد أن يأخذ أدلة الإيمان.
ثم يعود الحق سبحانه وتعالى إلى مسألة العهد فيقول: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام... ﴾
و «كيف» هنا للاستفهام عن الحالة، كيف حالك؟. تقول: بخير والحمد لله. إذن ف «كيف» يُسأل بها عن الحال، والحال قد يكون عاما، أي كيف حالك وحال أسرتك وأولادك ومعيشتك إلى آخره، وقد يكون خاصا أن تسأل عن مريض فتقول: كيف حال فلان؟. فيقال: شُِفي والحمد لله. أو تسأل عن معسر فتقول كيف حاله؟. فيقال: فرّج الله ضائقته. أو تسأل عن ابن ترك البيت هارباً فيقال: عاد والحمد لله.
إذن ف «كيف» إن أطلقت تكون عامة، وإن خصصت تكون خاصة، ولكنها تُطلق مرة ولا يراد بها الاستفهام، بل يراد بها التعجب؛ إما تعجب من القبح، وإما تعجب من الحسن. كأن يقال لك: كيف سب فلان أباه؟. هنا تعجب من القبح لأن ما حدث شيء قبيح ما كان يصح أن يحدث. وتأتي لإنسان اخترع اختراعاً هاماً وتقول: كيف وصلت إلى هذا الاختراع؟. وهذا تعجب من الحسن. والتعجب من القبح يكون تعجب إنكار والتعجب من الحسن تعجب استحسان كأن نقول: كيف بنيت هذا المسجد؟ وفي هذه الآية الكريمة يقول سبحانه وتعالى:
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ﴾ [التوبة: ٧].
وهذا تعجب من أن يكون للمشركين شيء اسمه عهد؛ لأنهم لا يعرفون إلاَّ نقض العهد، ولا يتمسكون بالعهود ولا يحترمونها، إذن يحق التعجب من أن يكون لهم عهد بينما في الحقيقة لا عهد لهم.
وهذا التعجب للاستهزاء والإنكار، فأنت مثلا إذا جاء أحد يهددك، فقلت له: من أنت حتى تهددني؟. يكون هذا استهزاء واستنكارا لأنك تعرفه، وأيضا تستهزىء أن يملك القدرة على أن ينفذ تهديده لك. ومرة تكون استفهاما حقيقيا، كأن تسأل إنسانا لا تعرفه: من أنت؟. فيقول لك: أنا فلان بن فلان. وأحيانا تكون الإجابة عن الكيفية بالكلام، وأحيانا لا ينفع الكلام فلا بد أن يجاب بالفعل.
كيف هذه تحمل معنى التعجب الاستحساني؛ لأنك إذا بعثت الحياة في ما لا حياة فيه؛ فهذه مسألة عجيبة تستوجب الاستحسان. ولم يجب سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم باللفظ، بل أجاب بتجربة عملية، ودار حوار بين الحق سبحانه وتعالى وخليله إبراهيم عليه السلام فسأله المولى سبحانه:
﴿أَوَلَمْ تُؤْمِن﴾ [البقرة: ٢٦٠].
رد إبراهيم عليه السلام: ﴿قَالَ بلى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
أي أنني يا رب آمنت، وأضاف القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠].
والإيمان هو اطمئنان القلب، فكيف يقول إبراهيم آمنت؟ أليس في ذلك تناقض؟. وأقول: إن إبراهيم واثق من أنَّ الله سبحانه خلق الكون كله ولكنه يريد أن يعرف كيفية الإحياء وكيف يحدث، حينئذ لم يجبه الحق سبحانه وتعالى بالكلام، بل أراه تجربة عملية، فقال له: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: ٢٦٠].
أي عليك أن تختار أربعة طيور وتضمها إليك وتتأكد من شكلها حتى إذا ماتت وأحييت تكون متأكدا من أنها هي نفس الطير. ﴿ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٠].
أي قطّع هذه الطيور بنفسك، وضع على كل جبل قطعة، وبعد ذلك ادْعُها أنت تأتك سعياً أي مشياً، حتى لا يقال إنها طيور قد جاءت من مكان آخر، بل تجيئك نفس الطيور سيراً، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي القدرة لمخلوق عندما يستدعي الميت أن يأتيه حيا، فما بالك بقدرة الله عَزَّ وَجَلَّ؟
﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٧].
وهذا استفهام للإنكار والتعجب من أن المشركين ليس لهم عهد، بل تمردوا وتعودوا دائما على نقض العهود ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ [التوبة: ٧].
أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ وهو يخبر المؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا عهد لهم، لا يطالب المؤمنين أن يواجهوا المشركين بالمثل، بل يأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يحافظوا على العهد ما دام الكافرون يحافظون عليه، إلى أن يبدأ الكافرون في نقض العهد وهنا يلزم سبحانه المؤمنين أن يقابلوا ذلك بنقض مماثل وهذا ما يفسره قوله تعالى:
﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين﴾ [التوبة: ٧].
والمتقي هو الطائع لله فيما أمر وفيما نهى ويجعل بينه وبين صفات الجلال من الله وقاية، إذن فأساس التقوى هو ألا ينقض المؤمن عهداً سواء مع مؤمن أم مع كافر، وإنما الذي يبدأ بالنقض هو الكافر، وعلى المؤمن أن يحترم العهد والوعد.
ويقول الحق تبارك وتعالى من بعد ذلك: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً... ﴾
﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ [التوبة: ٨].
ومعنى «يظهروا»، أي يتمكنوا منكم، وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة، و «يرقب» من الرقيب الذي يراقب الأشياء. إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهدا ولا ميثاقا، بل يستبيحون كل شيء. وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين.
ونلاحظ أن كلمة «يرقبون» غير «ينظرون»، وغير «يبصرون»، وهي أيضا غير «يلمحون» وغير «يرمقون»، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة، لذلك إذا قلنا: إن فلانا يراقب فلاناً، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه. أما كلمة «نظر» فتعني رأى بجميع عينيه، وكلمة «لمح» تعني رأى بمؤخر عينيه، «رمق» أي رأى من أعلى. وقوله سبحانه وتعالى ﴿لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ يعني لا يراعون فيكم عهداً، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحا؛ والمثال: أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلاً صغيراً لا يتحمل ضربته، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل ضربته، وأنه ابن فلان قريبه، وأنهم جيران؛ فلا يراعي هذا كله، وإنما ينهال على الطفل ضرباً.
وقوله سبحانه وتعالى: «إلاًّ» هي في الأصل اللمعان أي البريق، و «إلاّ» أيضاً هي الصوت العالي، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسّية، وهي الأذن والعين، والإنسان إذا عاهد عهداً فهذا العهد يصبح أمراً واضحاً أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي، وسُمي العهد والكلام «إلاّ» لأنه معلوم بالعين والأذن.
هذا هو المعنى اللغوي، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة «إلاّ» هو الغصب، بأن تشد
وإذا أطُلق الغصب في الفقه لا ينصرف إلى المعنى اللغوي وهو اللمعان والصوت العالي، وللعلماء في هذا المعنى أكثر من رؤية، وكل واحد منهم أخذ لقطة من ال «إل» وأصله اللمعان، أَلَّ.. يؤلّ.. إِلاًّ، بمعنى لمع.. يلمع.. لمعاً. وال «إل» أيضاً هو الصوت العالي، وقال ابن عباس والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن «إلاّ» هي القرابة؛ لأن القرابة سبب للتراحم، فأنت يعز عليك أن تخون قريباً لك؛ لأن القرابة لا تحتاج إلى عهد، وقيل إن «إلاّ» هي العهد.
وقال سيدنا الحسن: إن «إلاّ» هي الجوار وما يوجبه من حقوقه. وقال قتادة: إن «إلاّ» هي الحلف والتحالف. وقال أبو عميرة: إن «إلاّ» هو اليمين أو القسم.
والمعاني كلها تلفتنا إلى وجود نوع من التراحم، بحيث لا تتملك الإنسان القسوة أو انفلات الانفعال، وليجعل الإنسان لنفسه من يقول له: «اهدأ إنه جارك أو من قوم بينهم وبين من تعاهون صلة قرابة» ؛ لأن الذي يجعل الإنسان لا يميل إلى الشر ولا يشتري فيه ساعة يحفزه الأمر؛ هو مراعاة الملابسات كلها، وهكذا يتدخل الحوار، ولكن قد توجد قرابة أو عهد أو قسم أو جوار ليمنع البطش بقسوة، أي إن «إلاّ» هو الأمر الذي يمنع الرد بقسوة على شيء قد يكون وقع خطأ. والمعنى أيضا هو عدم احترام لكل القيم؛ عدم احترام للقرابة أو الجوار أو العهد أو القسم، فإذا تمكن رجل قوي من طفل صغير لم يراع فيه أيا من هذه الأشياء.
ويريد الحق أن نعلم أن المشركين إذا تمكنوا من المؤمنين فهم لا يراعون فيهم قرابة ولا عهداً ولا حلفاً ولا جواراً ولا قسماً ولا أي شيء. إذن فكيف يكون للمشركين عهد؟ وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يراعون فيهم شيئا أبداً.
ثم يضيف الحق سبحانه وتعالى قوله:
﴿وَلاَ ذِمَّةً﴾ [التوبة: ٨].
والذمة هي الوفاء بالأمانة التي ليس عليهما إيصال ولا شهود، فإذا اقترض واحد
وكذلك أيضاً حين تأخذ ديناً بلا إيصال منك أو شهود عليك، ولكنك تحرص على أن ترده لأنه في ذمتك.
﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٨].
وهكذا نعرف أن «كيف» هنا تعجب من أن يكون للمشركين الآن أو في المستقبل عهد لأنهم يحترفون نقض العهود ولو تمكنوا من المؤمنين فهم ينكلون بهم أبشع تنكيل دون مراعاة لأي اعتبار، وقد يقول قائل: إنهم معنا على أحسن ما يكون؛ بشاشة وجه وحسن استقبال إلى آخره، فكيف إذا تمكنوا منا انقلبوا إلى وحوش لا ترحم؟. ونقول: إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يظهر وما يخفي، وقد علم ما يدور في خواطر المؤمنين فرد عليهم حتى لا يترك هذه الأشياء معلقة داخل نفوسهم، ولذلك يريد سبحانه وتعالى على هذا الخاطر:
﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٨].
أي أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين؛ لأنها ليست الحقيقة، بل هو خداع ونفاق؛ فهم يقولون القول الحسن،
﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [التوبة: ٨].
فعلى المؤمنين أن يصدقوا ما جاء من الحق، ويكتشفوا أن اللسان الحلو وحسن الاستقبال ليس إلا خداع، من هؤلاء الأعداء، وهو سبحانه بهذا الكشف إنما يعطينا مناعة بألاَّ ننخدع بما نراه على وجوههم؛ فهذا مجرد أمر استقبالي، لا يمثل ماضياً أو حاضراً، وحين يبرم سبحانه وتعالى أمراً استقباليا فهو يخبر به عباده المؤمنين، ولذلك نجده سبحانه وتعالى يرد بنفس الأسلوب على هذه الخواطر والمثال: في قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨].
والبلاغ هنا نهي عن دخول المشركين المسجد الحرام أو اقترابهم منه، ومن الطبعي أن تدور الخواطر هنا في نفوس عدد من المؤمنين الذين يستفيدون من المشركين في مواسم الحج، لأنهم أمة تعيش على اقتصاد الحج، حيث يبيعون السلع لهؤلاء القوم ليكسبوا قوت العام، فإذا ما تم منع المشركين من الحج أو الاقتراب من المسجد الحرام، فمن أين يأتي الرزق الذي يحصلون عليه من البيع لهم؟ ولا بد أن يفكر المؤمنون: من أين سنأكل؟. نحن نحضر بضاعتنا وننتظر طوال الموسم حتى الحج؛ فإذا نقص عدد الحجاج فلمن نبيع؟.
فيرد الله سبحانه وتعالى على هذه الخواطر بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ [التوبة: ٢٨].
أي لا تخافوا الفقر، لأن الله يعلم ما سوف يحدث، والله هو الغني وعنده مفاتيح كل شيء وسوف يغنيكم من فضله ويفتح لكم باب الرزق مما يعوضكم وزيادة. وهكذا يرد الله سبحانه وتعالى على الخواطر التي تدور في نفس المؤمن ساعة نزول القرآن؛ حتى
﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٨].
وفي هذا القول رد على الخواطر التي دارت في نفوس المؤمنين؛ وهم يرون المشركين يستقبلونهم بألفاظ ناعمة ووجوه تملؤها البشاشة، فأوضح لهم الحق سبحانه وتعالى: لا تنخدعوا فما في القلوب عكس ما هو على الوجوه.
وقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: ٨].
يبين أنهم بعيدون عن المنهج، فالفسق هو الخروج عن الطاعة، وهل الكافر والمنافق له طاعة؟.
نقول: إنك إن نظرت لهؤلاء تجدهم خارجين حتى عن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم؛ فهم لا يلتزمون بمنهج الباطل الذي يعتنقونه، إذن فهم فاسقون حتى في المنهج الذي ينتسبون إليه، فإذا كانوا كذلك مع منهج الباطل، فكيف بهم مع منهج الحق؟.
وقوله تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ يوضح بأنه قد تكون هناك قلة ملتزمة، وهذا احتياط قرآني جميل، كما أنها ردت على السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن أن هؤلاء كافرون - وليس بعد الكفر ذنب - فكيف يقال إنَّهم فاسقون أي عاصون أو خارجون عن الطاعة وهم غير مؤمنين أصلا؟.
نقول: إنهم خارجون حتى عن مناهج الكفر التي اختاروها لأنفسهم، ولذلك يبين الله سبحانه وتعالى وضعهم حين يقول: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً... ﴾
﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [التوبة: ٩].
وكان المفروض - إذن - أن يكونوا قد دفعوا الثمن، لأن المشتري هو الذي يدفع الثمن، ولكن هنا عُكست القضية؛ فجعل الحق سبحانه وتعالى الثمن هو ما يشترونه، مع أن الثمن هو الذي يدفع، فتكون القضية مخالفة لواقع البيع والشراء، والذي يجب أن نلاحظه أيضاً هو أن الثمن يساوي السلعة. فأنت تأخذ السلعة وتعطي للبائع ثمناً يساويها، لأن ثمن كل شيء يجب أن يكون مناسباً له، فإذا اشتريت شيئا بسيطاً دفعت له ثمناً بسيطاً، وإذا اشتريت شيئا ثميناً دفعت فيه ثمناً غالياً.
هذا كله ملحوظ حتى في الأعمال، وقد تكون ممن يرغبون في مشاكسة الغير، وقد تجد من يشاكس غيره؛ يطلب من أحد أتباعه أن يسب فلاناً ويعطيه عشرة جنيهات، فإذا أراد أن يجعل التابع يضرب خصمه، يقول له: اضرب وأعطيك خمسين، وإن أراد أن يقتل التابع خصمه فهو يعطيه الألوف من الجنيهات، وغالبا ما يقول هؤلاء الذين بلا إيمان: كل ذمة قابلة للانصهار بالذهب، لكن المختلف قيمة هو الكمية التي تصهر أي ذمة، فهناك من تنصهر ذمته بريال، وآخر تنصهر ذمته بعشرين أو ثلاثين، وهناك من تنصهر ذمته بملايين.
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن هؤلاء الكفار قد حوّلوا الإيمان إلى سلعة تباع وتشترى، فهم قد باعوا إيمانهم، وبدلا من أن يتقاضوا عنه ما يساوي الإيمان والإيمان أغلى من كنوز الدنيا؛ باعوا إيمانهم بثمن قليل، أي أنهم حتى لم يقدروا قيمة الإيمان فباعوه رخيصاً. كيف باعوا الإيمان بثمن رخيص؟.
نقول مثلاً: إن الذي يرتشي يفعل ذلك ويريد أن يعوجّ ميزان الحق، والذي يغير ميزان الحق يشكك الناس في العدالة، وإذا شك الناس في العدالة؛ فقدوا سندهم الأمني؛ لأن كل مظلوم أمله أن يرفع الأمر للقضاء فينصفه، أو أن يرفع أمره للمسئول فيعطيه حقه، فإذا أحس الناس بأن الحق قد ضاع نتيجة أنه أصبح هناك ثمن للإيمان.
كما أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الحساب يوم القيامة؛ وكيف أن المؤمنين سيخلدون في الجنة وينعمون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسيدخل هؤلاء الكافرون النار وبذلك يكونون قد باعوا إيمانهم مقابل ثمن رخيص مهما كان المال الذي سيحصلون عليه؛ لأن مال الدنيا كلها لا يساوي يوماً في الجنة؛ لأن الدنيا موقوتة بزمن، ومتاعها محدود وقليل، فكأنهم باعوا الخلود في النعيم بمتعة وقتية قد لا تستمر إلا أياماً أو سنوات.
وحينئذ يعرف الكافرون أن الثمن الذي تقاضوه قليل جدا بالنسبة لما خسروه. وليتهم جعلوا الإيمان ثمناً يدفعونه للحصول على متاع قليل في الدنيا، ولكنهم زادوا على ذلك أنهم صدوا عن سبيل الله.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [التوبة: ٩].
والصد يحدث حين تكون هناك دعوة معروضة بأدلتها فتمنع الناس من أن يستمعوا إليها، لأنك تعرف أنهم لو سمعوها لاعتنقوها واقتنعوا بها، ولذلك نجد الكفار مثلاً حين نزل القرآن والعرب أمة بلاغة وأمة بيان؛ عرفوا أنه لو سمع الناس القرآن لأحسوا بإعجازه وبلاغته وحلاوته ولآمنوا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى على ألسنتهم في القرآن: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون﴾ [فصلت: ٢٦].
لأن الكفار يعرفون أن الناس لو استمعوا للقرآن لآمنوا به، ولذلك فهم ينهونهم عن السماع، وإن قرأ أحد القرآن يأمرون بعضهم البعض باللغو فيه حتى لا يفهم شيئا، وهذه شهادة من الكفار بأن الآذان لو استقبلت القرآن لآمنت، واللغو هو نوع من الصد عن سبيل الله، وكان هناك نوع آخر من الصد عن سبيل الله أنهم كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأنهم يعرفون أن حلاوة الدعوة ستجعل من يستمع إلى دعوة الرسول يؤمن بها. ولذلك فهم يصدون الناس عن
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ٩].
وساء أي قبح، وليس هو قبح الآن فقط، ولكنه قبح حاليا وعظمت العقوبة عليه مستقبلاً.
وقوله تعالى:
﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ٩].
يرينا دقة القرآن الكريم في أن السيىء منهم ليس عملاً واحداً ولكنه أعمال متعددة؛ قول وفعل، أي هم يصدون الناس بالكلام ويمنعونهم باستخدام القوة في بعض الأحيان. وباستخدام الحق لكلمة «يعملون» ؛ يلفتنا إلى أن أعمالهم ليست قولاً وليست فعلاً فقط، فهناك القول وهناك الفعل وكلاهما عمل؛ القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح. فلو قال الحق: ساء ما كانوا يفعلون، لقلنا فعلوا ولم يقولوا. ولو قال: ساء ما كانوا يقولون، لقلنا: قالوا ولم يفعلوا. وسبحانه أوضح لنا أن القول والفعل كلاهما عمل، وقال سبحانه: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢].
ليبين لنا أن هناك فرقاً بين القول والفعل؛ القول أداته اللسان، والفعل أداته بقية الجوارح، والمعنى في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ساء قولهم وفعلهم.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ١١٨].
وأليس الذي فعل فاحشة، يظلم نفسه؟ بلى، ظلمها في الآخرة بعد أن أعطاها شهوة في الدنيا، أي أنه أخذ متعة عاجلة بعذاب آجل. لكن الذي يظلم نفسه ظلما شديدا وبيِّناً هو الذي يرتكب إثما دون أن يأخذ متعة في الدنيا، فلا هو أخذ متعة دنيا ولا أخذ متعة آخرة، مثل الذي يتطوع لشهادة الزور، هو يأخذ عذاباً في الآخرة ولم يأخذ متعة في الدنيا.
وقد يقول قائل: إن هذه الآية مكررة لأن الله تعالى قال من قبل: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾ [التوبة: ٨].
ونقول: إن الموضوع يختلف، ففي الآية الثامنة من سورة التوبة يبين الحق أنهم إن تمكنوا من المؤمنين فلن يراعوا قرابة ولا جواراً ولا حلفاً، وإن أظهروا عكس ذلك. أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فهم يظلمون أنفسهم ويبيعون إيمانهم بثمن قليل، وهناك فرق بين ظلم الغير وظلم النفس.
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة﴾ [التوبة: ١١].
إذن فالمهمة الإيمانية بعد التوبة إنما تكون بشهادة أن «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وبطبيعة الحال لا بد من مباشرة الصلاة لأنها تجمع كل أركان الإسلام، وهي عمل يومي، وليست عملاً مطلوباً من الإنسان مرة واحدة كالحج، وليست كالصوم، فالصوم مدته شهر واحد من السنة. إذن لكي تتأكد التوبة فلا بد أن يؤدي التائب الصلاة في وقتها كل يوم فهي العمل اليومي الذي لا يؤجل ولا يتأخر عن وقته، والصلاة قرنت
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ١١].
إنه لا بد أن نلاحظ في التفصيل هنا المراحل الإيمانية التي بينها الله عَزَّ وَجَلَّ لنا؛ المرحلة الأولى وهي تحمل الاضطهاد والصبر، والمرحلة الثانية أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر، وهذه حسمت محاولة الكفار تمييع قضية الإيمان بأن نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، وكانت هذه عملية مرفوضة تماماً الآن وفي المستقبل وحتى قيام الساعة. ثم جاءت مرحلة المعاهدات ثم نقض العهود ثم مهلة الأشهر الأربعة الحرم التي أعطيت للكافرين. وكل هذه مسائل مقننة، ولم تكن الأمة العربية تعرف التقنينات.
إذن فكل هذه التقنينات جاءت من السماء، والتقنينات في الأمم تأخذ أدوارا طويلة، ولا يوجد قانون بشري يولد سليماً وكاملا، بل كل قانون يوضع ثم تظهر له عيوب في التطبيق، فيعدّل ويطور ويفسر ويحتاج إلى أساطين القانون الذين يقضون عمرهم كله في التعديلات والتفصيلات، فكيف ترتب هذه الأمة العربية الأمية التي لم يكن لها حظ من علم ولا ثقافة كل هذه التقنينات؟.
نقول: إنها لم ترتب، وإنما رتب لها ربها الذي أحاط بكل شيء علماً، فكل هذه المراحل التي مر بها الإيمان نزلت فيها تقنينات من السماء تبين للمؤمنين ما يجب أن يفعلوه.
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾ [التوبة: ١١].
ونحن عادة نعرف أخوة النسب، فهذا أخي من أبي وأمي، أو هذا أخي من الأب فقط، أو هذا من الأم فقط، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٥٨].
هذه أخوة النسب، ونحن نعلم أن مادة الأخوة تأتي مرة لتعبر عن أخوة النسب،
ليدلنا على أنهم ما داموا قد دخلوا معنا في حظيرة الإيمان فلهم علينا حق أخوة النسب فيما يوجد من تواد وتراحم، وترابط وحماية بعضهم البعض دائما، وحب ووفاق إلى آخر ما نعرفه عن حقوق الأخوة بالنسب.
ولكن نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال:
﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين﴾ [التوبة: ١١].
ولم يقل إخوانكم، لماذا؟.
نقول: ليس من المعقول أن يخرجوا من كل ما كانوا فيه من آثام بالتوبة، ثم يصبحوا في نفس التو واللحظة إخوة، لكن ذلك يحدث عندما يتعمق إيمانهم، ويثبت صدق توبتهم حينئذ يصبحون إخوة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ١١].
كيف يكون التفصيل لمن يعلم؟. وما دام يعلم فلماذا التفصيل؟.
ونقول: إن المعنى هنا أن الله سبحانه وتعالى يفصل الآيات لمن يريدون أن يعلموا العلم الحقيقي الذي يأتي من الله، لأن هذا العلم له أثر كبير على مستقبل الإيمان، ولذلك فغير المسلمين الذين يهتمون بدراسة الدين الإسلامي دراسة جادة للبحث عن العلم الحقيقي ينتهون إلى إعلان إسلامهم، لأنهم ما داموا أهل علم وأهل مواهب وأهل طموح في فنونهم، وما دامت شهوة العلم قد غلبتهم، وأرادوا أن يدرسوا منهج الإسلام بموضوعية، لذلك تجدهم يعلنون الإسلام لأنهم ينظرون النظرة الحقيقية للدين الذي يدرسونه، وهم يأخذون الإسلام من منبعه الإيماني وهو القرآن الكريم والسنّة النبوية، ولا يأخذون الإسلام من المنسوبين للإسلام، أي من المسلمين؛ لأن المسلمين قد يكون فيهم عاص، وقد يكون فيهم سارق، وقد يكون فيهم مُرْتشٍ، وقد يكون فيهم كذاب، وقد يكون غيهم منافق، ولو أخذوا الإسلام عن المسلمين لقالوا: ما هذا؟ معصية وسرقة وكذب ورشوة ونفاق؟!
إذن فهذه الأفعال كلها التي وجدتها في عدد من المسلمين واستنكرتها ليست من الإسلام في شيء، ولكنك إذا ذهبت إلى الإسلام لتعرفه من منابعه العلمية وهي معزولة عن المنسوبين إليه لانتهيت إلى الإيمان.
ولذلك لو عرف المسلمون الذين ينحرفون عن المنهج، ماذا يفعلون بالإسلام وكيف يسيئون إليه؛ لعلموا أنهم يفعلون شيئا خطيراً؛ لأن الإسلام منهج وسلوك، وليس منهجا نظريا فحسب، بل هو منهج عملي يطبق في الحياة، ولذلك فإذا كان القرآن الكريم يمثل قواعد المنهج، فسيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تمثل المنهج العملي التطبيقي للإسلام.
ويقول الحق سبحانه: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر﴾ [الأحزاب: ٢١].
والمسلم حين يطبق منهج الإسلام يلفت نظر غير المسلم إلى هذا الدين ويحببه فيه، وحين يفعل ما لا يرضاه الإسلام يُنَفَرِّ غير المسلم من الدين، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣].
لأن فعلك حين يختلف مع الدين الذي تدعو إليه وتؤمن به، فهو يتحول
ولقد قلنا: إننا حين ننظر إلى التمثيل الدبلوماسي في العالم الإسلامي، نجد اثنتين وسبعين دولة إسلامية لها سفارات في معظم دول العالم، وأتساءل: كم من أفراد هذه السفارات يتمسك بالمظهر الإسلامي؟. أقل القليل. وكم من الجاليات الإسلامية في الدول الأجنبية يتمسكون بتعاليم الدين؟. أقل القليل. ولو أنهم تمسكوا جميعا بتعاليم الإسلام لعرفت دول العالم أن لهذا الدين قوة ومناعة تحميه. وأن هذه المناعة هي التي منعت الحضارة المادية المنحرفة من أن تؤثر في هؤلاء، ولكان لفتة قوية لشعوب العالم لكي تدرس هذا الدين، ولكنك تجدهم يذوبون ويتهافتون على الحضارة المادية للدول التي يقيمون فيها، مما يجعل شعوب هذه الدول تقول: لو كان دينهم قويا لتمسكوا به، ولم يتهافتوا على حضارتنا.
وإذا درسنا تاريخ الإسلام نجد أنه لم ينتشر بالقتال أو بالسيف؛ لكنه انتشر بالأسوة الحسنة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ١١].
أي نبينها لقوم يبحثون عن العلم الحقيقي، الذي بينه الله عَزَّ وَجَلَّ في منهجه، ولذلك نجد مثلا أنه إذا وصلت أمة من الأمم إلى كشف جديد فأهل العلم في الإسلام يعرفون أنه ليس كشفا جديداً؛ لأن الإسلام ذكره منذ وقت طويل.
فقال المحاضر الألماني: نعم. فقال المحامي: لقد جاءت هذه النظرية منذ أربعة عشر قرناً في منهج الإسلام. وارتبك المحاضر الألماني ارتباكا شديداً، وجاء بالمستشرقين؛ ليناقشوا هذا المحامي المسلم، وجاءوا بكتب السيرة النبوية، وأخرج المحامي للمستشرقين قصة من سيرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تقول: إن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان جالسا فجاءه صحابي يشكو من أن أحد الصحابة له نخلة في بيته، والبيت مملوك للصحابي الشاكي، والنخلة مملوكة لصاحبي آخر، وقد تعوَّد أن يأتي الصحابي صاحب النخلة إليها كثيراً ليشذبها ويلقحها ويطمئن عليها، وكأنه قد جعلها «مسمار جحا» كما يقول المثل الشعبي، فتعرضت عورة أسرة الصحابي صاحب البيت إلى الحرج، فذهب يشكو الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأحضر الرسول صاحب النخلة وأوضح له بما معناه: «إما أن تهب النخلة لصاحب البيت، وإما أن تبيعها له بالمال، أو أن تقطعها».
لقد أوضح له الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أن النخلة حقك ولكنك
ولذلك تجد أن صفة الأمية في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي أمته، كانت شهادة تفوق؛ لأنها لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السابقة، وإنما أخذته عن الله؛ لأن أقصى ما يصل إليه غير الأميين في علمهم أن يجيء إليهم العلم من بعضهم البعض، ولكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء لها العلم من الله، وسادت الدنيا أكثر من ألف عام.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ... ﴾
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾، أي: أن القتل يأتي أولاً لزعماء الكفار الذين يحرضون أتباعهم على محاربة دين الله، فالأتباع ليسو هم الأصل، ولكن أئمة الكفر؛ لأنهم هم الذين يخططون وينفذون ويحرضون. وهم - كما يقال في العصر الحديث - مجرمو حرب؛ والعالم كله يعرف أن الحرب تنتهي متى تخلص من مجرمي الحرب؛ لأن هؤلاء هم الذين يضعون الخطط ويديرون المعارك ويقودون الناس إلى ميادين القتال، تماماً كأئمة الكفر، هؤلاء الذين اجترأوا على أساليب القرآن الكريم، ومنعوا القبائل التي تأتي للحج من الاستماع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحاربوا الدين بكل السبل من إغراء وتحريض، وتهديد ووعيد.
والأمر العجيب أنك ترى من يبرر لك قتل مجرمي الحرب ويستنكر قتل أئمة الكفر، والحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢].
ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في ذات الآية:
﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢].
وفي هذا يأتي المستشرقون ومن يميلون إليهم بقلوبهم ويُحسَبون علينا
فقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾ نفي للرمي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ إثبات للرمي. ويجيء نفي الشيء وإثباته في آية واحدة، والفاعل والفعل واحد. وهذه تسمى في الأسلوب انفكاك الجهة، أي أن كل جهة تطلب معنى مختلفاً عن الجهة الأخرى، تماماً مثلما يقال: إن فلاناً يسكن أعلى مني. فهذا قول صحيح، ولكنه في ذات الوقت يسكن أسفل بالنسبة لمن فوقه، إذن فهو عالٍ وأسفل في نفس الوقت؛ عالٍ عمن تحته وأسفل ممن فوقه.
أو تقول: - كمثال آخر - فلان أب وابن. هنا يبدو تناقض ظاهري، أي أنه أب لا بنه، وابن لأبيه، فهو أب من جهة الابن، وابن من جهة أبيه، ولا يوجد تعارض. وهذا ما نسميه انفكاك الجهة.
إذن فلا يوجد أدنى تعارض بين نفي الرمي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإثباته له؛ لأن رسول الله أخذ حفنة من الحصى ورمى بها جيش الكفار، هذا ما فعله الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو من البشر، لكن قدرة
لقد قالوا: إن الله نفى العلم وأثبته لنفس الأشخاص، ونقول: لا، إنه نفى العلم الحقيقي، وأثبت لهم ظاهر العلم، وهذا مختلف عن ذلك تماماً، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم﴾ [التوبة: ١٢].
أثبتت الآية أن لهم أيماناً، وفي آخر الآية ينفي عنهم الأيمان فيقول:
﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢].
ونقول: فائدة الأيمان أو العهد أن يُحافظ عليه، ومن لا يحافظ على يمينه أو عهده يكون لا أيمان له؛ لأن أيمانه أي عهده لا قيمة له؛ لأنه مجرد من الوفاء. وعندما يحلف الكذاب نقول: هذا لا يمين له. وهؤلاء أيمانهم لم تأخذ قداسة الأيمان، فكأنهم لا أيمان لهم، كأن يكون لك ابن اقترب امتحانه وتجبره على المذاكرة، وتجلس تراقبه فيقلب الكتاب ولكنه لا يفهم شيئاً. وإن حاولت أن تحسب حصيلة المذاكرة لم تجد شيئا، فتقول: ذاكرت وما ذاكرت، وهذا نفي للفعل وإثباته ولا تناقض بينهما: لأن الجهة منفكة.
ونفي الأيمان في آخر الآية معناه: أنهم لا وفاء لهم، وما داموا بلا وفاء فلا قيمة لأيمانهم. وقوله تعالى:
﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ [التوبة: ١٢].
هذا أمر بقتالهم لا بقتلهم، فيكون المعنى: قاتلوهم، فإن لم يقتلوا فقد يجعلهم القتال ينتهون عن عدائهم للدين؛ لأنهم حين يرون البعض منهم قد
ثم يقول الحق من بعد ذلك: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ... ﴾
هم إذن الذين بدأوا الفعل الأول بالعداوة. والإسلام - كما نعلم - قد واجه
إذن فعلى الرغم من سلامة العير بحيلة من أبي سفيان إلا أن قريشا هي التي أرادت القتال فجمعوا الجند والفرسان؛ ليقاتلوا المسلمين.
وكذلك فعل اليهود، فقد نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول من المدينة. كما حاول المشركون إخراجه من مكة، وكان بينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبين اليهود معاهدة، وهذه المعاهدة كانت من أوائل أعمال رسول الله في المدينة، فهل حافظ اليهود على هذه العهود؟. لا، فقد تعهدوا ألا يعينوا عدوا عليه، ونكثوا أيمانهم ونقضوا العهد فأعانوا قريشا على المسلمين.
وكذلك فعل بنو النضير، فقد أرادوا اغتياله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك بإلقاء صخرة عليه، بل وتمادى اليهود في غزوة الأحزاب وأعانوا قريشا ضد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واتفقوا معهم على أن يدخلوهم من أرضهم بالمدينة ليفاجئوا رسول الله وجيش المسلمين من الخلف.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ لها أكثر من
﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [التوبة: ١٣].
وقوله تعالى: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ﴾ حث على القتال، أي: ما الذي يمنعكم من قتالهم إلا أن تكونوا خائفين منهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى:
﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٣].
وهنا يلفت الحق سبحانه نظر المؤمنين إلى أنهم إن كانوا أمام حالين، خشية من البشر وإيذائهم، وخشية من الله، فالأحق بالخشية هو الأشد والأعظم والأدوم عقاباً. ولأنكم إذا ما قارنتم قوة هؤلاء بقوة الله، فالله أحق بالخشية قطعاً. وإذا كنت بين اختيارين فأنت تقدم على أخف الضررين، فكيف يخاف المؤمنون ما يمكن أن يصيبهم على أيدي الكفار؟ ولا يخشون ما يصيبهم من الله.
وأوضح الله سبحانه وتعالى أنه لا خشية من الكفار في آية أخرى من ذات السورة، هي قوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢].
وهكذا أزال الحق سبحانه وتعالى الخوف من نفوس المؤمنين، فماذا سيحدث لكم من جنود الكفر؟ إما أن تستشهدوا فتدخلوا الجنة وإما أن تنتصروا. وقوله تعالى: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ استفهام استنكاري معناه: ما كان يصح أبدا أن تخشوهم وتخافوهم؛ لأنهم لو كانوا أقوى منكم وتغلبوا عليكم فزتم
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحكم النهائي فيقول:
﴿فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٣].
أي: راجعوا إيمانكم، فإن كنتم مؤمنين بالله فأنتم راغبون في الشهادة. وإن كنتم مؤمنين بالله القادر القوي القهار فأنتم تعرفون الله وقدرته وقوته، وهي لا تقارن بالقوة البشرية. فإما أن تنتصروا عليهم فتكون لكم فرحة النصر، وإما الاستشهاد وبلوغ الجنة، وكلتا النتيجتين خير، أما ما يصيب الكفار فهو ينحصر في أمرين: إما أن يصيبهم الله بعذاب بأيدكم، وإما أن يصيبهم بعذاب من عنده.
إذن ففي أي معركة يدخلها الإيمان مع الكفر، نجد أن الجانب الفائز هم المؤمنون، سواء استشهدوا أم انتصروا. والخاسر في أي حال هم الكفار؛ لأنهم إما أن يعذبوا بأيدي المؤمنين، وإما أن يأتيهم عذاب من الله تعالى في الدنيا أو في الآخرة. وهكذا وضع الله المقاييس التي تنزع الخشية من نفوس المؤمنين في قتالهم مع الكفار، فلا تولوهم الأدبار أبدا في أي معركة؛ لأنه مهما كبرت قوة الكفار المادية، فقوة الحق تبارك وتعالى أكبر. ويقول المولى سبحانه: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٩].
وهكذا لا يحسب حساب للفارق في القوة المادية، فهذه خشية لا محل لها
ثم يؤكد الحق سبحانه وتعالى حثه للمؤمنين على القتال فيقول: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ... ﴾
نقول: لو انتصر المؤمنون بحدث كوني غير القتال لقال الكفار: حدث كوني هو الذي نصرهم. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن ينهزم هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين؛ لأن الكفار ماديون لا يؤمنون إلا بالأمر المادي، ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله لانتهت المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُرِيَ الكفار بأس المؤمنين لتمتلىء قلوبهم هيبة وخوفاً من المؤمنين، ويحسبوا لهم ألف حساب، فلا تحدثهم أنفسهم بأن يجترئوا على الإيمان وعلى الدين أو أن يستهينوا بالمؤمنين.
ولقائل أن يقول: إن الحق هنا يأمر فيقول: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾.
فكيف يثبت الله العذاب وينفيه؟. ونقول: لقد نزلت الآيتان في الكفار. وسبحانه وتعالى يقول: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ ولو قال: قاتلوهم تعذبوهم بأيديكم لاختلف المعنى، ولكن الآيتين تثبت إحداهما العذاب والأخرى تنفيه، ونقول: إن الجهة منفكة، فقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ أي: لا ينزل الله تعالى عليهم عذابا من السماء ما دمت فيهم، وقد وضح هذا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٢ - ٣٣].
فقد سبق أن طلب الكفار عذابا من السماء ينزل عليهم إن كان القرآن هو الحق؛ فرد الحق سبحانه وتعالى بأنه لا يعذبهم ما دام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم؛ لأنه أرسله رحمة للعالمين. ولكن عدم تدخل السماء بالعذاب بعد بعث رسول الله بالرسالة، لا يعني أن العذاب قد انتهى بالنسبة للكفار. وائتمن سبحانه المؤمنين على نصرة منهجه ودينه وهو معهم. ولكن العذاب يتم بالأسباب الأرضية، ولا يوجد تناقض. لأن العذاب من السماء قد يكون استئصالا لكل الكافرين؛ صغارا وكبارا، كأن يغرقهم الطوفان، أو تأتي الصيحة فتبيدهم عن آخرهم، أو تجيئهم ريح صرصر عاتية تدمرهم، أو تصيبهم الرجفة فتجمدهم، وفي كل هذه الحالات لا يبقى أحد من الكفار، ولكن القتال البشري لا يقضي على الكفار نهائيا، فالإسلام يمنعنا من قتال النساء
إذن فالعذاب بعد رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس عذاب استئصال وإبادة كما كان في الأمم السابقة.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد عذَّب الأمم السابقة بتلك الوسائل، فكان على الرسول من السابقين على رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يبلغ الرسالة، وإن لم يؤمن قومه برسالته تتدخل السماء ضدهم بألوان العذاب السابقة. ولكن الحق تبارك وتعالى أمر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته من بعده أن تدعو لدين الله، وتؤدب من يختصم الإيمان، ويدخل في عداوة مع المؤمنين فمنهم من يفر أو يقع في الأسر ويبقى الطفل والمرأة دون تعذيب.
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ﴾ [التوبة: ١٤].
وما الفرق بين العذاب والخزي؟ نقول: قد نجد واحدا له كِبْرٌ وجَلَدٌ، وإن أصابه العذاب فهو يتحمله ولا يظهر الفزع أو الخوف أو الضعف، ويمنعه كبرياؤه الذاتي من أن يتأوه، ولمثل ذلك هناك عذاب آخر هو الخزي، والخزي أقسى على النفس من العذاب؛ لأن معناه الفضيحة، كأن يكون هناك إنسان له مهابة في الحي الذي يسكن فيه، مثل فتوة الحي، ثم يأتي شاب ويدخل معه في مشاجرة أمام الناس ويلقيه على الأرض، هذا الإلقاء لا يعذبه ولا يؤلمه، وإنما يخزيه ويفضحه أمام الناس، بحيث لا يستطيع أن يرفع رأسه بين الناس مرة أخرى، والخزي هنا أشد إيلاما لنفسه من العذاب. ولا يريد سبحانه أن يعذب
﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤].
وعلى هذا فعندما يقاتل المؤمنون الكفار يصيب الكفارَ العذاب والخزي والهزيمة. إذن ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾ مرحلة، ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾، مرحلة ثانية ﴿وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ مرحلة ثالثة، ثم تأتي المرحلة الرابعة:
﴿وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤].
أي: أن النصر الذي سيحققه المؤمنون بعون الله تعالى في قتالهم مع الكفار سيشفي صدور المؤمنين الذين استذلهم الكفار واعتدوا عليهم، فكأن هذا النصر يشفي الداء، الذي ملأ صدور أولئك المؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، أي: يخرج الغيظ والانفعال المحبوس في الصدور، فكأن قتال المؤمنين للكفار لا يحقق فقط العذاب والخزي للكفار والنصر للمؤمنين عليهم، ولكنه يعالج - أيضا - قلوب المؤمنين التي ملأها الألم والغيظ من سابق اعتداء الكفار عليهم ومحاولتهم إذلالهم وأخذ حقوقهم. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ... ﴾
ونلمس أنه - سبحانه وتعالى - رغم تعذيبه لهم، وتشديد النكير عليهم، إلا أنه يفتح باباً للتوبة، وهي مسألة لا يقدر عليها إلا رب حكيم؛ لأن الكل عبيد له؛ مؤمنهم وكافرهم، هو خالقهم، وسبحانه يغار على صنعته، فبعد أن يشتد عليهم بالعذاب والخزي، ويشفي بهذا صدور القوم المؤمنين، بعد ذلك يفتح باب التوبة، وبهذا يعطي المؤمنين قوة سماحة إيمانية، فلا يصطحبوا التعالي على هؤلاء إن جاءوا تائبين مؤمنين فيقول سبحانه وتعالى:
﴿وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ١٥].
أي: أنه سبحانه يعلم كل متطلبات الأحكام، ولكل أمر عنده حكمة، فالقتال أراده الله عَزَّ وَجَلَّ لِيدُكَّ به جبروتهم، والتوبة حكمتها لمنع تمادي الكفار وطغيانهم في الشر؛ لأن مشروعية التوبة هي رحمة من الحق سبحانه وتعالى بخلقه، ولو لم يشرع الله التوبة لقال كل من يرتكب المعصية: ما دامت لا توجد توبة، وما دام مصيري إلى النار، فلآخذ من الدنيا ما أستطيع، وبذلك يتمادى في الظلم ويزيد في الفساد والإفساد؛ لأنه يرى أن مصيره واحد ما دامت لا توجد توبة، ولكن تشريع التوبة يجعل الظالم لا يتمادى في ظلمه، وبهذا يحمي الله المجتمع من شروره، ويجعل في نفسه الأمل في قبول الله لتوبته والطمع في أن يغفر له؛ فيتجه إلى العمل الصالح عَلَّهُ يُكفِّر عما ارتكبه من الذنوب والمعاصي؛ وفي هذا حماية للناس ومنع لانتشار الظلم والفساد.
إذن فالقتال له حكمة، والتعذيب له حكمة، والخزي له حكمة، والتوبة لها حكمة، وسبحانه وتعالى حين يعاقب، إنما يعاقب عن حكمة، وحين يقبل التوبة فهو يقبلها عن حكمة.
إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله. وساعة يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في شيء كلمة ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم، لا، فسبحانه يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر. ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد عميد إحدى الكليات أحيانا يعلن عن جائزة علمية يريد أن يعطيها للمتفوقين؛ فيقول له المدرس الذي يشرف على تحصيل التلاميذ: إن فلاناً هو الأول وهو يستحق الجائزة،
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ﴾ [التوبة: ١٦].
أي بدون ابتلاء أو تمحيص. وقوله تعالى:
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله﴾ [التوبة: ١٦].
«ولمَّا» للنفي، ومثلها مثل قولنا: «لما يأت» أي: أنه لم يتحقق المجيء حتى الآن، وتختلف «لما» عن «لم»، ف «لم» لا تؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، فما يأتي بعدها لن يتحقق أبدا، أما «لما» فتؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، أي أن ما بعدها.. لم يتحقق إلى لحظة نطقها، ولكنه قد يتحقق بعد ذلك. فإن قلت: «لما يثمر بستاننا» أي: أن البستان الذي تملكه لم يثمر، ولكنه قد يثمر بعد ذلك. وسبحانه وتعالى يقول: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤].
ومعنى القول الكريم: أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم إلى الآن، ولكنه سوف يدخل بعد ذلك، وهذه بشارة لهم. فقد قالت الأعراب: «آمنا» فأوضح الحق سبحانه وتعالى: بل أسلمتم ولم يدخل الإيمان قلوبكم؛ لأن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، والإسلام انقياد لما يتطلبه إيمان القلب من سلوك، أي: أنتم قد سلكتم سلوك الإسلام، ولكنه سلوك سطحي لم يأت من ينابيع القلب. وقول الحق هنا:
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾ [التوبة: ١٦].
إذن فالعلم المراد هنا هو علم الواقع الذي سوف يكون حجة عليكم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو لم يختبركم لقلتم: لو أمرتنا يا رب بالقتال لقاتلنا، ولو أمرتنا بالصبر في الحرب لصبرنا، وَلَكُنَّا أكبر المجاهدين.
ولذلك جاءت الابتلاءات كتجربة عملية، ومن هذه الابتلاءات مواجهة العدو في حرب، فمن هرب ثبت له التقصير في المواجهة، ومن لم يصبر على الابتلاءات، عرف تقص إيمانه وأصبح ذلك علما واقعا.
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ [التوبة: ١٦].
إذن فالله يريد بعلم الواقع التمييز بين صدق الجهاد وبين الفرار منه، وأن يكون هناك سلوك إيماني واضح؛ يبين أن هؤلاء القوم لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله وليجة، و «الوليجة» من فعلية، بمعنى فاعل، و «والجة» يعني «داخلة». ﴿ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ [الحج: ٦١].
أي: يُدخْل الليل على النهار ويُدخل النهار على الليل، والمراد ب «الوليجة» الشيء الذي يدخل في شيء ليس منه، وهي من الكلمات التي تطلق ويستوي فيها المفرد المذكر والمؤنث، والمثنى والمثناة وجمع المذكر وجمع المؤنث، وتقول: «امرأة وليجة» و «رجال وليجة». كما تقول: «رجل عدل» و «امرأة عدل»، و «رجلان عدل»، «امرأتان عدل»، و «رجال عدل» و «نساء عدل»، لا تختلف في كل هذه الحالات.
﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾ [التوبة: ١٦].
فالممنوع هنا - إذن - أن يتخذ المؤمنون الكفار وليجة؛ لأن الكافر من هؤلاء سيأخذ أسرارهم ويفشيها لعدوهم. وبذلك يتعرض المؤمنون للخطر. وعلى المؤمن أن يجعل الله عَزَّ وَجَلَّ هو وليجته، وأن يجعل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو وليجته، وأن يجعل المؤمنين هم وليجته، ويسمح لهم أن يتداخلوا معه، وهم مأمونون على ما يعرفونه من بواطن الأمور، أما الأعداء والخصوم من الكفار فهم غير مأمونون على شيء من أسرار المؤمنين. ويذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:
﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ١٦].
والمعنى: إن كنتم تحسبون أنكم تتداخلون مع الكفار وتعطونهم أسرار المؤمنين ولا أحد يعرف، فاعلموا أن الله تعالى يسمع ويرى، وأن الله خبير لا تخفى عليه خافية، فلا تخدعوا أنفسكم وتحسبوا أنكم إن أخفيتم شيئا عن عيون الخلق قد يخفى على الله أبدا؛ فلن يخفى شيء عن عيون الخالق؛
وينقلنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى في قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾
كل ذلك كان يحدث في مكة من الكفار ولكن هذا انتهى بالبراءة التي أعلنها علي بن أبي طالب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ الذي أوحى إليه
نقول: إنَّ المسجد الحرام هو مكان تتجه إليه كل اتجاهات الناس في كل بقاع الأرض حين يقيمون الصلاة لأن كل مكان يسجد فيه إنسان مسلم يسمى مسجدا، وبتعدد الساجدين، يعتبر المسجد الحرام مساجد، أو لأن جهات السجود تتعدى في المسجد الحرام؛ فواحد يسجد شمال الكعبة، وآخر جنوب الكعبة وثالث شرق الكعبة، ورابع غرب الكعبة؛ هذا في الجهات الأصلية، وهناك الجهات الفرعية؛ فهناك أناس يتجهون شمال شرق، وأناس يتجهون جنوب شرق، وغيرهم يتجه جنوب غرب، وتتعدد الجهات الفرعية في الاتجاه إلى الكعبة؛ إذن فكل جهة متجهة هي مسجد وهناك ممن لا يرون الكعبة في بقاع الأرض يتجهون إليها.
وحين تسمع قول الحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: ١٧].
نلحظ أنَّ «كان» هنا جاءت منفية ومنها نفهم المعنى: ليس مقبولا في عرف
والشهادة إما أن تكون شهادة قول؛ وإما أن تكون شهادة حال، أما شهادة القول فذلك لأنهم كانوا يقولون لليهودي: على أي دين أنت؟ فيرد بديانته، وكذلك القول للنصراني، وحين يسأل المشرك؛ فهو يقر بشركه، هذه هي شهادة القول.
أما شهادة الحال فهي أنهم يسجدون للأصنام ويعبدونها من دون الله.
فكيف يكون الإنسان مشركا ثم لا نقول له: ليس لك علاقة بالمسجد؛ ارفع يدك عنه؟ وما أغنى الإسلام عن أن يبني له مشرك مسجدا أو يعمر كافر بيتا من بيوت الله وما أغنى الله أن يزوره في بيته من هو غير مؤمن به سبحانه. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧].
وهم قد نسوا الشهادة الأولى بالحق حينما أشهدهم الله سبحانه وتعالى على أنفسهم، فالحق سبحانه هو القائل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣].
وهذا هو الإشراك بعينه، وهذه هي شهادتهم على أنفسهم بالكفر.
﴿أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧].
والمسجد - كما نعلم - هو المكان الذي نسجد فيه، وكل بقعة في الأرض بالنسبة للمسلمين تصلح للسجود وتعتبر مسجدا، وهذا مما خص به الله تعالى أمة الإسلام، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فَلْيُصَل، وأُحلَّتْ لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».
فهذا الحديث يبين أن مما خص الله به الأمة المحمدية أن جعل لها كل بقاع الأرض صالحة لأداء الصلاة فيها، كما جعل لها الأرض أيضا طهوراً، ويكفي المسلم أن يتيمم من الأرض ويصلي عليها، ولكنْ هناك فارق بين مكان يصلح لك أن تصلي فيه، وأن تباشر نشاط حياتك، وبين مكان مخصص للعبادة، فالحق الذي تزرع فيه، لك أن تصلي فيه وتزرع، والمصنع لك أن تصلي فيه، ولك أن تصنع، وكذلك المدرسة لك أن تتعلم فيها، ولك أن تصلي فيها، وهذه كلها مساجد بالمعنى العام، وهي أماكن سجود لله تعالى، لكن كلمة «مسجد» إذا أطلقت انصرفت إلى الحيز المحدود من المكان الذي أخرج من نشاطات الحياة كلها، وخُصّ بأن يكون للصلاة والسجود فقط، فإذا
وكل بيت لله بنيته في أي مكان يسمى مسجدا، وقبلة المساجد المنتشرة في بقاع الأرض هي المسجد الحرام؛ فهي أماكن حيزت للمسجدية، أو للعبادة، أو للصلاة وليست لغير ذلك من حركات الحياة، ولكن تحييز المكان كان باختيار البشر. وقبلته المسجد الحرام وهو المسجد الجامع الأكبر باختيار الله تعالى، والحق سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦].
ولأن هذا البيت الحرام هو باختيار الله، وموضوع للناس. فلنا أن نسأل: هل الناس هم الذين وضعوه؟ لا، بل وضعه غير الناس، لأن تعريف الناس هم آدم وذريته، ولا بد إذن أنه موضوع قبل آدم، وبمنطق القرآن الكريم وجد البيت من قبل آدم، وإذا تعمقنا قليلا، نجد أن هذا البيت الحرام هو ﴿هُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ ومن العالمين الملائكة.
وهكذا نرى أن قول بعض القوم: إن إبراهيم هو الذي حدد مكان وقواعد البيت، قول لا يثبت صدقه، لأن البيت هو المكان لا المكين، فالبيت ليس هو الحجر أو المبنى، وهو ما نسميه الكعبة، فالكعبة هي «المكين» أما البيت فهو المكان الذي أقيمت فيه الكعبة؛ لأنه إن جاء سيل وأزال الكعبة، جعلها أرضاً مسطحة فأين نصلي؟ نصلي إلى اتجاه المكان، فالسيل يُذْهِبُ المكين لكن المكان باق.
وعندما جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام كان أثر البيت ضائعا، وأمره ربنا أن يرفع البيت، ولم يقل له: حدد المكان، بل أمره أن يبني البعد الثالث؛ لأن كل حيز له بعدان؛ الطول والعرض، وإن كان دائرة فله المحيط، وإن
فكأن البيت مخصص قبل الرفع، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن مجيء هاجر وابنها إسماعيل الرضيع، وإسكان إبراهيم عليه السلام لهما في هذا المكان قال: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ [إبراهيم: ٣٧].
وقد رفع إبراهيم عليه السلام القواعد وساعده ابنه إسماعيل بعد أن كبر واشتد عوده، ولكن ساعة أن أسكنه وأمه بجانب البيت كان طفلا صغيرا. إذن فالبيتية والمكانية موجودة، ولكن إبراهيم أقام المكين وهو البعد الثالث أي الارتفاع.
ويقول الحق سبحانه وتعالى أيضا: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ [الحج: ٢٦].
أي أظهرنا وحددنا المكان، وهو الذي سيبني فيه سيدنا إبراهيم بالأحجار ليبرز البيت، فالبيت - إذن - كان موجوداً من قبل.
ونلحظ أن المساجد المنتشرة في الأرض لا بد أن يكون لها متجه واحد، لإله واحد، وحدد الحق هذا المكان بالقبلة إلى الكعبة. وبعض المتحللين يحاول أن يقلب الفهم في قول الحق: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ [البقرة: ١١٥].
يقولون: إننا إن اتجهنا إلى أي مكان سنجد وجه الله تعالى، ونقول:
إذن ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾، وما دمنا قد عرفنا أن المساجد محيزة ومخصصة للعبادة؛ فلا يجوز أن يأتي إليها مشرك، ولا نقبل أن يساهم في إصلاحها ولا نظافتها مشرك؛ لأن الله غني عن ذلك، وعلينا أيضا ألا نناقش أمورنا الدنيوية في مسجد، ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم»
كأنه لم يكفهم حب الدنيا خارج المسجد ويطمعون في الدقائق التي يخصصونها للصلاة، فيجرجرون الدنيا معهم إلى المسجد، وأقول لهم: لماذا لا تتركون مصالح الدنيا في تلك الدقائق؟ إن الواحد منكم إنما يحيا في سائر الدنيا في نعمة الله. إذن فليجعل نصيبا من وقته لله صاحب النعمة.
إذن لا بد أن نعرف أننا ما دمنا قد خصصنا مكانا لعبادة الله، فلا بد أن نصحب هذا التخصيص في المكانية إلى التخصيص في المهمة التي يدخل الإنسان من أجلها للمسجد، فيتجه إلى الله؛ لأن المسجد خاص لعبادة الله؛ ومع أن الأرض كلها تصلح للصلاة، لكنك حين تأتي إلى المسجد اصحب معك أخلاق التعبد. ويجب أن يكون الانفعال، والتفاعل، والحركة والنشاط كله في الله، ولذلك فأفضل ما تفعله ساعة تدخل المسجد، هو أن تنوي
لقد ورد الأثر النهي عن الحديث في المساجد لأنه يحبط العمل ويمحو الحسنات، وأنت قد تصنع الحسنات كثيرا خارج المسجد، ولكن عليك ألا تدخل المسجد إلا بأدب المسجد؛ فالحضور بين يدي الله تعالى في مسجده وفي بيته له آدابه وسلوكه، فيجب عليك ألاَّ تتخطى الرقاب وهذه لا تحتاج إلى تنظيم، بمعنى ألا تجعل الأماكن في الأمام خالية، وفي الخلف مزدحمة؛ حتى يستطيع أن يجلس كل من يحب أن يصلي دون أن يتخطى الرقاب، ويكون الجلوس في المساجد، الأول فالأول، وهكذا يتحقق الأدب الإيماني في المساجد.
ونعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا بالبوار على كل صفقة تعقد في المسجد. ودعا على كل من يريد شيئاً دنيوياً من السجد ألا يوفقه الله فيه، ودعا على كل من ينشد ضالة في المسجد ألا يرد الله عليه ضالته، حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالته فقولوا: لا ردها الله عليك» وفي حديث آخر له رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: إنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا».
فلنجعل الجلوس في المسجد - إذن - خاصا بالمنعم وهو الله، أما في خارج المسجد وفي سائر الأوقات، فنحن نعيش مع النعمة التي أنعم الله بها علينا.
وما دام بيت الله تعالى ﴿هُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي أنه بيت لكل الناس وليس لمن يجلس فيه فقط، فكأن إشراقات الحق وتجلياته، أعظم ما تكون في بيته أولا، ثم تشيع الإشراقات والتجليات في جميع بيوت الله، وعلى عمارها والمتعبدين فيها، وبيوت الله هي الأماكن التي تتنزل فيها الرحمات من الحق سبحانه وتعالى، بدليل أنه سبحانه وتعالى حين تكلم عن نوره في سورة النور قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ [النور: ٣٦].
أي أن الذين يرون هذا النور ويتنزل عليهم هم عمار المساجد، وسورة النور جاء فيها - أيضاً - قول الله تعالى: ﴿الله نُورُ السموات والأرض﴾ [النور: ٣٥].
أي: أن نوره يملأ السماوات والأرض. حين يضرب الحق سبحانه وتعالى مثلا للمعنويات ليتعرف إليها الناس فهو يقدم لها بأمر مادي يتفق عليه الكل، ليقرب الأمر المعنوي أو الغيبي إلى أذهان الناس؛ لأن المعنويات والغيبيات يصعب إدراكها على العباد. فلذلك فهو سبحانه وتعالى يقرب هذا الأمر ويبينه بأن يضرب لنا مثلا من الأمور المادية؛ حتى تقترب الصورة من الأذهان؛ لأننا جميعا نرى الماديات. وبهذا يلحق سبحانه الأمر المعنوي وهو غير معلوم لنا بالأمر المادي الذي نعرفه؛ فتقترب الصورة من أذهاننا وتتضح لنا، وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يلحق المجهول بالنسبة للناس بالمعلوم عندهم.
وإذا كنا في كون الله تعالى نجد النهار إنما يكون نهارا بإشراق الشمس
ولكن إن كانت الدنيا ظلاما فسيصطدم الإنسان بما حوله، وأمر من اثنين: إما أن يكون الإنسان أقوى من الشيء الذي اصطدم به فيحطمه، وإما أن يكون هذا الشيء أقوى من الإنسان فيصاب الإنسان إصابة تتناسب مع قوة الشيء الذي اصطدم به. والذي يحميك من أن تحطم أو تتحطم هو النور الذي تسير على هداه.
إذن فساعة أن يأتي النور، تتضح أمامك معالم الدنيا، وتكون خطاك على بينة من الأمر؛ فلا ترتطم بما هو أضعف منك فتحطمه، ولا يرتطم بك ما هو أقوى منك فيحطمك، هذا هو النور الحسي، وأكبر ما فيه نور الشمس الذي يستفيد منه كل الخلق، المؤمن والعاصي، والكافر والمشرك، والمسخر من حيوان أو نبات أو جماد، وهذا النور نعمة عامة خلقها الله سبحانه وتعالى بقانون الربوبية الذي يعطي النعم لجميع خلقه في الدنيا سواء من آمنوا أم لم يؤمنوا.
فإذا غابت الشمس نجد كل واحد منا يستعين بنور يعطيه الضوء في حيز محدود وعلى قدر إمكاناته؛ فواحد يوقد شمعة، وواحد يأتي بمصباح «جاز» صغير، وواحد يستخدم الكهرباء فيأتي بمصبح «نيون»، وواحد يأتي بالعديد من مصابيح الكهرباء ليملأ المكان بالنور، كل على قدر إمكاناته، فإذا طلعت شمس الله فهل يبقى أحد على مصباحه مضاء؟ إن الجميع يطفئون مصابيحهم لأن شمس الله قد سطعت تنير للجميع، ذلك هو النور الحسي.
وفي المعنويات نور أيضا فالنور المعنوي يهديك إلى القيم حتى لا ترتطم بالمعنويات السافلة التي قد تقابلك في مسيرة الحياة، إذن فكل ما يهدي إلى طريق الله يسمى نورا. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المائدة: ١٥].
إنه نور المنهج الذي ينير لنا المعنويات، وينير لنا القيم؛ فلا يحقد أحدنا على الآخر، ولا يحسد أحدنا الآخر، ولا يرتشي أحد. ويرعى كل منا حقوق غيره.
وإذا كانت التجربة قد أثبتت أن نورا من خلق الله وهو الشمس، إذا سطعت فالجميع يطفئون مصابيحهم. فكذلك إذا ما جاء نور الهداية من الله سبحانه وتعالى فيجب أن تطفأ بقية الأنوار من مقترحات أفكار البشر، فلا يأتي أحد بفكر رأسمالي، أو يأتي آخر بفكر شيوعي، أو ثالث بفكر وجودي، لأن كل هذه القيم تمثل أهواء متنوعة من البشر، وتعمل لحساب أصحابها، أما منهج الله تعالى فهو لصالح صنعة الله وهم البشر جميعا، فلا يحاول أحد أن يضع قيما للحياة تخالف منهج الله؛ لأنَّ الله قد بيَّنَ لنا منهج العبادة ومنهج القيم، لذلك لا يصح أن يأتي إنسان بشرع يخالف تعاليم الله.
ونقول لأصحاب الهوى في المذاهب والعقائد المخالفة لمنهج الله جميعا: لماذا لا تقيسون الأمور المادية على الأمور المعنوية؟ لماذا إذا سطعت شمس الله تطفئون مصابيحكم، ولا يحاول أحد أن يوقد مصباحا ليهديه في نور الشمس؟. إذن. فما دام سبحانه وتعالى قد أنزل نور الهدى منه فلا بد أن نطفىء جميعا مصابيح الأفكار القائمة على الهوى، ونأخذ النور كله من منهج الله القويم والصالح لكل زمان ومكان، كما نأخذ النور في النهار من شمس الله.
ويقرب لنا الحق سبحانه وتعالى الأمر في مثل مادي عن معنى نور الله فيقول سبحانه وتعالى: ﴿الله نُورُ السموات والأرض﴾ [النور: ٣٥].
أي: أن نوره سبحانه وتعالى يملأ السموات والأرض، وأنه يحيط بكل جوانب الحياة على الأرض فلا يترك جانبا منها مظلما، وقال جل جلاله: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ [النور: ٣٥].
والمشكاة هي «الطاقة المسدودة بالحائط»، وهي عبارة عن مكعب مفرغ في البناء داخل حجرة وكان أهل الريف يضعون فيها المصابيح لتنير، واستبدله أهل الريف والبادية حاليا ب «رف» صغير يوضع عليه المصباح، ودائرة صغيرة يخرج منها النور، ولأن ضوء المصباح مركز في هذه الفتحة، فهي تمتلىء بالنور الذي بدوره يشع في الحجرة. وحيز المشكاة بالنسبة للحجرة التي توجد فيها قليل وصغير، والنور الذي يخرج منها، هو نور مركز يملأ الدائرة التي يخرج منها فلا يوجد فيها «ملليمتر» واحد مظلم، بل كلها نور، وإلا ما استطاع ضوءها أن ينير الحجرة. لأن هذا النور قبل أن يضيء الحجرة؛ لا بد أن يكون
إذن فنور الله سبحانه وتعالى في السموات والأرض نور شامل عام لا يدع مكاناً مظلماً. ولا مكاناً يختفي فيه شيء بسبب الظلام، تماما كمثل تلك الدائرة الصغيرة التي يشع منها نور المصباح فلا تجد فيها ملليمترا واحدا من الظلام، وقد سمي ما يعطي النور مصباحا؛ لأنه يعطينا بشائر الصبح. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ [النور: ٣٥].
ونحن إذا أردنا أن نكثف النور فإننا نحيطه بالزجاج، ليحجب عنه الهواء الذي قد يؤثر على النور ويمنع تركيزه، والزجاجة التي تحيط بالمشكاة عاكسة للنور، وهذا كله يعطينا معنى للتكثيف والتركيز داخل المشكاة. ثم ينتقل المثل من بعد ذلك إلى الحجرة، فيقول الحق: ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ [النور: ٣٥].
أي: أن الزجاجة ليست عادية، ولكنها مضيئة بنفسها لتزيد النور نوراً. ومن أي شيء يوقد هذا المصباح؟ يجيب الحق سبحانه وتعالى: ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: ٣٥].
أي: أن الشجرة المباركة ليست زيتونة فقط؛ ولكنها ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي أن النور يخرج منها غير متأثر بمزاج حار أو بارد بل يخرج منها النور الصافي في مزاج معتدل، وقد أطلقت كلمة «النور الصافي» على آخر مرحلة من مراحل الترقي في الضوء. ومراحل الترقي بدأت من مشكاة ضيقة فيها مصباح غير عادي، والمصباح في زجاجة غير عادية بل تكثف الضوء، فتظهر وكأنها كوكب دري مضيء بذاته، والزيت الذي يضيء يخرج من زيتونة مباركة، بأعلى
أي: أن كل شيء مضيء بذاته، ويضيف من قوة الضوء للنور، فالدائرة الصغيرة مضيئة؛ يزيد نورها زجاجة تكثف النور، والزجاجة ذاتها مضيئة فتعطي إضافة، والزيت مبارك ليست فيه أية شوائب فيعطي ضوءا ساطعا، وفوق ذلك كله تجد الزيت مضيئاً بذاته، دون أن تمسه النار، فكأنه نور على نور، فلا يصبح في هذه الدائرة الصغيرة أي نقطة مظلمة، كذلك تنوير الله لكونه المتسع فلا توجد فيه نقطة واحدة مظلمة، بل كله مغمور بنور الله، وإياك أن تظن أن هذا القول: ﴿الله نُورُ﴾ هو تشبيه لله، بل هو تشبيه لتنوير الله سبحانه وتعالى لكونه الذي يشمل السموات والأرض وما بينهما.
وهناك قصة مشهورة للشاعر أبي تمام حين كان يمتدح أحد الخلفاء فقال:
إقدام عمرو في سماحة حاتم | في حلم أحنف في ذكاء إياس |
وأعطى الله الشاعر بصيرة ليرد على ارتجال ويقول:
لا تنكروا ضربي له من دونه | مثلا شرودا في الندى والباس |
فالله قد ضرب الأقل لنوره | مثلا من المشكاة والنبراس |
والحق سبحانه وتعالى قال: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ [النور: ٣٥].
أي أن كل شيء مضيء بذاته ليضيف نورا على النور الموجودة، فكما أن الماديات تحتاج إلى نور يضيء لك الطريق، كذلك تحتاج المعنويات إلى نور يضيء لك البصيرة والسلوك، فخذ منهج الله تعالى لأنه النور الساطع الذي لا يمكن أن يضيء مثله ولا معه نور آخر، وإذا أردنا أن نقرب الصورة إلى الأذهان، فالله سبحانه وتعالى قال للقوم الذين يستمعون إلى دعوة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
والذين يخاطبهم الله سبحانه وتعالى بهذا الكلام أحياء، فكيف يقول لهم: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ ؟.
نقول: إنه سبحانه وتعالى يريدنا أن نفرق بين حياة وحياة. فالحياة المادية
إذن فقوله سبحانه وتعالى: ﴿استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
معناه أن الحياة حياتان؛ حياة تحرك هذه المادة؛ فتتحرك وتجري وتروح وتجيء، وهي تنصلح بالمنهج الذي يقود إلى حياة أخرى فوق الحياة الدنيا.
إذن فالحياة الدنيا بما فيها من سعي وتعب وجهد وفناء ليست هي الغاية التي يجب أن يسعى إليها الإنسان، بل على الإنسان أن يسعى إلى الحياة الأرقى. وسبحانه لا يريدنا أن نأخذ المرحلة الأولى من الحياة التي تحرك المادة فتتحرك وتجري، بل يريد لنا حياة تقودنا بالقيم، وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد قال عن الحياة التي تحرك المادة: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٧٢].
فهذه حياة المرحلة الأولى التي لا يريدنا الله سبحانه وتعالى أن نأخذها كغاية، ولكنه يريدنا أن نأخذها وسيلة لنصل بها إلى الحياة الراقية في كل صورها الخالدة بكل معانيها؛ المنعَّمة في كل درجاتها. وكما سمَّى الحق سبحانه
[الشورى: ٥٢].
هذه هي روح المنهج التي تعطينا المرحلة الثانية من الحياة. فإن أخذنا نور الهداية من الله سبحانه وتعالى فهو ينير لنا طريقنا في القيم والمعنويات، تماما كما تنير لنا شمس الله طريقنا في الحياة المادية. إذن فالحق لم يترككم للنور المادي ليحافظ على ماديتكم من أن تحطموا أو تتحطموا، وإنما أرسل إليكم نورا لتهتدوا به في مجال القيم.
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ [النور: ٣٥].
ولم يقل سبحانه: «نور مع نور» ؛ لأن الإنسان لا يُكَلَّفُ من الله إلا بعد أن يصل إلى سن البلوغ، فالنور المادي يراه ويستفيد به قبل التكليف، ثم يأتي النور المعنوي فيتلقاه من الكتاب الذي أنزل على رسول الله عندما يبلغ سن التكليف فيتعرف على منهج الله. ﴿نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [النور: ٣٥].
فلا يحجب الحق سبحانه وتعالى نور الشمس عن أحد؛ لأنه نور لكل الخلق وكذلك أنزل سبحانه وتعالى نور الهداية ليختاره كل من التمس الطريق
وجاءت الآية التي بعدها لتوضح لنا أين ينزل نور الله على عباده؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ [النور: ٣٦].
وعندما تسمع جارا ومجرورا لا بد أن تبحث عن المتعلق بهما، فما الذي في بيوت الله؟ إنك حين تبحث عن إجابة لن تجدها إلا في قوله تعالى: ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ [النور: ٣٥].
فكأن المساجد وهي بيوت الله هي أماكن تلقى النور المعنوي من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النور الذي يعطينا ارتقاء الروح؛ لنصل إلى المرحلة الثانية من الحياة، تماما كما يحدث في الدنيا عندما تصاب آلة بعطب أو لا تؤدي مهمتها على الوجه الأكمل، فالذي يصلحها ويصونها لتؤدي مهمتها المطلوبة منها هو المهندس الذي صنعها. والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان، فلا أحد يستطيع أن يدعي مهما اجترأ على الله سبحانه وتعالى أنه خلق نفسه أو خلق الناس. وهذه دعوى لم يدَّعِهَا أحد قط.
وما دام الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي خلق، إذن فهو سبحانه وتعالى الذي يضع المنهج الذي يصون حياة الناس ويجعلها تؤدي مهمتها كاملة. وما دام ربنا هو الذي يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، فكيف يأتي إنسان من البشر ليفتئت على
ونقول لكل من يفعل ذلك: لماذا تلجأ إلى من يصنع التليفزيون ليصلح لك الجهاز إن أصابه عطل، ولماذا لا تلجأ إلى صانعك الذي يصلح لك نفسك؟
إن تردد المسلم على بيت الله ليكون في حضرة ربه دائما هو إصلاح لما في النفس، فحين يقف المؤمن بين يدي الله ويصلي، يمتلىء بالرضا والتوازن النفسي؛ لأن الواحد منا لا يعرف ما الذي يصيب أي ملكة من ملكاته بالارتباك.
ولذلك كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حز به أمر يقوم إلى الصلاة، وما معنى حز به؟. أي: إن جاءه شيء أو أمر، وكان فوق طاقته. وفوق أسبابه، ولا يستطيع أن يفعل شيئا تجاهه، وتضيق عليه الأمور. فلماذا لا يتبع الواحد منا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأسوة حسنة، فإن قابل أمرا مكروها وشاقا يقول: إن لي ربا أذهب إلى بيته وأصلي فأقف في حضرته، فتحل أصعب وأعقد المشكلات. إذن فساعة يأتينا أمر شديد، لا بد أن نتجه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وأفضل مكان نلتجىء فيه إلى الله تعالى هو بيته. فقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا كانت ليلة ريح شديدة كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدث من خسوف شمس أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى تنجلي
وبعض من الذين يحترفون الجدل واللجاجة يقول: ماذا سيفعل الله لي أو لذلك الذي يعاني من شيء فوق طاقته؟ لقد دخل المسجد وخرج كما هو؟ ونقول: هذا الظاهر من الأمر، ولكنك لا تعرف ماذا حدث في داخله، أنت تتحدث عن العالم المادي الذي فيه العلاجات المادية، ولكن الله سبحانه وتعالى
إذن فالمساجد لها مهمة العيادة للطبيب الخالق الذي خلق هذه النفس ويعرف كيف يداويها، وليس للطبيب الدارس في كلية الطب الذي يعرف أشياء وتغيب عنه أشياء. ونحن في المساجد إنما نعيش في حضرة الحق تبارك وتعالى نتلقى منه التجليات والفيوضات التي تعالج نفوسنا أكثر مما يعالجها أبرع أطباء العالم، على أننا إذا دخلنا المسجد فلنعرف أن لهذا المكان قدسيته، ولا بد أن يحرص الإنسان على نظافته ومظهره، ولنرتد أحسن ثيابنا؛ لأن الله لا ينظر إلى نظافتنا أو أناقتنا، ولكن ليحرص كل منا ألا يتأفف منه من يصلي بجانبه؛ فمن يعمل في مصنع ويحضر إلى المسجد إلا بعد أن يغتسل؛ إن ملابسه شرف له في عمله، ولكن عليه أن يغيرها حين يذهب إلى المسجد، ومن يعمل في مكتب قد يكون الجو حارا أو امتلأ جسده بالعرق، وملابسه التي يوجد بها في وظيفته هي شرف له في عمله، ولكن عليه أن يغتسل، وأن تكون رائحته طيبة حين يدخل المسجد.
ولذلك نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي المسجد حتى لا يتأذى أحد بالرائحة التي تصدر من فمه. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديثه الشريف الذي يرويه جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا».
وإياك أن تعتقد أن الصف الأول محجوز لشخص معين ولو أتى متأخرا، فكل إنسان يأتي للمسجد عليه أن يأخذ دوره، ويقعد في المكان الخالي. وإياك أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى لا يعرف الذين يتكوَّن منهم الصف الأول، إنهم هؤلاء الذين جاءوا للمسجد أولا. أما أن تحضر إلى المسجد وتحجز مكاناً في الصف الأول لصديق أو قريب بحيث إذا جاء إنسان آخر ليصلي في هذا المكان قلت له: إن المكان محجوز. نقول لك: أنت حر أن تفعل ذلك في الحجز للأماكن في مواسم الحج والعمرة. وعلى من يجد مكاناً قد حُجِزَ بسجادة أو أي شيء آخر أن يزيحها بعيدا ويصلي.
وأنت في بيت الله تكون في ضيافة الله. وأنت تعلم أنه إن جاءك أحد في بيتك على غير دعوة فأنت تكرمه، فإذا كان المجيء على موعد فكرمك يكون كبيرا. فما بالنا بكرم من خلقنا جميعاً؟
إن الحق سبحانه وتعالى يجزيك من فيض كرمه من ساعة أن تنوي زيارته في بيته، فأنت في صلاة منذ أن تبدأ في الوضوء في بيتك استعداداً للصلاة في المسجد؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يطيل عليك نعمة أن تكون في حضرته.
ولكن إن أحببت أن تجلس في المسجد قبل الصلاة أو بعدها فافعل. تعالَ في أي وقت وصلِّ كما تشاء، فإذا قلت: «الله أكبر» تكون في حضرة الله. وإن لم تستطع فصلواتك الخمس في اليوم الواحد هي القسط الضروري لصيانة نفسك المؤمنة؛ لأنك تقابل ربك أثناء الصلاة وتعلن الولاء له.
فالصلاة إذن خير أراده الله لك حتى لا تأخذك أسباب الحياة، وأراد سبحانه بها أن تفيق إلى منهجه الذي يصلح بالك، ويصلح الدنيا لك وبك فلا تأخذك الأسباب، بل تأخذ أنت بالأسباب. وحين تسمع «الله أكبر» ينادي بها المؤذن لصلاة الظهر - مثلا - فعليك أن تترك أسباب الدنيا وتذهب لتقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، ثم تخرج من الصلاة إلى الأخذ بالأسباب إلى أن تسمع أذان العصر، ثم أذان المغرب، ثم أذان العشاء، وكل هذا تذكير لك بالله الخالق العظيم حتى لا تشغلك الدنيا فتنسى أن صيانة نفسك بيد خالقك سبحانه. وأطول فترة بين العشاء والفجر نكون فيها نائمين فلا يأخذنا متاع الدنيا.
إذن فالله سبحانه وتعالى يريد من الولاء دائما. فإذا كنت تعتز بالله فأنت تديم الولاء له باستمرار الصلاة، وأنت حين تسجد لله وتتذلل له، فإنه سبحانه يزيدك عزة ويكون معك دائما، ويقيك ذل الدنيا.
ولكن الحق سبحانه وتعالى بمطلق الكرم لا يعامل خلقه هكذا، فبيته مفتوح دائما حين يدعوك للصلوات الخمس، فهذا أمر ضروري، ولكن بين الصلوات الخمس إن إردت لقاء الله فسبحانه يلقاك في أي وقت وتدعوه بما تشاء، وتطيل في حضرته كما تريد، ولا يقول لك أحد: إن الزيارة قد انتهت. وأذكركم دائما بقول الشاعر:
حَسْبُ نفسِي عِزًّا بأنِّي عَبْدٌ | يَخْتفِي بِي بلا مَواعِيد ربُّ |
هُوَ في قُدْسهِ الأعزِّ ولكِنْ | أنَا اَلقَى متَى وأينَ أُحبُّ |
﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾ [التوبة: ١٧].
لأن المساجد مخصصة لعباده الله تعالى، فمن غير المنطقي أن يبنيها أو يجلس فيها مشرك أو كافر، وقوله تعالى: «ما كان» أي ما ينبغي، وقوله تعالى: ﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ أي هم الذين يشهدون على أنفسهم بالكفر؛
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾، وُ ﴿أُوْلَئِكَ﴾ إشارة إلى المشركين الذين شهدوا على أنفسهم بالكفر، وحكم الله ألا يعمروا مساجد الله، و ﴿حَبِطَتْ﴾ أي نزلت من مستوى عال إلى مستواها الحقيقي دون مستواها الشكلي، فتجد العمل وكأنه منفوخ كالبالون الضخم، وهو في حقيقة مجرد فقاعة ضخمة ما تلبث أن تنكمش أو تسقط، فهي أعمال لا قيمة لها،. وليس لها حصيلة؛ لأنها أ‘مال باطلة. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤].
