هذا ويكره ابتداؤها بالبسملة لأنها نزلت بغيرها، ولأن حضرة الرّسول لم يبسمل عند قراءتها، ولم يثبت لها البسملة بالصحف ولم يأمر الكتبة بذلك، وقد خصت بعدمها من جميع سور القرآن، وما عموم إلّا وخصص، فهذه من المخصوصات بعدم البسملة، ولكن يسن للقارى أن يتعوذ أولها كسائر آيات القرآن لقوله تعالى:
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الآية ٩٩ من سورة النّحل في ج ٢.
قال تعالى يا أيها النّاس هذه «بَراءَةٌ» قاطعة حاسمة «مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (١) وقد جاء الخطاب فيها بلفظ الجمع تعظيما لسيد المخاطبين وتفخيما لمقامه الكريم عند الله، وإذ كان الإنذار بإنهاء العهود الكائنة مع حضرة الرّسول والكافرين، ينذرهم بالغزو والإقسار على الإيمان، رأينا أن نذكر أولا غزوات حضرة الرّسول التي جاء ذكرها في القرآن العزيز ليطلع عليها القارئ ويعرف أسبابها وماهياتها ونتائجها، وهي اثنتا عشرة غزوة: الأولى غزوة بدر التي نوه الله بها في الآية ٦ من الأنفال عند قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) إلخ، الثانية غزوة أحد الملمع إليها في الآية ١٤٠ من آل عمران عند قوله تعالى (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إلخ، الثالثة غزوة حمراء الأسد المشار إليها في الآية ١٧٣ من آل عمران أيضا عند قوله تعالى (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ)
الله عليه وسلم لا يتحرك بحركة إلّا بأمر الله تعالى الذي يترقبه بفارغ الصّبر، ويريد أن يحين الأجل المقدر لأمره بقتالهم، ولكنه مفوض أمره وأمورهم إليه، وجعل علمه تعالى بحاله كافيا عن سؤاله أسوة بجده خليل الله إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وهو يعلم بتعليم الله إياه أن لا حركة ولا سكون إلا بتقديره وقضائه، ولكل أجل كتاب، ولما حان ذلك الوقت المرتقب وبرز من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ومن القوة إلى الفعل أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم في هذه السّورة ينقض جميع العهود التي عقدها معهم لئلا ينسب إلى الغدر ونكث العهد وفك الميثاق على حين غفلة، ونفي اسم الإغرار والتغرير عنه وعن أصحابه، وقطع المعذرة في إيمان من يريد الإيمان أنذرهم إنذارا قاطعا لكل حجة إنذارا ما بعده إنذار وحجة ما بعدها حجة، ومن أنذر فقد أعذر. وقد أمهلهم الله تعالى مدة كافية ليختاروا الطّريق الذي يرضونه لأنفسهم لئلا يقولوا أعجلنا وضيق علينا الأجل، فقال جل قوله «فَسِيحُوا» أيها المشركون والمنافقون «فِي الْأَرْضِ» آمنين مطمئنين على أنفسكم وأموالكم وأعراضكم وبلادكم وذراريكم وإمائكم لا يعارضكم معارض ولا ينازعكم منازع مدة «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» لا مدة لكم بعدها وهي كافية لأن تتحروا وتتذاكروا وتتشاوروا وتلموا شعئكم وتجمعوا شملكم وتتعاهدوا وتتواثقوا
فكان يوم عرفة يوم الجمعة الذي أنزلت فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية ٤ من المائدة المارة ومن ذلك اليوم قد تعورف على أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة يكون الحج حجا أكبر، أي أكبر أجرا من غيره لتوالي الخطب فيه، ولفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وهو عيد المسلمين، وحج الفقراء والمساكين.
مطلب إنذار الله إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:
ثم بيّن تعالى هذا الأذان بقوله جل قوله «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» برىء منهم أيضا- على أن رسوله مرفوع- وقرأه بعضهم منصوبا عطفا على لفظة الجلالة، أي أن الله برىء وأن رسوله بريء منهم. ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية، ويكفر مستحلها لما فيها من الكفر بنسبة البراءة من الله تعالى لحضرة رسوله وحبيبه وصفيه ومختاره من خلقه.
حكي أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان الله بريئا من رسوله فانا منه بريء فلبّبه الرّجل إلى عمر، أي مسكه من لبته، وأخذة، وحكى قراءته إلى عمر، فزجره ونهاه عن أن يعود إليها، وأمر بتعليم العربية. وقال آخرون إن سبب الأمر بتعليم العربية قصة أبي الأسود الدّؤلي مع ابنته التي حكاها إلى سيدنا علي كرم الله وجهه، وانه هو الذي أمر بتعليم العربية، والكل وارد وجائز، قال تعالى «فَإِنْ تُبْتُمْ» أيها الكفار والمنافقون بعد هذا الإنذار فآمنتم وأخلصتم «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في الدّنيا حيث تأمنون على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ودياركم وما ملكت أيمانكم، وفي الآخرة تأمنون من عذاب الله وتنالوا جنته «وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ» وأعرضتم عن التوبة المدعوين إليها وبقيتم على ما أنتم عليه «فَاعْلَمُوا
ولا خالصين من عذابه ولا سابقين عقابه إذ لا مهرب منه إلّا إليه، ولا تكرار هنا لأن الأولى جاءت في معرض التهديد لمدة نقض العهد، وهذه في معرض الوعيد لمن لم يتب وأصر على عناده. ثم خاطب رسوله بما فيه تقريعهم فقال عز قوله «وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (٣) لا تطيقه قواهم ولا نجاة لهم منه، وهذه الآية جاءت على طريق التهكم، لأن البشارة عادة تكون في النّعم لا في النّقم على حد قولهم انهم قوم تحيتهم الضّرب وإكرامهم الشّتم.
وقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الآية: ٥ من سورة الدّخان ج ٢ تهكما به وتقريعا. واعلم أن ابتداء هذا الأجل الذي أشرنا إليه آنفا على القول الصحيح وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأن يوم التبليغ لا يحسب لأن يوم النّزول الذي هو غرة شوال وانتهاؤها اليوم العاشر من ربيع الآخر السّنة العاشرة من الهجرة، لأن العبرة بتاريخ التبليغ بالنسبة للمبلغين، وكان المبلغ لهذا سيدنا علي كرم الله وجهه، وذلك أن عادة العرب المطرّدة بينهم أن لا يبرم العهد ولا ينقضه إلا المعاهد نفسه أو واحد من أهل بيته، ولما كان حضرة الرّسول لم يحج في السّنة التاسعة وقد أمّر على الحج سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وقد أمر الله رسوله بإبلاغ ما جاء في أول هذه السّورة للناس، ولم يمكن إجراء هذا التبليغ من قبل الصّديق أمير الحج للسبب المذكور، أرسل ابن عمه عليا كرم الله وجهه ليتلو أوائل هذه السورة على النّاس نيابة عنه في الموقف، ليطلع عليه كلّ النّاس، والشّاهد يعلم الغائب روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط ليؤذنوا في النّاس يوم النّحر أن لا يحج بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! وفي رواية ثم أردفه النّبي صلّى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! ولا يفهم من هذا الحديث عزل أبي بكر عن الإمارة بل دوامها بدليل إرساله أبا هريرة يؤذن في النّاس في رهط معه، وما كان إرسال علي كرم الله وجهه من قبل حضرة الرّسول بعد إلّا بسبب ما تقدم لأن العهد لا يقرّره إلّا سيد القبيلة ولا
ذي الحجة والمحرم كله من الأشهر الحرم وآخرها هو ربيع الأوّل وعشر من ربيع الثاني أدخلها معها فسمّاها كلها حرما تسامحا لأن صفر والرّبيعين ليسوا من الحرم، أما إذا أراد بها غرة شوال الذي كان بها نزول الآية فقد أخطأ أيضا ولم يصب الهدف إذ ليس شوال من الأشهر الحرم، ورجب لم يدخل فيها إذ لا عبرة لتاريخ النّزول، لأن النّاس لا يعلمون به، وإنما العبرة لتاريخ التبليغ، بدليل قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) أي بعد الإنذار الكائن في التاسع من ذي الحجة، تأمل.
«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» في الحل والحرم قاتلوا أولم يقاتلوا لأنهم أنذروا وأمهلوا لكي يؤمنوا ولمّا لم يفعلوا فلم تبق لهم حرمة «وَخُذُوهُمْ» أسرى واسلبوا أموالهم «وَاحْصُرُوهُمْ» في قراهم وديارهم وضيقوا عليهم في ملاجئهم وامنعوهم من الفرار من مكة حتى يؤمنوا أو يهلكوا «وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» ممر يمرون به أو مجاز يجتازونه أو محل يختفون فيه أو مغارات يختبئون بها أو سريا ينفذون منه لمحل يقبهم أو غيره، فضيقوا عليهم الطّرق كافة حتى يؤخذوا من كلّ جهة فيضطروا إلى الإيمان قسرا «فَإِنْ تابُوا» من شركهم وآمنوا إيمانا صحيحا «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ» اتركوهم لأنهم صاروا مثلكم لا فضل لكم عليهم إلّا بقدم الإسلام وزيادة التقوى «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» كثير المغفرة لما سبق منهم بعد أن تابوا وأنابوا «رَحِيمٌ» (٥) بعباده لا تضيق رحمته التي وسعت كلّ شيء عمن التجأ إلى بابه ورجع إليه من خلقه بل يقبل توبتهم ويرفع القتل والسّبي عنهم ما لم يكونوا في حالة يأس من الحياة.
