بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة براءة١قوله: ﴿بَرَآءَةٌ﴾، مبتدأ والخبر: ﴿إِلَى الذين﴾، وحَسُنَ الابتداء بِنَكِرَةٍ، لأنها موصوفة.
ويجوز أن تكون رفعت على إضمار مبتدأ، أي: هذه براءة.
وسورة " براءة " من آخر ما نزل بالمدينة، ولذلك قلّ المنسوخ فيها.
ففي قول عثمان هذا: دليل على أن تألييف القرآن عن الله، تعالى، وعن رسول الله ﷺ، كان، ويدل على أن ترتيب السورة على ما في المصحف إنما كان على اجتهاد من عثمان وأصحابه، ألا ترى إلى قول ابن عباس له: ما حملكم على كذا وكذا؟ يدل على أنهم هم رتبوا السورة، وأن تأليف السور إلى تمام كل سورة كان على تعليم النبي ﷺ إياهم ذلك.
وقد صح أن أبيَّ [بن] كعب، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبا زيد عم
قال الشعبي: وأبو الدرداء حفظ القرآن على عهد النبي ﷺ، ومُجَمَّع ببن جارية، بقيت [عليه] سورتان [أَ] وْ ثلاث. قال: ولم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان.
فهذا يدل على أنه كان مؤلفاً؛ لأن هؤلاء لم يحفظوه إلا وهو مؤلَّف مرتَّبٌ عن النبي ﷺ، عن جبريل، صلوات الله عليه، جل ذكره.
وقال أبي بن كعب: آخر ما نزل " براءة " وكان رسول الله ﷺ يأمر في أول كل سورة بـ: " بسم الله الرحمن الرحيم "، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء، فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها.
وقال رسول الله ﷺ: " أُعطيت السبع الطّول مكان التوراة وأعطيت المِئِينَ مكان الزَّبور، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وفُضِّلْتُ بالمفصّل ".
فهذا الترتيب يدل على أن التأليف/ كان معروفاً عند رسول الله [ ﷺ]، وبذلك
ومعنى: ما رُوِيَ: أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن، وأنه ضم إليه جماعة، أنه إنما (أمر) بجمعه في المصحف ليرسل به إلى الأمصار، لا أنه كان غير مؤلف ثم ألفه، هذا ما لا يجوز، لأن تأليفه من المعجز، لا يكون إلا عن الله تعالى.
وقد قيل: إنما أمر بجمعه على حرفٍ واحدٍ؛ لأنهم كانوا قد وقع بينهم الخلاف لاختلاف اللغات السبعة الي بها نزل القرآن، فأراد عثمان أن يختار حرفاً واحداً، هو أفصحها ليثبته في المصحف، وإنما خص عثمان زيد بن ثابت لجمعه دون غيره ممن هو أفضل منه؛ لأنه كان يكتب الوحي للنبي ﷺ.
واختلف في الحرف الذي كتب عليه المصحف فقيل: حرفُ زيد بن ثابت.
وعلى الأول أكثر الرواة.
ومعنى: حرف زيد، أي: روايته وطريقته.
" فَلْيَقْرَأْه بقراءة ابن أُمِّ عبد "، يعني: ابن مسعود. فإنه إنما أراد به ترتيل ابن مسعود، وذلك أنه كان يرتل القرآن إذا قرأه، فخصه النبي ﷺ بهذا الوصف لترتيله لا غير ذلك.
وأصحابه منهم: علقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزِرُّ
فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد، كان أول من قرأ به بالكوفة أبو عبد الرحمن السَّلّمِي: عبد الله بن حبيب، فأقرأ بجامع الكوفة أربعين سنة، إلى أن توفي، C، في إمارة الحجاج. وقد أخذ القرآن عن عثمان، وعن علي، وعن ابن
وكان زر قد قرأ علي ابن مسعود.
ثم انتهت قراءة ابن مسعود إلى الأعمش. وقرأ حمزة على الأعمش بالكوفة، وقرأ أيضاً حمزة على ابن أبي ليلى، وعلى حُمران بن أعين، وقرأ
وقرأ علقمة على ابن مسعود، وقرأ ابن مسعود على النبي ﷺ.
وقرأ أيضاً حمران على أبي الأسود وقرأ أبو الأسود على علي.
وقد قال المبرد: إنما لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قبل " براءة "؛ لأن " بسم
وعن عاصم أنه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " لم تكتب أول " براءة "؛ لأنها رحمة و " براءة " عذاب.
قوله: ﴿إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ﴾.
إنما ذلك، لأن عقد النبي على أمته كعقدهم لأنفسهم.
وهؤلاء الذين بَرِئَ الله تعالى، ورسوله ﷺ، إليهم من العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ، وأذن لهم في السياحة في الأرض أربعة أشهر، جنس من المشركين كان مدة العهد بينهم وبين رسول الله ﷺ، أقل من أربعة أشهر، وأُمهلوا بالسياحة تمام أربعة أشهر (ليرتاد كل واحد). والجنس الآخر كما عهده إلى غير أجل محدود/، فَقُصِرَ به على أربعة أشهر ليرتاد كل واحد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك، يقتل حيث وجد، إلا أن يُسلم.
فكان نزول " براءة " في بعض ما كان بين رسول الله ﷺ، وبين المشركين من
وقيل: إنما أمهل أربعة أشهر، من كان بينه وبين رسول الله ﷺ، عهد، فأما من لم يكن له عهد، فإنما جعل أجله خمسين ليلة، عشرين من ذي الحجة والمحرم، ودلّ على ذلك قوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾ [التوبة: ٥].
قال ذلك ابن عباس.
وكان النداء بـ: " براءة " يوم النحر.
وقيل: يوم عرفة، وبه تتم خمسون ليلة.
ونزلت " براءة " أول شوال، ومن ذلك اليوم كان أجل أربعة أشهر لأهل العهد.
وقيل: أول شوال كان نزول " براءة " وذلك سنة تسع، ومن ذلك الوقت أول أربعة الأشهر للجميع. وهو قول الزهري.
وقال ابن عباس: إنما كان أول الآجال من يوم أُذِّنَ بـ: " براءة "، وذلك يوم النحر، فجعل لمن له عهداً أربعة أشهر من ذلك اليوم، وذلك إلى عشر من ربيع الآخر.
ولمن لم يسم له عهد آخر الأشهر الحرم خمسين يوماً، ثم لا عهد لهم بعد ذلك ولا ذمة، يقتلون حتى يدخلوا في الإسلام.
وكان علي هو الذي نادى بـ: " براءة "، وكان أبو بكر أميراً عليهم، فلم يحج المشركون بعد ذلك [العام]، وكانوا يحجون مع المسلمين قبل ذلك.
قال قتادة: كان النبي ﷺ، عاهد قريشاً زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر الله تعالى، نبيه عليه السلام، أن يُوفِّيَ بعهدهم إلى مدتهم، وأن يؤخروا من لا عهد له انسلاخ المحرم، ثم يقاتلون حتى يشهدوا [أن] لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وألا يقبل منهم إلا ذلك.
وقال الكلبي: إنما أمر النبي ﷺ، بالأربعة الأشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون، فأما من كان عهده، أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر النبي ﷺ، أن يتم له عهده، فقال تعالى: ﴿فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ﴾.