وتجد الواحد من هؤلاء يظل يعمل ويعمل، ويظن أنه سوف يجني خيراً كثيراً من هذا العمل، وقد يكون العمل مفيداً لغيره من الناس. ولكنه افتقد النية، ففسد نتيجة لذلك. والقرآن الكريم يعرض لحبوط الأعمال في آيات كثيرة والمثال هو قول الحق تبارك وتعالى: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ [النور: ٣٩].
والسراب هو ما يخيل إليك بلمعانه أنه ماء في الصحراء. وعندما تذهب إليه لا تجد شيئا. والذي لا يحس بالظمأ قد لا يلتفت إلى ذلك. ولكن الظمآن تتعلق نفسه بالماء، فيجيل بصره في كل مكان يبحث عنه، فإذا رأى أي لمعان حسبه ماء، وعندما يجيء إليه لا يجد شيئاً، وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل هو
وأنت إذا صنعت معروفاً تقصد به وجه الله عَزَّ وَجَلَّ جزاك الله عنه خيرا، ولكن إن عملت معروفا لتحقق به مصلحة دنيوية خاصة بك أو تأخذ به شهرة فلا جزاء لك عند الله، ولا بد أن يصنع الإنسان المؤمن كل عمل وفي باله الله خالقه والمتفضل عليه بالنعم، فإن أطعمت فقيرا فلتطعمه لوجه الله، وعليك ألا تفعل المروءة من أجل أن يقال عنك: إنك صاحب مرءة. ومن يفعلون الخير عليهم أن يحرصوا على أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ في بالهم، لا أن ينالوا شهرة من هذا الخير، وألا يأتي منهم خبر هذا الخير لا بمقال ولا بحال.
وعلى سبيل المثال تلك اللافتات التي توضع على المساجد بأسماء من قاموا بتأسيسها. فمن بُنِي من أجله المسجد وهو الله عليم بكل شيء، ويعلم اسم من أقام البناء، وعليك أن تسميه بأي اسم لا يمت لك بصلة، حتى لا تدخل في دائرة «عملت ليقال وقد قيل». وحتى المقاتل الذي يحارب بين صفوف المؤمنين عليه أن يعقد النية لله، لا أن يقاتل من أجل أن يقال إنه شجاع، لأنه إن فعل، حبط عمله وكان من الخاسرين لأن عمله قد شابه الرياء والسمعة.
ويبين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جزاء المرائين في حديثه الشريف الذي يقول فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتى به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال فلان جرىء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتى به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال:
وعلى ذلك فالإنسان إن لم يضع الله في باله وهو يعمل فسوف يجد الله يحاسبه على أساس أن عمله غير مقبول.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية ثانية: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ﴾ [إبراهيم: ١٨].
ولك أن تتصور ماذا تفعل العاصفة في الرماد؛ إنها لا تبقي منه شيئاً. والمشرك الذي كان يدخل المسجد ويسقي الناس من عصير العنب غير المخمر، ويقوم بعمارة المسجد الحرام قبل تحريم الله لدخول أمثاله إلى هذا المكان، هذا المشرك لم يكن ليأخذ ثواباً؛ لأنه ارتكب خيانة عظمى بأن أشرك بالله، بينما يأخذ المؤمن الثواب لأنه يدخل المسجد ويعمره وهو مؤمن بالله ولا يشرك به شيئاً.
ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: ١٧].
لأنهم عملوا لغير الله فلقوا الله بلا عمل. ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك:
إذن فالمشكلة عندهم لم تكن في القرآن ذاته، بل كانت في شخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويرد الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا﴾ [الزخرف: ٣٢].
أي أن رحمة الله تعالى خاصة به، لا يقسمها إلا هو بمشيئته، يقسمها كيف
وكان المنطق الصواب أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ولكنهم بغبائهم طلبوا الموت بدلاً من الهداية. فقد كانت عصبيتهم - إذن - ضد شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وكان على من يعلن إيمانه بالله منهم أن يشهد أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو رسول الله.
والحق تبارك وتعالى يقول:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر..﴾ [التوبة: ١٨].
وهذا القول يحمل في مضمونه إيماناً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله يقول بعدها: ﴿وَأَقَامَ الصلاوة﴾ وإقامه الصلاة لا تصح منهم إلا إذا آمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو الذي قال لنا إنها خمس، وهو الذي علمنا كيف نؤديها وماذا نقول فيها، وهو الذي نشهد له ونحن نصلي؛ في الإقامة وفي التشهد، إذن فساعة نقيم الصلاة لا بد أن نكون مؤمنين برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعلى ذلك فقوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصلاوة﴾ يقتضي ضرورة الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. واشترط سبحانه وتعالى في هذه الآية
إذن فهناك خوف من أشياء أخرى، ونقول: إن الحق حين قال: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ أي لم يخش في دينه إلا الله، لكن لا مانع من الخشية التي تجعلك تعد لعدوك وتحذر عدوانه عليك. وانظر إلى دقة القرآن الكريم وعظمته، فقد جمع في آية واحدة بين الإيمان بالله واليوم الآخر والصلاة والزكان، ولم يأت فيها ذكر الإيمان بالرسول؛ لأنه مسألة مطوية في أركان الإيمان. ومن يفعل ذلك يدخل في زمرة من وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله:
﴿فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾ [التوبة: ١٨].
ولقائل أن يقول: كيف بعد أن آمنوا بكل هذا نقول: عسى؟.. إذن فما حكم الذي لم يؤمن؟
ونقول: إن «عسى» و «لعل» أفعال رجاء، وذكرها يعني الرجاء في أن يتحقق ما يأتي بعدها، ومراتب الرجاء بالنسبة للنفس وبالنسبة للغير بالنسبة لله تختلف، أنت تقول مثلاً: اسأل فلاناً لعله يعطيك، هذه مرتبة من الرجاء، وتقول: لعلِّي أعطيك، وهذه أقرب إلى التحقيق من أن أرجو غيري أن يعطيك.
إذن فهي مرحلة أعلى في الإجابة، وأن تقول: لعل الله يعطيك مرحلة ثالثة وعالية من الرجاء؛ لأنك ترجو الله ولا ترجو أحداً من البشر. والله سبحانه
إذن فمراحل الرجاء؛ رجاء لغيرك من غيرك، ورجاء منك لغيرك، ورجاء من الله لسواك، وقول من الله بالرجاء. فإذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ﴾ [لإسراء: ٨].
نقول: إنه الرجاء المحقق؛ لأنه سبحانه وتعالى كريم يحب أن يرحمنا ولا شيء يمنعه من أن يحقق ذلك. إذن فيكون الرجاء قد تحقق. وقوله تعالى:
﴿فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾ [التوبة: ١٨].
والهداية إما أن تكون هداية إلى سبيل يؤدي لغاية، أي يهدينا الله للمنهج، فإن عملنا به نصل إلى الجنة، لأن المنهج هو الطريق للجنة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الكفار: ﴿وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩].
إذن فالهداية مرة تكون للمنهج فنؤمن به ونعمل به، وإما لطريق يوصل إلى غاية. والذين ذكرهم الله في هذه الآية الكريمة هم كل:
﴿مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاوة وآتى الزكاوة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله﴾ وما داموا قد فعلوا ذلك؛ فهذا هو تطبيق المنهج، وبذلك فَهُمْ - إن شاء الله - لا بد أن تكون نهايتهم الجنة.
وكلمة ﴿سِقَايَةَ﴾ تطلق ثلاث إطلاقات: فهي المكان الذي يجتمع فيه الماء ليشرب منه الناس والذي نسميه. السبيل. وكذلك تطلق السقاية: على الإناء الذي نشرب منه الماء، والذي يرفع إلى الفم كالكوب والكأس أو يسمى صواع الملك، وفي قصة يوسف عليه السلام يأتي القول الكريم: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ [يوسف: ٧٠].
أما المعنى الثالث: فهو الحرفة نفسها؛ فنقول: هذه خياطة، وهذه حدادة
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾ [التوبة: ١٩].
فإن كنتم تفتخرون بأنكم تحترفون سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام وتجعلون هذا في مقابل الإسلام، فذلك لا يصلح أبدا كمقابل للإيمان، ولا تتساوى كفة الإيمان بالله واليوم الآخر أبداً مع كفة سقاية الحجيج، وعمارة المسجد الحرام. ومن يقدر ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وله مطلق المشيئة في أن يتقبل العمل أو لا يتقبله. والمؤمن المجاهد في سبيل الله إنما يطلب الجزاء من الله، أما من يسقي الحجاج؛ ويعمر بيت الله دون أن يعترف بوحدانية الله كالمشركين - قبل الإسلام - فهو يطلب الجزاء ممن عمل من إجلهم، ولأنه سبحانه هو معطي الجزاء، فهو جل وعلا يوضح لنا: أن هذين العملين لا يستويان عنده، أي لا يساوي أحدهما الآخر في الجزاء.
ويقال: إن سيدنا الإمام عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكرم الله وجهه، مر على طلحة بن شيبة؛ والعباس ووجدهما يتفاخران، أي: يفاخر كل منهما الآخر بالمناقب التي يعتز بها؛ ليثبت أنه أحسن وأفضل منه. وكانت المفاخرة من طبع العرب حتى في الأشياء التي ليس لهم فيها فضل، والممنوحة لهم من الله عَزَّ وَجَلَّ مثل الشكل والنسب إلى آخره، لأن أحداً لا يختار أباه وأمه ليتفاخر بهما، وإنما كل ذلك هو عطاء من الله سبحانه وتعالى.
جلس طلحة والعباس يتفاخران، فقال طلحة بن شيبة: بيدي مفتاح الكعبة، ولو شئت أن أنام فيها لنمت.
فرد عليه العباس: وأنا معي سقاية الحاج، ولو شئت ألا أسقي أحدا لا ستطعت. ومر الإمام علي كرم الله وجهه عليهما وهما يتفاخران، فلما سمع كلامهما قال: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد فنزلت الآية:
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله﴾ [التوبة: ١٩].
ولم يكد العباس يسمع هذه الآية حتى قال: «إنَّا قد رضينا، إنَّ قد رضينا»، قال ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم، وفي هذا القول إشارة إلى أن المفاخرة التي كانت بين العباس وطلحة لم تكن في موضعها.
وكلمة ﴿عِندَ الله﴾ في الآية الكريمة تفيد: أن المقاييس عند الله تختلف عن المقاييس عند البشر؛ لأن المقاييس عادة تختلف حتى بين الناس، فلك مقاييس وللناس مقاييس. وقد تجامل نفسك في مقاييسك. وقد يجاملك الناس في مقاييسهم، أو قد يقسون عليك. وكل مقياس يكون فيه هوى؛ لأن كل إنسان إنما يؤثر نفسه. وكل إنسان يحاول أن يأخذ كل شيء. ولكن المقاييس
ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [التوبة: ١٩].
وهذه أوجدت الحل لمشكلات متعددة يثيرها بعض الناس حول الهداية، وكيف أنها من الله سبحانه وتعالى وليست من العبد لقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [القصص: ٥٦].
نقول: نعم، إن مشيئة الهدى من الله سبحانه وتعالى، لكنه سبحانه قد أوضح لنا من لا يدخلهم في مشيئة هديه، فقال: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [البقرة: ٢٦٤].
وقال سبحانه: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [البقرة: ٢٥٨].
وقال سبحانه: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [المائدة: ١٠٨].
وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى هذه الحقائق في الكثير من آيات القرآن الكرين. وبعض الناس يقول: إن الهدى من الله، ولو أن الله هداني ما قتلت، وما سرقت وما ارتشيت، ونقول: هذا فهم خاطىء، ولنرجع إلى القرآن الكريم، فالحق تبارك وتعالى يقول: ﴿والله لاَ يَهْدِي﴾ أي نفي ما يستوجب الهداية عمن ظلم أو فسق أو كفر؛ لأن الحق سبحانه لاَ يَهْدِي من قام الكفر؛ أو قدم الظلم
ولو قدم الإنسان الإيمان لدخل في هداية الله تعالى، فكأن خروج الإنسان عن مشيئة هداية الله هي مسألة من عمل الإنسان وباختياره، فقد يختار الإنسان طريق الغواية، ويترك طريق الهداية؛ لذلك لا يهديه الله؛ لأنه سبحانه لا يهدي إلا المؤمن به. وإن اختار الإنسان طريق الهداية، فالحق يعطيه المزيد من الهدى؛ لأنه آمن بالله؛ فاختار طريق الهداية، واستقبل منهج الله بالرضى. وهكذا نفهم قول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [فاطر: ٨].
إذن فالحق يهدي من استمع إلى القرآن بروح الإيمان، واستقر في يقينه أن له ربا، واعتقد أن له إلهاً، وقد فصلنا ذلك في مسألة القضاء والقدر، وقلنا: إن الذين يقرأون القرآن لفهم قضية الهداية عليهم أن يستقرئوا كل الآيات المتعلقة بالموضوع، فسبحانه وتعالى قد أوضح أنه لا يهدي الكافر، إذن فهو يهدي المؤمن، وأوضح أنه لا يهدي الظالم، إذن فهو يهدي العادل، وأوضح أنه جل وعلا لا يهدي الفاسق، إذن فهو يهدي الطائع، فلا يقولن أحد: إن الله لم يشَأْ أن يهديني؛ لأن هذا فهم خاطىء لمعنى الهداية من الله؛ فسبحانه وتعالى قد بيَّن لنا من شاء هدايته ومن شاء إضلاله، وهو يهدي من قدم أسباب الهداية، وأسلم مقاليد زمامه للإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً﴾ [مريم: ٧٦].
ويقول أيضا: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
لك أن تقول له: لقد بيَّن الله عَزَّ وَجَلَّ من شاء له الهداية، ومن شاء له الضلال، ولقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - فقلنا: إن الهداية قد وردت في القرآن الكريم على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق، وهذه هداية للجميع، فقد دل الله المؤمن والكافر على طريق الإيمان برسله وكتبه، أي: بيَّن لهم ما يرضيه وما يغضبه وما يوجب رحمته وما يوجب لعنته، فالهداية الأولى - إذن - وردت بمعنى الدلالة للجميع، أي: أنها هداية عامة. ثم هناك هداية ثانية خاصة للمؤمنين، وهي التي بيَّنها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى:
﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
أي: أعانهم على منهجه؛ فيسَّر لهم الطاعة وصعَّب عليهم المعاصي، فإذا امتثل المؤمن لمنهج الله وأطاعه، فالحق عَزَّ وَجَلَّ يشرح صدره بذلك، ويجبب الطاعة إليه؛ فيزداد طاعة. وإذا شرع في ارتكاب المعصية؛ بغَّضها له وجعلها ثقيلة على نفسه حتى يتركها.
وضربنا لذلك مثلا بالرجل الذي يقود سيارته ذاهبا لمكان معين. وعند
إذن فالحق سبحانه قد هدى المؤمن والكافر إلى طريق الإيمان، فمن اتخذ طريق الإيمان أعانه الله تعالى عليه. ومن اتخذ طريق الكفر - والعياذ بالله - تركه الله يعاني ويضل. ولذلك لا بد لنا أن نتذكر دائما أن الهداية هدايتان؛ هداية دلالة لكل الناس، وهداية معونة للمؤمنين فقط، وفي الدلالة العامة يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النجدين﴾ [البلد: ١٠].
أما دلالة المعونة: فهي التي يقول فيها المولى عَزَّ وَجَلَّ: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧].
وما يكشف لنا أن الهداية عامة، أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن قوم ثمود وهم الذين بعث الله إليهم أخاهم صالحاً، قال سبحانه: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ﴾ [فصلت: ١٧].
ولو كانت الهداية هنا بمعنى أنهم أصبحوا مهتدين، وسلكوا سبيل الإيمان ما قال الله سبحانه بعدها: ﴿فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧].
ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ... ﴾
وفي هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال كان تصنيف المؤمنين بعد الهجرة مباشرة، وانتهت الهجرة؛ وأصبح الجميع سواء، فجاء التصنيف الجامع في آية التوبة.
لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى أن هذه الأعمال لم تكن مقبولة من المشركين، أما إن قام بها المؤمنون فلهم درجة عند الله. وفي هذه الآية الكريمة يصفهم الحق بأنهم ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾، ﴿أَعْظَمُ﴾ صيغة أفعل التفضيل، وهي تعطي قدراً زائداً عن الأصل المعترف به، فيقال: فلان أعلم من فلان. وبهذا يكون الشخص الثاني عالما، ولكن الشخص الأول أعلم منه. ويقال: فلان أكرم من فلان، أي أن الموصوف الثاني كريم، والموصوف الأول أكرم منه. والله
﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون﴾ [التوبة: ٢٠].
فهؤلاء هم الذين يحصلون على أكبر الأجر عند الله تعالى، وهم المؤمنون المهاجرون، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم، والفوز حكم يؤدي إلى أن تأخذ ما تحبه نفسك. فقال الحق موضحاً ما يفوزون به:
﴿الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون﴾ [التوبة: ٢٠].
وما دام هؤلاء هم الفائزون، فالفوز إنما يكون في مضمارين اثنين. فالذين يصنعون أمورا خاصة بالدنيا قد يفوزون فيها بدرجة من النعيم، ولكن نعيمهم على قدر إمكاناتهم؛ وهو نعيم غير دائم؛ لأنه إما أن يزول عنهم بذهاب النعمة، وإما أن يزولوا هم عنه بالموت، إذن فهو نعيم ناقص.
أما الذي يؤمن ويهاجر ويجاهد ويعمل لآخرته، فسوف يفوز بنعيم لا على قدر إمكاناته، ولكن على قدر إمكانات الله، ولا مقارنة بين إمكانات الله وإمكانات خلقه. وفوق ذلك فهو نعيم دائم لا يتركك فيزول عنك، ولا تتركه لأنك في الجنة خالد لا تموت.
ثم يذكر الحق بعد ذلك قوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وجنات... ﴾
إذن ففائدة البشارة أن تغري الإنسان بسلوك السبيل الذي يحققها، فأنا أبشرك بالنجاح إن استقمت وذاكرت واستمعت للأساتذة، ويشجعك كلامي لتجتهد حتى تحقق هذه البشارة، فكأن البشارة تجعلك تتخذ الوسيلة التي توصلك إليها.
ولذلك فقد قلنا: إن الأسباب والمسببات والعلة والمعلول والشرط والجواب؛ كلها يجب أن تحرر بشكل آخر، لأننا كنا نتعلم أن الشرط سبب في الجواب؛ كقولك: «إن تذاكر تنجح»، وعلى ذلك فالشرط هو المذاكرة، وسبب الجواب هو النجاح، ونقول: لا، إن الجواب هو السبب في الشرط لأنك لا تذاكر إلا إذا تمثل لك النجاح بكل ما يحققه لك من فرحة، إذن فالشرط سبب في وجود الجواب واقعا. والجواب سبب في وجود الشرط دافعا، أي: أ: ن الدافع لمذاكرتك هو ما يمثله لك النجاح من قيمة مادية ومعنوية. وكل إنسان يرغب في النجاح، لكن النجاح لا يتحقق بالدعاء فقط، بل بالمذاكرة التي تحقق النجاح كواقع. بمعنى أنك لا تذاكر إلا وقد تمثل لك النجاح بمواهبه ومزاياه وبمكانته ويفرح أهلك بك، وبفرحك بنفسك. ولهذا نقول: إن السبب هو الذي يوجد أولاً في الذهن.
ومثال آخر: لنفترض أنك تريد أن تسافر إلى الطائف. فتكون الطائف هي الغاية، وتكون أنت قد خططت للوسيلة وفي ذهنك الغاية، إذن فالجواب يوجد دافعا، والشرط يوجد واقعاً. وقوله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم﴾ أي: يخبرهم بالنهاية السارة التي سوف يصلون إليها ليتحملوا مشقة التكاليف التي يأمرهم
أما الذي قيد حركته بالمذاكرة، فقد منع شهوات نفسه في اللعب واللهو. وتكون الثمرة أنه يحقق لنفسه مستقبلا مريحا ومرموقا بقية عمره.
إذن فكل من الطالب الذي يجتهد وذلك الذي يلهو ويلعب، كل منهما أخذ لوناً من المتعة. ولكن أحدهما أخذ متعة قصيرة جداً، ثم أصبح من صعاليك الحياة، أما الثاني فقد قيد نفسه سنوات معدودة ليتمتع بمستقبل ناجح.
كذلك أنت في الدنيا؛ إن قيدت نفسك بالتكاليف «افعل» و «لا تفعل»،
كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضمن حديث رواه عنه أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة».
لأن التكليف ينتقل من المتعة إلى الراحة. ويتمتع الإنسان فيها بتجليات ربه وفيوضاته فترتاح نفسه وتهدأ. وانظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم﴾، تجد البشارة هنا آتية من رب خالق. والرب هو المالك؛ والمدبر الذي يرتب لك أمورك، وهو مأمون عليك.
﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ [التوبة: ٢١].
والرحمة والرضوان من صفات الله وهي صفات ذاتية في الله، ومتعلقات العبد فيها أنه سبحانه يهبها لمن يشاء.
ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله:
﴿وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ [التوبة: ٢١].
ونجد أن هذا ترقٍّ وتدرجٌّ في النعمة، فقد بشرهم الله سبحانه أولاً بالرحمة،
وهكذا نرى أن هناك اختلافاً في التكريم. والمؤمنون حين يرتقون في درجة الإيمان؛ يعيشون دائما مع النعمة والمنعم، فإذا جاء الطعام قالوا: «بسم الله»، وإذا أكلوا قالوا: «الحمد لله»، ولكنهم إذا ارتقوا أكثر في الإيمان عاشوا مع المنعم وحده، ولذلك يباهي الله بعباده الملائكة؛ يباهي بعبادتهم وطاعتهم التي يلتزمون بها على أي حالة يكونون عليها، ولو نزل بهم أشد البلاء وسلبت منهم النعم، وهؤلاء من أصحاب المنزلة العالية.
ولذلك «فأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» ؛ ليرى الحق سبحانه وتعالى من يحبه لذاته وإن سلب منه نعمة، وهذه منزلة عالية. فمن عبد الله ليدخل الجنة أعطاها له، ومن عبده سبحانه؛ لأنه يستحق أن يعبد، فسوف يرتقي في الجنة ليرى وجه الله في كل وقت؛ وأما الآخرون فيرونه لمحات، ولذلك يكون الجزاء في الآخرة على قدر العمق الإيماني للعبد، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
وقال أحد الصالحين: «إني لا أشرك بك أحدا حتى الجنة، لأن الجنة أحد».
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ وقد ترحم ولكنك لا تنال الرضوان، فوضح المولى سبحانه وتعالى ذلك وأضاف «الرضوان» إلى «الرحمة»، ولذلك يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ: ﴿بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾ والرضوان هو ما فوق النعيم. وبعد الرضوان يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾.
ولقائل أن يقول: هل هناك جنة ليس فيها نعيم؟ ولماذا ذكرت النعيم؟ والجنة وجدت أصلا لينعم فيها الإنسان.
ونقول لمثل هذا القائل: انتبه والتفت جيدا إلى المعنى، فالمتحدث هو الله سبحانه وتعالى. وقد يكون عند الإنسان نعمة واسعة، ولكن يحيا في الكثير من المنغصات، مما يجعله لا يستمتع بالنعمة، كمرض يملؤه بالألم، أو ابن عاق يكدر حياته، أو زوجة تملأ الحياة كدرا ونكدا، قد يحدث كل ذلك فلا يستمتع الإنسان بما يملك من نعمة الله؛ لأن المكدرات قد أحاطت به. وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن جنة الآخرة ليس فيها منغصات الدنيا، بل هي صفاء واستمتاع، يعطي فيها الحق سبحانه وتعالى لعبده ما تشتهيه نفسه ويبعد عنه جميع المنغصات، وقد يخاف الإنسان ألا يدوم مثل هذا النعيم، لذلك يطمئن الحق العبد المؤمن أنه ﴿نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾، قد ينظر إنسان إلى أن الإقامة مقولة تحمل التشكيك، فقد تستغرق الإقامة زمناً طويلاً ثم
وحين يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وجنات﴾ فنحن نلحظ مقابلة الجمع بالجمع، وهي كما علمنا من قبل تقتضي القسمة آحاداً، فإذا دخل الأستاذ الفصل وقال لتلاميذه: أخرجوا أقلامكم، فكل تلميذ لا يخرج أقلاما، بل يخرج كل قلمه. وإذا قلنا: اركبوا
وقول الحق: ﴿جنات﴾ ليس معناه أن يدخل كل مؤمن كل الجنات، ولكن المعنى والمقصود أن يدخل كل منهم جنته على حسب الأعمال التي اكتسبها والمنزلة التي وصل إليها.
ومن المهم أن نعلم أن صاحب الجنة عالية المنزلة لن يتلقى حسدا من صاحب الجنة متوسطة المنزلة. وصاحب الجنة الدنيا لن يحسد من هو أعلى منه، وكذلك لن يزهو صاحب الجنة عالية المنزلة على غيره. وكل واحد منهم يفرح بمكانة الآخر. مثلما يحدث أحيانا في الدنيا حين يتفوق إنسان في دراسته فقد نجد من هو أقل منه درجة يفرح له بصفاء نفس، وكذلك لا يزهو متفوق بمكانته على الأدنى منه، وإذا كان ذلك هو ما يحدث في الدنيا، فما بالنا بالآخرة؟ حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ [الحجر: ٤٧].
أي: أن كلا من أهل الجنة يفرح بمنزلته، ويفرح بمنزلة الأعلى منه، لأنه سينال من فيوضات الخير، التي عند الأعلى منزلة. عندما يأتي لزيارته وقد قالوا في قول الحق سبحانه وتعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦].
إن كل من علت منزلته في الجنة له جنة خاصة به، وجنة أخرى ليتكرم بها على من هم دونه، وكأنها مضيفة لمن يحبهم، إذن ففي الآخرة يفرح أهل الجنة
وفي الدنيا إذا أراد إنسان أن ينال نعم كل الخلق، فلا بد أن يفرح بالنعمة عند صاحبها؛ لأنه حين يفرح بالنعمة عند صاحبها أتت إليه واستفاد منها، وعلينا أن نوقن بأن النعمة تعشق صاحبها أكثر من عشق صاحبها لها، لأنها تعرف أن الله قد أرسلها إليه، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ [إبراهيم: ٢٥].
وأنت حين تبذر بذرة الشجرة، تعطيك الشجرة الثمار، وهي التي تعطيك نتاجها. ولست أنت الذي تنتزعه منها، ولذلك نقول دائما: إن الرزق يعرف عنوانك جيدا ولكنك لا تعرف مكانه أبدا، فأنت تبحث عن الرزق في كل مكان وقد لا تجده. ولكن ما قسمه الله لك من الرزق تجده يسعى إليك ويأتيك حتما.
وأهل الجنة لا يعرفون الحقد ولا الحسد ولا الغل. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه وهم جالسون معه ذات يوم: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة».
ودخل الرجل وعرفه الصحابة، فأرادوا أن يعرفوا ماذا يعمله هذا الصحابي حتى يستحق بشارة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجنة. قالوا له: ونحن نريد أن نعرف ماذا تفعل لنكون معك. فقال الرجل: إني لأصلي كما تصلون وأصوم كما تصومون وأزكي كما تزكون. ولكني أبيت وليس في قلبي غل لأحد. فذهبوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا له: لقد قال الرجل كذا وكذا. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وهل فضلت الجنة على الدنيا إلا بهذا»
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان... ﴾
ولذلك قال الحكماء: شاهد الزور قد يرفع رأسك على الخصم بشهادته، ولكنك تدوس بقدمك على كرامته لأنه سقط في نظرك.
والانتماء إذن هو انتماء لله، فإن صادفك قريب يريد منك أن تفعل ما يغضب الله فلا تطعه، ولكن لا تكن فظا معه. وخصوصا مع الوالدين لأن الله سبحانه وتعالى يقول عنهما: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ [لقمان: ١٥].
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ [التوبة: ٢٣].
إذن فالذي يربط كل شيء هو الكفر أو الإيمان. وقد أعطانا صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المثل الخالد. فقد كان سيدنا مصعب بن عمير أكثر الفتيان تدللا في مكة، وكانت حياته في مكة قبل إسلامه غاية في الترف، وكان يرفل في الثياب الفاخرة، فلما هاجر إلى المدينة عاش ظروف الفقر المادي الصعب، لدرجة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رآه في الطريق ساترا عورته بجلد شاة فلفت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نظر الصحابة إلى حالته هذه وكيف فعل الإينما بمصعب حيث فضل الإيمان على نعيم الدنيا كلها. لقد رأى مصعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن شرفه بالانتماء إلى الإسلام أكبر من فاخر الثياب، وترف العيش وانطبق عليه قول الحق تبارك وتعالى:
[التوبة: ٢٠ - ٢٢].
وأعطانا سيدنا مصعب ومن معه المثل العظيم في الانتماء الإيماني، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس، وكيف نجعل اختيارنا مع منهج الله، هذا المنهج الذي يقيد الإنسان فيما له اختيار فيه. فالإنسان مقهور في أشياء ومخير في أشياء.
ونعلم أن التكليف لا يأتي في الأمور التي نحن مقهورون عليها. وإنما يأتي فيما لنا فيه اختيار. فإذا ما كان لنا اختيار، فلنراع أن نختار بين البدائل في إطار منهج الله تعالى، ولا نخرج بعيدا عن هذا الإطار. وكان المسلمون الأوائل يضحون بالبيت والمال والولد، ويهاجرون في سبيل الله. واستقبلوا كل هذه التضحيات الصعبة بصدور مؤمنة، وصبر واحتمال شديدين؛ لأنهم وثقوا في البشارة من الله سبحانه وتعالى بأن لهم الجنة والرضوان، والنعيم المقيم؛ خالدين فيه لا يفارقهم ولا يفارقونه. وبهذا أقيم بناء الإسلام.
وبعد أن بيَّن لنا الحق أسس الانتماء للدين، وجزاء هذا الانتماء، حذرنا أن ننحرف عنه لنرضى أبا أو إخوة أو أقارب، فقال: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾ [التوبة: ٢٣].
ويريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعرف أن الانتماء لله لا يعلو عليه شيء، فإذا مِلْناَ عن الحق لنرضي أقارب، أو لنحتفظ بمال أو منصب، فذلك ظلم للنفس؛ لأن جزاء الحق ونعيمه أكبر، فلا ينصرن أحد الباطل، ولا يجعل
إذن ف «استحب» معناها: أحب، ولكن «استحب» فيها افتعال. و «أحب» فيها اندفاع بلا افتعال.
وقول الحق تبارك وتعالى ﴿إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ يدل على أن الكفر مخالف للفطرة الإيمانية للإنسان، لأن الإنسان بفطرته مؤمن محب للإيمان، فإن حاول أن يحب غير الإيمان، لا بد أن يتكلف ذلك؛ وأن يفتعله لأنه غير مفطور عليه؛ وليس من طبيعته. ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: ٢٨].
وهذا التساؤل والتعجب يوضح لنا أن الذين يحكّمون المنطق والفكر والعقل يصعب عليهم الكفر بالله، لماذا؟؛ لأن الكون وجد أولا، ثم وجد الإنسان، فكان من الواجب حين نأتي إلى كون لم نصنع فيه شيئا أن نسأل: من الذي أوجده؟ وكان من الطبعي أن يبحث العقل عن الموجدة، وخصوصا أن في الكون أشياء، لا قدرة للبشر على إيجادها؛ كالشمس، والأرض، والماء، والهواء، والنبات، والحيوان.
وكلها تمثل الاستقبال الجامع لمقومات حياتك.
كان من الطبعي - إذن - أن نسأل: من الذي أوجد هذا الكون؟. خصوصاً أننا نفتش عمن اخترع لنا اختراعا بسيطا مثل: مصباح الكهرباء وندرس تاريخ حياته، وكيفية اكتشافه، لمجرد أنه أضاف إلى حياتنا اختراعا استفدنا منه، فما بالنا بمن خلق هذا الكون؟. ولقد رحمنا سبحانه وتعالى من ضلالات الحيرة، فأرسل لنا رسولا برحمة منه؛ لينبهنا ويقول لنا: إن هذا الكون
ولقد ضربنا مثلاً - ولله المثل الأعلى - بشخص سقطت به الطائرة وسط الصحراء وبقي حيا، لكن لا ماء ولا طعام، ثم أخذته سِنَةٌ من النوم واستيقظ ليجد الطعام والشراب، وكل ما يحتاج إليه حوله؛ ألا يفكر قبل أن يأكل من كل هذا: من الذي جاء به؟. وأنت أيها الإنسان قد جئت إلى هذا الكون العظيم وقد أُعِدَّ إعداداً مثالياً لحياتك، وهو إعداد فوق القدرة البشرية، فكان يجب أن تفكر من الذي أوجد هذا الكون؟.
إذن: فالإيمان ضرورة فطرية؛ وضرورة عقلية أيضا، وإن ابتعدت عن الإيمان فهذا يحتاج إلى تكلف؛ لأنك تبتعد عن منطق الفطرة والعقل؛ لتحقق شهوات نفسك. وما دمت قد اتبعت هواك وخضعت لشهوات النفس، فهذا لون من التكلف الذي يصيب ملكاتك بالخلل، وعقلك بالخبل، فحب الكفر لا يكون عاطفياً، أو فطرياً، كما لا يكون منسجما مع العقل السليم، بل هو حب متكلَّف. فالذي يفعل حلالاً يحيا وملكاته كلها منسجمة، والذي يفعل حراما يعيش وملكاته مضطربة، والمثال: حين ينظر الرجل إلى زوجته، فهو ينظر إلى حلاله ويشعر أن ملكاته منسجمة، ولكن إن نظر إلى امرأة أخرى، فهو.. يشعر باضطراب الملكات. فالسلوك المتفق مه الإيمان سلوك سوي. أما السلوك الخارج عن منهج الإيمان فهو الذي يحتاج إلى تكلف، وهذا التكلف يعارض الطباع الإنسانية. بينما توابع الإيمان من الاستقامة لا تكلف شيئا، فالمؤمن يكون مستقيماً فلا يرتشي، ولا يسرق، ولا يدخل بنفسه إلى مزالق الهوى أو الشهوة، ويحيا حياة طيبة، فإن فتح «دولابه» الخاص، وأخذ منه شيئا فهو
إذن: فالاستقامة لا تحتاج إلى تكلف، ولكن الانحراف هو الذي يحتاج إلى تكلف، ولذلك قال الله سبحانه: ﴿استحبوا﴾ ولم يقل؛ «أحبوا»، لأن الحب أمر فطري، فالإنسان - مثلا - يحب ابنه حبا فطرياً عاطفياً، والحب العاطفي لا يقنن.
فأنت لا تستطيع أن تقول: سأحب فلاناً وسأكره فلاناً؛ لأن العاطفة لا تأتي بهذه الطريقة؛ لذلك أنت تحب ابنك عاطفياً، حتى وإن كان فاشلاً في دراسته. لكنك تحب ابن عدوك عقليا إن كان متفوقاً، إذن فالحب العقلي هو الذي يقنن له.
وكذلك أنت تكره الدواء المر بعاطفتك، لكنك تحبه بعقلك إن كان فيه شفاؤك، فتبحث عنه، وتدفع المال من أجله، وتحرص على أن تتناوله، وكلنا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه».
ووقف عند هذه سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال: يا رسول الله: أنا أحبك عن مالي وأحبك عن ولدي، ولكن كيف أحبك عن نفسي؟ فكرر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحديث قائلا: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه».
وكررها عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثا، فعلم عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن هذا تكليف. والتكليف لا يأتي إلا بالحب العقلي الذي يمكن أن يقنن. وقد يتسامى المؤمن في الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصير حباً عقلياً
أي: لا يدفعكم كره قوم على أن تخرجوا عن طريق الحق وتظلموهم، فإن كرهتموهم فتمسكوا بالعدل معهم.
إذن فالله سبحانه وتعالى لم ينه عن الحب أو الكره؛ ولكنه نهانا عن أن نظلم من نكره أو نجامل من نحب على حساب الحق والعدل.
ويعطينا سيدنا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - صورة حية لهذا؛ فقد قتل أبو مريم الحنفي زيد بن الخطاب شقيق سيدنا عمر في معركة اليمامة، ثم دخل في الإسلام؛ فكان كلما مر أمام سيدنا عمر قال له: إلو وجهك بعيدا عني، فإني لا أحبك. فقال له أبو مريم الحنفي: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي.
قال: لا. فقال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء.
والحق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان﴾ إنما يريد أن يلفتنا إلى أنهم عارضوا فطرتهم وعقولهم؛ ولذلك لا نجعل انتماءنا لهم فوق انتمائنا لله، فالولاء لله فوق كل حق؛ حتى لو كان حق الأبوة، صحيح أن الأب سبب وجودك، ولكنه سبحانه وتعالى خلق أباك الأول آدم من عدم، فلا تجعل الخلق الفرعي يطغى على الخلق الأصلي.
ولذلك يذيل الحق هذه
لأن أحدا لا يستطيع أن يظلم الله سبحانه وتعالى، والذي يتمرد على الإيمان بعد أن يسمع الدعوة إليه ولا يؤمن، ومن يأمره الحق بالطاعة فيعصي، فهذا تمرد على الإيمان، وإن كنت من المتمردين وجاءك الله بمرض؛ فهل تقدر على دفع المرض ولا تمرض؟. وإذا جاءك الله بالموت. أتستطيع أن تتمرد على الموت وتبعده عنك فلا تموت؟. إذن: هناك أقدار لا تستطيع التمرد عليها، وأنت متمرد - فقط - فيما لك فيه اختيار.
وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يخاطبهم خطاباً صريحاً فقال: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ... ﴾
ولهذه الآية الكريمة أسباب نزول، وهو أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما أُمِرَ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أمر المسلمين بالهجرة، فتركوا أموالهم التي اكتسبوها بمكة وتجاراتهم ومساكنهم، وآبائهم وأبنائهم، وإخوانهم وأزواجهم وعشائرهم، التي تستطيع حمايتهم، تركوا كل هذا وهاجروا لأرض جديدة.
ولكن من المسلمين من ركنوا للدنيا فبقوا بجوار أموالهم وأواجهم وأبنائهم المشركين، وكانت الواحدة من النساء المشركات تتعلق بقدمي زوجها المسلم الذي يريد الهجرة حتى لا يتركها فكان قلبه يرقُّ لها، ومنهم من كان يخشى ضياع ماله وكساد تجارته، التي بينه وبين المشركين، فنزلت هذه الآية.
إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح قيمة الانتماء الإيماني ويدرب المؤمنين عليه. فقد كان المسلم لا يتم إيمانه حتى يهاجر، ويصارم أهله
﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وتجارة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومساكن تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [التوبة: ٢٤].
ولما نزلت هذه الآية الكريمة أخذها الصحابة مأخذ الجد وهاجروا؛ وقاطعوا آباءهم وأبناءهم، حتى إن الواحد منهم كان يلقى أباه أو ابنه فلا يكلمه، ولا يدخله بيته، ولا ينزله في منزله إن لقيه، ولا ينفق عليه، إلى أن نزلت الآية الكريمة: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾
[لقمان: ١٥].
أي: أن المعروف معهم يقتصر فقط في المعاملة وفي الإنفاق على المحتاج. أما الطاعة لهم فيما يغضب الله فهي محرمة. وحاول بعض المستشرقين أن يطعن في القرآن، فمنهم من قال: إن هناك تعارضاً بين آيات القرآن الكريم، فالآيتان اللتان ذكرناهما؛ الأولى تطلب مقاطعة الآباء والأبناء إن استحبوا الكفر على الإيمان، والآية الثانية تطلب مصاحبتهم بالمعروف أو عدم القطيعة، وآية ثالثة تقول:
ولم يفطن هؤلاء إلى أن هناك فارقاً بين الود والمعروف، فالود هو عمل القلب، فأنت تحب بقلبك، ولكن المعروف ليس من عمل القلب لأنك قد تصنع معروفاً في إنسان لا تعرفه، وقد تصنع معروفاً في عدوك حين تجده في مأزق، ولكنك لا تحبه ولا توده.
إذن: فالمنهي عنه أن يكون بينك وبين من يحادون الله ورسوله حب ومودة، أما المعروف فليس منهيا عنه؛ لأن الله يريد للنفس الإيمانية أن تعترف بفضل الأبوة، فإن وجدت أباك وهو غير مؤمن في مأزق فاصنع معه معروفاً وساعده، لكن عليك ألا تطيعه فيما يغضب الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يربي في النفس الإيمانية أن تحترم من له فضل عليها. والأب والأم من أسباب الوجود الفرعي في الحياة، لذلك جاء الأمر بمصاحبتهما بالمعروف في الدنيا، شرط ألا نقبل منهما دعوتهما للكفر إن كانا من أهل الكفر، لأن إيمانك بالله لا بد أن يكون هو الأقوى. ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار».
وذلك حتى لا يكون مقياس الحب هو النسب أو القربى، وإنما يكون القرب من الله سبب الحب، والبعد عن الله سبب الكره. فقضية الإيمان تَجُبُّ قضية العاطفة. ففي معركة بدر كان سيدنا أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما ابنه فلم يكن قد أسلم بعد وكان مع الكفار، فلما أسلم ابن أبي بكر وآمن؛ قال لأبيه: لقد رأيتك يوم بدر
وإذا كان ذلك عن القرابة، وكيف يَجُبُّ الإيمان العاطفة، فماذا عن المال؟ يتابع المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمْوَالٌ اقترفتموها﴾ أي: أخذتموها بمشقة، وهي مأخوذة من «القرف» وهي القشر، وأنت إن أردت إزالة القشر عن حبة نبات ما، قد تجد شيئا من المشقة؛ لأن هناك التصاقا بين القشرة والحبة، والحق هنا يقول: ﴿وَأَمْوَالٌ اقترفتموها﴾ أي: أخذتموها بجهد ومشقة، وهو غير المال الموروث الذي لم يتعب فيه صاحبه، وإنما ورثه عن غيره، وفي هذه الحالة قد يكون أمره هيناً على صاحبه. أما المال الذي كسبه الإنسان بعرق جبينه وكدِّه فصاحبه أكثر حرصاً عليه من المال الموروث. ويقال: «فلان اقترف كذا»، أي: أنه قام بجهد حتى حصل عليه، ويقال: «اقترف الكذب» و «اقترف السرقة»، بمعنى أنه قد بذل جهدًا ليكذب، أو بذل جهدًا ليسرق، أي: قام بعملية فيها مجهود.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ وسبحانه هنا يوضح لهم: انتظروا أمر الله الذي سوف يأتي، لأنه سبحانه لا يهدي فاسقاً خرج عن الإيمان، ولا يهدي من جعلوا حبهم للعلاقات الدنيوية فوق حب الله فخرجوا عن مشيئة هداية الله تعالى، فسبحانه لا يهديهم كما لا يهدي الظالمين أو الكافرين؛ لأن هؤلاء هم من قدموا الظلم والكفر والفسق، فكان ذلك سببا في أن الله لم يدخلهم في مشيئة هداية المعونة على الإيمان، أما هداية الدلالة فقد قدمها لهم.
أي: لا تتوكل على من قد تصبح غداً فتجده ميتاً، ولكن توكل على الحي الموجود دائما، العزيز الذي لا يقهر، القوي الذي لا يغلب.
وينبه الحق سبحانه وتعالى المؤمنين: إن كنتم تخشون حين نعزلكم عن مجتمع الكفر لما فيه من عزوة كاذبة بالآباء والأبناء والإخوان والأقارب والمال، فاعلموا أن الله هو الذي ينصر، وهو الولي، ولكن الكافرين لا مولى لهم؛ لأنهم يتخذون موالي من أغيار، والأغيار لا ثقة فيها؛ لذلك يقال: إذا وصل الإنسان إلى القمة فهذه نهاية الكمال، لأنه ما دام قد وصل إلى القمة وكل شيء في الدنيا يتغير، فلا بد أن يتغير هو. ويقول القائل:
إذاَ تَمَّ شيءٌ بَدَأ نقصُه | ترقَّبْ زوالاً إذَا قِيل تَمّ |
كَما أدركَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامةٌ | فلمَّا رأوْهَا أقشعتْ وتجلَّت |
ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها الله سبحانه وتعالى كونه كله، ويفتح الباب لكل عاص ليعود إلى طريق الإيمان فيتقبله الله، ويقول الحق تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ... ﴾
وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة أن الله ورسوله بريء من المشركين، وكشف عن طبيعتهم بأنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ويصفي هذه المسائل تصفية عقدية في ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ﴾، وطلب منا أن ننهي العقود التي بيننا وبينهم.. فمن نقض العهد انتهى عهده، ومن حافظ عليه حافظنا نحن على العهد إلى مدته، ثم طلب من المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وصفَّى أي ضغينة أو ذنب بفتح باب التوبة. ومن بعد ذلك ينتقل
فقد تكون الصورة مقبولة شكلاً، لكن العقيدة التي توجد في قلوب تلك الأجساد قذرة ونجسة، وسبحانه لا يأخذ بالظواهر ولا بالصور، بل بالقيم. وأنت إذا ما نظرت إلى القيم وإلى العقائد الحقة الصادقة، تجد كل عقيدة تنبئ عن تكوين مادتها، وعلى سبيل المثال، حينما تكون فرحاً، يتضح ذلك على
إذن: فالمادة تنفعل بانفعال القيم، وما دامت القيم فاسدة فالمادة التي يتكون منها جسده تكون متمردة على صاحبها؛ لأن المادة بطبيعتها عابدة مسبحة لله، وكذلك الروح بطبيعتها عابدة مسبحة لله تعالى، ولا ينشأ الفساد إلا بعد أن توضع الروح في المادة، ثم تتكون النفس من الاثنين معاً، المادة والروح، فإن غلَّبت النفس النفس منهج الله صارت مطمئنة، وإن تأرجحت النفس بين الطاعة والمعصية، فإما أن تطيع فتكون نفساً لوامة، وإما أن تكفر وتتخذ طريق الشر فتكون نفساً أمارة بالسوء. أما قبل أن تنفخ الروح في المادة، فكل منها مسبح لله تعالى؛ لأن كل شيء في الوجود عابد مسبح، والنفس في كل سلوكها مقهورة لإرادة صاحبها بتسخير من الله عَزَّ وَجَلَّ، وحين يأتي الموت، تنتهي الإرادة البشرية وتسقط سيطرة الإنسان على جسده، بل إن هذا الجسد يشهد على صاحبه يوم القيامة. والإنسان في الحياة الدنيا يعيش وإرادته تسيطر على مادته بأمر من الله، فاليد قد تضرب إنساناً، وقد تعين إنساناً آخر وقع في عسرة، ولسان المسلم يشهد أن لا إله إلا الله، ولسان الكافر يشرك مع الله آلهة أخرى.
إذن: فمادة الإنسان خاضعة لإرادة صاحبها في دنيا الأغيار، فإذا انتقل إلى الآخرة فلا تأثير له على المادة، وتتحرر المادة من طاعة صاحبها في المعصية، وتتمرد عليه، وتشهد على صاحبها بأنه كان يستخدمها في المعصية. والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
[فصلت: ٢٠ - ٢١].
وهنا يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾ أي: أن عقيدتهم الفاسدة تنضح على تصرفاتهم، وسبحانه وتعالى يربب المعاني الإيمانية في النفوس أي يزيدها، ومثال ذلك: نحن نرجم إبليس كمنسك من مناسك الحج، نرجم قطعة من الحجر رمزنا إليها بالشيطان، ونحن لا نرى الشيطان، وقد وضعنا له رمزاً وأرسينا في أعماقنا أن الشيطان عدو لنا ويجب أن نرجمه لنبتعد عن مراداته، وبذلك أبرزنا هذه المعاني في أمر حسي؛ لنوضح للنفس البشرية أن الشيطان عدو لنا، وكلما وسوس الشيطان لنا بأمر نرجمه بأن نبين لأنفسنا قضايا الإيمان الناصعة فيهرب منا. وكل منا عليه أن يتذكر أن الشيطان سوف يضحك على العاصين والكافرين في يوم القيامة، ويقول ما أورده الحق سبحانه وتعالى على لسانه: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢].
وفي هذا القول سخرية ممن صدقوه؛ لأن السلطان إما سلطان القهر بأن تأتي لإنسان بما هو أكبر منه وتقهره على فعل شيء بالقوة، وإما سلطان الإقناع
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ فإنه يوضح لنا أن نجسهم يحتم علينا أن نمنعهم من دخول الأماكن التي لا يدخلها إلا الإنسان الطاهر. وجعل الحق سبحانه وتعالى النجاسة المعنوية مثلها مثل النجاسة المادية، ولذلك قال العلماء: ما دام الحق قد وصفهم بأنهم نجس فلا بد أن يكون فيهم نجس مادي، ولذلك إذا اقتربت منهم تجد لهم رائحة غير طيبة، لأنهم لا يتطهرون من حدث، ولا يغتسلون من جنابة. وعندما ذهبنا إلى الجزائر بعد تحريرها من فرنسا، لم نجد في البيوت حمامات؛ لأن الواحد من المستعمرين لا يذهب إلى الحمام إلا كل عشرين يوماً مثلاً، لذلك جعلوا الحمامات بعيداً عن المساكن، ولكن بعد أن تحررت الجزائر صار في البيوت حمامات؛ لأن الثقافة الإسلامية مبنية على الطهارة، ويتوجب على المسلم أنه كلما دخل الإنسان الحمام تطهر، وكلما كان جنباً اغتسل.
ولقد قال البعض: لو أنني سلَّمت على مشرك ويده رطبة.. فلا بد أن أغسل يدي. فإذا كانت يده جافة فيكفي أن أمسح على يدي. وفي هذا احتياط وتأكيد على اجتناب هؤلاء المشركين. وإذا كنا نجتنبهم أجساداً وقوالب، ألا يجدر بنا أن نجتنبهم قلوباً؟
وقد أنزل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي صدر فيه منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام والبراءة من هؤلاء المشركين، وتساءل العلماء: هل الممنوع والمحرم هو اقتراب المشرك
وهكذا نرى كيف يمكن أن يجتهد الإنسان ويبحث في المعاني ليستخرج المضمون الحق. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. وفي هذا القول الكريم حديث عن الغيب. والغيب - كما عرفنا - هو ما يغيب عنك وعن غيرك، أما الشيء الذي يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فلا يكون غيباً، فإذا سرق منك مال مثلاً فأنت لا تعرف من الذي سرق، والسارق في هذه الحالة غيب عنك، ولكنه ليس غيباً عن غيرك؛ فالسارق يعرف نفسه؛ والذي دبر له الجريمة يعرفه، ومن رآه وستر عليه يعرفه. وأنت - أيضاً - لا تعرف مكان المسروقات، ولكن السارق يعرف المكان الذي خبأها فيه.
إذن: فهي غيب عنك وليست غيباً عن غيرك. وهذه لعبة الأفاقين والنصابين الذين يُسخِّرون الجن، فما دام الشيء معروفاً ومعلوماً لغيرك من الناس؛ فالكشف عنه مسألة سهلة، ولكنّ هناك غيباً عنك وعن غيرك، وهذا هو ما ينفرد به الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ... ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧].
أما إبلاغ الله رسوله من أنباء الأمم السابقة مما جاء في القرآن الكريم فهو اختراق لحجاب الزمن الماضي، نحو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ..﴾ [القصص: ٤٤ - ٤٥].
وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ﴾ في آيات أخرى دليل على أن الله سبحانه وتعالى أخبر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما كان مستوراً في الزمن الماضي. أما الشيء الذي سوف يحدث في المستقبل، فهو محجوب عنك بحجاب الزمن المستقبل، وقد اخترق القرآن الكريم حجاب المستقبل في آيات كثيرة كلها تبدأ بحرف السين، وحرف السين دليل على أن الشيء لم يحدث بعد، وقوله تعالى:
دليل على أنه من الزمن المستقبل يكشف الله لنا عن آياته الموجودة في الأرض، وقوله تعالى: ﴿الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ١ - ٣].
وهذا اختراق لحجاب المستقبل؛ لأن النصر حدث بعد نزول هذه الآية بتسع سنوات. إذن: فالذي يحدث في المستقبل محجوب عنك بالزمن المستقبل، ولكن هناك شيئاً يحدث في الحاضر ولا نعرفه وهو محجوب عنك بحجاب المكان، فما يحدث في مكان لست موجوداً فيه لا تعرفه، فأنت إن كنت جالساً في مكة مثلاً، فأنت لا تعرف ما يحدث في المدينة المنورة لأنه محجوب عنك بحجاب المكان، وهناك أيضاً حجاب النفس، أي: أن ما يدور في نفسك لا يعرفه أحد غيرك؛ لأنه محجوب بحجاب النفس.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ فسبحانه وتعالى يخاطب قوماً يريد منهم أن ينفذوا هذا الأمر، ولكنه سبحانه يعلم السرائر التي تستقبل النص. مثلما يأتي إنسان ويخبرك أن المخبز القريب من منزلك سوف يغلق فأول ما يتبادر إلى ذهنك السؤال: ومن أين سنأتي بالخبز؟ أو أن يقال لك: «إن الباخرة التي تحمل اللحم والخضروات ضلت الطريق» فأول ما يخطر على بالك لحظتها: ومن أين نأكل؟
وكان المشركون يأتون إلى الحج ومعهم أموالهم ويتاجرون وينفقون، هذه الفترة تمثل بالنسبة لمن يعيشون حول بين الله الحرام فترة الرواج المادي الذي يعيشون عليه طوال العام.
وهكذا كشف الله حجاب النفس، وردَّ على ما سيدور في نفوس المؤمنين في نفس الآية التي حرم فيها على المشركين أن يقتربوا من المسجد الحرام، ولم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يعلن المؤمنون ما في أنفسهم، بل رد على ما يجول بخواطرهم قبل أن يعلنوه.
وحين يكشف الله عَزَّ وَجَلَّ حجاب النفس بهذا الشكل، فالمؤمن الذكي يقول: هذا ما جاء في بالي. ولأطمئن لأنه عرف ما بنفسي فسوف يرزقني. ولو لم يأت ذلك في بالهم لَكَذَّبوا النص. ولو كذبوا النص لما بقوا على الإيمان، وما داموا قد بَقَوْا على الإيمان فقد جاء النص معبراً عما يجول بأنفسهم تماماً.
والله سبحانه وتعالى كشف حجاب النفس في آيات كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى عن المنافقين والكفار: ﴿وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ﴾ [المجادلة: ٨].
وقول النفس لا يسمعه أحد، ولو أن هؤلاء لم يقولوا هذا في أنفسهم لقالوا: والله ما خطر ذلك في نفوسنا. ولأنهم قالوه في أنفسهم فقد بُهِتُوا لكشف القرآن الكريم لما يدور داخل أنفسهم. ولقد رد الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة على ما سيدور في خواطر المؤمنين عندما يستمعون إليها، فلم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يشكو المؤمنون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوفهم الفقر وقلة الرزق، بل أجاب سبحانه وتعالى على ذلك قبل أن يخطر على بالهم.
وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ والعيلة هي الفقر، ويتابع الحق جل وعلا: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ﴾، ولم يقل الحق «سيغنيكم» بل قال: ﴿فَسَوْفَ﴾ وهي تقتضي زمناً سيمر ولكنه زمن قريب؛ لأن الخير الذي سيأتي له أسباب كثيرة كفيلة بتحقيقه كأن يعوضهم الله عما كان يأتي به الكفار بأن تمطر السماء مطراً فينبت النبات، وهذه تحتاج إلى زمن، وأن يأخذوا بالأسباب بأن يروج لهم تجارة على غير المشركين، أو يكشف لهم من كنوز الأرض ما يغنيهم. ولذلك قال: ﴿فَسَوْفَ﴾. والأسباب تحتاج إلى وقت، فنزلت الأمطار قرب جدة التي أسلمت ونبت الزرع في وادي خليط، وتبالي باليمن وجرش وصنعاء، وجاءت أحمال البعير بالخير لأهل مكة وحدثت الفتوحات الإسلامية، فجاء الخير من الجزية والخراج. وهكذا نرى أن ﴿فَسَوْفَ﴾ امتدت لمراحل كثيرة، وما زالت موجودة ممتدة حتى الآن.
إذن: فقد أخذت الأمد الطويل. على أننا لا بد نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ هي حيثية بأن المؤمن عليه ألا يتهاون في أمر دينه رغبة في تحقيق أمر من أمور الدنيا، فكل من يرتكب معصية خوفاً من أن تضيع منه فائدة مادية أو دنيوية، كأن يخشى قول الحق خوفاً من أن يضيع منع منصبه، أو يغضب عليه صاحب العمل فيطرده من وظيفته، نقول له: لا عذر لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾.
وحيث إن الرزق من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فلا عذر لأحد أن يرتكب معصية بحجة المحافظة على رزقه، أو بحجة أنه يدفع الفقر عن نفسه وبيته وأولاده.
وإذا كان الله قد قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾
فإننا نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد الصلة الدائمة بعبده وألا يفسد على العبد الرجاء الدائم في الله تعالى. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِن شَآءَ﴾ هو إبقاء لهذا الرجاء؛ لأن العبد سيظل في رجاء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فيظل الله تعالى في باله؛ ولأنه سيطلب دائماً رضا الله فإن هذا يجعله يبتعد عن المعصية ويتمسك بالطاعة.
وفوق ذلك كله، فإن الحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في كونه، فقدر الله وقضاؤه ليسا حجة على الله سبحانه وتعالى تقيد مشيئته سبحانه، فمشيئة الله مطلقة لا يقيدها حتى قدر الله. فهو إن شاء حدث القدر. وإن شاء لم يحدث. وهكذا تظل طلاقة قدرة الله في كونه.
وبعض العارفين بالله قد يكشف لهم الله لمحة من لمحات الغيب، فيخبر الواحد منهم الناس، فيخلف الله سبحانه وتعالى ما كشفه؛ حتى يظل الله وحده عالم الغيب؛ فما دام ذلك اصطفاه الله بغيب أطلع الناس عليه. فسبحانه يُغيِّر أحداث الغيب ولا يعطي لذلك الشخص خبراً عن أي غيب آخر.
إذن فكلمة: ﴿إِن شَآءَ﴾ هي إثبات لطلاقة قدرة الله في كونه، فإن شاء أعطاكم، وإن شاء لم يُعْطِكم، فالإعطاء له حكمة، والمنع له حكمة، فقد يفتري البعض بالنعمة فيحجبها الحق عنهم، وهذا ما حدث في كثير من البلاد
﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٥ - ١٦].
أي: أن الإنسان إذا أنعم الله تعالى عليه، عدّ هذا كرماً من الله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا ما ضيق الله عليه الرزق اعتبر ذلك إهانة وعدم رضا من الله.
ويرد الله تبارك وتعالى ليصحح المفهوم فيقول:
﴿كَلاَّ﴾ أي لا المال دليل على الإكرام، ولا قلة المال دليل على الإهانة. ﴿كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾ [الفجر: ١٧ - ٢٠].
إذن: فالمال إذا جاء ليطغيك يكون نقمة عليك وليس نعمة لك، وإذا كانت قلة المال تمنع طغيانك فهي نعمة وليست نقمة. ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧].
قد يمنع عنك المال الذي إن وصل إليك غرَّك فتحسب أنك في غنى عن الله تعالى وتطغى، وهذا المنع نعمة وليس نقمة، إذن فقوله تبارك وتعالى: ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ﴾ هو إبقاء لطلاقة القدرة في الكون حتى يكون الإغناء لا بالمادة وحدها ولا بالمال وحده، ولكن بالقيم أيضاً، فلا يذهب المال قيم السماء ولا يبعد عن منهج الله.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِن شَآءَ﴾ يعني: أنه سبحانه إن شاء أعطى،
ثم يقول الحق بعد ذلك: ﴿قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق... ﴾
وعرفنا من قبل السبب، وأما الذين يتحدث عنهم الله في هذه الآية فهم غيرهم | فرغم أن الحق سبحانه وتعالى أرسل لمشركي العرب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ |
سَمَّيتُه يَحْيى لِيَحْيا فَلمْ | يكُنْ لِرد قضاء اللهِ فيه سَبِيلُ |
ولذلك تجد القرآن الكريم في قصصه العجيب يقول على لسان مريم: ﴿أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ [مريم: ٢٠].
وقد بشرَّها الحق تبارك وتعالى بذلك في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَم﴾ [آل عمران: ٤٥].
وما دام قد نسبه الله لها فلن يكون له أب، فتساءلت: كيف يكون لي غلام من غير أب. ويُذكِّرها الحق عَزَّ وَجَلَّ بهذا القول: ﴿إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: ٣٧].
وقال لها: ﴿كذلك قَالَ رَبُّكَ﴾ [مريم: ٢١].
مثلما قال لزكريا من قبل، إذن ﴿أنى﴾ هذه هي مفتاح الموضوع العقدي كله، في زكريا ويحيى، وفي مريم وعيسى، وهذا هو معنى ﴿أنى﴾ وقلنا إن «أنّى» تأتي بمعنى كيف؟ مثل قول الحق تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى﴾ [البقرة: ٢٦٠].
وسيدنا إبراهيم لا يُكذب أن الله قادر على الإحياء، ولكنه يسأل عن الكيفية، وهنا يقول الحق: ﴿قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ﴾ أي: كيف يعدلون عن الحق؟ فالقضية منطقية، وما كان يصح أن تغيب عنهم، فكيف يُصرَفون عن
ويقول سبحانه بعد ذلك عن أهل الكتاب: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ... ﴾
فإن قصدنا عالم الدين المسيحي قلنا: «قسيس»، وإن قصدنا رجل التطبيق أي العابد قلنا: «الراهب» والراهب هو من يقول: إنه انقطع لعبادة الله فوق ما طلب الله منه من جنس ما طلب، ونعلم أنه لا رهبانية في الإسلام، ولكن الإنسان يستطيع أن يتقرب إلى الله كما يحلو له من جنس ما طلب الله منه، فإن كان الحق عَزَّ وَجَلَّ قد أمر بإقامة الصلاة خمس مرات
أي: أنهم قد دخلوا إلى مقام الإحسان أي ارتقوا فوق مقام الإيمان. ويزيدنا الحق علماً بمقام الإحسان فيقول: ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم﴾ [الذاريات: ١٧ - ١٩].
وسبحانه لا يطلب منا في فروض الدين ألا نهجع إلا قليلا من الليل، بل نصلي العشاء وننام إلى الفجر. لكن إنْ قام الإنسان منَّا وتهجد فذلك زيادة عما فرض الله ولكنه من جنس ما فرض الله. وكذلك الاستغفار فمن تطوع به فهو خير له. وكذلك الصدقة على غير المحتاج، فهنا زيادة في العطاء على ما فرضه الله من الزكاة التي حُدِّدَتْ من قبل في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ﴾ [المعارج: ٢٤].
والرهبانية كانت رغبة من بعضهم في الدخول إلى مقام الإحسان، ولكن الحق لم يفرضها عليهم؛ لأنه هو الذي خلق وَعلم أزلاً قدرات من خلق،
هم إذن قد ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وزيادة في العبادة، وليس في ذلك ملامة عليهم، ولكنها ضد الطبيعة البشرية؛ لذلك لم يراعوا الرهبانية حق رعايتها، ويقول المولى سبحانه وتعالى هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً﴾ فهل معنى ذلك أنهم يقولون للحبر أو الراهب «رب» ؟ لا، ولكن كانت معاملتهم لهم كمن يعامل ربه؛ لأن الله هو الذي يُحل ويحرم ب «افعل» و «لا تفعل»، فإذا جاء هؤلاء الأحبار وأحلُّوا شيئاً حرمه الله أو حرَّموا شيئاً أحلَّه الله، فهم إنما قد أخذوا صفة الألوهية فوصفوهم بها؛ لأن التحليل والتحريم هي سلطة الله، فلذلك
«عندما دخل عدي بن حاتم على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عنق الرجل صليباً من الذهب أو من الفضة قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اخلع هذا الوثن «، ومن أدب الرجل مع الرسول خلع الصليب. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» «إنكم لتتخذون الأحبار والرهبان أرباباً». فقال الرجل: نحن لا نعبدهم.. قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أولا تطيعونهم فيما حرموا وأحلوا؟ قال: نعم. قال: تلك هي العبادة «.
﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ﴾ ولسائل أن يسأل: وما معنى عطف المسيح على الأرباب، وعلى الأحبار والرهبان؟ والإجابة: إن الذي يحلل ويحرم إن لم يكن رسولاً، فهو إنسان يطلب
﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وهكذا يذكر الحق أن الأمر لم يصدر منه سبحانه وتعالى إلا بأن يعبد من يؤمن بالرسالات الإله الواحد. ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» خير ما قلته أنا والنبيون: لا إله إلا الله «.
وأنت حين تنظر إلى» لا إله إلا الله «تجد النفي في» لا «والاستثناء من النفي والإثبات في» إلا «، وهذا نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له وحده، وحين نقول:» الله واحدا «فهذا يتضمن الإثبات فقط. ويأخذ الفلاسفة الذين يملكون قوة الأداة والبيان من هذه القضية» الإثبات والنفي «، أو» الموجب والسالب «، ويقولون: كل التقاء بين موجب وسالب إنما يعطي طاقة، والطاقة يمكن استخدامها في الإنارة أو تدار بها آلة، وكذلك الطاقة الإيمانية تحتاج إلى» سالب وموجب «، ويقول الشاعر إقبال:
إنما التوحيدُ إيجَابٌ وسَلبٌ | فِيهِما للنفْسِ عزمٌ ومَضَاء |
وتقول: «قابض وباسط» و «رحيم وقهار».
إذن: فصفة الذات يتصف الله بها ولا يتصف بمقابلها، وأما صفة الفعل فيتصف بها ويتصف بمقابلها لأنها في غيره، فسبحانه هو مُحي لغيره، ومميت لغيره، لكنه حي في ذاته. إذن فكلمة ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تعني التنزيه ذاتاً، وصفاتٍ، وأفعالاً، وإذا جاء فعل من الله، ويأتي مثله فعل من البشر، نقول: إن فعل الله عَزَّ وَجَلَّ غير فعل البشر لأن فعل الله بلا علاج، ولكن فعل البشر بعلاج، بمعنى أن كل جزئية من الزمن تأخذ قدراً من الفعل، كأن تنقل شيئاً من مكان إلى مكان، فأنت تأخذ وقتاً وزمناً على قدر قوتك، أما فعل الله عَزَّ وَجَلَّ فلا يحتاج إلى زمن، وقوته سبحانه وتعالى لا نهائية.
ولذلك حين قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد أسْرِيَ بي إلى بيت المقدس، قال من سمعوه: أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ لكن لم يلتفت أحد منهم إلى أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل: لقد ذهبت
إذن: ف ﴿سُبْحَانَهُ﴾ هي تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أي شيء يوجد في البشر. ولا تقارن قدرة الله سبحانه وتعالى بقدرة البشر مهما كان، بل إن العمل ينسب لقدرة صاحبه، وكلما زادت القوة زادت القدرة والله هو القوي. وقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ هو تنزيه لله، ولا تجد بشراً يقول لبشر حتى من الكفار الذين يعاندون الإيمان، لا يقول واحد منهم لآخر «سبحانك» لأن التنزيه أمر يختص به الله عَزَّ وَجَلَّ.
والناس تضع أسماء أولادها، فالأسماء مقدور عليها من البشر، ولكنك لا تجد كافراً معانداً محارباً لدين الله عَزَّ وَجَلَّ يسمى ابنه «الله» فالمؤمن لا يجرؤ على هذه التسمية لأنه يؤمن بالله، والكافر لا يجرؤ عليها أبدا بقدرة الله وقهره. لذلك فكلمة ﴿سُبْحَانَهُ﴾ ولفظ الجلالة «الله» لفظان يختص بهما الله وحده بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، وسبحانه القائل:
﴿رَّبُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥].
إذن: فالله سبحانه وتعالى - بالقدرة والقهر - حجز ألسنة البشر جميعاً أن يقول أحدهم لأحد: «سبحانك»، أو أن يسمى أحد ابنه «الله».
والله عَزَّ وَجَلَّ يقول هنا: ﴿لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، وموقف المشركين وأهل الكتاب واقع تحت هذه الآية؛ لأن منهج السماء لا يأتي إلا إذا عَمَّ الفساد والله سبحانه وتعالى يريد من الإنسان الخليفة في الأرض أن يكون صالحاً ومصلحاً، وأقلُّ درجات الصلاح أن تترك الصالح فلا تفسده، فإن استطعت أن ترتقي به فهذا هو الأفضل. فإن كانت هناك بئر يشرب منها الناس، فالصلاح أن تترك هذه البئر ولا تردمها، والأصلح من ذلك أن تحمي
أي: أن الله سبحانه وتعالى أعطى لذي القرنين الأسباب، وهو زَادَ باجتهاده أسباباً أخرى؛ إذن: فالحق سبحانه يريد من الإنسان أن يُصْلح في الأرض حتى يسعد المجتمع بأي إصلاح في الأرض ويستفيد منه الكل، ولذلك يعطي الحق سبحانه وتعالى اختيارات في أشياء ولا يعطيها في أشياء أخرى، فالإنسان له اختيار في أن يصلي أو لا يصلي، يتصدق أو لا يتصدق، يعمل أو لا يعمل إلى آخر ما نعلمه، ولكن الكون الأعلى محكوم بالقهر، فالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء وكل هذا له نظام دقيق، فلا الشمس ولا القمر ولا النجوم، ولا غيرها من الكون الأعلى يخضع لاختيار الإنسان، وإلا لفسد الكون. وكل شيء مقهور سليم بالفطرة ولا يحدث فساد إلا في الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ لأن الاختيار قد يتبع الشهوة وهوى النفس، حتى المخلوقات المقهورة كالحيوانات التي سخرها الله للإنسان لا يأتي منها الشر. بل إن مُخلَّفاتها تُستخدم في زيادة خصوبة الأرض. ولكن الأشياء التي صنعها الإنسان ملأت أجواء الدنيا بالسموم ولوثت الجو؛ لأن الأولى مخلوقة بهندسة إلهية، والثانية بهندسة بشرية علم صانعها أشياء وغابت عنه أشياء.
وقد يعتقد الناس أن هناك بعضاً من الاكتشافات قد حلَّتْ مشكلات الكون، ثم بعد ذلك وعندما تمر السنوات يعرفون أنه جاءت بالشقاء للبشرية، ولعل تلوث البيئة الذي بدأ يؤثر على حياة الكون أخيراً يلفتنا إلى ذلك، حتى
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان﴾ [الرحمن: ١ - ٧].
إذن: فالميزان للعلويات لا يختل أبداً، فإذا عرفتم ذلك فنِّفذوا أمر الحق سبحانه وتعالى في قوله: ﴿أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان﴾ [الرحمن: ٨].
فإذا سرْتم على ضوء منهج الله تعالى، تستقيم أموركم الدنيا كما استقامت أموركم العليا، وها هو ذا الكون أمامكم يسير منضبطاً، وهذا شأن الشيء الذي فيه اختيار للإنسان؛ إنْ لم يسِرْ على منهج الله عَزَّ وَجَلَّ تجدوه غير مستقيم. وعلى هذا إذا رأيت عورة في الكون من أي لون، فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عُطِّل.
ولذلك نجد - أيضاً - أن المفسدين ساعة يرون أن مصلحاً قد جاء ليضرب على أيدي المفسدين، تجدهم يحاولون إفساده وجذبه إليهم ليعيش فسادهم، وإذا لم يتحقق لهم ذلك فهم يقفون أمام هذا المصلح لأنهم إنما يعيشون بالفساد وعلى الفساد، ويصنعون لأنفسهم السيادة والجبروت ويستعبدون غيرهم، وحين يرى المفسدون رجلاً يريد أن يعدل ميزان الكون فهم يحاربونه.
وأنت حين تشتري سلعة، فالبائع يزنُ لك بمقدار ما تدفع من ثمن، ويحتاج
ومن قبل قلنا: إنَّ الحق ضرب المثل فجعل له سبحانه نورين.. النور الأول حسي وهو في الماديات، والنور الثاني معنوي وهو في القيم، وكما أن النور الحسي يهدي الإنسان إلى طريقه دون أن يصطدم بأي شيء؛ لأن الإنسان إن اصطدم بشيء أقل منه، فإنه يحطمه، وإذا كان الشيء أكبر من الإنسان فهو يحطم الإنسان، وهكذا يلعب النور دوراً في الحسيات، وكذلك جعل الله للمعنويات نوراً، لذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [النور: ٣٥].
والمفسد يكره أن يوجد مثل هذا النور، بل يريد أن يطفئه، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله... ﴾
ويتابع الحق جل وعلا قوله: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق... ﴾
فهل كان لهم دين؟ نعم كان لهم ما يدينون به مما ابتكروه واخترعوه من المعتقدات؛ لكن ﴿وَدِينِ ا﴾ هو الذي جاء من السماء.
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جاء بهذا القول ليؤكد أن الإسلام قد جاء ليظهر فوق أي ديانة فاسدة، ونحن نعلم أن هناك ديانات متعددة جاءت من الباطل، فسبحانه القائل: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض﴾ [المؤمنون: ٧١].
ونتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿عَلَى الدين كُلِّهِ﴾، فلو أن الفساد كان في الكون من لون واحد، كان يقال ليظهره على الدين الموجود الفاسد، ولكنَّ هناك أدياناً متعددة؛ منها البوذية وعقائد المشركين، وديانات أهل الكتاب والمجوس الذين يعبدون النار أو بعض أنواع من الحيوانات،
أي: أن يأتوا فوق ظهره. وكل الأديان هي في موقع أدنى بكثير من الدين الإسلامي. بعض الناس يتساءل: إذن كيف يكون هناك كفار ومجوس وبوذيون وصابئون وأصحاب أديان أخرى كاليهودية والنصرانية، فما زالت دياناتهم موجودة في الكون وأتباعها كثيرون، نقول: لنفهم معنى كلمة الإعلاء، إن الإعلاء هو إعلاء براهين وسلامة تعاليم، بمعنى أن العالم المخالف للإسلام سيصدم بقضايا كونية واجتماعية، فلا يجد لها مخرجاً إلا باتباع ما أمر به الإسلام ويأخذون تقنيناتهم من الإسلام، وهم في هذه الحالة لا يأخذون تعاليم الإسلام كدين، ولكنهم يأخذونها كضرورة اجتماعية لا تصلح الحياة بدونها. وأنت كمسلم حين تتعصب لتعاليم دينك، فليس في هذا شهادة لك أنك آمنت، بل دفعك وجدانك وعمق بصيرتك لأنْ تؤمن بالدين الحق، ولكن الشهادة القوية تأتي حين يضطر الخصم الذي يكره الإسلام ويعانده إلى أن يأخذ قضية من قضايا الإسلام ليحل بها مشكلاته، هنا تكون الشهادة القوية التي تأتي من خصم دينك أو عدوك. ومعنى هذا أنه لم يجد في أي فكر آخر في الكون حلاً لهذه القضية فأخذها من الإسلام.
فإذا قلنا مثلاً: إن إيطاليا التي فيها الفاتيكان الذي يسيطر على العقائد
ولكن هل أباحوه لأن الإسلام أباحه، أم أباحوه لأن مشاكلهم الاجتماعية لا تُحلُّ إلا بإباحة الطلاق؟ وساعة يأخذون حلاً لقضية لهم من ديننا ويطبقون الحل كتشريع، فهذه شهادة قوية، يتأكد لهم بها صحة دين الله ويتأكد بها قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ [التوبة: ٣٣] ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ [التوبة: ٣٢]، وبالله لو كان الإظهار غلبة عقدية، بمعنى ألاَّ يوجد على الأرض أديان أخرى، بل يوجد دين واحد هو الإسلام لما قال الحق هنا: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الكافرون﴾ ولما قال في موضع آخر من القرآن: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل من المعارضين للإسلام من يظهر الإسلام على غيره من الأديان لا ظهور اقتناع وإيمان، لا، بل يظلون على دينهم ولكن ظروفهم تضطرهم إلى أن يأخذوا حلولاً لقضاياهم الصعبة من الإسلام. ومثال آخر من قضية أخرى، هي قضية الرضاعة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة﴾ [البقرة: ٢٣٣].
وقامت في أوروبا وأمريكا حملات كثيرة ضد الرضاعة الطبيعية، وطالبوا الناس باستخدام اللبن المجفف والمصنوع كيميائياً بدلاً من لبن الأم، وكان ذلك في نظرهم نظاماً أكمل لتغذية الطفل، ثم بعد ذلك ظهرت أضرار هائلة على صحة الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه. واضطر العالم كله إلى أن يعود الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه. واضطر العالم كله إلى أن يعود إلى الرضاعة الطبيعية وبحماسة بالغة. هل فعلوا ذلك تصديقاً للقرآن
وكذلك الخمر نجد الآن حرباً شعواء ضد الخمر في الدول التي أباحتها من قبل وتوسعت فيها، ولكن شنُّوا عليها هذه الحرب بعد أن اكتشف العلم أضرارها على الكبد والمخ والسلوك الإنساني، هذا هو معنى ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي: يجعله غالباً بالبرهان والحجة والحق والدليل على كل ما عداه. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾ فقد ظهر هذا الدين وغلب في مواجهة قضايا عديدة ظهرت في مجتمعات المشركين والكافرين الذين يكرهون هذا الدين ويحاربونه، وهو ظهور غير إيماني ولكنه ظهور إقراري، أي رغماً عنهم.
وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الأحبار والرهبان لا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح، ولا باليوم الآخر بالشكل السليم، ويحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويتخذهم أتباعهم أرباباً من دون الله. هنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله... ﴾
ولذلك يأتي قوله تعالى في ذات الآية أنهم ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. هم إذن أكلوا أموال الناس بالباطل، مصداقاً لقول الحق سبحانه ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾ ومعنى ذلك أنَّ هناك أكْلاً من أموال الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع، فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة؛ ويذهب التاجر ليشتري بها بضاعة وهكذا، وقانون الاحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على تعاليم الدين، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل، وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾ ولم يقل جل جلاله: كل الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، بل قال ﴿إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان﴾ ؛ لأنه قد يوجد عدد محدود من الأحبار والرهبان ملتزمون، والله لا يظلم أحداً؛ لذلك جاء بالاحتمال. فلو أن الله سبحانه وتعالى عمَّم ووُجد منهم من هو ملتزم بالدين. فمعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم لم يُغطِّ كل الاحتمالات، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى في قرآنه يصون الاحتمالات كلها.
إذن: فاستيلاء بعض من هؤلاء الأحبار والرهبان على أموال الناس لا يكون بالحق، لأي لا يحصلون فقط على ما يكفيهم، بل بالباطل أي بأكثر مما
﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ والكنز مأخوذ من الامتلاء والتجمع، ولذلك يقال: «الشاة مكتنزة»، أي مليئة باللحم وتجمَّعَ فيها لحمٌ كثير.
إذن: فيكنزون أي يجمعون، وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ ؛ وهذان المعدنان هما أساس الاقتصاد الدنيوي، فقد بدأ التعامل الاقتصادي بالتبادل، أي سلعة مقابل سلعة، وهي ما يسمى عمليات عمليات المقايضة، وعندما ارتقى التعامل الاقتصادي اخترعت العملة التي صارت أساساً للتعامل بين الناس والدول.
والعملة من بدايتها حتى الآن ترتكز على الذهب والفضة. وحتى عندما وجدت العملة الورقية، كان لا بد أن يكون لها غطاء من الذهب لكي تصبح لها قيمة اقتصادية؛ لأنَّ العملة الورقية لا يكون لها قيمة إلا بما يغطيها من الذهب والفضة.