قال تعالى «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» استأمنك يا سيد الرّسل ودخل في جوارك وأمانك بعد انسلاخ المدة المذكورة أو في أثنائها «فَأَجِرْهُ» آمنه على نفسه وماله وأهله ولا تقتله «حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» ويعرف ما له من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن بقي على كفره، فإن آمن بعد ذلك فقد نجا، وإلّا فلا سبيل لك عليه حالة كونه في جوارك وما دام في
«كَيْفَ» يكون للمشركين عهد وهم إن يظفروا بكم «وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» بعد توكيد الأيمان «لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا» حلفا وقرابة «وَلا ذِمَّةً» عهدا وميثاقا «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ» بكثرة ما يحلفون لكم وما يعطونكم
ومع هذا «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ» اقبلوهم لأنهم صاروا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم وإياهم بالحقوق سواء، لأنهم صاروا إخوانكم «فِي الدِّينِ» الجامع بينكم، ولا تكرار في هذه الآية أيضا لأن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل وشبهه فكان جوابها أمرا وهو «فَخَلُّوا» وهذه الآية سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء فكان جوابها حكما وهو «فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ» لتساويهم في أحكامه وهذه أجلب لقلوبهم من تلك للفرق الظّاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدّينية لهم، وفيها دلالة على تحريم دماء أهل القبلة «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ» الدالات على أحكامنا في خلقنا ونبيّنها بيانا كافيا ونوضحها توضيحا شافيا «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (١١) معانيها ويفقهون مداركها. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال لما توفي النّبي صلّى الله عليه وسلم واستخلف أبا بكر رضي الله عنه
قال تعالى «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ» على ألّا يقاتلوكم ولا يعينوا عليكم أحد «وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ» فعابوه وثلبوه وقدحوا به «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» رؤساءهم وشيوخهم «إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ» ولا عهد ولا ذمة ولا وفاء «لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (١٢) عن النّكث في العهود والطّعن فيكم، وإذا لم تبادروهم بالقتال تقل هيبتكم في قلوبهم بل ابدأوهم به لتزداد هيبتكم في قلوبهم، وهذا الأمر فيهم وفي أتباعهم، لأن الأتباع تبع للقادة، وإن قتال رؤسائهم قتال لهم كافة طبعا، وإنما خص الأئمة لأنهم هم الّذين عقدوا عليهم العقود، وهم الّذين نكثوها، وأتباعهم تبع لهم في ذلك، أي قاتلوهم جميعا، قال تعالى منبها المؤمنين «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ» في المعاهدات «وَهَمُّوا» قبلا «بِإِخْراجِ الرَّسُولِ» من بلده مكة حين أجمع رؤساؤهم على قتله كما تقدم في الآية ٤٠ من سورة العنكبوت في ج ٢ بيان عملهم هذا فراجعها، «وَهُمْ
بالقتال «أَوَّلَ مَرَّةٍ» حينما كنتم في مكة وأخرجوكم منها صاغرين حتى هاجرتم إلى الحبشة والمدينة ولم يمكنوكم من دخول مكة يوم الحديبية وقالوا يوم بدر لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه وقاتلوا حلفاءكم من بني خزاعة «أَتَخْشَوْنَهُمْ» الآن أيها المؤمنون وتنسون مساويهم القديمة معكم بعد أن منّ الله عليكم بما منّ من الفتوحات والقوة والكثرة في المال والرّجال وتتأخرون عن قتالهم، ولا يكون منكم هذا أبدا، وهذا التنبيه المصدر في هذه الآية ينمّ بالتوبيخ والتقريع على من يتمنع عن قتالهم ويحث على الانتقام منهم بعد أن أجاز الله ذلك لهم «فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» في مخالفة أمره في ترك قتالهم، كلا لا تخشوهم أبدا واخشوا الله الذي سينصركم عليهم. ولا يرد على هذا قوله تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية ٢٣ من سورة الأنفال المارة، لأن المراد فيه عذاب الاستئصال وهو يشمل المذنب وغيره والمخالف والموافق، أما عذاب القتل المقصود في هذه الآية فإنه لا يتعدى إلى غير المذنب المخالف، بل هو مقصور عليها فاعلموا ذلك «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (١٣) به إيمانا كاملا ثم حثهم على القتال فقال «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ» لتشفّوا منهم «وَيُخْزِهِمْ» بالأسر والسّبي «وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ» بالقتل والجلاء «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» (١٤) من داء الأذى الكامن في صدورهم مما كانوا ينالونه منهم قبلا، وهذه الآية عامة في جميع الكفار، ونزولها في خزاعة التي تعدت عليها قبيلة بني بكر وأعانتها قريش عليها خلافا لعهد الحديبية المار ذكره في الآية ١١ من سورة الممتحنة المارة لا يخصصها فيهم ولا يمنع إطلاقها وشمولها لغيرهم، لأن في قتل هؤلاء الكفرة أخذا لثأرهم وظفرا للمؤمنين عامة وسببا لقوة اليقين وثبات العزيمة «وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» الوجد الذي كان فيها عليهم بما يحل فيها من الفرح العظيم والسّرور الجسيم بانجاز وعد الله تعالى لهم بالنصر والفوز «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» منهم يقوى إيمانه إذا تاب وأناب. وبعد نزول هذه الآية أسلم ناس كثيرون منهم «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بمن سيقت له العناية بالهداية «حَكِيمٌ» (١٥) بما يفعل بعباده وما يأمرهم به وينهاهم عنه. قال تعالى «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا»
واتخاذ بطانة منهم وإخلاص المخلصين لله ولرسوله الّذين لم يوالوا غيره ولم يتخذوا سواه. قال تعالى «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» التي خصها لتوحيده والقيام بشعائره «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» أي لا يصح ولا يكون لهم ذلك ولا يستقيم فعله منهم ولا يمكنهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة بيوت الله تعالى مع الكفر به في حالة من الأحوال أبدا «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» التي عملوها بالدنيا من جميع وجوه البر والخير لأنها لم تكن خالصة لوجهه بل لمجرد السّمعة والرّياء، وما كان خالصا منها فقد كوفئوا به في الدّنيا بما منّ الله عليهم من صحة ومال وولد وجاه وغيرها، وحرموا ثوابها في الآخرة، ولهذا قال تعالى «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» (١٧) لا يتحولون عنها أبدا ومن كان هذا شأنهم، وهذه عاقبتهم لا يكونون أهلا لعمارة مساجد الله المخصصة لعبادته وحده «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» في أمر دينه
وهؤلاء هم الّذين «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» (٢١) لا ينقطع أبدا عنهم حالة كونهم «خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (٢٢) لا أعظم منه ولا يحيط به عقل البشر يمنحه الله من يشاء من عباده، لأن الإيمان بالله لا يوازيه عمل وكلّ عمل بلا إيمان لا قيمة له عند الله.