وذلك أن النبي ﷺ، فتح مكة سنة ثمان عَنْوةً، واستخلف على الحج سنة تسع أبا بكر. ونزلت " براءة " بعد خروج أبي بكر في شوال. وكانوا يحجون على رسومهم التي كانوا عليها، ولم يكن فرض الحج ولا أمر به، فأنفذ رسول الله ﷺ " براءة " مع علي رضي الله عنهـ، ليتلو الآيات على الناس وينادي بالناس: ألا يحج بعد ال عام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان فنادى بذلك علي، وأعانه على النداء أبو هريرة
فحج النبي ﷺ، في العام المقبل سنة عشر، ولم يحج معه مشرك، وهي حجة الوداع، وفي ذلك نزل: ﴿إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، فلما نزل ذلك وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من الأطعمة والتجارات التي كان المشركون يقدمون بها، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله﴾ [التوبة: ٢٨]، الآية، ثم أحل [في] الآية التي تتبعها الجزية، ولم تكن قبل ذلك/، جعلها الله عوضاً مما يفوتهم من تجارتهم مع المشركين. وهو اختيار الطبري [ومما يدل على صحة ما اختار الطبري] من أنه أمر الله تعالى، نبيه عليه السلام، أن يتم لمن عهده [أربعة أشهر فما دن أربعة أشهر، ومن كان عهده أ: ثر أتم له عهده]، إلا أن يكون نقض عهده قبل
وهو قول الضحاك.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا [لَهُمْ]﴾ [التوبة: ٧].
فأمر الله تعالى، نبيه [عليه السلام]، بالاستقامة لهم على عهدهم، ما استقاموا. وأمر الله تعالى، أن يؤخر الذين نقضوا وظاهروا عليه أربعة أشهر.
وقد رُوي: أن علياً كان يقول في ندائه: ومن كان بينه وبين رسول الله ﷺ عهد فعهده إلى مدته.
قوله: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾، الآية.
المعنى: فسيحوا يا أيها الذين لهم عهد وقد نقضوا قبل إتيان الأجل. وأما من له عهد أربعة أشهر فما دون، فقيل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر من يوم النحر، أي: تصرفوا مقبلين ومدبرين، ثم لا أمان لكم بعدها إلاّ بالإسلام.
وأشهُرُ [السياحة] على قول مجاهد، وغيره: من يوم النحر إلى عشر خلون
وعند الزهري: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وتسمى أيضاً أشهر السياحة، أي: سمح لهم فيها بالتصرف آمنين.
قوله: ﴿واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾.
أي: مُفيتيه أنفسكم، أين كنتم، وأين ذهبتم بعد الأربعة الأشهر وقبلها، لا منجي منه ولا ملجأ إلا الإيمان به، تعالى، وبرسوله عليه السلام.
﴿وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين﴾.
أي: مذلهم ومرثهم العار في الدنيا والآخرة.
قوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس﴾، الآية.
و ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾: يوم عرفة؛ لأن علياً يوم عرفة قرأ على الناس أربعين آية من " براءة " بعثه بها النبي ﷺ، ثم قرأها عليهم في مِنًى لتبلغ جميعهم، فمن ثم قال قوم: ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾: النحر. وهو قول مالك.
ورُوِيَ أن النبي ﷺ، خطب يوم عرفة فقال: " أما بعد، فإن هذا يوم الحج الأكبر ". [وهو قول عمر، وابن الزبير، وعطاء، وغيرهم.
وقال مجاهد ﴿يَوْمَ الحج الأكبر﴾ معناه: حين الحج، وهو أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.
وقال ابن جريج: ﴿الحج الأكبر﴾: أيام منى كلها.
واختار الطبري: أن يكون يوم النحر؛ لأن في ليلته يتم الحج، وليس من فاته يوم عرفة أو ليلته يفوته الحج، ومن فاته ليلة يوم النحر إلى الفجر فقد فاته الحج. وحق الإضافة أن تكون إلى المعنى الذي يكون في الشيء، فلما كان الحج في ليلة يوم النحر أضيف أسم الحج إلى يوم النحر.
ولما كان [من] لم تغب له الشمس يوم عرفة لم يحج، وإن كان قد وقف بعرفة طول نهاره، علم بأنه ليس بيوم الحج إذ لا يتم الحج
وسمي: ﴿الحج الأكبر﴾: لأنه كان/ في سنة اجتمع فيها المسلمون والمشركون.
وقيل: سمي بذلك؛ (لأنه) من النحر والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والحِلاق وغير ذلك.
وسمي بذلك؛ لأنه كان يوم حج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيد اليهود والنصارى.
وقال مجاهد ﴿الحج الأكبر﴾: القِرانُ في الحج، والأصغر: الإفرادُ.
وقال الشعبي الحج الأصغر: العمرة في رمضان.
وقد ثبت أن النبي ﷺ، بعث علياً بأول سورة " براءة "، إثر أبي بكر عام حجَّ بالناس أبو بكر، وذلك سنة تسع، فنادى علي بـ: " براءة " في الموسم.
وقيل: يوم النحر نادى بها.
وقيل: يوم عرفة.
وقيل: فيهما جميعاً.
ثم حج النبي ﷺ، في سنة عشرة.
ومعنى ﴿برياء مِّنَ المشركين﴾، أي: من عهدهم بعد هذه الحَجَّةِ.
﴿فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
أي: تبتم عن كفركم ﴿وَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾، أدبرتم عن الإيمان، ﴿فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾، أي: لا تفيئون الله أنفسكم، ﴿وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾،
﴿برياء مِّنَ المشركين﴾، وقف، إن جعلت ﴿وَرَسُولُهُ﴾: ابتداء أضمر خبره، أي: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ منهم.
وإن جعلته معطوفاً وقفت ﴿وَرَسُولِهِ﴾، وكذلك من نصب، وهي قراءة ابن أبي إسحاق.
﴿غَيْرُ مُعْجِزِي الله﴾، وقف حسن.
﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، ليس بوقف حسن؛ لأن بعده الاستثناء.
قال قتادة: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم النبي عليه السلام، زمن الحديبية، أمر أن يتم لهم مدتهم، وكان قد بقي منها أربعة أشهر من يوم النحر، وأمر أن يصبر على من لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ثم يقاتل [الجميع] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
ومعنى ﴿إلى مُدَّتِهِمْ﴾: إن كانت أكثر من أربعة أشهر.
قوله: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين﴾، الآية.
قوله: ﴿كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، منصوب عند الأخفش على حذف: " على ".
وقد حكى سيبويه: ضُرب الظهر والبطن، أي: " على "، فنصب لما حذف
ونصبه على الظرف حسن، كما تقول: " قَعَدْتُ لّهُ كُلَّ مَذْهَبٍ ".
أي في كل مذهب.
والمعنى: فإذا انقضت الأشهر الحرم عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا وظاهروا المشركين على المسلمين، أو كان عهدهم إلى غير أجل معلوم. ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾، من الأرض، في الحرم، وفي غيره، وفي الأشهر الحرم وفي غيرها. ﴿وَخُذُوهُمْ﴾، أي: أسروهم، والعرب تسمي " الأسير ": أخِيذاً، ﴿واحصروهم﴾، أي: امنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين،
روى أنس عن النبي ﷺ، أنه قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله تعالى، وعبادته، جلت عظمته، لا يشرك به فارقها والله عنه راضي ".
و ﴿الأشهر الحرم﴾، هنا: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وأريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده؛ لأن الأذان بـ: " براءة " كان يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أُجِّلوا الأشهر [الحرم] كلها، ولكنه لما كان المحرم متصلاً بالشهرين الآخرين الحرامين وكان لهما تالياً قيل: ﴿فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم﴾.
وقال السدي: ﴿الأشهر الحرم﴾ هنا هي: من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر.
وسميت " حُرُماً "؛ لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، وأذاهم.
وهو قول السدي.