ومن إعجاز القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن الذهب والفضة وهما معدنان، يجعلهما الأساس في النقد والتجارة، ولقد وجدت معادن أخرى أغلى من الذهب وأغلى من الفضة كالماس مثلاً. لكن لا يزال الأساس النقدي في العالم هو الذهب والفضة. وعلى مقدار رصيد الذهب الذي يغطي العملة الورقية ترتفع قيمة عملة أي بلد أو تنخفض.. فمثلاً في مصر في عهد الاحتلال البريطاني كان النقد المتداول ثمانية ملايين جنيه، ورصيدنا من الذهب عشرة ملايين جنيه فيكون الفائض من الذهب مليوني جنيه، وبذلك كانت قيمة الجنيه المصري تساوي جنيهاً من الذهب مضافاً إليه قرشان ونصف القرش. والذي يهبط بالنقد إلى الحضيض أن يكون رصيد
إذن: فالحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم الاقتصادية، وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال؛ لأن وظيفة المال هي الانتفاع به في عمارة الأرض، ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمناً، فإنه ينقص كل عام بنسبة ٢ ٥... وهي قيمة الزكاة. ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة. فإن أراد المؤمن أن يُبْقي على ماله؛ فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه ولا يكنزه حتى لا تأكله الزكاة؛ وهي نسبة قليلة تُدفَعُ من المال. ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة، فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به؛ لأن الذي يستثمر أمواله مثلاً في بناء عمارة ليس في باله إلا ما سيحققه من ربح لذاته، ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم؛ فمن وضع الأساس يأخذ أجراً، ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه، ومن أحضر أسمنتاً أخذ، ومن جاء بالحديد أخذ، والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت، وأخذ العمال أجورهم؛ في مصانع الأدوات الصحية وأسلاك الكهرباء وغيرها، والذين قاموا بتركيب هذه الأشياء أخذوا، إذن: فقد انتفع عدد كبير في المجتمع من صاحب العمارة، وإن لم يقصد هو أن ينفعهم. ولذلك فإن الذي يبني عمارة يقدم للمجتمع خدمة اقتصادية ينتفع بها عدد من الناس، وكذلك كل من يقيم مشروعاً استثمارياً.
إذن: سبحانه وتعالى لا يريد من المال أن يكون راكداً، ولكنه يريده متحركاً ولو كان في أيدي الكافرين؛ لأنه إذا تحرك أفاد الناس جميعاً فيحدث بيع وشراء وإنتاج للسلع وإنشاء للمصانع، وتشغيل للأيدي العاملة إلى غير ذلك، ولكن إن كنز كل واحد منا ماله فلم يستثمره في حركة الحياة، فالسلع لن تستهلك، والمصانع ستتوقف، ويتعطل الناس عن العمل.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد للمال أن يتحرك ولا يكنز؛ ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأنهم بكنزهم المال إنما يُوقفُونَ حركة الحياة التي أرادها الله تعالى لكونه. وأنت ترى العالم الآن يعيش في غائلة البطالة؛ لأن المال لا يتحرك لعمارة الكون، بل هناك من يكتنزون فقط.
ولقائل أن يقول: ولكن الناس الآن يتعاملون بالنقد الورقي، بينما ذكر الله سبحانه وتعالى الذهب والفضة؛ نقول: إن العملة الورقية ليست نقداً بذاتها، ولكنها استخدمت لتعفي الناس من حمل كميات كبيرة وثقيلة من الذهب والفضة، قد لا يقدرون على حملها، إذن فهي عملية للتسهيل، وهي منسوبة إلى قيمتها ذهباً، إذن: فالذين يكنزون العملة الورقية ولا ينفقونها فيما يعمر بها الكون وتتم عمارته تنطبق عليهم الآية الكريمة.
ولكن الكنز في هذه الآية لا يأتي فقط بمعنى الجمع؛ ولكنه أيضاً بمعنى أنهم لا يؤدون حق الله فيها. ولذلك فإن المال الذي أخرجتَ زكاته لا يُعدُّ كنزاً، لأنه يتناقص بالزكاة عاماً بعد آخر؛ أما المال المكنوز فهو المال الذي لا تُؤدَّى زكاته.
وإذا عُدْنا إلى نص الآية الكريمة: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾ نتساءل: لماذا لم يقل الله: ولا ينفقونهما مع أنهما معدنان؟ ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى استخدم أسلوب الجمع؛ لأن الذهب يطلق إطلاقات كثيرة، فهناك من يملك ألف دينار من الذهب، وغيره يملك مائة دينار من الذهب، وثالث ليس لديه إلاَّ دينار ذهبيّ واحد وكذلك الفضة، وما دام الجمع هنا موجوداً فلا بد أن تستخدم ﴿يُنفِقُونَهَا﴾.
ولم تقل الآية الكريمة: والذي يكنز. ولكنها قالت: ﴿والذين يَكْنِزُونَ﴾، إذن: فالمخاطبون متعددون، فهذا عنده ذهب، وهذا عنده ذهب، وثالث عنده فضة، إذن فلا بد من استخدام صيغة الجمع. ويلفتنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى:
﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩].
ولم يقل «اقتتلا» لأن الطائفة اسم لجماعة مكونة من أفراد كثيرين، فإذا جاء القتال لا تقوم طائفة وتمسك سيفاً وتقاتل الثانية، وإنما كل فرد من الطائفة الأولى يقاتل كل فرد من الطائفة الثانية، إذن فهما طائفتان ساعة السلام، ولكن ساعة الحرب يتقاتل كل أفراد الطائفة الأولى مع كل أفراد الطائفة الثانية. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿اقتتلوا﴾، ولم يقل «اقتتلا». أما في حالة الصلح فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩].
واستخدم هنا «المثنى» لأننا ساعة نصلح بين طائفتين، لا نأتي بكل فرد من الطائفة الأولى ونصلحه على كل فرد من الطائفة الثانية، ولكن نأتي بزعيم
وكذلك في قوله تعالى: ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة﴾ لم يقل ولا ينفقونهما، ولكن قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله﴾ والإنفاق في سبيل الله يشمل مجالات متعددة، ففي سبيل الله تحدث حركة في المجتمع يستفيد منها الناس، فحين تُخْرجُ الزكاة يستفيد منها الناس، وحين تُجهَّزُ بها جيوش المسلمين يستفيد منها الناس، ونظرية عدم كنز المال ربما ظهرت حديثاً في الاقتصاد العالمي ولكنها موجودة منذ نزول القرآن الكريم.
فأنت إن أنفقت ولم تكنز حدث رواج في السوق. والرواج معناه إيجاد العمل ووسائل الرزق. وإيجاد الحافز الذي يؤدي إلى ارتقاء البشرية، وأنت حين تشتري لبيتك غسالة أو ثلاجة أو بنيت بيتاً صغيراً فإنك تُوجِدُ رواجاً اقتصادياً في المجتمع. وفي نفس الوقت ارتقيت بوسائل استخداماتك. والرواج يدفع إلى اكتشاف الأحسن الذي يفيد البشرية، ولكن إذا كنزت كل مالك ساد الكساد الاقتصادي.
وليس معنى ذلك أن ينفق صاحب المال كل ماله وزيادة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد الوسط في كل الأشياء. ولذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ [الفرقان: ٦٧].
والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية يحذر من سفاهة الإنفاق، وعدم الإبقاء على جزء من المال لمواجهة أي أزمة مفاجئة. لكنك إن قترت حدث كساد في السوق وتوقف الإنتاج وتعطل العمال، والإسلام يريد نفقة معتدلة توجد الرواج السلعي، وادخاراً تستخدمه في الارتقاء بحياتك ومواجهة الأزمات.
وهكذا يحدث توازن في المجتمع بين الناس، فلا يوجد من لا يستطيع الحصول على ضروريات الحياة، ولا يوجد من لديه فائض يحبسه عن الناس. ولهذا يدعونا الإيمان إلى العمل بما يزيد عن قدر الحاجة، ليكون هناك فائض للزكاة والصدقة. والإنسان إذا عمل فإنه لا يفيد نفسه فقط بل يفيد المجتمع أيضاً. فسائق «التاكسي» مثلاً إذا كسب مائة جنيه في اليوم قد يظن أنه نفع نفسه فقط، ولكنه في الحقيقة نفع المجتمع كله بأن يسَّر على العباد مصالحهم، فنقل هذا إلى عمله؛ ونقل ذلك إلى المستشفى، ونقل غيرهما إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه، ونقل رابعاً ليزور قريباً أو ليحقق مصلحة وهكذا.
إذن: فالذي يعمل يكون عمله خيراً لنفسه وخيراً للمجتمع، وإن عمل كل الناس على قدر حاجاتهم فقط، فمن أين يعيش غير القادر على العمل؟ من أين يعيش المستحق للزكاة والصدقة؟ إنه لا يعيش إلا بفائض القادر على
إن المجتمع الذي يجد فيه غير القادر حاجته، هو مجتمع يملؤه الاطمئنان بالنسبة للقادر وغير القادر. ونحن نعلم أننا نعيش في دنيا أغيار، ولا يوجد من يدوم غناه أو من يدوم فقره؛ لأن دوام الحال من المحال، إن عاش الغني في مجتمع متكافل يجد فيه الفقير حاجته فهو لن يخشى تقلبات الزمن؛ لأنه وهو الآن يعطي الفقير، إن أصبح فقيراً فسوف يجد مقومات حياته، والفقير إذا أغناه الله تعالى فسيذكر أنه كان يأخذ من الأغنياء، فيبادر ليعين الفقراء كنوع من رَدِّ الجميل. وبذلك يعيش المجتمع كله حياة آمنة، كما أن الحياة في مثل هذا المجتمع إنما تهيىء الاطمئنان للناس على أولادهم وذريتهم، ذلك أن الأعمار بيد الله، وعندما يحس الإنسان بأنه إن مات وترك أولاداً صغاراً ضعافاً فسوف يتكفل المجتمع بهم، عندئذ يحس بالأمان في حياته، ولكن إذا كان المجتمع قاسياً يضيع في حق اليتيم، فالأب يعيش غير مطمئن على أولاده الصغار، ولهذا نجد أن الحق تبارك وتعالى قد أمر بكفالة اليتيم؛ ليعوضه عن أب واحد بآباء متعددين يَرْعَونهُ، فَيُحسُّ الأب بالأمان وتُحس الأم بالأمان ويحس الصغار بالأمان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
[النساء: ٩].
وتقوى الله تكون ضماناً في أن يكفل المجتمع اليتيم؛ فيدخل الأمن في قلب كل أب يخشى أن يموت وأولاده صغار.
إذن: فساعة يكفل المجتمع اليتيم فالطفل لن يسخط على القدر الذي حرمه من أبيه لأنه وجد آباء يرعونه، وهناك قصة يرويها عدد من إخواننا العلماء، فقد مات زميل من زملائهم وأولاده صغار، وكانت الأم تبكي على أطفالها لأنهم تيتموا، ثم مرت السنوات وكبر الأطفال فصار هذا مهندساً وصار ذلك طبيباً، والثالث أصبح محامياً، بينما من لا يزال آباؤهم على قيد الحياة كانوا متعثرين في دراستهم، فقال أحدهم للآخر: ليتنا نموت حتى يفتح الله باب الرزق على أولادنا.
إذن: فهناك آباء محابس رزق، إذا ذهبوا فاض الله بالرزق على أولادهم، وهذه صورة نراها في الكون؛ فنعرف أن المسألة في يد الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين﴾ [الذاريات: ٥٨].
إذن: فالاقتصاد الإسلامي مبني على وجود حركة في الكون، ولا بد أن تكون هذه الحركة على قدر طاقة المتحركين، وليس على قدر حاجاتهم؛ حتى يكون هناك فائض يأخذه غير القادر من المتحرك القادر.
ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى لمحة إيمانية، حينما نرى الفقير غير القادر وهو يتلقى العطاء من أي إنسان غني يتعب في عمله، وكأن من هم أغنى منه يعملون ليعطوه، وسبحانه وتعالى حين سلب القوة من هذا الرجل فقد عوَّضه بأن أعطاه ثمرة من جهد وناتج عمل غيره فلا يسخط على اختبار الله تعالى له بالابتلاء.
وساعة تسمع كلمة ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ تعرف أن البشارة عادة تكون في خبر سار، وإن جاءت في خبر محزن تكون تهكمًا، فالإنسان الذي هو عزيز قومه ويجعل الناس له اعتباراً، إن ظلم وطغى وخاف الناس أن يردوه؛ لأنه لا يخشى الله فيهم، هذا الظالم يُؤتَى به يوم القيامة ويُعذَّب أشد العذاب، ويقال له: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
وبطبيعة الموقف في النار هو مهان بعذاب جهنم ولا يمكن أن يكون عزيزاً كريماً، ولكن قول ملائكة النار: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾، هو تهكم شديد، وهو في ذلك كقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه﴾ [الكهف: ٢٩].
وهم ساعةَ يسمعون كلمة ﴿يُغَاثُواْ﴾ يفرحون؛ لأن عطشهم شديد وهم قد استغاثوا فقيل لهم إنهم سيغاثون، وهذا خبر سار بالنسبة لهم، ولكن الإغاثة تأتيهم بماء يشوي وجوههم، فهل هذه إغاثة؟ إنه تهكم عليهم وزيادة في عذابهم، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى هنا: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ويصف لنا الحق هذا العذاب الأليم الذي سيتعرضون له، ويُبيِّن لنا خبر المغيَّب عنَّا في الآخرة بصورة مُحَسَّة لنا فيقول: ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ... ﴾
و «حين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها ديناراً، قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذه كَيَّة من النار «؛ لأن صاحبه كان حريصاً على أن يكنزه، كما» وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هاتان كَيَّتانِ» «.
كان هذا قبل أن تشرع الزكاة، أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعَدُّ كنزاً، وإلا لو قلنا: إنَّ الإنسان إذا أبقى بعضاً من المال لأولاده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزاً، لو قلنا ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها؛ لأن آيات الميراث جاءت لتورث ما عند المتوفي. والمال المورَّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلال وأدى فيه صاحبه حق الله، لذلك لا يعتبر كنزاً.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾، لماذا خَصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب؟ لأن كل جارحة من هذه
إذن: فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيداً، ثم أعطاه جانبه، ثم أعطاه ظهره. هذه هي الجوارح الثلاث التي تشترك في منع حق الله عن الفقير، ولذلك لا بد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾، أي: هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالاً كثيراً فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالاً قليلاً؛ لأن الكَيَّ سيكون بمساحة كبيرة، أما إن كان الكنز صغيراً فتكون الكية صغيرة.
ولهذا لا يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز؛ لأن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ أي: أن عذابكم في الآخرة سيكون بسبب كنزكم المال، فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سبباً في حزنكم؛ لأنكم تكنزون عذاباً لأنفسكم يوم القيامة، ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا، فسوف يقابله في الآخرة عذابٌ، كُلٌّ على قدر ما كنز.
ونحن نرى الشمس فيها ضياء، والقمر فيه نور، فما الفرق بين الضياء والنور؟
الضياء: فيه نور وفيه حرارة. والنور: فيه ضوء وليس فيه حرارة. ولذلك
والحق سبحانه وتعالى يسمى الشمس سراجاً وهَّاجاً، والسراج فيه حرارة وفيه ضوء. أما القمر فسماه منيراً؛ لأن أشعة الشمس تنعكس عليه فينير، وهذان الكوكبان العلويان - الشمس والقمر - وضع الله فيهما موازين الزمن. والزمن له حالات كثيرة تتطلب موازين وقياسات مختلفة، وأساس الزمن هو اليوم والليلة، وأساس اليوم هو صباح وظهر وعصر ومغرب، وهناك الفجر الصادق والفجر الكاذب والشروق، وهناك أوقات يتساوى فيها الشيء وظله، وأوقات يكون الظل مثْلَيْ الشيء. والليل فيه الظلام، ويأتي بعد النهار والليل - في مقاييس الزمن - الشهورُ، وبعد الشهور تأتي السنوات.
إذن: فمقاييس الزمن محتاجة لآلات تقاس بها، وأنت تعرف بداية اليوم بشروق الشمس. إذن فالشمس معيار اليوم. وأنت تعرف بداية الليل بغروب الشمس. وهكذا فالشمس تعطينا بداية ونهاية الليل والنهار، ولكنها لا تعطينا شيئاً عن الشهور، فإذا نظرت إلى الشمس فإنك لا تعرف هل أنت في أول الشهر أو في منتصفه أو في آخره. ولكنك إذا نظرت إلى القمر عرفت، ففي أول الشهر يكون القمر هلالاً، وفي منتصفه يكون بدراً، وفي آخره المحاق. والشهور عند الله اثنا عشر شهراً.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الإنسان، ويجعله خليفة في الأرض؛ خلق له كوناً مُعَدَّا إعداداً حكيماً لاستقباله، فقدَّر في الأرض الأقوات وجعل الشمس والقمر وأنزل المطر، فكل ما يقيم حياة الإنسان كان
والإنسان جعله الله خليفة في الأرض وله حركة، وهي الأحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع عليه، والأحداث تتطلب زماناً ومكاناً، ولذلك خلق الله لها الزمان والمكان. إذن: فالحياة كلها تفاعل بين حركة الإنسان الخليفة وبين الزمان والمكان.
وكما أعدَّ الله سبحانه وتعالى للإنسان في كونه مقومات حياته اليومية.. أنزل له القيم التي تحفظ له معنويات حياته، وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة الإنسان ولا تتعاند، ومعنى التساند أنْ تتحد حركة الناس جميعاً في إيجاد النافع لمزيد من الإصلاح في الأرض، أما إن تعاندت حركات البشر ضد بعضها البعض، فإن الفساد يظهر في الأرض؛ لأن كل واحد يريد أن يهدم ما يفعله الآخر.
ولكي تتساند حركات الإنسان في الكون؛ فلا بد من مُشَرِّع واحد - وهو المشرع الأعلى - يعطي قوانين الحركة البشرية لكل الناس. وإن ابتعد الناس عن تشريعات الله تعالى، وأخذوا يقنِّنون لأنفسهم، نجد قوانين البشر تتبع أهواءهم، وكل واحد يحاول أن يحصل على مَيْزات لنفسه، ويأخذ حقوق الآخرين؛ فتفسد الحياة، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السموات والأرض﴾ [المؤمنون: ٧١].
إن اتباع الحق لأهوائهم سيُخضِعُ الكون لأهواء البشر، هذا يريد وهذا لا يريد، والحق سبحانه يريد في الكون حركة السلام والأمن والاطمئنان، وهذه لا تتم إلا إذا التزم كل إنسان بمنهج الله؛ حينئذ يوجد سلام دائم ومستوعب شامل، مستوعب لسلام الإنسان مع نفسه، ولسلام الإنسان مع الكون، ولسلام الإنسان مع الله، لكن الإنسان الذي خلقه الله مُخيَّراً وأنزل له المنهج بالتكليف، في إمكانه أن يطيع هذا المنهج أو أن يعصيه. وإن عصى الإنسان المنهج فهو يفسد في الأرض وينشر فيها الظلم والفساد.
ولكي يسود السلام في الكون؛ وضع الحق سبحانه في الزمن وفي المكان حواجز أمام طغيان النفوس؛ عَلَّها تفيق وتعود إلى الحق، فجعل في الزمان أشهراً حُرماً يمتنع فيها القتال، ويسود فيها السلام بأمر السماء، وأراد الحق أن يكون هذا السلام القسري فرصة تجعل هؤلاء المتحاربين يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلاف بينهم، كذلك خصَّ الله بعض الأماكن بتحريم القتال فيها، فإذا التقى الناس في هذه الأماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلاف.
وبهذا يحتفظ كل طرف من الأطراف المتحاربة بكرامته؛ فيسهل الصلح وتسلم الأرواح والنفوس.
وكذلك إن لجأ واحد من المتحاربين إلى المكان أو الأماكن التي يحرم الله فيها القتال، أمن على نفسه، وفي هذا منع للشر أن يستمر، وصون للنفوس من المهانة والذلة والانكسار أمام الغير؛ لذلك أراد الله أن يوضح لنا: أنا خالقكم، وأنا الرحيم بكم، وسأجعل لكم من الزمان زماناً أحرم فيه القتال، وأجعل مكاناً مَنْ دخله كان آمناً، فاستتروا وراء ذلك وكُفُّوا عن القتال.
وهذه هي بعض من رحمة الله، يعطي بها سبحانه للناس فرص الحياة، وهذا من عطاءات الربوبية، وعطاء الربوبية من الله هو لخلقه جميعاً، المؤمن منهم والكافر، والطائع والعاصي، وكل نعم الكون من عطاءات ربوبية الله.
إن عطاءات الله سبحانه لا تفرق بين المؤمن والكافر، فالأرض مثلاً لا تعطي الزرع للطائع وتمنعه عن العاصي، والشمس لا تضيء وتسقط دفئها وحرارتها للمؤمن دون الكافر؛ فَنِعَمُ الكون المادية كلها من عطاء ربوبية الله سبحانه وتعالى لخلقه.
وأراد الحق برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشيع اصطفاء المكان والزمان لكل الزمان والمكان.
والشهور والأزمان عند الله هي اثنا عشر شهراً، وما دام قد قال: ﴿عِندَ الله﴾، فهناك «عند» غير الله؛ وهناك «عند» الناس.
وأوضح سبحانه لخلقه: قَدِّروا أزمانكم بمصالحكم، وهذا ما يحدث في الواقع المعاش.. إنك تجد من يزرع حسب التقويم القبطي، حيث تكون شهور الصيف فيه ثابتة، وكذلك شهور الشتاء والربيع والخريف؛ لأن التقويم القبطي قائم على التقويم الشمسي.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد للقيم أزماناً مخصوصة؛ لذلك قال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ وأوضح سبحانه: لا تجعلوا زمن القيم كالأزمان التي تجعلونها لمصالحكم.
وأراد الله سبحانه أن تعم القِيمَ كل الزمن، ولا تكون مقصورة على أزمان معينة، ولذلك اختار سبحانه أزماناً للصلاة مثلاً، فصلاة الصبح لها قوت، وصلاة الظهر لها وقت، والعصر لها وقت، والمغرب لها وقت، والعشاء لها وقت. ولكن أوقات الصلاة رغم أنها محدودة فهي تشمل
ونأتي بعد ذلك إلى اختيار الله ليوم وقفة عرفات، ولشهر الصوم وغير ذلك من الأوقات، فشهر رمضان يأتي مرة في الصيف، كما يأتي في الشتاء وفي الربيع، وفي الخريف. كذلك الحج يأتي في فصول السنة المختلفة. وهكذا شاء عدل الله أن تكون الأيام المفضلة عنده مُوزَّعة على الزمن كله. وجعل الحق سبحانه وحدة الزمن هي اليوم، واليوم يتكون من الليل والنهار، والأيام وحدتها الشهر، والشهور وحدتها العام، وجعل من مهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم، ومن مهمة القمر أن يحدد لنا الشهر؛ فهو في أول الشهر هلال، ثم تربيع أول وتربيع ثانٍ فبدْر إلى آخره. إذن فالقمر هو الذي يحدد بداية الشهر ونهايته.
ولقد حدد الحق سبحانه شهور العام، فقال:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾ وقال: ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾.
ولكن لماذا لم يجعل الحق الأشهر سلاماً؟ نقول: إن الحق في تشريعه أراد أن يسود السلام، ولكن الحرب أيضاً قد تكون سبباً لتحقيق
وكذلك لو أن الحق قد جعل العام كله أياماً حُرُماً لأذلَّ الكفار والمشركون المؤمنين؛ لأن الكفار والمشركين سيعصون الله ويحاربون، والمؤمنون ملتزمون بأمر الله، فكأن الله قد فرض العبودية على المؤمن به. وأعطى السيادة لغير المؤمن. ثم إن قوى الخير والشر تتصارع في هذا الكون، وقوى الحق والباطل تتقاتل، ولا بد من وقفة للحق أمام الباطل، ولذلك أباح الحق في الأشهر الحرم القتال، حتى إذا استشرى الباطل تصدى له الحق بالقوة، ولذلك قال شوقي:
الحرْبُ في حَقٍّ لَديْكَ شريعةٌ | ومِنَ السُّمُومِ النَّافِعَاتِ دَوَاءُ |
ولقد أوجد سبحانه في الكون سُنَّة، هي أنه إذا ما التقى حق وباطل في المعركة فالباطل ينهزم في وقت قصير. وإن رأيت معركة تطول سنوات طويلة فاعرف أنه بين باطل وباطل، وإذا قامت الحرب بين وباطل فإن السماء لا تتدخل، وأما إذا قامت المعركة بين حق وباطل فإن السماء تنصر الحق على الباطل. ولا تقوم معركة بين حَقَّيْن أبداً؛ لأن الحق
وحين شرع الله الأشهر الحرم، ضمن الناس مطلوبات السلام الدائم؛ لأن الناس تنهكهم الحرب ويحبون أن يرتاحوا منها، فإذا جاءت الأشهر الحرم كانت فرصة للناس ليوقفوا الحرب، دون أن يشعر أحدهم بالذل والهوان والهزيمة. ونحن نلجأ إلى ذلك أحياناً، فإذا كنا في بيت يسكنه عدد من الناس - كما يحدث في الريف - وسُرِق شيء ثمين من هذا البيت، والسارق من السكان ونريد منه أن يعيده دون أن ينكشف أمره فهم يحددون مكاناً معيناً، وكل واحد من سكان البيت يأتي ليلاً ويضع حفنة من التراب في هذا المكان، لعل السارق يضع ما سرقه دون أن يعرفه أحد، وفي هذا ستر له فلا ينفضح أمام الناس.
والأشهر الحرم فرصة للسلام دون أن ينفضح أحد من الأطراف المتحاربة أمام الناس بأنه ضعيف أو غير قادر على الاستمرار في الحرب، وتتوقف خلالها الحرب وقد ستر الله كل أطرافها، وتقوى خلالها فرص أكبر للسلام والصلح، وبذلك تكون فرص السلام أكبر من فرص الحرب بكثير.
ولكن ماذا يحدث عندما يعتدي عصاة غير مطيعين لله على المؤمنين في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها؟ إن الحق سبحانه لا يعني بتشريعاته أبداً أن تكون مصدر إذلال للمؤمنين وإعزاز للكافرين؛ ولذلك ينبهنا إلى أننا يجب ألا نسمح لأعداء الله بأن يستغلوا حرمة الأشهر الحرم ليتمادوا
وهكذا أباح الله القتال في الشهر الحرام ليدافع المؤمنون فيه عن أنفسهم إذا بدأهم الكفار بالقتال، وأباح الحق سبحانه أيضاً القتال في المسجد الحرام إذا قام الكفار بقتال المؤمنين فيه، رغم أننا نعلم أن تحريم القتال في المسجد الحرام هو تحريم دائم، ولكن الحق سبحانه وضع استثناء فقال: ﴿وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين﴾ [البقرة: ١٩١].
وهكذا جاء التقنين الإلهي ليحمي المؤمنين من طغيان الكافرين، فالمؤمنون يلتزمون بعدم القتال في الأشهر الحرم كما أمر الله؛ بشرط التزام الطرف الآخر الذي يقاتلهم، فإن لم يلتزم الكفار بهذا التحريم، فسبحانه لا يترك المؤمنين للهزيمة، وهكذا شاء الحق أن يضع التشريعات المناسبة لهذا الموقف. فإن احترمها الطرفان كان بها، أما إن خالفها الكفار فقد سمح الله للمؤمنين بالقتال.
وهنا يقول سبحانه:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله﴾ والكتاب يطلق على الشيء المكتوب المدوَّن، ولا يُدوَّن الكلام إلا إذا كانت له أهمية ما، أما الأحاديث التي تتم بين الناس فهم لا يكتبونها ولا تُدوَّن. بينما الكلام المهم وحده هو الذي يُكتب حتى يكون حجة في الاستشهاد به في حالة وجود خلاف.
إنه اللوح المحفوظ عند الله، والمهيمن على كل الكتب التي نزلت في مواكب الرسل، ويقصد بالكتاب - أيضاً - القرآن الكريم الذي نزلت فيه هذه الآية، وقد جاء القرآن جامعاً لمنهج الله بدءاً بآدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. وتغير في القرآن كثير من الأحكام الموجودة في الرسالات السابقة، أما العقائد فهي واحدة. كما أن القرآن قد تضمن الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت نزوله، والمثال هو قوله الحق: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج... ﴾ [البقرة: ١٨٩].
وأيضاً يقول الحق سبحانه: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب... ﴾ [يونس: ٥].
فكأنه ربط السنين والحساب بالقمر، وهذا الحساب هو من ضمن إعجازات الأداء البياني في القرآن؛ لأن العالم قد بحث عن أدق حساب للزمن، فلم يجد أدق من حساب القمر، وكل الأحياء المائية تعتمد في حسابها على الحساب القمري، والله سبحانه يريد منا حين نقرأ كتاباً أن نتمعن في وضع الألفاظ في موضعها.
فيقول سبحانه:
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض﴾ وبعد ذلك يأتي باستثناء هو: ﴿مِنْهَآ﴾ أي من الاثني عشر شهراً ﴿أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الله: «فيها» بدلاً من ﴿فِيهِنَّ﴾ ما دام قد قال من قبل: ﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ ؟
أما إن قلت: «مسلم» فجمعها «مسلمون»، وهنا تضيف «واواً ونوناً»، ولكن كلمة «مسلم» صحيحة، أي أننا لم نكسر المفرد. ولكن إن قلت: «سفينة» وجمعها «سفن» تكون قد كسرت المفرد.
وقول الحق هنا: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله﴾ فما دام العدد هو اثنا عشر شهراً تكون قد زادت عن جمع القلة؛ لأن جمع القلة من ثلاثة إلى عشرة، وجمع القلة يعاملونه معاملة الجماعة. وإن زاد على عشرة يعاملونه معاملة المفرد المؤنث، مثل وضع الشهور الأربعة المحرمة في كتاب الله، ولذلك قال: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ وجاء هنا ب «نون النسوة» للجمع. والقاعدة - كما قلنا - إن جمع القلة يعامل معاملة الجماعة، فإن كان جمع كثرة عومل معاملة المفرد المؤنث؛ لأن الفرد يكون معصوماً بالجماعة، أي أنه بمفرده ضعيف. فإن وجد جماعة ينتمي إليها فهو يُحِسُّ بالقوة.
إذن: فالفرد يعصم بالجماعة، وبهذا تعامل الحماعة كلها كهيئة واحدة، وهناك شاعر يستهزىء بقوة جماعة ما، فيقول:
لاَ أُبَالِي بِجمْعِهِنَّ فَجَمْ | عُهُنَّ كُلُّ جَمْعٍ مُؤنَّثٍ |
وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري | أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ |
وقوله تعالى: ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ أي: أنهم كانوا سيُحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين ويُفرِّقونهم، وسيتغلغلون بينهم للإفسَاد؛ لأن الخلال هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين، فيدخل واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد، وآخر يفسد فريقاً آخر، وهكذا يمشون خلال المؤمنين ليفرقوا بينهم.
ولكن التساؤل: هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم؟ هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين ليبلبلوا أفكارهم. ونقول: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وعندما تسمع كلمة «فيكُم» اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر من القرآن ما يوضح لنا الظرف والمطروف، قال الحق: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١].
هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع؟ وإن كان أهل اللغة قد قالوا: إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض. فإننا لا نرضى هذا الجواب؛ لأننا إن رضيناه في أساليب البشر، لا يمكن أن نقبله في أساليب كلام الله؛ لأن هناك معنى «في» الظرفية؛ ومعنى آخر في استخدام حرف «على». ولو قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ معناه: أن
لكن إذا قلنا: على جذوع النخل لكان المعنى أخفَّ، ولكان الصَّلْب أقل قسوة، فكأن القرآن الكريم قد استعمل ما يعطينا دقة المعنى. بحيث إذا تغيَّر حرف اختل المعنى. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٣].
أي: أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة، إذن: فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح من الأعمال لم نكن في المغفرة، وعندما نسارع نصل إليها.
ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضاً: ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ [الأنبياء: ٩٠]
ولم يقل: يسارعون إلى الخيرات؛ لأن عملهم الآن خير، وهم سيسارعون فيه؛ أي سيزيدونه؛ إذن: إنْ سارعتَ إلى شيء كأنه لم يكن في بالك، ولكنك ستسرع إليه، ولكن سارعتَ في الخير، فكأنك في الخير أولاً ثم تزيد في فعل الخير.
وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه: ﴿ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ﴾ نجد أن «أوضع» تعنى: أسرع بدرجة بين الإبطاء والسرعة، فيقال: «أوضعت الدابة؛ أي مشتْ بخُطىً غير بطيئة وغير سريعة في نفس الوقت، ولو نظرتَ إلى
ولكن ما هدف هؤلاء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين؟ ويُفرِّقوهم جماعات؟ الهدف: أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم، ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾ أي: يطلبون لكم الفتنة؛ لأن الإنسان الشرير حين يرى خيراً يقوم به غيره، يجد الملكات الإيمانية في أعماقه تصيبه بنوع من احتقار النفس، فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو أن يستهزئ به، وهذا أوضح ما يكون في مجالس الخمر، حين يحس الجالسون في هذه المجالس بالذنب الشديد؛ إن وُجِدَ بينهم إنسان لا يشرب الخمر، فتجدهم يحاولون أن يُغْروه بكل طريقه؛ لكي يرتكب نفس الإثم، فإذا رفض أخذوا يُعيِّرونه ويستهزئون به، ويسخرون منه، ويدَّعون أنه لم يبلغ مبلغ الرجال، وغير ذلك من أساليب السخرية. وأيضاً تجذ الكذاب يحاول دفع الناس إلى الكذب، والسارق يغري الناس بالسرقة، والمرتشي يحاول نشرة الرشوة بين جميع زملائه، فإذا وُجِدَ إنسان نزيه وسط هؤلاء الذين يرتكبون هذه الألوان من السلوك السيء؛ فهم يضطهدونه ويسخرون منه.
وهذه الآيات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعمُّ الفساد في الأرض، فالذين سخروا من المؤمنين يضحكون ضحكات ستزول حَتْماً طال الوقت أو قَصُر يتبعها عذاب في الآخرة، أما أهل الإيمان فهم يخشون الله في الدنيا؛ فيثيبهم الله في الآخرة، ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة.
إذن: فقوله تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾ أي: إنهم من فَرْط حقدهم عليكم وعلى أيمانكم، يحاولون أن يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم، تماماً كأنماط السلوك التي بيَّناها من قبل.
ثم يبيِّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف الإيماني لن يكون في مَنَعة مما كان سيفعله هؤلاء المنافقون، فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين، ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم، ويقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ وسمعتُ لفلان، أي: سمعتْ أذني ما
إذن: فاللام تأتي بالمعنيين، فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلاء المنافقين إليهم أخبار المؤمنين ويعملون لحسابهم، وهناك من المؤمنين مَنْ سيسمع لهم أولاً، فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل أخبار المؤمنين إليهم، وهكذا جاءت «اللام» فاصلة بين «سمعت له» أو «سمعت من غيره لصالحه» ويزيد الله سبحانه هذا الأمر إيضاحاً في قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً﴾ [النساء: ١٠٥]
فنجد السطحي التفكير يقول: إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين؛ خوفاً من ألاَّ يقدر عليهم، أو أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة. ونقول: إنك لم تفهم المعنى، فالمعنى الواضح هو: لا تكُنْ لصالح الخائنين خصيماً، أي: لا تترافع عن الخائنين أو تدافع عنهم.
وقوله تعالى ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ لأن الذي كان سيسمع، والذين سيسمع لصالحهم؛ كلاهما ظالم والله عليم بهم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدِ ابتغوا الفتنة..﴾
وقوله تعالى: ﴿ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ﴾ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دليل على تلك الوقائع السابقة. أما قوله تعالى ﴿وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور﴾. فالتقليب: هو جعل أسفل الشيء عاليه، وعاليه أسفله؛ حتى لا يستتر منه شيء. وهذا مظهر الفاكهة مُنْتقىً بعناية، فإذا اشتريتَ منه ملأ لك الكيس من الصنف الرديء الذي أخفاه أسفل القفص. وهكذا يأتي لك بالأسفل أو بالشيء الرديء المكشوف عورته. والذي لا يمكن أن تشتريه لو رأيته ويضعه لك.
وهكذا يفعل المنافقون حين يُقلِّبون الأمر على الوجوه المختلفة حتى يصادفوا ما يعطيهم أكبر الشر للمؤمنين دون أن يصابوا هم بشيء. والمثال الواضح: عندما تآمرت قريش على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاءوا من كل قبيلة بشاب ليضربوه ضرب رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل.
لكن الحق سبحانه يأتي إلى كل هذه الفتن ويجعلها لصالح المؤمنين، ولذلك يقول جل جلاله:
وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧١ - ١٧٣]
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ وهو قضية كونية عقدية، فإذا رأيتَ قوماً مؤمنين التحموا بقتال قَوم كافرين وانهزموا، فاعلم أنهم ليسوا من جنود الله حقّا، وأن شرطاً من شروط الجندية لله قد اختل. ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا أولاً.
فمثلاً في غزو أُحد، عندما طلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الرماة ألا يتركوا أماكنهم فخالفوه، هنا اختل شرط من شروط الجندية لله وهو طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فماذا كان يحدث للإسلام لو أن هؤلاء الرماة خالفوا رسول الله وانتصروا؟ لو حدث ذلك لَهانَتْ أوامر الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على المؤمنين.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ [آل عمران: ١٤٦ - ١٤٧]
إذن: فأول شيء فعله هؤلاء المقاتلون؛ أنهم عرفوا أن الذنوب يمكن أن تأتي إليهم بالهزيمة، فاستغفروا الله وتابوا إليه وحاربوا فنصرهم الله، وإذا حدث لهم ولم ينتصر المؤمنون؛ فمعنى هذا أن هناك خللاً في إيمانهم؛ لأن الله لا يترك قضية قرآنية لتأتي حادثة كونية فتكذبها.
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي﴾
وكان الجد بن قيس - وهو من الأنصار - قد جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ائذن لي ولا تفتني؛ لأن رسول الله إن لم يأذن له فسيقع في فتنة مخالفة أوامر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن هذا الأنصاري لم يكن له جَلَدٌ على الحرب وشدائدها. وقيل: إنه كان على وَلَع بحب النساء وسمع عن جمال بنات الروم، وخشي أن يُفتنَ بِهنَّ، خصوصاً أن المعركة ستدور على أرض الروم. ومن المتوقع أن يحصل المقاتلون على سبايا من بنات الروم.
وقوله تعالى: ﴿ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي﴾ أوقعه في الفتنة فعلاً؛ لذاك جاء قول الحق: ﴿أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ﴾. وكان هذا الأنصاري سميناً، وشكا من عدم قدرته على السفر الطويل والحر، فجاء الرد: إن كنتم من الحر والبرد تفرُّون فالنار أحقُّ بالفرار منها؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين﴾.
وفي آية أخرى قال سبحانه:
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ... ﴾
﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ﴾ والمقصود بالحسنة هنا هيك الانتصار في الحرب، والنصر في الحرب هو من وجهة نظر المنافقين ينحصر في حصول المؤمنين على الغنائم، وهذه مسألة تسوء المنافقين وتحزنهم؛ لأن الهمّ الأول للمنافقين هو الدنيا، وهم يريدون الحصول على أكبر نصيب منها. وبما أنهم لم يخرجوا للجهاد والتمسوا الأعذار غير الصحيحة للهروب من الحرب؛ لذلك فهم يحزنون إذا انتصر المؤمنون؛ لأنهم حينئذ لن يكون لهم حق في الغنائم. وفي هذه الحالة يقولون: يا ليتنا كنا معهم؛ إذن لأصبْنَا الغنائم وأخذنا منها.
﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾ وكأنهم قد احتاطوا قبل أن يبدأ القتال فلم يخرجوا، وهم كمنافقين يمكن أن يفرحوا؟ إنْ أصابت المسلمين كارثة أو مصيبة، وهي هنا الهزيمة في الحرب. وسيقولون: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ﴾ أي: قاموا بالاحتياط فلم يخرجوا للقتال، بينما لم يحتَطْ محمد وصَحْبُه وجيشه. ثم يديرون ظهورهم ليُخْفُوا فرحتهم.
وحين يقول الحق: ﴿إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ يوضح لنا أن أي نصر للإيمان يحزن المنافقين في نفوسهم، ويصير هذا القول قرآناً يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم، بالله لو لم تُحزنهم الحسنة التي ينالها المنافقين في نفوسهم، ويصير هذا القول قرآناً يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم، بالله لو لم تُحزنهم الحسنة التي ينالها المؤمنون، ألم يكن ذلك دافعاً لأن يقولوا: نحن لم نفرح ولم نحزن؟
بالله حين يفاجئهم القرآن بالكشف عن خبايا نفوسهم بالقرآن؛ ألم يكن ذلك داعياً لهدايتهم؟
لقد عرف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغيب الذي في قلوبهم وفضح ضمائرهم وسرائرهم بعد أن أطلعه الحق على ذلك. ومع هذا أضمروا النفاق في قلوبهم وانتظروا مَسَاءةً تَحل بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحبه.
إذن: فالمصائب نوعان؛ نوع لي فيه غريم، ونوع لا يوجد لي غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد، ويرغِّبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم، فيقول: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤]
وهنا ثلاث مراحل: الأولى كظم الغيظ، والثانية هي العفو، والثالثة هي أن تحسن؛ فترتقي إلى مقام من يحبهم الله وهم المحسنون.
أي: من صبر على ما أصابه، وغفر لغريمه وعدوه، فالصبر والمغفرة من الأمور التي تحتاج إلى عزم وقوة حتى يطوّع الإنسان نفسه على العفو وعدم الانتقام.
أما المصائب التي ليس للإنسان فيها غريم فهي لا تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس، وإنما تحتاج إلى صبر فقط، إذ لا حيلة للإنسان فيها. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من المصائب: ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [لقمان: ١٧]
لأن العزم المطلوب هنا أقل، ولذلك لم تستخدم «لام التوكيد» التي جاءت في قوله تعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣]
ولا بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال: ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين﴾ [آل عمران: ١٣٤]
هذه الآية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس، فالمطلوب أولاً أن يكظم الإنسان غيظه، أي أن الغيظ موجود في القلب، ويتجدد كلما رأى الإنسان غريمه أمامه، ويحتاج هذا من الإنسان أن يكظم غيظه كلما رآه، ثم يرتقي المؤمن في انفعاله الإيماني، فيأتي العفو، وهذه مرحلة ثانية وهي أن يُخرجَ الغيظ من قلبه، ويحل بدلاً منه العفو.
أي: أن هذا إحسان يحبه الله ويجزي عليه، وهو أن تحسن لمن أساء إليك، فتنال حب الله، وهذا من كمال الإيمان؛ لأن العبيد كلهم عيال الله، واضرب لنفسك المثل - ولله المثل الأعلى - هَبْ أنك دخلت البيت، ووجدت أحد أولادك قد ضرب الثاني، فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت؟ لا بد أن يكون قلبك مع المضروب، لذلك تُربِّتُ على كتفه وتصالحه، وقد تعطيه مالاً أو تشتري له شيئاً لترضيه، أي أنك تحسن إليه.
وما دمنا كلنا عيال الله، فإن اجترأ عبد على عبد فظلمه فالله يقف في صف المظلوم. إذن فمن أساء إليك إنما يجعل الله إلى جانبك. أفلا يستحق في هذه الحالة أن ترد له هذه التحية بالإحسان إليه؟
إن الولد الظالم يرى أخاه المظلوم وقد انتفع بعطف أبيه، وقد يحصل الابن المظلوم على شيء يريده، والظالم في هذه الحالة إنما يحلم أن يكون هو الذي حدث عليه الاعتداء ليحصل على بعض من الخير.
والحق هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوصينا حين تأتي المصائب أن نرد على الكافرين ونقول:
﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ وهكذا تُرَدُّ المسائل كلها إلى حكمة خالق الكون ومُدبِّر أمره؛ فقد يحدث لي شيء أكرهه؛ ولكنه في حقيقة الأمر يكون لصالحي، فإن ضربني أبي لأنني أهمل مذاكرتي، أيكون ذلك عقاباً لي أم لصالحي؟
ولله المثل الأعلى، فنحن نجد الأستاذ - وهو يأخذ الكراسات من التلاميذ ليصحح لهم أخطاءهم - يعاقب المخطئ منهم، وفي هذا تربية للتلاميذ.
إذن: إن رأيتم مصيبة قد نزلت بنا وظننتم أنها تسيئنا فاعلموا أننا نثق فيمن أجراها، وأنه أجراها لحكمة تأديبية لنا، وأن كل شيء مكتوب لنا لا علينا، الذي كتبه وهو الحق سبحانه وتعالى هو القائل: ﴿لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي... ﴾ [المجادلة: ٢١]
إذن: فنحن نعلم بإيماننا أن كل ما يصيبنا من الله هو الخير، وأن هناك أحداثاً تتم للتأديب والتهذيب والتربية، لنسير على المنهج الصحيح فلا نخرج عنه، فالإنسان لا يربي إلا من يحب، أما من لا يحب فهو لا يهتم بتربيته، فما بالنا بحب الخالق لنا؟ إن الأب إن دخل البيت ووجد في فنائه عدداً من الأولاد يلعبون الورق؛ وبينهم ابنه، فهو ينفعل على الابن، ولكن إن دخل البيت ووجد أولاد الجيران يلعبون الورق فقد لا يلتفت إليهم، فإذا أصابت المسلمين ما يعتبره المنافقون والكافرون مصيبة يفرحون بها، فهذا من غبائهم؛ لأن كل ما كتبه الله هو لصالح المؤمنين به، إما أدباً وإما ثواباً وإما ارتقاءً في الحياة، ولذلك فهو خير، ومن هنا كانت الآية
ثم يزيد الحق سبحانه وتعالى المعنى تأكيداً؛ فيقول سبحانه: ﴿هُوَ مَوْلاَنَا﴾ وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى أمور المؤمنين وهو ناصرهم، فالمولى الأعلى لا يسيء إلى مَنْ والاه، ثم يأتي الإيضاح كاملاً في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ ؛ لأن الله الذي آمنتَ به هو إله قادر حكيم، فإذا جرتْ عليك أمور فابحثها؛ إن كانت من فعل نفسك، هنا عليك أن تلوم نفسك، أما إن كانت من مجريات الله عليك، فلا بد أن تفهم أنها تحدث لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطي الكافر مقومات حياته، ولكنه يعطي المؤمن مقومات حياته المادية والقيمية معاً. وبهذا المفهوم نعرف أنه إن أصابنا شيء نكرهه، فليس معنى ذلك أن الله تخلى عنا، ولكنه يريد أن يؤدبنا أو يلفتنا لأمر ما، فإنه لو لم يؤدبنا أو يلفتنا لكان قد تخلى عنا حقاً.
والحق سبحانه وتعالى حين يخطئ المؤمن تجده سبحانه يلفته إلى خطئه، وفي هذه الحالة يعرف المؤمن أن الله لم يتركه؛ لذلك لا يقولن أحد: إن الله تخلى عنا، فهذا ضعف في الإيمان وبالتالي فإنه ضعف في التوكل. ولكن قل: إن الله حين يؤدبك فهو لا يتخلى عنك، فساعة تأتي المصيبة اعلم أنه لا يزال مولاك. وما دام مولاك يحاسبك على أي خطأ ويصوِّبه لك، فثِقْ به سبحانه وتوكل عليه.
وعلى سبيل المثال: لنفترض أن إنساناً اتكل عليك في أمر من الأمور، ثم أخطأتَ أنت في هذا الأمر، لا بد أن يأتي لينبهك إلى ما أخطأت فيه ويقترح عليك وسيلة لإصلاح الخطأ، وفي هذه الحالة ستجد نفسك ممتلئة
ولكن إياكم أن تنقلوا التوكل من القلوب إلى الجوارح. ولذلك يقال: الجوارح تعمل والقلوب تتوكل. فأنت تحرث الأرض وتضع فيها البذور وترويها، وهذا من عمل الجوارح لا بد أن تؤديه، وبعد ذلك تتوكل على الله وتأمل في محصول وفير ينبته الزرع، فلا تأتي آفة أو ظاهرة جوية مثل مطر غزير أو ريح شديدة؛ فتضيع كل ما عملته، وبعد إتقانك لعملك يأتي دعاؤك لله سبحانه وتعالى أن يحفظ لك نتائج عملك.
أما الذين لا يعملون بجوارحهم ويعلنون أنهم متوكلون على الله، فنقول لهم: أنتم كاذبون؛ لأن التوكل ليس من عمل الجوارح بل من عمل القلوب، فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل.
لكن على مَنْ نتوكل؟ إنك حين تتوكل على الحي الذي لا يموت، فلن يضيع عملك، أما إن اتكلت على إنسان مثلك حتى وإن كان ذا قوة، فقد تنقلب قوته ضعفاً، وقد يُكْرِهُك أو يُذِلُّكَ، وقد تصيبه كارثة فيموت.
ويُبلِّغ الحق سبحانه رسوله أن يرد على الذين يفرحون في مصائب المسلمين ليكشف لهم أن فرحهم بالمصيبة هو فرح أغبياء. فيأتي قوله الحق: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ... ﴾
وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول ﴿فتربصوا﴾ أي: تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتنا ونهايتكم. أما نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الآخرة. وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا، وأسباب الخير ممتنعة عنكم في الآخرة، ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم، وتربصكم لنا يجعلكم ترون الخير وهو يسعى إلينا، إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن.
وبعد أن بيَّن الله ذلك يطرأ على خاطر المؤمن سؤال: ألا يصدر من هؤلاء الأقوام فعل خير؟ وألا يأتي إليهم أدنى خير؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائماً على أدنى خير.
ونقول: إن الحق شاء أن يبين لنا بجسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بالله، وبيَّن أن كل كافر بالله لا يُقبل منه أي عمل طيب؛ لأن الكفر يُحبطُ أيَّ عمل، وإن كان لعملهم خير يفيد الناس، فالحق يجازيهم مادياً في الدنيا، ولكن ليس لهم في الآخرة إلا النار، ويقول:
لذلك ضرب الله مثلاً بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب﴾ [النور: ٣٩]
ويعطينا الله سبحانه مثلاً آخر في قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ [إبراهيم: ١٨]
ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠]
وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحق: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ [الزلزلة: ٧ - ٨]
هذا القول يوضح عطاء الآخرة، ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن لا يُجزى عليه في الآخرة؛ لأنه عَمِلَ وليس في باله الله، فكيف ينتظر جزاءه ممن لم يؤمن به؟
إن الله سبحانه يجزي مَنْ آمن به وعمل من أجله. ولكن من كفر بالله حبط كل عمله. وهذا أمر طبيعي؛ لأنك ما دُمْتَ قد عملت الخير وليس في بالك الله، فلا تنتظر جزاءً منه. إن عملتَ للإنسانية أعطتْك الإنسانية، وإن عملتَ للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا اسمك على الميادين والشوارع، وأقيمت باسمك المؤسسات، وتحقق لك الخلود في الدنيا، وهذا هو جزاؤك. ولكن إن كنت مؤمناً بالله، راجياً ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد الله ممدودة لك بالخير الذي قدمته.
ولا بد لنا أن نفرق بين «طوع» و «طائع»، وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين يحملك غيرك ويُكرهك أن تفعله.
والأفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالإرادة، وإما أن تكون بالإكراه. ولو كان الحق قد قال: أنفقوا، طاعة لما قال: ﴿لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ ؛ لأن الطاعة معناها انصياع عابد لإرادة معبود، ولكن قوله هنا: ﴿طَوْعاً﴾ يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم. وكانت أحوال المنافقين كذلك، فمنهم من قدم أولاده للجهاد، ومنهم من قدم بعضاً من ماله، وكانوا يفعلون ذلك طائعين لأنفسهم ويستترون بمثل هذه الأفعال حتى لا يفتضح نفاقهم، وكان الواحد يتقدم إلى الصف الأول من صفوف الصلاة في المسجد، ويفعل ذلك طوْعَ إرادته، خوفاً من افتضاح نفاقه لا طاعة لله، فطاعة الله هي طاعة عابد لمعبود، أما مثل تلك الأفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر وليست للعبادة.
﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ هل هذا أمر بالإنفاق؟ أو هل يريد منهم أن ينفقوا فعلاً، خاصة أنه سبحانه لن يتقبل منهم؟ لا ليس هذا أمراً بالإنفاق بل هو تهديد ووعيد. مثلما تقول لإنسان: اصبر، فذلك ليس أمراً بالصبر ولكن تهديد بمعنى: اصبر فَستَرى مني هولاً كثيراً. وهذا مثل قوله تعالى: ﴿فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ..﴾ [الطور: ١٦]
وقوله تعالى: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ..﴾ [فصلت: ٤٠]
وقوله تعالى: ﴿أَنفِقُواْ﴾ هو - إذن - أمر تمهيدي؛ لأنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعاً أو كرهاً.
وكلمة ﴿كَرْهاً﴾ وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة، فهي في سورة آل عمران، وفي سورة النساء، وفي سورة التوبة، وفي سورة الأحقاف، وفي سورة الرعد، وفي سورة فصلت، قد ذكرت ﴿كَرْهاً﴾ بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف. وقال البعض: إن «كَرْهاً» بفتح الكاف و «كُرْهاً» بضم الكاف بمعنى واحد. نقول لهم: لا، إن المعنى ليس واحداً، فمثلاً قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً... ﴾ [الأحقاف: ١٥]
فالكُره هنا ليس للحمل ولا للوضع، ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولادة. فلم يكرهها أحد على هذا الحمل. ولكن البعض يقول: إن الحمل يحدث وليس للمرأة علاج في أن تحمل ولا أن تضع، فلا توجد امرأة تقول لنفسها: «سوف أحمل الليلة» ؛ لأن الحمل يحدث دون أن تَعيَ هي حدوثه، فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة. والمرأة لا تستطيع أن تختار ساعة الحمل ولا أن تختار ساعة الولادة، ولا تستطيع أن تقول: سألد اليوم أو لن ألد اليوم.
فكل هذا
الحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ﴾ أي: لن يقبل الله منكم ما تنفقونه. ولكن ما الفرق؟ لقد كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منه ولم يرفضها أدباً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكل عمل يؤدى ثم يذهب إلى الرقيب الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى. ولكن حدث أن واحداً من هؤلاء هو ثعبلة طلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو له بالغنى، فلما دعا له ورزقه الله الرزق الوفير بَخِل عن الزكاة، وحاول أن يتهرب من دفعها؛ فنزل القول الكريم: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: ٧٥ - ٧٧]
ولكن هناك في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دفع الزكاة من المنافقين وقُبلَتْ منه، ولكن الله لم يتقبلها منه. إذن: فكل عمل قد يُقبل من فاعله، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد لا يتقبله. إذن فالآية معناها: أنه الله لن يتقبل من هؤلاء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله البشر.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول:
﴿إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ وكما قلنا: إن كلمة الفاسق مأخوذة من «فسقت الرُّطَبَة» أي انفصلت القشرة عن الثمرة. وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر. وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد أُخذت من الأمور الحسّية؛ ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع الإنسان من أن يخرج على حدود الله ويحفظه من المعصية، والإنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن سياجها.
فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يُعاقب على معصيته، أما إن كان الإنسان منافقاً بعيداً عن الإيمان بالله فطاعته لا تقبل. وهَبْ أن الإنسان مؤمن بالله ولكنه ضعيف أمام معصية ما، هنا نقول: لا شيء يجور على شيء، إن له ثوابَ إيمانه وعليه عقاب معصيته.
ونقول: لا فما دامت القمة سليمة؛ إيماناً بالله وإيماناً بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتصديقاً بالمنهج، فلكل عمل عبادي ثوابه، ولكل ذنب عقابه؛ لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان. فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها.
وقوله الحق هنا ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ﴾، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر، لا في خصوص الفسق، وحدد الحق ثلاث أشياء منعت التقبل منهم: الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى، ثم الإنفاق بكراهية.
وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك. وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضاً.
وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه. فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصاً آخر وأمسكتَ يده، وقلت له: سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفاً من رد الفعل. والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل؛ القوى يواجه قوياً، والكل خائف من رَدِّ فعل اعتدائه على الآخر. ولكن إذا واجه قوى ضعيفاً، تجد القوى يفتك بالضعيف.
وهكذا العالم كله، فالكون إما ساكن وإما متحرك. وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفاً من رد الفعل. وكذلك تجد العالم الساكن؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء
وقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ﴾ لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة، لا، فقد شهد المنافقون قولاً، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان؛ فالإيمان محله القلب، والمنافقون جمعوا بين لسان يشهد وقلب ينكر، فأعطاهم الرسول حق شهادة اللسان، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين، وكل ذلك احتراماً لكلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» التي نطقوا بها؛ ولأن باطنهم قبيح، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم، ويعاقبهم، فلا يأخذون ثواباً على ما يفعلونه ظاهراً وينكرونه باطناً. وهكذا كان التعامل معهم منطقياً ومناسباً. فما داموا قد أعطوا ظاهراً، فقد أعطاهم الله حقوقاً ظاهرة؛ ولأنهم لم يعطوا باطناً طيباً، فلم يُعْطِهم الله غيباً من ثوابه وغيباً من جنته وعاقبهم بناره.
ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصلاوة إِلاَّ وَهُمْ كسالى﴾ والكسل: هو التراخي في أداء المهمة. إذن فهم يصلون رياءً، فإن كانوا مع المؤمنين ونُودي للصلاة قاموا متثاقلين. وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة. إذن فسلكوهم مليء بالازدواج والتناقض.
والسبب الثالث: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك؛ سواء أكان ذلك مالاً أم علماً أم جاهاً
ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع؛ لأن الغني اليوم قد يكون فقيراً غداً، والقوى اليوم قد يكون ضعيفاً غداً، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار. وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل، فلا ينشغل الفقير خوفاً من الأحداث المتغيرة، وإن مات فلن يجوع عياله، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج.
إذن: فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة، وهي التي يتم فيها بيع كل من السلع وشراؤها. فمن أراد أن يبيع باع، ومن أراد أن يشتري اشترى، إذن فالحركة فيها متكافئة. وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري، فإما أن تأخذ مالاً نقدياً مقابل ما بِعْتَ، وإما أن تدفع مالاً ثمناً لما اشتريت. وقديماً كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى. وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن، ومن ينفق ماله ويقدمه عند الله، فالحق سبحانه يأني له بكل خير.
ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد. ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه. وقد يقول إنسان: إن الله قد قال: ﴿المال والبنون زِينَةُ الحياوة الدنيا..﴾ [الكهف: ٤٦]
ونقول لمن يقول ذلك: أكمل الآية: ﴿والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [الكهف: ٤٦]
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ..﴾ [التغابن: ١٥]
والله يخاطب رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين، وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ..﴾
والمال والولد في الحياة الدنيا قد يكونان سببين في أن يخاف الإنسان ترك الدنيا. فإن لم يكن لك إيمان بما عند الله في الآخرة، فقد تخاف أن يتركك المال أو الولد. والذي لا يؤمن باليوم الآخر؛ فالدنيا هي كل زمنه؛ وإن فاتها كان ذلك مصيبة له، وإن فاتته كان ذلك مصيبة عليه. وإن آمن الإنسان بالله واليوم الآخر لقال: لئن فاتتني الدنيا فلي عند الله خير منها. ويريد الحق سبحانه أن يمنع عن المؤمنين به فتنة النعمة التي تُلْهِي عن المنعم، فيقول سبحانه:
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ والآية الكريمة تدلُّنا على أن للمال وحده إعجاباً، وللأولاد وحدهم إعجاباً، فمن عنده مال معجب بما عنده. ومن ليس عنده مال وعنده أولاد معجب بهم أيضاً. فإذا اجتمع الاثنان معاً يكون الإعجاب أكبر وأشمل. والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم أن اجتماع المال والولد يجب ألا يثير الإعجاب في نفوسنا، بل إن سياق الآية يحذرنا من أن نعجب بمن عنده المال وحده، أو بمن عنده الأولاد وحدهم، لذلك كرر الحق سبحانه وتعالى كلمة: ﴿لا﴾ فقال: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾.
وأفهمنا الحق سبحانه وتعالى أنه إذا أمد الكافر أو المنافق بالمال والولد؛ فلذلك ليس رفعة من شأنه، وإنما ليعذبه بهما في الدنيا والآخرة. فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا﴾، واللام هنا في «لِيُعَذِّبَهُمْ» هي لام تدخل
وعندما نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... ﴾ [القصص: ٨]
هل التقط آل فرعون موسى عليه السلام ليكون لهم عدواً؟ أم ليكون قرة عين لهم؟
هم قد التقطوه ليكون قرة عين لهم، ولكن الذي حدث كان عكس ما قصدوه ساعةَ قيامهم بفعل الالتقاط، فبدلاً من أن يصبح موسى قرة عين، أصبح عدواً لفرعونن بل كان سبباً في زوال مُلْكه، إذن هذه هي لام العاقبة.
والله سبحانه وتعالى أعطى لبعض الكفار أموالاً وأولاداً، وهذا في ظاهره رفعة في الدنيا، ولكنهم بدلاً من أن يستخدموا هذه النعمة في التقرب إلى الله ألهتهم عن الإيمان بالله، ووصل بهم الأمر إلى أن يدخلهم الحق في العذاب. ولم يُرِد الحق العذاب لهم، ولكنهم بحركتهم وفتنتهم بالمال والولد استحقوا أن يدخلوا في العذاب. والعمل غير الشرعي في تنمية المال أو إرضاء الأولاد هو الذي أوصلهم إلى العذاب.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾ وأول ألوان العذاب: أن تلهيهم تلك النعمة عن المنعم. وتبعدهم عن منهج الله فيصيرون في عداء مع المؤمنين بمنهج الله، ويخافون إعلان هذا العداء؛ لذلك حينما كان يرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طلب واحد من المنافقين أو اليهود كانوا يرتعدون
وثانياً: كانوا يخافون من أن يدخل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حرب؛ لأنهم ما داموا قد أعلنوا الإيمان فهم مطالبون ببذل المال، وأن يذهب أولادهم الذين بلغوا سن القتال مع جيش المسلمين، وكانوا يقولون بينهم وبين أنفسهم: ما لنا نبذل المال ونضحي بالأولاد في سبيل ما لا نؤمن به. وهم بمشاعرهم تلك يختلفون عن مشاعر المؤمنين الذين يُلبُّون نداء رسول الله طمعاً في الجنة أو النصر. وهذا لون من ألوان العذاب.
وهناك لون آخر من العذاب: عندما يخرج هؤلاء المنافقون إلى إحدى الغزوات، فهم يخافون على أنفسهم من القتل أو الأذى بالأسر أو سبي النساء، فيكونون في عذاب نفسي طوال الرحلة إلى الغزوة وفي أثناء الحرب.
ولون ثالث من ألوان العذاب: أن عابد المال يجمع المال من حرام ومن حلال، لا يهمه من أين جاء المال؟ ولكن يهمه أن يأتي، والذي يكسب حلالاً يكون واضح الحركة في الحياة، والذي يكسب حراماً هو لص يخاف أن ينكشف أمام الناس، ويعيش في عذاب أليم دائم من أن يأتي يوم يكشف الله ستره فيعرف الناس أنه ارتشى، أو أنه اختلس، أو أنه زَوّرَ وَزيَّف. أو أنه فعل شيئاً يُحقّره في أعين الناس أو يُعرِّضه للعقوبة؛ كأن يكون قد تاجر في المخدرات أو في الأعراض. أو في غير ذلك، وخوفه من انكشاف أمره يجعله يعيش في عذاب دائم وصراع مستمر.
ولا تدخل من باب الشفقة، بل تظل تدور وتخطط لتجد منفذاً تدخل منه دون أن يراك أحد. وتضع خطة للسرقة. وتدخل المنزل على أطراف أصابعك وأنت ترتعد. فإذا شعرت وأنت تنفذ الخطة بصوت أقدام تنزعج وتجري لتختبئ وتأخذ الشيء وتكون حريصاً على إخفائه وإن رآه أحد عندك انزعجت، وكل هذا عذاب يمر به كل من يجمع المال الحرام، إذن فجمع المال الحرام عذاب.
وكل من يربي أولاده من مال حرام لا يبارك الله لهم فيهم، فإما أن ينشأ الواحد منهم عذاباً لأبيه في تربيته فيرسب في الامتحانات. ويُتلف المال في الإنفاق بلا وعي. فكلما أعطيته أكثر احتاج إلى المزيد من المال أكثر. ومثل هذا الابن لا يطيع أباه. ويكون العذاب الأكبر حينما ينشأ أحد أبناء هذا الإنسان ويكون الابن مؤمناً إيماناً صادقاً بالله، فيرفض أن يأكل أو يلبس من مال أبيه، أو أن يناقشه من أين جاء بهذا المال ويسمع منه ما يكره، ويتمرد دائماً عليه.
وفي عهد رسول الله صلى الله عليه سلم كان أبو عامر عدواً لله ورسوله. وكان ابنه حنظلة مؤمناً، وكلما رأى أبو عامر ابنه كان قلبه يغلي بالغيظ، وعندما نودي للقتال، وسمع حنظلة نداء الجهاد بعد أن فرغ من الاستمتاع مع زوجته فلم يصبر إلى أن يغتسل من الجنابة، بل سارع إلى الحرب
وقصة أخرى: سيدنا عبد الله بن عبد الله بي أبيّ؛ والده عبد الله بن أبيّ كان زعيم المنافقين في المدينة، وهو الذي انسحب يوم أحد ومعه ثلث المقاتلين من المعركة. ويسمع عبد الله أن صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يطلبون منه الإذن بقتل والده ابن أبيّ، انظروا إلى الإيمان. فها هو الابن يذهب إلى رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويقول له: يا رسول الله إن كنتَ آمراً
وعندما يسمع الأب أن ابنه يطلب أن يكون قاتله، أليس هذا عذاباً في قلبه؟ وهكذا نرى أن الأموال والأولاد الذين كان من المفروض أن يكونوا نعمة يصبحون نقمة، أليس هذا عذاباً في الدنيا؟
ولكن غير المؤمنين لا يلتفتون إلى واهب النعمة، ولا إلى الجزاء الذي ينتظرهم في الآخرة، ولا ينتبهون إلى حكمة الخلق التي تؤكد أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن الله قد أعدَّ الأرض بكل ما فيها من إمكانات ومن خيرات لتكون في خدمة هذا الخليفة، أي: أنه أقبل على عالم كامل من كل شيء؛ معداً له إعداداً فوق قدراته وطاقاته.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي: «خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له»
أي: لا تشتغل بالنعمة عن المنعم، تماماً كما يدخل الإنسان إلى وليمة كبيرة، فيجد المائدة مُعدَّة بكل ألوان الطعام، وصاحب المائدة واقف فلا يحييه ولا يسلم عيه ويذهب مباشرة إلى الطعام، فيُحسُّ الناس أن هذا الإنسان جاحد بكرم الضيافة. بينما نجد رجلاً آخر يدخل فيسلم على صاحب الوليمة ويشكره على كرمه ويشيد به، الأول: انشغل بالنعمة، والثاني: لم يُنْسه انشغاله بالنعمة أن يشكر مَنْ أعدها له.
ومثال آخر: إن الصحة هي من أثمن النعم. أما المرض فإنه أقسى ما يمكن أن يصاب به الإنسان؛ لأن الصحة هي التي تجعل الإنسان يتمتع بنعم الحياة، أما المرض فيحرمه هذه النعمة. ولذلك فعندما يمرض الإنسان
«عبدي فلان مرض فلم تَعُدْني. فيقول له: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له: أما علمْتَ أنك لو عُدته لوجدتني عنده»
قولوا لي بالله: أيضيق أي مريض عندما يعرف أن الصحة كانت نعمة من الله وفارقته، ولكن المرض جعله مع المنعم، وهو الله سبحانه وتعالى؟ لا، بل إن ذلك يخفف عنه وطأة المرض، ويجعله يشعر أن الأنْسَ بالله يخفف عنه الآلام. لكنك للأسف تجد الإنسان غير منطقي مع نفسه، فالعالم خُلق من أجل الإنسان. والإنسان خُلق ليعبد الله. ولكنك تجده لا يلتفت لما خُلق من أجله، بل يلتفت للأشياء التي خُلقت له. وقد كان من المنطقي أن ينشغل بما خُلق من أجله.
وإذا أخذنا مثلاً منطق الإنسان مع الزمن، نجد أن الزمن إما أن يكون حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً. فإذا أردنا أن نذهب إلى ما لا نهاية نقول: إن الزمن حاضر وأزلي وأبدي.
والأزلي: هو القديم بلا بداية. والأبد: هو المستقبل بلا نهاية. والحاضر: هو ما نعيش فيه.
والوجود الذي تراه أمامك خلقه الحق سبحانه واجبُ الوجود وبكلمة «كن» جاء كل «ممكن الوجود» ؛ لأن كل وجود يحتاج إلى مُوجد هو وجزد ممكن، وسيأتي له عدم. أما الوجود غير المحتاج إلى موجد فهو وجود
نأتي بعد ذلك إلى المخلوقات الممكنة، أي التي لها مُوجدٌ، وهي كل ما في الكون ما عدا الله سبحانه وتعالى، ومنها هذه الدنيا التي يعبدها بعض الناس من دون الله، هذه الدنيا ليس لها أزل ولا أبد، فالدنيا لم توجد إلا عندما خلق الله السماوات والأرض، أي ليس لها وجود بلا نهاية. ولكن كان وجودها ببداية. إذن فهي ليست أزلاً، وهي ليست أبداً لأنها تنتهي بيوم القيامة.
ولذلك لا يجتمع في قلب المؤمن حب الله وحب الدنيا؛ لأن الله أزل وأبد، والدنيا لا أزل ولا أبد، بل عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هي بمقدار عمره فيها. وقبل ميلاده لا علاقة له بها، وبعد الموت لا علاقة له بها. وحتى إذا أخذنا الدنيا غي عمومها فإن لها بداية ونهاية، فكيف يمكن أن يجتمع في قلب المؤمن حب من لا بداية له ولا نهاية، وحب من له بداية ونهاية؟ لا يجتمعان.
ولذلك قال شيخنا الزمخشري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما دام هذا الكون فيه وجود، يكون الوجود: إما واجباً، وإما ممكناً. والوجود الواجب لله وحده. والوجود الممكن هو كل ما عدا الله، ولا يوجد أزل ولا أبد إلا للحق سبحانه وتعالى.
إذن: فيبقى أن يكون الوجود له أبد وليس له أزل، أي: له بداية وليس له نهاية. ونقول: إن هذا يجتمع في اثنتين؛ الآخرة والإنسان؛ الإنسان له بداية وهي تاريخ خَلْقه، وليس له نهاية؛ لأنه بعد أن يموت يُبعَثُ مرة أخرى، إما أن يخلد في النعيم، وإما أن يُعذَّبَ قليلاً، ويدخل الجنة وإمّا يخلد - والعياذ بالله - في النار.
وكذلك الآخرة لم يأت زمنها بعد. إذن فهي لم تبدأ بعد، ولكنها متى بدأت فليس لها نهاية؛ لأن هناك حياة أبدية في الجنة أو في النار. إذن: فالإنسان والآخرة اشتركا في شيء واحد، ولا بد أن يربط الإنسان نفسه بالآخرة؛ فالذي يأخذ الدنيا إنما أخذ شيئاً له بداية ونهاية، ولكن الذي يطبق منهج الله ويعبده عن حب واختيار أخذ مَنْ لا بداية له ولا نهاية له.
والذي عمل للآخرة، عمل لما لا نهاية له أو للذي سيخلد فيه، وتكون فيه حياته الحقيقية.
ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].
نعرف أن الحياة الحقيقية هي في الآخرة وليست الدنيا؛ لأن الغايات في أي شيء يجب أن تكون متساوية، فمثلاً: إذا أردنا أن نصنع كُرْسياً. فالغرض من الكرسي أن نجلس عليه. إذن: فكل الكراسي مهما اختلَفت أشكالها وألوانها لها غاية واحدة وهي أن نجلس عليها. والإنسان غايته
وإذا استعرضنا كل ما في الدنيا فلا نجد شيئاً نتفق فيه إلا الموت، وفيما عدا ذلك فنحن نختلف. إذن فلا بد أن نلتفت في حياتنا الدنيا من أول يوم إلى أننا سوف نموت ونلقى الله، وعلينا أن نعد العدة لذلك، وكلنا سائرون إلى هذه النهاية.
والحق سبحانه وتعالى يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾ لم يقف عَزَّ وَجَلَّ عند هذا الحد، بل قال سبحانه: ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾
و ﴿تَزْهَقَ﴾ أي تخرج بصعوبة، لماذا؟ لأن عابد الدنيا عمل من أجلها فقط. ولم يعمل شيئاً من أجل الآخرة، فعندما يأتي له الموت، يجد أنه لم يقدم شيئاً لآخرته، وأن ما ينتظره هو العذاب، ولذلك يكره أن يترك نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة. أما صاحب الأعمال الطيبة عندما يأتي له الموت فهو يستبشر؛ لأن الذي ينتظره خير يفوق كل الذي سيتركه. كمثل إنسان يعيش في كوخ صغير ثم ينتقل إلى قصر فاخر، أإلا يكون سعيداً؟ وكذلك المؤمن عندما يأتيه الموت يصبح كالذي ينتقل من كوخ صغير إلى قصر فاخر. أما صاحب الدنيا فمثل الذي يؤخذ من قصر إلى نار محرقة، ولذلك فهو يكره ساعة الموت.
والمؤمن يفرح حين ينتقل من الدنيا الفانية إلى الحياة الخالدة الباقية، ومن النعمة إلى المنعم، ومن الحياة بالأسباب إلى الحياة مع المسبِّب، فنحن في الدنيا لا بد أن نأخذ بالأسباب إلى الحياة مع المسبِّب، فنحن في الدنيا لابد أن نأخذ بالأسباب لنصنع ما نريد، والمثال: أنك إنْ أردت أن تأكل فلا بد من أن تطهو الطعام أو أن يُعدّه لك غيرك، وإنْ أردتَ أن تلبس فلا بد لك ممن يصنع لك القماش ويحيك الثوب. ووراء كل نتيجة توجد سلسلة طويلة من الأسباب. فهناك الذي يزرع، والذي يحصد، والذي ينقل إلى المطحن أو إلى المصنع، والذي يطحن الدقيق أو ينسج القماش، أما في الاخرة فلا توجد أسباب، بل بمجرد أن يخطر الشيء على بالك تجده أمامك، أليست هذه حياةَ نعيمٍ؟
إذن: فالذي تنفرج أساريره ساعة الموت
وقد قيل للإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يا إمام، أريد أن أعرف نفسي أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام عليّ: الله أرحم من أن يجعل جواب هذا السؤال عندي وجعل السؤال عندك أنت، إن كنت تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يأخذ منك أكثر مما تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يعطيك هدية تكون من أهل الآخرة.
أي: إذا دخل عليك إنسان يطلب صدقة أو مالاً فاستقبلته بترحاب وتحية وتعطيه وأنت مسرور تكون من أهل الآخرة؛ لأنك تعرف أنه أخذ منك في الفانية ما يحمله لك أجراً في الآخرة التي تعمل من أجلها، ولذلك تحبه.
ويقال: إن فلاناً أحسن الله خاتمته لأنهم دخلوا عليه لحظة الموت فوجدوا وجهه أبيض وملامحه سمحة مستريحة. نقول: إن هذا صحيح، فهذه لحظة لا يكذب الإنسان فيها على نفسه. ونحن نعلم أن الإنسان حين يشتد عليه المرض فهو يتشبث بالأمل في أن ينال الشفاء على يد طبيب بارع. لكن الأمر يختلف ساعة الاحتضار حين يعلم الإنسان أن الموت يتخلله وأنه ميت لا محالة، مصداقاً لقول الحق سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم﴾ [الواقعة: ٨٣]
ويرى ما كان محجوباً عنه في الدنيا. حينئذ يستعرض أعماله. فإنْ رأى شريط الحياة حُلْواً منيراً، ابتسم وانفرجتْ أساريره فيُقبَضُ على هذا الوضع. أما من امتلأت حياته بالسوء والمعاصي فوجهه يسوَدّ وتنقبض أساريره فيُقبض على هذا الوضع. وهذا ما نسميه الخاتمة، فلحظة الاحتضار فيها يقين بالموت، تماماً كساعة الامتحان حيث تجد التلميذ الخائب مصفر الوجه مرتعداً ومتشنجاً، أما التلميذ المجتهد فيكون مُبتسماً مُنْفرجَ الأسارير.
وفي ساعة الاحتضار يخلو الذهن من أي شيء إلا صحيفة عمله، فهي التي تبقى وفي بؤرة شعوره، وبؤرة الشعور هي المكان الذي إن استقر فيه شيء فإنه لا يُنسَى أبداً. فإذا عرف طالب قبل الامتحان بفترة قصيرة،
إذن: فساعة الالتقاط هذه حيث لا شيء يشغل الذهن، تجد أن الشعور لا يتسع إلا لخاطر واحد، فلا يأتي خاطر إليها إلا إذا تزحزح الخاطر الأول عنها.
ولذلك إذا سمعتَ شيئاً وحفظتَهُ من أول مرة، فهذا دليل على أن بؤرة شعورك كانت خالية ومستعدة ساعة التقاط هذا الشيء. كذلك عند الموت ساعة الاحتضار لا يجد الميت في بؤرة شعوره خاطراً آخر يناقض أو يزاحم أمر الآخرة، فإن كانت حياته خيِّرة أشرق وجهه وانفرجت أساريره، وإن كانت حياته سيئة انقبضت أساريره واسودَّ وجهه والعياذ بالله.
وقوله تعالى: ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ يعطينا معنيين: المعنى الأول: أن النعمة تظل معهم تلهيهم عن الله حتى تأتي ساعة الموت. والمعنى الثاني: أن ساعة الموت تكون شاقة وصعبة على الكافر والمنافق؛ لأنه يترك الأموال والأولاد ويذهب إلى العذاب.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ... ﴾
ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار؟
إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءاً بالغضب عليهم، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم، فيبدأون كلامهم بالحلف حتى يصدِّقهم المؤمنون، والمؤمنون قد متَّعهم الله بمناعة إيمانية، في صدورهم؛ فلا يصدقون ما يقوله المنافقون، حتى يأخذوا حِذْرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا.
ولو لم يُعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدَّقوا قول المنافقين بقداسة اليمين. وبماذا حلف المنافقون؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق.
وما داموا على غير يقين وغير صدق، فلماذا يحلفون؟ نقول: إن هذا هو تناقض الذات، وأنت تجد المؤمن غيرَ متناقض مع نفسه؛ لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته، ومؤمن بجوارحه، ولا توجد مَلَكَاتٌ تتناقض فيه،
أما المنافق فتتناقض ملكاته. فهو يقول بلسانه: «أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله». لكن قلبه يناقض ما يقوله، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله، ولا يصدق رسالة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة «المنافقون» :﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله، وهو أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول الله؟ نقول: إن الحق أراد أن يفضحهم، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة. وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب؛ لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم.
إذن: فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه، وهو شر من الكافر؛ لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه. أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر، وقدرته على الغَدْرِ أشد. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار..﴾ [النساء: ١٤٥]
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا علَى الحرِّ أنْ يَرَى | عَدوّا له مَا مِنْ صَداقتِه بُدُّ |
عَلَى الذَّمِّ بِتْناَ مُجْمِعينَ وحالُنَا | مِنَ الخوْفِ حَالُ المجْمِعين عَلىَ الحمْدِ |
كَفَانَا هَواناً مِنْ تناقُضِ ذَاتِنا | متى تَصْدُق الأقوالُ بالألسُنِ الخُوَّفِ |
ويكمل الحق سبحانه وتعالى الصورة بقوله:
﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ والفَرَق معناه: الخوف، أي أنهم في فزع دائم، ويخافون أن يُفتضَحَ أمرهم فيعزلهم مجتمع الإسلام ويحاربهم محاربته للكفار. ويشرِّدهم ويأخذ
وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقوله أهل النفاق، حتى وإنْ بَدا القول على ألسنتهم جميلاً.