مطلب تفضيل الإيمان على كلّ عمل مبرور كعمارة المساجد والإطعام وفك الأسرى وغيرها:
وسبب نزول هذه الآيات على ما قاله العلماء أن العباس افتخر بالسقاية، وافتخر شيبة بالعمارة، وعلي كرم الله وجهه بالإيمان والإسلام والجهاد، فنزلت هذه الآيات.
روى مسلم عن النّعمان بن بشير قال كنت عند منبر النّبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلّا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النّبي وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فأستفتيه عما اختلفتم فيه، فأنزل
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جاء إلى السّقاية فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها، فقال اسقني (أي مما عندك من الشّراب) فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال اسقني (لا بأس من وضع الأيدي بالشراب) فشرب منه، ثم اتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا (يعني عاتقه). وروي مسلم عن أبي بكر ابن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاني أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللّبن وأنتم تسقون النّبيذ أمن حاجة بكم
شربت الحب كأسا بعد كأس | فما نفسد الشّراب ولا رويت |
شربنا على ذكر الحبيب مدامة | سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم |
وهل بدّل الدّين إلّا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» أنفسهم وغيرهم لقاء ما يأخذونه منهم من حطام الدّنيا، مع أن الواجب عليهم ألّا يفعلوا شيئا من ذلك، لأن الأحبار بمثابة العلماء العاملين، والرّهبان بمثابة المشايخ الصّوفية الكاملين المتقيدين بحدود الله، وكلمة كثير تفيد أن القليل منهم لا يفعل ذلك بل يجمع لنفسه وغيره منه ويتقيد بأوامره ونواهيه «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
(٣٤) يوم القيمة «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» ويقال لهم حين يفعل بهم ذلك «هذا» جزاء وعقاب وعذاب «ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ» من الذهب والفضة التي لم تؤدوا حق الله منها «فَذُوقُوا» وبال تضييعكم حق الله وعدم إعطائه لفقرائه جزاء «ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (٣٥) في دنياكم، وفي هذا معنى الذم لمالهم ذلك لأنهم لم ينتفعوا به.
والكنز يطلق على الجمع وغيره، راجع الآية ٢٦٧ من سورة البقرة الدّالة على فرضية الزكاة، وهذه الآية عامة في كلّ من ذلك شأنه، لأنها نزلت في مانعي الزكاة، وإن ورودها بسياق ذم أهل الكتاب الّذين يأخذون أموال النّاس بالباطل لا يخصصها فيهم، روى مسلم عن زيد بن وهب قال مررت بالربذة فإذا بأبي ذر، فقلت ما أنزلك بهذا المنزل؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فقال معاوية نزلت في أهل الكتاب، فقلت نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم إلى المدينة، فقدمتها، فكثر علي النّاس حتى كأنهم لم يروني من قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال إن شئت تنحيت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت، يريد رضي الله عنه إفهامهم بأن عثمان رضي الله عنه نفاه إلى ذلك المكان وأن طاعته واجبة عليه. ومعنى الكنز ما روي عن ابن عمر قال أعرابي أخبرني عن قول الله تعالى عز وجل (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ إلخ) قال ابن عمر من كنزها فلم يؤدّ زكاتها ويل له، وهذا كان قبل أن تنزل آية الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال سمعت عبد الله بن عمر قال كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا. وهذا هو الحكم الشّرعي في ذلك، وإن مانع الزكاة يدخل في هذا الوعيد.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال قال صلّى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلّا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلّا إذا كان يوم القيمة يبطح لها بقاع قرقر (المستوي من الأرض الواسعة الملساء) أوفر مما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا فتطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما الى الجنّة وإما إلى النار، قيل يا رسول الله والبقر والغنم؟ قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء (ملتوية القرنين) ولا حلجاء (لا قرون لها) ولا عضباء (مكسورة القرنين) تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مرّ عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقدارة خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له ماله شجاع أقرع (حيّة مسنّة) له زبيبتان (شعرتان) في شدقيه يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (العظمان النّاتئان من لحييه) يعني شدقيه، ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا قوله تعالى (ولا تحسبن الّذين يبخلون) الآية ١٨٠ من آل عمران المارة. وفي موطأ مالك من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطلبه حتى يمكنه يقول له أنا كنزك. وروى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال انتهيت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال
تقريبا بحسب الهلال، فتنقص السّنة الهلالية عن الشّمسية عشرة أيّام وثلث اليوم تقريبا، ويسبب هذا النّقص تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصّوم تارة في الصّيف، وطورا في الخريف، ومرة في الشّتاء، وأخرى في الرّبيع بحيث يدوران في كلّ يوم من أيّام السّنة ويعودان
طيب نفس، ونائب فاعل زين هو الشّيطان الذي يلقي في قلوبهم النّجسة أمثال هذه المخالفات فيعملونها.