ومثله قال ابن زيد، قال: أمر الله سبحانه أن يتركوا أربعة أشهر يسيحون ثم يتبرأ منهم، ثم أمر إ ذا انسلخت تلك الأشهر الحرم أن يقتلوا حيث وجدوا.
وسماها " حُرُماً "؛ لأنه حرم قتل المشركين فيها.
وقال الضحاك، والسدي: الآية منسوخة لا يحل قتل أسير صبرا، والذي نسخها هو قوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: ٤]. وهو قول عطاء.
وقال قتادة: هذه الآية ناسخة لقوله: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾، ولا يجوز أن
وقال ابن زيد: وهو الصواب إن شاء الله، [إن] الآيتين محكمتان.
أمر هنا: أن يؤخذوا إما للقتل، وإما للمنّ، وإما للفداء، وأمر ثَمَّ، إما المن، وإما الفداء، فهما محكمتان، وقد فعل هذا كله رسول الله ﷺ: قتل الأساري، وفادى ببعض، ومنَّ على بعض، وذلك يوم بدر.
قوله: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾، الآية.
والمعنى: وإن استأمنكم، يا محمد، أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الأربعة، ليسمع كلام الله، سبحانه، منك، فأَمِّنْه حتى يمسعه، ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾، أي: إن أسمع ولم يتعظ، فرده إلى حيث يأمن منك ومن
وإضافة الكلام إلى الله، جل ذكره، في هذا إضافة تخفيص من طريق القيام به، فهي إضافة صفة إلى موصوف، وليست بإضافة ملك إلى مالك، ، ولا بإضافة خلق إلى خالق، ولا بإضافة تشريف، بل هي إضافة على معنى: أن ذاته [غير] متعدية منه. فافهم.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾.
أي: يفعل ذلك بهم؛ لأنهم قوم جهلة لا يعلمون قدر ما دُعُوا إليه.
قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله﴾، الآية.
المعنى: أنّى يكون للمشركين عهد يوفى لهم به، فيتركون من أجله آمنين؟ إلا الذين أُعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم ﴿فاستقيموا لَهُمْ﴾، أيها المؤمنون على عهدهم، ما استقاموا لكم عليه.
وهؤلاء القوم: بنو جذيمة بن الدُّئِل.
وقيل: هم قريش.
قال ابن زيد: فلم يستقيموا، فضرب لهم أجل أربعة أشهر، ثم أسلموا قبل تمام الأجل.
وقال قتادة: نقضوا ولم يستقيموا، أعانوا أحْلاَفَهُمْ من بني بكر، على حِلْفِ النبي ﷺ، خزاعة.
وقال [مجاهد]: هم قوم من خزاعة.
قوله: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ﴾، الآية.
﴿كَيْفَ﴾: في موضع نصب، وكذلك ﴿كَيْفَ يَكُونُ﴾ [التوبة: ٧].
والمعنى: كيف يكون لهؤلاء المشركين عهد، وهم/ قد نقضوا العهد، ومنهم من
و ﴿كَيْفَ﴾ هذه، قد حذف الفعل بعدها لدلالة ما تقدم من الكلام عليه.
قال الأخفش المعنى: ﴿كَيْفَ﴾ لا تقتلونهم.
وقال أبو إسحاق، التقدير: كيف يكون لهم عهد، ﴿وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾، وحذف هذا الفعل؛ لأنه قد تقدم ما يدل عليه، ومثله قول الشاعر:
وخَبَّرتُماني أَنَّهما المَوْتُ في القُوى | فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبةٌ وَقَلِيبُ |
و" الإلُّ ": القرابة و " الذِّمَّةُ ": العهد. قاله ابن عباس.
وقال قتادة " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةِ ": العهد.
وقال مجاهد " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةُ ": العهد.
وجمع " الإلّ " الذي هو القرابة: الآلٌ، بمنزلة " عدل وأعدل "، وفي الكثير: ألول ألالُ.
وقوله: ﴿يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
أي: يعطونكم بألستنهم خلاف ما يضمرون في نفوسهم.
﴿وتأبى قُلُوبُهُمْ﴾.
أي: تأْبى أن تذعن بتصديق ما يبدوا بألسنتهم.
﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
قوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً﴾، إلى قوله: ﴿المعتدون﴾.
المعنى: إن الله تعالى أخبر عن المشركين، أنهم باعوا آيات الله سبحانه وعهده، (جلت عظمته)، بثمن يسير.
وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ﷺ، بأكلة أطعمها لهم أبو سفيان بن حرب.
﴿فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ﴾.
أي: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام.
﴿إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
أي: ساء عملهم.
﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً﴾.
وقال النحاس: هذا لليهود، والأول للمشركين.
وقوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً﴾، يعني اليهود، باعوا حجج الله تعالى، وآياته، سبحانه بطلب الرئاسة.
﴿وأولئك هُمُ المعتدون﴾.
أي: المتجاوزون إلى ما ليس لهم.
قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، إلى قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
المعنى: فإن تاب هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتلهم، ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، فهم إخوانكم في الدين، ﴿وَنُفَصِّلُ الأيات﴾، أي: نبين لهم الحجج، ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، ذلك.
قال قتادة المعنى: فإن تركوا اللات والعُزّى، وشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ﷺ ﴿ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة﴾، فهم إخوانكم في الدين.
قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، فلم يفرق بينهما. وقال: يرحم الله
وقوله: ﴿وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم﴾.
أي: وإن نكث هؤلاء المشركون عهودهم من بعد ماعاهدوكم.
﴿وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ﴾.
أي: قدحوا فيه، وثلبوه وعابوه.
﴿فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر﴾.
أي: رؤوس أهل الكفر.
﴿إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾.
من قرأ بـ: " فتح الهمزة " فمعناه: لا عهود لهم، وهو جمع " يمينٍ ".
أحدهما أن يكون معناه: لا إسلام لهم، فيكون مصدر: آمن الرجل يؤمن: إذا أسلم.
ويحتمل أن يكون مصدر: آمنته من الأمن، فيكون المعنى: لا تُؤَمِّنُوهُمْ، ولكن اقتلوهم.
و ﴿أَئِمَّةَ﴾: جمع إمام، وهو: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ونظراؤهم الذين هَمُّوا بإخراجه.
وقال السدي: هم قريش.
وأصل " النكثِ ": النقنض.
﴿لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾.
أي: / ينتهون عن الشرك ونقض العهود.
قوله: ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ﴾، الآية.
﴿أَلاَ﴾: تحضيض وتحريض.
﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾، ألف تقرير وتوبيخ.
ومعنى الآية: أنها تحضيض، على قتال المشركين الذين نقضوا عهود النبي ﷺ، وطعنوا في الدين، وعاونوا أعداء المسلمين عليهم، ﴿وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول﴾ من مكة: ﴿وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، أي: بدأوا بالقتال ببدر: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾ أي: تخافونهم على
قال السدي: هموا بإخراجه وأخرجوه.
﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾، وقف عند الأخفش.
وعند أبي حاتم، الوقف: ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ﴾.
قوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله﴾، الآية.
والمعنى: قاتلوا هؤلاء الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، فإنكم إن تقاتلوهم: ﴿يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ﴾، أي: يقتلهم بأيديكم، ﴿وَيُخْزِهِمْ﴾، أي: يذلهم
و" الوقوم المؤمنون " (هنا) هم: خزاعة حلفاء رسول الله ﷺ، وذلك أن قريشاً نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله ﷺ، بمعونتهم بكراً على خزاعة. قاله مجاهد، والسدي.