ثم يقول الحق جل وعلا: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً..﴾
إن هذه الحالة هي عكس حالة المؤمن الذي يعيش حياة منسجمة؛ لأن ما في قلبه هو ما يحكيه لسانه، فضلاً عن انسجامه بالإيمان مع الكون الذي يعيش فيه، وكذلك فحالة المنافق تختلف عن حالة الكفر، فالكافر قد أعلن الكفر الذي في قلبه بلسانه. أما المنافق فله قلب يكفر ولسان ينطق كذباً بالإيمان. ولذلك فهو في تعب مستمر من أن ينكشف أمره، أو يعرف المؤمنون ما في قلبه؛ لأنه يُكِنّ الحقد لمنهج الله وإن كان يعلن الحب ظاهراً.
والإنسان إذا اضطر أن يمدح من يعاديه وأن يتظاهر له بالحب، فإن هذا السلوك يمثل ثقلاً نفسياً رهيباً يحمله على ظهره، وهكذا نرى أن المنافقين يُتعبون أنفسهم قبل أن يُتعبوا المجتمع، تماماً كالرجل البخيل الذي يتظاهر بأنه كريم، وكلما أنفق قرشاً ليؤكد هذا التظاهر فإن هذا القرش يذبحه في نفسه ويسبب له آلاماً رهيبة. وحتى يرتاح الإنسان مع الدنيا لا بد أن يرتاح مع نفسه أولاً ويتوافق مع نفسه.
ومن هنا نجد المنافقين حين يريدون أن يُنفِّثوا عما في صدورهم، فهم يَختَلُّون ببعضهم بعضاً بعيداً عن أعين وآذان المسلمين؛ ليُظهروا ما في نفوسهم من حقد وغِلّ وكراهية لهذا الدين، ويبحثون عن ملجأ يكونون آمنين فيه، أو مغارة في الجبل بعيداً عن الناس حتى لا يسمعهم أحد،
﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مغارات أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ و ﴿وَلَّوْاْ﴾ أي: انطلقوا إليه وقد شغلهم الإسراع للذهاب إلى المكان عن أي شيء آخر، ﴿وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ والجماح هو أن تفقد السيطرة على الفرس الذي تركبه، فلا تقدر على كَبْح جماحه أو التحكم فيه، فينطلق بسرعة، وحين يقال هذا عن الإنسان فهو يعني الانطلاق بسرعة إلى المكان الذي يقصد إليه ولا يستطيع أحدٌ منعه، وإنْ تعرض له أحد دفعه بعيداً لينطلق في طريقه بسرعة.
والآية هنا تعطينا صورة دقيقة لحالة المنافقين في أي معركة. فبمجرد بَدْءِ القتال تجدهم لا يتجهون إلى الحرب، ولا إلى منازلة العدو، ولا يطلبون الاستشهاد، ولكنهم في هذه اللحظة التي يبدأ فيها القتال يبحثون عن مكان آمن يهربون إليه، أو مغارة يختبئون فيها، أو مُدَّخل في الأرض ينحشرون فيه بصعوبة ليحميهم من القتال. فإذا انتهت المعركة خرجوا لينضموا إلى صفوف المسلمين، ذلك أنهم لا يؤمنون. فكيف يقاتلون في سبيل دين لا يؤمنون به؟ ولذلك كنت تجدهم في المدينة إذا نودي للجهاد فهم أول من يحاول الهروب ويذهبون للقاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طالبين التخلف عن المعركة، ويقول الواحد منهم: ﴿ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي... ﴾ [التوبة: ٤٩]
هذه بعض صفات المنافقين التي يفضحهم الله بها بكشفها للمؤمنين. وقد جاء الحق سبحانه لنا بمزيد من الكشف لقبائحهم وفضائحهم. فقال فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [التوبة: ٥٨]
كلنا أيضاً نقرأ قول الله سبحانه: ﴿ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: ١]
فما هي الهُمَزة وما هي اللُّمَزة؟
أما اللُّمَزة العيَّابون في غيرهم في حضورهم. فهناك القوي الذي يكشف العيوبَ بشجاعة وصراحة وهو اللَّماز، أما الضعيف فهو يعيب خفية وهو الهمَّاز. واللمزة تطلق على من يعيب كثيراً في الناس.
وهمزة لمزة، من صيغة المبالغة «فُعَلَة» وتدل على كثرة فعل الشيء. فتقول «فلان أكَلة» - بضمة على الألف - أي: يأكل كثيراً. وفلان ضُحَكة - بضمة على الضاد - أي: كثير الضحك.
إذن: فاللّمزة هي كثرة العيب في الغير، وهي تدل على ضعف من يقول بها، ولو لم يكن ضعيفاً لقال ما يريد بصراحة.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات﴾ واللمز كما عرفنا هو البحث عن العيب، وهو هنا مظروف في شيء هو الصدقات. وكان بعض من المنافقين يغتابون تشريع الصدقة، وكانوا يعيبون أن يتعب الغني ويشقى في الحصول على المال ثم يأخذ الفقير المال بلا تعب، فهل يعيبون التشريع نفسه؟ أم يعيبون كمية الصدقات المفروضة عليهم ويرونها كثيرة؟ أم يعيبون حثَّ الله للناس على الصدقة؟ أم يعيبون الطريقة التي يتم
إذن: فاللمز إما أن يكون في التشريع، وإما أن يكون في كمية الصدقات أو في طريقة الصرف، والحادثة التي وقعت ونزلت فيها هذه الآية الكريمة كانت في مصارف الصدقة، فقد قام حرقوص بن زهير، وهو رأس الخوارج، وهو ابن ذي الخويصرة، وقال: اعدل يا محمد.
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ويلك! ومَنْ يعدل إنْ لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يا رسول الله إئذن لي فيه أضرب عنقه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«دعه، فإنه له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم. يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. يُنظَر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنْظر إلى نَضيِّه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء. سبق الفرْثَ والدم. آيتُهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة. أو مثل البضعة تَدرْدَرُ، يخرجون على حين فُرْقة من الناس»
ويقول الحق سبحانه موضحاً حال هؤلاء ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ أي: أن هؤلاء الناس إن أعْطوا من الصدقة كانوا راضين مهلِّلين، وإن لم يُعْطَوْا منها ملأ قلوبهم السخط، وبدأوا باللَّمْز. إذن: فالكمية المعطاة لهم من الصدقة كانت هي أساس اللمز.
ومثل هذا قد حدث في غزوة حنين. فقد وزع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم على قريش وأهل مكة، ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً.
فلما لم يُدخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأنصار في هذه القسمة، استاء بعضهم من ذلك، فجمعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لهم:
«ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون أنتم برسول الله؟ المحيا محياكم والممات مماتكم، ولو سلك الناس شِعْباً وسلك الأنصار شِعْباً لسلكتُ شِعْبَ الأنصار» وهنا بكى الأنصار، وعرفوا أنهم سيعودون بما هو أكبر كثيراً من الغنائم؛ سيعودون بصحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقد يعطي رسول الله صلى الله عليه حَديثَ عَهْدٍ بالإسلام شيئاً من الصدقة ليربطه بهذا الدين، وقد يعطى لتأليف القلوب، وقد يعطي لفقير تأبى عزة نفسه أن يعترف أمام الناس بحاجته.
ففي الحديبية مثلاً حيث حدث عهد بين رسول الله صلى الله عليه وبين كفار قريش بألا يتعرض أحد منهم للآخر مدة عشرة أعوام، هذا الصلح أثار غضب عدد من المؤمنين وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنرضى بالدنية في ديننا؟ أي: كيف نعطيهم هذه العهود وهي مجحفة بالنسبة لنا؟ حتى إن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه انفعل وأراد أن يقسو في الكلام وقال لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ألستَ على حق يا رسول الله؟ فقال أبو بكر: الزم غرزك يا عمر - أي اعرف مكانك - إنه رسول الله. وبعد أن مرت فترة من الزمن وعرف المسلمون الحكمة من صلح الحديبية، وما أتاحه هذا الصلح للإسلام من انتشار وقوة أدت إلى فتح مكة، قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ما كان نصر في الإسلام أعظم من نصر الحديبية.
وقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يُهدِّئ نفوس المؤمنين، وقبل أن يصلوا إلى المدينة عائدين بعد صلح الحديبية، نزل قوله تعالى: ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٥]
وهكذا أطلع الله المؤمنين على عِلَّة قبول صلح الحديبية وعدم القتال مع المشركين في هذا الوقت وذلك المكان، فقد كان هناك مؤمنون في مكة يكتمون إيمانهم ويعيشون في مجتمع المشركين الذين يمكنهم البطش بهؤلاء المسلمين لو علموا بوجودهم. كما أن المسلمين القادمين مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعرفون هؤلاء المؤمنين، فإذا قامت المعركة فقد يقتل المسلم مسلماً، لأن الذين قدموا من المدينة لو دخلوا مع أهل مكة في قتال فقد يقتلون بعضاً من إخوانهم في الإيمان الموجودين في مكة، فهم لا يعرفونهم. ولو كان المؤمنون في ناحية والكفار في ناحية لعذَّب الحقُّ الكفار بأيدي المؤمنين عذاباً أليماً.
إذن: فقد علم رسول الله من ربه سراً ولم يُعْلِنْه إلا لوقته، رغم تعجُّل من كانوا معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وحين تدعو الله ولا يجيب دعاءك، فَثِقْ أنه سبحانه يحميك من نفسك؛ لأنك لا تعلم والله سبحانه وتعالى يعلَم. فقد تدعو بشيء تحسبُه خيراً والله سبحانك يعلم أنه شر. إذن: فعدم إجابة هذه الدعوة هو عين الإجابة لها.
الحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾
والسخط هو: عدم الرضا في القلب، ثم يتعدى ذلك إلى اللسان، مثلما قال حرقوص بن زهير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اعدل يا محمد. أي: أنه سخط بقلبه أولاً، ثم أساء بلسانه ثانياً.
وساعة يعرض الحق سبحانه لنا الداء في المجتمع الإيماني فهو جل وعلا يعطي الدواء الذي يحمي المجتمع من هذا الداء، وهؤلاء الناس كانوا
ولكن هؤلاء الناس تختلف انفعالاتهم باختلاف مصلحتهم، إذا أَخَذُوا رضُوا، وإذا مُنِعُوا سخِطوا؛ لأن ميزانهم هو المصلحة الخاصة البعيدة عن كل عدل.
وهنا يأتي الحق سبحانه وتعالى بالعلاج فيقول جل جلاله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله... ﴾
نقول: إن الله يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع. فعطاء الحق سبحانه لمن أخذ، وحرمان الحق سبحانه للبعض، كل ذلك فيه عطاء من الحق جل وعلا، ولكن الناس لا يلتفتون إلى ذلك. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين منع الغنائم عن الأنصار في حنين أخذوا المعية مع رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا أكبر وأسْمَى من الغنائم، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
وبذلك أخذوا ما هو أكبر وأهم وأعظم من الغنائم. إذن فقد يكون في المنع إيتاء.
الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ﴾ وهو عَزَّ وَجَلَّ المشرِّع، والرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المبلِّغ والمنفِّذ، فإذا ما رَضُوا بقسمة الله، فالرِّضاء عمل قلبي كان عليهم أن يترجموه بكلام نزوعي هو: ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله﴾ فكأن الرضا عمل القلب، والتعبير عن الرضا عمل اللسان، وما داموا قد احتسبوا الأمر عند الله، فالله هو الذي يرعى، وفي عطائه خير وفي منعه خير. ولذلك نجد الطيبين من الناس إن غُلِبُوا على أمرهم يقولون: إن لنا رباً، أي: إياك أن تفهم أنك حينَ منعتني أو أخذت حقي بأن اعتديت عليّ ستمضي بهذا الفعل دون عقاب؛ لأن لي رباً يغار عليّ، وسبحانه سيعوِّضني أكثر مما أخذت، ويجعل ما أخذته مني قَسْراً؛ نقمة عليك.
ولذلك فأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن ليس هو الصلة بالنعمة ولكن الصلة بالمنعم. وفي أن الله هو القادر على أن يعوِّض أي شيء يفوت.
ويوضح لنا سبحانه الصورة أكثر فيقول: ﴿سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي سيعوضنا عنها بخير منها. وعطاء الله دائماً فضل؛ لأنه يعطي الإنسان قبل أن يكون قادراً على عبادته، حتى وهو في بطن أمه لا يقدر على شيء، فإذا كنت في الدنيا قد فكرت بالعقل الذي خلقك لك الله، وعملت بالطاقة
ونلمس أثر ذلك حين تأتي مواسم الجفاف في أي منطقة من العالم، ونرى كيف يهلك كل شيء؛ الزرع والإنسان والحيوان.
والحق سبحانه وتعالى قد خلقنا في عالم أغيار، فالقادر اليوم قد يصبح غير قادر غداً، والصحيح اليوم قد يصبح مريضاً معلولاً غداً، والقوي يضعف، حتى نعرف أن ما نملكه من قدرة وقوة ليست أموراً ذاتية فينا، ولكنها منحة من الله؛ يأخذها وقتما يشاء، ونرى القوى الذي كان يفتك بيده ويؤذي بها غيره ويُذِلُّ اناس بها. نراه وقد أصيبت يده، فلا تصل إليها الأوامر من المخ فتُشَل. إذن: فقدرة أي إنسان ليست ذاتية فيه، بل هي من فضل الله سبحانه وتعالى، وكل شيء في الكون هو من فضل الله.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
﴿سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾ ويقال: رغب في كذا أي أراده، ويقال: رغب عن كذا، أي ترك هذا الأمر. ويقال: رغب إلى كذا أي سار في الطريق نحوه. وهنا قال الحق: ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾ وما دُمْنا إلى الله راغبين، كان يجب ألا نعزل عطاء الدنيا عن عطاء الآخرة، فالدنيا ليست كل شيء عندك؛ ما دُمْت راغباً إلى الله الذي سيعطيك نعيماً لا حدود له في الآخرة. ولذلك فرغبتنا في الله كان يجب ألا تجعلنا نسخط على نعيم فاتنا في الدنيا؛ لأن هناك نعيماً بلا حدود ينتظرنا في الآخرة.
فمن هم هؤلاء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة؟ وما المراد هنا بالصدقة؟ هل هي صدقة التطوع أو الزكاة؟
نقول: ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة، ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَقُل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة؟
ونقول: ألا ترى - في المجتمعات غير الإيمانية الملحدة - أن من الناس مَنْ يكفرون في إنشاء مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء؟ إن عطف الإنسان على أخيه الإنسان هو أمر غريزي خلقه الله فينا جميعاً، ولذلك
وهنا يقول الحق: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين﴾ وقد احتار العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد شيئاً فهو مُعدم. والمسكين هو من يملك شيئاً ولكنه لا يكفيه، وعلى هذا يكون المسكين أحسن حالاً من الفقير، واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالى: ﴿أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر... ﴾ [الكهف: ٧٩]
وما دام هؤلاء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه. ولكن العائد الذي تأتي به السفينة لا يكفيهم.
ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك، ورأوا أن المسكين هو مَنْ لا يملك شيئاً مطلقاً، والفقير هو الذي يجد الكفاف. وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالاً من المسكين، ولا أعتقد أن الدخول في هذا الجدل له فائدة؛ لأن الله أعطى الاثنين.. الفقير والمسكين. وكلمة» فقير «معناها الذي أتعبت الحياة فَقَار ظهره أي فقرات ظهره، وحاله يغني للتعبير عنه، والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة.
ثم يأتي بعد ذلك: ﴿والعاملين عَلَيْهَا﴾ أي: الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها ويضعونها في بيت المال، ونلاحظ هنا أن ﴿والعاملين عَلَيْهَا﴾ جاءت مطلقة؛ فلم تحدد هل يستحق الصدقة مَنْ كان
وأيضاً حتى لا يُحرَم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط؛ لأنه غير محتاج، ولكن نعطيه أجراً ليكون مسئولاً عن عمله، والمسئولية لا تأتي إلا إذا ارتبطت بالأجر.
والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة الإيمانية، فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم أو الوالي الذي يوزعها. وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله. خصوصاً إن كانت الصدقة توزع من بيت المال فلا يتعالى أحد على أحد، ولا يذلك أحد أمام أحد، وفي هذا حفظ لكرتمة المؤمنين؛ لأن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكساره يده السُّفْلى.
ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالى صاحب اليد العليا، وكذلك فإن أولاد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة ويُصَاب بالذلة والانكسار. ولا يرى أولاد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة؛ فَيتعالَوْنَ على أبناء الفقير. فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال، كان ذلك صيانة لكرامة الجميع، وإن حدث خلال بين غني وفقير فلن يقول الغني للفقير: أنا أعطيك كذا وكذا، أو يقول أولاد الغني لأولاد الفقير: لولا أبونا لَمُتُمْ جوعاً.
إذن: فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي، ويمنع - أيضاً - ذلة السؤال، فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي. وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من الوالي فلا غضاضة؛ لأن كل المحكومين تحت ولايته مسؤولون منه.
وقول الحق سبحانه: ﴿والمؤلفة قُلُوبُهُمْ﴾ يثير سؤالاً: هل يُؤلَّف القلب؟. نقول: نعم، فالإحسان يؤلف قلب الإنسان السَّوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يعتدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَفِي الرقاب﴾ ومعناها العبيد الذين أُسروا في حرب مشروعة. وكانت تصفية الرق من أهداف الإسلام؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد. وبعض من الناس يدَّعون أن الإسلام جاء بالرق وأقره. ونقول: لم يأت الإسلام بالرق؛ لأن الرق كان موجوداً قبيل البعثة المحمدية، وجاء الإسلام بالعتق ليصفى الرق، فجعل من فَكِّ الرقبة كفارة لبعض الذنوب.
وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد. وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة.
وإذا فُعلَتْ جناية، فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولاده عبداً. وإذا سُرِق شيء فإن السارق لا يعاقب، بل يعطي أحد أولاده عبداً للمسروق منه. وكان الأقوياء يستعبدون الضعفاء؛ فيخطفون نساءهم وأولادهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق، وهكذا كانت منابع الرق في العالم متعددة، ولا يوجد إلا مصرف واحد هو إرادة السيد؛ إن شاء حرر وإن شاء لم يحرر.
وقد كان الرق موجوداً في أوروبا وفي آسيا وفي أفريقيا ووُجِد أيضاً في أمريكا. إذن: كانت هناك منابع متعددة للرق؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد، وقد كان الرق يتزايد، وجاء الإسلام والعالمُ غارق في الرق، لماذا؟
لأن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضاً تصب فيه صنابير متعددة، وليس له إلا بالوعة واحدة. ولم يعالج الإسلام المسألة طفرة واحدة، شأن معظم تشريعات الله، ولكنه عالجها على مراحل، تماماً كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلاة، فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ... ﴾ [النساء: ٤٣]
ثم حرمها تحرمياً قاطعاً.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ [البلد: ١١ - ١٣]
وهكذا جعل الإسلام مصارف كثيرة لتصفية الرق حتى ينتهي في سنوات قليلة، ثم وضع بعد ذلك ما يُنْهي الرق فعلاً، وإن لم يُنْهِه شكلاً.
فإذا كان عند أي سيد لون من الإصرار على أن يستبقى عبده، فلا بد أن يُلبسه مما يلبس، ويُطعمه مما يَطْعم، فإن كلَّفه بعينه. وهكذا أصبح الفارق متلاشياً بين السيد وعبده.
وحين ألغتْ بعض الدول الإسلامية الرقَّ بالقانون، ذهب الرقيق إلى أسيادهم وقالوا: دعونا نعش معكم كما كنا. وهم قد فعلوا ذلك لأن
ولكن بعض الناس يتساءل: وماذا عن قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ... ﴾ [النساء: ٣٦]
نقول: افهم عن الله، فهذا أمر لا يسري إلا إذا كانت المرأة المملوكة مشتركة في الحرب، أي: كانت تحارب مع الرجل ثم وقعت في الأسْر، والذي يسري على الرجل في الأسر يسري عليها، ثم من أي مصدر ستعيش وهي في بلد عدوة لها؛ إنَّ تركها في المجتمع فيه خطورة على المجتمع وعليها. كما أن لهذه المرأة عاطفة سوف تُكْبتُ، فأوصى الإسلام السيد بأنه إذا أحب هذه الأمةَ فلها أن تستمتع كما تستمتع زوجة السيد، وإن أنجبت أصبحت زوجة حرة وأولادها أحراراً، وفي هذا تصفية للرق.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لون آخر من مستحقي الزكاة: ﴿والغارمين﴾ والغارم: هو من استدان في غير معصية، ثم عجز عن الوفاء بِدَيْنه. ولم يمهله صاحب الدَّيْن كما أمر الله في قوله تعالى: ﴿فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ... ﴾ [البقرة: ٢٨٠]
ولم يسامحه ولم يتنازل عن دَيْنه، وفي هذه الحالة يقوم بيت المال بسداد هذا الدَّيْن. لكن لماذا هذا التشريع؟
لقد شاء الحق إعطاء الغارم الذي لا يجد ما يسد به دَيْنه حتى لا يجعل الناس ينقلبون عن الكرم وعن أقراض الذي يمر بعسر، وبذلك يبقى اليُسْر
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَفِي سَبِيلِ الله﴾. يقول جمهور الفقهاء: إنها تنطبق على الجهاد؛ لأن الذي يضحي بماله مجاهداً في سبيل الله، لو لم يعلم أن الجهاد باب يدخله الجنة لما ضَحَّى بماله، وعندما تضحي بالمال أو النفس في سبيل الله يكون هذا من يقين الإيمان. فلو لم تكن على ثقة أنك إذا استشهدت دخلت الجنة ما حاربت. ولو لم تكن على ثقة بأنك إذا أنفقتَ المال جهاداً في سبيل الله دخلتَ الجنة ما ما أنفقت.
والإسلام يهدف إلى أمرين: دين يبلَّغ ومنهج يُحقَّق، والمجاهد في سبيل الله أسوة لغيره من المؤمنين. والأسوة في الإسلام هي التي تُقوِّيه وتُثبِّته في النفوس؛ لأنها الإعلام الحقيقي بأن ما تعطيه من نفسك أو مالك لله ستجازى عنه بأضعاف أضعاف ما أعطيت.
ثم يقول سبحانه موضحاً لمصرف جديد من مصارف الصدقة والزكاة: ﴿وابن السبيل﴾، ونحن نعلم أن كل إنسان ينسب إلى بلده. فهذا دمنهوري وهذا طنطاوي، إلى آخره حسب البلد الذي هو منه. ولكن لنفرض أن إنساناً مشى في الطريق في غير بلده فإلى من تنسبه وأنت لا تعرف بلده؟ تنسبه إلى الطريق فيصبح: ابْن السَّبِيلِ؛ لأن السبيل هو الطريق. وهذا الإنسان الغريب عن بلده لا بد أن تعينه حتى يصل إلى بلده، وإنْ وجد الإنسان مَنْ يعينه في هذه الحالة، فسوف يشجع ذلك سفر الشباب إلى الدول الأخرى لطلب الرزق، وأيضاً هناك من يسافر ليزداد خبرة أو يسافر للسياحة، وهناك من يسافر للتجارة، وقد يكون غنياً ولكنه قد يفقد ماله في الطريق. ويريد الحق سبحانه أن يكفل عباده وهم غرباء من أي مفاجأة قد تجعلهم في عسر، فالذين سافروا للسياحة مثلاً ثم أصيبوا بكارثة أوجب الحق مساعدتهم، والذين سافروا طلباً للرزق ولم يُوفَّقوا أوجب الله سبحانه وتعالى مساعدتهم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يسيروا في الأرض ليروا آياته، وليبتغوا الرزق، إذن: فابن السبيل هو كل غريب صادفته ظروف صعبة، ولا يجد ما يعود به إلى بلده.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ الله﴾ أي: أن كل من حدد الله سبحانه وتعالى استحقاقه للصدقة إنما يستحقها بفرض من الله، فالصدقة فريضة للفقراء، فريضة للمساكين، فريضة للعاملين عليها، والمؤلََّفة قلوبهم وفي الرِّقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل.
وما دام سبحانه الذي خلق، فهو أدرى بمن خلق، وبما يصلحه وما يفسده - ولله المثل الأعلى - نحن نعرف أن المهندس الذي يصمم آلة إنما يضع لها قانون صيانتها. فما بالنا بخالق الإنسان المتعدد المشاعر والأطوار؟ إن خلق الإنسان لا يقتضي علماً فقط، ولكنه يقتضي أيضاً حكمة؛ لأنك قد تعلم، ولكنك لا تستخدم العلم فيما تفعل، كأن تعلم قانون صيانة آلة معينة ثم لا تطبقه وتحاول أن تأتي بقانون من عندك؛ لذلك فلا بد مع العلم من حكمة لتضع الشيء في موضعه السليم.
ولذلك قال الحق سبحانه: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
ونحن نعلم أن الصدقات تقتضي مُتصدِّقاً وهو المعطي، ومُتصدِّقاً عليه وهو مستحق الصدقة أو بالذي يأخذها، ومُتصدَّقاً به وهو الشيء الذي تتصدق به، إذن فهناك ثلاثة عناصر: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمتصدَّق به.
قد يتساءل بعض الناس: لماذا خلق الله الإنسان الخليفة في الأرض وجعل بعضهم قادراً وبعضهم عاجزاً، وهذا يعطي وهذا يأخذ، ولماذا لم يجعل الكل قادرين؟
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: ٧٢]
إذن: فالإنسان يحتاج إلى ضوء النهار للحركة والعمل، ويحتاج إلى ظُلْمة وسكون الليل للنوم، وإن لم يَنَمِ الإنسان ويسترِحْ فهو لا يستطيع مواصلة العمل. وهكذا نرى الليل والنهار متكاملين وليسا متضادين. كذلك الرجل والمرأة. وقد لا يفهم بعض الناس أن الرجل والمرأة متكاملان، ويقولون: لا بد أن تساوي المرأةُ الرجلَ، ونقول: إنكم تعتقدون أن المرأة والرجل جنسان مختلفان، ولكنهما جنس واحد مخلوق من نوعين، وكل نوع له مهمة وله خاصية. وللإنسان المكوَّن من الرجال والنساء مهمة وخصائص يشتركون فيها، ويتضح لنا ذلك عندما نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الليل: ﴿والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ [الليل: ١ - ٣]
كأن الذكر والأنثى، مثل الليل والنهار متساندان متكاملان، فلا تجعلهما أعداء بل انظر إلى التكامل بينهما، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى﴾ [الليل: ٤]
فتجد مثلاً الجمل بضخامته ينقاد لطفل صغير، بينما الثعبان الصغير على دِقَّة حجمه لا يجرؤ الإنسان أن يقترب منه.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه الحكمة تقتضي أن يحس الإنسان أن قدراته وقوته موهوبة له من الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست من ذات الإنسان.
ولذلك يخلق الله أناساً ضعافاً لا يقدرون على الكسب، ليلفت أنظارنا إلى أن قوة القوى هي هبة من الله، وليست في ذاتية الإنسان، وإلا لو كانت ذاتية في الإنسان ما وُجد عاجز. ولا بد أن يفهم كل قوي أن قوته هبة من الله يمكن أن تسلب منه فيصبح ضعيفاً مثل من يراهم أمامه من ضعاف البشر.
والضعيف غير القادر على العمل، والأعمى غير القادر على الكسب، والكسيح غير القادر على السير، كل هؤلاء موجودون في الكون ليلفتوا الأصحاء والأقوياء إلى أن الصحة والقوة من الله، فلا يغتر الأصحاء والأقوياء بأنفسهم ويرتكبوا المعاصي، بل عليهم أن يخافوا الله، فسبحانه الذي أعطى يستطيع أن يأخذ.
ولكن أيبقى هذا الحال على ما هو عليه؟ لا؛ لأن الأيام تُتداوَلُ بين الناس، وكل واحد له عُرْس وله مَأتم. وتأتي أيام تكون فيها هذه الأعمال اليدوية هي مصدر الرزق الوفير، وهي التي يملك أصحابها سعة الرزق، أكثر من الذين درسوا في الجامعات وأهِّلوا للمناصب، لكنهم أقل دخلاً وأقل رزقاً.
وهكذا نعلم أن الكون يحتاج إلى المواهب المتعددة التي تتكامل فيه، فأنت إذا أردت أن تبني بيتاً تحتاج إلى مهندس ومقاول ونجار وحداد وبنَّاء إلى غير ذلك، ولا يمكن لإنسان أن يملك هذه المواهب كلها في وقت واحد. فلا بد أن تتكامل وأن يرتبط هذا التكامل بالرزق ولقمة العيش. بل وتجد أن الإنسان قد يتخصص في عمل ويتقنه بينما يحتاج هو لبعض من وقته ليقوم بمثل هذا العمل لبيته فلا يجد، ولذلك يقال: «باب النجار مخلّع» ؛ لأن الأبواب الأخرى التي يصنعها مرتبطة برزقه وهو يحاول أن يحسن صناعتها، أما بابه هو فلا رزق له فيه، ولذلك قد يكسل عن صيانته.
إما أنك في نعمة فتشكر. وإما أنك في محنة فتصبر. وعندما نتأمل الغني المستخلَف في النعمة تجد أنه قد أخذ النصف الذي يخصه كشاكر، وحُرِمَ من النصف الآخر الإيماني وهو الصبر؛ ولذلك يأتي الإسلام له بتشريع يأَخذ منه بعضاً من ماله الذي حصل عليه بعرقه وعمله ويعطيه لغير القادر على العمل، وبذلك يحصل على جزء من الصبر؛ لأنه يعطي بعضاً من فائدته عمله للعاجز عن العمل، ويكون الفقير قد أخذ نصف الشكر ونصف الصبر. فقد صبر على فقره، وجاء له المال بلا تعب فشكر الله على نعمته. وهكذا نجد أن الاثنين إذا طبَّقا منهج الله أخذا نصف الصبر ونصف الشكر.
وعلى العاجز عن الكسب ألا يغضب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطيه الرزق بلا تعب. بل إنك قد تجد الغني وهو يبحث عن مصارف الزكاة ويسال عن الفقراء ليعطيهم.
وكثيراً ما نرى إنساناً عزيزاً في أزمة، ونجد من أصدقائه من يقترض ليعطيه. والله سبحانه وتعالى قال: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥]
ومع أن المال مال الله فقد احترم سبحانه عمل الإنسان الذي يأتيه بالمال، وطلب منه أن يعطي بعضاً منه أخاه المحتاج؛ ابتغاء مرضاة الله، واعتبر
وفي هذا مَيْزة للغني والفقير، فالغني يأخذ ميزة وشرف أنه أعطى لله، والفقير أخذ ميزة؛ لأن الله سبحانه وتعالى اقترض من أجله.
وجعل الله الزكاة من أركان الإسلام، وجعل هذا الركن لمصلحة الفقير. فالغني ليس له ركن في إيمان الفقير، ولكن الفقير له ركل من إيمان الغني. والغني حين يعطي جزءاً من ماله فهو يستغني عن هذا الجزء. وهناك فرق بين أن تستغني عن الشيء وتستغني بالشيء. والحق سبحانه وتعالى مستغن عن الكون وما فيه، فكأنه أعطى الغني صفة من صفات الحق؛ لأن الله مستغن عن مال الدنيا كله، والمال ليس سلعة مفيدة فائدة مباشرة للإنسان.
والمثال الذي أقوله دائماً، يوضح ذلك: لنفرض أن رجلاً عنده جبل من ذهب وتاه في صحراء لا يجد فيها لقمة خبز أو شربة ماء، فما هي فائدة جبل الذهب هذا؟ إنه لا يساوي شيئاً.
إذن: فالمال ليس غاية في حد ذاته، ولكنه وسيلة. وعندما يمنع الغني ماله عن الفقير يكون قد جعل المال غاية فلا ينفعه. أما إذا أعطى الغني بعضاً من المال للفقير؛ فهو قد أعاد إلى المال وظيفته في أنه وسيلة من وسائل الحياة. وأنت تشتري بالمال ما تعتقد أنه ينفعك؛ فعليك أن توظفه في أكمل ما ينفعك؛ وهو رضا الله سبحانه وتعالى وثوابه.
ولذلك سمى الحق سبحانه وتعالى المال الذي يكسبه الإنسان في الدنيا مال الإنسان، حتى يعمل كل منا على قدر طاقته؛ لأن المال ماله. وعندما يزيد ما عندك من مال على حاجتك فأنت لا تحب أن يفارقك المال الزائد، وفي الوقت نفسه تحرص على أن تنفقه فيما ينفعك، فيرشدك الحق إلى إنفاق بعض المال في خير ما ينفعك، وهو أن تعمل لآخرتك.
إذن: فأنت محتاج إلى التصدق ببعض من المال الزائد لِتحسُنَ آخرتك. والفقير محتاج إلى بعض من المال الزائد عن حاجتك ليَعيش. فكلاكما يحتاج الآخر، ولكن الله سبحانه وتعالى احترم عمل الإنسان، فجعل له النصيب الأكبر مما يكسب، وللفقير نصيب أقل.
وعلى سبيل المثال: إن عثر الإنسان على كنز فزكاته عشرون في المائة، وإذا زرع الإنسان وروى وحصد فزكاته هي عشرة في المائة، أما إذا كان رزق الإنسان من عمل يومي كالتجارة، فالزكاة هي اثنان ونصف في المائة؛ ذلك أنه كلما كثرت حركة الإنسان في عمله قلَّتْ الزكاة. وكلما قَلَّ عمل الإنسام فيما يكسب؛ زادت الزكاة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يشجع العامل على العمل. والمجتمع هو المستفيد بالعمل وإن لم يقصد صاحبه ذلك.
إذن: فالمجتمع كله يستفيد من بناء العمارة، حتى ولو لم يكن في بال صاحبها أن يفيد المجتمع، ويعتقد بعض الناس أن العمل وحده هو الذي يأتي بالمال، وينسون أن الله هو الذي ييسره لهم، ويُمَكّنُهم منه. ويلفتنا سبحانه إلى ذلك حين تأتي آفات تتلف الزرع وتُضَيّعُ تعب من قاموا بالحرث والبذر والسَّقْي؛ لعلنا نلتفت إلى أن كل شيء يتم بإرادة الله، وليس بالأسباب وحدها.
وسبحانه وتعالى حين يقضي بذلك، يلفتنا أيضاً لفتة فيبارك في زرع في بلد آخر أو مكان آخر، فإذا هلك محصول القمح في دولة، كانت هناك دولة أخرى يزيد فيها محصول القمح، فيشتري هؤلاء من هؤلاء، أو ترسل الدول التي جاءها محصول وفير إلى الدول التي هلك فيها الزرع كمعونة أو إغاثة، وبذلك تتعامل سبل الحياة.
ولا بد لنا أن نتذكر دائماً أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرة، ولا أحد يستطيع أن يعطي القدرة للإنسان غير الله تبارك وتعالى. فالقدرة المطلقة هي لله سبحانه وتعالى، وسبحانه يُمرِّر بعضاً من أثر قدرته إلى خلقه، فنجد إنساناً يستطيع بقدراته أن يُعِين إنساناً آخر في حَمْل شيء ثقيل لا يستطيع صاحبه أن يحمله.
وفَرْقٌ بين أن تتبرع أنت بأثر قوتك؛ وبين أن تهبَ الغير هذه القوة. فالبشر يعطي أثر القوة، ولكن الحق سبحانه وتعالى يهب القوة لمن يشاء.
والحق سبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية، يعلم ما في صدور الناس؛ ولذلك يُلفت القادر إلى ضرورة أن يُخرِجَ بعضاً من ماله للعاجز عن الكسب.
ونحن نعيش في عالم أغيار، ومن الممكن ان يصبح القادر اليوم عاجزاً غداً. ولذلك نجد القادر يمتلئ بالقلق إذا رأى عاجزاً. وهنا يتذكر نعمة الله عليه؛ فيسرع ليدفع بعضاً من ماله إلى العاجز؛ وهو راض، خوفاً من أن يحدث له مثل ما حدث لهذا العاجز. ويقول الحق: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا... ﴾ [التوبة: ١٠٣]
إذن: فالصدقة تطهر الإنسان من الغفلة التي قد تصيبه، وتُزكِّي الإنسان أيضاً، وشاء سبحانه أن تكون الزكاة نموّاً وزيادة وإن بدت في ظاهرها على أنها نقص. فالمائة جنيه تصبح سبعة وتسعين ونصفاً بعد إخراج الزكاة، وهي عكس الربا الذي قد تصبح فيه المائة مائتين، وظاهر الربا أنه زيادة،
لكن لنفرض أن المال دام لك طول العمر، وأنت تعرف أن العمر مهما طال، قصير. ولا بد أن يأتي يوم تفارق فيه هذا المال بالموت. في هذه اللحظة يكون ما كنزت من المال قد صار إلى ورثتك، ولا يصحبك منه إلى آخرتك إلا ما أنفقت في سبيل الله، أي: أن ما أنفقت هو ما يبقى لك في عالم الخلود لا يفارقك ولا تفارقه.
وشاء الحق أن يضاعف لك الجزاء والثواب.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يقول ابن آدم: مالي مالي.. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟»
إذن: فالذي يحب ماله عليه أن يصحب معه هذا المال لمدة أطول، وأن يتعدى به مجرد الوجود في الدنيا، وأن يصل به إلى دار الخلود. ومن يعشق المال - إذا أراد أن يبقيه - فلينفقه في الصدقة.
«ولنا الأسوة الحسنة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جاءته شاة كهدية، فقال للسيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:» تصدقي بلحمها «. وكانت السيدة عائشة رضوان الله عليها تعرف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب لحم الكتف، فتصدقت بلحم الشاة كلها، وأبقَتْ قطعة من لحم الكتف لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
وذلك لأن ما تصدقت به السيدة عائشة هو الباقي. وما أبقته لهما هو الذي سيفني. وهكذا سمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأشياء بحقيقة مسمياتها.
فالذي يحب صحبة ماله في الدنيا والآخرة، عليه أن يقدم بعضاً منه صدقة للفقير والمحتاج، ليبارك الله له في الدنيا، ويجزيه خير الثواب في الآخرة. وقد سأل رجل الإمام عليا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أريد أن أعرف: هل أنا من أهل الآخرة؟. قال الإمام علي كرم الله وجهه: الجواب عندك أنت، لا عندي، انظر إذا دخل عليك من يعطيك، ودخل عليك من يطلب منك، أيهما ترحب به وتقابله ببشاشة؛ أيهما تحب؟ إن كنت تحب من يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة، وإن كنت تحب من يعطيك فأنت من أهل الدنيا؛ لأن من يأخذ منك يحمل حسناتك إلى الآخرة، وأما من يعطيك فيزيدك من الدنيا ولا يعطي آخرتك شيئاً.
ونقول للذي يحب المال: اجعل حبك للمال يبقيه لك فترة أطول من عمر الدنيا؛ فالدنيا ليست هي المقاس، ودنياك قدر عمرك فيها. أما الآخرة فأنت خالد فيها، فتصدق ببعض مالك يكن لك خيراً في الآخرة.
ويذيل الحق الآية بقوله: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: أنه سبحانه وتعالى يضع الأشياء في موضعها عن علم وحكمة مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير﴾ [الملك: ١٤]
وشاء الحق أن يجعل التفرقة فقط في الدنيا؛ لأن العالم لا يحتاج إلى أفراد مكررين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة إن كنا كلنا أطباء أو كلنا مهندسين أو كلنا قضاة؛ لذلك شاء سبحانه أن تتوزع المواهب على قدر ضروريات الحياة، فنبغ كل واحد منا في شيء؛ أنا أتقن شيئاً ولا أعرف الباقي، وغيري يتقن شيئاً آخر ولا يعرف الباقي. فأكون في حاجة إلى عمل غيري، وغيري يحتاج عملي، وبذلك يصير الرباط بيننا رباط حاجة ورباط رزق، لا رباط تفضل وتطوع.
إذن: فالحكمة اقتضت أن يوزع سبحانه وتعالى المواهب على الخَلق بقدر ما تتطلب الخلافة في الأرض من حركات الحياة؛ فأعطى هذا زاوية من نبوغ، وأعطى الآخر زاوية أخرى من النبوغ، ومن مجموع هذه الزوايا يتكون المجتمع، وسبق أن قلنا: إن مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولكن الناس لا تنظر إلا للمال، ولا يلتفتون إلى ما هو أهم من المال، كالصحة، والأخلاق، وراحة البال، وسعادة الأولاد وتوفيقهم، ثم البركة في الرزق وغير ذلك.
إنك لو وضعتَ لكل هذه الأشياء رقماً من عشرة مثلاً؛ تجد أن مجموع كل إنسان في النهاية يتساوى مع مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. وإن رأى إنسان عاجز غيره ممن يملكون المال ولا يخرجون منه زكاة أو صدقة، فماذا يكون موقفه؟ لابد أنه سيتمنى زوال النعمة عن هؤلاء. ولكن إن عادت نعمة القادر الغني على من لا نعمة عنده، فهذا يجعل العاجز الفقير مُحِبّاً لدوام النعمة عند صاحبها؛ لأنه إن حُرِم الغني
وإن لم يأخذ الفقير المحتاج صدقة من الغني، فقد يأخذها تلصُّصاً بأن يتحايل عليه ليسرقه أو ينهبه، أو ربما دفعه الحقد والحسد إلى ان يقتله أو يتآمر على قتله.
إذن: فالزكاة في المجتمع تدفع شروراً كثيرة عن صاحبها. وهي ضرورة من ضروريات الحياة. ولذلك رأيناه القادرين في المجتمعات التي لا ترمن بدين وهم يتطوعون لإقامات المؤسسات الاجتماعية لرعاية غير القادرين لدقع شرور العاجزين عن مجتمعاتهم؛ لذلك تجد في معظم دول العالم من يحاول تخصيص جزء من المال لكفالة العجزة والمتعطلين ليعيشوا حياة الكفاف، وبذلك يأمن المجتمع شرورهم.
على أن قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقاب والغارمين وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل﴾ معناه: أن الصدقات قد فرضت لهؤلاء، والذي فرضها هوالحق سبحانه بقوله: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ الله﴾.
وقد تُفرَض الصدقات من البشر كضريبة اجتماعية، أو غير ذلك، لدفع الشرر عن المجتمع، ولكن هذا لا يحدث إلا بعد أن تقعأحداث جسام يشقى بها مجتمع القادرين من مجتمع العاجزين، ويخرج من يقول: لكي تأمنوا شرهم لابد أن نعطيهم حاجاتهم حتى يستقيم الأمر.
وهكذا نجد أن تشريعات البشر لا تأتي إلا بعد أن يشقى المجتمع لفترة طويلة من وضع موجود، ولكن الحق سبحانه وتعالى رحمة منه بخليفته
وشاء الحق سبحانه أن يجعل «سورة براءة» فاضحة كاشفة للمنافقين؛ لذلك كان من بين أسمائها: «السورة الحافرة» ؛ لأن المنافق ربما يستر كفره، ويفضح الله هذا الكفر بأن يحفر عليه ليخرجه - ولله المثل الأعلى - فالإنسان يحفر الأرض ليكشف المخبوء فيها، وهذه السورة ذكرت من صفات المنافقين الكثير.
فقد قال الحق: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي... ﴾ [التوبة: ٤٩]
وقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله... ﴾ [التوبة: ٧٥]
وقال سبحانه: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات... ﴾ [التوبة: ٥٨]
ولذلك يسمونها «مَنَاهِم التوبة». وهنا يبين الحق صورة جديدة للمنافقين وتصرفاتهم فيقول: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي... ﴾
وهذا دعاء مَنْ لا عقل له، ولو كانوا يعقلون لقالوا: إن كان هذا الحق من عندك فَاهْدنا يا رب إليه، أو اجعلنا نؤمن به. ولكنهم من فَرْط حقدهم وضلالهم، تمنَّوا العذاب على الإيمان بالحق. وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار.
وهنا يقول الحق سبحانه:
﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي﴾ والذين يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم السادة، وهم أصحاب النفوذ الذين يخافون ان يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم؛ وثرواتهم؛ وما أخذوه ظلماً من الضعفاء. والضعفاء - كما نعلم - هم أول من دخل إلى دين الإسلام؛ لأنهم أحسوا أن هذا الدين يحميهم من بطش الأغنياء واستغلالهم ونفوذهم. وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمناً، وشاء سبحانه أن يضم إلى الإيمان عدداً من الأغنياء؛ ومن رجال القمة مثل: أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب وغيرهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين، حتى لا يقول أقوياء قريش مثلما قال قوم نوح لنبيهم: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا... ﴾ [هود: ٢٧]
ومن العجيب أنهم، بعد أن نزل الوحي، كانوا لا يستأمنون أحداً مثلما يستأمنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا كان هناك شيء ثمين عند الكافرين المعارضين، ذهبوا إلى رسول الله ليحفظوا هذه الأشياء الثمينة عنده. وهذا التناقض لا يفسره إلا وثوقهم في أخلاقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ورغم ذلك كانوا في غيظ وكَمَدٍ؛ لأن القرآن قد نزل عليه. والحق هو القائل ما جاء على ألسنتهم: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١]
وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن، بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له، وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل على أحدهم عظمائهم. ورد الحق سبحانه عليهم: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا... ﴾ [الزخرف: ٣٢]
وفي هذا دعوة لأن يتأدبوا مع الله سبحانه، فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته، ورسالته، ولكنه سبحانه هو الذي يختار. وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد، أو غير ذلك، فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم، ولكنه نعمة من الله.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً... ﴾ [الأنعام: ١١٢]
بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة رسول الله ليبلغها إلى الأجيال التالية، إن لم يكن له أعداء، أنقض ذلك من حظه في ميراث النبوة، وكل من له أعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج الله، نقول له: لا تنزعج، واطمئن؛ لأن معنى وجود من يعاديك، أن فيك أثراً من آثار النبوة.
وتمثَّل إيذاء المنافقين له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عدة صور؛ منها قولهم: ﴿وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾.
وللإنسان - كما نعلم - وسائل إدراك متعددة: فالأذن وسيلة إدراك، والعين وسيلة إدراك، والجوارح كلها وسائل إدراك. وكل إنسان له ملكات متعددة، منها ملكات إدراكية وملكات نفسية، ولملكات الإدراكية هي التي يدرك بها الأشياء مثل: السمع والبصر والشم والذوق. أما الملكات النفسية فهذه يوصف بها الناس. وعلى سبيل المثال: نحن نسمي الجاسوس عيناً؛ لأنه يتجسس وينقل ما يراه إلى غيره. ونسمي الرجل
إذن: كل جارحة لها حاسة، والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الإدراك الحسية التي تتكون منهالخمائر المعنوية، ثم تصبح عقائد، فوسائل الإدراك هذه تتلقى من العالم الحسي ما يعطيه لها من معلومات، وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها، وتكون في مجموعها هي ما يعلمه الإنسان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يمتنُّ على خَلقه، فيقول: ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨]
والشكر لا يكون إلا على النعمة، فكأن وسائل الإدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك، أو تدركه بفؤادك هي من نعم الله التي يجب أن نشكره عليها؛ لأنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا لا نعلم شيئاً.
وإذا أطلقَ على الإنسان اسم جارحة من جوارحه، فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه، فكأن قول المنافقين وصفاً للرسول ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ هو سَبٌّ للرسول، وكان الواحد منهم يقول: احذروا أن يبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكشف نفاقهم ويؤذيكم؛ لأن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في رأيهم يُصدِّق كل شي. أرادوا أن يتهموه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لا يمحص القول الذي يُنقل إليه ويصدق كل ما يقال له، كما نقول نحن في العامية «فلان وِدَني» أي: يعطي أذنه لكل ما يقال له.
فيرد عليهم الله: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستمع لمنهج السماء ويبلغه للبشر ليهدي أهل الأرض، إذن: فهو خير للناس كلهم. وحتى إذا
فإذا كان المنافقون قد قالوا: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ فقد قال سبحانه: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾، وهو خير يعود نفسه على البشرية كلها، ولكن ليس بالمعنى الذي تعيبونه عليه، فهو قد يسمع إساءاتكم، ثم يسمع اعتذاركم فلا يؤذيكم ويعفو عنكم.
وما دام هذا هو سلوك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلماذا تؤذونه وترهقونه؟
وفي اللغة ما يسمونه «القول بالموجب»، فإن قال لك واحد شيئاً تصدقه وتقول له: نعم، ولكن قد تأخذها على مَحْمَل آخر، فإن كان هناك إنسان يُكثِر الزيارة لإنسان ويقول له: أنا أثقلتُ عليك، ويرد عليه: أنت أثقلتَ كَاهلي بأياديك، أي أن أفضالك عليَّ كثيرة. وإن قال لك واحد: «أنا طولت عليك»، يرد عليه صديقه: لا، أنت تطولت عليَّ، أي: أعطيتني نعمة بأنك أسعدتني بمجلسك. إذن: فهو قد وافقه على وما قال، ولكنه رد عليه بعكس ما قال.
وهم قد عابوا على الرسول أنه أذن، فكأن أذنه تتحكم في كل تصرفاته، وإن سمع شيئاً تأثر به. وإن سمع شيئاً ينغصه ينقلب موقفه من
وقد يقول بعض السطحيين: إن المنافقين قالوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ وهم يقصدون بذلك أنه يسمع ويصدق كل ما يقال له، وليس من حكمة التمحيص والاختيار. لكن لنلتفت إلى أن الحق قد قال: ﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ ؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسمع إلا من الله، وما يسمعه من الله أطاعه وطبَّقه، وما سمعه من الناس؛ عرضه على منهج الله؛ فإن وافق المنهج نفذه، وإن تعارض مع المنهج رفضه.
إذن: فهو أذن للخير لا يسمع إلا من الله، ولا يأتي من رسالته إلا الخير لمن اتبعه.
ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى: أذن خير للمؤمنين، وقال: ﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ﴾ ؟؛ لأن خيرية رسول الله قد شملت الجميع، وتعدَّتْ المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار. فكان رسول الله صلى الله عليه لا يفضح منافقاً، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء.
وعلى سبيل المثال: كان المنافقون يأتون إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله؛ ويطلبون الإذن بالقعود. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعطيهم الإذن. وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذباً، كان يصدقهم، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس.
إذن: فالخيرية فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ شملت المنافقين؛ لأن خُلُقَه الكريم أبى أن يفضحهم أمام الناس. أما الكفار فد شملتهم الخيرية أيضاً؛
وهكذا فرق الحق سبحانه وتعالى بين ما يريدونه، وما يقصده الله جل جلاله. هم قصدوا وصف الرسول أنه أذن سَمَّاعة. والله يقول: إنها أذن خير؛ وهذا ما يسمونه في اللغة - كما قلنا -: «بالقول الموجب»، أي: أن تتفق مع خصمك فيما قاله، إلا أنك تحول ما قاله من الشر إلى الخير. والمثال أيضاً فيما يقوله الحق سبحانه وتعالى على ألسنة المنافقين حين قالوا: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل... ﴾ [المنافقون: ٨]
كانوا يقصدون أنهم هم الأعز، أما الأذل فهم المؤمنون. ووافقهم الحق سبحانه وتعالى على ما قالوا؛ نعم سيُخرِج منها الأعزُّ الأذلَّ. ولكنه أراد أن يبين لهم من هو العزيز ومن هو الذليل؛ فقال: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ... ﴾ [المنافقون: ٨]
فكأن الحق سبحانه وتعالى يؤكد لهم أن الأعز سيُخرج الأذل، ولكنهم يحسبون أنفسهم هم الأعزاء؛ فيقول لهم: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾. وهذا ما يسمونه بالقول الموجب، أي: أن تتفق مع من يقول، ويقصد أن يوجه كلامه وجهة الشر؛ فتقلب المقصود من الكلام وتوجهه وجهة الخير. وهذا مقصود به هنا أن تزيد من ذلة المخاطب، فأنت تجعله يعتقد أنك توافقه، فتنفرج أساريره ويشعر بالسعادة؛ ثم بعد ذلك تنقض ما قاله؛ فيصاب بالذل. تماماً كما يأتي الحارس لسجين يشعر
فيقول له الحارس: سأحضر لك كوب الماء. وفعلاً يحضر الكوب مليئاً بالماء المثلج، ويفرح السجين ويظن أنه سينال منه ما يريده، ولكن ما إن يقرب الحارس الكوب من فم السجين، حتى يفرغه على الأرض، فيكون تعذيبه أكبر مما لو رفض منذ البداية إحضار كوب الماء.
وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يزيد ذلة المنافقين، فوافقهم على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أُذُن» ثم جاء بنقيض ما كانوا يقصدونه فقال:
﴿أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ وما دام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يؤمن بالله فهو يأخذ منهجه من الله سبحانه وتعالى، ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم.
إذن: فهناك ثلاثة أدلة على خيرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنه يؤمن بالله وينفذ منهجه. ثم يؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا. ونلاحظ أن هناك اختلافاً بين قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بالله﴾ وبين قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. فبالنسبة للإيمان بالله جاء بالباء في قوله: ﴿بالله﴾ وبالنسبة للمؤمنين جاء باللام في قوله: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
بعض الناس يقولون: إن هذه مترادفات؛ لأن معنى ﴿يُؤْمِنُ بالله﴾ أي: يصدق بوجوده. والمنافقون كفرة بالله، ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ معناها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصدق المؤمنين. أما المنافقون فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف أنهم كاذبون فلا يصدقهم. ولكنه لا يفضحهم أمام المؤمنين؛ حتى لا يقطع عليهم خط الرجعة إن كانوا ينوون الإيمان فعلاً.
ولو فضحهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمام المؤمنين لضاعت هيبتهم تماماً. وإن فكر أحدهم في ترك النفاق إلى الإيمان، لوجد صعوبة شديدة في ذلك؛ لأن أحداً لن
قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يصدقهم، وكلمة الإيمان بالنسبة للناس جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى حين أعلن السحرة إيمانهم برب موسى وسجدوا؛ قال لهم فرعون: ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر... ﴾ [طه: ٧١]
ومعنى ﴿آمَنتُمْ لَهُ﴾ أي: صدَّقتموه، ولكن ما هو الفرق بين الباء واللام؟ أنت حين تقول: آمنا بالله. فأنت تعلن أنك قد آمنت بالذات بكل صفات الكمال فيها، وحين تقول: آمنت للمؤمنين فيما قالوه، أي صدقتهم لأنهم مؤمنون.
ومادة «آمن» تدور كلها حول الأمن والطمأنينة، ولكنها تأتي مرة لازمة ومرة متعدية. مثلما تقول: «آمنت الطريق» أي: اطمأننت إلى أنه لن يصيبني فيه شر. ومنها قول يعقوب عليه السلام لبنيه:
﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ... ﴾ [يوسف: ٦٤]
أي: أن السابقة هنا أنه آمنهم على يوسف فلم يرعوا الأمانة، فصار لا يأمنهم على أخي يوسف، وهذه آمن اللازمة. أما المتعدية فهي التي يتعدد فيها الأمن، مثل قوله تعالى: ﴿وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ... ﴾ [قريش: ٤]
وقوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بالله﴾ هو إيمان بالذات، وإيمان بالصفات، وإيمان بالمنهج، وإيمات يسع أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلها، فكأن الإيمان هنا قد تعددت جوانبه. أما الإيمان للمؤمنين فهو تصديق لهم وهذا هو الخير الثاني. وقوله سبحانه ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ ؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شفيع لهم يوم القيامة، وقال: «أمتي أمتي». وهو رحمة لهم في الدنيا؛ لأنه يقودهم إلى الخير الذي يقودهم إلى سعادة الدنيا ثم إلى جنة الآخرة، ويبعدهم عن الشر والنار؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمة تدفع الضرر وتأتي بالخير، والرحمة إنما تأتي باتقاء الضرر.
والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ... ﴾ [الإسراء: ٨٢]
الشفاء يعني أن يكون هناك مرض ويشفى الإنسان منه، والرحمة ألا ياتي المرض، فكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبشر بمنهج إذا اتبعه الناس وآمنوا به؛ كان لهم وقاية فلا يصيبهم شر في الدنيا ولا نار في الآخرة.
ويتساءل بعض الناس: لقد قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ والمنافقون قد آمنوا بألسنتهم فقط فما موقفهم؟ نقول: إن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأنه رحمة فقد احترم كلمة اللسان وصدقهم أمام الناس، أما الحق سبحانه فينزلهم في جهنم.
﴿والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وإيذاء المنافقين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن بالمواجهة؛ لأنهم أعلنوا كلمة الإيمان، وكان الإيذاء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المنافقين في قلوبهم وفيما بينهم في مجالسهم، ولذلك لم يكن الإيذاء منهم مباشرة قط، ولكن الآيات بينت أنواع الإيذاء بأنهم يلمزون في الصدقات، ويقولون: إنه أُذُنُ، ويحلفون له كذباً ليضللوه، إلى آخر ما كانوا يفعلون.
ثم يأتي الحق بصورة أخرى من صور المنافقين فيقول سبحانه: ﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ... ﴾
ويقول الحق سبحانه:
﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ وفي هذا إصرار من المنافقين على الحلف كذباً، وهو ما يوضح غباءهم وعدم فطنتهم.
واستخدام الحق سبحانه وتعالى حرف السين معناه أنهم لم يحلفوا بعد، ولكنهم سيحلفون بعد فترة، أي في المستقبل، أي: أن الآية الكريمة نزلت ولم يحلفوا بعد، إنما هم سيحلفون بعد نزول الآية الكريمة، ولو كان عندهم ذرة من ذكاء ما حلفوا، ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف ولكننا لم نحلف. ولكنهم ورغم نزول الآية جاءوا مصدقين للقرآن مثبتين للإيمان وحلفوا. وكلمة «حلف» هي القسم أو اليمين. وحين نتمعن في القرآن نجد أن الحلف لا يطلق إلا على اليمين الكاذبة، أما القسم فإنه يطلق على اليمين الصادقة واليمين الكاذبة. فمثلاً عندما نقرأ في سورة المائدة: ﴿ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ... ﴾ [المائدة: ٨٩]
وما دامت هناك كفارة يمين؛ يكون الحلف كذباً؛ لأن الذي يستوجب الكفارة هو الكذب. وإذا استعرضنا بعد ذلك كل «حلف» في القرآن نجد أنه يقصد بها اليمين الكاذبة؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ﴾ [القلم: ١٠]
فالحلف هنا مقصود به القسم الكاذب. ولكن إذا قال الحق سبحانه وتعالى ﴿أَقْسَمُواْ﴾ فقد يكون اليمين صادقاً؛ وقد يكون كاذباً.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ أي: أن هدف الحلف كذباً هو ‘رضاء المؤمنين حتى يطمئنوا للمنافقين ولا يتوقعوا منهم الشر، ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحقيقة: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ إذن: فهم يحلفون لترضَوْا أنتم عنهم، أما المؤمن الحق فهو
ومن مهام الإيمان أن الإنسان يرعى الله في كل معاملة له مع البشر؛ ويبتغي رضاه ويخاف من غضبه، ذلك هو المؤمن الحق.
وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ وكان القياس اللغوي على حسب كلام البشر أن يقول: والله ورسوله أحق أن ترضوهما. وشاء الحق أن يأتى بها ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ ؛ لأن رضا الله ورضا رسوله هو رضا واحد؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأتي بالقرآن من عنده، ولكنه وحي من عند الله.
وإرضاء الرسول هو اتباع المنهج الذي فيه رضا الله لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله... ﴾ [الفتح: ١٠]
ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله... ﴾ [آل عمران: ٣١]
ويقول سبحانه: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله... ﴾ [النساء: ٨٠]
إذن: فلا توجد طاعة لله وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول؛ لأن الرضا منهما رضا واحد.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ دليل على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله، فما يُرضي الله يُرضي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما يُغضب الله يُغضب الرسول.
وقول الحق سبحانه: ﴿إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي: إن كان إيمانهم حقيقة، وليس نفاقاً.
إذن: فنحن لا نطلب الرضا من خلق الله، ولكن نطلبه من الله. ورضا الله سبحانه وتعالى ورضا المبلِّغ عنه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رضا واحد. ولذلك وحَّد الضمير ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ ولم يقل يرضوهما.
ثم يقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ... ﴾
وهنا يستنكر الحق عدم علم المنافقين بقضية أعلنها الله مرات ومرات، وكان يجب أن يعلموها وألا تزول عن خواطرهم أبداً. وسبق أن قلنا: إن الاستفهام فيه نفي، والهمزة همزة استفهام. ولم تأت للنفي، وإذا دخلت همزة الاستفهام على النفي يكون استنكاراً. فإن قلت لإنسان: ألم أكرمك؟ كأنك أكرمته عدة مرات وهو مُنكر لذلك.
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ يعلموا﴾ هو إقامة للحجة على أن الحكم قد بلغهم؛ لأنه من الجائز أن يقولوا: إن الحكم لم يبلغنا، فيوضح لهم الحق: بل بلغكم الحكم وقد أعلمتكم به عدة مرات.
﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله﴾ ما معنى يحادد؟ نجد في الريف أن أهل الريف يضعون علامات من الحديد تفصل بين قطعة أرض وأخرى مجاورة لها، كعلامة على الشيء الذي يفصل بين حق وحق ويسمونها حدّاً، والذين يحادون الله هم الذين يجعلون الله في جانب وهم في جانب، وبذلك لا يعيشون في معية الله ولا ينعمون بنعمة الإيمان به سبحانه ولا يطبقون منهجه. بل يجعلون حدّاً بينهم وبين ما أمر به الله.
وعندما أراد العلماء تفسير هذه الآية قالوا: ﴿يُحَادِدِ﴾ تعني: يعادي، وقالوا: بمعنى يشاقق؛ أي: يجعل نفسه في شق والله ورسوله ودينه في شق آخر. أو: يحارب دين الله فيكون هو في وجهة ودين الله
والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائماً في جانب الإيمان، وألا يقيموا حدّاً بينهم وبين الإيمان به. والأحكام الشرعية تسمى حدوداً، أي: أن كل حكم قد وضع ليحدد حدّاً من حدود الله، تحفظ به الحقوق والأوامر.
ومنهج الله إما أن يكون أوامر، وإما أن يكون نواهي؛ لأن منهج الدين كلمة في «افعل» و «لاتفعل»، ويضع الحق سبحانه وتعالى عقاباً لمن يتعدى حدوده سبحانه، فيقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا... ﴾ [البقرة: ١٨٧]
ويقول: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا... ﴾ [البقرة: ٢٢٩]
ويسأل بعض الناس: ما الفرق بين اللفظين ﴿تَعْتَدُوهَا﴾ و ﴿تَقْرَبُوهَا﴾.
ونقول إذا كانت هناك أوامر فلا تتعد الأمر، وإذا كانت هناك نواهٍ فلا تقترب من المنهي عنه.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حين نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة المحرمة لم يقل: لا تأكلا من الشجرة، بل قال: ﴿فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة... ﴾ [الأعراف: ١٩]
وعندما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الخمر قال: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه... ﴾ [المائدة: ٩٠]
والحق لم يقل: لا تشربوا الخمر، ولكن أمر باجتناب الخمر، أي: لا تقرب أي مكان فيه خمر؛ لأن وجود الإنسان في مكان فيه خمر قد يوحي إليه بتناولها. وقد يجد من الجالسين من يحاول إغراء من لا يشرب بأن يتناول ولو جرعة. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يبقي النفس المؤمن أن تغرى بالمعصية فتقع فيها.
ويقول سبحانه في أدب الاعتكاف: ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله... ﴾ [البقرة: ١٨٧]
المنهي عنه هو المباشرة، أي: إن تواجدت الزوجة مع زوجها في المسجد، فليس في هذا الأمر معصية شرط ألا يباشرها الزوج، ثم
إذن: ففيهما نهى الله سبحانه وتعالى عنه؛ مطلوب من المسلم ألا يقرب منه، أي: لا تكن انت والشيء الذي نهى عنه في مكان واحد، بل عليك أن تبتعد عن المكان؛ لأن المعصية لها إغراءات، وما دمت بعيداً عن الإغراءات؛ فأنت تعصم نفسك، أما إن اقتربت منها فقد تقع فيها.
أما في الأوامر؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾. وعلى سبيل المثال: إن نشأ خلاف بين الزوجين وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، يقول الحق سبحانه: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا... ﴾ [البقرة: ٢٢٩]
إذن: ففي الأوامر يقول الحق: ﴿فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾، وفي النواهي يقول سبحانه: ﴿فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول:
﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذلك الخزي العظيم﴾ والإنذار هنا يتمثل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان، فمثلاً بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه؛ لذلك
ثم يفضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين فيقول: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ... ﴾
ولكن إذا كانت السورة تتنزل من عند الله على رسوله فكيف يحذرون ويستعدون لنزول هذه السورة؟
نقول: إن هذا استهزاء بهم؛ لأنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ولأن آيات سابقة نزلت تفضح ما يخبئونه في نفوسهم. فهم دائماً خائفون من أن تنزل آية جديدة تفضحهم أمام المسلمين.
وأيضاً يقول سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [القصص: ٤٥]
فكأن الحق سبحانه وتعالى قد كشف لرسوله من حجب الزمن الماضي، ما لم يكن يعلمه أحد، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: ٤٩]
وهؤلاء السفهاء سمعوا الآية قبل أن يتساءلوا عن تحويل القبلة، ورغم ذلك تساءلوا عن تحويل قبلة الصلاة. وأيضاً قالوا الحق من أمثلة كشف حجب المستقبل: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾ [القمر: ٤٥]
وقد نزلت هذه الآية والمسلمون يلاقون عذاباً شديداً من الكفار، حتى إن عمر بن الخطاب قال: أي جمع هذا؟
وعندما حدثت غزوة بدر قال عمر: صدقت ربي: ﴿سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر﴾.
وكذلك كشف الحق سبحانه وتعالى حجاب المستقبل حين قال:
﴿غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم﴾ [الروم: ٢ - ٥]
أي: أن الله تبارك وتعالى أعطى نتيجة المعركة بين الروم والفرس قبل أن تحدث بسنوات طويلة، وحدد الجانب المنتصر وهو الروم، وكذلك أنبأ
هم قالوا في أنفسهم، ولو لم يقولوا لعارضوا ما أخبرهم به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّا قالوه في أنفسهم وأعلنوا أنه كذب. ولكنهم لم يكذِّبوا رسول الله فيما أبلغ على ظنهم صدق رسول الله.
والمثال هو قول الحق هنا: ﴿يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ٦٤]
وإن كان البعض منهم قد استهزأ قائلاً: لا داعي أن نتكلم حتى لا يُنزِل فينا قرآناً، فالحق يُبلِّغ رسوله أن يرد عليهم: ﴿قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ٦٤].
وما تحذرون منه أيها المنافقون سيكشفه الله لرسوله وللمؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا... ﴾
والخوض أن تُدخِلَ نفسك في سائل، مثل الذي يخوض في الماء أو يخوض في الطينَ، وقد أطلق على كلِّ خوض، ثم اقتصر على الخوض في الباطل، أي: أن المسائلة لم تكن جدية بل كانت مجرد تسلية ولعب.
ويقول الله لرسوله: ﴿قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ﴾ أي: إذا قالوا لك: إن هذا حديث تسلية ولعب؛ فاللعب هو أمر لا فائدة منه إلا قتل الوقت، أليس عندكم إلا الاستهزاء بآيات الله ورسوله وأحكام الإسلام تقتلون به الوقت؟ فهل هذه المسائل خوض ولعب؟
ثم يعطيهم الله الحكم: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... ﴾
وقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى... ﴾ [النحل: ٩٧]
وقوله الحق سبحانه: ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أي: لا يتميز أحد من المنافقين والمنافقات عن الآخر في الخسة والقبح والفضائح، ويحدد الاله خصالهم في قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ فهم إن فعل الناس معروفاً ينهونهم عنه، بل إنهم يشجعونهم على فعل المنكر، وهم لا ينفقون في سبيل الله إذا طُلِبَ منهم الإنفاق.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ وهل يُنْسَى الحق سبحانه وتعالى بالفطرة؟ لا، ولكن المقصود أنهم نسوا مطلوبات الله وتكاليفه فنساهم الله أي أهملهم، فمن يبعد عن الله يزده الله بُعْداً، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً... ﴾ [البقرة: ١٠]
فإن كنت مسروراً من أنك نسيت الله فسيزيدك نسياناً، ويختم على قلبك فلا يخرج منه الكفر أبداً.
ثم يعطي الحق سبحانه الحكم: ﴿إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وكلمة «منافق» - كما نعرف - مأخوذة من نفقاء اليربوع، وهو حيوان يشبه الفأر ويسكن في الصحراء ويحفر لنفسه نفقاً في الأرض؛ له بابان، وإنْ ترصَّد له الصائد عند أحدهما خرج من الثاني، وهكذا ترى أن المنافق له وجهان. والفسوق معناه الخروج عن منهج الطاعة؛ وهو مأخوذ من «فسق الرطب»
ثم يأتي الله بما أعدَّه للمنافقين فيقول: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات... ﴾
كأن الله أعطاهم وعداً أنهم إن يستغيثوا سيأتيهم الغوث ثم يقلبه عليهم ويجعله ماء يغلي ويشوي وجوههم - والعياذ بالله - ونلحظ أيضاً أن الحق سبحانه قد قدَّم المنافقين والمنافقات على الكفار، وهذا يؤيده قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ [النساء: ١٤٥]
﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾
وهكذا نرى أن المنافقين موقعهم الدرك الأسفل من النار. والكفار موقعهم الدرك الأعلى، وقد يسأل سائل: كيف يكون ذلك؟
ونقول: إن الكافر بكفره قد أعطانا مناعة؛ فأنه أعلن الكفر فنحن نأخذ حذرنا دائماً منه، فلا يلحق بنا إلا ضرراً محدوداً، أما المنافق فهو قد تظاهر بالإيمان فآمناه، ويستطيع أن يلحق بنا شرّاً رهيباً؛ لأنه بحكم ما أخذه من أمان منا، يعرف أسرارنا ومواطن الضعف فينا، وقد تكون طعنته قاتلة.
والعدو الخفي - كما نعلم - شر من العدو الظاهر؛ لأننا نكون على حذر من العدو الظاهر، لكننا لا نأخذ الحذر من العدو الخفي، وهو يعرف ما في نفسي، ويعرف كل تحركاتي، ويستطيع أن يغدر بي في أي وقت دون أن أكون منتبهاً لهذا الغدر.
ولذلك إذا أراد قوم أن يكيدوا للإسلام دون أن يسلموا، فكيدهم يفشل؛ لأنهم وهم على الكفر سيجدون مناعة عند المسلمين من الاستماع إليهم. أما إن احتالوا ودخلوا على الإسلام من داخل المسلمين أنفسهم، فهم يجنِّدون عدداً من ضعاف الإيمان ليطعنوا في هذا الدين، وتكون طعنات هؤلاء المسلمين بالاسم، هي القاتلة وهي المؤثرة.
هنا نلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ولم يقل الحق بالخلود أبداً في النار إلا في ثلاث آيات فقط في القرآن الكريم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ [الأحزاب: ٦٤ - ٦٥]
وقوله جل جلاله: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ [الجن: ٢٣]
ولكنه ذكر الخلود في الجنة أبداً مرات كثيرة.
ونقول: إن الجنة هي بُشرى النعيم للمؤمنين. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤنس خلقه بالنعيم الذي ينتظرهم، ولكن بالنسبة للنار فهي دار عذاب، وتأبى رحمة الله وهو الخالق الرحيم بعباده ألا يُذكر الخلود في النار متبوعاً بكلمة أبداً في ثلاث آيات؛ حتى لا يظن الكفار أن الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ دون ذكر الأبدية أنه خلود مؤقت في النار؛ لذلك يُذكِّرهم بأنه خلود أبدي.
وفي نفس الوقت تأبى رحمته سبحانه وتعالى أن يكون ذلك في كل آية تُذكَر فيها النار؛ حتى يفتح طريق التوبة والرحمة لكل عاصٍ، عَلَّه يتوب ويرجع إلى الله.
والحق سبحانه يقول: ﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٦ - ١٠٨]
ونقول: إن الذين يثيرون هذا الاعتراض لم يفهموا القرآن ولا المنهج، فالذين سيدخلون النار قسمان: قسم آمن ولكنه عصى وارتكب سيئات؛ فُيعذَّب في النار على قَدْر سيئاته، ثم يُخرجه الله من النار إلى الجنة لأنه مؤمن، وقسم آخر كافر أو منافق، الاثنان يدخلان النار، ولكن أولهما - وهو المؤمن - يُعذِّب على قَدْر سيئاته. والثاني يبقى خالداً فيها لأنه كفر أو نافق.
إذن: فالمؤمن العاصي لا يخلد في النار؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿إلا ما شاء ربك﴾ لأنه لن يبقى في النار إلا بقدر سيئاته، فكأن خلوده في النار من البداية مؤقت وهو لا يبقى خالداً فيها؛ لأن مشيئة الله سبحانه وتعالى تدركه، فتخرجه من النار إلى الجنة.
أما الكافر والمنافق فهما خالدان في النار لا يخرجان منها، فكأن هناك من يدخل النار ولا يكون خلوده فيها أبديّاً، وهذا هو المؤمن العاصي. وهناك من يدخل النار ويخلد فيها أبداً، وهذا هو الكافر أو المنافق.
وإذا جئنا إلى الجنة، فهناك من سيدخل فيها خالداً أبداً؛ أي منذ انتهاء الحساب إلى ما لا نهاية. وهذا هو المؤمن الذي غلبت حسناته سيئاته وأدخله الحق الجنة. ولكن هناك من سيدخل الجنة، ولكن خلوده فيها يكون ناقصاً وهو المؤمن العاصي؛ لأنه يدخل النار أولاً ليجازي بمعاصيه.
إذن: فالمؤمن العاصي خلوده في النار ناقص؛ لأنه لن يبقى فيها أبداً. وكذلك يفتقد الخلود في الجنة فور انتهاء لحظة الحساب؛ لأنه لن يدخل
وقول الحق عن خلود المنافقين في النار: ﴿هِيَ حَسْبُهُمْ﴾ أي تكفيهم، كأن يكون هناك إنسان شرير وأنت تريد أن تؤدبه، فيأتي إنسان قوي ويقول لك: اتركه لي، أنا وحدي كفيل أن أؤدبه، فتقول: هذا حسبه، أي يكفيه هذا؛ ليتم التأديب المطلوب. كذلك النار، فسبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنها تكفيهم، أي: أن ما سيعانونه فيها من ألم وعذاب كافٍ جدّاً لمجازاتهم على ما فعلوه من سيئات.
ثم يقول الحق: ﴿وَلَعَنَهُمُ الله﴾ أي: طردهم من رحمته ومن طاعته فلا يقبل لهم توبة ولا عودة؛ لأن مكان التوبة هو الدنيا. وأما بعد الموت والآخرة، فلا محل فيهما لتوبة ولا رجوع عن معصية؛ لأن زمان ذلك قد انتهى. لذلك فالعذاب لمن لم يَتُبْ في الدنيا هو عذاب مقيم في الآخرة.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ وقد وصف الحق عذاب جهنم مرة بأنه عذاب أليم، ومرة بأنه عذاب مهين، ومرة بأنه عذاب مقيم؛ لأنه يريدنا أن نعلم أن كل أنواع العذاب ستصيب أهل جهنم، فإن كان الإنسان مُتجلِّداً له
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي: عذاب دائم، فإن كان أليماً يبقى الألم على شدته ولا يخفَّف أبداً، وإن كان مهيناً تبقى الإهانة مستمرة ولا تزول أبداً. وفي كلتا الحالتين هو عذاب فيه إقامة وفيه دوام واستمرار.
ثم يخاطب الحق سبحانه وتعالى الكفار والمنافقين، ويقول جل وعلا للخارجين عن منهجه: ﴿كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ... ﴾
ونحن لم نشهد ﴿إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ التي وصفها الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾، ولكن القرآن أكد لنا أنها وصلت إلى درجة من الحضارة التي لم يصل إليها أحد. وقد يتساءل بعض الناس: أين ﴿إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ من حضارات اليوم؟. ونقول: إن هناك أسراراً لله في كونه قد أعطاها بعض خلقه ولم يُعْطِها لأحد حتى الآن.
وإذا نظرنا إلى الفراعنة مثلاً نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم في القرآن بقوله: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد﴾. والأهرامات أوتاد، والمسلات أوتاد، وما زالت علوم حضارة الفراعنة تغيب عن البشر حتى الآن، فهناك من مظاهر هذه الحضارة ما نعجز عنه حتى الآن، مثل سير التحنيط وبناء الأهرام؛ فهذه الكتل الحجرية الضخمة التي ارتفعت ويمسك بعضها البعض، دون أية مواد مثبتة، وما زال العلم الحديث عاجزاً حتى اليوم عن أن يوجد هرماً مبنيّاً بنفس طريقة قدماء المصريين دون استخدام أي مواد
وهكذا نعلم أن بعض حضارة إرم ذات العماد ما زالت مخفية حتى الآن لا يعلم أحد عنها شيئاً. ومدفونة في باطن الأرض. ولعل الله سبحانه وتعالى قد أبقاها ليكشفها في زمن قادم يزداد فيه بُعْد الناس عن الدين؛ لأن الإنسان كلما تقدم في الحضارة ابتعد عن الإيمان؛ لإحساسه بأنه متمكن في الكون؛ مسيطر عليه؛ حينئذ ربما يكشف الحق سبحانه وتعالى عن حضارة ﴿إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ ليعرف الناس أن ما وصلوا إليه لا يساوي شيئاً مما كشفه الله لهؤلاء القوم.
وإن سأل سائل: أين هي حضارة ﴿إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ ؟ نقول له: إنها في وادي الأحقاف والهبّة الواحدة من الرياح في هذا الوادي تستر قافلة بأكملها؛ أي إذا هبّت ريح، فإن الرمال لا تداري الطريق وحده؛ ولكنها تداري القافلة كلها، فكم عاصفة رملية هبّت على المكان الذي كانت تقطنه ﴿إِرَمَ ذَاتِ العماد﴾ فأخفتْ حضارتهم؟ لا بد إذن من حفريات على مستوى عميق جدّاً لنعثر على تلك الحضارة؛ لأننا نعلم ونرى أن كل الكشوف الأثرية تحتاج أن نحفر لها؛ لأن الرمال تتراكم فوق
وأنت إذا سافرت وأغلقت نوافذ مسكنك إغلاقاً مُحْكماً، وعُدْتَ بعد شهر واحد تجد الأثاث مغطى بطبقة من التراب، فإن غبْتَ عاماً وجدت كمية كثيفة من التراب، هذا بالنسبة لبيت محكم الإغْلاق، فما بالك بحضارة معرضة لكل هذه الظواهر الطبيعية، وتُسْتر كل شهر بطبقة جديدة كثيفة من التراب؟
ويقول سبحانه: ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً﴾ أي: أن حضارتهم أكبر من حضارتنا؛ لأن الحضارة كلما كانت متقدمة كانت الأمة قوية، وكلما تأخر شعب حضاريّاً كان ضعيفاً.