واعلم أنه لا يجوز إنقاص أشهر السّنة عن هذا العدد، ولا إنقاص الأشهر الحرم منها أو تبديلها لورود النّص القاطع فيه، لأن نقصها وزيادتها مخالف لأمر الله تعالى، أما ما تعمله اليهود من نقص عدد أشهر بعض السّنين وزيادتها في بعضها فهو من جملة مخالفاتهم لأوامر أنبيائهم وكتابهم وتحريفهم ما جاء عن الله تعالى
ونحن النّاسئون على معدّ | شهور حلّ نجعلها حراما |
مطلب فى المجاهدين وما ذكره الله من هجرة رسوله والحث على الجهاد وغزوة تبوك وما وقع فيها:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ» تباطئتم عن تلبية الأمر حالا ولم تسرعوا للاجابة وملتم الى الإخلاد «إِلَى الْأَرْضِ» والمكث فيها وكراهية الذهاب للجهاد في سبيل الله «أَرَضِيتُمْ» أيها المؤمنون الأعزاء الكرام «بِالْحَياةِ الدُّنْيا» الدنيئة واغتررتم بزخارفها المموّهة الفانية وآثرتموها «مِنَ الْآخِرَةِ» الباقية ذات النّعيم الدّائم، فتبّا وخسرا لمن آثر ما يفنى على ما يبقى، وآثر القعود على الجهاد «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي» جنب الحياة «الْآخِرَةِ» مستمرة الرّاحة عظيمة الاستراحة «إِلَّا قَلِيلٌ» (٣٨) جدا، أخرج مسلم عن المسور قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال «إِلَّا» إن لم «تَنْفِرُوا» الى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء الله أعدائكم الحريصين على استئصالكم «يُعَذِّبْكُمْ» ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم «عَذاباً أَلِيماً» في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من الله ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين. ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسّلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين «وَلا تَضُرُّوهُ» أيها المخالفون أمره «شَيْئاً» أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (٣٩) لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا. ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره «إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن الله له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان «ثانِيَ اثْنَيْنِ» هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا الله، وقد حفظه ورعاه «إِذْ هُما فِي الْغارِ» الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان
ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل الله على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» ومن كان الله معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ» أمنه وطمأنينته «عَلَيْهِ» وعلى صاحبه «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» لأنها مدعاة الى الكفر به «وَكَلِمَةُ اللَّهِ» بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة الله عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها «هِيَ الْعُلْيا» في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم «حَكِيمٌ» (٤٠) بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغار أرسل الله زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا. وقال صلّى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا
قال النّبي ولم يجزع يوقرني... ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا... وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من نخشى بوادره... كيد الشّياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرا بما صنعوا... وجاعل المنتهى منهم إلى النّار
وهذا البحث قد مر في الآيتين ٣١ و ٣٦ من الأنفال، وفي الآية ٤٠ من سورة العنكبوت ج ٢ فراجعها. قال الأبوصيري:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على... خير البرية لم تنسج ولم تحم
إلخ الأبيات من البردة. وقال في الهمزية:
أخرجوه منها وآواه غار... وحمته حمامة ورقاء
إلخ الأبيات، وقيل في هاتين القصيدتين ما مدح خير البرية بأحسن من البردة والهمزية، وهو كذلك، لأنهما جامعتان مانعتان، وكلّ المداح عيال على صاحبهما رحمهم الله.