وذلك أن النبي ﷺ حين قاضى المشركين يوم الحديبية، أدخل بني كعب بن خزاعة معه في القضية، [وأدخل المشركون بين بكر بن كنانة معهم في القضية]، ثم إن المشركين أغاروا مع بني بكر بن كنانة على بني كعب، قبل انقضاء مدة العهد، فغضب النبي ﷺ، لذلك فقال: " واله لأَنْتَصِرَنَّ لَهُمْ "، فنصره الله عليهم يوم الفتح، وشفى صدور بني كعب.
قوله: ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾.
﴿ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ﴾.
مستأنف فالابتداء به حسن، والمعنى: وسوف يتوب الله، وهو مثل: ﴿فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ﴾، ثم قال: ﴿وَيَمْحُ﴾ [الشورى: ٢٤] فاستأنف.
وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعرج:
" وَيَتُوبَ " بـ: " النصب ".
فلا تقف على ماق بل: ﴿وَيَتُوبُ﴾ على هذه القراءة.
قوله: ﴿والله عَلِيمٌ﴾.
أي: عالم بسرائر عباده ﴿حَكِيمٌ﴾ في تصريفه عباده من حال كفر إلى حال إيمان، بتوفيقه، ومن حال إيمان إلى حال كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته.
قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ﴾، الآية.
﴿أَن تُتْرَكُواْ﴾: في موضع مفعولي " حسبت " عند سيبويه.
و ﴿أَمْ﴾ هنا: استفهام، والمعنى: أحسبتم أيها المؤمنون كذا وكذا؟.
ومعنى الآية: أنها خطاب للمسلمين الذين أمرهم الله بقتال المشركين الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، يقول تعالى: أحسبتم، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة، وبغير اختيار، ليعلم الصادق منكم من الكاذب، علم مشاهدة. وقد كان علم ذلك، تعالى، قبل خلق العالم، ولكن المجازاة إنما تقع على المشاهدة، فيعلم المجاهدين الذين لم ﴿وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً﴾، أي: بِطَانَةً من المشركين، يفشون إليهم من سرهم.
قال الطبري: إنما دخلت ﴿أَمْ﴾ في موضع الألف هنا؛ لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بين الاستفهامم الذي يبتدأ به، والاستفهام الذي يعترض.
في وسط الكلام.
ومثله: ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ/ خَيْرٌ﴾ [الزخرف: ٥١ - ٥٢]، أي: أنا خير.
وهذه ﴿أَمْ﴾ هي التي تسمى " المنقطعة، ولا يقدر الكلام معها بـ: " أيهم " ولا بـ: " أيهما ".
﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
أي: ذو خبر بعملكم إن اتخذتم بطانةً من المشركين تفشون إليهم سر المؤمنين.
ونظير هذه الآية: ﴿الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: ١ - ٢]، أي: يختبرون، ثم قال: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾، إلى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين﴾ [العنكبوت: ٣].
قوله: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله﴾، إلى قوله: ﴿المهتدين﴾.
والمعنى: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله؛ لأنهم ليسوا ممن يذكر
﴿شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ﴾.
فيه ثلاثة تأويلات.
أحدهما: أن فيما يقولونه ويفعلونه دليل على كفرهم، كما يدل على إقرارهم، فكأنَّ ذلك منهم شهادتهم على أنفسهم. قاله الحسن.
والثاني: شهادتهم على رسولهم بالكفر؛ لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم. قاله الكلبي.
والثالث: ما ذكره في الكتاب، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر؛ لأنهم يقال للرجل منهم: أيش أنت؟ فيقول: نصراني، يهودي، صابئ، مشرك.
﴿أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾.
في الدنيا، أي: بطلت وذهبت، إذ لم تكن لله، تعالى، وكانت للشياطين.
﴿وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ﴾.
ومن قرأ: ﴿مَسَاجِدَ الله﴾ بالتوحيد، عَنَى به: المسجد الحرام، ودليله قوله: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨]، وقوله: ﴿وَعِمَارَةَ المسجد الحرام﴾ [التوبة: ١٩].
ومن جمع، أراد: جميع المساجد، ودليله قوله: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله﴾ فجمع ولم يُخْتَلفْ فِيهِ.
والجمع: يستوعب المسجد الحرام وغيره، والتوحيد: يخص المسجد الحرام
ثم قال: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله﴾.
أي: إنما يعمرها من صدق بالله ورسوله، وما أتت به الرسل.
﴿وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين﴾، (أي): فحقيق أن يكون من هذه صفته من المهتدين.
وكل " عسى " في القرآن من الله فهي واجبة.
ونزلت هذه الآية في قريش؛ لأنهم كانوا يفتخرون، فيقولون: نحن أهل الحَرَم وسقاة الحاجِّ، وعُمّار هذا البيت، فأنزل الله تعالى، صِفة من يجب أن يعمر مساجد الله، سبحانه.
قوله: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، إلى قوله: ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
ومعنى ﴿كَمَنْ آمَنَ بالله﴾، أي: كإيمان من آمنم.
ومعنى الآية: إن المشركين من قريش افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم الله تعالى، أن الفخر إنما هو بالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله.
ورُويَ أن العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر قال: لئن كنتم سيقتمونا بالإسلام، والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله، جل كره: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، الآية، فذلك لا ينفعكم، أيها المشركون مع شرككم.
وقال السدي، وغيره: افتخر علي، والعباس، وشيبة، وفقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حاج البيت الله، وقال شيبة: [أنا].
ورُوِيَ أن علياً قال للعباس وشيبة: ألا أنبئكم بمن هو أكر حسباً منا؟ قال: نعم، / قال: مَنْ ضرب خَرَاطِيمَكُم بالسيف حتى قادكم إلى الإسلام كَرْهاً، فشق ذلك عليهما، [فشكيا] إلى رسول الله ﷺ، فسكت رسول الله ﷺ، هُنَيْهة، إذ جاءه جبريل عليه السلام، بهذه الآية: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج﴾، الآية.
وقال الضحاك: أقبل المسملون على العباس وأصحابه يوم بدر، وهم قد أسروا، يُعَبِّرونَهُمْ بالشرك، فافتخر العباس بالسقاية وعمارة المسجد الحرام، فانزل الله تعالى، الآية.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ﴾.
أي: لا يعتدل هؤلاء وهؤلاء عند الله.
أي: لا يوفقهم لصالح الأعمال.
ثم قال تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ﴾.
أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم، أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة مع الشرك، فهذا قضاء من الله تعالى، بين المفتخرين.
ثم أخبر أنهم ﴿هُمُ الفائزون﴾: أي: الناجون من النار، الفائزون بالجنة.
ثم قال تعالى مخبر [بما] يصيرون إليه: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾، لهم ﴿وَرِضْوَانٍ﴾، منه عنهم، ﴿وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾، أي: لا يزال أبداً، ﴿خَالِدِينَ﴾، أي: ماكثين، ﴿أَبَداً﴾، لا حد لذلك، ﴿إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، أي: عنده لهؤلاء الذين هذه صفتهم ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، أي: لا حد له من عظمه.
ومعنى ﴿يُبَشِّرُهُمْ﴾: يعلمهم بذلك في الدنيا.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ﴾، إلى قوله:
ومعنى الآية: أن الله، جل ذكره، نهى المؤمنين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم الكفار أولياء، يفشون إليهم سر المؤمنين، ويطلعونهم على أسرار النبي عليه السلام، وَيُؤْثِرُون المُكث بين أظهرهم على الهجرة إلى دار السلام: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ﴾ أي: من يتخذهم أولياء وبطانة، ويؤثر المقام على الهجرة، ﴿فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
وهذا كله قبل فتح مكة. قاله مجاهد.