إذن: فالذين من قبلنا كانوا أكثر حضارة وأكثر أموالاً وأولاداً. ولسائل أن يسأل: كيف تكون لهم كثرة أولاد والعالم يزداد عدداً كل عام، وكيف تكون لهم كثرة أموال ونحن نكشف كنوز الأرض جيلاً بعد جيل؟ نقول: لا تأخذ الكثرة على أنها كثرة عددية، بل خذها بنسبتها؛ لأنك إذا جئت بمائة شخص ووضعتهم في حجرة، يقال عنهم: «كثير». فإذا أخذت كل واحد منهم ووضعتهم في مكان بعيد عن الآخر يكون العدد قليلاً. وكان العالم في الماضي مسكوناً بأماكن محدودة، بدليل أننا اكتشفنا قارات وأماكن لم يكن يعرفها أحد.
إذن: فالكثرة هنا بالنسبة للحيز، وهم فس حيزهم الذي يعيشون فيه كانوا كثرة، وبالأموال التي كانت بين أيديهم بعددهم المحدود كانوا أكثر منكم أموالاً بعددكم الكبير، أي أن نصيب الفرد كان أكبر، وكذلك الأولاد.
أي: ليس له في الآخرة نصيب من نعم الله، فالذين عملوا للدنيا وحدها ولك يكن في بالهم الله، يأبى عدل الحق سبحانه وتعالى أن يضيع عليهم نتيجة عملهم، ولذلك فهو يعطيه لهم في الدنيا، ولكم من يعمل وفي باله الله يعطيه الله من الدنيا ويُوفِّيه أجره في الآخرة.
ولذلك نجد بعضاً من المؤمنين يسألون: كيف يكون الكفار أحسن حالاً من المؤمنين في الحضارة المادية، ولماذا يأخذ الكفار من خيرات الأرض ما يكفيهم ويزيد، لدرجة أنهم في بعض البلاد يُلْقون بالفائض في البحر، بينما تجد المسلمين يعيشون في حضارة مادية محدودة، ويستوردون ما يأكلون؟
ولنتذكر الحقيقة الواضحة التي أكررها دائماً لكل مسلم: إياك أن يغيب عنك أن هناك «عطاء للرب» و «عطاء للإله». فعطاء الرب للجميع؛ لأن الرب هو الذي خلق وربَّى، وأمدنا بالأقوات، وسبحانه ليس رب المؤمن فقط. لكنه رب المؤمن والكافر. ولذلك إذا أخذ المؤمن أو الكافر بالأسباب أعطاه الله؛ فالأرض تعطى محصولاً وفيراً لمن يحسن زراعتها وينتقي لها التقاوي ويرعاها، لا تفرق في ذلك بين مؤمن وكافر، والكون يعطي كنوزه لمن يبحث عنها ويجتهد، لا فرق بين مؤمن وكافر، وهذا عطاء الربوبية.
أما عطاء الألوهية فقد خصَّ الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين الذين يتبعون منهجه، هذا عطاء العبادة يجزي به الإنسان في الآخرة، والذي
والأسباب في الدنيا لا تفرق بين مؤمن وكافر، فالشمس تشرق على المؤمن والكافر، والمطر ينزل على الطائع والعاصي؛ لأن هذا عطاء ربوبية. من أحسن استخدامه أعطاه بصرف النظر عن الطاعة أو المعصية.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: ٢٣]
لماذا؟ لأنك عملت للدنيا وحدها.. وكنت تعمل ليقال إنك مخترع أو مكتشف.. أو لتحصل على الأموال والأوسمة.. أو النفوذ والجاه في الدنيا، ولكنك لم تكن تعمل وفي بالك الله.
وبعض الناس يأتي ليقول لك: هل الذي اكتشف علاجاً لميكروب كان يفتك بالبشر، أو اكتشف الكهرباء أو اكتشف كذا مما أسعد البشرية كلها، أيكون هذا كافراً ويُعذَّب في النار؟
نقول له: نعم؛ لأنه فعل هذا وليس في باله الله.. وإنما فعله وفي باله الحصول على المجد أو المال أوالنفوذ في الأرض؛ ولذلك أعطاه الله، ما عمل من أجله، فأصبح له ثروة طائلة وتاريخ يدرس في المدارس، وأعطوه النياشين وأطلقوا اسمه على الشوارع والميادين.
فما دام قد عمل للدنيا فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه أجره في الدنيا، ولكن الذي عمل وفي باله الله يأخذ من الدنيا بالأسباب، ولكنه يأخذ في الآخرة من المسبب مباشرة؟ فالإنسان قد ارتقى حضاريّاً، حتى إنك الآن في بعض الدول المتقدمة تضغط زراً يعطي لك القهوة أو الشاي،
نقول: إن هذا كله متاع الأسباب، فقبل أن تضغط أنت هذا الزر، كان هناك بشر أعدّوا لك القهوة أو الطعام، والآلة أوصلته إليك.
ولكن مهما ارتقى الإنسان تكنولوجيّاً فلن ياتي اليوم الذي يجعل الشيء يخطر ببالك فتجده أمامك.. ولكن في الجنة بمجرد أن يخطر الشيء على بال تجده أمامك؛ لأن عطاء الدنيا عطاء أسباب، وعطاء الآخرة عطاء مسبب.
فالله سبحانه وتعالى أعطانا الاختيار والأسباب في الدنيا، ولكن في الآخرة يأتي لك الشيء بلا عمل، مختلفاً في مذاقه ورائحته عن الدنيا.
إذن: فالذي يعمل وفي باله الأسباب فقط يعطي في الدنيا، والذي يعمل وفي باله خالق الأسباب يعطي في الحياتين؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ..﴾ [النور: ٣٩]
والسراب الذي تمشي له متخيلاً أنه ماء فإنك حين تصل إليه لا تجده شيئاً، هكذا الكافر يوم القيامة، يفاجأ بأن الله موجود، وجد الله سبحانه الذي لم يؤمن به، ويطلب من الله الأجر فيقال له: أجرك مما عملت له. وما دمت لم تعمل لله فلا يوجد لك أجر في الآخرة؛ لأن الله هو الذي يجزي في الآخرة.
وقول الحق سبحانه: ﴿فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ﴾ أي: خذوا نصيبكم من الدنيا بالأسباب، ولكن تذكروا أنه استمتاع موقوت بزمن لا يملكه الإنسان؛ لأن عمر الفرد في الدنيا هو بعمر حياته فيها لا بعمر الدنيا نفسها؛ لأن الدنيا لك ولمن يأتي من بعدك. وعمرك فيها له حدود لا تعرف طوله. هل هو شهر أم سنة أم عشر سنين أم مائة عام؟ إذن: عمرك في الدنيا مظنون موقوت، فعملك لأسباب الدنيا محدودة المدة، بمقدار عمرك في الدنيا.
وهَبْ أن عمرك طال وصرت من المعمرين فسوف ينتهي حتماً.
ويقول الحق سبحانه: ﴿كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ﴾ أي: أنتم تبعتموه ومشيتم على أثرهم، وكلما فعلوا إثماً فعلتم إثماً، وهم خاضوا في الأنبياء، وأنتم خضتم أيضاً في الأنبياء، فأنتم شركاء الذين ذهبوا من
﴿أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي: فشلت وضاعت أعمالكم في الدنيا، كما حبطت أعمال من سبقوكم في الدنيا وكانوا قسمين: قسماً وقف يحارب دعوة الخير حتى قتل ولم يأخذ شيئاً لآخرته فلم يأخذ شيئاً في الآخرة.
فالذين حبطت أعمالهم في الدنيا هم الذين قُتلوا وأسروا وشُردوا وغنمت أموالهم بأيدي المؤمنين، فكأنهم خسروا الدنيا فلم يأخذوا من متاعها شيئاً، وأيضاً خسروا الآخرة، وهذا هو الخسران المبين، أي الخسران الحيط بطرفي الزمن؛ الدنيا والآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن... ﴾
ونلحظ هنا أن الحق جاء بالخطاب للغيبة فقال: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ﴾ ولم يقل: «أَلَمْ يَأْتِكمْ»، فسبحانه يخاطبهم ترقيقاً لهم، ثم يتكلم عنهم مرة ثانية وكأنهم غائبون. وكأن هذا أيضاً مزيد من حرص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غيبتهم، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريص على هدايتهم.
﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ والنبأ: هو الخبر الهام. ونحن لا نقول عن كل خبر: نبأ، بل نقول عن الخبر الهام فقط إنه نبأ، والنبأ أصله من النبوة، والنبوة واضحة ظاهرة وليست مطموسة؛ ولذلك فكل شيء هام ظاهر قد حدث يقال عنه نبأ. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ [النبأ: ١ - ٣]
ولا يوجد نبأ أعظم من نبأ يوم القيامة.
ثم حدد الحق سبحانه المقصود بالذين من قبلهم، وهم قوم نوح الذين أغرقهم الله بالطوفان. وكان قوم نوح كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى ردّاً على من سخروا من نوح: ﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: ٣٨]
أي أنتم يا من تسخرون من نوح عليه السلام جاهلون بالغيب، ولكن الله أعلم نوحاً وقومه بما يكون، ولذلك فالسخرية الحقيقية هي من أولئك الذين رفضوا الإيمان، ولم يعلموا بما أعده الله لهم.
ثم ذكر الحق بعد ذلك عاداً وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وهم قوم شعيب، والمؤتفكات أي قوم لوط. ومعنى المؤتفك أي المنقلب. وقد جعل لله عاليها سافلها. ويقول الحق سبحانه: ﴿والمؤتفكة أهوى فَغَشَّاهَا مَا غشى﴾ [النجم: ٥٣ - ٥٤]
أي: كانت عالية فأنزلها للهاوية. والإفك هو الصرف عن الحقيقة، كما قالوا لإبراهيم:
﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ [الأحقاف: ٢٢]
أي: لتصرفنا عنهم.
وعندما كان العالم يعيش في انعزال، كانت كل بيئة لها لون من المعصية والفساد، فكان الرسول يأتي ليحارب هذا اللون من المعصية والفساد الموجود في في بيئة معينة، ولا يوجد هذا اللون من المعصية والفساد في بيئة أخرى.
ولكن عندما توحد العالم توحدت الداءات؛ فالداء يظهر في أمريكا مثلاً، وبعد فترة قصيرة جدّاً يظهر في أوروبا أو في مصر. ولذلك كان لا بد أن يأتي رسول واحد؛ لأن الداءات أصبحت واحدة، واقتضى الأمر وحدة المعالجة؛ لذلك كانت رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسالة عامة لكل الأزمان وكل الأمكنة.
إذن: فالمعجزات لا بد أن تكون واضحة لكل المستويات؛ حتى لا يكون هناك عذر لأحد.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ﴾، وهذا دليل على أن الحق سبحانه وتعالى يحاسبهم على قدر استيعابهم للمعجزة، فكأن كل العقول قد فهمت وأيقنت أن هناك معجزة. والذين استقبلوا المعجزة بالكفر ظلموا أنفسهم؛ لأنهم بعد أن استوعبوا المعجزة، وتحققوا أنها خَرْقٌ لقوانين الكون ولا يمكن أن يأتي به إلا الله سبحانه وتعالى، ولكنهم رغم ذلك رفضوا الإيمان.
ويقول الحق عنهم: ﴿فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والظلم أنك تأخذ حقّاً وتنقله إلى الباطل. ولكن الحقوق مختلفة، فأيُّ حق ذلك الذي نقلته إلى الباطل؟ إنه حق الوجود الأعلى الإيمان به وعبادته.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿والمؤمنون والمؤمنات..﴾
فناسب أن يقابلهم بالمؤمنين والمؤمنات، وتلك مناسبة الضد بالضد؛ لأن قياس الضد إلى ضده يُظهر الأمرين معاً. والمثال قول الشاعر حين
فالوَجْهُ مثْلُ الصبح مُبيضٌ | والشَّعْر مثل الليل مُسْودُّ |
ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا | والضِّدُّ يُظهِر حُسْن الضِّدُّ |
﴿المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾، وحين تكلم عن المؤمنين قال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق ﴿بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ﴾ أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والاتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضاً. وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحاول رَدَّهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى.
أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير. فإن وُجد في مؤمن شر؛ فَوليُّه من المؤمنين يبعده عن الشر ويعيده إلى طريق الخير؛ ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء. بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية. فإن وُجِدَ في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يُبيِّنون له نقطة ضعفه ويُبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضاً يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجمتع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهم ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجميع، ومَنْ يقصر في شيء يجد القريب منه؛ وهو يسد الثغرة الطارئة في سلوكه.
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ لم يبين لنا من المولى ومن الموَالي، فكل مؤمن وهو ولي وهو موال؛ لأن الولاية مأخوذة من «يليه»، أي صار قريباً، وضدها عاداهُ أي بَعُدَ عنه وتركه. إذن: فالموالاة ضدها العداوة. وفائدة القرب أن يكون الولي نصير أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه.
فإذا كنت ضعيفاً في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه. وما دام أخي المؤمن ينصرني في أمر ما، فإن صار هو ضعيفاً في شيء أنصره أنا فيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا ولياً ومُوَالَى.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ١ - ٣]
ولو قيل: «وصَّوْا» لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال: ﴿وَتَوَاصَوْاْ﴾ ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن. فإن كان عندي نقطة ضعف فأنت توصيني وتقول: اعدل عن هذا ولا تفعله فأنت مؤمن. وإن كانت فيك نقطة ضعف أقول لك: لا تفعل هذا فأنت مؤمن.
إذن: فكل واحد منا مُوص ومُوصىً. كذلك الولاية فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليُّك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار؟ وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر.
أي: أن النصر الحقيقي والقرب الحقيقي لله؛ لأننا نعيش في عالم أغيار، فقد تطلب النصر عندي فتكون قوتي قد ذهبت، أو يكون مالي قد فنى، أو يكون نفوذي قد انتهى، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو وحده القوي دائماً، والغني دائماً، الذي يُغيِّر ولا يتغير، وعندما ينصرك الله فهذا هو النصر الحقيقي الدائم الذي لا نصر الأغيار.
وتجد الحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: ٦٢]
أي: أن الحق سبحانه وتعالى جعل أولياء لله.
وكذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ... ﴾ [البقرة: ٢٥٧]
إذن: فالحق سبحانه وتعالى مرة يكون موالياً. ومرة يكون مُوَالىً، فإن واليت الله بطاعتك يواليك سبحانه بنصره. ويقول تعالى: ﴿إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧]
أي: إذا تقربت إلى الطاعة بطاعته ونصرة منهجه، فهو يقرب منك في أزماتك وينصرك ويُثبِّت أقدامك.
إذن: فالولاية في الأصل هي القرب والتناصر، وما دام هناك تناصر فلا بد أن تكون هناك نقطة ضعف في مؤمن، ونقطة قوة في مؤمن آخر،
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: ﴿أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ ولم يعين البعض؛ فكل واحد صالح لأن يكون ناصراً ومنصوراً.
ولكي يتضح المعنى اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً... ﴾ [الزخرف: ٣٢]
وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تُقسموا أمور الدين، فاقسموا أولاً معايشكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموها بدلاً من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده.
ونلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾ أن البعض مرفوع والبعض الآخر مرفوع عليه، وما دامت كلمة ﴿بَعْضٍ﴾
ونقول له: أنت تتقن عملاً معيناً ولذلك أنت مرفوع فيه، ولكن في باقي الأشياء لا تعلم شيئاً، فأنت مرفوع عليك. إذن: فأنا في الشيء الذي لا أجيده مرفوع عليّ، وفي الشيء الذي أجيده مرفوع على الناس؛ ولذلك تجد كل واحد في كون الله مرفوعاً مرة ومرفوعاً عليه مرة، وهذا هو معنى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾.
ولكن الآفة أننا لا ننظر في الرفعة إلا في مجال واحد؛ هذا غني وهذا فقير، ولكننا لا ننظر إلى الصحة، أو العلم، أو الأولاد، أو صلاح الزوجة أو البركة في الحياة، وزوايا كثيرة، وبعضنا إذا أخذ درجة عالية في زاوية، فإنه قد يأخذ صفراً في زاوية أخرى. ومجموع كل إنسان في نهاية الأمر يساوي مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. فإن رأيت واحداً متفوقاً عليك في شيء. فإياك أن تحسده ولكن اسأل نفسك في أي مجال أنت تتفوق عليه، وستجد هناك مجالات وزوايا أخرى تكون فيها أفضل من غيرك.
إذن: فكل منا مرفوع ومرفوع عليه، ولا بد أن نفهم أن كل صاحب موهبة يفيد المجتمع بموهبته، وربما كان نفعه للمجتمع خيراً من نفعه
ولقد ضربنا مثلاً باليد اليمنى واليد اليسرى، فعند غالبية الناس تجد أن اليد اليمنى تؤدي الأعمال بسهولة، واليسرى تزاولها ببطء وتعثر، فإذا أردت أن تقص أظافر يديك مثلاً، فأنت تمسك المقص بيمينك وتقص أظافر اليد اليسرى بسهولة، ثم تمسك المقص بشمالك وتتعثر في قَصِّ أظافر اليد اليمنى.
وهكذا نرى أنه لا يوجد إنسان يستمتع بالمواهب المكتملة. بل هو يتقن شيئاً ولا يتقن أشياء، ولكن مجموع مواهب كل إنسان، تساوي مجموع مواهب كل إنسان آخر.
والعدل الإلهي يتدخل هنا، فنجد - على سبيل المثال - الرجل الغني الذي يأكل خبزاً من الدقيق الأبيض الفاخر، يم يأتي عليه وقت من الأوقات لا يستطيع أن يأكل إلا الدقيق الأسود أو السّن. وتجد من يسرف في الطعام؛ لا بد أن يأتي عليه وقت ويحرمه الأطباء من الطعام؛ لأنه أخذ منه أكثر من حقه. وتكون صحته في أن يُحرم. والحق سبحانه وتعالى وضع نظاماً كونياً يتساند فيه الجميع؛ لكي يلتحم الجميع. فأنت تحتاج لي فيما أتقنه وأنا أحتاج إليك فيما تتقنه، وهكذا يتساند الناس ويتكون المجتمع السليم.
ولذلك يقال: الناس بخير ما تباينوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا وأصبحوا أصحاب موهبة واحدة أو عمل واحد لفسد الكون، كأن نكون كلنا قضاة مثلاً، فمن الذي يعالج المريض؟ ومن الذي يحفر الأرض؟ ومن الذي يحمل الطوب؟ ومن الذي ينظف الطريق؟ إننا لو تشابهنا في الموهبة
ويصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم: ﴿يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ فإذا فعل مؤمن منكراً؛ جاء أخوه المؤمن فنهاه عنه، وإذا لم يفعل معروفاً جاء أخوه المؤمن وأمره بالمعروف وكل واحد منا ناهٍ عن منكر، ومنهي عن منكر.
وأنت لا يمكن أن تأمر بمعروف وأنت تفعل عكسه، أو أنت بعيد عنه، فلا يمكن أن تكون في يدك كأس من الخمر؛ ثم تطلب من إنسان آخر يمسك كأس خمر أن يحطم الكأس التي في يده، لا يمكن إذن أن تنهي عن منكر وأنت تفعله؛ والذي يأمر بمعروف لا بد أن يكون فاعله، والذي ينهى عن المنكر لا بد أن يكون بعيداً عنه. فكل مؤمن آمر ومأمور بالمعروف. وناهٍ عن المنكر.
ويضيف الحق وصفاً للمؤمنين: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة﴾ وإقامة الصلاة هي إعلان الولاء للخالق الأعلى، ومن له ديمومة لا نهاية لها. والمؤمنون أولياء بعض، ولكن مَنْ وليُّهم جميعاً؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يلتحموا بمنهج الولي الأعلى الذي لا نستغني عنه يوماً.
إذن: فلا بد أن نتجه جميعاً إلى الوالي الكبير. فهو سبحانه فوق أسبابنا، وفوق قوتنا وهو الذي ينصرنا إنْ عزَّتْ ولاية الأفراد المؤمنين لبعضهم البعض، فنلجأ للولي الكبير. وما دامت الولاية لله الحق، فلا بد أن نستديم في ولائنا له سبحانه وتعالى.
واستدامة الولاء لا تكون إلا بالصلاة. وساعة تسمع المؤذن يقول: «الله أكبر» تسرع إلى الصلاة. لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى - وهو ربك وصانعك ووليك - قد دعاك إلى الصلاة، فلا بد أن تجيب الدعوة.
فإذا أحببت أن تزيد على الصلوات الخمس وتكون في معية الله دائماً فافعل، بعد أن تكون قد أدَّيْتَ ما فرضه سبحانه عليك من خمس صلوات في اليوم الواحد، وحين تُعْرَض الصنعة على صانعها خمس مرات كل يوم ففي هذا صلاح الإنسان. وأنت إنْ جئتَ بأي آلة وجعلتَ المهندس الذي صنعها يراها كل يوم خمس مرات فلن تعطب أبداً.
كذلك الإنسان وهو صنعة الله، إذا عرض نفسه على الله خمس مرات كل يوم فإن العطب لا يدخل إلى نفسه. والصانع من البشر حين تعرض عليه الآلة فيصلحها بماديات، سواء كان باكتشاف نقص في الوصلات الكهربية أو كسر في أي شيء، فالمادة تصلح بالمادة، ولكن الله سبحانه
ولهذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر - أي كان هذا الأمر فوق طاقته - قام إلى الصلاة؛ لأن أسبابه لم تستطع أن تفعل شيئاً فيتجه إلى المسبب، ويقف بين يديه؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الحل. ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال كأن الراحة بها، أي اجعل ملكاتنا تعتدل بالصلاة.
لذلك كان لا بد أن يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة﴾ لأن الصلاة استدامة الولاء لله، والحق تبارك وتعالى يريدنا أن نكون موصولين به سبحانه، وهذه الصلة تتم بالصلاة فرضاً خمس مرات في اليوم، وترك سبحانه الباب مفتوحاً لتطوعك، فلا تترك ساعة تستطيع أن تكون فيها بين يدي الله إلا فعلت.
ولكي تعرف الفرق بين سيادة الله وسيادة البشر، فإنك إذا ضعفت أٍسبابك أمام شيء، فإنك تطلب أن تقابل من هو أعلى منك مركزاً، فهو يملك أسباباً لقضاء حاجتك، فإذا طلبت مقابلته قد يقول نعم، وقد يقول لا.. فإذا قال نعم، يسألك عم ستتكلم فيه.. فإذا قلت: إنك ستتكلم في كذا، حدد لك الساعة واليوم والمكان ومدة المقابلة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يفعل هذا. أنت تذهب له في أي وقت تشاء، وفي أي مكان تشاء، وتتكلم فيما تريد، وهو سبحانه لا ينهي المقابلة أبداً، أنت الذي تنهي المقابلة مع ربك.
والحق جل جلاله لا يشغله شيء عن شيء؛ ولذلك فهو يقابل كل عباده في وقت واحد، ويستمع إليهم في وقت واحد، ويُجيبهم إلى ما يطلبون في وقت واحد.
ويقول سبحانه: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة﴾ والصلاة تأتي مع الزكاة باستمرار؛ لأن في الصلاة استدامة ولاء لله المعطي، وفي الزكاة استبقاء حياة من يستحق أن تعطيه، فأنت تعطيه لتستبقي له حياته فيواصل الولاء لله معك؛ لأنه لا ولاء إلا بحياة، وأنت تساعده على استبقاء هذه الحياة؛ ولأن الزكاة إعطاء مال للفقير، والمال يأتي بالعمل، والعمل يحتاج إلى وقت، إذن: فأنت ضحيت بجزء من وقتك لتتصدق به، وفي الصلاة ضحيت بوقتك في أوقات محددة.
وفي الأوقات التي تعمل فيها هناك استدامة الولاء، بأن تخصص جزءاً من أثر هذا الوقت للزكاة، فلا يكون كل وقتك للعمل، وإنما يكون وقتك فيه عمل وفيه عبادة، فحين تخصص جزءاً من مالك الذي سيأتيك من العمل للزكاة تكون قد زكَّيت الوقت بالصلان، وزكيت المال بالعطاء.
ويقول الحق: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾. وقد ذكر الحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذه كلها طاعة لله بإقامة أركان الإسلام، فلماذا يقول سبحانه: ﴿وَيُطِيعُونَ الله﴾ ؟
نقول: الله سبحانه ينبهنا إلى أن أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم
وحركات الحياة كلها متكاملة، وإذا نظرت للشيء الذي تستفيد به تجده وليد حركات متعاقبة ممن سبقوك حتى آدم عليه السلام، فإذا أخذنا أبسط الأشياء وهي وضع خميرة في عجينة الخبز؛ وكيف عرفنا هذا؟ نجد أننا أخذناها جيلاً عن جيل. والذي بدأها ألهمه الله بحادث يقع أو بخطأ يتم إلى أن وصل إلى قيمة وضع الخميرة في العجين ليكسب الخبز طعماً، ومعظم مبتكرات الحياة قد أتت بالصدفة أو نتيجة أخطاء. فالبنسلين - على سبيل المثال - اكتُشِف نتيجة خطأ. وقاعدة أرشميدس التي بنيت عليها نظريات الغواصات اكتشفت نتيجة ملاحظة ألهمها الله لأرشميدس. وحين يأتي ميلاد كشف جديد للبشرية، فسبحانه يهدي خلقه إلى هذا الكشف ولو كان بخطأ يقع منهم.
ومثال آخر: ما الذي جعلك تفهم أن اللحم حين ينضج على النار أو يُشوى يكون طعمه أحلى؟ ما الذي جعلك تطهو بعض أنواع الخضراوات ولا تطهو أنواعاً أخرى.
كل هذا هدانا إليه الله.
إذن: فكل ما ننتفع به في حركة الحياة، قد أتانا من أجيال مضت؛ ولذلك من يأتي ليقول: سأنقطع للعبادة صلاة وصوماً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]
نقول: سنوافقك على انقطاعك للصلاة والصوم فقط. ولكنك لكي تصلي؛ أنت تحتاج إلى طعام يعطيك القوة والقدرة لتصلي وإلا فسيستحيل عيلك أداء الصلاة. هَبْ أنك ستأكل رغيفاً من الخبز فقط، من أين تأتي بهذا الرغيف؟ من البقال. ومن أين أتى به البقال؟ من المخبز. ومن أين جاء المخبز بالدقيق؟ من المطحن. ومن أين جاء المطحن بالقمح؟ من مخزن الغلال. ومن أين جاء المخزن بالقمح؟ من المزارع. والمزارع أتى بمحاريث وآلات من المصانع لكي يحرث الأرض، وجاء بآلات لكي يسقي.
إذن: فأنت لا تستطيع الانقطاع للعبادة إلا إذا استنفدْتَ بحركة غيرك، وكل عمل ذكرت فيه الله هو عبادة، وكل حركة في الحياة تعينك على أداء العبادة هي عبادة.
ومثال آخر: لكي تصلي لا بد أن تستر عورتك في الصلاة، إذن: فأنت تحتاج إلى قماش تأتي به من التاجر، والتاجر أتى به من مصنع النسيج، ومصنع النسيج أتى به من مصنع الغزل، ومصنع الغزل أتى بالقطن من المحلج، والمحلج جاء به من الحقل، والحقل جُنِّدَتْ له معامل الدنيا ليعطيك أوفر محصول، ويقي القطن مكن الآفات. كل هذه من حركات الحياة التي مكَّنتْكَ أن تستر عورتك في الصلاة، وكل منها عبادة.
كان من الضروري أن يقول ﴿وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾. بعد ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة وَيُؤْتُونَ الزكاوة﴾ | فبعد أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليهم أن يطيعوا الله في الإسلام الذي بني على هذه الأركان. |
الأبلغ أن يقال: ﴿سَيَرْحَمُهُمُ الله﴾ لأن السين تهتك ستار الزمن؛ وبذلك يحيا المؤمن دائماً في رحمة الله التي لا تنقطع.
ولذلك حكى الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾ [مريم: ٩٦]
أي أن الود سيكون مستمرّاً، حتى لمن استمع إلى هذه الآية ثم مات، إنه أيضاً ينتفع بود الله. وأيضاً قال سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى﴾ [الضحى: ٥]
ولم يقل: يعطيك ربك، بل جاء ب ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ﴾ لترى عطاء الحق مستمرّاً.
وأنت حين تهدد أحداً لا تقل له: أنا أنتقم منك، بل تقول: سأنتقم منك، أي: أن الانتقام سيستمر مع الزمن.
والاثنان يؤديان إلى سلامة المجتمع من الأمراض الاجتماعية التي تُشْقي الإنسان، وهناك سلامة من أول الأمر. وهناك سلامة ليست من أول الأمر. ومن عنده خصلة سيئة - وهي داء - يشفيه منها القرآن، أما الرحمة فهي ألا يأتي داء ابتداء، ولذلك فالرحمة ممتدة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ومعنى عزيز: أنه غالب على أمره، وما يريده يقع؛ ولا يُغلب. ولكن إياك أن تفهم أن ذلك عن جبروت ظالم، لا؛ لأنه سبحانه لا يظلم أحداً، ولأنه عزيز بحكمة. وهناك عزيز بلا حكمة، تغريه عزته أن يطغى. لكن الله عزيز حكيم، وعزته ليس فيها ظلم ولا طغيان، ولكنها بحكمة إلهية.
ويأتي بعد ذلك وعد الله للمؤمنين والمؤمنات بالجزاء والنعيم في الآخرة، فيقول الله سبحانه وتعالى:
الوعد يشجع السامع على أن يبذل جهده ويعمل؛ حتى يتحقق له الخير الذي وُعِد به. والوعيد يعطي السامع فرصة أن يمتنع عما يغضب الله فلا يناله عذاب الله.
على أننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال:
﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات﴾ ثم ذكر العذاب الذي ينتظرهم، وبعد ذلك قال:
﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات﴾ ثم وصف النعيم الذي ينتظرهم، مع أن الشائع في اللغة أن الوعد يكون بالخير والوعيد يكون بالشر، فكان من المناسب في عرف البشر أن يقول الحق سبحانه وتعالى: «أوعد الله المنافقين» ؛ لأن الذي سيأتي بعد ذلك عذاب ونار وشر، وأن يقول في المؤمنين: وَعَدَ اللهُ لأن الذي سيأتي بعد ذلك جنة ونعيم وخير.
ولكن الأسلوب جاء مخالفاً للعرف البشري، فجاء بكلمة «وعد»، وهي تقال دائماً للخير في حديثه سبحانه وتعالى عن المنافقين والمؤمنين،
ولكن بالنسبة للمنافقين فقد جاء الحق سبحانه وتعالى بكلمة «وعد» مكان «أوعد».
فالذي يتكلم هنا هو الحق سبحانه، فلا تَقِسْ كلام الله على كلام البشر؛ لأن البشر يفوتهم في كلامهم ملاحظَ، ولكنها لا تفوت ولا تخفى على الله، والبشر يتفاوتون في الأداء وأساليبه ولكن الحق أسلوبه واحد.
فلماذا جاء سبحانه - إذن - بكلمة «وعد» بدلاً من «أوعد» ؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى بعد أن عرَّف المنافقين والمنافقات، ثم تكلم عن جزائهم إن إصرُّوا على نفاقهم، كان ذلك تحذيراً حتى لا يصروا على النفاق مخافة العذاب الذي ينتظرهم؛ عَلَّهم يقلعون عن النفاق وينصرفون إلى الخير من الإيمان.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى حين حذرهم بالوعيد نصحهم، كما تقول لمن يهمل في دروسه: سترسب إذا أهمات دروسك. فتكون بذلك قد خدمت إقباله على المذاكرة. أوصلته بالوعيد إلى أن يتجنب الأمر الذي أوعد به؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ٣٥ - ٣٦]
هل الشواظ من النار نعمة حتى يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي: فبأي نعم ربك تكذب؟ نقول: نعم إنه نعمة؛ لأن
إذن: فحين يحذر الله المنافقين والمنافقات بالمصير الذي ينتظرهم، يكون هذا خيراً ونعمة؛ لأنهم إذا اتعظوا وأقلعوا عن النفاق إلى الإيمان فهم ينجون أنفسهم من عذاب النار، وفي هذا خير عميم.
ولذلك استخدم الحق سبحانه وتعالى كلمة «وعد» ولم يستخدم «أوعد»، وتكون الكلمة مؤدية للمعنى الذي أراده الله.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات﴾ والوعد كما قلنا بشارة بخير مستقبلي، والوعيد إنذار بشرٍّ يأتي في المستقبل، والوعد والإيعاد هما ميزان الوجو دنيا وآخرة؛ لأنك إن وعدت من يلتزم بمنهج الله خيراً، استحسن الناس جميعاً أن يصلوا إلى الخير باتباعهم المنهج، وإن أوعدتهم بشر إن خالفوا منهج الله؛ نفر الناس من المخالفة والمعصية خوفاً من العذاب وتجنبوا الشر. فإن صدق وعدك لأهل الخير بالخير، وصدق وعيدك لأهل الشر بالشر؛ استقام ميزان الحياة.
ولذلك نقول للذي يذاكر: إنك ستنجح، فإن أتقنت المذاكرة حصلت على المجموع الذي يؤهلك لدخول الكلية التي تختارها، وإن أهملت دروسك رسبت وفُصِلْتً من التعليم وضاع مستقبلك. هنا وعد ووعيد. إن وفَّيْتَ ما وعدت ووقيت ما توعدت، استقام ميزان الحياة. ولكن إذا جئت لإنسان لم يذاكر وأنجحته وأعطيته أعلى الدرجات مخالفاً بذلك وعيدك له، فأنت تهدم قضية كونية يترتب عليها مصالح الخلق كلهم.
على أنه إذا كان الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى فإنه مختلف مع منطق البشر؛ لأننا أهل أغيار، فقد أعد بخير لا استطيع تنفيذه، وقد أعد بعقاب ثم أضعف بسبب ظروف معينة فلا أقوى على التنفيذ. إذن: فلكي تستقيم حرحكة الحياة، لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من القادر دائماً، القوي دائماً، الموجود دائماً؛ صاحب الكلمة العليا بحيث لا يوجد شيء يمكن أن يجعله لا يفي بوعده أو لا يُتِمُّ وعيده، فإذا قرأت سورة المسد تجد الحق سبحانه يقول فيها: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾ [المسد: ١ - ٥]
وقد حكم الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة؛ بأن أبا لهب وامرأته سيموتان كافرين وسيدخلان النار، ولكن كثيراً ممن كانوا كفاراً وقت نزول هذه السورة مثل: خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص وغيرهم؛ آمنوا وحَسُنَ إسلامهم وجاهدوا في سبيل
لذلك جاءت هذه السورة، وبعدها في المصحف الشريف في سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١ - ٢]
وما دام الله أحداً فأمره نافذ حتى في الأمور الاختيارية في الحياة، فإذا قال الله: ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ﴾. وإذا وعد بخير فإنه سيأتي لا محالة، وإذا أوعد بشرّ فسوف يقع حتماً.
إذن: فلكي تستقيم موازين الحياة، كان لا بد أن يأتي الوعد والوعيد من الحق سبحانه وتعالى حتى نكون على يقين بأنه سيحدث؛ لأنه لا أحد يشارك الله في مُلْكه، ولا يوجد قوي إلا الله، ولا غالب إلا الله؛ لأنه هو الله أحد.
وقد يأتي الحق سبحانه وتعالى بسنة كونية واقعة، فأنت حين تزرع الأرض وتُحسن حَرْثها، وريِّها ووضع البذور فيها يأتيك المحصول بخير عميم. وإذا أهملت الأرض وتركتها بلا حرث ولا زرع ولا بذور فهي لا تعطيك شيئاً.
إذن: فالسُّنة الكونية هنا أعطت وعداً للذي يجدُّ في زراعة أرضه بالمحصول الوفير، وأعطتْ وعيداً للذي لا يُقبل على زراعة أرضه بأنه
إذن: فلكي تستقيم سنة الحياة، إما أن يكون الوعد والوعيد من قادر على التنفيذ لا يضعف ولا يتغير. وإما أن يكون بسنة كونية نراها أمامنا في كل يوم ولا يقع ما هو مخالف لها. فالذي يجتهد ينجح، والذي لا يذاكر يرسب. سُنة كونية. لو صدقت مع الواقع يعتدل ميزان الحياة. ولو لم تصدق مع الواقع وتدخلت الأهواء لتجعل من لا يذاكر يرسب؛ اختلف حركة الحياة المثمرة الناجحة.
إذن: فميزان الوعد والوعيد هو دولاب حركة الحياة، فإن اختل هذا الميزان وجاء الوعد مكان الوعيد؛ أي كوفئ الذي لا يعمل وعوقب الذي يعمل فسد الكون. لماذا؟ لأن كل إنسان يجب النفع لنفسه، ولا يختلف في ذلك مؤمن أو عاصٍ أو كافر، ولكن العاصي والكافر يحبان نفسيهما حبّاً أحمق؛ فيحققان لها نفعاً قليلاً زمنه محدود؛ بعذاب مستمر زمنه بلا حدود. أما المؤمن فهو إنسان يمتاز بالذكاء وبُعْد النظر؛ لذلك فهو حرم نفسه من متعة عاجلة في زمن محدود، ليحقق لها متعة أكبر في زمن لا ينتهي.
ولقد ضربنا مثلاً لذلك - ولله المثل الأعلى - فقلنا: هَبْ أن هناك أخوين: أحدهما يستيقظ من النوم مبكراً، فيصلي ويفطر ويأخذ كتبه ويذهب إلى المدرسة، ويحسن الإنصات للمدرسين ويعود إلى البيت ليذاكر دروسه.
والآخر يظل نائماً يتمتع بالنوم، ويقوم عند الضحى،
إن كلا الأخوين يجب نفسه، لكن الأول أحب نفسه فأعطاها مشقة محتملة في سنوات الدراسة؛ لتعطيه راحة ومركزاً ومالاً بقية حياته، أما الأخ الثاني فقد أحب نفسه أيضاً وأعطاها المتعة العاجلة ولكنه أضاع مستقبله كله، فلم يَعُدْ يساوي شيئاً في المجتمع.
إذن: فكل منا يحب نفسه، ولكن مقاييس الحب هي التي تختلف. فمنا مَنْ يأخذ المقياس السليم، فيحتمل مشقة قليلة ليأخذ نعيماً أبديّاً، ومنا من يعطي نفسه متعة عابرة ليفقد نعيماً مقيماً.
والعجيب أنك تجد أن هذه هي سنة الحياة الدنيا، فلا تجد إنساناً ارتاح في حياته إلا إذا كان قد أجهد نفسه في سنواته الأولى؛ ليصل إلى الراحة بقية عمره، ولا تجد إنساناً فاشلاً عالة على المجتمع إلا إذا كان قد أخذ حظه من الحياة في أولها ليشقى بقية عمره.
لذلك يقال دائماً: إنه لا يوجد من يأخذ حظه من الحياة مرتين أبداً، فالذي يتعب في أول حياته يرتاح بقية عمره، والذي يرتاح أول حياته يتعب بقية عمره. والمثل الشائع يقول: من جار على شبابه، أي: ضيَّعه فيما لا يفيد؛ جارت عليه شيخوخته. والقائمون على الأمر عليهم أن ينبهوا المقبلين على الحياة بالوعد والوعيد حتى يستقيم أمر حياتهم، وعليهم ألا يُؤجِّلوا الوعد إلى أن تنضج الثمرة. ولا الوعيد إلى أن يحدث الشر ويقع. وعلى كل ولي أمر؛ في أي مكان؛ أن يراقب حركة المقبلين على الحياة من أبنائه أو من يتولى أمرهم، فيشجع ويعد المجتهد، ولا ينتظر
ولكن إذا رأينا في مجتمع ما أن الذي يعمل لا يأخذ شيئاً، والذي لا يعمل يأخذ كل شيء، نعرف أن مقاييس العمل قد اختلت. وأن المتاعب قد بدأت في المجتمع؛ لأن الذي يعمل حين يجد أن العمل لا يوصله إلى شيء فهو يوجه حركة حياته إلى غير عمله، فيبذل جهده كله في النفاق والرياء، وقَلْب الحقائق وإرضاء الذي يملك الأمر. وتكون النتيجة هي فقدان المجتمع لقيمة العمل فيصبح المجتمع بلا عمل منتج، ويصير مجتمعاً بارعاً في النفاق والرياء وضياع الحق.
وقد وضع الحق سبحانه وتعالى مقياس حركة الحياة في الوعد والوعيد؛ فلا تُعْطِ حافزاً إلا لمستحق، ولا مكافأة إلا لمجتهد؛ ولكنك إذا بعثرت الحوافز على المنافقين، والذين يحققون لك أهدافك الشخصية، كأن يخدموك في بيتك أو يقضوا لك مصالحك الخاصة، ومنعت الحوافز عن الذي يعمل في جد، تكون بذلك قد أفسدت حركة الوعد والوعيد؛ فتختل حركة الحياة في المجتمع؛ لأن حركة كل إنسان يتقن العمل ويجيده، هي حركة تنفع المجتمع كله، بصرف النظر عن صاحب الحركة نفسه، فإذا وُجد عامل نشيط أنجز مصالح عشرات الناس، أو موظف مخلص ارتاح كل من يتعاملون معه، فإن أضعْتَ أنت هؤلاء، فكأن المجتمع هو الذي خسر.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف - ومعنى الكهف مغارة في جبل، والحقائق أيضاً لها كهوف - حين ضرب سبحانه وتعالى مثلاً عن
بعض الناس يحاول أن يُدخلَ نفسه في متاهة بالسؤال عمَّنْ يكون ذو القرنين، هل هو قورش؟ أو الإسكندر الأكبر أو غيرهما؟ نقول: إن هذا لا يعنينا، بل ما يعنينا هو أن نلتفت إلى أن ذا القرنين هو إنسان مكَّنه الله في الأرض. وهذا ينطبق على كل إنسان مكَّنه الله في الأرض؛ في أي زمان، وفي أي مكان. ومهمة من يمكنه الله في الأرض ألا يكتفي بعطاء الله من الأسباب، بل عليه أن يُولد من الأسباب قوة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ [الكهف: ٨٤ - ٨٥]
مهمته - إذن - أن يثيب من يحسن عمله، ويعاقب من أساء عمله، وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً﴾ [الكهف: ٨٦ - ٨٨]
وأول ما يجب أن يهتم به كل مُمكَّن في الأرض، بعد توليد الطاقة من الأسباب، هو معاقبة الظالم لتستقيم الأمور بالضرب على يده. وفي هذا
إذن: فلا بد أن نُعجِّل هم بالعقوبة في الدنيا، لنحمي المجتمع من الفساد، ثم يعذبهم الله في الآخرة، وهو سبحانه لم يؤمنوا به، ولم يحسبوا حساب لقائه يوم القيامة، وأما من آمن وأصلح في المجتمع وصلح المجتمع بإيمانه، فلا بد أن نجازيه خيراً ونشجعه. هذا هو قانون صلاح الكون، وتلك هي معاييره.
وكما قلنا، يشترط فيمن يقوم بتنفيذ الوعد والوعيد القدرة الدائمة وعدم التغيير والوجود الدائم، فإذا كانت القدرة مطلوبة، فلا يوجد أقدر من الله، أما التغير فالله يُغير ولا يتغير، وأما البقاء فلا بقاء ولا دوام لغير الله؛ ولذلك نجد أن المؤمن الحق هو من يعلم أن وعد الله لا تمسُّه الأغيار، أما وعد البشر فهو عُرْضة للأغيار. لذلك يطلب منك الحق أن تقول: «إن شاء الله» حين تعد بشيء لتكون صادقاً. ويقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤]
وليس معنى هذا أن نمتنع عن التخطيط ووضع خطط لعام قادم أو لخمس سنوات قادمة، ولكن قل: إن شاء الله سوف أفعل ذلك غداً، و: إن شاء الله سأفعل كذا في العام القادم؛ لأن الذي تَعِدُ به، قد يأتي وقت الوفاء ولا تجد عندك القدرة على أن تفعله.
إذن: فساعة تقول «سأفعل ذلك غداً»، قل: «إن شاء الله» ؛ لأنك لا تملك شيئاً من أسباب الفعل. فكل فعل إنما يحتاج لفاعل وأنت لا تضمن بقاءك كفاعل.
ويحتاج كل فعل إلى مفعول يقع عليه، وأنت لا تضمن بقاء المفعول، وكل فعل يحتاج إلى قوة ليتم، وأنت لا تضمن بقاء قوتك؛ فيجوز أن تمرض ولا تقدر على الحركة. كذلك يحتاج كل فعل إلى سبب كي تفعله، وقد يتغير السبب.
إذن: فأنت لا تضمن شيئاً من أسباب الفعل؛ لذلك لا تقل سأفعل ذلك غداً؛ لأن الذي يملك أن يبقيه لغد، أو يُبقي السبب أو يُبقي القدرة هو الله، إذن: فكل شيء تقوله لا بد أن نقول: «إن شاء الله» ؛ لأنه سبحانه وتعالى وحده الذي يملك عناصر الفعل.
ولكن إذا كان الذي وعد هو الحق سبحانه وتعالى، فوعده محقق التنفيذ؛ لأنه باق لا يموت، قادر دائماً لا تضعف قدرته، فعَّال لما يريد.
وبعد أن تكلم الحق جل جلاله عن المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض، وأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، وقد وعد سبحانه بأنه سيرحمهم. فكيف ستكون هذه الرحمة؟
إذن: فالحق سبحانه وتعالى وعد المؤمنين والمؤمنات بالجنة، والجنة تطلق على البستان والأماكن الجميلة تملؤها الزهور والأشجار، وهذه عامة للمؤمنين يتمتعون بها جميعاً، ثم يأتي قوله تعالى: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ وهذه المساكن زيادة على هذه الجنة، وهنا وعد من الله لكل مؤمن بجنة خاصة بمفرده يكون له فيها مسكن طيب.
إذن: فعندنا جنات، وهي لجميع المؤمنين، ثم مساكن طيبة، أي مسكن طيب لكل مؤمن، وما هو الطيب في هذه المساكن؟
لنا أن نلاحظ أن الإنسان يحب الشيوع أولاً، ثم يحب الانكماش ثانياً، وإذا أراد أن يملك فهو يريد أن يملك مكاناً متسعاً خاصاً به، ثم يخصص في هذا المكان مأوى طيباً خاصّاً به.
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ أي: ليس فيها ما يسيء أو يضايق، بل كل ما فيها يملأ النفس بالسرور والبهجة. وكلمة «جنة» هي المكان الذي فيه زروع وخضرة، وهذه الزروع تسترك وتخفيك عن الأعين، أو أنها تسترك فلا تحتاج إلى أن تخرج منها؛ لأن فيها كل مقومات حياتك من طعام وشراب. والحق سبحانه وتعالى أطلق لفظ «الجنة» على بساتين الأرض، فقال: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... ﴾ [البقرة: ٢٦٦]
ويقول تعالى أيضاً: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة... ﴾ [القلم: ١٧]
نقول: الوجود المعروف في الكون هو الوجود الذي تراه أو تسمعه، وفي هذه الحالة يكون الوجود أوسع؛ لأنك ستسمع الذي رآه غيرك حين يقصه عليك. إذن: فالسماع أوسع من الرؤية لأنه يأخذ مجالك ومجال غيرك. فأنت إذا قلت: إنك ذهبت إلى نيويورك مثلاً تكون قد رأيت، فإذا لم تذهب ونقل إليك أحد أصحابك صورة هذه المدينة، تكون دائرة معلوماتك أوسع؛ لأنك أضفت إلى علمك ما رأيته وما رآه غيرك. وأما الأشياء التي لا تخطر على بال بشر، فهي أوسع كثيراً مما ترى وتسمع؛ لأنها أشياء فوق الحصر.
والكلمات توضع لمعانٍ معلومة، فألفاظ اللغة لا بد أن توضع لمعانٍ مرت على العين، أو مرت على السمع، أو مرت على الخاطر. فقبل أنّ يخترع التليفزيون لم يكن له اسم، إذن: فلا يمكن أن يكون هناك اسم، إلا إذا كان هناك وجود أولاً، ولكن قبل الوجود لا يكون هناك في اللغة ما يعبر عن شيء غير موجود. ولكن الألفاظ تضاف إلى اللغة بعد وجود الشيء. وهذه مهمة المجامع اللغوية في العالم. فالأشياء توجد أولاً، ثم تجتمع هذه المجامع لتختار لها أسماء.
ولكن الجنة في الآخرة سيكون فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، فليس عندنا ألفاظ تعبر عما في جنة الآخرة، فإذا أضفنا إلى ذلك «ولا خطر على قلب بشر» تكون اللغة عاجزة تماماً عن أن تعبر عما في جنة الآخرة.
أي: أن هذا مثل فقط يقرب الصورة، ولكنه ليس حقيقة ما هو موجود في الجنة.
وهنا يقول سبحانه: ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ و ﴿جَنَّاتٍ﴾ جمع «جنة». ومادة الجيم والنون هذه مأخوذة من الستر والتغطية. اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين﴾ [الأنعام: ٧٦]
يعني: ستر وأظلم، والجنون ستر العقل. والجنة تستر من فيها؛ لأن أشجارها كبرت ونمت وترعرعت. بحيث يكون من يسير فيها مستوراً بأغصان الشجر وأوراقه؛ فلا يراه أحد. ويكون مستوراً في كل مطلوبات حياته. فلا يحتاج أن يخرج منها؛ لأن فيها كل مطلوبات الحياة من الماء والطعام والمكان يجلس أو يتريض فيه، وغيرها من النعم التي أنعم الله بها عليه.
إذن: فالموعود به جنات لا بد أن تتكرر، فإذا قسمناها عرفنا نصيب كل مؤمن ومؤمنة، تماماً مثلما يقول الأستاذ لتلاميذه، أخرجوا كتبكم. و «أخرجوا» أمر لجماعة، وكتبكم جمع، أيك أن يخرج كل تلميذ كتابه. وقول المعلم «أمسكوا أقلامكم» يعني: أن يمسك كل تلميذ قلمه.
إذن: فقول الحق سبحانه ﴿وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ﴾ أي: أن لكل واحد جنة. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في سورة الرحمن: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]
وهنا لا بد أن ننتبه لمعطيات الألفاظ في سياقها ومقامها؛ فسورة الرحمن لا تتكلم عن الإنس فقط، وإنما تتكلم عن الإنس والجن. فسبحانه وتعالى يقول: ﴿خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: ١٤ - ١٥]
وكذلك قوله جل جلاله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان﴾ [الرحمن: ٣١]
إذن: فيكون للإنس جنة وللجن جنة؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]
ويمكن أن يكون المعنى أن لكل واحد جنتين؛ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أزلاً ما سيصير إليه من أمر عباده من التقوى أو الفجور، ولكنه تبارك وتعالى لم يخلق للمتقين جنات تكفيهم وحدهم، أو يخلق للكفار ناراً تكفيهم وحدهم، بل خلق لكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة جنة، ولكل واحد من خلقه إلى أن تقوم الساعة ناراً، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ بقيت الجنات التي خلقت ولم يدخلها أحد؛ لأن أصحابها من أهل النار، فيقوم الحق بتوزيعه على المؤمنين أصحاب الجنة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الزخرف: ٧٢]
أي: أنها لم تكن مخلوقة لكم، ولكنكم ورثتموها؛ لأن أصحابها من أهل النار.
ونزيد الأمر هنا توضيحاً، فالقرآن الكريم له أسلوب مميز؛ لأن الذي يتكلم هو الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن كل لفظ من ألفاظ القرآن الكريم يأتي مطابقاً للمعنى تماماً. وفي اللغة، قبل أن تتكلم لا بد أن تكون عالماً بمعنى اللفظ. وأن يكون محدثك أيضاً عارفاً معناه حتى يستطيع أن يفهمك. فإذا قلت لإنسان مثلاً: أحضر لي كوباً من الماء لأشرب، فلا بد أن يكون عارفاً لمعنى الماء ومعنى الكوب، وإلا فإنه لن يفهم.
نقول لهم: إن الله موجود في كل لغة؛ وبما أن المعنى في اللغة يوجد أولاً. فوجود الله سبحانه وتعالى سابق لمعرفتنا باسمه سبحانه وتعالى؛ لأن الاسم لا يمكن أن يوجد إلا بعد أن يوجد المعنى، وما دمت قد نطقت بالاسم، فهذا دليل على أن الله موجود. إذن: فقولك: إن الله غير موجود باطل؛ لأنك ما دمت قلت: «الله»، ووجد لفظ الجلالة في لغتك؛ فلا بد أن الله سبحانه وتعالى موجود قبل وجود لفظ الجلالة. والكفر طرأ على اللفظ، فحاول أن يستره؛ ولذلك سمى الكفر ستراً لوجود الله والستر لا يكون إلا لموجود.
إذن: فبالتخاطب توجد المعاني أولاً ثم توجد لها الألفاظ؛ ولذلك قبل أن يتم اختراع التليفزيون لم يكن المعنى موجوداً، وعند اخترع وفهمنا معناه وضع له الاسم. فإذا وجدت لفظاً في اللغة، فعلم أن المعنى قد وجد أولاً قبل أن يوضع اللفظ أو الاسم، ولعل هذا هو أكبر دليل لغوي ضد من ينكرون وجود الواجد الأعلى.
نقول لهم: إن الله موجود في كل لغة؛ وبما أن المعنى في اللغة يوجد أولاً. فوجود الله سبحانه وتعالى سابق لمعرفتنا باسمه سبحانه وتعالى؛ لأن الاسم لا يمكن أن يوجد إلا بعد أن يوجد المعنى، وما دمت قد نطقت بالاسم، فهذا دليل على أن الله موجود. إذن: فقولك: إن الله غير موجود باطل؛ لأنك ما دمت قلت: «الله»، ووجد لفظ الجلالة في لغتك؛ فلا بد أن الله سبحانه وتعالى موجود قبل وجود لفظ الجلالة. والكفر طرأ على اللفظ، فحاول أن يستره؛ ولذلك سمى الكفر ستراً لوجود الله. والستر لا يكون إلا لموجود.
إذن: فالذي كفر، ستر موجوداً؛ فأعطى دليل الإيمان؛ لأنك أيها الكافر - والعياذ بالله - تعرف لفظ الله في لغتك، ولو لم يكن الله موجوداً ما وُجد لفظ «الله» سبحانه وتعالى في اللغة.
إذن: فوجود الله سابق لمعرفتنا اسم الله، ومحاولة ستر ذلك بالكفر إنما هي دليل على وجود الله، لأنك لا تستر إلا ما هو موجود.
ولفظ الجنة في القرآن الكريم أطلق على معان كثيرة، في قوله تعالى: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾ [القلم: ١٧]
إذن: فالجنة أطلقت في القرآن على المكان الذي فيه زروع وثمار وأشجار، فهو يحجب من دخله، أو يمنع الإنسان بالخير الذي في داخله من الحاجة للخروج إلى مكان آخر؛ لأن فيه كل مقومات الحياة. وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبشرنا بشيء في الآخرة، لا بد أن يشبهه لنا بشيء نفهم معناه في الدنيا؛ لأن اللغة مكونة من ألفاظ وأسماء سبقتها مَعَانٍ حتى نستطيع أن نفهمها، ولذلك إياك أن تفهم أن جنة الدنيا هي جنة الآخرة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يستخدم اللفظ الذي تفهم أنت معناه. ولكن جنة الآخرة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولكن من أين نأتي بالألفاظ التي يمكن أن تعبر لنا عن ذلك؟ إن اللفظ لا يوجد إلا إذا كان المعنى موجوداً أولاً، ومن يستطيع أن يأتي بلفظ لم تره عين، ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر؟ مستحيل؛ لأن المعنى غير موجود.
ولذلك ينبهنا الحق سبحانه إلى هذه النقطة، ويوضح لنا أنه يعطينا معنى تقريبيّاً حتى نستطيع أن نفهمه؛ فيقول سبحانه وتعالى: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون... ﴾ [محمد: ١٥]
أي: أنها ليست هي، ولكنه مثل فقط؛ يقرب المعنى إلى ذهنك. خذ صورة من المجتمع الذي تعيش فيه، أنت تحتاج إلى مسكن لتسكن وتستريح فيه من عناء الحياة. وهناك من عنده مسكن من حجرة واحدة، فإذا ترقى يكون المسكن من حجرة وصالة أو حجرتين وصالة، ثم بعد ذلك
إذن: فالمسألة لم تَعُدْ مكاناً تأوي إليه فقط، بل ترتقي في الإيواء كلما ارتقيت في الحياة. فتتحقق لك المتعة في الإيواء، وهذا موضوع آخر.
ولهذا يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ أي: هناك جنات وهناك مساكن؛ لأن الإنسان يحب في بعض الأوقات أن يجلس بمفرده وحوله المتعة التي تخصه، وفي أحيان أخرى يحب أن يجلس مع الناس في مكان جميل؛ مثلما يحدث في الأعياد والمناسبات، عندما نخرج إلى الحدائق والبساتين، ونجلس معاً، فكأن الجنات هي للرفاهية الزائدة؛ عندما تحب أن تجتمع مع الناس؛ أتمتع بها أنا وأنت وغيرنا. أما المساكن فهي للخصوصية. فيكون لكل واحد مكان خاص يجلس فيه ويتمتع بما حوله.
إذن: فالجنات صورة من البساتين، ولكنها ليست مصنوعة بالأسباب، بل هي من صناعة المسبب جل وعلا.
ونحن حينما نذهب إلى بيت إنسان ثري، قد نجد أن للبيت حديقة؛ يشرف عليها بستاني متمكن من عمله؛ ويقوم بتنسيق الزهور والأشجار بشكل يناسب ثراء المالك. ويكون إعجابنا في هذه الحالة بالحديقة إعجاباً كبيراً، بحيث نجلس فيها، ونكره أن نغادرها، فإذا كان هذا هو ما يحدث بقدرات البشر، فكيف بهذه الحقائق التي صُنعت بقدرة الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يكون جمالها وحلاوتها والمتعة فيها؟
إن الذي وعدنا بهذه الجنات هو الحق سبحانه وتعالى. وهو قادر على أن ينفذ ما وعدنا به، من جنات فيها من الكماليات والرفاهية مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وجعل هذه الجنات واسعة شاسعة، فيها زروع وأزهار وأشكال؛ تسرُّ العين بجمالها، وتمتع
وإذا كنا في حياتنا نرى أن لكل نهر شاطئين، فإن أنهار الجنة تجري من غير شواطئ؛ وإنما يمسكها الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض، ثم تجد الأنهار قد تشترك في المجرى؛ نهر اللبن، ونهر العسل، ونهر الماء، ونهر الخمر، وكلها تجري في مجرى واحد ولكنها لا تختلط ببعضها البعض، فكل منها منفصل؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الصانع وتبارك من صنع.
ويعطينا سبحانه وتعالى بعد كل ذلك، ميزة الخلود في هذه الجنات فيقول: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ونحن نعلم أن المتعة في الدنيا قد توجد للإنسان، ولكنها لا توجد خالدة أبداً؛ فقد تزول عنك النعمة وتذهب المتعة؛ كأن تصاب بكارثة مالية مثلاً أو تخسر خسارة كبيرة في تجارتك أو غير ذلك، وقد تزول أنت عن النعمة بالموت.
وكل إنسان في الدنيا يتمتع على قدر قدراته، وتصورات الخلق لأنواع النعيم تختلف باختلاف بيئاتها ومقاماتها، فقد تكون من الفلاحين؛ وكل متعتك أن تجلس على مصطبة أمام بيتك، وقد يكون عند إنسان آخر بيت فيه صالون كبير، والثالث له بيت فيه عدة صالونات، فكل واحد على قدر إمكاناته في الدنيا، ولكننا في الآخرة نتمتع كلنا على قدر قدرات الحق سبحانه وتعالى، ويكون متاعنا بقدرة لا تفوقها قدرة، ويكون الجزاء بقدر ما فعلْتَ من خير في الدنيا، واتبعت منهج الله.
إذن: فأنت الذي تحدد المساحة التي لك في الجنة، وتحدد المسكن وأنواع النعيم بقدر عملك.
ثم ما الذي يهددك في نعيم الدنيا؟
الذي يهدد الناس في الدنيا أحد شيئين: إما أن تزول عنهم النعمة فيفتقروا، وإما أن يزولوا هم عن النعمة بالموت. ولكن نعمة الآخرة ليس فيها هذا التهديد. إنها النعمة الخالدة وأهل الجنة فيها خالدون. لذلك يقال: يا أهل الجنة، خلود بلا موت ونعيم بلا بؤس.
ولقد زاد الحق تبارك وتعالى في وصف الخلود فقال ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ والخلود بقاء طويل جداً، والأبدية لا تنتهي. وسبحانه حين تكلم
أيُّ سماء وأيُّ أرض تلك التي تحدَّث عنها الحق سبحانه وتعالى؟ هل هي السماء التي نراها؟ إننا نعلم أن الأرض التي نعيش عليها ستبدل وأن السموات ستمور. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يتحدث عن السموات والأرض بالنسبة للآخرة. فهو يتحدث عن السموات والأرض المبدلتين؛ مصداقاً لقوله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: ٤٨]
إذن: فما دامت السموات والأرض ستتبدل، فالله سبحانه وتعالى يحدثنا عن السموات والأرض في الآخرة؛ غير حديثه عن السموات والأرض في الدنيا. ولكن بعض السطحيين يقول: إن القرآن يتحدث عن بقاء المؤمنين في الجنة ما دامت السموات والأرض؛ ثم يقول: ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ﴾ [التكوير: ١ - ٣]
فكأن هذه الأرض التي نعيش فيها، والسماء التي تظلنا ستُدمَّر يوم القيامة، فلماذا يقول الحق: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض... ﴾ [هود: ١٠٨]
نقول لهؤلاء: اقرأوا القرآن كله لتعرفوا أن الحق سبحانه وتعالى قال:
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات... ﴾ [إبراهيم: ٤٨]
إذن: فهذه الأرض هي أرض معاش وما فوقها من سماء هي سماء معاش؛ ستتبدل بأرض مَعَاد؛ لأن الأرض التي نعيش عليها فيها مقومات الحياة بالأسباب، تزرع وتحصد وتصنع، أما في الآخرة فحياتك كلها بدون أسباب منك؛ ولذلك ساعة يخطر الشيء على بالك تجده أمامك دون أن تتحرك أو تحرث أو تزرع أو تتحمل أي مشقة. أما هنا في هذه الدنيا، الأرض أرض المعاش تنعم فيها وتأخذ منها بقدر إمكاناتك، ولكن أرض المعاد تأخذ منها بإمكانات الحق سبحانه وتعالى. ومهما ارتقت الدنيا وارتقت أسبابها، لا يمكن أن تصل إلى أنك يخطر على بالك الشيء فتجده أمامك. وسبحانه يقول: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ فكأنه استثنى بعض الناس من الخلود.
﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ... ﴾ [هود: ١٠٦ - ١٠٧]
أي: أن الجنة والنار لهما خطان، وبمجرد أن يحاسب الإنسان، إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن كان الذي يحاسب من الكفار أو المنافقين، يكون بدء خلوده من أول لحظة دخل فيها النار ويبقى فيها خالداً. وأما إن كان الذي يُحاسب مؤمناً عاصياً، فهو يدخل النار على قدر ما عمل من السيئات، ثم بعد ذلك يدخل الجنة.
إذن: فالذي دخل النار أولاً حالتان: حالة أبدية وهم المنافقون والكفار، وحالة مؤقتة وهم عصاة المؤمنين، والخلود في النار بالنسبة
ويقول سبحانه: ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي: أن مساكن المؤمنين في الجنة ستكون أيضاً جنات خاصة بها، وكلمة ﴿عَدْنٍ﴾ ؛ مادتها العين والدال والنون معناها الإقامة. و «عَدَنَ في المكان»، أي أقام فيه. إذن: فهي جنات إقامة؛ لأن هناك فارقاً بين أن تسكن في فندق مثلاً، أو في مكان مؤقت، وبين أن تقيم خالداً.
وحين يعطي الحق سبحانه للمؤمن بُشْرى بأشياء، فهو يريد دائماً ألا ننسى أنها منسوبة إلى قدرته سبحانه، والشيء يتناسب مع قدرة صاحبه أو فاعله. فالرجل الفقير حين يبني مسكناً يكون المسكن متواضعاً؛ مجرد حوائط تستر الإنسان، أما صاحب الإمكانات الضخمة فيبني قصراً كبيراً، فإن كان واجد الوجود الأعلى هو الذي صنع، فكل شيء إنما يتم على مقتضى قدرته وإمكاناته؛ فهو الذي يمسك الأمور كلها، ويأتي تنفيذه لأي شيء وفق ما يريد.
إذن: فالخلود في جنات عدن خلود دائم، وهي جنات يعلو فيها التنعيم لدرجة من علوها لا يحب الإنسان أن يتركها أبداً؛ لأنها أعلى مراتب الجنة ولا يوجد أحسن منها. والإنسان حينما يكون بمكان فإنه لا ينتقل منه إلا إذا زهد ما فيه، فلو كان في جنات عدن مما يُزْهَدُ فيه بعد فترة ما وصفها الله بهذا الوصف.
ولكي يصل الإنسان إلى النعيم لابد من موجد لهذا النعيم وهو الله سبحانه وتعالى، وما يتمتع الإنسان به وهو الجنة، والمنْعَمُ عليهم بالنعمة،
إذن: فكل إنسان لما عمل له، فإذا زادت عبادتك عما فرض الله عليك، وأحببت أن تكون دائماً في لقاء مع الله، بأن تقوم الليل وتتهجد، وتقرأ القرآن وتصلي والناس نيام، وتتقن العمل الذي ترتقي به حياتك وحياة غيرك، وتفعل ذلك محبة في الله الذي يستحق التعظيم، فأنت تستحق المنزلة الأعلى، وهي أن تكون في معيَّة الله. ويقول سبحانه: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣]
والحق سبحانه وتعالى يتجلى على أهل الجنة فترات، ويتجلى على أهل محبوبية ذاته دائماً، وعندما يتجلى الحق سبحانه على أهل الجنة ويقول: «يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون:
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تحدث عن المتعة والنعيم والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والمساكن الطيبة التي في جنات عدن. أوضح سبحانه أن هناك شيئاً أكبر من هذا كله، وهو رضوان الله في قوله تعالى:
﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ فالذي عمل للجنة يعطيه الله الجنة، والذي عمل لذات الله يعيش في معية الله سبحانه.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله:
﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ فما هو المقصود بالفوز العظيم؟ لقد تقدمت أشياء كثيرة؛ تقدمت جنات تجري من تحتها الأنهار، وجنات عدن، ومساكن طيبة، ورضوان الله، فأيها هو الفوز العظيم؟
نقول: كلها فوز عظيم، فالذي فاز بالنعيم الأول في الجنة أخذ فوزاً عظيماً، والذي فاز بالمساكن الطيبة في جنات عدن أخذ فوزاً عظيماً، والذي أخذ رضوان الله يكون قد أخذ الفوز الكبير والعظيم.
ونلحظ أن القرآن حين يعرض منهج الله، فهو لا يتحدث عن الجزاء في باب منفصل، والمنهج في باب منفصل، بل يجمع بين المنهج والجزاء بين الوعد والوعيد؛ لأنه ساعة يصف لي الجنة وما فيها من نعيم، لابد أن ينبهني إلى المنهج الذي يوصلني إليها. وحين يعطيني صورة من المنزلة العالية التي تنتظر المؤمن في الآخرة، لا بد أن ينبهني - أيضاً - إلى العذاب الذي ينتظر المنافق والكافر؛ حتى أتجنب الطريق الذي يؤدي بي إلى النار والعياذ بالله.
وهنا يقول الحق سبحانه:
﴿ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ والحق جَلَّ وعلا يخص رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالتكريم والتعظيم، فلم يُناده باسمه. بل قال: ﴿ياأيها النبي﴾ وفي مواقع أخرى يناديه: ﴿ياأيها الرسول﴾.
ولكن النداء من الحق لباقي الأنبياء، يكون مثل قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة... ﴾ [البقرة: ٣٥]
وقوله تعالى: ﴿قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ... ﴾ [هود: ٤٨]
ونادى الحق موسى: ﴿ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ... ﴾ [طه: ١١ - ١٢]
وخاطب الحق سيدنا عيسى: ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله... ﴾ [المائدة: ١١٦]
فكل رسول ناداه الحق سبحانه وتعالى باسمه، إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد ناداه بقوله ﴿ياأيها النبي﴾، و ﴿ياأيها الرسول﴾ تكريماً للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ورفعاً لمقامه عند ربه.
وهنا يطلب الحق من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجاهد الكفار والمنافقين.
ونحن نعلم أن السماء لا تتدخل لإرسال رسول إلا فسد المجتمع فساداً عامّاً. ونعلم أن النفس الإنسانية فيها قد فُطِرتْ على محبة الخير، فإن لم يحكمها هواها فهي تفعل الخير وتحبه، فإن حكمها هواها ستر عنها الخير وفتح الهوى للنفس أبواب الشر. وقد يطيع الإنسان هواه في أمر من الأمور، ثم يفيق؛ فتلومه نفسه على ما فعل، هذه هي النفس اللوامة، التي تلوم صاحبها على الشر، وتدفعه إلى الخير. ولكن هناك نفس تتوقف فيها ملكات الخير فتفعل الشر، ولا تندم عليه، ثم ترتقي النفس في الشر فتصبح أمَّارة بالسوء، وتأبى ألا نكتفي بفعل الشر، بل تأمر به الناس وتُحبِّبه لهم. إذن: فمراحل النفس البشرية كثيرة، فهناك النفس التي تطمئن لمنهج الله وتطيعه. وهذه هي النفس المطمئنة؛ التي يقول فيها الحق:
وإذا وُجدت النفس المطمئنة والنفس اللوامة، فاعلم أن المجتمع بخير؛ لأن النفس المطمئنة تطيع، وتأمر بالطاعة، والنفس اللوامة تلوم صاحبها على الشر، ولكل مؤمن نقطة ضعف، فإذا ضعف مؤمن، يسرع له أخوه المؤمن ليلومه على ضعفه، ويصحح له مساره؛ ولأن نقط الضعف مختلفة، نجد أن المجتمع يستقيم كلما وُجد من يلتفت النظر إلى المنكر وينهى عنه، وهؤلاء هم الذين يقول الحق عنهم:
﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر﴾ [العصر: ٣]
ولكن عندما تصدأ النفوس جميعاً، ولا يصبح هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل تجد من ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر، حينئذ لا بد أن يتدخل الحق سبحانه ليعيد للحق مكانه في الدنيا.
إذن: فرب العزة لا يتدخل في حالة وجود نفوس مطمئنة تطبق منهج الله وتأمر بطاعته، أو وجود نفوس لوامة، سواء في ذات النفس البشرية أو في المجتمع تراجع من يرتكب الإثم وتلومه، ولكن إذا عَمَّ الفساد في المجتمع، ولم يصبح هناك من ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، وأصبح أهل الخير فيه عاجزين عن أن يفعلوا شيئاً، جاءت الرسل لتعيد منهج الحق لينظم حياة هذا المجتمع.
وحين يأتي الرسول فهو يعلم أنه ما أُرسل إلا بعد أن عَمَّ الشر في الكون، وأن أهل الفساد هم الأغلبية، وهم أصحاب النفوذ والسلطان، وينتفعون بالفساد والانحراف المستشري في المجتمع. وهؤلاء إذا سمعوا
و «جاهد» من «فاعل»، مثل «شارك»، فأنت تشارك فلاناً، ومثل: «قاتل» فأنت تقاتل فلاناً، إذن: فلابد أن تحدث مفاعلة بين الرسول ومن ابتعوه، وبين أئمة الكفر والفساد في المجتمع.
ولابد أن يستعد الرسول والمؤمنون بمنهجه لتحمُّل الإيذاء من غير المؤمنين بالمنهج؛ لأن الكفار منتفعون بالفساد، ولكي يستمر هذا الانتفاع، لابد أن يقف الكفار ضد حَمَلَة منهج الحق، وأن يقاوموهم ليضمنوا لأنفسهم استمرار الميزات التي يعطيها الباطل لهم. وينبه الله سبحانه وتعالى لرسوله إلى حقيقة هؤلاء الكفار المنتفعين بالفساد، وأنهم سيحاربونه. ولذلك لم يقل سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اتحد معهم، ولكنه قال: ﴿جَاهِدِ الكفار والمنافقين﴾، أي: اصمد أمامهم في المعركة، وجاءت الكثير من الآيات التي أمر فيها الله رسوله والمؤمنين بالصبر على الجهاد، والجهاد يقتضي المواجهة، لذلك قال سبحانه: ﴿اصبروا﴾.
ولكن لنفرض أن عدوِّي صبر أيضاً في الحرب، إن أنا صبرت وعدوي صبر تساوت الكفتان؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿اصبروا وَصَابِرُواْ... ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]
أي: إن واجهكم عدوكم بالصبر، فليكن صبركم أقوى منه، فتغلبوه بالصبر والتحمل، فقف صابراً في مواجهتهم ومعك المؤمنون برسالتك، فمعسكر الإيمان لا بد أن يواجه معسكر الكفر والنفاق، والكافر هو الذي جحد الإيمان بقلبه وأعلن الكفر بلسانه، أما المنافق فهو من كفر في باطنه ويعلن الإيمان في ظاهره.
وهذا هو الذي يجب أن نحذر منه أشد الحذر؛
ويوضح الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن العداوة التي سيواجهها وهو يبشِّر بمنهج الله ستأتيه من اثنين؛ من كافر أو منافق، أي من مجاهر بعدم الإيمان، أو ممن كفر بقلبه وتظاهر بالإيمان بلسانه. أما المنافق فإنه عدو صعب؛ لأنه يغشنا فلا نأمنه، رغم أن النفاق في حد ذاته بالنسبة لمنهج الله هو دليل قوة هذا المنهج؛ لأنه لا ينافَق إلا القوي، أما الضعيف فلا ينافقه أحد.
ولذلك لم يكن هناك منافقون أثناء وجوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مكة قبل الهجرة؛ لأن المسلمين كانوا قلة ضعافاً، وكانوا مُعذَّبين مضطهدين. ولم يكن هناك ما يغري أحداً بنفاقهم؛ لأنه لا توجد استفادة من هذا النفاق، بل سيتعرض من يتعاطف معهم للتعذيب والاضطهاد. والمنافق في إظهاره غير ما يبطن إنما يحقق لنفسه مصلحة ذاتية.
واختلف الحال بعد أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وظهر المنافقون بعد أن أصبح للإسلام دولة وقوة. والمنافق في هذه الحالة إنما يعلن إيمانه زَيْفاً، ليستفيد من قوة المسلمين لصالحه. إذن: فالنفاق ظاهرة مرضية في المنافق، ولكنها دليل قوة للمؤمن الذي ينافقه.
ونلحظ أنه سبحانه وتعالى قد قدَّم في هذه الآية ذكر الكفار على المنافقين. وقدَّم في آيات أخرى المنافقين على الكفار. والصدام - كما نعلم - قد حدث أولاً مع الكفار، ففي أول الدعوة لم يوجد هذا الصنف المنافق، بل كان هناك مؤمنون وكفار، وجهاد الكفار جاء على مراحل،
وحين يديرها الكافر في عقله لا يجد أن أحداً ادعى - أو يستطيع أن يدعي - أنه خلق السموات والأرض، فلا يكون جوابهم إلا أن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الإنسان في تكوينه قد يدعي أشياء ليست له، ولكنه لا ينفي أمراً هو صاحبه. فمخترع أي شيء أو صانعه لا يمكن أن ينكر أنه صنع أو اخترع، بل يجب أن تعرف الدنيا كلها أنه اخترع أو صنع؛ ولهذا فأنت لا تجد شيئاً ينتفع به في الكون مهما كان تافهاً إلا وعرفنا تاريخه، ومن أين جاء، ومن الذي طوره. وكذلك اختراع الطائرة، ومعروف لنا كيف نشأت فكرة الطيران بعباس بن فرناس؛ الذي حاول الطيران بذاته بواسطة أجنحة كبيرة، وهكذا كانت البداية.
إذن: فكل شيء نافع في الكون معروف من الذي اكتشفه أو صنعه أو اخترعه. فإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للصناعات البشرية المحدودة، فما بالك بالنسبة للكون؟ وحين نسأل: من الذي أوجد الشمس؟ ألا يستحق خالقها أن نعرف من هو، خصوصاً ونحن نعرف من الذي اخترع مصباح الكهرباء وأوجده في حياتنا؟
وإذا كنا نملأ الدنيا بالحديث عن مخترع مصباح الكهرباء الذي ينير حجرة محدودة لوقت، وقامت مصانع كبيرة لتنتج هذا الاختراع، أفلا نستحق أن
فإذا جاء الرسول وأبلغنا أن الله هو الذي خلق الشمس، فإما أن يكون صادقاً؛ فنسلم جميعاً بأن الله هو الخالق والموجد. وإما أنه غير صادق، فنقول: لماذا لم يخرج إذن أحد يدعي أنه هو الذي خلقها.
ولكن دقة وإعجاز الخلق الذي لا يمكن أن تصل إليه قوة بشرية مفردة، أو قوى بشرية متعددة متعاونة، جعل القضية محسومة له سبحانه وتعالى. وإلى أن يأتي من يدعي أنه خلق الشمس، ولن يأتي؛ فقضية الخلق محسومة لله سبحانه وتعالى، ولا يوجد هناك منازع.
ويأتي رسول ليقول: إن خالق الأرض والشمس والسموات والكون هو الحق سبحانه وتعالى، فلم يَأتِ أحد ويدَّعي أنه قد خلق شيئاً من هذا، مما يؤكد صحة دعوى الرسول، مما يؤكد أن من أوجد هذا الكون هو قوة بلا حدود، وقدرة بلا قيود، وهو الأحق بالعبادة من هذه الأصنام والآلهة التي يدعونها.
وتمضي الدعوة بالمنطق ليسألهم من الذي خلقهم؟ مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى:
فإذا كان الجواب: لا هذا ولا هذه، إذن: فلا بد أن هناك خالقاً وموجداً لنا، فإذا جاء لنا الرسول وأبلغنا: إن خالق هذا الكون وخالقنا هو الله، فلا بد أن نصدقه؛ لأنه لم يدَّعِ أحد ولا يستطيع أن يدعي أنه خلق هذا الكون أو خلق نفسه، تماماً كما نكون قد جلسنا في مكان. وبعد أن انصرفنا، وُجدَت حافظة نقود، فجاء صاحب المكان وسأل كل الذين كانوا حاضرين، فنفوا جميعاً ملكيتهم لحافظة النقود، عدا واحداً، حينئذ تكون حافظة النقود ملكه؛ لأنه هو وحده الذي ادعاها ولا يوجد معارض.
وفي خلق السموات والأرض وخلق الإنسان لا يجرؤ بشر أن يعارض الحق سبحانه وتعالى؛ ويدعي أنه خلق. إذن: فالقضية محسومة تماماً لله. هذا هو جهاد الحجة حيث يقتنع العقلاء بالمنطق، أو يقتنع من يستمع إليه فيفهمه، فإذا وصلنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى هو الخالق والموجد، يمكننا أن نتساءل: من الذي يضع المنهج للإنسان على الأرض؟ لا بد أن نُقدِّر أن من يضع المنهج للإنسان على الأرض هو خالقه وموجده، تماماً كما نثق أن صانع أي آلة هو الأقدر على وضع أسلوب عملها، فهو يعلم ما يصلحها وما يفسدها.
والمثال: أن الإنسان منا يعطي ساعة يده لمن تخصص في إصلاح الساعات، ويستدعي المتخصص في إصلاح الثلاجة إن أصابها عطب، ويستدعي الإنسان كل متخصص لإصلاح الآلة التي درس تفاصيلها، وكل متخصص يعود إلى كتاب التصميم الذي وضعه مَنْ اخترع الآلة، وبيّن فيه ما يصلحها وما يفسدها، ولذلك فأنت لن تستدعي نجاراً ليصلح التليفزيون.
فإن فشل جهاد الحجة، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ وبماذا يغلظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم؟ إنه يغلظ لإيضاح المصير الذي ينتظرهم، وكل كافر هو عابد للدنيا ويخاف أن تضيع منه الدنيا لأنه لا يؤمن بالآخرة، فأنذره بالآخرة، وانذره بالعذاب الذي ينتظره، وقُلْ له: أنت لست خالداً في الدنيا، وما ينتظرك في الآخرة هول كبير.