قال تعالى «انْفِرُوا خِفافاً» نشطين سراعا حال النّداء بلا توان «وَثِقالًا» متروين بكمال الاستعداد ركبانا ومشاة شبانا وشيوخا، فقراء وأغنياء، عزلا ومسلحين، عزبانا ومتأهلين، مشاغيل وبطّالا، فيدخل في كلمتي خفافا وثقالا كل من لم يستثنه الله الآتي ذكرهم في الآيتين ٩٣ و ٩٤ من هذه السّورة، والمنقطعين إلى طلب العلم المشار إليهم في الآية ١٢٣ الآتية، وكذلك الّذين هم في ثغور المسلمين، والّذين على ذراريهم وأموالهم وادارتهم. ولا نسخ في هذه الآية لأن عمومها مقيد بالمستثنى منها كالآية ١٨ من سورة الفتح المارة، والقاعدة أن العام يحمل على الخاص، والمطلق على المقيد دائما، ولهذا فإن هذه الآية محكمة «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» وهذا الأمر للوجوب بهما أو بأحدهما، فمن لم يقدر عليهما معا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وإعزاز لأمته أن يجاهد فيهما «فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فليكن بأحدهما «ذلِكُمْ» الجهاد بالمال والنّفس «خَيْرٌ لَكُمْ» مع القدرة عليهما عند الله في الآخرة وعند النّاس في الدّنيا،
وللعلم بما في هذه الغزوة من بعد الشّقة وكونها زمن الحر والجدب وعسرة النّاس وضيقهم، ولعلمهم أن عدوهم فيها عدو قوي، كان من المسلمين من تثاقل منها وأحب التخلف عنها، أنزل الله تعالى في عتاب المخلفين وتوبيخهم على ما وقر في قلوبهم، فقال عز قوله «لَوْ كانَ» ما استنفرتم إليه «عَرَضاً» مغنما «قَرِيباً» محله سهلا تناوله «وَسَفَراً قاصِداً» وسطا لا مشقة فيه «لَاتَّبَعُوكَ» يا حبيبي طمعا في المنافع الدّنيوية دون تروّ أو تردد ولعاتبوك على عدم استصحابهم معك، كما مرّ في الآية ١٥ من سورة الفتح المارة «وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» في هذه الغزوة واستطالوا مسافتها وطريقها الشّاق، وتخوفوا من الحر وقلة الزاد والماء، لذلك لم يلبوا دعوتك ولم يرغبوا بها فتخلف من تخلف منهم، وصاروا ينتحلون الأعذار لتغض عنهم وتأذن لهم بالتخلف «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ» لك هؤلاء المتخلفون المنافقون بأعذار كاذبة، بينها الله بقوله عز قوله «لَوِ اسْتَطَعْنا» الخروج معك يا رسول الله إلى تبوك «لَخَرَجْنا مَعَكُمْ» ولم يعلم هؤلاء أنهم بهذه الأيمان الواهية والأعذار المنتحلة «يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» لأنهم يقترفون جرما علاوة على جرمهم بالتخلف، لأن الله تعالى يعلم أنهم مستطيعون على الخروج وأن ما يختلفونه من الأعذار لا صحة لها، ولم يمنعهم مانع إلّا بعد محل هذه الغزوة وتوقع مشاقها «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (٤٢) في حلفهم وعذرهم، لأن هذا مدون أيضا في اللّوح قبل أن يبدوه لك يا سيد الرّسل، وقد أظهره الله الآن لكم ليفتضحوا وليعلموا أن الله تعالى بالمرصاد لهم ولغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء وأنه يخبر رسوله ليطلع أصحابه عليه. واعلم أن حضرة الرّسول قبل نزول هذه الآية كان أذن لهم بالتخلف بناء على ما تقدموا به إليه من الأعذار الموثقة بالأيمان، ولهذا فإنه تعالى عاتبه على ذلك بألطف وأرق أنواع العتاب، إذ صدره بقوله عز قوله «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ» وزادك تبصرا في هؤلاء المنافقين الّذين يبطنون غير ما يظهرون «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» بالتخلف يا سيد الرّسل حتى يحتجوا به فهلا استأنيت وترويت بإذنهم «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا» باعتذارهم فتأذن
ولا دلالة في هاتين الحادثتين على صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلم كما زعم بعضهم، بل هو عمل غايته أنه خلاف الأولى إذ لم يتقدم له من ربه نهي بعد أخذ الفداء والعفو عن الأسرى، كما لم يتقدم له نهي عن إعطاء الإذن بالتخالف لهؤلاء حتى يعدّ ذنبا يكون فيه مخالفا لربه، وحاشاه، وحتى أن أهل العلم لم يعدوه معاتبا عليه لما جاء في هذه الآية من تصديرها بكلمة عفا الله عنك، وقد أخطأ من أول عفا هنا بمعنى غفر، إذ عدّ ما صدر منه خطأ وحاشا ساحة الرّسول من الخطأ فيما ينهاه عنه ربه، بل معنى عفا على ظاهرها، وهي على حدّ قوله صلّى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرّقيق، ومن قال إن العفو لا يكون إلّا عن ذنب لم يعرف كلام العرب، إذ لو كان هناك ذنب لذكر العفو بعده، لأن ذكر الذنب بعد العفو لا يليق، وقد يأتي العفو بمعنى الزيادة، راجع الآية ٢٧١ من البقرة المارة، لأن قوله عفا الله عنك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير ولا يدل على سابقة ذنب، فهو كما تقول لمن توقره عفا الله عنك ما عملت في أمري، رضي الله عنك بماذا تجاربني عافاك الله، أما تنظر إلي زادك الله خيرا، أما تعطني غفر الله لك، أما تدعو لي، وما أشبه ذلك من كلّ ما يستفتح به الكلام، كأصلحك الله، وأعزك، وأدام بقاءك، وأطال عمرك، قال علي ابن الجهم حينما خاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة | تعود بعفوك إن أبعدا |