﴿وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾، وقف نافع.
ومثله ﴿أَوْلِيَآءَ﴾ في سورة المائدة، فصح الوقف عليه؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء على كل حال.
وهنا إنما نُهُوا عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن هم استحبوا الكفر على
﴿عَلَى الإيمان﴾، الوقف الحسن.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾، الآية.
والمعنى: ﴿قُلْ﴾ يا محمد، للمتخلفين على الهجرة، المقيمين بدار الشرك، مع أهليهم وأموالهم ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ﴾، أي: المقام مع هؤلاء بمكة، ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله﴾، أي: من الهجرة إلى دار الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله، ﴿فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾، أي: بفتح مكة. قاله مجاهد.
والثاني: ﴿حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ﴾: من عقوبة عاجلة أو آجلة. قاله ابن زيد.
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾.
قوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾، إلى قوله: ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
﴿حُنَيْنٍ﴾: مذكر، أسم واد بين مكة والطائف.
ومن العرب من يجعله أسماً للبقعة فلا يصرفه للتأنيث والتعريف.
وقيل: هو واد إلى جنب ذي المجاز.
لغة بني تميم: " كِثْرةَ "، بكسر الكاف، وجمعه: كثر، والفتح لغة أكثرهم، وجمعه: كثرات، وهما مصدران وجمعهما قبيح.
ومعنى الآية: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله﴾، أيها المؤمنون في أماكن حرب، ونصركم يوم حنين أيضاً.
قال السدي: قال رجل من أصحاب النبي عليه السلام، يوم حنين، وقد كانوا إثنى عشر ألفاً: يا رسول الله لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ وأعجبته كثرة الناس، فَوُكِّلُوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله ﷺ، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين [يدي] النبي ﷺ.
فنادى النبي ﷺ، بالأنصار: أين الأنصارُ الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله تعالى، الملائكة بالنَّسر، فهزم المشركون يومئذ، وغنموا.
وأصاب المسلمون ستة آلاف سبية، فجاء قومهم مسلمين، فقالوا: يا رسول
ومعنى ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾، أي: بسعتها.
وقال الطبري: " الباء " بمعنى: " في ".
فأعلم الله تعالى، المؤمنين في هذه الآية أنه ليس بكثرهم يغلبون، [إنما يغلبون] بنصره.
وكانت غزوة حنين بعد فتح مكة، ولما خرج النبي ﷺ، إليها خرج معه أهل مكة مشاة وركباناً، يمشون يرجون الغنائم حتى خرج معه النساء والصبيان وهم على غير الإسلام/ وليس يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله [صلى الله] عليه وسلم.
فنصر الله النبي ﷺ، وهو السَّكِينَةُ التي أنزلت على النبي ﷺ] وعلى المؤمنين، ﴿وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾، وهي الملائكة بالنصر: ﴿وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ﴾، أي: بالسيف، وسبي الأهل وأخذ الأموال: ﴿وذلك جَزَآءُ الكافرين﴾، أي: هذا الذي فعله بهم، هو جزاء من كفر بالله ورسوله.
وقيل: هو جزاء من بقي منهم.
أي: يتفضل على من يشاء بالتوبة من الكفر والإنابة إليه، يعني من بقي منهم، حتى ينقلهم إلى طاعته إذا شاء، ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ﴾، إلى قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
ومعنى الآية: أن الله أمر المؤمنين أن يمنعوا المشركين من دخول المسجد الحرام.
وقوله: ﴿نَجَسٌ﴾.
قال قتادة: " النَّجَسُ " هنا: الجُنُب.
وأصل " النَّجَسِ ": القذر. وإذا ذكرت قبل " النجس ": " الرجس " كسرت " النون "، وأسكنت " الجيم "، فقلت: هو رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع.
وعنى بذلك: الحرم كله أن يمنعوا من دخوله، وعلى ذلك قال عطاء: الحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ.
وقال الثوري، والشافعي: ثياب المشركين على الطهارة حتى تعلم النجاسة، واستحبا غسل الإزار والسراويل.
وقال مالك: إذا صلى في ثوب كان المشرك يلبسه، أعاد من الصلاة ما كان في وقته.
وأكثَرُهُمْ على أن لا بأس بالصلاة فيما نسجوا، وهو مذهب مالك.
وهذه الآية نَاسِخَةٌ، لما كان النبي عليه السلام، قد صالح عليه المشركين أن لا يَمْنَع أحد من البيت.
وقال الشافعي: يمنع المشركون جميعاً من دخول الحرم، ولا يمنعون من دخول سائر المساجد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام، ولا من غيره، ولا يمنعن من ذلك إلا المشركون أهل الأوثان.
وقول الله تعالى، في اليهود والنصارى: ﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله مِّن دُونِ الله]﴾ [التوبة: ٣١] الآية، يدلُّ على جوازهم تسميتهم مشركين، وقد نصّ الله على ذلك بقوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ في آخر الآية.
وقوله: ﴿بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾.
هو العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنهـ، بالناس، ونادى عليّ بـ: " براءة " في الموسم، / وذلك لتسع سنين مضين من الهجرة، وحجَّ النبي ﷺ حَجَّةَ الوَدَاعِ في العام المقبل سنة عشر من الهجرة.
[أي]: إن خفتم، أيها المؤمنون، فقراً، بمنعنا المشركين أن يأتوكم إلى الحرم بالتجارات، ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾، فأغناهم الله بأخذ الجزية منهم بقوله: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾، إلى قوله: ﴿حتى يُعْطُواْ الجزية﴾.
وقيل: أغناهم بإدْرَارِ المطر عليهم.
قال ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزن، عن منع المشركين من دخول الحرام، وقال لهم: من أين تأكلون، وقد انقطعت عنكم العير؟ فأنزل الله تعالى:
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ الآية.
﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾.
أي: عليم بما حدثتكم به نفوسكم من خوف العيلة، بمنعنا المشركين أن يأتوا إليكم، وبغير ذلك من مصالحكم، ﴿حَكِيمٌ﴾، في تدبيره.
وحُكِي: " عال يعول " [في] الفاقة.
وبمصحف عبد الله: " عائلة "، أي: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر، أي: شقَّ عليَّ واشتد.
ثم قال: تعالى آمراً للمؤمنين: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾، الآية، أي: قاتلوهم حتى يعطوكم الجزية، من أهل الكتاب كانوا أو من غيرهم.
و" الجِزْية " ك: " القِعْدة " و " الجِلسة "، وجمعها: جِزَى، ك: " الحَِىً "، فهو
وهي الخراجُ عن الرقاب.
ومعنى: ﴿عَن يَدٍ﴾، أي: عن يده إلى يد من يدفعه إليه.
وقيل: ﴿عَن يَدٍ﴾: عن إنعامٍ منكم عليهم إذا رضيتم بالجزية وأمَّنْتُمُوهُمْ في نفوسهم وأموالهم وَذَرَارِيهمْ.
وقيل: ﴿عَن يَدٍ﴾: نقداً لا نسيئة.
وقيل: يؤدونها بأيديهم لا يوجهون بها كما يفعل الجبار.
وأهل اللغة يقولون: عن قهر وقوة.
أي: أذلاء مقهورون.
فهذه الآية نزلت في حرب الروم، فغزا رسول الله ﷺ، بعد نزولها غزوة تبوك. قاله مجاهد.
قال عكرمة: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾: هم قائمون [وأنت جالس].
وقال ابن عباس: يمشون بها مُلَبَّين.
وهذه الآية ناسخة للعفو عن المشركين. قاله ابن عباس.