ولكن المؤمن يعرف أن الدنيا وراءها آخرة وجنة؛ ولذلك وجدنا المؤمن الذي يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحرب: ادع لي يا رسول الله لأستشهد. ويقول آخر: أليس بيني وبين دخول الجنة إلا أن أقاتل هؤلاء فيقتلوني؟ فيقول له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم، فيلقي الرجل بتمرة كان يأكلها وينطلق إلى المعركة ويستشهد.
هذا هو معنى الإيمان، ولو لم يكن المؤمن واثقاً تمام الثقة أنه سيذهب إلى نعيم ليس بعده نعيم، لما انطلق إلى المعركة طالباً الشهادة.
إذن: وهم يُقْدمون على الشهادة بهذه الشجاعة تمتلئ أعماقهم بالإيمان وبأحكام الله فيه، وتدفعهم القناعة التامة - بأن هناك جنة في الآخرة - إلى الاستشهاد، وفي المقابل نعرف أن الذي ينتظر الكفار هو النار. وهكذا نفهم قوله الحق: ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ أي: أنذرهم بالعذاب الرهيب الذي ينتظرهم عَلَّهُمْ يفيقون. والشاعر يقول:
أنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقِّب وَعيداً | فإنْ لَمْ يُغْنِ أغنَتْ عَزَائِمه |
وَمَا هُو إلاَّ السيف أو حَدُّ طَرْفِه | يقيمُ زباه أخْدعَ كُلِّ مَائِلِ |
فَهذا دَوَاءُ الدَّاءِ منْ كُلِّ جَاهِل | وذَاك دَواءُ الداءِ منْ كُلِّ عَاقِل |
وَضَعِيفَةٌ فإذَا أصَابَتْ فُرْصة | قتلت كذلِكَ فُرْصَةُ الضُّعفَاءِ |
والأصل في المكر هو الشجرة الملتفة الأغصان كأنها مجدولة؛ بحيث لا تستطيع أن تميز الورقة التي تراها من أي فرع نبتت، فيلتبس عليك الأمر، كذلك المكر تختلط عليك الأمور بحيث لا تعرف أين الحقيقة. وأنت تمكر بقدر تفكيرك وعقلك، ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يجازيك بمكرك يكون الجزاء رهيباً؛ لأن مكرك مفضوح عند الله، ولكنك لا تعرف شيئاً مما أعدَّه الله لك.
ولقد نصر الحق سبحانه وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأمور العلنية في المعارك، ونصره أيضاً في كل أمر مكروا فيه وبيَّتوه له. وعلى سبيل المثال، حين وقف الكفار على باب بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقتلوه في ليلة الهجرة. أوحى له ربه أن: اخرج ولا تَخْشَ مكرهم، فخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليجدهم نياماً وهم واقفون، أعينهم مفتوحة ولكن لا تبصر. ويخرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وسطهم. ويأخذ التراب، ويلقيه عليهم وهو يقول: «شاهت الوجوه».
وعندما يبتعد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المكان يستيقظون مرة أخرى، ويتعجبون كيف أفلت منهم. وقد أراد الحق سبحانه أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا النَّيْل من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا بالمعارك المفتوحة ولا بالمكر الخفي.
وقوله تبارك وتعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ﴾ تعرف منه أن سخرية الله جاءت جزاءً لهم على سخريتهم، والساخر من البشر لا يتجاوز
لقد عرفنا من قبل أن هناك عذاباً أليماً، وهناك عذاب عظيم، وعذاب مهين، وكلها صفات للعذاب، فالعذاب هو الإيلام، ولكن هناك من يفزعه الألم فيصرخ. وهناك من يحاول أن يتجلد ويتحمل؛ لأن كبرياءه يمنعه أن يصرخ، وفي هذه الحالة يكون عذابه مهيناً؛ لأنه بكبريائه تحمَّل الألم؛ فيُهَانُ في كبريائه وبذلك يكون عذابه مهيناً.
والعذاب قد يأخذ زمناً طويلاً أو قصيراً، وهناك عذاب عظيم في الإيلام وعظيم في الإهانة. والعذاب العظيم في الإيلام؛ أي مبالغ فيه من ناحية الألم. والعذاب العظيم في الإهانة مبالغ فيه من ناحية الإهانة. والعذاب العظيم في الوقت مبالغ فيه من ناحية الزمن، ولذلك يقال عنه «عذاب مقيم» أي: يأخذ الزمن كله لا يتوقف ولا يقل.
ثم يعرض الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى من صور تعامل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المنافقين. ومع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرف المنافقين، وقد أعلمه سبحانه بأمرهم حين قال: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ... ﴾ [محمد: ٣٠]
أي: بمجرد نظر رسول الله إليهم، وكأن على جبهة كل منهم توجد كلمة «منافق» وهو يعرفهم مصداقاً لقوله الحق: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول... ﴾ [محمد: ٣٠]
ونحن نعرف أن رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، كان سيُتوَّج ملكاً على المدينة. وأثناء الإعداد لمهرجان التتويج؛ فوجئوا بوصول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مهاجراً إلى المدينة. وكان هذا من أسباب حقد عبد الله بن أبيّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد ضاع منه الملْك. وكان لعبد الله بن أبيّ ولد أسلم وحَسُن إسلامه اسمه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ. وكان من حُسْن إسلام هذا الابن أنه ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ حين علم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأمر بقتل أبيه؛ لأنه قال في غزوة من الغزوات. ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ [المنافقون: ٨]
وكان ابن أبيّ يعني ب «الأعز» المنافقين في المدينة؛ وب «الأذل» المسلمين من المهاجرين والأنصار. ورد الله سبحانه بأن صدَّق على قوله أن الأعز سيُخرج الأذل، فقال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ... ﴾ [المنافقون: ٨]
ولما علم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيأمر بقتل والده عبد الله بن أبيّ، ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: يا رسول الله إن كنت ولابد آمراً بقتل أبي فأمرني أنا بقتله؛ لأني أخاف أن يقتله أخ مؤمن فأكرهه، وأنا لا أحب أن أكره مؤمناً.
وهكذا نرى قوة وصدق الإيمان، وأراد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكرم ذلك المنافق من أجل ابنه فلم يأمر بقتله، ومن بعد ذلك قال الابن: يا رسول الله استغفر لأبي، أي: اطلب له من الله المغفرة؛ ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أنه قد أرسل رحمة للعالمين؛ لذلك طلب المغفرة لعبد الله بن أبيّ. وحينئذ نزلت الآية الكريمة: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ... ﴾
وكانت السبعة دائماً هي نهاية العدد عند العرب، وعندما يأتي عدد آخر يكون زائداً، فالأصل في العدد هو مكررات الواحد، أي: أن الواحد أصل العدد، يضاف له واحد يكون اثنين، ويضاف لهما واحد فيكون المجموع ثلاثة، وتستمر الإضافة حتى يصير العدد سبعة، وإذا تركنا الواحد جانباً لأنه الأصل، نجد عندنا ثلاثة أعداد زوجية، هي: اثنان وأربعة وستة، وثلاثة أعداد فردية هي: ثلاثة وخمسة وسبعة، ويكون العدد سبعة جامعاً للمفرد والمثنى والجمع.
ولذلك كانوا إذا أرادوا الزيادة على سبعة فلابد أن يأتوا بحرف العطف. ونجد قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ... ﴾ [الكهف: ٢٢]
ولم يقل: ثامنهم كلبهم، بل جاء بواو العطف؛ لأن الثمانية كانت من نوع آخر.
أسِيئي بِنَا أوْ أحْسِني لاَ مَلُومةَ... أي: افعلي ما تشائين.
فكأن الحق سبحانه وتعالى في قوله: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ شاء أن ياتي بمضاعفات العدد النهائية وهي السبعون ليحسم الأمر.
وجاء قول الحق سبحانه: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ... ﴾ [المنافقون: ٦]
أي: مهما استغفرت بأي عدد من الأعداد فلن يغفر الله لهم.
ونقول: إن الأمر هنا له شقان؛ الشق الأول: أن يغفر الله. والشق الثاني: هو مجاملة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن الله لن يغفر للمنافقين. وفي استغفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما هو لاحترام طلب الابن، وأيضاً فالاستغفار من رسول الله كان مجرد مجاملة لعلمه أن الله لن يغفر للمنافقين؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن استغفاره من أجل منافق لن يقبله الله، وهناك استغفار تنشأ عنه المغفرة، واستغفار ينشأ عنه إرضاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ.
ولكن ألا توجد ذاتية للأب؟
وجزاء العمل يُعطي للبعض في الدنيا، ويُعْطي للبعض في الآخرة؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: ٢٠]
ولقد حدثنا علماء السيرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن أبا لهب يُخفَّفُ عنه العذاب يوم الاثنين»، وأبو لهب نزل فيه قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ١ - ٣]
ولماذا يُخفَّف العذاب عن أبي لهب يوم الاثنين؟ لأن هذا اليوم هو الذي ولد فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد سُرَّ أبو لهب بميلاد الرسول الكريم، فأعتق الجارية التي بشَّرته بميلاد الرسول؛ ومن هنا يُخفَّف العذابُ عن أبي لهب يوم الاثنين جزاء عمله.
كما أن عبد الله بن أبيّ كان له موقف يحسب له في واقعة الحديبية حين ذهب المسلمون لأداء العمرة، وصدهم الكفار عن بيت الله الحرام؛ وانتهت بصلح الحديبية وهي أول معاهدة بين الإيمان والكفر، ورغم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته رُدُّوا عن بيت الله الحرام، فقد فطن أبو بكر لما في يوم الحديبية من عطاءات الله؛ من اعتراف كفار قريش بمحمد وبالمسلمين حين وقعوا معاهدة بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وتفرغ نبينا الكريم للدعوة في الجزيرة العربية، وهو آمن من قريش، وانتشر الإسلام إلى أن نقضت قريش العهد وتم فتح مكة.
كذلك كان له موقف آخر في غزوة بدر، حينما أُسر العباس عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وكان العباس طويل القامة وثيابه تمزقت في المعركة، فلم يجدوا طويلاً مثله إلا عبد الله بن أبيّ، فأعطاهم قميصه ليلبسه العباس، فلم يَنْسَ رسول الله ذلك له.
ومن أجل هذا استغفر له رسول الله، لكن الحكم الأعلى قد جاء ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ فليس المهم فقط هو استغفار رسول الله؛ لأن هناك ممحصات للذنب، فمن أذنب عليه أن يأتيك أولاً يا رسول الله، ليستغفر الله، ثم يسألك أن تستغفر له الله، حتى يجد الله تواباً رحيماً، فسبحانه القائل: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٦٤]
فالذي يريد أن يتوب ويستغفر، لا يستغفر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا إذا استغفر مرتكب الذنب أولاً، فلا بد أن يستغفروا الله من الذنوب أولاً ثم يستغفر لهم الرسول. ولا يستغفر لهم الرسول وهو لا يستغفرون، وهكذا نعلم أن عبد الله بن أبيّ لم يفطن إلى كيفية الاستغفار، فقد كان عليه أن
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى موضحاً سبب عدم غفرانه، فيقول: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ وحين ينفي الحق سبحانه وتعالى الهداية عن إنسان، فليس معنى هذا أن يقول الفاسق: الله لم يَهْدِني فماذا أفعل؟ ويُحمِّل المسألة كلها لله. بل نسأل الفاسق: لماذا لم يَهْدِك؟ لأنك فسقت.
إذن: فعدم الهداية من الله لك كان بسبب أنك أخذت طريق الفسق والبعد عن منهج الله، ومن هنا فالهداية المقصودة في هذه الآية؛ ليست هي الهداية بمعنى الدلالة على طريق الخير؛ لأن الدلالة إلى طريق الخير تأتي من الله للمؤمن والكافر فمنهج الله الذي يبلَّغ للناس كافة، يريهم طريق الخير ويدلهم عليه. ولكن المقصود هنا هو الهداية الأخرى التي يعطيها الحق لمن دخل في رحاب الإيمان وآمن وحَسُنَ عمله، وتتمثل في قوله الحق: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ﴾ [محمد: ١٧]
إذن: فكل مَنْ مشى في طريق الإيمان أعانه الله عليه. وفي المقابل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [الأحقاف: ١٠]
وكذلك قوله سبحانه: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [التوبة: ٣٧]
وأيضاً قوله الكريم: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [الصف: ٥]
لا نقول أبداً: إن هؤلاء معذورون؛ لأن الله لم يَهْدِهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قد هداهم ودَلَّهم جميعاً على طريق الخير، ولكنهم هم الذين أخذوا طريق الكفر والظلم والفسوق.
فماذا صنعوا في هدايته لهم: ﴿فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾، أي: أن الحق سبحانه بيَّن لثمود طريق الخير، ولكنهم اختاروا الضلالة.
إذن: فهداية الدلالة للجميع، وهداية المعونة للمؤمنين.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى للمنافقين فيقول: ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ... ﴾
ومن لا يريد أن يجاهد في سبيل الله إن أخذته معك كرهاً، يكون ضدك وليس معك. وسيشيع الأكاذيب بين المؤمنين، ويحاول أن يخيفهم من الحرب، وإذا بدأ القتال فهو أول من يهرب من المعركة. ويبحث عن مغارة أو حجر يختفي خلفه. إذن: فهو ليس معك ولكنه ضدك؛ لأنه لن يقاتل معك، بل ربما أعان عدوك عليك. وفي نفس الوقت هو يضر بالمسلمين، ويحاول أن يشيع بينهم الرعب بالإشاعات الكاذبة.
ويقول تعالى: ﴿خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ وحين نسمع كلمة ﴿خِلاَفَ﴾ نعرف أن مصدرها خالف خلافاً؛ ومخالفة؛ كما تقول: قاتل قتالاً ومقاتلة. وهي إما أن تكون مخالفة في الرأي، كأن تقول: فلان في خلاف مع فلان، أي: أن لكل منهما رأياً. وإما أن تكون في السير، كأن تقوم أنت لتغادر المكان؛ ويخالفك زميلك أو من معك فيقعد، أو تقعد أنت، فيخالفك هو ويمشي.
والخلاف من ناحية الرأي هون عملية قلبية، والخلاف من ناحية الحركة يشترك فيها القلب أو الجسد، وهم حين فرحوا بالقعود بعد قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين للجهاد، فهذا دليل على أن مسألة القعود هذه صادفت هوى في نفوسهم وارتاحوا لها وبذلك خالفوا شرط الإيمان؛ لأن الذين يحق لهم أن يتخلفوا عن الجهاد قد حددهم القرآن الكريم في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ... ﴾ [التوبة: ٩١]
وقوله: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ... ﴾ [التوبة: ٩٢]
﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: ٩٢]
إذن فهؤلاء الذين تخلفوا بأعذار يملؤهم الحزن، وتفيض أعينهم بالدمع؛ لأنهم حرموا ثواب الجهاد في سبيل الله. أما الذين يفرحون بالتخلف عن الجهاد فهم منافقون.
وقوله سبحانه: ﴿خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ نجد فيه أيضاً أن كلمة ﴿خِلاَفَ﴾ تستعمل أيضاً بمعنى «بعد»، أي بعد رسول الله، فما أن ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للغزوة قعدوا هم بعده ولم يذهبوا. وجلسوا مع الضعيف والمريض وأصحاب الأعذار الحقيقية، وكذلك الذين لم يجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم دواب ليركبوها، هؤلاء هم مَنْ تخلفوا. وبيّن الحق سبحانه سبب تخلف المنافقين فيقول: ﴿وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله﴾.
أي: انهم كرهوا أن يقاتلوا، وكرهوا الجهاد. وليت الأمر قد اقتصر على هذا، بل أرادوا أن يثبِّطوا المؤمنين ويُكرِّهوهم في القتال في سبيل الله ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾ فهم لم يكتفوا بموقفهم المخزي، بل أخذوا في تحريض المؤمنين على عدم القتال. وقد كانت هذه الغزوة «غزوة تبوك» في أيام الحر. وكانت المدينة تمتلئ بظلال البساتين وثمارها، بينما الطريق إلى
وقال المنافقون للمؤمنين ﴿لاَ تَنفِرُواْ﴾، والنفور هو كراهية الوجود لشيء ما. ويقال: فلان نافر من فلان، أي: يكره وجوده معه في مكان واحد. ويقال: فلان بينه وبين فلان نفور، أي: يكرهان وجودهما في مكان واحد. والذي يخرج للحرب كأنه نفر من المكان الذي يجلس فيه ذاهباً إلى مكان القتال. ويكون القتال والتضحية بالمال والنفس في سبيل الله أحب إليه من القعود والراحة.
إذن: فقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾ أي: أنهم يريدون أن يعطوا لأنفسهم عذراً لعدم الخروج للجهاد؛ لأن الجو حار وفيه مشقة. ولكنهم أغبياء؛ لأنهم لو خافوا من الحر ومشقته؛ وجلسوا في الظل ومتعته، لأعطوا لأنفسهم متعة زمنها قصير ليدخلوا إلى مشقة زمانها طويل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ فإن كانوا قد اعتقدوا أنهم بهروبهم من الحر قد هربوا من مشقة، فإن مشقة نار جهنم والخلود فيها أكبر بكثير. والإنسان إن بُشِّر بأشياء تسره عاماً أو أعواماً، ثم يأتي بعدها أشياء تسوؤه وتعذبه، فهو بمعرفته بما هو قادم يعاني من الألم ولا يستطيع الاستمتاع بالحاضر؛ لأن الإنسان يحاول دائماً أن يتحمل؛ ليُؤمِّن مستقبله. ولذلك تجد من يعمل ليلاً ونهاراً وهو سعيد، فإذا سألته كيف تتحمل هذا الشقاء؟ يقول: لأؤمن مستقبلي. إذن: فسرور عام أو أعوام تفسده أيام أو أعوام قادمة
ولكن هل قالوا: ﴿لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر﴾ في خواطرهم دون أن ينطقوا بهما، أم قالوها لبعضهم البعض سراً؟ ومن الذي أعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قالوه؟ نقول: قد يكون ذلك هو ما دار في خواطرهم.
وشاء الله أن يعلموا أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في نفوسهم. وشاء أن يفضح ما في سرائرهم، لعل هذا يُدخل الخوف في قلوبهم، من أنه سبحانه مطلع على كل شيء، فيؤمنوا خوفاً من عذاب النار.
ومثال هذا أن الحق حين أراد أن يمنع المشركين من حج بيته الحرام قال: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا... ﴾ [التوبة: ٢٨]
وكان المشركون حين يذهبون إلى الحج ينعشون اقتصاد مكة، وكان الخير يأتي من كل مكان إلى مكة في موسم الحج، بل إنهم كانوا يقولون: إياكم أن تطوفوا بالبيت في ثيابهم عصيتم الله فيها، وكأن التقوى تملأ نفوسهم! وحقيقة الأمر أنهم كانوا بعيدين عن التقوى لأنهم كانوا يعبدون الأوثان. وكانوا يقولون ذلك حتى يضطر الحجاج أن يخلعوا ثيابهم ويشتروا ثياباً جديدة ليطوفوا بها ومن لا يملك المال يطوف عارياً.
إذن: فقد كان الحج موسماً اقتصادياً مزدهراً لأهل مكة؛ يربحون خلاله ما يكفي معيشتهم طوال العام، فلما جاء البلاغ من الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾. فالخاطر الذي يأتي في النفس البشرية؛ وكيف سنعيش؟. هذا هو أول خاطر ياتي على البال؛ لأنه سؤال عن مقومات الحياة، والذي خلقهم عليم بما يدور في خواطرهم. وإن لم يجر على ألسنتهم، حينئذ جاء قول الحق سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ... ﴾ [التوبة: ٢٨]
كذلك قول الحق سبحانه: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ والفقه هو الفهم الدقيق. فأنت حين تعرف شيئاً بسطحياته تكون قد عرفته، ولكنك إن عرفته بكل معطياته الخلفية تكون قد فقهته. وأنت إذا ذهبت للجهاد في الحر قد تتعب، ولكن إذا قعدت عن الجهاد سوف تكون عقوبتك أكبر وتعبك أشد.
إذن: فعلمك بشيء وهو الحر الذي ستواجهه إن خرجت للجهاد، يجب ألا ينسيك ما غاب عنك، وهو أن نكوص الإنسان عن الجهاد يدخله ناراً أشد حرارة، يخلد فيها. ومعنى ذلك أنه لم يفقه؛ لأنه علم شيئاً وغاب عنه أشياء.
ومن هذا المنطق القرآني، رد الإمام علي كرم الله وجهه على القوم حينما دعاهم إلى الجهاد ضد الخوارج فقال: «أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه سيم الخسف».
ثم يقول بعد ذلك: «إن قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر.. أي برد شديد. وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم: أنظرنا - أي أمهلنا - حتى ينصرف الحر عنا، فإذا كنتم في البرد والحر تفرون، فأنتم والله في النار. يا أشباه الرجال ولا رجال».
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ جاء بعد قوله: ﴿فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله﴾ أي: أنهم فرحوا عندما بَقَوْا هم في المدينة، وخرج المؤمنون للجهاد. جلسوا في حدائق المدينة وهم فرحون في راحة وسرور يضحكون؛ لأنهم يعتقدون أنهم قد فازوا بعدم اشتراكهم في الجهاد. ولكن هذا الضحك هو لفترة قليلة. وسيأتي بعدها بكاء وندم لفترة طويلة وأبدية، عندما يدخلون جهنم والعياذ بالله.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ ولم يقل: سيضحكون قليلاً وسيبكون كثيراً، لماذا؟
نقول: عندما يُسند الفعل إلى المخلوق الذي يعيش في عالم الأغيار، والمختار في عدد من أفعاله، يُحتمل أن يحدث أو يجوز ألا يحدث. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ﴾ أي: أمر بالضحك، ثم يجيء في البكاء ويقول: ﴿وَلْيَبْكُواْ﴾ أي: ابكوا والأمر بالضحك والبكاء هو أمر اختياري من الله سبحانه وتعالى، تجوز فيه الطاعة وتجوز فيه المعصية؟
وكما بيَّنا فإن الإنسان لا يستطيع الانفعال بالضحك أو البكاء.
والحق حين يقول: ﴿فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً﴾ معناها: أن انفعال الضحك قضاء عليهم لا بد أن يحدث. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً﴾ فلا بد أن يبكوا؛ لأن انفعال البكاء مكتوب عليهم من الله، وكما يقولون: إن الذي يضحك أخيراً يضحك كثيراً، وكذلك الذي يبكي أخيراً يبكي كثيراً.
إذن: فالأمور كلها مرهونة بالخاتمة. فقد يأتي للإنسان حادث يسرّه، ثم تأتيه ساعة بؤس تمحو هذا السرور كله، والعكس صحيح. وإذا كان هؤلاء المنافقون قد ضحكوا قليلاً في الدنيا. فعمر كل منهم في الدنيا قليل؛ لأنه حتى وإن عاش في الدنيا ضاحكاً طوال عمره فكم سيضحك؟ أربعين سنة؟ خمسين سنة؟
إن كلاّ منه له في الدنيا مدة محدودة، فأنت إذا نسبت الحدث إلى الدنيا على إطلاقها فهو قليل. وإذا نسبته إلى عمرك في الدنيا فهو أقل القليل، ثم تأتي الآخرة بالخلود الطويل الذي لا ينتهي، ويكون بكاء المنافق فيه طويلاً طويلاً.
ولذلك فلا بد لكل إنسان ان يضع مع المعصية عقوبتها، ومع الطاعة ثوابها؛ لأن الإنسان قد يرتكب المعصية لإرضاء شهوات نفسه، وساعة ارتكاب المعصية فهو لا يستحضر العقوبة عليها، ولو أنه استحضر العقوبة لامتنع عن المعصية. فالسارق لو استحضر ساعة قيامه بالسرقة، أنه قد
ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»
لأنه ساعة يزني لو تخيل أو تأكد أنه سيُلْقى في النار جزاء ما فعل، فلن يقدم على الزنا أبداً. وكذلك شارب الخمر لا يمكن أن يضع الكأس في فمه. إذا تخيل النار وهو يُعذَّب فيها. ولكن الغفلة عن الإيمان تحدث لحظة ارتكاب المعصية؛ لأن الإيمان يقتضي أن تستحضر العقوبة ساعة تُقدِم على المعصية، وأن تعلم يقيناً أن كل ما تفعله ستُحاسب عليه في الآخرة، وسيكون هناك جزاء.
فإذا ضحكت من مطلوبات الإيمان فلابد أن تبكي في الآخرة. فإن فرحت - مثلاً - بترك الصلاة أو الزكاة، واعتقدت أنك قد غنمت في الدنيا، فلا بد أن تندم ويصيبك الغمُّ في الآخرة. وإذا تنعمت بمال حرام فلا بد أن تُعذب به في الآخرة. والحق سبحانه يقول: ﴿إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ﴾
[المطففين: ٢٩ - ٣١]
هكذا يعطينا الله عدة صور من السخرية التي يتعرض لها المؤمنون في الدنيا، وأولى هذه الصور هي ضحك المنافقين والكفار من المؤمنين، كأن يقول أحدهم لإنسان مؤمن يقوم إلى الصلاة: خذنا على جناحك في الآخرة. ثم بعد ذلك يأتي الغمز واللمز، ثم إذا ذهب المنافق إلى أهله
وليتهم توقفوا عند ذلك بل اتهموا المؤمنين بالضلال؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ [المطففين: ٣٢ - ٣٣]
أي: أنهم زادوا على كل هذا باتهام المؤمنين بالضلال. هذا ما صنعوه في الدنيا. وهي فانية وعمرها قليل. ثم يأتي سبحانه وتعالى بالمقابل في الآخرة؛ فيقول: ﴿فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ - ٣٦]
فكما ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا؛ سيضحك المؤمنون من الكفار في الآخرة، وسيجلس المؤمنون على الأرائك في الجنة وهم ينظرون إلى الكفار وهو يُعذَّبون في النار، أي: أن الله جزاهم بمثل عملهم مع الفارق بين قدراتهم المحدودة وقدراته - سبحانه - التي لا حدود لها.
ولم يقل الحق سبحانه وتعالى: «سيضحكون» ككلام خبري، يجوز أن يحدث أو لا يحدث، بل جاء به مُؤكداً. وقوله هنا في المنافقين ﴿فَلْيَضْحَكُواْ﴾. يعني: أن الضحك لابد أن يحدث؛ لأن هذا كلام من الله سبحانه وتعالى.
إذن: فالحق سبحانه لم يظلمهم، بل أعطاهم جزاء ما عملوه. كما قال: ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ وكلمة ﴿يَكْسِبُونَ﴾ هنا لها ملحظ لا بد أن نُبيِّنه، فقد كان من الممكن أن يُقال «جزاء ما كانوا يعملون» أو «جزاء ما كانوا يفعلون»، فلماذا جاء الحق ب ﴿يَكْسِبُونَ﴾، وما الفرق بينها وبين «ما يفعلون» و «ما يعملون» ؟
نعلم أن لكل جارحة من جوارح الإنسان مجالَ عمل؛ فالأذن تسمع، والعين ترى، واليد تمسك، والقدم تمشي، والأنف يشُمُّ، والأنامل تملس.
إذن: فكل عضو له مهمة. فإن كانت المهمة هي النطق باللسان نسميها القول. وإن كانت مهمة من مهام باقي الجوارح عدد اللسان نسميها الفعل. فاللسان وحده أخذ القول، وكل الجوارح أخذت الفعل. والقول والفعل معاً نسميهما عملاً.
فإذا قال الحق سبحانه وتعالى: «يفعلون» يكون ذلك مقابل يقولون؛ لأن الإنسان قد يقول بلسانه ولا يفعل بجوارحه. وتوضح ذلك الآية الكريمة: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]
ولكن إذا اتحد القول والفعل يكون هناك عمل. وكل شيء لا يتسق منطقياً مع قيم المنهج يكون فيه افتعال، فالكسب عمل، والاكتساب افتعال الكسب؛ لأن الكسب عمل طبيعي، والاكتساب هو افتعال الكسب. وسبحانه يقول:
لأن الاكتساب بالحرام فيه افتعال يتعب النفس، ولا يجعلها منسجمة مع جوارحها، فالرجل مع زوجته في البيت مستقر الجوارح لا يخشى شيئاً. لكنه مع زوجة غيره يهيج جوارحه؛ فيقفل النوافذ ويُطفئ الأنوار. وإنْ دقَّ جرس الباب يصاب بالذعر والهلع؛ لأن ملكات النفس ليست منسجمة مع العمل.
أما إذا اعتادت النفس الإثم مثل من اعتاد الإجرام، فلا يهيجها الحرام. وفي هذه الحالة تنقلب عملية الاكتساب إلى كسب، وتعتاد النفس على المعصية وعلى الإثم، ويصبح جزاؤها عند الله أليماً وعذابها عظيماً.
ويقول الحق سبحانه في هذه الآية: ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ وكان مقتضى الكلام أن يقال: «جزاء بما كانوا يكسبون» لأن هذه عملية فيها إثم وفيها معصية، فلا بد أن يكون فيها افتعال، ولكن الحق سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن هؤلاء المنافقين قد اعتادوا المعصية، وعاشوا في الكفر، فأصبحت العملية سهلة بالنسبة لهم، ولا تحتاج منهم أي افتعال.
واقرأ قول الحق: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله... ﴾ [المائدة: ٣٨]
والسرقة ليست أمراً طبيعياً، لذلك يقوم بها السارق وخفية ويُبيِّت لها ويفتعل؛ ولذلك كان من المنطقي أن يقال «اكتسبوا» لكن شاء الحق أن نعرف أن السرقة قد أصبحت في دم هؤلاء، ومن كثرة ما ارتكبوها فهي بالنسبة لهم عملية آلية سهلة. وقد وضع التشريع لها نطاقاً وهو ربع دينار مثلاً. والذي يسرق دون هذا النطاق لا يُطبق عليه حَدُّ قطع اليد. لماذا؟ لأن ربع الدينار في ذلك الوقت كان يكفي لقوت أسرة متوسطة العدد لمدة
ونحن نعلم أن العقل البشري وظيفته الاختيار بين البدائل، ومفروض أن يُقَدِّر الإنسان العقوبة ويستحضرها ساعة وقوع المعصية، وأن يستحضر الثواب ساعة القيام بالطاعات ترغيباً للإنسان في الطاعة. ونحن نأتي للطالب المجتهد ونطلب منه أن يُخفِّف من المذاكرة، لكنه لا يترك الكتاب لأنه استحضر النجاح؛ وما سيحدث بعد النجاح من دخوله الكلية التي يريدها، أو بعد تخرجه من الجامعة إن كان قد وصل إلى مرحلة التخرج، وكذلك استحضر نظرة أهله وأساتذته وزملائه إليه، وهو يستحضر كل ذلك؛ مما يدفعه لقضاء ساعات طويلة في المذاكرة دون أن يشعر بالتعب.
إذن: فالذي يُحبِّبك في الطاعة هو استحضار لذة الثواب القادم. والذي يُكرِّهك في المعصية هو استحضار ألم العقاب الذي لابد أن يحدث.
ولكن هؤلاء المنافقين والكفار قد اعتادوا المعصية والكفر؛ حتى أصبح سلوكهم المخالف للإيمان إنما يحدث منهم دون أن يستحضروا عقوبة المعصية، فهم يرتكبون المعاصي بغير فعل. ولو قال: «يفعلون» لكان فعلاً
ويأتي الحق سبحانه وتعالى لِيُرينا حكمه في الدنيا على هؤلاء المنافقين الذي فرحوا بتخلفهم عن الجهاد في سبيل الله، فيقول: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ... ﴾
وقوله: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ﴾ كلمة «رجع» من الأفعال، وكل فعل يجب أن يكون له فاعل ومفعول، فلا يمكن أن تقول: «ضرب محمد» ثم تسكت؛ لأنه عليك أن تبين من المضروب. ولا يمكن أن تقول «قطف محمد»، بل لابد أن تقول ماذا قطف؟ وهكذا تحتاج إلى مفعول يقع عليه الفعل. ولكن هناك أفعالاً لا تحتاج إلى مفعول. كأن تقول: «جلس فلان» والفعل الذي يحتاج إلى مفعول اسمه «فعل مُتعَدٍّ» أما الفعل الذي لا يحتاج إلى مفعول فاسمه «فعل لازم». إذن: فناك فعل متعد وفعل لازم.
ولكن هناك آية في القرآن الكريم تقول: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً... ﴾ [الأعراف: ١٥٠]
في الآية التي نحن بصددها ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ الفاعل هو الله، أما في قوله الحق: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى﴾ نجد أن موسى هو الفاعل ولا يوجد مفعول به، إذن ف «رجع» يمكن أن يكون فعلاً لازماً، كأن تقول: «رجع محمد من الغزوة». ويمكن أن يكون فعلاً متعدياً كقوله سبحانه: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ أي: يا محمد من الغزوة. إذن: فرجع تستعمل لازمة وتستعمل متعدية. ولكن في قصة سيدنا موسى عليه السلام؛ عندما ألقته أمه في البحر والتقطه آل فرعون؛ ومشت أخته تتبعه؛ ثم حرَّم الله عليه المراضع ليعيده إلى أمه كي يزيل حزنهان يقل الحق سبحانه: ﴿إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ... ﴾ [طه: ٤٠]
ما هو الفرق بين الآيات الثلاث؟ ولماذا استعمل فعل «رجع» لازماً ومتعدياً؟
أما قوله تعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ فقد كان من الممكن أن يقال: «وإذا رجع إلى طائفة منهم» مثلما قال في موسى عليه السلام: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى﴾ ولكن الحق استخدم ﴿رَّجَعَكَ﴾ ليدل على أن زمام محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الفعل والترك ليس بيده.
وكأنه سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تنسبوا الأحداث إلى بشرية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن محمداً إذا ذهب إلى مكان فالله هو الذي أذهب إليه. وإن عاد من مكان فهو لا يعود إلا إذا أرجعه الله منه. كما كانت هجرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة بإذن من الله، فقبل أن يأذن الله له بالهجرة، لم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببشريته يستطيع أن يهاجر. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرف دائماً: أن ذهاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورجوعه من أي مكان، ليس ببشرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بل بإرادة الحق سبحانه.
ولكن لماذا قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ﴾ وكان من الممكن أن يقول «فإن رجعك الله إليهم» أة: «فإن رجعك الله إلى المدينة» ؟ نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد الحديث هنا عن الطائفة التي حدثت منها المخالفة، فهناك من بقوا في المدينة رغماً عنهم ولم يكن لديهم ما ينفقونه أو لم يكن لدى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم عليه. كذلك المرضى وكبار السن الذين لا يستطيعون قتالاً. وهؤلاء حَسُنَ إسلامهم وقَبِل الله ورسوله أعذارهم.
إذن: فالحق يقصد هنا طائفة المنافقين الذين استمروا على نفاقهم، فمن تاب منهم قبل نزول هذه الآية قبلت توبته، ومن مات منهم قبل نزول هذه الآية فإنما حسابه على الله. وبقيت طائفة المنافقين الذي فرحوا وضحكوا عندما بقوا في المدينة، وكان عقاب الله لهم بأن مسح أسماءهم من ديوان المجاهدين في سبيل الله، ومنعهم الثواب الكبير للجهاد.
ويقول سبحانه: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾ فكيف استأذنوا أول الأمر للقعود وتحايلوا عليه، وكيف يستأذنون الآن للخروج؟ نقول: إنهم عندما رأوا المؤمنين وقد عادوا بالغنائم، كان ذلك حسرة في قلوبهم؛ لأنهم أهل دنيا. وحينئذ طلبوا الخروج حتى يحصلوا على الغنائم والمغانم الدنيوية. ولكن الحق سبحانه وتعالى طلب من رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ألا يأذن لهم بالجهاد مع المسلمين، فقال: ﴿فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً﴾ أي: أن أسماءكم قد شطبت من ديوان المجاهدين والغزاة، ولما قرر الحق سبحانه وتعالى ألا يعطيهم شرف الجهاد وثواب الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾.
ولكن الحق يقول أيضاً هنا: ﴿فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ﴾ وهذا أمر لا يحدث إلا في الغزوات، فما هو موقفهم إذا حدث اعتداء على المدينة؟ ويبين الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يقبل قتالاً حتى في هذه الحالة، فطلب
وما معنى خالفين؟ المادة هي «خاء» و «لام» و «فاء»، فيها «خلف» و «خلاف» و «خلوف» وغير ذلك. و «خالفين» إما أن يكونوا قد تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإما أن يكونوا خالفوا الرسول بأنهم رفضوا الخروج، وإما أن يكونوا خلوفاً. ويقول: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث عن الصيام: «الخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك»
والخلوف هو تغير الرائحة، وتغير الرائحة يدل على فساد الشيء، فكأنهم أصبحوا فاسدين. ومخالفين تعني فاسدين لأنهم قد خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ول يقتصر جزاء هؤلاء المتخلفين فقط أن تشطب أسماؤهم من سجلات المجاهدين، بل هناك جزاء آخر يبينه قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ... ﴾
وقول الحق لرسوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ معناها نهي عن فعل لم يأت زمنه. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ أي: لا تذهب إلى قبره وتطلب له الرحمة، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً﴾ مع أن النهي عن المستقبل، أي: من مات بعد نزول هذه الآيات، فلماذا لم يقل الحق «يميت» أو «يموتوا» واستخدم الفعل الماضي ﴿مَّاتَ﴾ ؟. ونقول: لأن الموت عملية حتمية مقررة عند الله ومُقدَّرة، فموعد الموت مكتوب ومعروف عند الله، وهو شيء لا يقرره الله مستقبلاً، بمعنى أن موعد الموت لا يحدد قبل حدوث بليلة أو ليلتين، ولكن الموعد قد حُدِّد وانتهى الأمر.
أما قوله الحق: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم﴾ فهو يدلنا على أن هذا الأمر ليس خاصّاً بسبب، ولكنه عموم حكم، فهناك: سبب للحكم، وهناك عموم حكم. وسبب الحكم مثل الآية التي نزلت في زعيم المنافقين عبد الله ابن أبيّ، فعندما مرض عبد الله بن أبيّ مرض الموت؛ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وطلب منه أن يعطيه قميصه يُكفِّن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه ليصلي عليه ويستغفر له. وذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجاملة لابنه عبد الله بن أبيّ الذي أسلم وحَسُن إسلامه.
فاستغفر له الرسول صلى الله علهي وسلم، وهنا نزلت الآية الكريمة: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠]
وطلب عبد الله بن أبيّ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يهبه ثوبه لكي يُكفَّن به، فلما ذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى بيته، أرسل له الثوب الأعلى.
وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلبس ثوبين؛ ثوباً يلي جسده وثوباً فوقه. فلما جاء ابن أبيّ الثوب الأعلى، قال: أنا أريد الثوب الذي لامس جسد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
انظر إلى زعيم المنافقين والذي كان يملؤه الكبرياء في حياته، كبرياء على المؤمنين؛ ها هو ذا يطلب كل هذه الطلبات ساعة احتضاره. فماذا صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أرسل له القميص الذي لامس جسده الشريف. وكان كل هذا إرضاء لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ.
ولم يتقبل هذا الفعل عدد المؤمنين ولم يشعروا بالارتياح، فعندما مات ابن أبيّ جاء ابنه عبد الله، وطلب من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي عليه.
ومن المسائل التي وافق الوحي فيها عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام. فقد كان عمر يرجوها، وكان يقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا رسول الله، لو اتخذت مقام إبراهيم مصلّى.
ومن هذه الأمور أيضاً رأى في أسرى بدر، وأن من الواجب قتلهم، وكان رأي أبي بكر أن يقوم الأسرى بتعليم المسلمين القراءة والكتابة؛ أو يؤخذ فيهم الفداء، فنزلت الآية الكريمة: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة﴾ [الأنفال: ٦٧]
بعض الناس يتساءل: كيف يستدرك عمر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ نقول: لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن يُخلَّد في أمته؛ لذلك أراد أن يعطيهم الأُسْوة بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متى رأى رأياً حسناً نزل عليه. وبعض المستشرقين يقولون: إنكم تقولون دائماً عمر فعل كذا، ولماذا لا تقولون لنا محمد فعل كذا؟ ونقول: إذا فعل محمد فهو رسول الله، أما غير الرسول عندما يفعل فهو دليل على أن الفطرة الإسلامية من الممكن أن ترى شيئاً يتفق مع ما يريده الله.
وكان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يكرم كل مسلم بالصلاة عليه، فلما نزلت هذه الآية امتنع عن الصلاة على المنافقين.
كذلك امتنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الصلاة على الميت وعليه دين، «فكان يسأل أهل الميت: هل عليه دَيْن؟ فإن قالوا: نعم. سأل: هل تريد ما يسده؟. فإن قالوا: لا، قال:» صَلُّوا على صاحبكم «، وامتنع هو عن الصلاة.»
ولكن ما ذنب من عليه دين أن يُحرَم صلاة رسول الله عليه؟ نجد الإجابة في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»
فلو كان هذا الميت المدين ينوي سداد دينه لأعانه الله على أن يُسدِّده، أما إذا ترك ما يفي بهذا الدين من عقارات أو أراض أو أموال في البنوك فلا يكن مديناً.
ويقول الحق سبحانه هنا: ﴿وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ ونحن نعلم أن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يذهب إلى قبر حمزة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ويقف على قبور المؤمنين: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ومنعه الحق
ولكن هنا نتساءل: أليس الكفر أكبر مرتبة من الفسق؟ لأننا نعلم أنه ليس بعد الكفر ذنب؟ فكيف يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ مع أنهم كفروا، والكفر أكبر الذنوب؟
ونقول: إن الكفر هو عدم الإيمان بالله ورسوله وعدم الدخول في الإسلام، ولكن الفسق هو عدم الالتزام بأية قيم، ذلك أن الدين قد أوجد في النفوس عامة قيماً معروفة يتبعها حتى الذين كفروا، فمثلاً عندما أرادوا بناء الكعبة قبل الإسلام، قالوا: نريد أن نبنيها بمال حلال، لا يدخل فيه مال بَغيٍّ. وكانوا في الماضي يُحضرون البغايا، ويُقيمون لهن الرايات، ويأخذون من أموالهن. لم يكن الإسلام قد جاء بَعْد، ولكن كانت هناك قيم من مناهج السماء التي جاءت قبل الإسلام. وجاء الإسلام موافقاً لبعضها.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا... ﴾
والنص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، نقول: إن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات ومقتضيات الأحوال يعلم أن هذا تأسيس وليس تكراراً، فقد تحمل آيتان معنى عامّاً واحداً، ولكن كل آية تمس خصوصية العطاء، ولنأخذ مثالاً من قوله الحق: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... ﴾ [الأنعام: ١٥١]
وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... ﴾ [الإسراء: ٣١]
وقد ادعى بعض المستشرقين أن في القرآن تكراراً، وهذا غير صحيح؛ لأنهم ينظرون إلى عموم الآية ولا ينظرون إلى خصوصية العطاء. وخصوصية العطاء في الآية توافق مقتضى كل حال. ففي قوله
ولنا أن نسأل هؤلاء المستشرقين الذي يثيرون مثل هذه الأقاويل: هل ترون أن آية من الآيتين أقل بلاغة من الأخرى؟ ولن نجد إجابة عندهم؛ لأنهم لا يعرفون دقة البيان العربي. ونقول لهم: أنتم إن نظرتم إلى عَجُز كل آية وصدرها لوجدتم أن آخر الآية يقتضي أولها، وإلا لما استقام المعنى، فالله سبحانه وتعالى لم يَقُلٍ في الآيتين: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾ وإنما قال: ﴿مِّنْ إمْلاَقٍ﴾، وقال: ﴿خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ ولم يقل في الآيتين: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ بل قال: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾ وقال: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾.
إذن: فبداية الآيتين مختلفة؛ الآية الأولى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ﴾. والإملاق هو الفقر، فكأن الفقر موجود فعلاً. وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾، فكأن الفقر غير موجود، ولكن الإنسان قد يخشى أن يأتي الفقر بمجيء الأولاد.
إذن: فالآية الأولى تخاطب الفقراء فعلاً، والآية الثانية تخاطب غير الفقراء الذين يخشوْنَ مجيء الفقر إن رُزِقوا بأولاد؛ والفقير - كما نعلم - يُشغل برزقه أولاً قبل أن يُشغلَ برزق أولاده. ولذلك يطمئنه الحق سبحانه وتعالى على أن أولاده لن يأخذوا من رزقه شيئاً، فيقول: ﴿نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ أي: اطمئن أيها الفقير على رزقك فلن يأخذ أولادك منه شيئاً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يرزقك أولاً ويرزق أولادك أيضاً.
وهكذا نرى أن معنى الآيتين مختلف تماماً وليس هناك تكرار.
كذلك في الآية التي نحن بصددها، يقول بعض الناس: إن هذه الآية قد رودت في نفس السورة، نفول لهم: نعم. ولكن هذه لها معنى والأخرى لها معنى آخر؛ فأين الاختلاف في الآيتين؛ حتى نعرف أنهما ليستا مكررتين؟ الآية الأولى تقول: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٥٥]
والآية الثانية التي نحن بصددها تقول: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٨٥]
أول اختلاف نجده في بداية الآيتين؛ ففي الآية الأولى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْك﴾، والثانية: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ﴾.
ففي الآية الأولى جاء الحق سبحانه وتعالى بالفاء، والفاء تقتضي الترتيب. إذن: فهذه الآية مترتبة على ما قبلها، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاوة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التوبة: ٥٤]
والمتعة في المال أن تنفقه فيما تحب، فإذا أحببت طعاماً أشتريته، وإذا أحببت ثوباً ابتعته. وتكون في هذه الحالة مسروراً وأنت تنفق مالك، ولكن هؤلاء ينفقون المال وهم كارهون.
والمؤمن عندما ينفق ماله في صدقة أو زكاة فهو يفعل ذلك إيماناً منه بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيه أضعاف أضعاف الأجر في الدنيا والآخرة. إذن: فحين ينفق المؤمن ماله في الزكاة، يكون فرحاً لأنه عمل لدنياه ولآخرته.
أما المنافق الذي يضمر الكفر في قلبه، فهو لا يؤمن بالآخرة ولا يعرف البركة في الرزق، فكأنه أنفق ماله دون أن يحصل على شيء، أي: أن المسألة في نظره خسارة في المال ولا شيء غير ذلك. وإن أنفق الإنسان وهو كاره، فالمال الموجود لديه هو ذلة وتعب؛ لأنه حصل على المال بعد عمل ومشقة، ثم ينفقه وهو لا يؤمن بآخرة ولا بجزاء.
ويريد الحق سبحانه أن يلفتنا إلى أن رزقه لهؤلاء الناس هو سبب في شقائهم وإذلالهم في الدنيا فيجعلهم يجمعون المال بعمل وتعب ثم ينفقونه بلا ثواب، أي: يخسرونه. والواحد منهم يذهب إلى الحرب نفاقاً، فينفق على سلاحه وراحلته، ولا يأخذ ثواباً، ويُربِّي أولاده ثم تأتي الحرب، فيذهبون نفاقاً للقتال؛ فيموتون دون استشهاد إن كانوا منافقين مثل آبائهم. وهكذا نجد أن كل أموال المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، وهو كافر، تكون حسرة عليه.
ولا تظن أنك حين حذفتهم من ديوان الغُزاة والمجاهدين بعدم الخروج معك وأنهم لن يقاتلوا معك عدوّاً، أن في أموالهم عوضاً عن الخروج، فلا تعجبك فإنها عقاب وفضيحة وإذلال لهم.
ولكن في الآية الأولى، يقول الحق سبحانه:
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ لماذا؟ لأن منهم من له مال يعتز به، ومنهم من له أولاد كثيرون هم عِزْوته، ومنهم من له المال والولد.
إذن: فهم مختلفون في أحوالهم؛ لذلك جاء القول: ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ﴾ لتؤدي المعاني كلها. ولتشمل من عنده مال فقط، ومن عنده أولاد فقط، ومن عنده المال والولد.
أما في الآية الثانية التي نحن بصددها:
﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾
إذن: فالحقُّ سبحانه وتعالى قد أعطاهم المال والولد للعذاب. ولكن هناك من يقول: ما دام الحق يريد تعذيبهم بالأموال والأولاد، فهل المال والأولاد علة للعذاب؟ وهل لأفعال الله علة؟ ألا يقول المسلمون: إن أفعال الله لا علة لها؛ ونقول: لقد قالوا مثل ذلك القول في قوله الحق:
ولم يلتفتوا إلى أن العلة في الخلق لا تعود إلى الله، ولكنها علة ترجع للمخلوق؛ لأن في العبادة مصلحة ومنفعة للمخلوق. فسبب الخلق هو العبادة، وهذا السبب ليس راجعاً إلى الخالق ولا تعود على الله أدنى منفعة، فلا شيء يزيد في ملكه ولا شيء ينقصه. أو هي لام العاقبة. ومعنى «لام العاقبة» أن تفعل شيئاً فتأتي العاقبة بغير ما قصدت مصداقاً لقوله الحق: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... ﴾ [القصص: ٨]
هل التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدوّاً؟ أم التقطوه ليكون لهم قرة عين؟. لقد التقطوه ليكون قرة عَيْن لهم، ولكن النهاية جاءت بغير ما قصدوا؛ فأصبح الذي التقطوه ليكون وليّاً ونصيراً لهم هو الذي جاءت على يديه نهايتهم، ولو كان فرعون يعلم الغيب لما التقط موسى بل لقَتله، وشاء الحق أن يخفي عنه الغيب ليقوم هو بتربية من سيقضي على مُلكه، تماماً كما تُدخل ابنك إلى المدرسة فيفشل، وتنفق عليه فلا يتخرج، هل أنت أدخلته المدرسة ليخيب؟ طبعاً لا.
كذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ ويريدنا الله أن نفهم أن العذاب ليس هو سبب جمعهم المال، وإنما السبب هو في ذلك هو حُبُّهم للمال والمتعة، وكذلك الأولاد ليس الهدف منهم أن يكونوا سبباً في عذاب آبائهم، بل هم يريدون الأولاد ليس الهدف منهم أن يكونوا سبباً في عذاب آبائهم، بل هم يريدون الأولاد عِزْوة لهم. ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يعذبهم بالمال والأبناء في الدنيا.
فالمال يجمعه المنافق من حلال ومن حرام، ثم بعد ذلك إما أن يفارقه المال بكارثة تصيبه، وإما أن يفارق هو
فكأن قول الحق سبحانه وتعالى:
﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ هو كلام من الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين؛ لأن هؤلاء المنافقين قد يعطيهم الله الأموال والأولاد؛ ولكنها ليست خيراً لهم، بل هي عذاب لهم؛ لأنهم بإبطائهم الكفر وتظاهرهم بالإيمان؛ يفرضون على أنفسهم تكاليف تأخذ جزءاً من أموالهم وأولادهم، وحينئذ تكون عذاباً لهم لأنهم خسروا كل شيء ولم يكسبوا شيئاً، فليس لهم أجر على موت أبنائهم إن قتلوا، ولا أجر الزكاة والصدقة فيما ينفقونه رياء ونفاقاً.
أما الآية الثانية:
﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ فهي حكم عام على من يعطيهم الله نعمة الدنيا ويكفرون به، وتكون هذه النعمة عليهم عذاباً، فهم في خوف من ضياع المال أو فقد الولد؛ لذلك يعانون من العذاب. وهم من خوفهم من الموت وترك النعمة مُعذَّبون، فهم لا يريدون أن يموتوا لأنهم لا يعتقدون في الآخرة، ويكون المال والولد حسرة عليهم؛ لأن المؤمن إن مات منه ولد، علم أن افتقاد الابن إنما يسد طاقة جهنم، ويقوده إلى رحمة الله، وله أجر على ذلك، فإن كان الولد صغيراً كان ذخراً له في الآخرة، وإن كان كبيراً فهو يتذكر قول الحق:
وفي هذا سلوى عن افتقاد الولد، لكن المنافق يحيا في خوف وحسرة. وفي هذا عذاب. ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن مال الكافر هو حسرة عليه دائماً فيقول: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٦]
أي أن الله سبحانه وتعالى يعاقب من ينفق لمحاربة دينه بأن يتركه ينفق، ثم ينصر الله دينه ليجعل ذلك حسرة في نفسه حين يرى المال الذي أنفقه وقد جاء بنتيجة عكسية هي انتصار الدين وانتشاره.
وقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ وهذه هي الحسرة الكبرى، فحين يموت الكافر ولا يجد له رصيداً في الآخرة إلا النار؛ لأنه مات على غير يقين بالجنة وعلى غير يقين بأنه قد قدم شيئاً، يُلْقَى في النار محسوراً على ما تركه في الدنيا، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل نقرأ قول الله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ... ﴾ [الأنفال: ٥٠]
وهكذا يذوقون العذاب.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى للمنافقين في قوله: ﴿وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ... ﴾
ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ﴾ و «استأذن» من مادة استفعل، وتأتي للطلب، كأن تقول: «استفهم» أي: طلب أن يفهم، و «استعلم» أي: طلب أن يعلم. إذن: فقوله: ﴿استأذنك﴾ أي: طلبوا الإذن، ولأنهم يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر، تجدهم ساعة النداء للجهاد لا يقفون مع المؤمنين، وكان من المفروض أن يكونوا بين المجاهدين، وأن يجدوا في ذلك فرصة لإعلان توبتهم؛ ورجوعهم إلى الحق فيكون جهادهم تكفيراً عما سبقه من نفاق، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل طلبوا الإذن بالقعود.
ومن الذي طلب الإذن؟
إنهم أولو الطَّوْل. و «أولو» معناها أصحاب القوة والقدرة. و «الطَّوْل» هو أن تطول الشيء، أيك تحاول أن تصل إليه، فإذا لم تصل يدك إليه؛ يقال: إن هذا الشيء يدك لم تَطُلْه، أي: لم يكن في متناول يدك.
أما أولو الطول فهم الذين يملكون كل مقومات الحرب، من قوة بدنية وسلاح، والذين لم يبلغوا سن الشيخوخة، ولا هم صبيان صغار ولا مرضى.
إذن: فعندما تنزل آية فيها الجهاد، فالذين يستأذنون ليسوا أصحاب أعذار - لأنهم معفون - لكن الاستئذان يأتي من المنافقين الذي تتوافر فيهم كل شروط القتال، ويستأذنون في القعود وعدم الخروج للقتال. ويقولون ما يخبرنا الحق به: ﴿وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين﴾ والقاعد مقابله القائم. والقيام - كما نعلم - هو مقدمة للحركة. فإذا أراد الإنسان أن يمشي، قام من مكانه أولاً، ثم بدأ المشي والحركة، ومن القيام أخذتْ مادة (القوم) أي: الجماعة القائمة على شئونها، والقوم هم الرجال، أما النساء فلا يدخلن في القوم، مصداقاً لقول الحق:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... ﴾ [الحجرات: ١١]
ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف... ﴾ [التوبة: ٨٧]
ولذلك كانوا ﴿لاَ يَفْقَهُونَ﴾ لأنهم ارتضوا لأنفسهم وصفاً لا يليق بالرجال وفرحوا بهذا الوصف دون أن ينتبهوا لما فيه من إهانة لهم؛ لأنهم يهربون من القتال كما تهرب النساء. والمنافق - كما قلنا - له ملكتان: ملكية قولية، وملكة قلبية. فقول المنافق إعلان بالإيمان، أما قلبه فهو ممتلئ بالكفر؛ وفي هذه الحالة تتضارب ملكاته.
والله سبحانه وتعالى يوضح لهم: سوف نعاملكم في الدنيا بظاهر كلامكم، ونعاملكم في الآخرة بباطن قلوبكم، وسوف نطبع على هذه
وقد قال الحق سبحانه: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ... ﴾ [البقرة: ٧]
وقال سبحانه: ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ... ﴾ [التوبة: ٩٣]
وما دام الكافر قد أعجبه كفر قلبه؛ فالحق سبحانه يختم على قلبه، بحيث لا يخرج ما فيه من كفر، ولا يدخل إلى قلبه؛ ما هو خارجه من إيمان، تماماً كما تختم الشيء بالشمع الأحمر؛ فيظل ما في داخله كما هو، وما في خارجه كما هو. ويطبع الله على قلبه؛ فيمنع ما فيه من الكفر أن يخرج، ويمنع ما في خارجه من الإيمان أن يدخل إليه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ والفقه هو الفهم، أي: لا يفهمون ما حُرِموا منه من ثواب ونعيم الآخرة؛ لأنهم قد فرحوا بتخلفهم عن الجهاد، وهم يحسبون أن هذا خيراً لهم ولكنه شر لهم.
ثم يريد الحق سبحانه أن يضع الطمأنينة في نفوس المؤمنين، ويطلب منهم ألا يفزعوا؛ لتخلف هؤلاء القادرين عن القتال رغم أنهم أصحاب الطَّوْل الذين يملكون الأموال والأولاد. ويزيل الحق أثر ذلك من نفوس المؤمنين، فيقول سبحانه:
ويقول سبحانه: ﴿فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨]
وكذلك يقول الحق سبحانه: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨]
وأيضاً نجد قوله الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ... ﴾ [المائدة: ٥٤]
إذن: فتخلف بعض أصحاب القوة والمال والجاه عن الجهاد، يجب ألا يشيع الفزع أو الحزن في نفوس المؤمنين؛ لأن الله معهم، ولأنهم لهم
ونحن حيث نحرث الأرض نهيجها، وبدلاً من أن تكون صلبة لا يدخلها هواء ولا تتخللها أشعة الشمس، تصير بعد الحرث مستقبلة للهواء وتتخللها أشعة الشمس؛ فتخلصها من أي ماء راكد في داخلها، وبذلك يتوافر للأرض الهواء اللازم لنمو جذور النبات؛ لأن إذا وضعت الحَبّ في أرض غير محروثة، فالزرع لا ينبت؛ لعدم وجود الهواء الذي تتنفس منه الجذور. ولكن إذا حرثت الأرض؛ جعلت أشعة الشمس تتخلل ما هو تحت السطح؛ وتبخر الماء المخزون؛ ليدخل الهواء بدلاً منه؛ فتستطيع جذور النبات أن تنمو. إذن: فكل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نُسمِّيه فَلاحاً. وهو مأخوذ من الأمر الحسّي، الذي نراه كل يوم وهو الفِلاحة.
وحين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا أمراً معنويّاً، فهو سبحانه يستحضر لنا صورة محسّة من الذي نراه أمامنا؛ حتى نستطيع أن نُقرِّب المعنى إلى الأذهان؛ خصوصاً في الغيبيات التي لا نراها، فإذا أراد سبحانه أن يقرِّبها إلى أذهاننا؛ فهو يضرب لنا الأمثال بأمور حسّية. والإنسان حين يفلح الأرض ويشقها ويبذر فيها الحب، تعطيه محصولاً وفيرا. ً وكذلك فإن كل عمل يؤدي إلى نتيجة طيبة نسميه فلاحاً.
[البقرة: ٢٦١]
فإذا كانت الحبة عندما تضعها في الأرض تنبت سبعمائة حبة، وإذا كانت الأرض، وهي مخلوقة لله، قد أعطتك عن الشيء الواحد سبعمائة ضعف، فكم يعطي خالق الأرض؟ وكم يضاعف؟
إنها صورة مُحَسّة للجزاء على الصدقة والزكاة. وأنت ساعة تزرع الأرض لا تقول: أنا أنقصت المخزون عندي كيلة من القمح أو إردباً من القمح؛ لأنك تعلم أنك تأخذ مما عندك إردباً من القمح؛ لتزرعه في الأرض. ولكنك لا تنظر إلى الإردب الذي أخذته من المخزون عندك، بل انظر إلى ما سوف يجيء لك من هذا الإردب ساعة الحصاد، وكذلك الزكاة: إياك أن تنظر إلى ما سينقص من مالك عندما تؤدي الزكاة، ولكن انظر إلى كم سيضاعف الله لك من هذا المال.
وقد ضرب الحق مثلاً بشيء مُحِسٍّ يعلمه الجميع، ومن صورة ما نراه أمامنا لنفهم ما ينتظرنا، فإذا كانت الأرض - وهي المصدر الأول للاقتيات - تُلقى فيها الحبة الواحدة، فتعطي لك سبع سنابل في كل
إذن: فهو سبحانه قادر أن يضاعف لمن يشاء بغير حساب. ولذلك يبشر الحق سبحانه وتعالى المؤمنين بقوله:
﴿وأولئك لَهُمُ الخيرات وأولئك هُمُ المفلحون﴾ وهذا جزاء المؤمنين في الدنيا، ولكن هناك جزاءاً آخر في الآخرة. وفي هذا يُبشِّرنا الحق سبحانه في قوله: ﴿أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي... ﴾
ولماذا سمى الله سبحانه وتعالى جزاء الآخرة بأنه: ﴿الفوز العظيم﴾.
ذلك لأن هناك فارقاً بين الخير والفلاح في الدنيا، والفوز في الآخرة؛ فالدنيا موقوتة بعمرك وتتمتع فيها بقدر أسبابك. إذن: ففيها فوز محدود لا يسمى فوزاً عظيماً. أما الآخرة فالنعمة فيها لا تفارقك، ولا تفارقها أنت، فالنعمة خالدة، وأنت خالد، وهذه النعمة - في الوقت نفسه - ليست بقدراتك أنت، بل بقدرات خالقك سبحانه وتعالى، ولا تحتاج منك أي تعب أو عمل أو اجتهاد، بل يأتيك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك، وهذا لا يحدث إلا في الآخرة وفي الجنة وهذا هو الفوز العظيم؛ لأنه دائم وبلا نهاية.
ويقول الحق بعد ذلك:
وهنا يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يسكنون في البوادي التي حول المدينة وهم الأعراب.
والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿المعذرون﴾، وهناك «مُعْذِرون» و «معتذرون»، والمعذِّرون هم المعتذرون؛ فالمعتذر جمعه معتذرون بفتحة فوق التاء، لكن إذا وُضعَتْ الفتحة فوق العين فالحرف الذي بعدها يُسكّن، وعندما يُسكّن ما بعد العين، فهذا يعني أن هناك افتعالاً.
إذن: فالمعذّرون أو المعتذرون هم الذين يريدون أن يتخلفوا عن القتال بأعذار مفتعلة، وهم أرادوا القعود والسكون ولم يتحركوا للقتال، وقد فعلوا ذلك دون عذر حقيقي. ويقال: «المعذرون»، و «المُعَذّر»، و «أعذره» أي: أذهب عذره، مثل: «أعجم الكتاب» أي: أذهب عُجْمته.
ثم يقول الحق: ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والكفر - كما نعلم - هو ستر الإيمان. والمنافقون من الإعراب أظهروا الإيمان وكانت قلوبهم تمتلئ بالكفر. ويقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ... ﴾ [الحجرات: ١٤]
أي أنهم يؤدون أمور الإسلام الظاهرية بينما قلوبهم لم يدخلها الإيمان.
ويعرفنا الحق سبحانه بالجزاء الذي ينتظر هؤلاء المتخلفين من الأعراب فيقول: ﴿سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وعرفنا من قبل أن وصف العذاب في القرآن إما أن يكون أليماً، وإما أن يكون مهيناً، وإما أن يكون عظيماً، وإما أن يكون مقيماً.
وأراد الحق سبحانه أن يعطي رخصة للذين لا يقدرون على القتال ولهم العذر في أن يتخلفوا عنه؛ فقال: ﴿لَّيْسَ عَلَى الضعفآء... ﴾
والنفقة - كما نعلم - هي أن تقدر أن تعول نفسك في الذهاب والإقامة مدة الحرب والعودة. وكان على كل مجاهد أن يُعِدَّ مطلوبات الحرب. فالله سبحانه قد رفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقونه، وجعل لهم وظيفة أخرى تخدم الجهاد، فقال سبحانه وتعالى:
﴿إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي: ينصحون ويشجعون أولئك القادرين على الجهاد؛ ليُحَمِّسوهم على القتال، ثم يكونون في عون أهل المجاهدين، ويواجهون الإشاعات والأكاذيب التي يطلقها المنافقون في المدينة؛ للنيل من الروح المعنوية للمسلمين فيردون عليها ليُخْرِسوا ألسنة السوء.
ثم يقول الحق: ﴿مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ والسبيل: هو الطريق، ومعناها: ما عليهم من إثم أو لوم أو توبيخ أو تعنيف. وكل هذا لا يجد سبيلاً على المحسنين، ولم يقل الحق: «مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ» ؛ لأن السبيل يمر عليهم ولا ينتهي إليهم بلوم؛ لأن هناك فارقاً بين أن يمر عليهم وأن ينتهي إليهم، فالمرور أمر عادي،
أما إذا كان المجاهد لديه ما ينفقه، ولكنه لا يملك راحلة يركبها، فعليه أن يذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويطلب منه راحلة، فإذا قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ فهذا إذن بالقعود، وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ... ﴾
إنه جهاد حماية القاعدين من إشاعات المنافقين. ذلك أن المنافقين لن يسكتوا عن محاربة الإيمان، بل سيرجفون بنقل الأخبار الكاذبة إلى أهالي
وهكذا نجد الجهاد فريضة من فرائض الإسلام، ومجاهدة غير المسلمين تكون لأمرين: الأمر الأول: حين يعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الداعي ليسكتوه عن الدعوة إلى الله، والأمر الثاني: أن ينتشر المسلمون في الأرض ليُعْلوا كلمة الله، ليس إكراهاً عليها، فالدين لا إكراه فيه، والسيف الذي حُمل في الإسلام، لم يُحمل ليفرض ديناً، وإنما حُمل ليكفل حرية الاختيار الإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بلا إكراه. وتحرير اختيار الإنسان؛ إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه ديناً آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها، فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه.
إذن: فالإسلام لم يفرض بالسيف، وإلا فمن الذي فرض الإسلام على الذين سبقوا إليه حين كان ضعيفاً لا يملك أن يحمي من دخل فيه؟!
وما دام الجهاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد، إما فرض عين - إن غلب المؤمنون على أمر مكروه، وإما فرض كفاية - إن قام به البعض سقط عن الباقين. ولم يعذر الله من الجهاد إلا هذه الطوائف؛ الضعفاء بشيخوخة أو صغَر، والمرضى أصحاب الداءات، والذين لا يجدون ما ينفقون، وهم قسمان: قسم لا يجد ما ينفقه على نفسه،
ورفع الحق سبحانه الحرج عن هؤلاء، ووظَّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك.
أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد: ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال. فهذا إذن بالقعود، لكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون.
ولذلك قال الحق: ﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ﴾ وكلمة «تفيض أعينهم» توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين. والفيض دائماً للدموع، والدموع هي ماء حول العين؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال: «بكيت دما».
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنين على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى: «فاضت دموعهم»، ولم يقل: «بكوا دماً بدل الدموع»، وإنما قال: ﴿وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ﴾، فكأن العين
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى... ﴾
وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه: ﴿إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ﴾.
أي: أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء الذين استأذنوا في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعْفيَ. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غنيّ بطعامه. والضعيف قد أعفيَ، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعْفيَ، إذن: فالصحيح غنيّ بصحته، ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان الجهاد قد أعفيَ، إذن: فمن يملك راحلة فهو غنيّ براحلته.
ولسائل أن يقول: ولماذا يستأذنون وهم أغنياء؟
نقول: لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم: ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف﴾ ومن يَرضَ أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة؛ فهم رضوا ان يُعاملوا معاملة النساء، والخوالف - كما نعلم - جاءت على مراحل، فهم قالوا: ﴿ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين﴾ [التوبة: ٨٦]
وقلنا من قبل: إن القعود مقابل للقيام، والقيام من صفات الرجولة؛ لأن الرجل قَيَّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع «خالفة»، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة «القواعد» يقول سبحانه: ﴿والقواعد مِنَ النسآء... ﴾ [النور: ٦٠]
أي: أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة؛ فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هرباً من القتال، والشاعر يقول:
وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري | أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نسَاءُ |
ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
ما الفرق بين النصين؟
إذا رأيت فعلاً تكليفيّاً مبنيّاً للمجهول، كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... ﴾ [البقرة: ٢١٦]
وقوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام... ﴾ [البقرة: ١٨٣]
قد يقول قائل: كان المفروض أن يقال: «كتب الله عليكم القتال» و «كتب الله عليكم الصيام»، لأنه صار أمراً لازماً مفروضاً، فكان الأولى أن يقول: كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله.
رغم أن الحق سبحانه هو الذي يكلف، إلا أن كل التكليفات تأتي بصيغة المبني للمجهول كقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى... ﴾ [البقرة: ١٧٨]
وقوله سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين... ﴾ [البقرة: ١٨٠]
والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف كافراً بأي تكليفات إيمانية؛ فسبحانه لم يكلف بأي حكم من أحكام الإيمان إلا من آمن به وأسلم له؛ لذلك فعندما يخاطب سبحانه بالتكليف يقول: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ... ﴾ [البقرة: ١٧٨]
ومن هذا نعلم أنه سبحانه لم يكتب فرضاً أو مهمة على من لم يؤمن، والإنسان يدخل في الإيمان باختياره، فإذا دخل في الإيمان كتب الله عليه. إذن: فالإيمان هو مدخل الفريضة. وما دُمْتَ قد آمنتَ فقد أصبحتَ طرفاً فيما فرضه الحق سبحانه وتعالى عليك؛ لأنك لو لم تؤمن
وإذا جئنا إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَطَبَعَ على قُلُوبِهِمْ﴾ نجد أن الحق يلفتنا هنا إلى أن المنافقين هم الذي جلبوا لأنفسهم هذا الطبع على القلوب؛ لأنهم وضعوا في قلوبهم الكفر، ثم أخذوا يتحدثون بألسنتهم عن الإيمان، ويحاولون خداع المؤمنين، ويخادعون الله؛ فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لهم: ما دمتم قد اخترتم النفاق والكفر في قلوبكم؛ فسنطبع على هذه القلوب، ونختم عليها حتى لا يخرج الكفر منها ولا يدخل إليها الإيمان.
فسبحانه وتعالى - إذن - هو الذي طبع على قلوبهم، ولكن بعد أن ملأوا قلوبهم بالكفر ونافقوا، وهم الذين تسببوا بهذا الطبع لأنفسهم، بعد أن بدأوا بالكفر، فطبع الحق سبحانه وتعالى على قلوبهم بما فيها من مرض، ولو لم يبدأوا بالكفر لما طبع الله على قلوبهم؛ ولهذا جاء الفعل مبيّناً للمجهول، فهم مشتركون فيه.
أما الآية التي نحن بصددها فيقول تعالى:
﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ وساعة ينسب الطَّبْع إلى الله يكون أقوى طبع على القلوب، ويأتي الطبع من الله سبحانه وتعالى كحكم نهائي من أن الله قضى عليهم به، فلا يخرج من قلوبهم ولو كان قدراً ضئيلاً من النفاق، ولا تغادر قلوبهم ذرة من كفر، ولا يتسرب إلى قلوبهم ذرة من إيمان؛ لأنهم لا يعلمون قدر الإيمان الحق، والإنسان قد لا يفهم شيئاً، أي: لا يفقهه. ولكن قد يفهمه غيره ويعلمه هو عنه.
أما إذا قلنا: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فالمقصود أنهم يفهمون ولا يتعلمون. إذن: نفي العلم ينسب إلى طبع الله على قلوبهم، أما نفي الفقه فينسب نسبة عامة للفعل المبني للمجهول.
فعندما نفى الحق سبحانه وتعالى الفقه عنهم بالفعل المبني للمجهول أوضح أنهم بنفاقهم لا يفقهون، ولكنه سبحانه وتعالى لم يَنْف احتمال أن يعلموا من غيرهم في المستقبل. ولكن عندما قال الحق: ﴿فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ قد نفى عنهم - أيضاً - العلم بذواتهم، وكذلك نفى قدرتهم على العلم من غيرهم، وهذه أقوى أثراً، وبذلك يكون الطبع على قلوبهم أقوى؛ لأنهم رفضوا العلم من ذواتهم ورفضوه من غيرهم.
ولذلك نجد ﴿لاَ يَفْقَهُونَ﴾ في موضع، ونجد ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾ في موضع آخر، وكلُّ تناسب موقعها الذي قيلت فيه.
ثم يقول سبحانه: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ... ﴾
وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال: ﴿رَجَعْتُمْ﴾، وعندما نسبه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ الله﴾ مما يدلنا على أن زمام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم.
وهنا يقول الحق: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ﴾ ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار: ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ﴾، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالاً في أن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً، ولكن حين ترفض مجرد سماع العذر، فمعنى ذلك ألاَّ وجه للمعذرة.
والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرمنين؛ وتهيأوا للاعتذار؛ وقبل أن ينطقوا بالعذر؛ أوضح لهم الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لا تعتذروا، ورفض مجرد إبدائهم للعذر. ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى: ﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ ومادة «آمن» تدور حول عدة معان، نقول «آمن» أي: اعتقد وصدق مثل قولنا: «آمن بالله»، ويقال: «آمن بالشيء» أي: صدَّقه، و «آمن بكذا» أي: صدَّق ما قيل. والحق هو القائل: ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى... ﴾ [يونس: ٨٣]
أي: لن تصدقنا. وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان، مثل قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣ - ٤]
وتجيء أيضاً «آمن» و «أمن» بمعنى الائتمان، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ... ﴾ [يوسف: ٦٤]
إذن: ف «آمن» إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإنْ تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدَّتْ بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضاً؛ فمعناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقاً لقوله الحق: ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً... ﴾
[آل عمران: ٧٥]
وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ﴾ أي: لن نصدقكم. فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرفض مجرد سماع الاعتذار، وأعلن لهم: لن نصدقكم. ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قد أخبره بكل شيء؛ حتى بما في قلوبهم
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾.
ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله، بعد أن رفض رسول الله عذرهم، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يُخْفونه من كذب في صدورهم؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تخفى عليه حتى نواياهم. وما دُمْتم قد علمتم صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما أبلغكم به، أصبح عليكم - إذن - أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان؛ وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان، أما إن أصررتم على ما أنتم فيه؛ فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم.
إذن: فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه، فانتهزوا هذه الفرصة؛ لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم.
ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ٩٤]
وما دام سبحانه عالم الغيب، فمن باب أوْلى أنه عليم بعالم الشهادة.
إذن: فهو غيب عنك وليس غيباً على غيرك. أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار، ويسمونهم المنوِّمين المغناطيسيين، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يُخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها، ثم يخبره بعددها، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه؛ ضع يدك في جيبك وأخرج كمية من النقود لا تعرف أنت مقدارها، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف، لماذا؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غيب مطلق.
إذن: فالغيب المطلق هو ما غاب عنك عن غيرك، وهو أيضاً ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه، فأنت إذا أعطيت ابنك تمريناً هندسيّاً ليحله؛ فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج، وهذه ليست غيباً؛ لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء والذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب. فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل، لكنّنا لم نكُنْ نعرفها.
ولذلك إذا أردت أن تحلّ شيئاً في الهندسة مثلاً، فلا بد لك من معطيات توصلك إلى الحل؛ كأن يُطلب منك - مثلاً - إثبات أن الخطين متوازيان، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين. إذن: فانت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه؛ يكون إثباته بتساوي الزوايا. فهل في هذه الحالة يقال: إنك اهتديت إلى الغيب؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج؟
وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة، تقول: إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلاً، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها، ولا بد أن تكون بديهية.
وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بُني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد ذلك إلى اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه: ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق؛ لأنه ليس معروفاً
ونجد الحق سبحانه يقول: ﴿عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ... ﴾ [الجن: ٢٦ - ٢٧]
فسبحانه عالم الغيب المطلق، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض، ويقول الحق عن مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ... ﴾ [البقرة: ٢٥٥]
وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك، وكل شيء في الكون له ميعاد ميلاد؛ مثل: الكهرباء، والذرة، والوصول إلى القمر، وغزو الفضاء، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد.
ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات. ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السرّ؛ إما بالبحث العلمي، وإما أن يتم معرفته صدفة.
وهكذا نجد أن البشر يُحَاطون عِلْماً بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله.
وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب؛ فيكون سبحانه عالماً بالشهادة من باب أولى، وقد يظن ظان أنه جلس في مكان معزول مستور
وما دام قد جاء الحق هنا بقوله: ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ فلا بد أن يأتي من بعدها ﴿يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي: يخبركم مقدماً بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد: إنه لم يكن يعرف، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل؛ وحتى يكون كل إنسان شهيداً على نفسه؛ لأن الله أبلغه بالجزاء، فيكون الجزاء عدلاً لا ظلماً.
ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤]
فأنت الذي تحكم على نفسك.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ... ﴾
وهم قد قالوا ذلك بعد نزول الآية.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا: ﴿سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ﴾ والانقلاب معناه التحول من حال إلى حال. ومعنى الانقلاب في هذه الآية مقصود به العودة إلى المدينة مقر السلام والأمن بعد الحرب، فكأن الاعتدال في القتال والانقلاب في العودة إلى المدينة. ولكن لماذا سيحلف المنافقون بالله للمؤمنين؟ يقول الحق سبحانه: ﴿لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي: لتعرضوا عن توبيخهم ولومهم وتعنيفهم؛ لأنهم لم يجاهدوا معكم.
فقال الحق: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ﴾ أي أعطوهم مطلوبهم من الإعراض ولكنه لون آخر من الإعراض، فلا تولموهم ولا توبخوهم ولا تؤثموهم، بل أعرضوا عنهم إعراض احتقار وإهانة، لا إعراض صفح ومغفرة؛ جزاءً لهم على ما فعلوا؛ لأن التأنيب والتوبيخ هما من ألوان الجزاء على المخالفة، ولكنه قد يحمل الأمل في المخالف ليعود إلى الصواب. فأنت إن لم يذهب ابنك إلى المدرسة مثلاً تُوبِّخه وتُعنِّفه، وأنت تفعل ذلك لأنك تأمل في أن ينصلح حاله، ولكن إذا استمر على مثل هذه الحال فأنت تهمله، والإهمال دليل على أنك فقدت الأمل في إصلاحه.
أما هؤلاء المنافقون فلا ينفع معهم التوبيخ أو الإيلام النفسي؛ لأنهم لن يعودوا أبداً إلى حظيرة الإيمان، ولذلك جاء الأمر: فأعرضوا عنهم؛ لأنهم لا يستحقون - حتى - اللوم، فالتوبيخ جزاء على ذنب قد يُقلع عنه من ارتكبه. ولكن هؤلاء لا أمل فيهم، والعلة يأتي بها القرآن: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ والرجس يطلق على معان متعددة، وقوله: ﴿إِنَّهُمْ رِجْسٌ﴾ أي: هم الخباثة بذاتها، ويقول العلماء: أي أن فيهم خبثاً وقذارة.
وأقول: إن الرجس هو القذارة نفسها، فلا نقول: إنهم قذرون؛ لأننا إن قلنا ذلك فالمعنى يفيد أنهم طُهُرٌ أصابهم قذر، وهم ليسوا كذلك، إنهم «قذر» في حد ذواتهم، ولا يطهرهم شيء؛ لأن الذي يخرج من القذارة يكون مثلها؛ فهم خباثة لا يطهرها لَوْم أو توبيخ. وأطلق الرجس هنا مثلما قال الحق: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ... ﴾ [التوبة: ٢٨]
ولم يقل: «نجسون» بل هم أنفسهم نجس.
إذن: فالميتة قذارة حسّية، كذلك الخمر التي يقول فيها الحق: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان... ﴾ [المائدة: ٩٠]
فالخمر نفسها رجس، أي: قذارة حسّية، وعطف عليها الحق - سبحانه - الميسر والأنصاب، والأزلام؛ وأخذوا حكم الخمر، وهكذا نفهم أن الخمر رجس حسّي، بينما الأنصاب والأزلام والميسر رجس معنوي.