ألم تر عبدا عدا طوره | ومولى عفا ورشيدا هدى |
أقلني أقالك من لم يزل | يقيك ويصرف عنك الرّدى |
إيمانا خالصا معتذرين من «أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» لأنهم يتقون سوء العاقبة «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» (٤٤) أمثالهم الّذين يخافون غضب الله ورسوله وتنقيد المؤمنين «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ» ليتخلف عن الجهاد معك ويقعد مع النّساء والمرضى «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» إيمانا حقيقيا «وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ» فشكوا في دينهم ونصرة نبيهم من قبل الله «فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» (٤٥) يتحيرون لأن إيمانهم صوري يظهرونه لكم خشية الوقوع بهم قتلا وأسرا ويبطنون الكفر، فهم أسوا حالا من الكفار «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ» معكم الى الغزو عن صدق «لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً» تهيأوا له وهيأوا أدوات السّفر وآلات الجهاد مبدئيا «وَلكِنْ» لم يريدوه ولهذا «كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ» معكم لكراهتهم الخروج «فَثَبَّطَهُمْ» وقفهم وأخرهم عنه لزهدهم في ثوابه وكسلهم عنه لضعف رغبتهم فرغب الله عنهم ومنعهم عنه لا لقصدهم ذلك، بل لما كان في علمه من وقوع المفسدة منهم في الغزو وإيقاع الرّعب في قلوب غيرهم لما هم عليه من الجبن «وَقِيلَ» لهم من قبل الرّسول حينما طلبوا التخلف عنه «اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» (٤٦) النساء والصّبيان والمعذورين وإنما أمرهم بالقعود على سبيل الغضب عليهم، إذ ليس لهم طلب التخلف والإعراض عن الغزو ساعة الحاجة، إلا أنه وافق ما في علم الله، لأن عدم خروجهم أحسن لقوله تعالى «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» اضطرابا يؤثر في عقولكم بتهويلهم الى النّاس مشقة السّفر وقوة العدو وجدب الزمن وحاجة المسلمين الى عدد أكثر وعدد أقوى تضاهي ما عند الرّوم، فضلا عن قلة الزاد والرّاحلة للنقل والحمل وإظهار التضجر لعدم كفايتها بما يسبب للبعض الجبن والخوف، والتكلم بطرق الفساد والإفساد بما يؤدي الى الغلب والفشل، والمستثنى منه غير مذكور، وعليه فيكون الاستثناء متصلا من الشّيء المتصور، والخبال بعضه الذي يصدق على الشر والمكر والبغي والغدر، أي ما زادوكم شيئا إلّا خبالا بإيقاع الفتنة بينكم وبث النّميمة الموجبة لها، ولهذا فإن القول بكون الاستثناء منقطعا ضعيف، إذ يشترط فيه أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وعليه يجب أن يكون
فقال لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، فأخشى إذا رأيت بناتهم أن لا أصبر عنهن فائذن لي بالقعود ولا تفتني بهن، وأعينك بمالي، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلم، وقال
فيا أكمل الرّسل «قُلْ» لهؤلاء المنافقين الّذين راق لهم التخلف عنك «لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا» من خير أو غيره سواء قعدنا أو خرجنا، فلا مانع لقضاء ربنا ولا راد لقدره «هُوَ مَوْلانا» حافظنا وناصرنا ومتولي أمورنا أحسن من أنفسنا، وهو أولى بها منا وإليه وكلنا أمرنا «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (٥١) في أمورهم كلها لا على غيره لما في التوكل على غيره من الخببة والهلاك «قُلْ» يا أيها المنافقون «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» النصر والغنيمة أو الشّهادة والمغفرة، فلا تنتظروا أن يصيبنا غيرهما، روي عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال: تكفل الله أو تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أني أدخله الجنّة أو أرجعه الى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، أخرجاه في الصّحيحين «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ» إحدى السّوأتين «أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ» فيهلككم ويكفينا مؤنة قتالكم «أَوْ بِأَيْدِينا» فيسلطنا عليكم ونظفر بكم فنقتلكم ونفعل ما يريده الله بكم «فَتَرَبَّصُوا» بنا إحدى تلك الحسنيين
ولا زالوا كما كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان صورة تقية ليغرّوكم، فلا تقبلوا منهم ولا تصدقوهم في شيء من ذلك، وإن حلفوا «وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» (٥٦) يخافون منكم أن تطلعوا على نفاقهم، فتفعلوا بهم فعلكم بالكفرة أو بأهل الكتاب، ولهذا يبادرونكم بالإيمان ويحلفون على ذلك لتصدقوهم كي يأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم.