وأجمع علماء الأمصار على أخذ الجزية من المجوس.
وكان ملك يرى: أخذ الجزية من سائر أهل الشرك، وحكمهم عنده حكم المجوس، تؤخذ منهم الجزية، ولا ينكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم.
وتوضع الجزية عمن أسلم عند مالك ولم يبق من السنة إلا يوم واحد.
وتؤخذ الجزية من أهل الوَرِق: أربعون درهماً، ومن أهل الذهب: أربعة دنانير، وهي فرض عمر رضي الله عنهـ.
قوله: ﴿وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله﴾، إلى قوله: ﴿يُشْرِكُونَ﴾.
﴿عُزَيْرٌ﴾: مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: صاحبنا عزير، ﴿ابن﴾: نعت له، فيكون حذف التنوين لكثرة الاستعمال.
وكلا الوجهين في قراءة من نَوَّن عُزَيْراً.
وقال أبو حاتم لو قال قائل: إن عزيراً اسم أعجمي لا يتصرف جاز.
وهو عند النحويين عربي مشتق، من: عزره يعزِرُهُ ومنه قوله: ﴿وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ [الفتح: ٩].
﴿ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ﴾.
أي: يُشَبِّهون قولهم بقولهم، وهم اليهود الذين قالوا:
﴿عُزَيْرٌ ابن الله﴾، [سبحانه وتعالى]، أي: يشبه قول هؤلاء النصارى في الكذب على الله، (تعالى)، قول من تقدمهم في " العُزَيْر " من اليهود.
وقيل: المعنى: إن من كان على/ عهد النبي ﷺ، من اليهود والنصارى قولهم يشبه قول أوّليهم.
﴿قَاتَلَهُمُ الله﴾.
أي: لعنهم الله.
أي: من أين يصرفون عن الحق.
﴿اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله]﴾.
الأحبار: العلماء.
والرهبان: العباد، أصحاب الصوامع.
﴿أَرْبَاباً﴾: أي سادة، يطيعونهمه في المعاصي، فيحلون ما حرم الله تعالى، ويحرمون ما أحل الله، سبحانه، ولم يكونوا يَعْبِدُونَهُمْ، إنما كانوا يَطِيعونَهُم فيما لا يجوز، ولا يحل.
وقوله: ﴿والمسيح﴾.
﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
[أي]: تنزيهاً له وتطهيراً من شركهم.
قوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم﴾، إلى قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المشركون﴾.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾، إنما دخلت ﴿إِلاَّ﴾؛ لأن في الكلام معنى النفي، وهو: ﴿يأبى﴾، لأن قولك: " أبيت الفعل " كقولك: " لم أفعل "، فلذلك دخلت ﴿إِلاَّ﴾، وهي لا تدخل إلا بعد نفي.
وقال الزجاج التقدير: ﴿ويأبى الله﴾ كل شيء ﴿إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾.
ومعنى الآية: يريد أحبار هؤلاء ورهبانهم ﴿أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله﴾، ( تعالى)، ﴿ بأفواههم﴾، أي: يحاولون بتكذيبهم وصدهم الناس عن محمد ﷺ، أن يبطلوا القرآن الذي جعله الله ضياء لخلقه، وهو نور الله سبحانه، ﴿ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾، أي: يعلو دينه وتظهر كلمته.
قال السدي: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم، والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون إتمامه.
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى﴾.
وهو الإسلام وشرائعه ﴿وَدِينِ الحق﴾، الإيمان، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾، أي:
قال أبو هريرة: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام.
وقيل: المعنى ليعلمه شرائع الدين كلها، فيطلعه عليها.
فتكون " الهاء " للنبي ﷺ، وهو قول ابن عباس.
وفي القول الأول: " الهاء " تعود على: " الدِّينِ.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان﴾، إلى [قوله]: ﴿مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.
قوله: ﴿والذين يَكْنِزُونَ﴾.
﴿والذين﴾: في موضع رفع عطف على الضمير في: " يأكلون "، فيكون التقدير:
وقيل: ﴿الذين﴾: في موضع رفع بالابتداء.
ومعنى الآية: يا أيها الذين صدقوا بمحمد ﷺ، بما جاء به، إن كثيراً من أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم، وهم: علماؤهم وعبادهم. وقيل: ﴿الأحبار﴾: القراء: ﴿لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل﴾، ويأكلها معهم ﴿والذين يَكْنِزُونَ الذهب﴾، وذلك الرُّشى في الحكم، وفي تحريف كتاب الله تعالى، يكتبون بأيديهم كتباً، ويقولون: هذا من عبد الله، يأخذون بها ثمناً قليلاً، ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام.
و" الكَنْزُ ": كل مَالٍ وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ زكاته.
وقوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾.
أي: لا يؤدون زكاتها.
ورُوي عن علي رضي الله عنهـ: أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " / فإن زادت فهو " كنز "، أدّيت زكاته أو لم تُؤد.
قال ابن عباس: هي خاصة للمسلمين لمن لم يؤدِّ زكاته منهم، وهي عامة في أهل الكتاب، من أدى الزكاة ومن لم يؤدِّ؛ لأنهم لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا.
وقال عمر بن عبد العزيز: أراها مَنْسوخَةً بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
قوله: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَهَا﴾.
ولم يقل: " يُنفقونهما "، إنما ذلك لأن الضمير رجع على الكنوز، والكنوز تشتمل على الذهب والفضة.
وقيل: إن الضمير يرجع على: " الأموال " التي تقدم ذكرها أنها تؤكل بالباطل.
وقيل: الضمير يعود على: " الفضة "، وحذف العائد على الذهب لدلالة الكلام
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنتَ بِمَا | عِنْدَكَ رَاضٍ.... |
وقال معاوية: هذه الآية في أهل الكتاب خاصة.
وقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
أي: اجعل موضع البشارة لهم عذاباً أليماً، أي: مؤلماً، بمعنى مُوجع.
وليس ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، بتمام؛ لأن ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا﴾، منصوب بـ: ﴿أَلِيمٍ﴾.
و (الضمير في ﴿عَلَيْهَا﴾، فيه من الوجوه، ما في: ﴿يُنفِقُونَهَا﴾، وكذلك الضمير في ﴿بِهَا﴾.
وقال ابن عباس: ﴿يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا﴾، قال حَيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به.
وقال النبي ﷺ: " مَن ترك بعده كنزاً مَثَلَ له يوم القيامة شُجاعاً أَقْرَع له زَبِيبَتَانِ، يتبعه فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلم يزل يتبعه حتى يُلْقِمَه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده ".
قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾، الآية.
قوله: ﴿كَآفَّةً﴾.
ومعنى الآية: إن الله قدر أنّ السنة اثنا عشر شهراً في كتابه الذي سبق فيه ما هو [كائن] إلى يوم القيامة، منها أربعة حرم، وهن: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وكان القتال فيها حراماً حتَّى نزل في " براءة " قتال المشركين.
و ﴿ذلك الدين القيم﴾.
وقيل ﴿الدين﴾ هنا: الحساب، أي: الحسابُ المستقيم.
وقال ابن عباس معناه: ذلك القضاء القيم.
وقوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.
أي: لا تستحلوا ما حرم الله تعالى.
قال ابن عباس: ﴿فِيهِنَّ﴾ يعني كلهن.
قال ابن عباس: ﴿فِيهِنَّ﴾، يعني: كلهن.
وهو قول مقاتل بن حيان، والضحاك، جعلاً الضمير يعود على: ﴿اثنا عَشَرَ شَهْراً﴾.