وهناك أيضا الرجز، ويطلق على وسوسة الشيطان، فالحق يقول: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان... ﴾ [الأنفال: ١١]
إذن: فالرجس له متعلقات؛ معناه الكفر، والكافر هو قذارة في حَدّ ذاته لا أنه إنسان أصابته قذارة.
ويقول الحق: ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ والمأوى: هو المكان الذي يؤويك من شر يلحقك، ويقال: «آوى إلى كذا» أي: هرب من شر يُراد به، فإذا كان المأوى الذي يفزعون إليه هو جهنم، فمعنى ذلك أنهم بحثوا عن منفذ فلم يجدوا منفذاً إلا أن يدخلوا جهنم، وهي بطبيعة الحال بئس المصير.
وذلك لأن عمل الحرام المخالف لمنهج الله لا بد أن يشوبه الافتعال، أما عمل الحلال فهو أمر فطري لا يكلف النفس مشقة، ولا تتنازع فيه مَلَكَات، لكن بعض الناس الذين يعملون السيئات يألفونها إلْفَاً بحيث تصبح سهلة؛ فلا تكلفهم شيئاً، ويعتبر الواحد منهم السيئة كسباً، كأن تأتي لإنسان، فيحدثك بمغامراته في الخارج، ويروي عن رحلاته في باريس ولندن، وما فعل فيهما من منكرات. هو يظن أنه يحكي عن مكاسب، ولا يعلم أنه يحكي عن مصائب وقع فيها باختياره.
مثل هذا الإنسان يفعل السيئة، وهو معتاد عليها؛ فتصير كَسْباً. وهو عكس إنسان آخر وقعت عليه المعصية؛ فيظل يبكي ويبكي ويبكي، ويندم، وقد يضرب نفسه كلما تذكر المعصية، ويبدم عليها. فالأول فرح بخطاياه ومعاصيه واعتبرها كسباً وصارت له دُرْبة وله رياضة وله إلْفٌ بتلك المعاصي.
وهنا يقول الحق سبحانه:
ولماذا يحلف المنافقون؟ وتأتي الإجابة من الحق: ﴿لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾ وماذا يحقق رضا المؤمنين لهؤلاء المنافقين؟ ثم هل للمؤمن رضاء من خلف رضاء رسول الله؟ وهل لرسول الله رضا من خلف رضاء ربه؟
إن ما يُفرح هو رضا مَنْ يملك النفع، فأنتم حين ترضون عنهم بعد أن يحلفوا لكم، وتقتنعوا ببشريتكم؛ فترضوا عنهم، فليس لكم رضا ينفعهم، ولا لرسول الله رضا من وراء رضا ربه، فالرضا الحق هنا هو
ثم يقول الحق: ﴿فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ﴾.
أي: إن تحقق هذا الرضا منكم عنهم، فهو رضاً بعيد عن رضا الله ورسوله، وليس من باطن رضا رسول الله، ولا من باطن رضا الله؛ بذلك يُنْهي الحق الآية بقوله: ﴿فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين﴾ وإن لم يَرْضَ الله فرضاكم لن ينفعكم، وطلبهم الرضا منكم غباء منهم، فإن رضاكم عنهم لن يقدم، ولن يؤخر؛ إلا إن كان من باطن رضا الله، ورضا رسوله.
وهنا ملحظ: هم فاسقون أم كافرون؟ نقول: إن الحق سبحانه أوضح لنا: ﴿إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار... ﴾ [النساء: ١٤٥]
أي أن مكان المنافق في النار أسفل من مكان الكافر. وكيف يكون المنافق فاسقاً مع أن المؤمن قد يكون فاسقاً؟ فالمؤمن قد يفسق بأن يرتكب كبيرة من الكبائر، وسبحانه يقول: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله... ﴾ [المائدة: ٣٨]
فالمؤمن قد يسرق، وقد يزني أيضاً. فسبحانه يقول: ﴿الزانية والزاني... ﴾ [النور: ٢]
وما دام سبحانه قد جرّم الفعل، ووضع له عقوبة؛ فمن الممكن أت يرتكبه المؤمن، ولكن علينا أن نُفرِّق بين الفاسق والعاصي، فمن يرتكب
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿الأعراب أَشَدُّ كُفْراً... ﴾
العرب هم سكان القرى المتوطنون في أماكن، يذهبون منها أو فيها إلى مصالحهم؛ ويأوون إليها؛ وهذه مظهرها البيوت الثابتة، والتأهيل المستقر، لكن الأعراب هم سكان البوادي، وليس لهم استقرار في مكان، إنما يتتبعون مواضع الكلأ؛ وليس لهم توطُّن، ولا أنس لهم بمقام ولا بمكان.
ومعنى ذلك أن كلاّ منهم ليس له سياسة عامة تحكمه في تلك البادية، وكل واحد منهم - كما يقال - صوته من دماغه، أو من دماغ رئيس القبيلة، وما داموا بهذا الشكل، وليس عندهم توطن؛ يوحي بالمعاشرة
أما الذي يحيا في القرية ويتوطنها فله جيران، وله قانون يحكمه، وله إلف بالمكان، وإلف بالمكين، ويتعاون مع غيره، ويتطبع بسكان القرية ويألفهم ويألفونه ومع الإلف والائتلاف يكون اللين في التعامل، عكس من يحيا في البادية، فهو يمتلئ بالقسوة، والفظاظة، والشراسة؛ لأن بيئته نضحت عليه والوحدة عزلته.
فإذا سمعت «أعراب» فاعلم أنهم سكان البادية المشهورون بالغلظة؛ لأنه لا يوجد لهم تجمع يوحي لهم بلطف سلوك، وأدب تعامل، وكلمة «الأعراب» مفردها «أعرابيّ». وهناك أشياء الفرق بين مفردها وجمعها التاء، مثل «عنب» و «عنبة» هي المفرد، وقد يفرق بين الجمع والمفرد «ياء» مثل «روم» والمفرد «رومي».
ف «أعراب» - إذن - هي جمع «أعرابي» وليس جمع عرب. وهؤلاء مقسومون قسمين: قسم له إلف بالحضر؛ لأن كل أهل حضر قد يكون لهم بادية يلجأون إليها، أي أن الأعرابي حين يذهب إلى البادية فهو ينزل ضيفاً عليهم، ويسمون «المعارف»، وكل واحد في البادية قد يكون له واحد في الحضر، إذا اضطر للذهاب للمدينة أو للقرية فهو ينزل عنده. وهناك قسم آخر لا بادية لهم ولا حاضرة.
وبعد أن تكلم الحق عن العرب ونفاقهم، يتكلم هنا عن الأعراب فيقول:
ولماذا هم أشد كفراً ونفاقاً؟ لأنهم بعيدون عن مواطن العلم والدعوة، وعندهم غِلْظة، وعندهم جفاء، وقوله سبحانه: ﴿وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ﴾ يعني: أحق ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله؛ لأن عرفان حدود ما أنزل الله من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، يأتي من التواصل مع العلم، وهذا لا يتأتَّى بالتنقل من مكان إلى آخر، بل لا بد من الاستقرار.
والعلم - كما نعرف - ألا تغيب عن العالم قضية من قضايا الكون؛ وكل واحد منا يعلم علماً على قدر تجربته ومراسه في الحياة، وعلى قدر جلوسه إلى العلماء، لكن الله وحده لا يعلم علم الجميع.
والعلم عند البشر قد يوظِّف، وقد لا يوظِّف، وكثير من الناس عندهم العلم لكنهم لا يوظِّفونه، ومن لا يوظِّف علمه يصير علمه حُجة عليه. أما من يُوظِّف علمه، ويضع الأمر في محله، والنهي في محله، والحلال في محله، والحرام في محله، والمشتبه يضع له حكماً مناسباً، فهو يوصف بالحكيم؛ لأنه وضع كل شيء في محله.
ومن هؤلاء الأعراب - الذين هم أشد كفاراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله - قوم آخرون يقول عنهم الحق: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ... ﴾
وكان الواحد من هؤلاء الأعراب يؤدي نصاب الزكاة وهو كاره ويعتبرها مَغْرماً، ومنهم من كان يتمنى أن تصيب المسلمين كارثة؛ حتى لا يأخذوا منه الزكاة، وهكذا كان الواحد منهم يتربص بالمسلمين الدوائر، مصداقاً لقول الحق: ﴿وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر﴾. أي يتمنى وينتظر أن يصيب الملسمين كارثة؛ فلا يأخذوا منه الزكاة التي اعتبرها مغرماً.
ولماذا قال الحق: ﴿الدوائر﴾ ؟ نعلم أن الخطْبَ الشديد حين يصيب الإنسان أو القوم إن كان فظيعاً وقويّاً يقال: «دارت عليهم الدوائر». أي أن المصيبة أحاطت بهم؛ فلا منفذ لهم يخرجون منه، وكان بعض من الأعراب يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ لأنهم كارهون لدفع الزكاة ويظنون أنها غرامة، ولا يستوعبون أن الزكاة تُكْتب في الميزان، وأنها تطهير ونماء للمال، وأنها حمل لعجز العاجز، إن عجز الواحد منهم؛ فسوف يجد من يحمله.
والذي يتربص بكم الدوائر، ولا يفطن إلى حكمة الأخذ منه، هو الذي تأتي عليه دائرة السوء مصداقاً لقوله الحق: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ؛ لأن أيّاً منهم لم يفطن وينتبه لقيمة الوجود في
وقوله الحق: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ تبدو كأنها دعوة، ومن الذي يدعو؟ إنه الله.
وهناك فرق بين أن يدعو غير قادر، وبين أن يدعو قادراً. إن كان ربنا هو من يقول: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾، فدائرة السوء قادمة لهم لا محالة.
وينهي الحق الآية: ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، فسبحانه يسمع كلماتهم حين يأتي عامل الزكاة ليأخذ نصاب الزكاة، وكيف كانوا يستقبلونه بما يكره، وقد يكرهون في طي نفوسهم ولا يتكلمون، فإن تكلموا فالله سميع، وإن لم يتكلموا، وكتموا الكراهية في قلوبهم، فالله عليم، إذن: فهم محاصرون بعلم الله وسمعه.
وبعد ذلك جاء الحق سبحانه للصنف الثاني، وهم من لهم قليل من الإلف، فإن كان من أهل البادية فله أهل من الحضر، أو كان من الحضر فله أهل من البادية فيقول سبحانه: ﴿وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ... ﴾
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم اغفر لآل أبي أوفى، وبارك لهم»
وقد دعا بذلك حين جاء له ما تزكى وتصدق به بنو أبي أوفى، ودعوة الرسول مجابة إلا ما قال الله إنه سبحانه لا يجيبه لحكمة.
ولقائل أن يقول ألا يعلم من يقدم الزكاة والصدقة قربى، أنه سبحانه غير مستفيد من هذا الحمل؟ ألا يعلم أنها قربى له شخصيّاً؟ نعم إنه يعلم، ويعلم أن الله يثيبه على أمر ينتفع به الفقراء، وفي هذه إشارة إلى أن كل تكليف من الله إنما يعود نفعه إلى المكلَّف لا إلى المكلِّف. وما دام العائد إلى المكلَّف؛ فالله يدعو لصالح ذاتك وإلى خير لك.
ومن اعتبرها قربى إلى الله يأت لهم القول الحق: ﴿ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ﴾ وقد قال ذلك للأعراب الذين أنفقوا قربى لله، وطمعاً في دعوات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح لهم سبحانه أنها قربى لهم؛ لأنهم المنتفعون بها، وأنه سيدخلهم في رحمته. ورحمة الله هي نعيم مقيم، وهي دائمة وباقية ببقاء الله الذي لا يُحَدّ، أما الجنة فباقية وخالدة. بإبقاء الله لها. إذن: فدخولك في رحمة الله أعلى من دخولك جنته.
فحين يقال: «دخل في الرحمة» فمعنى ذلك أن الرحمة ستظله إلى ما لا نهاية.
لذلك جاء سبحانه بالقول: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لعل واحداً ممن يسمع هذا؛ يظن أن الجزاء والقربى والدخول في رحمة الله خاصٌّ بمن لم يذنب ذلك أبداً، فيوضح له القول: اطمئن. إن كنت قد حصلت منك هفوة أو غفلة، فاعلم أن الله غفور رحيم، فلا يعكر عليك ذنبك إيمانك بأنك سوف تدخل في رحمة الله.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿والسابقون الأولون... ﴾
ولذلك نقول: إنما السبق يعتبر من معاصر، أي: كان معهم أناس غيرهم وهم سبقوهم؛ ولذلك جاء القول: ﴿مِنَ المهاجرين﴾ ونعلم أن الذين هاجروا مع الرسول لم يكن كل مسلمي مكة، وجاء قوله: ﴿مِنَ المهاجرين والأنصار﴾ وأيضاً لم يكن كل الأنصار من أهل المدينة هم من السابقين.
وينحصر المعنى في الذين سبقوا إلى الإيمان في مكة، وسبقوا إلى النصرة في المدينة، هؤلاء هم ﴿السابقون﴾.
وفي سورة الواقعة يقول الحق: ﴿والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ [الواقعة: ١٠ - ١٢]
ثم يأتي من بعدهم في المرتبة: ﴿وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين﴾ [الواقعة: ٢٧]
ثم يحدد الحق هؤلاء فيقول: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين﴾ [الواقعة: ١٣ - ١٤]
ولذلك حينما يأتي من يقول: لن يستطيع واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأخر عن عصر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصل إلى منزلة الصحابة؛ لأن الله قال:
وقد طمأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس الذين لم يدركوا عهده حين قال:
«وددت أنِّي لقيت إخواني». فقال أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أو ليس نحن إخوانك؟. قال: «أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني»
وهذا قول صادق من المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن منا من تنحصر أمنيته في أن يحُجَّ ويزور القبر الشريف. ويضيف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وصف أحبابه:
«عمل الواحد منهم كخمسين». قالوا: منهم يا رسول الله أم مِنَّا؟ قال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعواناً، وهم لا يجدون على الخير أعواناً «
وهذا ما يحدث في زماننا بالفعل.
ولكن من هم السَّابِقُونَ المقصودون في الآية التي نحن بصددها؟
﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين﴾ ونعلم أن السابقين من المهاجرين هم أهل بدر، الذين دخلوا أول معركة في الإسلام، مع أنهم خرجوا من المدينة، لا ليشهدوا حرباً، ولكن ليعترضوا عيراً تحمل بضائع، ويرجعوا بالغنائم. ومع ذلك دخلوا الحرب، لا مع القوافل التي ضمَّتْ العير
«ولذلك حين وشى حاطب بن أبي بلتعة بغزوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مكة، فجاء به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: ما الذي حملك على هذا؟ وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يفتح مكة دون أن يعلم أحد؛ حتى لا يقاتل المسلمون القادمون بعضاً من المؤمنين الموجودين في مكة ولم يعرفهم أحد؛ لذلك أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المفاجأة في الفتح؛ حتى تهبط الشراسة الكفرية، لكن حاطب بن أبي بلتعة كتب خطاباً إلى بعض أهل قريش، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومن معه: اذهب إلى مكان اسمه» روضة خاخ «في الطريق بين مكة والمدينة، فستجد ظعينة (مسافرة) معها كتاب إلى أهل مكة، خبأته في عقيصتها.
فلما ذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومن معه يبحثون عن المرأة في الموضع الذي ذكره لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجدوا المرأة ولكنها أنكرت أن معها كتاباً، فهددوها؛ فأخرجته من عقيصتها؛ فوجده من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من مشركي قريش. وعاد به إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأحضر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاطبا، وقال له: ما حملك على هذا يا حاطب؟ قال له: يا رسول
لأن أهل بدر دخلوا المعركة بدون عُدَّة، وبدون استعداد، ومع ذلك هانت نفوسهم عليهم، فكأن الله قال: أنتم عملتم ما عليكم، وقد غفرت لكم ما تفعلونه من السيئات.
إذن: فالسابقون من المهاجرين هم أهل بدر وأهل الحديبية، وهم أهل بيعة الرضوان الذين رُدُّوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن العمرة، ثم عقد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع القرشيين المعاهدة.
والسابقون من الأنصار هم من جاءوا للنبي في مكة، وأعطوا له العزوة وأعطوا له الأمان والعهد، وكانوا اثني عشر في بيعة العقبة الأولى، وخمسة وسبعين في العقبة الثانية. هؤلاء هم السابقون، وأضاف الحق إليهم ﴿والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ أي: من يأتي من بعدهم.
وجاء زيد بن ثابت ليقول لسيدنا عمر: «قرأناها على غير هذا الوجه يا ابن الخطاب». قال: فماذا؟ قال: ﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم﴾.
فقال عمر: ابعث إلى أبيّ بن كعب، وكان ابن كعب حجة في القرآن فقال أبيّ: هكذا سمعتها - كا قال زيد - من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنت تبيع القَرَظ في البقيع. أي أن أبيّ بن كعب كان ملازماً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينما عمر يبيع القرظ، فضحك عمر وقال: لو قلت شَهِدت أنت وغِبْنا نحن، وقرأها عمر من بعد ذلك كما نزلت.
﴿والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ﴾ خصوصاً أن سيدنا أبيّاً البصير بالقرآن جاء بأكثر من دليل من غير هذه الآية فقد قال الحق: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ... ﴾ [الجمعة: ٣]
وهي معطوفة أيضاً.
وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق:
﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم﴾ [التوبة: ١٠٠]
وفي هذا القول ما يطمئن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يَأتِ لنا فقط بخبر الفئة السيئة من المنافقين من العرب، والمنافقين من الأعراب، ولكنه أوضح لنا أن هناك أناساً وصلوا لنا جمال هذا الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب... ﴾
وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يُهاجَم المؤمنون عن غفلة، فيقول: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ و «مرد» يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عند حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة. وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية؛ حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير.
وافرض أن واحداً قال لك: إن هذا الطريق مَخُوف لا تمشِ فيه وحدك بالليل. ثم جاء آخر وقال: إنه طريق آمن ومشينا فيه ولم يحدث شيء، فلو أنك احتطْتَ وأخذت معك سلاحاً أو رفيقاً فقد استعددت للشر لتتوقاه، فَهَبْ أنه لم يحدث شيء، فما الذي خسرته؟ إنك لن تخسر شيئاً.
وهذه قضية منطقية فلسفية يُردّ بها على الذين يشككون في دين الله، مثل المنجِّمين، ومَن يدَّعون الفلسفة، ويزعمون أنه لا يوجد حساب ولا حشر ولا يوم آخر، فيقول الشاعر:
زَعَم المنجِّم والطِّيبُ كلاهما | لا تُحْشَرُ الأجسَاد قلْتُ إليكُمَا |
إنْ صَحَّ قولكُمَا فَلسْتُ بخَاسرٍ | أوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَار عليكُما |
والحق في هذه الآية يقول:
﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق..﴾ وكلمة ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ﴾ تفيد أنكم محاصرون، لا ممن حولكم فقط، بل أيضاً ببعض من الموجودين بينكم في المدينة، وهم من تدربوا على النفاق حتى صارت لهم ألفة به.
وهذه الآيات - كما نعلم - قد نزلت تحكي حال المنافقين. والنفاق تتعارض في ملكات النفس الإنسانية بأن توجد ملكة كفر في القلب، بينما توجد ملكة إيمان في اللسان، فلا يتفق اللسان مع القلب، فالذين آمنوا يوافق ما ينطقون به ما في قلوبهم، والذين كفروا وافقت قلوبهم ألسنتهم.
أما الصنف الثالث: وهم الذين نطقوا بالإيمان بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، فهؤلاء المنافقون.
وهو لفظ مأخوذ من «نافقاء اليربوع» وهو حيوان صحراوي يشبه الفأر، ويخدع من يريد صيده، فيجعل لبيته أو جحره عدة فجوات، فإذا طارده حيوان أو إنسان يدخل من فجوة، فيتوهم الصائد أنه سيخرج منها، ويبقى منتظراً خروجه، بينما يخرج اليربوع من فجوة أخرى، فكأنه خادع الصائد، فالصائد يظن أن للجحر باباً واحداً، ولكن الحقيقة أن للجحر أكثر من مدخل ومخرج. والنفاق بهذه الصورة فيه ظاهرتان: ظاهرة مَرَضيّة في المنافق، وظاهرة صحية في المنافَق؛ ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة، وإنما نشأ في المدينة.
إذن: فلا بد أن نأخذ من النفاق ظاهرتين: الظاهرة الأولى وهي الظاهرة المرضيّة، حيث قال الحق: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً... ﴾ [البقرة: ١٠]
أما الظاهرة الثانية فهي الظاهرة الصحية، فقد أصبح الإسلام قويّاً بالمدينة غيره عند بدء الدعوة في مكة. إنما يُنَافَق القوي؛ لأن المنافق يريد أن ينتفع بقوة القوى، كما أن المنافق يعرف أنه لن يستطيع مواجهة القوي، أو أن يقف منه موقف العداء الظاهر.
إذن: فالنفاق حين يظهر، إنما يظهر في مجالات القوة، لا في مجالات الضعف، فالرجل الضعيف لا ينافقه أحد، والرجل القوي ينافقه الناس. إذن: فالنفاق ظاهرة مرضية بالنسبة للمنافق، وظاهرة صحية في المنافَق.
وأراد الحق سبحانه أن يكشف للمؤمنين أمر المنافقين الذين يتلصصون عليهم، أي: يتخذون مسلك اللصوص؛ في أنهم لا يُواجهون إلا في الظلام، ويحاولون أن يدخلوا من مداخل لا يراهم منها أحد، ويتلمَّسون تلك المداخل التي لا تظهر، ويُخْفون غير ما يظهرون.
أما مواجهة الكافر فهي مسألة واضحة، صريحة؛ فهو يعلن ما يبطن، ويواجهك بالعداء. وأنت تواجهه بجميع قوتك وكل تفكيرك؛ لأنه واضح الحركة. أما المنافق الذي يُظهر الإيمان وفي قلبه الكفر، فهو
وينبهنا الحق إلى ضرورة الاحتياط، وأن يمتلك المؤمنون الفطنة والفراسة وصدق النظر إلى الأشياء، فكشف لنا سبحانه كل أوجه النفاق؛ كشف منافقي المدينة حيث يوجد منافقون وغير منافقين، ومنافقي الأعراب الذين يوجد بينهم منافقون وغير منافقين، وعَلّم الحق سبحانه المؤمنين كيف يتعرفون على المنافقين بالمظاهر التي تكشف ما يدور في صدورهم.
وسبحانه القائل عن المنافقين: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول... ﴾ [محمد: ٣٠]
ولكنْ هناك لون من النفاق، نفاق فني دقيق، يغيب على فطنة المتفطن، وعلى كياسته.
ولذلك يوضح لنا سبحانه: أنا لا أكلُكم إلى فطنتكم لتعلموا المنافقين، وإنما أنا أعلمه وأنتم لا تعلمونه؛ لأنهم قد برعوا في النفاق ﴿لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ ورغم فطنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكياسته فقد أوضح له الحق أنه سيغيب عنه أمرهم؛ لأنهم احتاطوا بفنيّة النفاق فيهم حتى لا يظهر.
لقد عبّر القرآن التعبير الدقيق، فقال: ﴿مَرَدُواْ عَلَى النفاق﴾ والمادة نفسها في كلمة ﴿مَرَدُواْ﴾ هي من مرد، يمرد، مروداً، ومارداً، ومريداً، هذه المادة تصف الشيء الناعم الأملس الذي لا تظهر فيه نتوءات، ومنه الشاب الأمرد، يعني الذي لم ينبت له شعر يخترق بشرته، إذن: المادة كلها تدل على الثبات على شيء، وعدم وجود شيء فيه يخدش هذا الثبات.
ونعلم أن الحق قد جعل في النفس أشياء تطرد الباطل، وإن الحّ الباطل عليها فترة، تتنبه النفس إليه وتطرده. وهؤلاء هم الذين يتوبون، يقترفون الذنب ثم ترجع إليهم نفوسهم الإيمانية فتردعهم. إذن: فالردع إما أن يكون ذاتيّاً في النفس، وإما أن يكون من المجتمع للنفس التي لا يأتيها الردع من الذات، فهي نفس أمَّارة بالسوء، وهي لا تأمر بالسوء مرة وتنتهي، بل هي أمّارة به، أي: اتخذت الأمر بالسوء حرفة؛ لأن صيغة «فعّال» تدلنا على المزاولة والمداومة.
وإذا كانت المناعة في النفس فهذا أمر يسير ويأتي من النفس اللوامة، وقد يكون المجتمع الذي حول الإنسان هو الذي يردع النفس إن ضعفت في شيء. وبهذا تكون المناعة رادعاً ذاتيّاً، ولا المجتمع فيه رادع؛ هنا لا بد أن تتدخل السماء، وتأتي دعوة الحق بآياتها، وبيناتها، ومعجزة الرسول.
هنا يقف أصحاب الفساد - وتكون نفوسهم أمّارة بالسوء - موقفاً ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء - موقفاً ينافقون به القوة الطارئة الجديدة، بينما تظل نفوسهم أمّارة بالسوء، فتظهر ظاهرة النفاق.
وقوله الحق: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة﴾ أي أنكم مطوقون في ذاتكم ومن حولكم، فالنفاق في ذات المكان الذي تقيمون فيه، وفيما حولكم أيضاً.
ويريد سبحانه أن ينبه المؤمنين إلى أن ظاهرة النفاق متفشية؛ منها ما تستطيعون - أيها المؤمنون - معرفته بمعرفة حركات المنافقين وسكناتهم ولحن قولهم وتصرفاتهم، ومنها أمر دقيق خفي لا تعلمونه، ولكنه سبحانه يعلمه؛ ولأنكم غير مسلمين لأنفسكم، ولكم رب يعلمكم ما لا تعلمون فاطمئنوا؛ فسوف يفضحهم لكم.
ونتيجة هذا العلم أنكم سترون فيهم العقوبات؛ فيأتي فيهم القول الحق: ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾.
هم إذن سيعذبون مرتين في الدنيا، ثم يردون لعذاب الآخرة، وأول عذاب لمن يستر نفاقه أن يفضح نفاقه؛ ولذلك خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق، قم يا فلان فأنت منافق»
ونرد: إن المصائب تاتي للمؤمن لإفادته، ولكنها تأتي للمنافق لإبادته. فالمؤمن حين يصاب؛ إما أن يكفر الله به عنه ذنباً؛ وإما أن يرفعه درجة به لكن المصائب حين تصيب المنافق فهي مغرم فقط؛ لأن المنافق لا يرجو الآخرة؛ ولذلك يقال:
إن المصاب ليس من أصيب فيما يجب، ولكن المصاب هو من حرم الثواب.
فإن استقبل المؤمن المصيبة بالرضا، وعلم أن الذي أجراها عليه حكيم، ولا يجري عليه إلا ما يعلم الخير وإن لم يعلمه؛ فهو ينال الثواب على الصبر والأجر على الرضا، وهكذا يخرج من دائرة الألم العنيف. أما غير المؤمن فهو يتمرد على القدر، وبعدم إيمانه يُحْرَم من الثواب.
أو أن العذاب مرتين، وغير الفضيحة بنفاقهم، فيتمثل في محاولتهم أن يظهروا بمظهر الإيمان والإسلام، فيخرج الواحد منهم الزكاة من ماله، والمال محبب للنفس؛ لذلك فهو يخرج الزكاة مرغماً؛ ويشعر أنه قد خسر المال لأنه لا يؤمن بإله؛ لذلك فمصيبته كبيرة. وقد يرسل المنافق ابنه للحرب وهو يعلم أنه ليس له في ذلك ثواب، وهذا لون آخر من العذاب.
وهذا العذاب متحقق بقول الحق: ﴿وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا... ﴾ [التوبة: ٨٥]
وكل هذه ألوان من العذاب في الدنيا.
والإنسان - كما نعلم - في استقبال الزمن له ثلاث حالات: زمن هو حياته الدنيا، وزمن هو زمن موته، وزمن هو زمن آخرته. فحين يصاب المؤمن في الزمن الأول - زمن حياته - يُعزِّيه في مصابه الزمنُ الأخير، وهو زمن آخرته.
أما حين يصاب الكافر أو المنافق في زمن حياته، فلا شيء يعزيه أبداً؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا هو يطمع في شيء من خيره سبحانه.
ويأتيه الزمن الثاني، وهو زمن الموت، وفيه عذاب القبر.
والعذاب إنما يكون بأحد اثنين: إما عرض ما يعذب به، أو دخول فيما يعذب به، وهذا يكون في الآخرة. أما عرض العذاب فهو القبر كأنه يقول لك: انظر ما ينتظرك. وما دام الإنسان يرى الشر الذي
إنه عذاب مؤكد.
﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ ولو قال الحق: «نعذبهم مرتين» فقط بدون السين، لصار لها معنى آخر مختلف تماماً. يتلخص في أن من يصيبه عذاب، فقد انتهى حسابه. لكن قوله: ﴿سَنُعَذِّبُهُم﴾ يؤكد لنا كلما قرأناه أن العذاب متصل.
ويُنهي الحق الآية الكريمة بقوله:
﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ وكلمة ﴿يُرَدُّونَ﴾ مثلها مثل ﴿يُرْجعون﴾ أو ﴿يَرْجعون﴾ ونحن نقول مرة: «يُرْجعون» وأخرى «يَرْجعون»، فكأن النفس البشرية تألف جزاءها في قولنا: «يَرْجعون»، أما قولنا: «يُرْجعون» ففي الكلمة قوة عليا تدفعهم ألا يتقاعسوا.
وهكذا نجد المعذَّب إما مدفوع بقوة عُليا، وإما أن توجد فيه بقوة ذاتية تجعله يذهب إلى العذاب. والإنسان قد يتصرف تصرفاً ما، ثم يرد إلى أفكاره فلا يعجبه هذا التصرف، ويستقبل نفسه بالتوبيخ وبالتعنيف؛ لأن هناك إلحاحاً من النفس على العقوبة، وهو إلحاح يأتي من ذات النفس.
والنفس الأمارة بالسوء قد تقضي حياتك معها في أمر بالسوء، ثم حين يأتي العقاب فأنت تقول لها: «اشربي أيتها النفس نتيجة ما فعلت».
إذن فالمعذَّب يُدفع مرة للعذاب، وأخرى يندفع بذاته.
﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ ومثلما قلنا من قبل: فإن هناك ألواناً متعددة من العذاب، فهناك العذاب العظيم، والأليم، والمهين، والمقيم. والعذاب العظيم يأتي إما بأسباب وإما بمسبِّب، وعذاب الدنيا كله
ويقول الحق من بعد ذلك: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا... ﴾
وبذلك يصبح ممن يقول الحق عنهم: ﴿وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: ممن لم يُصرّوا على النفاق، واعترفوا بذنوبهم، والاعتراف لون من الإقرار. والإقرار بالذنب أنواع، فهناك من يقر بالذنب إفاقة، وآخر
أما من يعترف اعتراف إفاقة، فهو يقر بأنه ارتكب الذنب ويطلب الصفح عنه، وهذا هو الاعتراف المقبول عند الله. وهم قد ﴿اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ اعتراف إفاقة، بدليل أن الله قال فيهم: ﴿خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ وعملهم الصالح هنا هو إقرارهم بالذنب ومعرفتهم أن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة، أما عملهم السيء فهو التخلف عن الجهاد والإنفاق.
واعترافهم هذا هو اعتراف الإفاقة، واختلف العلماء: هل هذا الاعتراف يعتبر توبة أم لا؟
نقول: إن الحق سبحانه وتعالى حينما قال: ﴿اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ ثم قوله: ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: رجاء أن يتوب عليهم، وهذه مقدمات توبة وليست توبة، فإن صاحبها الندم على ما مضى، والإصرار على عدم العودة في المستقبل فيُنظر هل هذا كان منه مخافة أن يُفضح أم موافقة لمنهج الله؟
إن كان الأمر موافقة لمنهج الله فتكون التوبة مرجوَّة لهم.
وكلمة ﴿خَلَطُواْ﴾ تؤدي معنى جمع شيئين كانا متفرقين، وجمع الشيئين أو الأشياء التي كانت متفرقة له صورتان؛ الصورة الأولى: أن يجمعهم
إذن: فهم حين خطلوا العمل الصالح والعمل السَّيِّئ، لم يجعلوا من العمل الصالح والعمل السَّيِّئ مزيجاً واحداً.
لكن العمل الصالح ظل صالحاً، والعمل الفاسد ظل فاسداً.
وقوله سبحانه: ﴿عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ كلمة ﴿عَسَى﴾ معناها الرجاء وهو ترجيح حصول الخير. وهو لون من توقع حصول شيء محبوب. والرجاء يخالف التمني؛ لأن التمني هو أن تحب شيئاً وتتمنى أن يكون موجوداً، لكنه لا يأتي أبداً، مثل قول الشاعر:
ألا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً | فَأخبِرُه بِمَا فعلَ المشِيبُ |
لَيْتَ الكَوَاكِب تَدْنُو لِي فَأنظِمَهَا | عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَى لَكُمْ كَلَما |
إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ | أوْ لم يَنَمْ فالطِّبَّ مِن أذنَابِه |
ثم يقول سيدنا إبراهيم: ﴿والذي يُمِيتُنِي... ﴾ [الشعراء: ٨١]
ولم يقل: «هو» يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: «هو يمتني»، ونقول: انتبه إلى أن إلا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم:
﴿والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ [الشعراء: ٨١].
وأيضاً لم يقل: «هو يحييني» ؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء ب «هو» في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان: ﴿والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين﴾ [الشعراء: ٨٢]
لم يأت أيضاً ب «هو» ؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله.
وهنا يقول الحق: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ﴾ وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة «من» عبادة، ولكنه ترك «من» وجاء ب «عن». والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي «من» بدلاً من «عن». ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محدداً: ﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة﴾ أي: متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة.
وهكذا جاءت «عن» بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَيَأْخُذُ الصدقات﴾ صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: ﴿خُذْ﴾ ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و «يأخذ» هنا معناها «يتقبل» واقرأ قول الحق: ﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ... ﴾ [الذاريات: ١٥ - ١٦]
أي: متلقين ما آتاهم الله. ومثال ذلك ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخلا عليها سيدنا رسول الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة
فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
﴿أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾. كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قُبلَتْ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخُذ الصدقات هو الله؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك: ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله... ﴾
ولا تظنوا أن أموركم ستكون في الخفية بل ستكون في العلن أيضاً، أم أموركم الخفية فسيعلمها الله؛ لذلك قال: ﴿فَسَيَرَى الله﴾. أما الأمور التي تحتاج لفطنة النبوة فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيراها بنوره في سلوككم. أما الأمور الظاهرة الأخرى فسيراها ﴿المؤمنون﴾.
نحن هنا أمام ثلاثة أعمال: عمل يراه المؤمنون جميعاً، فالتزموا بهذا المنهج حتى يشهد لكم المؤمنون بما يرون من أعمالكم، وإياكم أن تخادعوا المؤمنين؛ لأن رسول الله بفطنته ونورانيته وصفائه وشفافيته سيعرف الخديعة، أما إن كانت المسألة قد تتعمَّى على المؤمنين وعلى الرسول، فالله هو الذي يعلم.
﴿وَقُلِ اعملوا﴾ أي: اعملوا عملاً جديداً يناسب اعترافكم بذنوبكم، ويناسب إعلانكم التوبة، ويناسب أنكم ربطتم أنفسكم في المسجد، ويناسب أنكم تصدقتم بالأموال، عمل تستأنفون به حياتكم بصفحة جديدة، واعلموا أننا سنرقب عملكم، الله يرقبه فيما لا يعلمه البشر، وهو النيَّات، ورسول الله يعلمه فيما يطابق نورانيته وإشراقه، والمؤمنون يعلمونه في عاديات الأمور.
إذن: سيعامل التائب معاملة جديدة، وما دام قد تاب، فلعله بسبب الغفلة التي طرأت عليه فأذنب؛ غفل عن اليوم الآخر، فيحتاج إلى تجديد التذكير بالإيمان.
لذلك قال: ﴿وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون﴾.
قوله سبحانه: (فَسَيَرَى) ذكر الفعل مرة واحدة، فالرؤية واحدة ملتحمة بعضها ببعض لتروا هل أنتم على المنهج أم لا؟
﴿وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أما علم الغيب فانفرد به الله سبحانه، وأما عالم الشهادة فالرسول سوف يعلم عنكم أشياء، وكذلك المؤمنون يعلمون أشياء، وربنا عالم بالكل. وسبحانه لا يجازي على مجرد العلم، بل بنية كل إنسان بما فعل، وسبحانه يقول: ﴿كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ [الإسراء: ١٤]
ولذلك يُنهي الحق هذه الآية بقوله:
﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، وربطوا أنفسهم في السواري، وتصدقوا بالأموال، وأعطى الله فيهم حكمه بأن
وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وهم قد تخلفوا أيضاً عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر في التخلف أبداً، فكل واحد يملك راحلته، وعندهم مالهم، وعندهم كل
هؤلاء هم الثلاثة الذين جاء فيهم القول: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾
و ﴿مُرْجَوْنَ﴾ أو «مرجَئون» والإرجاء هو التأخير. أي: أن الحكم فيهم لم يظهر بعد؛ لأن الله يريد أن يبين للناس أمراً، وخاصَّةً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم ينشئ في الدولة الإسلامية سجناً يُعزَل فيه المجرم؛ وهذا لحكمة، فكونك تأخذ المجرم وتعزله عن المجتمع وتحبسه في مكان فهذا جائز. لكن النكال في أن تدعه طليقاً، وتسجن المجتمع عنه.
وهكذا تتجلى عظمة الإيمان؛ لذلك أصدر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمراً بأن يقاطعهم الناس، فلا يكلمهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد، حتى اقرباؤهم ولا يختلط بهم أحد في السوق أو في المسجد.
وكان أحدهم يتعمد أن يصلي قريباً من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويختلس النظرات ليرى هل ينظر النبي له أم لا؟ ثم يذهب لبيت ابن عمه ليتسلق السور، ويقول له: أتعلم أنني أحب الله ورسوله؟ فيرد عليه: الله ورسوله أعلم. وهكذا عزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المجتمع عنهم، ولم يعزلهم عن المجتمع. وكذلك
﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾
هذا بالنسبة لنا - إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. لكن الحق سبحانه وحده هو الذي يعلم مصير كل واحد منهم.
فالتشكيك إذن هو بالنسبة لنا؛ لأنهم مُرْجَوْن لأمر الله ولم يبت فيهم بحكم لا إلى النار ولا إلى الجنة، ولم يبَت فيهم بالعفو. أما أمرهم فهو معلوم له سبحانه إما أن يعذب وإما أن يتوب؛ لأن كل حكم من الله له ميعاد يولد فيه، ولكل ميلاد حكمة، وهناك قوم عجّل الله بالحكم فيهم، وقوم أخّر الله الحكم فيهم؛ ليصفى الموقف تصفية تربية، لهم في ذاتهم، ولمن يشهدونهم.
وقد استمرت هذه المسألة أكثر من خمسين يوماً؛ ليتأدبوا الأدب الذي يؤدبهم به المجتمع الإيماني، فلم يشأ الله أن يبين الحكم حتى يستوفي هذا التأديب.
وإذا أُدِّب هؤلاء، فإن تأديبهم سيكون على مَرْأى ومسمع من جميع الناس، فيأخذون الأسوة من هذا التأديب.
ولو أن الله عجّل بالحكم، لمرّت المسألة بغير تأديب للمعتذرين كذباً وغيرهم، فقال: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ وما دام سبحانه قد حكم هنا بأنهم مؤخَّرون لأمر الله، فليس لنا أن نتعجل قصتهم، إلى أن يأتي قول الله فيهم: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ... ﴾ [التوبة: ١١٨]
وقول الحق: ﴿وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي... ﴾ [التوبة: ٦١]
وقوله الحق: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي... ﴾ [التوبة: ٤٩]
أما إذا خَلَوْا إلى أنفسهم فالحق يصف حالهم: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ... ﴾ [البقرة: ١٤]
أي: لو أنهم يجدون مكاناً أميناً، لا يراهم فيه المؤمنون، لنفَّسوا عن أنفسهم، وسبّوا النبي، وسبّوا المؤمنين، وقالوا ما يريدون، إلا أنهم لا يجدون هذا المكان، إنهم يُنفِّسوا عن أنفسهم؛ إذن: ﴿لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾، لكنهم لا يجدون.
ويقص الحق سبحانه وتعالى هنا قصة أخرى من أحوالهم فيقول عَزَّ وَجَلَّ: ﴿والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً... ﴾ [التوبة: ١٠٧]
نحن نعلم أن كلمة «مسجد» في عمومها هي مكان السجود، وفي الخصوص هي مكان يحجز للسجود وللصلاة فقط، فإن أردت المعنى العام، فكل الأرض مسجد، وتستطيع أن تصلي في أي مكان فيصير
وبذلك يصبح المكان الذي تصلي فيه مسجداً بالمكين، ولكن هناك مسجد آخر مخصص دائماً للصلاة حين يؤخذ حيز من المكان، ويقال: «حجز ليكون مسجداً»، فلا تباشر فيه أي عملية من عمليات الحياة إلا الصلاة وهو مسجد - بالمكان -، ونحن نعلم أن أول مسجد أسِّس هو مسجد قباء والذين بنوه هم بنو عمرو بن عوف، ثم أراد المنافقون أن يُنفِّسوا عن أنفسهم في صورة طاعة، فبنوا مسجداً ضراراً، وقد بناه بنو غُنْم بن عوف وأرادوا بهذا المسجد أن ينافسوا مسجد قباء.
ونعلم كيف يكون الضرار بين المتنافسين على شيء، كما يحدث الآن تماماً، وتسمع من يقول: ولماذا أقام الحي الفلاني مسجداً، ولم نقُم نحن مسجداً؟
وعلى ذلك فكل مسجد فيه هذه الصفة؛ صفة التنافس للحصول على سمعة أو تحيز لجهة على جهة، أو رياء، فهذا يعتبر مسجداً ضراراً؛ لأن كل هذه المسائل فرقت جماعة المسلمين.
وقد يقول قائل: ولكن هذا الأمر ظاهرة صحية، ونقول: لا، إن لنا أن نعرف أنها ظاهرة مرضية في الإيمان؛ لأنك ترى المسجد وليس
إذن: ف «المسجد» بمعناه الخاص هو المكان الذي يحيز حتى يصير مسجداً، لا يزاول فيه شيء غير المسجدية، ولذلك نجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى واحداً ينشد ضالته في المسجد، قال له: «لا رد عليك ضالتك» لأن المسجد حين تدخله فأنت تعلن نية الاعتكاف لتكون في حضرة ربك، وعندك من الوقت خارج المسجد ما يكفيك لتتكلم في مسائل الدنيا.
إذن: فهؤلاء القوم أرادوا أن يُنفِّسوا عن نفاقهم بمظهر من مظاهر الطاعة، فقالوا: نقيم مسجداً، وبذلك نفرق جماعة الملسمين، فجماعة يصلون هنا، وجماعة يصلون هناك، وإن قعدنا نحن نصلي فيه فنكون أحراراً، ونتكلم مثلما نريد، أما حين نذهب للصلاة في المسجد الآخر، فنحن نجلس هناك مكبوتين، وغير قادرين على الكلام، ونحن نريد أن ننفس عن أنفسنا.
فهم بَنَوْا المسجد، ثم طلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يصلي معهم في المسجد الجديد أثناء خروجه لغزوة تبوك فاعتذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوضح
ومعنى «الضرار» من المضارة، وأنهم أرادوا أن يأخذوا راحتهم في كل الزمن، وأن يبتعدوا عن التواجد مع المؤمنين في المسجد الذي يصلي فيه رسول الله، ويريدون أن يخلو بعضهم ببعض، وأن يتكلموا كما يريدون في مضارة المسلمين، ويفرقوا بين جماعة المسلمين. ثم يقول سبحانه: ﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين﴾.
إذن: فكل ما يفتت جماعة المسلمين هو أمر ضار بمصلحة الإسلام؛ لأن الإسلام يريد أن يعلم الناس أنهم قوة مجتمعة، ويكون أمر هذه القوة واضحاً؛ ولهذا أباح الحق أن تصلي الصلوات في أي مكان، وحتَّم أن نصلي جميعاً يوم الجمعة في مكان واحد؛ ليفرح المسلمون حين يرون أنفسهم مقبلين على الدين، ويلتقي كل واحد منهم بالآخر؛ ولذلك كان مسجد الضرار هذا تفريقاً بين المسلمين.
ثم يقول سبحانه:
﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ والإرصاد هو الترقب، ولذلك يقال: لقد استمر القوم في المكان الفلاني لرصد فلان، أي: أنهم أناس يترقبون مجيئه بمكان ليفتكوا به، وهذا هو ترقب الكراهية لا ترقب
وأبو عامر هذا رجل تنصَّر في الجاهلية، ولم تكن الجاهلية بيئة ديانات، فمن كان مثلاً يسافر إلى مكان ويسمع بدين فهو يأتي به ليدعوا لهذا الدين ويترأس من يتبعونه، وأبو عامر من هؤلاء الذين تنصَّروا وصاروا في المدينة، فلما جاء رسول الله ليبطل كل هذه الأشياء في المدينة وزالت رياسته، عادَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى قال له في أحد: ما رأيت قوماً يقاتلونك إلا قاتلك معهم. وحين تمكن الإسلام في المدينة فر إلى مكة، ولما فتحت مكة فرّ إلى الطائف، لم يجد له وطناً فذهب إلى الروم «بالشام». ثم كتب للمافقين أن أعدوا مسجداً؛ لأني سأتي لكم بقوة من ملك الروم؛ لأهاجم محمداً وأحاربه وأخرجه من المدينة.
إذن: فهم قد بَنَوْا ذلك المسجد ضراراً، وكفراً، وتفريقاً، وإرصاداً، أي: ترقباً وانتظاراً لذلك الراهب الذي سيذهب إلى الشام ويأتي بجنود لمحاربة الله ورسوله. ورغم أنهم قد فعلوا ذلك، فقد امتلكوا جراءة الطلب من رسول الله ان يصلي معهم فيه بهدف ترسيم هذا المكان مسجداً ليصلى
وقد يتغافل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المنافقين بعض الشيء لحكمة، فهم قد أخذوا بالإسلام لوناً من الصحبة، ولم يفضحهم أولا حتى لا يقال: إن محمداً يحارب أصحابه؛ لذلك فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعلم ما لم يكن يعلمه غيره؛ لذلك أراد أن يحمي الإسلام من لسان من لم يعلم. ولكن بعد أن انكشف الأمر أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مالك بن الدُّخْشم» و «عامر بن السكن»، و «وحشيّ» قاتل حمزة، و «معن بن عدي» ليهدموا هذا المسجد، وأن يجعلوا في موضعه مكان «القمامة».
وبذلك فُضِحَ المنافقون، فَأسرّوها في نفوسهم.
وأنت إذا رأيت من عدوك فعلاً تكرهه، فعليك أولاً أن تفسد عليه الفعل، هذه أول مرحلة، فإذا تكرر الفعل منه، ولم يرتدع، لا بد أن تضعه في مكانه اللائق به. والمنافقون أرادوا بهذا المسجد الضرر والإضرار بالإسلام، وكان يجب أن يكفوا عن مثل هذا العمل ما دام الحق قد كشفهم. لكنهم لم يكفوا، وظلوا سادرين في العداوة للإسلام؛ لذلك كان لا بد كما تخلصت أولاً من الفعل أن تتخلص من الفاعل؛ لذلك أصبحوا خائفين من أن يتجه الردع إلى الفاعل، والحق سبحانه يقول:
ونعلم أن المريب يكاد أن يقول: خذوني. إنه بسلوكه إنما يدل على نفسه، ويأتي القرآن في سورة ثانية فيقول: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ... ﴾ [المنافقون: ٤]
وهم يتصرفون هكذا لأن الريبة تملأ أعماقهم، وكلما رأى واحد منهم مؤمناً يسير إلى ناحيته يظن أنه جاء ليؤدبه ضرباً أو قتلاً.
والحق سبحانه يقول هنا:
﴿وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾، وكلمة ﴿مِن قَبْلُ﴾ فيها إيحاء بأن لهم سوابق في محاربة رسول الله بغرض ان يؤذوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولكن الحق سبحانه يحميه دائماً، ولم يعد هناك مكر أو حرب يمكن أن ينالوا بها منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وفي هذا الأمر أمثلة كثيرة، فالقرآن حينما يقص على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحوال اليهود ويوضح له: ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق... ﴾ [البقرة: ٦١]
أليس هذا القول يدفع في خاطره احتمال أن يقتلوه؟ بلى فهم ما دامت عندهم الجرأة على قتل الأنبياء فما الذي يمنعهم من قتله؟ لكن الحق يطمئنه ويكبتهم ويقطع عندهم الأمل، ويأتي قوله الحق:
وقوله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ هنا يعني أن ذلك لن يحدث الآن، فقد اختلف الموقف. وهكذا طمأن الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبذلك كُبتت هذه الفكرة إن فكروا فيها.
وأيضاً حين يأتي القرآن بشيء في نيتهم أن يفعلوه، ولم يفعلوا بعد، ويفضحهم القرآن بإعلان ما في نيتهم، ومن غبائهم فهم يفعلون الأمر المفضوح، ولو كان عندهم قليل من ذكاء لامتنعوا عن فعل ما فضحهم به القرآن.
ويتمثل ذلك في أحد المواقف التي يحلفون فيها، ولو كان فيهم رجل رشيد يملك التفكير المتوازن لقال لهم: إنكم سوف تحلفون: ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى﴾ فلا تحلفوا حتى يشك المسلمون في القرآن، ومن غبائهم أيضا أنهم حلفوا في أمر لهم فيه اختيار أن يفعلوه أو لا يفعلوه، مثلما قال الحق سبحانه:
﴿سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا... ﴾ [البقرة: ١٤٢]
إنهم لم يكونوا قد قالوا بعد، وأنزل الحق ذلك في قرآن يتلى كل صلاة، ويعرفه كل مسلم، فيكف يقولون نفس القول بعد أن نزل به القرآن؟ لقد فعل اليهود ذلك؛ وهم بهذا الفعل قد اختاروا أن يكونوا سفهاء، ولم يخرج منهم عاقل واحد يحثهم على ألا يقولوا.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى... ﴾
ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخفُّ لعمله.
وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فهل مع ذلك من غيره؟»
وهنا قال أهل قباء: «لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء»، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة؛ فيخفف من استخدام المياه؛ لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا: «ولا نبيت على جنابة، ولا نُصرّ على ذنب، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة».
﴿يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين﴾ والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول:
أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ | مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيباً غَيْرَ مَحْبُوبِ |
إذن: فحين يكون الحب متبادلاً تجد المحب كلما رأى حبّاً من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو «الحب في الله»، فإذا رأيت حبّاً بين اثنين يتناقص بمرور الزمن؛ فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله.
والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... ﴾ [القصص: ٨]
هم لم يلتقطوه ليكون عدواً لهم؛ فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم، فانظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به، فآل فرعون هم من يربون موسى؛ ولذلك قال له فرعون: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: ١٨]
ولكن موسىعليه السلام لا يجامل في الحق؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في ميزان الحق، وقد
ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ... ﴾ [المائدة: ٥٤]
فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد، وهم يردون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد، وهكذا تتوالى زيادات وزيادات؛ حتى نصل إلى قمة الحب، ولكن الحب عند الله لا نهاية له، وأنت حين تقرأ قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى... ﴾ [النمل: ٥٩]
ويقول سبحانه أيضاً: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ... ﴾ [الأحزاب: ٤٤]
لم يأت سبحانه هنا ب «ال» التعريفية؛ لأنها لو جاءت لانحصرت السلام في لون واحد. فأنت حين تقول: لَقيت الرجل، فأنت تحدد الرجل. لكنك إنْ قلت: لقيت رجلاً. فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما. فإن جاء الاسم نكرة صار شائعاً، أما إن كان بالتعريف فيكون محدداً.
والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ [مريم: ١٥]
وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك: «سلام عليكم»، وأنت ترد: «وعليكم السلام»، لماذا؟ لأن «سلام عليكم» معناها أن السلام منى يكون عليك وعلى غيرك، أما ردُّك «وعليكم السلام» فيعني أنك خَصَصْته بهذا السلام.
وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها زادت في التحية حيث يقول الحق سبحانه:
﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين﴾ وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهراً دائماً، قد أنس بفيوضات الله عليه، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحاً دائماً للاستقبال، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبداً، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا؛ فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
إذن: فقد جاء الإيمان ليريحنا إلا ليتعبنا، كما أنه سبحانه يصف نفسه: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ... ﴾ [المائدة: ٦٤]
وكيف تأتي الفيوضات؟ إنها تأتي بتنقية النفس؛ لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي. وأضرب هنا مثلاً بالإرسال الإذاعي، فمحطات الإذاعة ترسل، ومن يملك جهاو استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسداً فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها.
ولذلك قال الحق: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ... ﴾ [المائدة: ٦٤]
فاحرص دائماً على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي، والحديث الشريف يقول:
«إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»
ثم يقول سبحانه: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى... ﴾
إنهما لا يستويان أبداً، وساعة يطرح الحق هذه العملية بالاستفهام فسبحانه واثق من أن عبده سيجيب بما يريد الله.
وقوله الحق: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ﴾ نجد كلمة «بنيان» وهي مصدر؛ «بنى» «بنياناً»، لكن أطلق على الشيء المبني، فنقول، إن هذا البنيان فرعوني.
إّذن: هناك فرق بين عملية البناء وبين الشيء الذي ينشأ من هذه
وقد حكم سبحانه بألا يصلوا في مسجد الضرار، وعليهم أن يصلوا في المسجد الآخر، وهو مسجد قباء، ثم يرد سبحانه الأمر إلى المؤمنين، ليعرفوا أن ما حكم به سبحانه هو ما تقبله العقول، وأن حكمهم يوافق حكم ربهم.
ثم يقول سبحانه:
﴿أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾ وهنا ثلاث كلمات: شفا، وجُرف، وهَار. والشفا مأخوذ من الشَّفَة، و» الشفا «حرف الشيء وطرفه. وسكانُ سواحل البحار يعرفون أن البحار لها نحر من تحت الأرض، وتجد الماء يحفر لنفسه مساحة تحت الأرض ويترك شفة من الأرض، ولو سار عليها الإنسان لوقع؛ لأنها الطرف الذي ليس له قاعدة وأسفله مَنْحور.
و» شفا جُرُف «أي طرف سينهار؛ لأنه» هار «أي غير متماسك، فتكون الصورة أن الماء ينحر في الساحل، فيصنع شفة لها سطح وليس لها قاعدة تحتها، وهذه اسمها» شفا جُرُف «.
وقد قال القرآن في موضع آخر:
إنها الحفرة في النار، فكيف يكون شكلها؟ لابد أنه مرعب.
ونحن نعلم أنهم كانوا حين يحفرون الآبارليخأذوا منها الماء، كانوا يضعون في جدار البئر أحجاراً تمنع ردمه؛ لأن البئر إن لم يكن له جدار من حجارة قد ينهار بفعل سقوط الرمال من على فوهته، وهكذا تمنع الأحجار أي جزء متآكل من سطح البئر من الوقوع فيه، والجزء المتآكل هو جرف هَارٍ، وهكذا كان مسجد الضرار، ينهار بمن فيه في نار جهنم.
ويذيل الحق الآية: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ وهم كانوا ظالمين بالنفاق؛ لذلك لم يَهْدِهم الله إلى عمل الخير؛ لأن الله لا يهدي الظالم. وسبحانه يقول في أكثر من موضع بالقرآن: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ [المائدة: ١٠٨]
ويقول سبحانه: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ [البقرة: ٢٦٤]
ويقول عَزَّ وَجَلَّ: ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ [البقرة: ٢٥٨]
والهداية - كما علمنا من قبل - قسمان: هداية الدلالة، وهي لجميع الخلق ويدل بها الناس على طريق الخير، ولهم أن يسلكوه أو لا يسلكوه،
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي... ﴾
ولما عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غزوة تبوك أنزل الله عليه: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ وأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من صحابته ليهدموا هذا المسجد، ولم يكتف بالهدم، بل أمر أن يُجْعَل مكان المسجد قمامة إشعاراً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية، فكأنه طهر المكان من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسيّة.
ورسول الله يعلمنا هنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسيّة، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسيّة، فالإنسان قد يتحرز من
وهنا يقول الحق: ﴿لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ فبعد أن هدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقاب، وظلوا في شك من ان يصيبهم رسول الله بسوء، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت.
إن الشك والريبة محلها القلب، والقلب هو العضو الثاني في استبقاء الحياة، أما العضو الأول في استبقاء الحياة فهو المخ، فما دامت خلايا المخ سليمة، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض، وقد يفلحون ما دامت خلايا المخ سليمة، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بأقوى الصيانات بعظام الجمجمة.
وكذلك النخاعات التي تتحكم في إدارة الجسد، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة. وترى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام، وما دام المخ سيد الجسم سليماً فمن الممكن أن تستمر الحياة، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم، ويحافظ على صيانته.
والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه، وحين يفوته ميعاد تناوله للطعام، يعرض عليه الطعام يقول: ليس لي رغبة في الأكل، وهذا ليس إلاّ تعبيراً علمياً لما حدث في الجسم، فأنت أكلت بالفعل، فما دام قد مر
ولذلك تجد القرآن حيثما عرض مسألة سيدنا زكريا، قال على لسانه: ﴿رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي... ﴾ [مريم: ٤]
أي: أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء، أما النبات فهو عكس الإنسان، فسيد النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر، ويحاول النبات المحافظة على جذره، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه، بدأت أوراق النبات في الذبول؛ لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء، فيعود الجذر قويّاً.
والقلب هو محل العقائد والاعتقادات، وهي الأشياء التي تنشأ من المحسّات، وتتكون في الفؤاد لتصير عقائد لا تطفو للمناقشة من جديد، أما العقل فهو يناقش كل المسائل، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب.
وهنا يوضح لنا الله أن هذا البنيان سيظل أثره في قلوبهم، ولن ينتهي منهم أبداً إلا بشيء واحد هو: ﴿أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ﴾ والقلوب لا تتقطع إلا بالموت، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا.
وهذا تهديد لهم بأنهم مسيئاتهم ليست من الخارج، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم. ووجود الريبة في نفوسهم، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب.
ثم يقول سبحانه: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية، وحكمته سبحانه أنه يضع كل شيء في مكانه.
ثم يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الله اشترى... ﴾
فيقول الله سبحانه:
يقول العلماء: كيف يشتري الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وهو الذي خلق الأنفس وهو الذي وهب المال؟ وقالوا: ولكن هبة الله لهم لا يرجع فيها، بدليل أن المال مال الله، وحين أعطاه لإنسان نتيجة عمله أوضح له: إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين، فأنا أقترضه منك، ولم يقل: «أسترده». فسبحانه القائل: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥]
لقد احترم الحق الهبة للإنسان، واحترم عرقه وسعيه، وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة، ووهبهم الأنفس أعلن أنها ملكهم حقّاً، ولكنه أعطاها لهم، وحين يريد أخذها منكم فلا يقول: إنه يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن؛ ولذلك يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله غالية، إن سلعة الله هي الجنة.»
أي: اجعلوا ثمنها غالياً.
﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾. وكلمة ﴿اشترى﴾ تدل على أن هناك صفقة، عملية شراء وبيع. وإن كان هذا ملكاً لله، فالله هو المشتري، والله هو البائع، فلابد أن لهذا الأمر رمزية، وهذه الرمزية يلحظها الإنسان في الولي على اليتيم أو السفيه، فقد يصح أن يكون عندي
وما الثمن؟ يأتي التحديد من الحق: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ هذا هو الثمن الذي لا يفنى، ولا يبلى، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات الله التي لا نهاية لها، أما نعيمك في حياتك فهو على قدر إمكانياتك أنت في أسباب الله، وهكذا يكون الثمن غالياً.
«وحينما جاء الأنصار في بيعة العقبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم»
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
ماذا قال رسول الله؟ أقال لهم ستفتحون قصور بُصْرى والشام وتصيرون ملوكاً، وينفتح لكم المشرق والمغرب؟
لم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً من هذا، بل قال: «الجنة» ؛ لأن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة لهذا الثمن، قالوا: «ربح القليل لا نقيل ولا نستقيل» وبمجرد
لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «الجنة»، فمن مات يدخلها.
﴿بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ هذا هو الثمن، وهو وعد بشيء يأتي من بعد، ولكنه وعد ممن يملك إنفاذه؛ لأن الذي يقدح في وعود الناس للناس، أنك قد تعدُ بشيء ولكن تظل حياتك ولا تفي به، أو أن تقل إمكاناتك عن التنفيذ.
إذن: الوعد الحق هو ممن يملك ويقدر، وحيّ لا يموت، لذلك يقول في هذه الآية:
﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾
ويقول في آخرها:
﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً﴾ و «وَعْد» مصدر، فأين الفعل، إننا نفهمها: أي وعدهم الله بالجنة وعداً منه سبحانه وهو الذي يملك وهو وعد حق. والقرآن حين يأتي بقضية كونية، فالمؤمن يستقبلها بأنها سوف تحدث حتماً، فإذا ما جاء زمنها وحدثت صارت حقّاً ثابتاً، مثلما يقول سبحانه: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ [الصافات: ١٧٣]
هذه قضية قرآنية، حدثت من قبل وثبتت في الكون.
وماذا بعد أشتري الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم؟ هنا يحدد الحق المهمة أمامهم:
فمثلاً: الرجل الذي سار في الصحراء التي فيها حيّات وثعابين، ولم يُهج الرجل أثناء سيره الحيّات ولا الثعابين، بل تجنبها، والثعبان ما دُمْت لا تهيجه فهو لا يفرز سمّاً؛ لأن سمّ الثعبان لا يفرز إلا دفاعاً.
وساعة يرى الثعبان أنك ستواجهه يستعمل سُمَّه، فإذا كان الرجل سائراً وله قدرة المحافظة على عدم إهاجة الثعابين ولا الحيات، فهو قد «سالمها»، والشاعر يقول:
قد سَالَمَ الحيَّاتُ منه القَدَما | والإفْعُوان والشُّجَاعَ الشَّجْعَما |
﴿بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ﴾ فمن يقاتل: إما أن يَقْتل وإما أن يُقْتَل، وفي قراءة الحسن يقدم الثانية على الأولى، ويقول: «فيُقْتَلُون ويَقْتُلوُنَ» ؛ فالمسألة صفقة بمقتضى قوله: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الجنة﴾ لذلك يُقدم قتلهم، وهو الأقرب لمعنى الصفقة. وأيضاً فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً؛ وإذا ما جاء المؤمنون في جانب؛ والكفار في جانب آخر فالمؤمنون بنيان، والحق هو القائل: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: ٤]
فإذا ما سبق قوم من المؤمنين بأن يُقْتَلوا، فكأن الكل قُتل. إذن: فحين قتل بعض المؤمنين، يمكننا أن نقرأ قول الحق على قراءة الحسن ونقول: «فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ».
أو: أنهم حينما دخلوا إلى القتال وضعوا في أنفسهم أن يقتلوا، ولم يغلبوا جانب السلامة.
وكلنا نعرف قصة الصحابي الذي قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أليس بيني وبين الجنة إلا أن ألقى هؤلاء فيقتلوني؟ قال له: «نعم» فأخرج الصحابي تمرة كانت في فمه، ودخل إلى القتال وكأنه يستعجل الجنة.
وكل دين في وقته له مؤمنون به، ويدخلون المعارك دفاعاً عنه. إذن: فالقتال في سبيل نصرة الدين والدفاع عنه ليس مسألة مقصورة على المسلمين، لكنها لم تكن عامة عند الرسل، فقد كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتدخل لعقاب أهل الكفر، وكان الرجل يبلِّغ، فإذا لم يستجِبْ له قومه؛ عاقبهم الله سبحانه، والقرآن يقول: ﴿فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا... ﴾ [العنكبوت: ٤٠]
ولم تَأْتِ مسألة القتال في سبيل الله إلا عندما طلب اليهود من بعد سيدنا موسى عليه السلام أن يقاتلوا في سبيل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله... ﴾ [البقرة: ٢٤٦]
إذن: فهذا وعد من الله في التوراة للذين آمنوا بموسى عليه السلام، وطالبوا بالقتال في سبيل الله، وكذلك في الإنجيل للذين آمنوا بعيسى عليه السلام،
أو: أن هذا الوعد خاص بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنها الأمة المأمونة للدفاع عن كلمة الله بالمجهود البشري.
وبهذا يكون الوعد في التوراة والإنجيل والقرآن هو وعد لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأن التوراة قد بُشِّر فيها بهذا للمسلمين المؤمنين بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذلك الإنجيل قد بُشِّر فيه بهذا الوعد للأمة المسلمة. والدليل على ذلك هو قول الحق سبحانه في آخر سورة الفتح: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ... ﴾ [الفتح: ٢٩]
إذن: فالدين لا يطبع المتدين لا على الشدة ولا على الرحمة، إنما يطبعه انطباعاً يصلح لموقف الشدة فيكون شديداً، ولموقف الرحمة فيكون رحيماً. ولو أنه مطبوع على الشدة لكان شديداً طوال الوقت، ولو طُبع على الرحمة فقط لكان رحيماً كل الوقت، ولكن شاء الحق أن يطبع المؤمنين ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم؛ ولذلك فالدين لا يطبع الناس على ذلة ولا على عزة، إنما يجعلهم أذلة على المؤمنين، وأعزة على الكفار.
وبذلك يُطوِّع المؤمن نفسه، هو شديد ورحيم، عزيز وذليل، فهو طوع للمنهج، فحين يتطلب منه منهج الله أن يكون شديداً يشتد، وحين
وتتابع صفات المؤمنين في قوله سبحانه: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً... ﴾ [الفتح: ٢٩]
وهم في ركوعهم وسجودهم إنما يعبرون عن قيم الولاء لله.
ثم يصفهم سبحانه: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود... ﴾ [الفتح: ٢٩]
وهم لا يريدون إلا رضاء الله وفضله، والنور يشع من وجوههم؛ لأنهم أهل للقيم، ويضيف سبحانه: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة... ﴾ [الفتح: ٢٩]
أي: أن التوراة جاءت فيها البشارة بأن محمداً سيجيء بأمة فيها الخصال الإيمانية والقيمية التي لا توجد في اليهود، هؤلاء الذين تغلب عليهم المادية ولا ترتقي أرواحهم بالقيم الدينية، فأنت إن نظرت إلى التوراة المحرفة
أما في الإنجيل فقد جاءت المسيحية بالرهبنة، والماديات فيها ضعيفة؛ ولذلك جاء القرآن منهجاً متكاملاً تنتظم به الحياة، قيماً حارسة، ومادة محروسة؛ فالعالم يفسد حين تأتي المادة فتطغى وتنحسر القيم، أو حين توجد قيم ليس لها قوة مادية تدافع عنها، فيأبى القوي الظالم إلا أن يطغى بقوته المادية على القيم الروحية فيكون الخلل في البناء الاجتماعي.
إذن: فنحن في حاجة دائمة إلى قيم تحرسها مادة، ومادة تحرسها قيم. وأخبر الله قوم موسى: أنتم لا تملكون القيم المعنوية، وتعتزون بالقيم المادية، لذلك ستأتي أمة محمد وهي تملك قيم الروح والمادة، فهم رُكَّع، سُجَّد، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود.
وأبلغ سبحانه قوم عيسى عليه السلام أنه سيأتي في أمة محمد بمنهج يعطيهم ما فقدتموه من المادة؛ بسبب أنكم انعزلتم عن الحياة وابتدعتم رهبنة ما كتبها الله عليكم، بينما نحن نريد حركة في الحياة. ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار... ﴾ [الفتح: ٢٩]
فالكفار إذا رأوك قد أعددْتَ لهم يتهيبون.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق:
﴿وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن﴾
وما دام الحق قد أعطى الوعد، فلن يوجد من هو أوفى منه؛ لذلك يقول: ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ وبذلك يطمئننا سبحانه على أن وعده محقق؛ لأن العهد ارتباط بين مُعَاهَد ومُعَاهِد، والذي يخرج عن هذا الارتباط أمران:
الأول: ألا يكون صادقاً حين أعطى عهداً، بل كان في نيته ألا يوفي، ولكنه أقام العهد خديعة حتى يستنيم له المعَاهَد.
والأمر الثاني: أن يكون قد أعطى وعداً بما لا يستطيع تنفيذه، فهو كاذب.
والله لا يليق به لا الكذب ولا الخديعة؛ فسبحانه مُنزَّه عن كل ذلك، ولا أحد أوْفَى بالعهد من الله.
فقد يُطعن في العهد والوفاء به عدم القدرة، لكن قدرة الحق مستوفية.
والله سبحانه مُنزَّه عن الكذب والخديعة؛ لأن الخديعة لا تأتي إلا من ماكر، وإذا سمع أي إنسان ﴿وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله﴾ ثم أدار فكره في الكون ليبحث عن جواب، فلا يجد إلا أن يقول: «الله»، ولا أحد أوفى من الله بالعهد. وما دام الوعد بالجنة، فالجنة لا يملكها إلا هو سبحانه ووعده حق، وكلها تأكيدات بأن المسألة واقعة وحادثة.
ولهذا يقول سبحانه: ﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ [التوبة: ١١١]
فالنتيجة لهذه المسألة كلها من شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ثم وعده الحق المبيّن في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلها شهادات مسجلة هي الاستبشار بما باعه المؤمن لله. فالإنسان - ولله المثل الأعلى - لا يسجل إلا ما يكون في صالح قضيته، ولا يسجل للخصم، فعندما يكون عندك صَكٌّ على فلان، فأنت الذي تحتفظ به وتحرص عليه؛ لأنه يؤيد حقك.
والحق سبحانه يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]
والقرآن هو الحجة الكاملة الشاملة في كل أمور الدنيا والآخرة، ومن فَرْط صدق القرآن أن البشر قد يصلون إلى قضية كونية ما، ومن بعد ذلك تُخَالَف، وحين تعود إلى القرآن تجد أن كلام القرآن هو الذي صدق، وقد حفظ الحق سبحانه القرآن لأن قضايا الكون الذي خلقه الله لا يمكن أن
﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾
قوله الحق: ﴿فاستبشروا﴾ مأخوذ من «البشرة»، وهي الجلد عامة، وإن كان الظاهر منه هو الوجه.
وحين يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ فقد يفهم أحد أن النفس سوف تضيع، وأن الأموال سوف تنفق، وهذا قد يُقبِضُ النفس فهذا فيه الموت، وخسارة للمال، وكان من الطبيعي أن يشحب وجه الإنسان ويفزع ويخاف. ولكن ساعة يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ الله اشترى﴾ يجد بشرة المؤمن تطفح بالسرور. والبشر، ويحدث له تهلل وإشراق، مع أنه هنا سيأخذ نفسه، ولكن المؤمن يعرف أنه سبحانه سيأخذ نفسه ليعطيه الحياة الخالدة.
إذن: قضايا الإيمان كلها هكذا لا يجب أن تصيبنا بالخوف، بل علينا أن نستقبلها بالاستبشار، ولذلك يقول الحق: ﴿فاستبشروا﴾ أي: فليظهر أثر ذلك على بشرتكم إشراقاً وسروراً وانبساطاً.
﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ﴾ وهل يستبشر الإنسان بالبيع؟ نعم؛ لأن الإنسان لا يبيع إلا ما يستغني عنه عادة، ويشتري ما يحتاج إليه، فهنا الاستبشار بالبيع وليس بالشراء، فالمؤمن هنا يبيع فانياً بباق.
﴿فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ وأنت إذا ما نظرت إلى الذين يخالفون العهد الذي أخذ عليهم، تجد الواحد منهم
وتأتي ﴿وَذَلِكَ﴾ إشارة إلى الصفقة التي انعقدت بينكم وبين ربكم.
﴿وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم﴾ والفوز هو بلوغ الغاية المأمولة في عرف العقل الواعي، كما تقول لابنك: «ذاكر لتفوز بالنجاح» وتقول للتاجر: «اجتهد في عملك بإخلاص لتفوز بالربح».
إذن: فهناك «فوز»، وهناك «فوز عظيم» والفوز في الدنيا أن يتمتع الإنسان بالصحة والمال وراحة البال. وهناك فوز أعظم من هذا؛ أن تضمن أن النعمة التي تفوز بها لا تفارقك ولا أنت تفارقها، فيكون هذا هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه؟
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿التائبون العابدون... ﴾
وعمَّ يتوب هؤلاء التائبون؟
نحن نعلم أن هناك إيماناً اسمه إيمان الفطرة. نجد ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣]
إذن: فالإيمان أمر فطري، والكفر هو الذي طرأ عليه، وقلنا من قبل: إن الكفر هو الدليل الأول على الإيمان؛ لأن الكفر هو الستر،
و ﴿التائبون﴾ : منهم التائبون عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة، وأخذوا منهج الله الذي آمنوا به، ومن هنا نشأت العبادة التي تقتضي وجود عابد ومعبود، والعبادة تعني الانصياع من العابد لأوامر ونواهي المعبود.
﴿التائبون العابدون الحامدون﴾ والعبادة كلها طاعة تتمثل في تطبيق ما جاء به المنهج من «افعل» و «لا تفعل»، وقد يتدخل المنهج في حريتك قليلاً، وأنت بقوة الإيمان تعتبر أن هذا التدخل في هذه الحرية نعمة يجب أن تحمد الله عليها؛ لأنه لو تركك على هواك، كما يترك ولي الأمر التلميذ ابنه على هواه فهو يفشل، ولكن الأب الذي يحث ابنه على المذاكرة وينهاه عن اللعب والعبث، فلا بد أن ينجح.
إذن: الأوامر والنواهي هنا نعمة، كان يجب أن نحمد ربنا عليها، وكل ما يجريه الله على العبد المؤمن يجب أن يأخذه العبد على أساس أنه نعمة.
إذن: فالذين تابوا عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة هم تائبون يأخذون منهج الإيمان من المعبود، ويصبحون بذلك عابدين لله، أي: منفذين الأوامر، ومبتعدين عن النواهي، وهم يعلمون أن الأوامر تقيد حركة النفس وكذلك النواهي، ولكنهم يصدقون قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُفَّتِ الجنةُ
حين تعرف أن العبادة أوصلتك إلى أمر ثقيل على نفسك، فاعرف أن هذا لمصلحتك وعليك أن تحمد الله عليه؛ وبذلك يدخل المؤمن في زمرة الحَامِدينَ.
وأنت حين تؤمن بالله، يصبح في بالك، فلا يشغلك كونه عنه سبحانه، وإياك أن تشغل بالنعمة عن المنعم، واجعل الله دائماً في بالك، والحق سبحانه يقول: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾
[العلق: ٦ - ٧]
لذلك يفكر المؤمن في الله دائماً ويشكر المنعم على النعمة وآثارها من راحة في بيت وأولاد وعمل.
و ﴿الحامدون﴾ أيضاً لا بد أن يستقبلوا كل قدر لله عليهم بالرضا؛ لأن الذي يُجري عليهم القدر - ما دام لم يأمرهم بما لم يقع في اختيارهم - فهو حكيم ولا يُجري سبحانه عليهم إلا ما كان في صالحهم. وبعد أن ترضى النفس بما أجرى عليها تعرف الحكمة؛ ولذلك يقول سبحانه: ﴿واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله... ﴾ [البقرة: ٢٨٢]
ويتابع الحق صفات المقبلين على الصفقة الإيمانية فيقول: ﴿السائحون﴾
إذن: فالسياحة هي السير المستوعب، والسير في الأرض منه سير اعتبار لينظر في مكلوت السموات والأرض، وليستنبط من آيات الله ما يدل على تأكيد إيمانه بربه، ومنه سير استثمار بأن يضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله.
إذن: فالسياحة إما سياحة اعتبار، وإما سياحة استثمار، أما سياحة الاستثمار فهي خاصة بالذين يضربون في الأرض، وهم الرجال.
أما سياحة الاعتبار؛ فهي أمر مشترك بين الرجل والمرأة، بدليل أن الله قال ذلك في وصف النساء: ﴿عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ... ﴾ [التحريم: ٥]
إذن: ﴿سَائِحَاتٍ﴾ هنا مقصود بها سياحة الاعتبار، أو السياحة التي تكون في صحبة الزوج الذي يضرب في الأرض.
وقيل أيضاً: إن السياحة أطلقت على «الصيام» ؛ لأن السياحة تخرجك عما ألفْتَ من إقامة في وطن ومال وأهل، والصيام يخرجك عما ألفْتَ من
إذن: القَدْرُ المشترك بين الرجال والنساء هو في سياحة الاعتبار وسياحة الصوم.
ثم يقول الحق سبحانه:
﴿الراكعون الساجدون﴾ أي: المقيمون للصلاة، وقد جاء بمظهرين فقط من مظاهر الصلاة، مع أن الصيام قيام وقعود وركوع وسجود؛ لأن الركوع والسجود هما الأمران المختصان بالصلاة، وأما القيام فقد يكون في غير الصلاة، وكذلك القعود. إذن: فالخاصيَّتان هما ركوع وسجود؛ والحق يقول: ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ [آل عمران: ٤٣]
أي: صلّي مع المصلِّين، وهكذا نجد أن الركوع والسجود هما الأمران اللذان يختصان بالحركة في الصلاة.
ثم يقول سبحانه: ﴿الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر﴾ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حيثية تخص الأمة المحمدية لتكون خير أمة أخرجت للناس، فالحق سبحانه يقول: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر... ﴾ [آل عمران: ١١٠]
فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا بد أن تكون بمنأى عن هذا
إذن: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صلاح أو هدى مُتَعدٍّ من النفس إلى الغير، بعد أن تكون النفس قد استوفَتْ حظها منه.
ويقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تعرف المعروف الذي تأمر به، وأن تعرف المنكر الذي تنهى عنه؛ لذلك لا بد أن تكون من أهل الاختصاص في معرفة أحكام الله، ومعرفة حدود الله حِلاّ وحُرْمة، أما أن يأتي أي إنسان ليُدخل نفسه في الأمر ويقول: أنا آمر بمعروف وأنا أنهى عن منكر، هنا نقول له: لا تجعل الدين، ولا تجعل التقوى في مرتبة أقل من المهن التي لا بد أن يزاولها أهل فكر ومتخصصون فيها.
ثم يقول سبحانه: ﴿والحافظون لِحُدُودِ الله﴾ و «الحدود» جمع «حد» وتأتي الحدود في القرآن على معنيين: المعنى الأول هو المحافظة على الأوامر، وتلك التي يردفها الحق بقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا... ﴾ [البقرة: ٢٢٩]
وكل أمر يقول فيه ذلك هو حد الله فلا تتعدَّ هذا الحد، أما المعنى الثاني: فهو البعد عن المنهيات فلا يقول لك: لا تتعداها، بل يقول سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا... ﴾ [البقرة: ١٨٧]
ويُنهى الحق سبحانه الآية بقوله: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾ أي: بَشِّرْ هؤلاء
وبعد ذلك يتكلم الحق عن أمر شغل بال المؤمنين الذين كان لهم آباء على الكفر؛ ومن حقوق هذه الأبوة على الأبناء أن يستغفروا لهم لعل الله يغفر، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن رعاية حدود الله وحقوقه أوْلَى من قرابة الدم، وأوْلى من عاطفة الحنوّ والرحمة؛ فالحق سبحانه وتعالى أوْلى بأن يكون الإنسان باراً به من أن يكون بارّا بالأب الكافر، وقد جعل الحق سبحانه النسبَ في الإسلام نفسه.