وليس قوله: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ إذا جعلناه الأربعة الأشهر بمبيح لنا أن نظلم أنفسنا في غير الأربعة الأشهر، ولو كان ذلك كذلك لكان قوله: ﴿وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١] دليلاً على إباحة قتلهم إذا لم يخشوا إملاقاً، ولكان قوله:
وأصل هذا: أن كلَّ نهي إنما يوجب الامتناع عما نهى عنه دون غيره، وكل أمر فهو نافسٍ لأضداده فإذا قلت: " قُمْ "، فقد أمرته بترك أضداد القيام من القعود والأضطجاع، وإذا قلت: " لا تَقُمْ "، فلم تنهه عن الاضطجاع ولا عن ألا تكاء ولا عن شيء من أضداده، فاعمله.
فالنهي عن الشيء لا يكون نهياً عن أضداد ذلك الشيء والأمر بالشيء أمر عن أضداد/ ذلك الشيء على مبينا، فافهمه.
وقال قتادة، وغيره: ﴿فِيهِنَّ﴾ في الأربعة الحرم، جعل الذنب فيهن أعظم منه في غيرهن.
وأكثر ما تستعمل العرب " الهاء " و " النون " فيما دون العشرة، و " الهاء "
فالظلم في جميعها لا يجوز، ولكن هو فيها أعظم وزراً لشرفها، فلذلك خصها بالذكر، تعالى، وهذا كقوله: ﴿والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] أفردها بعد أن ذكرها مجملة لشرفها، وليس إفرادها بالمحافظة يدل على ترك المحافظة فيما سواها، فكذا هذا.
وقال ابن إسحاق المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً، تعظيماً لها، فإنما نهو عن " النسئ " الذي المشركون يصنعونه.
أي: جميعاً.
ومعنى ﴿كَآفَّةً﴾، أي: يكف بعضهم بعضعاً عن التخلف كما يفعلون.
﴿واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين﴾.
أي: مع من اتقى أمره ونهيه وأطاعه.
ومن جعل ﴿فِيهِنَّ﴾ يعود على: " الاثنا عشر شهراً " وقف على: ﴿القيم﴾، ومن جعله يعود على: " الأربعة الحرم " وقف على: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾، وهو قول نافع والأخفش. والأول قول أبي حاتم ويعقوب.
قوله: ﴿إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر﴾، الآية.
روى أحمد بن صالح، وداود، وأبو الأزهر عن ورش: ﴿النسياء﴾،
وكذلك قال أحمد بن صالح عن قالون.
وقال الحلواني عن قالون: مهموز.
وهو من " نسأتُ " و " أَنْسَأْتُه ": إذا أخرته.
ومن قرأ بغيْرِ همزٍ احتمل أن يكون على تخفيف الهمز.
واحتمل أن يكون من " نسيت " الشيء: تركته.
ومن قرأ ﴿يُضَلُّ﴾، بفتح الياء، فمعناه: أنهم يَضِلون بتأخير شهر الحج
ومن قرأ ﴿يُضَلُّ﴾ بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله احتج بقوله: ﴿زُيِّنَ لَهُمْ﴾، فأجراه عليه للمشاكلة.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء: ﴿يُضَلُّ﴾، بالضم، من: " أضَلَّ "، على معنى: أنهم يضلون به مَنْ قَبِلَ منهم ذلك.
و ﴿الذين﴾ في القراءتين المتقدمتين في موضع رفع.
ويجوز أن يكون في موضع نصب، على معنى: يُضل الله به الذين كفروا.
ومعنى الآية عند الطبري: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، على معنى: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك من شهور الحرم، وتصييرهم الحرام حلالاً، والحلال حراماً، زيادة في كفر من فعل ذلك.
وذلك أنَّ أبا ثُمامة بن عوف، كان يحرم عليهم صفراً عاماً، ويحلله عاماً، فيحرم صفراً والمحرم عاماً، وهو قوله: ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾.
وذلك أنهم (كانوا) قد تمسكوا بتحريم الأربعة الأشهر الحرم من ملة إبراهيم، عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرّم لحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر، ويقاتلون في المحرم. (هذا قول أبي عبيد، قال: فيحرمون صفراً إذا
وقد تأول قوم قول النبي ﷺ: " لا صَفَرَ " أنه إنما نفى هذا المعنى.
ثم كانوا يحتا/جون إلى صفر لقتال، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يتمادون على تحريمه، ثم كذلك يؤخرون من شهر إلى شهر حتى استدار المحرم عن السنة كلها، فأتى الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل؛ لأنهم كانوا ينتقلون إلى تحريم شهر، ويقيمون عليه مدة، (ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده، ويقيمون عليه مدة ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده ويقيمون عليه مدة)، حتى صاروا إلى المحرم، فأتى الإسلام وقد
فقوله: ﴿يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً﴾، هو أنه يحلون صفراً، ثم يحتاجون إلى تحريمه [فيحرمونه]، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون.
وقال مجاهد في قوله: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾ [البقرة: ١٩٧]، أي: وقد استقر الحج الآن في ذي الحجة فلا جدال فيه.
وقال مجاهد: كانت العرب تحج عاميْن في ذي القعدة، وعاميْن في ذي الحجة، فلما حج النبي ﷺ، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: ﴿وَلاَ جِدَالَ فِي الحج﴾، أي: استقر في ذي الحجة.
قال ابن زيد: كان اسم الرجل: الْقَلَمَّس، قال شاعرهم:
ومنَّا الذي يُنْسي الشُّهورَ الْقَلَمَّسُ... ومعنى ﴿زِيَادَةٌ﴾، (أي): أزدادوا به كفراً إلى كفرهم.
وروى ابن أبي شيبة أن اسم الرجل: نسيء.
﴿زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ﴾.
أي: حبب ذلك إليهم.
﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾.
أي: لا يوفقهم للهدى.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا﴾، إلى قوله: ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
هذه الآية تحريضٌ من الله، تعالى، وحثَّ للمؤمنين على غزو الروم، وذلك غزوة تبوك. بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد خيبر، وحنين، أُمروا بالغزو في الصيف حين
ومعنى ﴿انفروا﴾: اخرجوا غزاة.
ومعنى: ﴿اثاقلتم﴾، أي: تثاقلتم فلزمتم الأرض والمقام بمساكنكم.
﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾.
أي: بخفض الدَّعةِ في الدنيا عوضاً من نعيم الآخرة.
﴿فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
أي: ما الذي تستمعون به في الدنيا من عيشها في نعيم الآخرة إلا يسير.
قال النبي ﷺ: " مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة أفضلُ من الدُّنيا وما فيها ".
يتوعدهم على ترك الغزو إلى الروم، ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾: أي عاجلاً في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم.
﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾.
(أي: ويستبدل الله، تعالى، نبيَّه عليه السلام قوماً غيركم)، ينفرون معه إذا استنفروا.
﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾.
أي: لا تضروه، بترككم النفير، شيئاً، إذا لا حاجة به إ ليكم ولا إلى غيركم.
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
على أهلاككم واستبدال قوم غيركم [بكم]، وعلى سائر الأشياء.
قال ابن عباس: استنفر النبي عليه السلام، حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه،
ورُويَ عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتْهَا: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقال الحسن، / وعكرمة، وأكثر العلماء على أنهما محكمتان، لأن معنى ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ﴾، [أي]: إذا احتيج إليكم.
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً﴾، معناه: أنه لا بد أن يبقى بعض المؤمنين لئلا تخلى دار الإسلام. وقد قاله: الحسن، والضحاك.
قوله: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ﴾، الآية.