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين... ﴾
وكلمة ﴿مَا كَانَ﴾ تختلف عن كلمة «ما ينبغي» فساعة تسمع «ما ينبغي لك أن تفعل ذلك» فهذا يعني أن لك قدرة على أن تفعل، لكن لا يصح أن
ومثال ذلك أن يقال لفقير جدّاً: «ما كان لك أن تشتري فيديو» ؛ لأنه بحكم فقره غير مؤهل لشراء مثل هذا الجهاز، لكن حين يقال لآخر: ما ينبغي لك أن تشتري فيديو «أي: عنده القدرة على الشراء، لكن القائل له يرى سبباً غير الفقر هو الذي يجب أن يمنع الشراء. إذن: فهناك فَرْق بين نفي الإمكان، ونفي الانبغاء.
وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم﴾
أي: ما كان للنبي ولا المؤمنين أن يستغفروا للذين ماتوا على الشرك والكفر، ولو كانوا أولي قربى. فهذا أمر لا يصح.
وحتى لا يحتج أحد من المؤمنين بأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قد استغفر لأبيه جاء الحق بالقول الكريم:
﴿حَفِيّاً﴾ أي: أن ربَّ إبراهيم يحبه وسيكرمه في استغفاره لأبيه.
﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ ويأتي الحق سبحانه بالحيثية الموحية، بأن إبراهيم له من صفات الخير، الكثير جداًّ، لدرجة أن الله خالقه يقول فيه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... ﴾ [النحل: ١٢٠]
أي: أن خصال الخير في إبراهيم عليه السلام لا توجد مجتمعة في إنسان واحد، ولا في اثنين ولا في ثلاثة، بل خصال الخير موزعة على الناس كلها، فهذا فيه صفة الأمانة، وثان يتحلى بالصدق، وثالث يتميز بالشهامة، ورابع موهوب في العلم، إذن: فخصال الخير دائماً ينشرها الله في خلقه، حتى يوجد تكافؤ الفرص بين البشر، كالمهن، والحرف، والعبقريات، والمواهب، فلا يوجد إنسان تتكامل فيه المواهب كلها ليصبح مجمع مواهب.
أي: أتى بها على التمام، فلما أتمهن أراد الله أن يكافئه، فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً... ﴾ [البقرة: ١٢٤]
فهو - إذن - مأمون على أن يكون إماماً للناس لأنه قدوة، أي أنه يشترك مع الناس في أنه بشر، ولكنه جاء بخصال الخير الكاملة فصار أسوة للناس، حتى لا يقول أحد: إنه فعل الخير لأنه ملك، وله طبيعة غير طبيعة البشر، لا.. إنه واحد من البشر، قال فيه الحق سبحانه: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً... ﴾ [البقرة: ١٢٤]
أي: أسوة وقدوة، والأسوة والقدوة يشترط فيها أن تكون من الجنس نفسه فلا تكون من جنس مختلف، فلا يجعل الله للبشر أسوة من الملائكة؛ حتى لا يقول أحد: وهل أنا أستطيع أن أعمل مثل عمله؟ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عرض هذه القضية: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٤]
فما دُمتم أنتم بشر فلا بد أن يرسل لكم رسولاً منكم لتحقق الأسوة، لهذا يقول الحق سبحانه:
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩]
ولنَر كيف أتم سيدنا إبراهيم عليه السلام بعض التكاليف بعشق، فلننظر إلى قول الحق سبحانه: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت... ﴾ [البقرة: ١٢٧]
ومعنى رفع القواعد أي إيجاد البعد الثالث، وهو الارتفاع؛ لأن البيت الحرام له طول وهذا هو البعد الأول، وله عرض وهو البعد الثاني وبهما تتحدد المساحة. أما الارتفاع فبضربه في البعدين الآخرين يعطينا الحجم، وقد أقام سيدنا إبراهيم عليه السلام البعد الثالث الذي يبرز الحجم، وقد قال بعض السطحيين: إن سيدنا إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، لا لم يبن الكعبة، بل رفع القواعد التي تبرز حجم الكعبة؛ بدليل أنه حينما جاء هو أمرأته هاجر ومعها الرضيع إسماعيل عليه السلام قال:
وهذا دليل على أن البيت كان معروفاً من قبل إبراهيم عليه السلام، وقد استقرت به هاجر وطفلها إسماعيل إلى أن كبر واستطاع أن يرفع مع أبيه القواعد، ولذلك نقول: إن هناك فرقاً بين «المكان» و «المكين» فالذي فعله إبراهيم هو إقامة «المكين» أي المبنى نفسه، أما المكان فقد كان معروفاً.
ولنفترض أنه جاء سيل على الكعبة وهدمها فإلى أي شيء سنصلي؟ إلى أن نقيم المكين. إذن: عملية البناء هذه للمكان، وليبست للمكين.
ويقول الحق عن البيت الحرام: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ... ﴾ [آل عمران: ٩٧]
وآيات جمع، وبينات جمع، ولم يأت من الآيات البينات إلا «مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ». ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ... ﴾ [آل عمران: ٩٧]
أي: أن «مقام إبراهيم» هو مجموع الآيات البينات؛ لأن الله قد أمره أن يرفع القواعد، وكان لا بد أن يبحث عن الإمكانات التي تساعده في الرفع؛ لأنه لو رفعها على قدر ما تطول يده لما بلغ طول الكعبة فوق مستوى ما تطوله اليدان؛ لذلك فكر سيدنا سيدنا إبراهيم وتدبر وجاء بحجر ليقف فوقه ليطيل في ارتفاع جدران الكعبة، وهذا من دلائل أنه ينفذ التكليف بعشق، وعلى أتم وجه؛ لذلك قال الحق:
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وفي هذا آيات واضحة على أن الإنسان
ونحن هنا في قضية الاستغفار ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾
وهنا وقفة توضح لنا طبع سيدنا إبراهيم كأواه حليم، والأواه هو الذي يكثر التوجع والتأوه على نفسه مخافة من الله، وعلى الناس إن رأى منهم معصية، فيحدث نفسه بما سوف يقع عليهم من عذاب، إنه يشعل نفسه بأمر غيره، فهذه فطرته، وهو أواه لأن التأوه لون من السلوى يجعلها الله في بعض عباده للتسرية عن عبادٍ له آخرين.
ولذلك يقول الشاعر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ | يواسيك أو يسلّيك أو يتوجع |
فإبراهيم ﴿أَوَّاهٌ﴾، وهذا طبع فيه يسلكه مع كل الناس، فما بالك إن كان لقريب له؟ لا بد إذن أن يكثر من التأوه، وخصوصاً إن كان الأمر يتعلق بأبيه، ومع ذلك أراد الله أن يضع طبع إبراهيم عليه السلام في التأوه
وهنا قضية هامة أحب أن تصفى بين مدارس العلم والعلماء في العالم كله؛ لأنها مسألة تسبب الكثير من المشاكل، وتثار فيها أقضية كثيرة.
لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام ألا يستغفر لأبيه، بعد أن تبين له أنه عدو لله، وما دام والد إبراهيم قد وصف بهذه الصفة وأنه عدو الله ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نسل إبراهيم إذن: فلماذا يقول الرسول: «إنني خيار من خيار من خيار»
؟ ولو فهمنا قول الحق: إن أبا إبراهيم عدو لله، ففي هذا نقض لحديث رسول الله، وما دام أبو إبراهيم كان عدوا لله وتبرأ منه وقال له الحق: لا تستغفر. إذن: ففي نسبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد أعداء الله، وفي ذلك نقض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خيار من خيار خيار، ما زلت أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
ولهذا نريد أن نصفي هذه المسألة تصفية علماء، لا تصفية غوغاء، ولنسأل من هو الأب؟ الأب هو من نَسَلَكَ وأنجبك، أو نسل من نسلك. إذن: فهناك أب مباشر وأبوه يعتبر أبا لك أيضاً إلى أن تنتهي لآدم، هذا هو معنى كلمة «الأب» كما نعرفه، لكننا نجد ان القرآن قد تعرض لها بشكل أعمق كثيراً من فهمنا التقليدي، وأغنى السور بالتعرض لهذه المادة «سورة يوسف» ؛ لأن مادة «الأب» جاءت ثماني وعشرين مرة خلال هذه السورة، فمثلاً تجد في أوائل سورة يوسف، قول يوسف عليه السلام: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً... ﴾
[يوسف: ٤]
والأبوان المقصودان هما إبراهيم وإسحاق عليهما السلام، ثم قال الحق من بعد ذلك: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا... ﴾ [يوسف: ٨]
ثم جاء قوله الحق على لسان إخوة يوسف: ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: ٨]
وفي نفس السورة يقول الحق عن إخوة يوسف: ﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ... ﴾ [يوسف: ٩]
ثم يمهد إخوة يوسف للتخلص منه، فيبدأون بالحوار مع الأب: ﴿قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [يوسف: ١١ - ١٢]
وبعد أن ألقوه في غيابة الجب، وعادوا إلى والدهم: ﴿وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ﴾ [يوسف: ١٦]
ثم تدور أحداث القصة إلى أن دخل سيدنا يوسف السجن، وقابل هناك اثنين من المسجونين وأخبراه أنهما يريانه من المحسنين، وأن عندهما رؤى يريدان منه أن يفسرها لهما فقال لهما: ﴿لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ... ﴾ [يوسف: ٣٧]
وينسب ذلك الفضل إلى الحق سبحانه فيقول: ﴿ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... ﴾ [يوسف: ٣٧ - ٣٨]
وهكذا ذكر اسم ثلاثة من آبائه: إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام.
ثم خرج يوسف من السجن وتولى أمر تنظيم اقتصاد مصر، وجاء إخوته للتجارة فعرفهم، ويحكى للقرآن عن لقائه بهم دون أن يعرفوه، وقال: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ... ﴾ [يوسف: ٥٩]
وقال أيضاً:
ثم عادوا إلى أبيهم يرجونه أن يسمح لهم باصطحاب أخيهم الأصغر معهم، وسمح لهم يعقوب عليه السلام باصطحابه بعد أن آتوه موثقاً من الله أن يأتوه به إلا أن يحيط بهم أمر خارج عن إرادتهم، ونزلوا مصر وطلبوا الميرة. ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ... ﴾ [يوسف: ٧٠ - ٧٥]
قالوا: ﴿إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ [يوسف: ٧٨]
قال يوسف: ﴿مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ... ﴾
[يوسف: ٧٩]
ويعودون إلى أبيهم الذي يعاتبهم: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً... ﴾ [يوسف: ٨٣]
ثم يأمرهم أن يعودوا مرة أخرى قائلاً: ﴿يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ... ﴾ [يوسف: ٨٧]
وعندما عرفهم يوسف بنفسه وعلم منهم أن والدهم قد صار أعمى قال لهم: ﴿اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً﴾ [يوسف: ٩٣]
ثم يأمرهم يوسف عليه السلام بأن يأتوا بأهلهم أجمعين. ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: ٩٤]
ثم يقول الحق سبحانه: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ... ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وما يهمنا في كل ذلك آيتان اثنتان: الأولى هي قوله سبحانه: ﴿وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [يوسف: ٦]
و «أبائي» جمع أب. وعندما أراد أن يذكر الأعلام من آبائه قال: ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... ﴾ [يوسف: ٣٨].
ويعقوب هو أبو يوسف، وإسحق أبو يعقوب، وإبراهيم أبو إسحق، إذن: فإبراهيم أب، وإسحق أب، ويعقوب أب. وهكذا نرى أن كلمة «الأب» تطلق على الجد، وآباء الجد إلى آدم. وإذا نظرت في سورة البقرة تجد قول الحق سبحانه: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ... ﴾ [البقرة: ١٣٣]
ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، وهكذا يكون إبراهيم أباً، وإسماعيل أباً، وإسحق أباً، ولكن إسماعيل أخ لإسحق، إذن فقد أطلق الأب هنا وأريد به العم، وهكذا ترى أنه إذا ألحق بكلمة «أب» اسم معين هو المقصود بها، فالمعنى ينصرف إما إلى الجد وإما إلى العم، وإن جاءت من غير تحديد الاسم، فهي تنصرف إلى الأب المباشر فقط.
والحق يقول في شأن إبراهيم مع أبيه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ... ﴾ [الأنعام: ٧٤]
إذن: قول الله: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ﴾ يبين لنا أن آزر ليس هو الصُّلب الذي انحدر منه رسول الله، ولكنه عمه، وبذلك نحل الإشكال واللغز الذي حير الكثيرين.
وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤]
و «الحليم» هو خلق يجعل صاحبه صبوراً على الأذى صفوحاً عن الذنب.
وقد شغل صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإخوانهم المؤمنين، الذين ماتوا قبل أن تكتمل عندهم أحكام الإسلام؛ لأن منهج الإسلام نزل في «ثلاثة وعشرين عاماً». وليس من المفروض فيمن آمن أن يأتي بكل أحكام
ومن باب أولى أن الذي مات قبل أن تتم أحكام الإسلام يعتبر مسلماً، والذي مات مثلاً قبل أن تحرم الخمر تحريماً نهائيّاً، أيقال: إنه عاصٍ أو كافر؟ لا، إنه مسلم، والذي مات قبل أن يعلم أن القبلة قد حولت من بيت المقدس إلى الكعبة يعتبر مسلماً وشاء الحق أن يبين للمسلمين ألا يحزنوا على هؤلاء، فنزل الوحي: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٥]
وهذا يوضح ما نعرفه في عرف التقنين البشري أنه لا جريمة إلا بنص، ولا عقوبة إلا بتشريع، فنحن لا نعاقب إلا بعد تحديد الفعل الذي يعاقب عليه، وأن يكون النص المحدد للجريمة والعقوبة سابقاً على الفعل.
إذن: لا عقوبة بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. والذي لم يبلغه
إذن: فلا تحزنوا على من مات من إخوانكم قبل أن يستكمل الإسلام كل أحكامه. فإسلامهم هو ما بلغهم من هذه الأحكام؛ فإن أدوها استووا بالذي يؤديها بعد أن تتم أركان الإسلام كلها؛ لذلك جاء قوله الحق: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ... ﴾
وقد بين إبراهيم لعمه منهج الهداية فلم يهتد. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم ألا يستغفر له.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ... ﴾
مثل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض... ﴾ [الأنعام: ٧٥]
وساعة ترى «تاء المبالغة» في مثل «رهبوت»، و «عظموت» تدرك أنها رهبة عظيمة.
إذن: إياك أن تفهم أن الله حين يمنعك أن تستغفر لآبائك، وأنك إن قاطعتهم فذلك يخل بوجودك في الحياة؛ لأنهم هم ومن يؤازرهم داخلون في ملك الله، وما دام الله له ملك السموات والأرض، فلا يضيرك أحد أو شيء ولا يفوتك مع الله فائت، وما دام الله سبحانه موجوداً فكل شيء سهل لمن يأخذ بأسبابه مع الإيمان به.
والحق سبحانه يبين لنا أنه سبحانه وحده الذي بيده الملك؛ فقال: ﴿قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير... ﴾ [آل عمران: ٢٦]
وفي هذا القول الكريم أربعة أشياء متقابلة: ﴿تُؤْتِي الملك﴾ و ﴿وَتَنزِعُ الملك﴾، وإيتاء الملْك في أعراف الناس خير، ونزعه في أعراف الناس
إذن: فحين يؤتي الله إنساناً مُلْكاً؛ نقول: هذا خير وعليك أن تستغله في الخير. وحينما ينزع الله منه الملك نقول له: لقد طغيت وخفف الله عنك جبروت الطغيان، فنزعه الله منك فهذا خير لك. وإن أعزك الله، فقد يعذبك حقّاً، وإن أذلهم الله، فالمقصود ألا يطغوا أو يتجبروا. إذن: فكلها خير. ﴿تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير... ﴾ [آل عمران: ٢٦]
ساعة تجد ملكاً عضوضاً، إياك أن تظن أن هذا الملك العضوض قد أخذ ملكه دون إرادة الله، لا، بل هو عطاء من الله. ولو أن المملوك راعى الله في كل أموره لرقق عليه قلب مالكه. ولذلك يقول لنا في الحديث القدسي: «أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، ولكن أطيعوني أعطفهم عليكم»
وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن نعرف أن كل حادثة له حكمة في الوجود.
والخيِّر لا يدخل المعركة بل يشاهد الصراع من بعيد، ويجري كل شيء بعلم الله؛ لأنه سبحانه لم ملك السموات والأرض وهو الذي يحيي ويميت، فإياك أن تُفْتَن في غير خالقك أبداً؛ لأن الخلق مهما بلغ من قدرته وطغيانه، لا يستطيع أن يحمي نفسه من أغيار الله في كونه ولذلك فليأخذ المؤمن من الله وليّاً له ونصيراً.
وبعد أن قال لنا سبحانه: ﴿إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض﴾ يأتي لنا بالأمر الذي يظهر فيه أثر القدرة، ولا يشاركه فيه غيره، فقال: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾. وقال بعض العلماء في قوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أنه سبحانه «يحيي الجماد»، و «يميت الحيوان» ؛ لأنهم ظنوا أن الحياة هي الحس والحركة التي نراها أمامنا من حركة وكلام وذهاب وإياب، ونسوا أن الحياة
إذن: فالحياة مقابلها الهلاك، وفي آيات أخرى يقابل الحياة الموت، فالهلاك هو الموت. فإذا قال الحق سبحانه: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... ﴾ [القصص: ٨٨]
إذن: فكل شيء قبل أن يكون هالكاً كان حيّاً، وهكذا نعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة الظاهرتين، وبعد التقدم العلمي الهائل في المجاهر الدقيقة تكشفت لنا حركة وحس كائنات كنا لا نراها، وإذا كان الإنسان قد توصل بالآلات التي ابتكرها إلى إدراك ألوان كثيرة من الحياة فيما كان يعتقد أنه لا حياة فيها، إذن: فكل شي في الوجود له حياة تناسبه فلو جئت بمعدن مثلاً وتركته ستجده تأكسد، أي حدث فيه تفاعل مع مواد أخرى.. فهذه حياة.
بعد ذلك يقول الحق: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي... ﴾
فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلاً، وبعد أن يتوبوا، يقبل الله التوبة.
والحق هنا يقول: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي﴾ وعطف على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿المهاجرين والأنصار﴾، فأي شيء فعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يقول الله: ﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي﴾ ؟! ونقول ألم يقل الحق سبحانه له: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ... ﴾ [التوبة: ٤٣]
فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التخلف عن الغزوة، فأذن لهم، مع أن الله سبحانه قال: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً... ﴾ [التوبة: ٤٧]
وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده؛ لأن العبد قام به ضد صالح نفسه، ومثال هذا من حياتنا ولله المثل الأعلى: أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم؛ فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة، وتقول له: «قم لتنام». وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه، لا، لأنه خالف منهجاً، بل لأنه أوغل في منهجٍ وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه.
وحين سمح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوم أن يتخلفوا، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع مصلحة الحرب؟ أنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل، إذن: فإذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه.
ولذلك نجد أن كل عتب على نبي الله، إنما كان عتباً لصالحه لا عليه فسبحانه يقول له: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ... ﴾ [التحريم: ١]
﴿عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى﴾ [عبس: ١ - ٢]
وابن أم مكتوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني، ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش، فلماذا يختار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله؟. إذن: العتب هنا لصالح محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين يقول الحق له: ﴿عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ... ﴾ [التوبة: ٤٣]
ثم جاء ها في الآية بالمهاجرين والأنصار معطوفين على رسول الله، وذلك حتى لا يتحرج واحد من المهاجرين أو الأنصار من أن الله تاب عليه، بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفسه؛ فلا تحرُّج.
وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم كان يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلاً، ثم يخرجها من فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلاً، وهكذا إلى أن تصير على النواة، وكان الشعير قد أصابه السوس، وبلغ منه السوس أن تعفن، وقال من شهد المعركة: «حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى لا يتأذى من رائحة الشعير». كل هذه الصِّعاب جعلت من بعض الصحابة من يرغب في العودة. ولا يستكمل الطريق إلى الغزوة.
إذن: فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم. وجاء الحق بتقدير ظرف العسرة، ولذلك تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضاً من همّ ألا يذهب، ثم حدجثته نفسه بأنه يذهب مثل أبي خيثمة الذي بقي من بعد أن رحل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغزوة ومرت عشرة أيام، ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين، وعند كل عريش زوجةٌ له حسناء، وقد
فقال صحابة رسول الله: يا رسول الله إنَّا نرى شبح رجل مُقْبل. فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «كن أبا خيثمة»، ووجده أبا خيثمة، هذا معنى الحق:
﴿لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٧]
وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعوا وتاب الله عليهم أيضا على آخرين اعترفوا بذنوبهم، فتاب الحق عليهم حين قال:
وأرجأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله... ﴾ [التوبة: ١٠٦]
وما دام الله قد قال: ﴿مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله﴾ أي: ما بَتّ الله سبحانه في أمرهم بشيء؛ فلا بد من الانتظار إلى أن يأتي أمر الله، ويجب ألا نتعرض لهم حتى يأتي قول الله. وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا، في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ... ﴾
ونعلم أن الإنسان إذا شغله همّ يُحدّث نفسه بأن يترك المكان الذي يجلس فيه، ويسبب له الضيق، لعل الضيق ينفك. ولكن هؤلاء الثلاثة قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عليهم الأرض بسعتها، فلم يجد واحد منهم مكاناً يذهب إليه، وهذا معناه أن الكرب الذي يحيطهم قد عَمَّ، والإنسان قد تضيق عليه الأرض بما رحبت ولكن نفسه تسعه.
والحق يقول عنهم: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم أيضاً، فقد تخلف الثلاثة عن الغزوة، لا لعذر إلا مجرد الكسل والتواني، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المسلمين بمقاطعتهم، فكان كعب بن مالك يخرج إلى السوق فلا يكلمه أحد، ويذهب إلى أقربائه فلا يكلمه أحد، ويتسوَّر عليهم الحيطان لعلهم ينظرون إليه، فلا ينظرون إليه.
قال: إن هلالاً رجل شيخ، فماذا أقول لرسول الله وأنا رجل شاب؟ والله لا أذهب له أبداً.
وظل الثلاثة في حصار نفسي ومجتمعي لمدة خمسين يوماً إلى أن جاء الله بالتوبة، وفي هذا تمحيص لهم، فكعب بن مالك - على سبيل المثال - يقص عن حاله قبل الغزوة قائلاً: لم أكن قط أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة.
أي: أنه لم يكن له عذر يمنعه.
بعد ذلك يجيء البشير بأن الله قد تاب عليه، فيأتي واحد من جيل سَلْع
قال كعب: فلم أجد عندي ما أهديه له لأنه بشَّرني إلا ثوبيّ فخلعتهما وأعطيتهما له، ثم استعرت ثوبين ذهبت بهما إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال: يا رسول الله، إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي - الذي سبَّب لي هذا العقاب - صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه.
إذن: فتأخر الحكم كان المراد منه تمحيص هؤلاء، وإعطاء الأسوة لغيرهم. فحين يرون أن الأرض قد ضاقت عليهم بما رحبت، وكذلك ضاقت عليهم أنفسهم يتيقنون من قول الحق: ﴿وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ﴾ [التوبة: ١١٨]
أي: أن أحداً لا يجير إلا الله، وسبحانه يجير من نفسه. كيف؟ أنت تعلم أنك ساعة لا يجيرك إلا من يتعقبك، فاعلم أنه لا سلطان لأحد أبداً؛ ولذلك نقول: أنت تلجأ إلى الله لا من خلقه، ولكنك تلجأ إلى الله ليحميك من الله، فسبحانه له صفات جلال وصفات جمال، وتتمثل صفات الجلال في أنه: قهار، وجبار، ومنتقم، وشديد البطش، إلى آخر تلك الصفات. وفي الحق سبحانه صفات جمال مثل غفور، ورحيم، وغيرها، فإذا ما أذنب الإنسان ذنباً، فالمجال في هذه الحالة ان يُعاقب من صفات الجلال، ولا ينفع العبد وقاية من صفات الجلال إلا صفات الجمال.
أي: أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جلالك، فلن يحميني من صفات جلالك إلا صفات جمالك.
ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
«فإذا ما كان آخر ليلة من رمضان تجلَّى الجبَّار بالمغفرة.»
يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية، فكيف يتجلَّى الجبّار بالمغفرة؟ ألم يكن من المناسب أن يقال: «يتجلّى الغفّار» ؟ ونقول: لا؛ فإن المغفرة تقتضي ذنباً، ويصبح المقام لصفة الجبار، وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سُلْطتها، وكأننا نقول: يا جبار أنت الحق وحدك، لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صفات جلالك. هذا هو معنى: «يتجلى الجبار بالمغفرة».
وقد سمع الأصمعي - وهو يطوف - مسلماً عند باب الملتزم، يقول: اللهم إني أستحي أن أطلب منك المغفرة؛ لأني عصيتك، ولكني تطلَّعْتُ فلم أجد إلهاً سواك.
فقال له: يا هذا، إن الله يغفر لك لحُسْن مسألتك.
ويُنهي الحق الآية بقوله: ﴿إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم﴾ فلا توَّاب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ... ﴾
والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه، فيطلب منه الحق «دوام الإيمان». فإذا طلب الله من عباده ما كان موجوداً فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكماً يتعلق بالأيمان، فهو يوجّههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه: ﴿اتقوا الله﴾ [التوبة: ١١٩]
لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفات الجلال.
وهنا يقول الحق: ﴿اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾، وفسر بعض العلماء قوله: ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ بمعنى كونوا من الصادقين، أي: أن «مع» هنا بمعنى «من» والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليّاً عامّاً. لكني أقول: هنام فرق بين ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ و «كونوا من الصادقين»، فقوله الحق: ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أي: التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.
ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيُّ قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك: «محمد زارني»، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء في ذهنك أن تنطقها، وهذه «نسبة ذهنية». ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولاً بالنسبة الكلامية. فحين قلت: «محمد زارني بالأمس» ؛ جاءت في ذهنك قل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك.
وحين يمحّص السامع هذا القول؛ يعلم أن هناك واحداً في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك أنه قد زارك، وخبرته معك دائماً أنك صادق، إذن:
إذن: فهناك «نسبة ذهنية» و «نسبة كلامية» و «نسبة واقعية». فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية، فذلك هو الصدق، وإن لم تتطابق يكون الكذب.
وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة، والفيصل في هذا الأمر هو الواقع، هل يتطابق ما تقول أم لا؟. أما إن قلت لك: «زُرْ فلاناً» فهذه نسبة إنشاء؛ لأن الواقع يأتي بعدها، لا قبلها.
وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ والصدق هو الخَلَّة التي تجمع كل الإيمان، ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله، إن فيَّ خلالاً ثلاثة لا أقدر على التخلِّي عنها أبداً، أما الأولى فهي النساء، وأما الثانية فهي الخمر، وأما الثالثة فهي الكذب، وقد جئتك يا رسول الله، لتختار لي خصلة من الثلاثة وتقوِّيني عليها، وأعاهد ربنا عليها. فاختار رسول الله للأعرابي أن يتوب عن الكذب، وأن يتحلّى بالصدق، فقال له: كن صادقاً وما عليك. وحين أحب الأعرابي أن يشرب كأس خمر؛ تساءل: وماذا إن سألني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشربت الخمر؟ وامتنع عن الخمر حتى لا يكذب على الرسول. وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة؛ قال لنفسه: «وماذا إن سألني صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكيف أُخزي نفسي بصفة لا تليق بمسلم؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم، وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه. وحين سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم.
وقوله الحق: ﴿وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ أي: لا تقولوا كلاماً لا يصادفه الواقع، وكذلك إياكم أن تقولوا كلاماً تناقضه أفعالكم، لهذا يقول الحق سبحانه: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: ﴿لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاوة وَآتَى الزكاوة... ﴾ [البقرة: ١٧٧]
ولننتبه إلى الملاحظ الدقيقة في هذه الآية، فقد قال الحق هنا: ﴿وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى﴾ [البقرة: ١٧٧]
ثم ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلماذا إذن ذكر ﴿وَآتَى المال﴾ ؟ أقول: لقد ذكر الحق هنا المال الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضاً عليه إخراجه مثل الزكاة، فالزكاة واجبة، أما إيتاء المال تصدقاً، فهذا فوق الواجب.
ثم يقول سبحانه:
هذه هي صفات من صدقوا، وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد تصدقوا واتقوا.
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين﴾ [التوبة: ١١٩]
وقد جاء الحق بصفة «الصدق» هنا؛ لأن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات، وكذب في الأعذار التي افتعلها؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق.
يقول الحق بعد ذلك: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ... ﴾
وهنا يقول الحق: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله﴾ وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغزو.
ثم يقول سبحانه: ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ وهنا حديث عن نوعين من الأنفس: أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنت إذا قلت: «رغبت»، معناها: أنك ملتَ ميلاً قلبياً، فإن قلت: «رغبت في» كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أما إن قلت: «رغبت عن» وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى الابتعاد عن الفعل. إذن: فحرف الجر هو الذي يحدِّد لون الميل القلبي.
وقوله الحق: ﴿وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي: أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفضَّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحب إليكم من نفوسكم.
ولذلك نجد سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سمع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه»، فقال: يا رسول الله، أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا. «
وعلى سبيل المثال: فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيّاً، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيّاً وأميناً وناجحاً. وضربنا المثل من قبل وقلنا: إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ؛ لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو، ويسرّ بمن يأتي له به من البلاد الأخرى.
إذن: فالذين تخلفوا عن رسول الله من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما يأتي لهم بالخير.
أما اتباع حبهم لأنفسهم فهو حب ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور،
ثم يقول سبحانه: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ و ﴿ذلك﴾ إشارة إلى حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم ﴿لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته لِيبُلَّ ريقه، وريق زملائه.
﴿وَلاَ نَصَبٌ﴾ والنَّصَب: هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق.
﴿وَلاَ مَخْمَصَةٌ﴾ أي: المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كاناو قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمُنَّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.
﴿وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار﴾ نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن: فهم حين يطأون موطئاً، فهذا يغيظ الكفار.
﴿وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً﴾ أي: يأخذون من عدوٍّ منالاً، والمعنى: أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيِّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء موطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلاً. كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق: ﴿إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾.
إذن: فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم بخرجوا للغزوة قد
ويُنهي الحق سبحانه الآية: ﴿إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبداً.
ثم يأتي بأحداث أخرى غير الظمأ والنصب والمخمصة ووطء الموطئ الذي يغيظ الكفار، والنَّيْل من عدو الله نيلاً، فيقول سبحانه: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ... ﴾
وجاء قول الحق:
كانت تلك الحيثيات التي ترغِّب الناس في الجهاد ترغيباً يخرجهم عما ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية.
وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا: إنها تتمة لآيات الجهاد، وما دام الله قد رغَّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسقبل وحي الله.
لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يوحي به الله.
إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً، ومن السامعين لرسول الله ثانياً؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يُعْلِمون؟
إذن: فلا بد أن يحافظ الملسمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلاد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمراً واحداً، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله.
فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض، فقال: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾.
و ﴿كَآفَّةً﴾ مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول: «أريد أن أكفّف الثوب» معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن: فمعنى كلمة ﴿كَآفَّةً﴾ : جميعاً.
ولنا أن نتساءل: لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعاً، أليس الجهاد إعلاماً بمنهج الله؟
نقول: نعم هو إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لا بد أن تكون عنده حصيلة يُعْلم بها، وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من منهج السماء حين ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
إذن: فلا بد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض جميعاً، ولو انصرف كل هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام؛ لذلك قال الحق: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي: لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم.
ونحن نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن
أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يُعلِّمه الشعر؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلَّمه، لماذا؟ لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْتاض على صناعة البيان أساليب الأدب، وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، ويعلن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا البيان ليس من عنده.
وقد عاش الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعراً، فكل ما جاء به بلاغاً عن الله لا يُنسب لمحمد، ولكنه منسوب إلى رب محمد.
وقوله الحق: ﴿وَمَا يَنبَغِي لَهُ﴾ [يس: ٦٩]
أي: لا يصح أن يكون الأمر، رغم استعداد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، وكان من الممكن أن يعلِّمه ربه الشعر وفنون القول؛ ولذلك حينما قال أناس: إن القرآن من عند محمد، جاء القول الحق مبلِّغاً محمداً: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦]
وقد عاش بينهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أربعين عاماً ولم يقل قصيدة أو مقالة.
ومن الذي يستطيع أن يؤخر عبقريته إلى الأربعين؟ نحن نعلم أن ميعاد بَدْء العبقرية إنما يظهر من قبل العشرين، أي: في العقد الثاني من العمر، ولا أحد يؤخر عبقريته.
﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]
وفي هذا القول الكريم محافظة على أمرين؛ أمر استقبال وحي الله، وأمر الإعلام به، وبذلك يتنوع الجهاد، طائفة تستقبل، وطائفة تعلِّم وترسل؛ لأنهم لو تركوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جميعاً، فكيف يصل الوحي من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المؤمنين؟ ولو أنهم جلسوا جميعاً في المدينة فمن الذي يسيح في الأرض معلِّماً الناس؟ أما إذا بقي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون معه، في فترة لا قتال فيها، فهذا أمر مختلف؛ لأنها ستكون فترة استقبال فقط.
وكذلك إن خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن يصحبوه؛ لأن الرسول القادر على استقبال الوحي من الله موجود معهم، وكذلك الإعلام بالرسالة موجود.
إذن: فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع الخارجين للجهاد، فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد، وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة، فعليهم أن ينقسموا قسمين: قسماً يبقى مع رسول الله ليتعلم منهج الله، وقسماً يخرج إلى القتال.
حين كان الرسول يخرج إلى اقلتال فالمهمة تسمى غزوة، وإذا لم يخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأرسل جماعة للقتال سُمِّيت العملية ب «السَّرِية».
وقد خرجت المهمة عن اصطلاح السرية إلى اصطلاح الغزوة، رغم أن رسول الله لم يحضرها؛ لأن المعركة حدث فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات، فقد كانت معركة حاسمة وقُتل فيها عدد من المسلمين، وحمل الراية مقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل، فحملها ثالث، وكانت المعركة حامية الوطيس فقالوا: لا يمكن أن نسمي تلك المعركة ب «السَّرية» بل هي غزوة؛ لأن فيها عنفاً شديداً.
لم يلحظوا شيئاً واحداً وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام الانطباق على مؤتة؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان في المدينة والمسلمون خارجون للغزو وأرسل إلى القوات: إن مات فلان في القتال فيليه فلان، وإن مات فلان ففلان يخلفه، أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد سلسل أمور الغزوة قبل أن تبدأ.
وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات، من بين مثيلاتها، من الحملات المحددة التي لم يخرج فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع المقاتلين، وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعلم مُقدّماً بمن سيموت من هؤلاء الخارجين إلى القتال.
ثم وصلت الحملة إلى موقعها فسمعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتكلم؛ قال: أخذ الراية فلان
وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن الأمر قد دار كما رواه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المدينة، وقد حدث مطابقاً غاية التطابق، فقالوا: شهدها رسول الله؛ وما دام قد شهدها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهي غزوة.
ونعود إلى الآية التي يقول فيها الحق:
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين... ﴾ [التوبة: ١٢٢]
وساعة تسمع كلمة «لولا» فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظاً قريبة من بعضها، ف «لو» و «لولا» و «لوما» و «هلاَّ»، هي - إذن - ألفاظ واردة في اللغة، وإذا سمعت كلمة «لو» فهذا يعني أن هناك حكماً بامتناع شيئين. شيء امتنع لامتناع شيء، مثل قولك: «لو كان عندك زيد لجئتك» وهنا يمتنع مجيئك لامتناع مجيء زيد، فكلمة «لو» حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جئتني في بيتي لأكرمتك. إذن: فأنا لم أكرمك لأنك لم تأت.
وتقول: «لولا زيد عندك لجئتك» أي: أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد. إذن: ف «لولا» حرف امتناع لوجود. ونلحظ أن «لولا» هنا جاء بعدها اسم هو «زيد»، فماذا إن جاء بعدها فعل، مثل قولك: «لولا فعلت كذا» ؟ هنا يكون في القول حضٌّ على الفعل، مثل قوله الحق: ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً... ﴾ [النور: ١٢]
ومثلها أيضاً «لوما» مثل قوله الحق:
﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ [الحجر: ٧]
وأيضاً قولك: «هَلَّ». فهي أيضاً تحضيض مثل قولنا: «هلا ذاكرت دروسك» ؟ وأنت بذلك تستفهم ب (هل)، وجئت بالمد لتصبح (هلاَّ) ؛ لتحثه على المذاكرة. أو قولك: «هلا أكرمت فلاناً؟» وفي هذا حَثٌّ على أن تكرم فلاناً.
والأسلوب هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهم: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾، والقسمان يذهب أحدهما للإعلام وللجهاد. والقسم الثاني يظل مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يستقبل منهج السماء.
وقوله الحق: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ فيه كلمة ﴿نَفَرَ﴾ وهي من النفور. لكنها استعملت دائماً في مسألة الخروج للحرب، مثل قول الحق: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ... ﴾ [التوبة: ٣٨ - ٣٩]
ولماذا يجيء الحق بالنفرة في الجهاد؟ نقول: لأن الذي يعوق الإنسان عن
وفي ذكر أمر الكُرْه إنصاف لهم، فصحيح أن القتال أمر صعب ويكرهه الإنسان، لكن الحق قد كتبه، والمسلم إذا استحضر الجزاء عليه فهو يحتقر ما يتركه؛ لأنه قليل بالنسبة لعطاء الله؛ لذلك ينفر المؤمن الحق من الذي يملكه، ويذهب للثواب الأعلى، وهذا هو معنى التحديد في أنهم سمّوا الجهاد نفرة، فحين يقارن المؤمن بين حصيلة ما يأخذه من الجهاد وما يمسكه عن الجهاد لتساءل: ما الذي يجعلني أتمسك بالأقل ما دام هناك عطاء أكثر؟
فلما جاءت ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ﴾ فهموا أن هذه الآية من تتمة الكلام عن الجهاد، ولتبقى طائفة من المؤمنين؛ لتسمع من رسول الله الوحي، وقد يتساءل المسلم حين يقرأ الآية ويجد قوله الحق: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾، هنا يقول المسلم لنفسه: وهل تنفر الطائفة التي تتفقه في الدين، إنها الفرقة الباقية والمستقرة مع رسول الله في المدينة؟
ونجيب: إن قول الحق: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ نجد فيه كلمة ﴿فِرْقَةٍ﴾ وهي الجماعة، والجماعة إنما تنقسم إلى طوائف. مثلما نسمي في الجيوش «الفرقة الأولى» و «الفرقة الثانية» و «الفرقة الثالثة»، ثم تنقسم الفرقة الواحدة إلى: «جماعة الاستطلاع» و «جماعة التموين» و «الشئون المعنوية»، ونجد كلمة ﴿طَآئِفَةٌ﴾ وهي تعني «بعض الكثرة».
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ يبين أن طائفة منهم تكون قتالية والأخرى إعلامية مهمتها ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ﴾ فمن يجلس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستمع إليه، فهو يجهز للمقاتل حيثيات ما يجاهد على مقتضاه، وحين يرجع المقاتلون يُبلِّغهم من جلس مع الرسول ما نزل عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وحي، ويتناوب المسلمون الجلوس مع الرسول في المدينة، والقتال، وكل طائفة تؤدي مهمتها.
وهناك من العلماء من رأي رأياً آخر، وأخذ المسألة كلها مكتملة على بعضها، وقال: إن من بقي مع رسول الله له لون آخر من المجاهدة، ولأنه يأخذ من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علْماً جديداً، يتبادله مع المقاتلين في ساحة القتال بعد أن يعودوا، فالمقاتلون في ساحة الجهاد يعودون بما يؤكد نصرة الله للقلة على الكثرة، وإمداد الله سبحانه للمؤمنين بالملائكة، وتهدم العدو، والمعجزات التي رأوها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنبوع الماء من بين أصابعه في حال قلة المياه عند العطش.
ثم إنهم يسمعون من المجاهدين الجالسين لتلقي العلم أخبار الوحي والفقه، وهكذا يتكافأ المؤمنون في المهامن وكأنهم البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً.
وما تقدم فهو فهم للآية إذا كانت خاصة بالجهاد، فماذا إذا كان للآية موضوع آخر غير الجهاد؟ نقول: إن الجهاد إعلام بمنهج الله في الأرض،
﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ أي: يذهب بعض المسلمين إلى البلاد التي حول المدينة؛ ليقولوا للناس حقيقة الإسلام، وأيضاً أن يأتي آخرون من البلاد الأخرى لِيَعْلَمُوا أمر الدين، ويعلموه لأهاليهم.
ويكون قول الحق: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ مقصود به هؤلاء الذين يأتون من الأماكن البعيدة عن المدينة؛ ليجلسوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليسمعوا، ويتفقهوا في الدين؛ ليرجعوا إلى مجتمعاتهم، ويعلموهم أمور الإيمان.
إذن: فالآية إما أن تكون من تتمة آيات الجهاد، وإما أن تكون أمراً مستقلاً للذين يبعد بهم المكان عن منبع المنهج، وهو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلِّم من يأتون إليه من أي مجتمع؛ ليرجعوا بعد ذلك لقومهم، ويبلغوهم مطلوبات المنهج، وهذه مسألة بعيدة عن القتال.
إذن: تكون النفرة للتفقه في الدين على أي معنى، ليس هناك فرق بين الطائفة الباقية التي تتفقه؛ لتعلِّم الطائفة التي تجاهد، أو الطائفة التي تجاهد تتفقه بالمعجزات وبالأحداث التي حدثت أثناء قتالهم وتعلمها للطائفة التي لم تخرج للقتال.
أو أن المعنى هو الأمر الثاني الذي لا قتال فيه، بل يتناول أمر استقبال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لطائفة من كل بلد ليسمعوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد سماها الحق «نفرة» ؛ لأنها جهاد في البحث في المنهج وتعلمه، وهي نفرة النفرة؛ لأن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فهماً لحيثيات الدفاع عن هذا المنهج المنزَّل من الله.
وقد جاءت الآية صريحة في أنه ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ والفرقة أقلها ثلاثة، والطائفة إما أن تكون اثنين وإما أن تكون شخصاً واحداً يرجع إلى قومه؛ ليفقههم في الدين، ويؤدي البلاغ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وتحفَّظ البعض على ذلك بأن قالوا: إن الذي نفر ليس فرداً من الفرقة، بل طائفة من الفرقة، ومفردات الفرقة طوائف ولا واحد، وكلمة طائفة مقصود بها الجماعة.
والنفرة لها علة محددة يذكرها الحق: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ فالتفقُّه إذن هو سبب النفرة، مثلما نبعث بعثة في أي بلد متقدم؛ لنأخذ بعلوم الحضارة، فإن خرج واحد عن حدود البعثة؛ ليلعب، ويلهو، فهو لم يحقق النفرة. لا بد إذن من ان يستوعب كل واحد في البعثة أنه قد جاء للتفقه.
والفقه في اللغة: هو الفهم، ويقال عن أي أمر تفهمه: فقهتُ الأمر
إذن: الفقه مطلقاً هو الفهم، لكنه أصبح مصطلحاً يعني فهم أحكام الله؛ لأنه هو الذي يحدد الصواب والخطأ. ولا يقال: «الفقيه» إلا لمن فَقُه. وهناك فرق بين فَقه وفَقُه. فَقُهَ في دين الله، أي: أصبح الفقه عنده ملكه، وساعة تسأله في أي موضوع لا يتردد، بل يجيب؛ لأن الفقه صار ملكه عنده، والملكة: الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل.
وكذلك الفقه. وهكذا نعرف أن معنى فَقِهَ: «فهم شيئاً». أما فَقُهَ فمعناها: صار الفقه عند مَلَكَة.
وقوله الحق: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ﴾ أي: ليعلموا أحكام الله، ويصير هذا العلم: من بعد ذلك مَلَكَة عندهم.
ولكنْ ماذا إن نفروا لشيء آخر مثلما ينفر واحد من البدو ليسأل جماعته: إلى أين تذهبون؟ فيجيبون: نذهب إلى رسول الله لنسمع منه، فيذهب معهم. لكنه لا يسمع بل يذهب هنا أو هناك، ولا يجلس لتفقُّه العلم، على الرغم من أن علّة نفوره مع غيره هي التفقّه في الدين؛ وليعلم حقائق هذا الدين؛ لينذر به قومه حين يعود إليهم، فالفقيه لا يطلب جاهاً، أو رئاسة، أو وظيفة، بل هو يبين للناس متطلبات الحركة على هذا المنهج الحق، ولينذرهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ أي: يتجنَّبون ما يضرُّهم.
وحين ندقق في هذا الأمر نجده عدة مراحل: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ﴾ هذه هي المرحلة الأولى، ثم ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين﴾ هذه هي المرحلة
إذن: فالتفقه يكون للدعوة تبشيراً وإنذاراً؛ حتى يتجنب القوم ما يضرهم.
ويقول سبحانه بعد ذلك: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ... ﴾
وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين: فرقة تنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تَتَعَلم وتعلُّم، وتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ﴾ وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال: ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً... ﴾ [التوبة: ٣٦]
إذن: فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك تأمين معسكر الإيمان؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم. فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك «كماشة» بلغة الحرب، فلا بد أن تحمي ظهرك أولاً، من شر العدو الأقرب.
إذن: فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تَعارض بين قوله الحق: ﴿قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً﴾ ؛ لأن معنى ﴿كَآفَّةً﴾ أي: جميعاً، ولكن الجماعة لها أولوية. فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه.
ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار: اعتبروا أيها الكفار، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم، وما ينقص من
﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ والغلظة صفة، ويقال: غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَة، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة.
وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين؛ في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف. إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك، وغلظة تتحمَّل من عدوّك.
ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيه الحق: ﴿اصبروا... ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]
ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً، فيأتي الأمر من الحق: ﴿وَصَابِرُواْ... ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]
أي: حاول أن تغلبه في الصبر. وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء
أي: استقر أيها المؤمن في الأرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى. إذن: فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمّل، والتحمُّل يقتضي صبراً، والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن تصابره أي: تصبر أكثر منه، وهي مأخوذه في الأصل من «نافس فلان فلاناً.. أي سابقه وحاول أن يسبقه»، والمنافسة من النفس، والحق يقول: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾ [المطففين: ٢٦]
أي: تنافسوا في الخير، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً. فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر. أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان.
وقلنا قديماً: إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك
وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله. وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه: ﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك تَطَلّبَ الأمُر فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا: إن الله
﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ... ﴾ [الفتح: ٢٩]
وقال: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين... ﴾ [المائدة: ٥٤]
ويُنهي الحق الآية:
﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾. إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان. ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحاري مقفرة أو طريقاً موحشاً، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح؛ فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة.
أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى. وما دام الله مع المتقين، ولله معيَّة مع المتقين فلا بد أن يمدهم بمدده؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله: ﴿أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم، فيدخل على الكافرة بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان، فيقول: أسلمت واستسلمت، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر، ويعتبرها مغنماً.
إذن: فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة. فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة؛ فلا بد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة.
ولذلك يقولون: الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كميًّ وفي البيت صبيّاً، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها.
هكذا نفهم قوله الحق:
﴿ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾ [التوبة: ١٢٣]
أي: كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن
ويقول سبحانه بعد ذلك: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ... ﴾
وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل - عليه السلام - بالقرآن على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والحق سبحانه يقول: ﴿وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ... ﴾ [الإسراء: ١٠٥]
وفي آية أخرى يقول سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الروح الأمين﴾ [الشعراء: ١٩٣]
وتتابع الآية: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.
وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل - ولله المثل الأعلى - أنت تأتي بمطرقة مثلاً، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.
إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لا بد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد
وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ. هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.
فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لا بد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.
إذن: فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر: ﴿وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ... ﴾ [التوبة: ٩٣]
إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.
ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه.
إذن: لا بد أن تخرج ما في ذهنك أولاً؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم
ويقول: ﴿والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... ﴾ [فصلت: ٤٤]
إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ﴾ وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.
فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام على كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازدادت يقيناً.
أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولاً، ثم ينفذ متطلبات الآية.
وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا: ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟ لا بد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله
ويرد الحق سبحانه:
﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ و «يستبشر» أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من الله
هذا هو معنى «يستبشر».
أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: ﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم... ﴾
فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة رجساً. والخمر أيضاً نجاسة حسية ورجس. وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه... ﴾ [المائدة: ٩٠]
إذن: فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضاً، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته.
وفي ذلك يقول الحق: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان... ﴾ [الأنفال: ١١]
وهنا يقول الحق: ﴿وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ﴾ ولأنهم يكفرون بالله وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجساً على رجسهم ويصبح كفرهم مركَّباً، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
الأصل في الفتنة أنها امتحان واختبار، وهي ليست مذمومة في ذاتها، لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي منها، فالامتحان - أي امتحان - غير مذموم، لكن المذموم هو أن يرسب الإنسان في الامتحان. إذن: الابتلاء أو الفتنة في ذاتها ليست مذمومة، إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي، وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين وغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وكان يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا عرقلة سير الإسلام؛ لأنه منتصر بالله. وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير الإسلام،
ونحن نعلم أن الإسلام بدأ بين الضعفاء إلى أن سار الأقوياء إليه، وتلك سنة الله في الكون، بل إننا نجد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بدء الرسالة كان مطلوباً منه أن يؤمن بأنه رسول. وكما تقول أنت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، كان على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيضاً أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وسبحانه جل شأنه، الخالق الأكرم، آمن بنفسه أولاً، بدليل قوله سبحانه: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ... ﴾ [آل عمران: ١٨]
فأول شاهد بالألوهية الحقة هو الله، وقد شهد لنفسه، ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه سبحانه يزاول قيوميته وطلاقة قدرته بكلمة «كن» وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعاً، وكان لا بد أن يعلمنا أنه آمن أولاً بأنه الأول، وأنه الإله الحق، بحيث إذا أمر أي كائن أمراً تسخيرياً فلا بد أن يحدث هذا الأمر، وسبحانه لا يتهيب أن يأمر؛ لذلك قال لنا: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، وحين يشهد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رسول الله فهو يؤمن بأنه رسول، ولو لم يؤمن برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة، وبعد أن آمن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رسول من الله جاءه التكليف من الحق: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: ٢١٤]
وظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى الإسلام، ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات الدفاع عن دين الله، وقال الحق:
إذن: في البداية كان لا بد أن يؤمن أنه رسول، وأن يبلغ الدعوة إلى قريش وسائر الجزيرة، وتعبر دعوته بعد ذلك من الجزيرة إلى الشام، وتتعدى الرسالة الشام بالإعلام في كل بقاع الأرض، ولذلك كانت الرمزية في إرسال الكتب: كتاب لفلان وكتاب لفلان؛ ليفهم العالم أن دعوة النبي صلى الله بالإيمان والإسلام دعوة متعدية؛ لأنها خالفت دعوات الرسل عليهم السلام، فقد كان رسول إنما يعلم أن حدود دعوته هي أمته.
أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد كانت لرسالته مراحل: آمن بذلك أولاً، ثم دعا الأقربين، ثم من بعد ذلك قريش، ثم أبلغ العرب، ثم الشام، وتعدت الدعوة بالكتب إلى جميع الملوك في العالم، وصارت أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مؤتمنة على حمل الدعوة ونشرها في أي مكان ومعها حجتها وهي القرآن.
وشاء الله أن يختم رسول الله الرسالات، وأرسله بالإسلام الذي يغلب الحضارات، رغم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمة أمية لا تعرف شيئاً؛ حتى لا يقال عن
إذن: فالمسألة كانت مسألة قبيلة، يحكمهم واحد منهم هكذا، دون تمرس بالنظم الاجتماعية، ولم يعرفوا شيئاً قبل الإسلام، بل هم أمة متبدية لا شأن لها بالنظم السياسية أو الاقتصادية، وطن الواحد منهم جمله وخيمته وبضعة أدوات تعينه على الحياة، وتستقر كل جماعة في أي مكان يظهر به العشب ويوجد به الماء، وبعد أن تأكل الأغنام والأنعام العشب، ينتقل العربي مع جماعته إلى مكان آخر، بعد أن ينظر الواحد منهم إلى السماء؛ ليعرف مسار الغمام وأين ستمطر السحب، ثم ينساح هؤلاء بالدعوة بعد ذلك، فلو كان لهم انتماء إلى وطن أو بيت أو مكان لصار الرحيل صعباً عليهم، لكنهم كانوا متمرسين بالسياحة في الأرض.
والآية التي نحن بصددها تكشف ضعف إيمان البعض، ونفاق البعض، فيقول الحق: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي: كان لا بد أن يتوبوا أو يتعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضد الإسلام لم ولن يحجب الإسلام وأنهم سينسحقون ويضيعون، فلماذا لا يتذكر كل منهم تفسه، ويرى مصلحته في الإيمان.
ويقول الحق بعد ذلك: ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى... ﴾
أي: أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب ﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً﴾ فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة.
لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان فيه هذه الكلمة: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه، فتجده يعبر بانفاعالات وجهه عن عدم رضاه.
إذن: فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد تساءلوا: هل يراكم من أحد؟ زمثلها مثل قولك: ما عندي من مال؟ أي أنك لا تملك بداية ما يقال عنه مال، والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول: هل يراكم أحد.
إن قوله الحق: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل:
وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها.
وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله: من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا: ﴿لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن﴾، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل طلبوا من الأتباع ان يلغوا فيه، أي: أن يشوشوا عليه: ﴿والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ... ﴾ [فصلت: ٢٦]
إذن: لا غلبة لهم مطلقاً إلا بعدم الاستماع إلى القرآن، أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلاء المنافقين:
﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ﴾ كانوا يقولون ذلك؛ لأنهم كمنافقين سبق لهم إعلان الإسلام، وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام الإيمان، وكانوا يصرون على الوقوف أثناء الصلاة في الصف الأول؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وكما
وينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: ﴿هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا﴾ لأنهم لا يطيقون الجلوس إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو إلى المؤمنين. وينهي الحق الآية:
﴿صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ وذلك نتيجة لانصرافهم نفسيّاً إلى النفاق؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان؛ فليذهبوا بعيداً عنه، فالحق لهم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد: إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا؟ لأنهم ﴿قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ أي: لا يفهمون.
والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم. فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تَفَهُّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك قد لا تفهم أنت بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. ولكن قد يقول قائل: ما داموا لا يفقهون فما ذنبهم؟ ونقول: الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، لكن هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلَّموا، وأصروا على عدم قبول العلم.
وبعد ذلك يتأتى ختام سورة التوبة.
والسورة بدأت بالقطيعة: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين﴾ [التوبة: ١]
إنك مثلاً إن رأيت عدوّا ضرب ابنك وجرحه، يكون وقع هذا الأمر شديداً عليك؛ لأنه عدو. لكنك إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للابن، فأنت تقبل ذلك؛ لتزيل عن ابنك خطراً. إذن: فهناك فارق بين جرح عدوك لابنك وجرح الطبيب له رغم أن الإيلام قد يكون واحداً.
إذن: لا ترفض الأمور الشاقة عليك لمجرد ورود المشاق عليك، ولكن اعرف أولاً من الذي أجرى المشاق عليك، فإن كان ربك، فربك بك رحيم. وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول وطبيقها؛ لأنها من حبيب يريد لك الخير.
وهنا يقول الحق: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ... ﴾
وكلمة ﴿رَسُولٌ﴾ تدل على أنه ليس من عنده، وكلمة «جاء» تدل على أن الشحنة الإيمانية جعلت لذاته عملاً، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعشق الجهاد من أجل الرسالة، ويعشق الكفاح من أجل تحقيق هذه الرسالة.
إذن: لا تنظروا إلى ما جاءكم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظرتكم إلى الأمور الشاقة التي تتعبكم، ولكن انظروا ممن جاءت، إن كانت من الأصل الأصيل في إرسال الرسل، فالرب رحيم، خلقكم من عدم وأمدكم من عدم، ويوالي نعمة عليكم حتى وأنتم في معصيته. فأنت تعصاه ويحب الله سبحانه من يستر عليك، فلا تشك ولا تتشكك. وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب فلا تقل: إنها مشقة. فأنت - ولله المثل الأعلى - تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه، وتراجعها معه قهراً عنه في بعض الأحيان، وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيع الطبيب حقنة من الدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء.
وهنا يقول الحق سبحانه: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي: أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان غريب عنكم، بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم. ولقوله الحق: ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ معان متعددة، فمرة يكون معناها ب «من جنسكم»، مثلما قال الحق عن حواء: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا... ﴾ [النساء: ١]
أي: خلق حواء من نفس جنس آدم البشري، فلا يقولن أحد: كيف بعث الله لنا بشراً رسولاً؟ لأن الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس؛ ولذلك يؤكد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بشريته أكثر من مرة وفي مواقع كثيرة. والقرآن يقول: ﴿وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً﴾ [الإسراء: ٩٤]
إذن: فبشرية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تؤخذ على الله، ولكن تؤخذ لله؛ لأنه أرسل واحداً من نفس الجنس؛ ليكون قادراً على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة.
ولذلك قال سبحانه:
وقوله الحق: ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي: من جنس العرب، ولم يأت به من الروم أو من فارس، لكن اختار لكم من هو أعلم بطبائعكم. أو أن معنى ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي: من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش.
أو أن ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ تعني: أنكم تعلمون تاريخه، وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للأرض، كما تحمل أماناتكم من الأرض للأرض؛ ولأن هذا هو سلوكه، فهو قادر على أن يتحمل أمانة السماء للأرض. ولقد سميتموه الصادق الأمين، والوفي، وكلها مقدمات كانت توحي بضرورة الإيمان به كرسول من عند الله. وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم، فمجيئة كرسول إنما يرفع من ذكركم، ويعلي من شأنكم. فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام، وقد جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ليزيد من رقعة السيادة لكم، فإذا كنتم قبل بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سادة البيت، فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم.
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: ٤٤]
فهو نبي الله للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش، وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها، لكن الله لم يشأ ذلك؛ لأن قريشاً قبيلة قد ألفت السيادة على العرب، وهذا جعل العرب يعملون لها حساباً، وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية، وكانت لها مهابة هائلة؛ لأن كل العرب مضطرون للحج إلى الكعبة، وأثناء الحج تكون القبائل كلها في
وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت الله الحرام؛ ولذلك شاء الحق ألا يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش، فلو انهدم البيت الحرام وانصرف الحج إلى اليمن كما كان يريد أبرهة، فمن أين تأتي السيادة لقريش؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومه: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ [الفيل: ٥]
وأتبعها بقوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف﴾ [قريش: ١ - ٢]
وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي أمره في الآية التالية: ﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣ - ٤]
وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً يدعو أولاً الصناديد، والقبيلة ذات المهابة والمكانة، وأن تكون الصيحة الإيمانية في آذان سادة الجزيرة الذي تهابهم كل القبائل، حتى لا يقال: إن محمداً قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم، لا، بل جاءت دعوته في آذان الصناديد، والسادة، وسفه أحلامهم، وحين رفضوا دعوته هاجر، ثم جاءه الإذن بقتالهم، ولم تأت نصرة الإسلام من السادة، بل آمن به الضعاف أولاً، ثم هاجر إلى المدينة؛ لتأتي منها النصرة.
هكذا نفهم معنى: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ أي: مرسل من الله و ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ بكل ما تعنيه مراحل النفس، وهو مبلغ عن الله، فلم يأت بشيء من عنده، بل كل البلاغ الذي جاء به من ربه، والرب بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السموات والأرض. وسبحانه يقول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ [الزخرف: ٨٧]
ويقول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله... ﴾ [لقمان: ٢٥]
إذن: فالمخلوق هو الخليفة الإنسان، وما خلقه الله في الكون، إنما خلقه لخدمتكم كلكم، وأنتم تقرون ذلك، فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم، وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم، وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف، واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له، إذن: فالله الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم، لا بد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يأت من جنس الملائكة، بل هو بشر مثلكم، فإذا قال لكم: افعلوا كذا وكذا وأنا أسوة لكم في الفعل، فلا تتعجبوا، لكن غبار الكافرين بالله جعلهم يريدون أن يكون الرسول ملكاً، فقال الحق:
أي: إن كنتم تريدون مَلَكاً، فالملك له صورة لا ترونها، ولا بد أن نجعله ملكاً في صورة بشر؛ ليخاطبكم، إذنك فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل؟ ثم إن الملائكة بحكم الخلق: ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]
فإذا قال لكم الرسول الملك: أنا أسوة لكم في العمل الصالح، أكانت تصح الأسوة؟ من المؤكد أن بعضنا سيقول: لا، لن تنتفع الأسوة؛ لأنك مَلَك مطبوع على الخير، وليس لك شهوة بطن، ولا شهوة فرج، إذن: فأسوتنا بك لا تصلح.
إذن: فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولاً من أنفسكم، ومن قبيلتكم، ومن العرب، لا من فارس والروم، وهو يخاطبكم بلغتكم؛ لأنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة؛ فلا بد أن يأتي الرسول بلسانكم، وجاءكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالأنس والألفة؛ لأن من قريش التي لها بطون في كل الجزيرة ولها قرابات، وأنس وألفة بكل العرب، وأنس ثالث أنه من البشر، وجاء به الحق سبحانه فرداً من الأفراد، محكوم له بالصدق والأمانة قبل أن يبلغكم رسالته من الله.
إذن: فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم، فاستصحبوا كل هذه الأشياء؛ لتردوا على أنفسكم: هو بشر وليس مَلَكاً. هو من العرب
وقرأ عبد الله بن قسيط المكي هذه الآية: ﴿مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ أي: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمقياس البشري هو من أقدركم وأحسنكم. ولذلك حينما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدعوة عن الله، هل انتظرت سيدتنا خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أن يأتي لها بمعجزة؟ هل انتظر أبو بكر أن يأتي له بمعجزة؟ لا، لم ينتظر أحدهما لأن كلاّ منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي.
وحينما قال لخديجة: «يأتيني ويأتيني ويأتيني» وكانت ناضجة التكوين والفكر والعقل، وعلمنا مما قالت لماذا اختار الله له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاماً، وعمرها أربعون سنة، مع أن المألوف أن يحب الإنسان الزواج ممن هي دونه في العمر.
لكن المسألة لم تكن زواجاً بالمعنى المعروف، لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف، ففي فترة هذا الزواج ستكون الفترة الانتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء، وهذه فترة تحتاج إلى قلب أم، ووعاء أم تحتضنه وتُربِّت عليه.
فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخديجة لشكت في قواه العقلية، لكن خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضاً عقليّاً بحتاً. فحين قال لها: أنا أخاف أن يكون الذي يأتيني رئي من الجن. قالت
إذن: فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة.
وكذلك أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، حينما قالوا له: إن صاحبك يدعي أنه رسول. قال: أهو قالها؟ قالوا: نعم. قال: إنه رسول من الله لأنه لم يكذب طوال عمره.
وبعد ذلك يقول الحق: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾. وكلمة ﴿عَزِيزٌ﴾ أي: لا يُنال ولا يقدر عليه أحد، والشيء العزيز أي نادر الوجود. وقد تقول لإنسان: «قد تكن وزيراً» ؛ فيصمت رجاء، لكن إن قلت له: «ستصبح رئيس وزراء» فيقول: هذه مسألة مستعصية وكبيرة عليَّ بعض الشيء.
إذن: فالعزة تأتي لامتناع شيء إما لقدرته، أو عزيز بمعنى نادر، أو يستحيل. والعزيز - هو الأمر الذي يعز على الناس أن يتداولوه، فيقال: «عز عليّ أن أصل إلى قمة الجبل». ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ﴾ أي: شاق عليه أن يعنتكم بحكم؛ فقلبه رحيم بكم، وهو لا يأتي لكم بالأحكام
ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها.»
فإذا كان الرسول صفته أنه من أنفسكم أو من أنفسَكم أو يحبكم حبّاً يعز عليه أن تكونوا في مشقة. إذن: فخذوا توجيهاته بحسن الظن وبحسن الرأي فيها، وذلك هو القانون التربوي الذي يجب أن يسود الدنيا كلها. فقد يقسو والد على ولده بأوامر ونواه: «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» لا تذهب إلى المكان الفلاني، ولا تجلس إلى فلان، ولا تسهر خارج المنزل بعد الساعة كذا.
كل هذه أوامر قد تشق على الولد فنقول له: مشقة التكليف ممن صدرت؟ لقد صدرت من أبيك الذي تعرف حبه لك، والذي يشقى ليوفر لك بناء المستقبل، ويتعب؛ لترتاح أنت، فكيف تسمح لنفسك أن تصادق صعاليك يخرجونك عن طاعة أبيك إلى اللهو وإلى الشر. وانظر إلى والدك الذي تحمل المشقة حتى لا تتحمل أنت المشقة، ويشق عليه أن تتعب فهو أولى بأن تسمع كلامه.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عزيز عليه مشقتكم، والمشقات أنواع: مشقات في الدنيا تتمثل في التكاليف التي يتطلبها الإيمان، ولكنها تمنع مشقات أخلد
ولذلك يقول الحق في تصوير هذه المسألة بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً﴾ [الكهف: ٦]
لماذا؟ لأنك تعرف يا محمد أنهم إن لم ينتهوا فسوف يجدون العنت كله في الآخرة.
أو أن مشقة الآخرة هي التي يجب أن نتلافاها، وأن نتحمل المشقات الزائلة العرضية التي تورد ثماراً.
فنحن قد نجد الرجل يقول لابنه مثلاً: اخرج إلى الحقل، واحمل السباخ فوق الحمار واحرث وارْو، كل هذه مشقات ستجد لذتها يوم الحصاد، وتعطيك الأرض من خير الله كذا إردب قمحاً أو غير ذلك. ولو ترك الأب ابنه لكسله فهذه هي المشكلة الأكبر، وحث الأب لابنه على العمل هو دفع لمغبة الضياع.
وقد يأخذ الأب ابنه للطبيب، ويجد الطبيب مشغولاً، ويرجوه الأب أن يجري للابن جراحة تنجيه وتنقذه من خطر رغم أن الأب يعلم أن الطبيب سيستخدم مع ابنه أدوات جراحية كالمشارط وغيرها، ولكن ليعلم الابن أن
واعلم أن والدك حين يصرفك عن أصدقاء السوء - مثلاً - فهو يرد عنك مصارف الشر؛ لأنك إن اجتهدت في عملك؛ فسوف تحصد النتيجة الطيبة، أما إن اتجهت إلى مصارف الشر فسوف تُشَرّد وتجوع، وسوف تدق باب بيت أبيك. وعندئذ ستسمع مثلاً عاميّاً يلخص الحكمة التي تقول «من يأكل لقمتي فليسمع كلمتي».
وهنا يقول الحق: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾ ومعنى الحرص: أن يحوطكم بالرعاية؛ حتى لا تقعوا في المشقة الأكبر. ولذلك قلنا: إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد صوَّر هذه المسألة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار - أي أمسككم من خلفكم حتى لا تذهبوا إلى النار - وأنتم تفلتون من يدي»
والحق يُسَرّي عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ﴾ [الكهف: ٦]
ويقول الحق أيضاً لرسوله: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ٣]
أي: إياك أن تحزن أنك حريص على أن يؤمنوا؛ لأن الحق سبحانه يقدر أن ينزل عليهم آية تجعل رقابهم خاضعة، ولكن الرب لا يريد رقاباً تخضع؛ وإنما يريد قلوباً تخشع.
﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
والرأفة والرحمة قد تلتقيان في المعنى العام، ولكن هناك أموراً تسلب مضرّة، وأموراً تجلب منافع. وسلب المضرّات - دائماً - مُقدّم على جلب المنافع، فحين نواجه عملاً يضر وعملاً ينفع؛ نُقدم على العمل لدرء ما يضر، ثم ننجز العمل النافع.
وساعة يطرأ عليك أمر يضر، وأمر ينفع، وأنت في حال متساوية ولا بد أن تدرأ عن نفسك الأمر الضار الذي يخرجك عن الاستواء، ثم تقبل على الأمر الذي يزيد من الارتقاء.
وحتى نقرب هذه المسألة إلى الذهن، سأضرب هذا المثل الحسّي: هَبْ أن واحداً معه حجر يريد أن يضربك به، وآخر يريد أن يقذفك بتفاحة، فهل تنشغل بالتقاط التفاحة أو تنشغل برد الحجر؟ إنك تنشغل أولاً بدرء الضرر، ثم تقبل على جلب المنفعة.
إنك تنقذه أولاً، وبذلك تكون قد قدمت الإحسان بدفع المضرة أولاً، وحتى إن عاقبته فهو يتقبل منك العقاب أو النهر؛ لأن صنيعك أنقذه من الموت.
والحق يقول: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ... ﴾ [آل عمران: ١٨٥]
إذن: فمراحل الفوز أن يُزْحزح الإنسان أولاً عن النار، ففي هذا سلب للمضرَّة، وجلب للمنفعة، وإن ظل الإنسان في موقعه لا هو في الجنة ولا هو في النار؛ فهذا هين أيضاً. وإن أدخل الجنة فهذا هو الخير كله.
وإذا كانت هذه هي بعض من خصال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾، و ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾، و ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ﴾، و ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، فهذه خصال إن استوعبها الإنسان فهو يندفع إلى اتباع هذا الرسول.
وقوله الحق: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ نرى فيه الوصف ب «الرءوف» والرأفة هي سلب ما يضر من الابتلاء والمشقة، و «رحيم» هو الذي يجلب ما ينفع من النعيم والارتقاء.
وحسبكم من هاتين الصفتين أن الله سبحانه وتعالى وصف رسوله بهذين
إذن: فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسلك بما عنده، بل يسلك برأفة مستمدة من رأفة العل الأعلى، وكذلك رحمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستمدة من رحمة العلي الأعلى. وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا أنه أعطى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعضاً من الصفات التي عنده، فكما يبلغكم المشقات في التكاليف، فهو يبلغكم السلامة من المشقات في الرأفة، وترقية المنعمات بالرحمة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٨٢]
ونعلم أن الشفاء إنما يكون من المرض، أي: أن القرآن يسلب المضرة أولاً، ثم يأتي لنا بالمنفعة بعد ذلك وهي الرحمة.
وقوله الحق: ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ هذا القول خلاصته: إن استقبلتم مشقات التكليف من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فاعلموا ممن جاءت هذه المشقات، واعلموا أن مجيئه بها إنما هو ليرفع عنكم مشقات أكبر وأخلد؛ لأن مشقات التكليف تنتهي بانتهاء زمن التكليف وهو الدنيا، ثم يذهب المؤمن إلى الجنة ليحيا بلا تكليف، وما يخطر على باله من أشياء، يجده فوراً؛ بدءاً من الطعام والشراب وجميع ما خلقه الله لأهل الجنة من نعيم.
وهكذا نجد الحق سبحانه وتعالى قد جاء في هذه السورة بمشقات التكليف، والثواب عليها وطمأن المؤمنين بان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتميز بكل المواصفات الموحية: من أنه بشر، وأنه حريص عليهم، وأنه لا يكلفهم إلا بالمشقات التي تنجيهم من المشقات الأبدية، وأنه رءوف بهم ورحيم.
فإن استعموا إلى هذه الحيثيات وآمنوا، فأهلاً بهم في معسكر الإيمان، وإن تولوا ولم يسمعوا لهذه الحيثيات ولم يدخل القرآن قلوبهم، فإياك أن تظن - يا رسول الله - أنك منصور بهم؛ لأنك منصور بالله، فإن تولوا عنك وأعرضوا عن الإيمان بالله، وأعرضوا عن الاستماع لك، فاعلم أن ركنك الشديد هو الله، لذلك يختم الحق السورة بقوله:
وحين تعلن: ﴿حَسْبِيَ الله﴾ بعد أن كذبوك، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك ﴿حَسْبِيَ الله﴾ ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح، ولله المثل الأعلى - أنت تقول: «حسبي نصرة فلان» ؛ لأنك تثق في قدرة فلان هذا، ولكن القوة في الحياة أغيار، وحين تقول: ﴿حَسْبِيَ الله﴾ فلا إله غيره سبحانه، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره.
وقل ﴿حَسْبِيَ الله﴾ برصيد ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ و ﴿لا إله﴾ نفي، و ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ إثبات، إذن: ففي هذا القول: ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ نفي منطقي مع سلب، وإثبات منطقي مع الإيجاب، وهنا نفي أيِّ ألوهية لغير الله، والاستثناء من ذلك هو الله، ورحم الله شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير، فقال:
إنَّما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ | فيهما للنفسِ عزمٌ ومضاءُ |
وساعة نقول ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ نكون قد أثبتنا الألوهية لله، وأثبتنا أن لا شريك له، وأثبتنا ألا إله غيره، وسبحانه يقول:
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ وهذا أمر طبيعي، ويمكن أن نعرفه بالحساب؛ ولذلك جاء ب ﴿حَسْبِيَ﴾ من الحساب. واحسبها فلن تجد إلا الله. وما دام حسبك الله ولا إله إلا هو، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله، وأن تتوكل عليه سبحانه.
وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو، والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيَّته سبحانه، ومعيّة الله مرحلتان: الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك، فأنت تلجأ إلى مسبِّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود.
وترى - مثلاً - الناس وهي تحتاج إلى المياه؛ لأنها ضرورة للحياة؛ فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر؛ لأن المياه التي تأتي من جوف الأرض لم تعد تتسرب إليه، ولماذا؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد، ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء؛ لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر.
وإذا جفَّت الآبار المحيطة بنا، هل نيأس؟ لا؛ لأن ربنا بيَّن لنا: ارفعوا أيديكم لربكم. إذن: فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من
إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب، ويقول: أنا متوكل على الله، إن على الإنسان أن يأخذ أولاً بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول: ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه: ﴿أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: ٦٢]
والمضطّر: هو من استنفد أسبابه، وليس له إلا الله. لكن أن يقول إنسان: أنا أدعو الله ليل نهار وأسبِّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلاً، ولا يستجيب الله لدعائي. ونقول لمثل هذا القائل: أنت لا تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب التي خلقها الله، أولاً، ثم ادْعُ بعد ذلك. ولا تدْعُ إلا إذا استنفدت الأسباب؛ فيجيبك المسبِّب، وبذلك لا تفتن بالأسباب، فحين تمتنع الأسباب؛ تلجأ إلى الله. ولو كانت الأسباب تعطي كلها لفُتِنَ الإنسان بالأسباب، والحق سبحانه يقول: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى﴾ [العلق: ٦ - ٧]
لذلك نجد الحق يبيّن دائماً أن كل الأسباب بيده، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى، ثم يقترب الزرع من النضج، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته، أو ينزل سيل يجرفه. إذن: خذ بالأسباب واجعل المسبب دائماً في بالك، وهنا يصح توكلك على الله.
ونحن ندعو أحياناً عن غير اضطرار ونهمل الأسباب، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه: «ادعي لي حتى أنجح» وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي: «ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة»، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الخذ بالأسباب.
إذن: فمعنى التوكل، أن تستنفد الأسباب التي مدَّتها يد الله إليك. فإذا استنفدتها؛ إياك أن تيأس؛ لأن لك ربّاً، وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه.
ومثال آخر: إذا كنت سائراً في الشارع ومعك جنيه واحد مثلاً ثم وقع منك أو سُرق، ولا تملك في البيت أو في البنك مليماً واحداً، هنا تغضب وتحزن، أما إن كان في البيت عشرة جنيهات؛ فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه؛ فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد.
وهكذا تثق بالمثل عوضاً عن المثل، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل؟
إذن: فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب. والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب.
وتوكلك على الله له رصيد؛ لأن ربك ورب الكون الذي استقبلك، ولا تصل قدرتك إليه، فأنت في الأرض تحرثها، وتبذرها، وترويها، ثم تأخذ من عطاء الله لك؛ فهو ربك، ورب الكون الذي استقبلك، وأًصبح هذا الكون مسخراً لك، وأنت لم تكن قادراً على تسخير الكون.
صحيح أنك قد تُسخِّر الدابة وتربطها وتمتطيها وتحمل عليها السماد مثلاً وكل ذلك مسخر لك وفي قدرتك، وهذا من فضل الله عليك. ويزيد فضله سبحانه، وترى مخلوقات مُسخَّرة لك؛ تشرق كل يوم بالدفء وبالحرارة، وكذلك القمر، والغمام، وكل هذه مخلوقات ليس في قدرتك السيطرة عليها، بل سخرها الله لخدمتك.
وربك رب الكون الذي استقبلك سخر لك ما ليس في يدك، وهو سبحانه رب الملكوت الذي يدير كل ذلك وأنت لا تراه، وهو الذي يدير كل هذه الأشياء. فلا تنظر إلى ظواهر العطاء فقط، بل انظر إلى مسبِّبات العطاء في ظواهر العطاء، ولا تلتفت إلى ظاهرة إلا لتعرف ما وراء هذه الظاهرة. وما وراء أي ظاهرة كثير.
ويقول الحق سبحانه: ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ نعم، هو رب الكون الذي استقبلك وسخر لك ما في يدك وما ليس في يدك، وما وراء المرئيات من
وله سبحانه العرش العظيم، فما هو العرش؟ نعرف لأول وهلة أن العرش هو السقف، فحين تبني دوراً واحداً تصنع له السقف؛ ليحميك من وهج الشمس والمطر، وإن كانت الأرض رخوة فالمباني تهبط، وبنينا السقوف حتى تحمي الجدران من عوامل التعرية.
وقول الله سبحانه: ﴿العرش العظيم﴾ معناها: استواء الأمر استواءً يدخل فيه كل مقدور؛ ولذلك عبر سبحانه عن الملك مثلاً في ملكة سبأ على لسان الهدهد فقال: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣]
العرش، إذن، رمز السيطرة، وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد أن الذي يأخذ الملك من واحد قبله يبدأ في تطهير الجيوب المحيطة به ويبحث عن الأنصار؛ ليعيد ترتيب الملك بما يراه مناسباً له؛ حتى تستقر له الأمور، ثم يجلس بعد ذلك على العرش.
إذن: فالجلوس على العرش معناه استتباب الأمر استتباباً نهائياً للمالك الأعلى.
وسبحانه يقول: ﴿الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ... ﴾ [غافر: ٧]
وساعة تسمع كلمة «العرش» خذها على أنها رمز لللاستتباب الأمر لله، وأن كل شيء دخل في حيِّز قدرته، وفي حيِّز ﴿كن﴾، كما يستقر
يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش... ﴾ [الأعراف: ٥٤]
أي: أن الأمور قد استتبت له. وهكذا نجد أن كلمة «الْعَرْشِ» وردت في عروش الدنيا، وفي عرش الله سبحانه، فعروش الدنيا ترمز إلى استتباب الأمر لمن يجلس عليها، والعرش بالنسبة لله رمز للاستتباب أمر الكون كله له سبحانه لا ينغص عليه شيء ولا يخرج من ملكه شيء. والكون كله، بكل ما فيه مستتب لكلمة «كن» ومخلوق بها وخاضع لسلطان الحق سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق: ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ ولا يوصف العرش بأنه عظيم إلا وفي أذهان الناس عروش الملوك التي نراها في حياتنا، مثلما قال الهدهد عن ملكة سبأ: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣]
أي: بمقاييس البشر.
أما قوله تعالى هنا: ﴿وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ [التوبة: ١٢٩]
فهو بمقاييس رب البشر، إنه عرش الخالق العظيم سبحانه وهو فوق التصور البشري؛ لذلك نفهمه في إطار ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ﴾ [الشورى: ١١]
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).