﴿ثَانِيَ اثنين﴾: نصب على الحال.
وقال على بن سليمان: نصبه على المصدر، والمعنى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ﴾، فخرج ﴿ثَانِيَ اثنين﴾.
مثل: ﴿والله أَنبَتَكُمْ [مِّنَ الأرض [نَبَاتاً]﴾ [نوح: ١٧]....
والغار بجبل يسمى: " ثوراً ".
وكان عامر بن فهيرة في غنم لأبي بكر بـ: " ثور " هذا، يروح بتلك الغنم على النبي ﷺ، بالغار، وكان أبو بكر قد أرسله بتلك الغنم إلى " ثور " قبل خروجه مع
قال أبو بكر رضي الله عنهـ: " بينا أنا مع النبي ﷺ، [ في الغار] وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله ﷺ الله، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا، قال: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَينِ اللهُ ثَالِثُهُما ".
والمعنى: الله ثالثهما، بالحفظ والكلاءة والمنع منهما.
وفي فعل النبي ﷺ، هذا مع أبي بكر سُنَّةٌ لكل من خاف من أمر لا قوام له به، أن يفر منه، ولا يُعرّض نفسه إلى ما لا طافة له به، اتباعاً لفعل نبيه، عليه السلام، ولو شاء الله، عز جل، أن يسكنه معهم، ويُعمي أبصارهم عنه لفعل، ولو شاء لمشى بين أيديهم ولا يرونه، ولو شاء أن يهلكهم بما أرادوا أن يفعلوا لفعل، ولم يكن ذلك عليه عزيزاً،
وفي فعل النبي ﷺ، وأبي دليلٌ على فساد قول من قال: من خاف شيئاً سوى الله تعالى، لم يوقن بالقدر. فحذر أبي بكر من أن يراهم المشركون دليل على الحذر من قدر الله، تعالى، لم يوقن بالقدر. فقال ذلك، رضي الله عنهـ، إشفاقاً على رسول الله ﷺ، أن يُنَالَ بأذى أو يُفْتَنَ هو في دينه إن قدر عليه، فخف من ذلك، مع علمه أنّ الله تعالى، بالغ أمره فلي كل ما أراد. وقال الله حكاية عن موسى، عليه السلام.
﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾ [طه: ٦٧] ﴿قُلْنَا لاَ تَخَفْ﴾
[طه: ٦٨].
وقوله: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾.
أي: [على] أبي بكر، والنبي عليه السلام، لم تفارقه السكينة قط.
وقد قيل: إنَّ " الهاء " تعود على النبي ﷺ.
والأول أحسن؛ لأن النبي عليه السلام، معصوم من ذلك، على أنه قد قال تعالى: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ [الفتح: ٢٦]، وذلك أن النبي عليه السلام، خاف على المؤمنين يوم حنين لما اضطربوا، فلما أيد الله تعالى، المؤمنين بنصره، سكن خوف النبي/ ﷺ، عليهم.
وقوله: ﴿وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾.
" الهاء " عائدة على النبي ﷺ.
﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى﴾.
أي: قهر الشرك وأذله.
﴿وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا﴾.
أي: كذلك هي، ولم تزل كذلك.
وقرأ علقمة، والحسن، ويعقوب: " وكلمة الله " بالنصب، وهو بعيد من وجوه.
أحدهما: أن الرفع أبلغ؛ لأنها لم تزل كذلك، والنصب يدل على أنها جُعلت كذلك بعد أن لم تكن علياً.
وزعم قول إن إظهار الضمير في هذا حسن؛ لأنّ فيه معنى التعظيم، ولأن المعنى لا يشكل، وليس بمنزلة زيد ونحوه الذي يشكل، قال: وهو مثل ما أنشد سيبويه:
لاَ أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ | ................. |
أسيئ بِنَا أوْ أحْسِني، لاَ مَلُومَةً | لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلَّيةً إِنْ تَقلَّتِ. |
وجاز أن يقع لفظ الأمر بمعنى الخبر، كما جاز أن يقع لفظ الخبر بمعنى الطلب والأمر، تقول: " غَفَرَ اللهُ لِزَيْدٍ " معناه: الطلب والدعاء، ولفظه لفظ الخبر، والمعنى: " اللهم اغفر لزيد ".
وهذه الآية نزلت في الجدّ قيس، لأنه لما عرض النبي عليه السلام [عليه] الخروج، سأل المقام، واعتذر بأنه لا يصبر إذا رأى النساء، وأنه يفتتن، ثم قال للنبي ﷺ: هذا مالي أعينك به.
ثم أخبر الله تعالى بالعلة التي من أجلها لم تقبل نفقاتهم، فقال: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ﴾، أي: بأن تقبل، ﴿إِلاَّ أَنَّهُمْ﴾، " أنّ " في
وأجاز الزجاج، أن تكون " أَنَّ " في موضع نصب، على معنى: إلا لأنَّهم كفروا، ويكون الفاعل مضمراً في ﴿مَنَعَهُمْ﴾، والتقدير ومامنعهم الله من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا لأنهم كفروا.
ويجوز عند سبيويه، أن تكون في موضع جر، على تقدير حذف الخافض.
ومن قرأ: ﴿أَن تُقْبَلَ﴾ بـ: " الياء "، رده على معنى الإنفاق، لأنه والنفقات سواء.
ثم قال تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم﴾.
أي: لا تعجبك، يا محمد، أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله، يا محمد ليعذبهم بها في الآخرة.
وقوله: ﴿فِي الحياوة الدنيا﴾، يريد به التقديم. والمعنى: ولا تعجبك يا محمد، أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، هذا قول ابن عباس، وقتادة وغيرهما.
وقال الحسن: ليس في الكلام تقديم ولا تأخير، إنما المعنى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾، أي: بما ألزمهم فيها من أخذ الزكاة والنفقة في
على معنى: أنهم يخرجونها تقيةً وخوفاً، ويقلقهم عزمها، ويحزنهم خروجها من أيديهم، فهي لهم عذابٌ.
وقال ابن زيد المعنى: ﴿لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا﴾، أي: بالمصائب فيها، فهي لهم إثم، والمصائب للمؤمنين أجر.
﴿وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون﴾.
أي: تخرج وهم على كفرهم.
فمن قال: في الكلام تقديم وتأخير، لم يجز الوقف.
ومن قال: ليس فيه تقديم ولا تأخير، حسن الوقف على: ﴿وَلاَ أولادهم﴾.
و ﴿فِي الحياوة الدنيا﴾، ليس بتمام؛ لأن ﴿وَتَزْهَقَ﴾، معطوف عليه.
قوله: ﴿وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ﴾.
والمعنى، / أن هؤلاء المنافقين يحلفون لكم، أيها المؤمنون، ﴿إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ﴾، يعني في الدين والملة.
قال الله تعالى، مكذباً لهم: ﴿وَمَا هُم مِّنكُمْ﴾، أي: ما هم من أهل ملتكم ودينكم، ﴿ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾، أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعتقدن خوفاً منكم، لئلا تقتلوهم.
وقال: ﴿أَوْ مُدَّخَلاً﴾ ذهاباً في الأرض، وهو النفق في الأرض يعني السِّربُ.
وواحد المغارات: " مغارة "، من: غار الرجل في الشيء: إذا دخل فيه.
وأجاز الأخفش: " مُغارات "، من: " أَغَارَ يُغِيرُ "، كما قال:
الحَمْدُ للهِ مُمْسَانَا ومُصْبَحَنَا | ................. |
أمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ | وَفْقَ الِعيَالَ فَلَمْ يُتْركْ لَهُ سَبَدُ |