ثم بين تعالى بيانه ما يحوك في صدورهم بقوله «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً» يلجأون إليه «أَوْ مَغاراتٍ» يختفون بها عنكم «أَوْ مُدَّخَلًا» نفقا وسربا في الأرض يندسون فيه، أو شيئا آخر يتحصنون به منكم أو يتغيبون عن وجوهكم «لَوَلَّوْا إِلَيْهِ» سراعا وتحرزوا به وتركوكم «وَهُمْ يَجْمَحُونَ» (٥٧) يقفزون هربا للتخلص من رؤيتكم لا يردهم شيء كالفرس الجموح العزوم لشدة بغضهم إيّاكم، ولكنهم لم يجدوا شيئا من ذلك، فاضطروا الى البقاء معكم، وشرعوا يختلفون الطّرق التي تقنعكم بأنهم صاروا مثلكم في الإيمان، ويؤكدوه لكم ذلك بما يرضيكم من صنوف التملق والتودد لكم بأيمانهم الكاذبة وتقاتهم تقية لكم ومنكم، وفي الحقيقة هم أشد النّاس كراهة لكم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ» يا حبيبي «فِي الصَّدَقاتِ» يعيبك ويطغى عليك في قسمتها وإعطائها أناسا دون أناس، ويسخرون فيما بينهم عليك في ذلك كأنك لم تعدل بها ولم تعطها لمستحقيها، ولكنهم «فَإِنْ أُعْطُوا
وسكتوا، فلم يحمدون، ولم يذكروك بسوء «وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» (٥٨) فيتفوهون عليك لما لا يرضي بقصد تنفير النّاس عنك. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا، أتاه ذو الخويصرة (حرخوص بن زهير التميمي) فقال يا رسول الله اعدل، فقال صلّى الله عليه وسلم ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟ وفي رواية قد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه ائذن لي لأضرب عنقه، فقال صلّى الله عليه وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم. وقيل إن القائل أبو الجواض المنافق أو رجل من البادية. وقيل إن المنافقين قالوا ما يعط محمد الصّدقة إلّا من يحب. والكل جائز، لأنهم أهل لأن يصدر منهم كلّ سوء، ولأن تعدد أسباب النّزول جائز أيضا، راجع الآية ٨ من سورة المنافقين المارة تجد ما يتعلق بهذا ومروءة سيدنا عمر وانتدابه كلّ ما فيه ذبّ عن حضرة الرّسول ودفع عن كرامته ورفع لما يسوءه، فأنزل الله هذه «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا» أي هؤلاء العيّابون المنتقدون المنافقون «ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» من هذه الصّدقات ولم يعترضوا على حضرة الرّسول «وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ» هو كافينا «سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ما يسد حاجتنا «وَرَسُولُهُ» يتفضل علينا بما يراه من هذه الصّدقات، وإنه لا يعطي إلّا بحق ولا يمنع إلا بحق، وقالوا «إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ٥٩» بأن يوسع علينا ويغنينا عن الصّدقة وغيرها، بأن يفتح لنا طريقا آخر يكفينا به عنها لكان خيرا لهم من اعتراضهم هذا وقولهم رجما بالغيب في حق الرّسول الذي لا يفعل إلّا حقا، ولا يقول إلا حقا، وان أقواله وأفعاله عن حكمة يعلمها، إذ يتلقاها عن ربه عز وجل وهم عنها غافلون لكان أجمل لهم وأحسن، ألا فليتق الله الّذين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يعلمون، فإن الاعتراض على رسول الله اعتراض على الله، والاعتراض على الله كفر، لأنه لا يسأل عما يفعل. ثم بين جل بيانه أصحاب الاستحقاق في الصّدقات:
قال جل قوله «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» السعاة الّذين يفوض الإمام إليهم قبضها من الواجبة عليهم «وَفِي الرِّقابِ» العبيد المكاتبين إعانة لهم على دفع ما عليهم لأسيادهم ليتخلصوا من الرّق «وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» الحديثي عهد بالإسلام بقصد ترغيبهم فيه، فإنهم يعطون من هذه الصّدقة ليزداد نشاطهم للتمسك بأصول الإسلام، فيأتلفون عليه «وَالْغارِمِينَ» الّذين استغرقتهم الدّيون لأنفسهم لغير معصية، أو أنهم استدانوا للمعروف كمنع فتنة بين المسلمين، أو الموجود قتيل بينهم لم يعرف قالته، فاستدانوا لأداء ديته، وإن كانوا أغنياء، فإنهم يعطون من الصّدقة، لأنهم استدانوا ذلك وأعطوه من أنفسهم لإصلاح ذات البين ورفع الشّقاق بين المسلمين. روي عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصّدقة لغني إلّا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لرجل أسير إعانة، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق عليه فأهدى المسكين للغني- أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء هذا لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلم، ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلم بمعناه «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ» الغزاة «وَابْنِ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله وماله وإن كان غنيا في بلده، لأنه لا يطوله ولا يعرف من يقرضه في المحل الذي انقطع فيه، فهؤلاء الأصناف الثمانية يعطون من صدقة الفرض الواجبة على الأغنياء كما يعطون من غيرها أيضا «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» لهم على حسب الترتيب الوارد في هذه الآية، لأن الفقير أحوج من المسكين، لأنه من لا مال له ولا كسب، والمسكين من لا يكفيه كسبه، راجع الآية ٨١ من سورة الكهف في ج ٢. وقال صلّى الله عليه وسلم، اللهم إني أعوذ بك من الفقر. وقال: أحيني مسكينا واحشرني مع المساكين. وهو أحوج من المؤلفة قلوبهم، وهكذا إذا اجتمعوا يقدم الأحوج في الإعطاء. واعلم أن الحصر في هذه الآية المصدرة بأداة الحصر يفيد عدم جواز دفع الصّدقة الواجبة لغيرهم، وهو كذلك كما سيأتي بعد «وَاللَّهُ
بمصالح عباده وحاجتهم «حَكِيمٌ» (٦٠) في تخصيص الصّدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية. أخرج أبو داود عن زياد بن الحارث المدائني قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبايعته، فأتاه رجل فقال أعطني من الصّدقة، فقال له صلّى الله عليه وسلم إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصّدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية اجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك. الحكم الشّرعي في إيجاب الله الزكاة على عباده امتحانهم فيما آتاهم وتكليفهم ما يشقّ عليهم فعله، ليختبر الطّائع المعطي من العاصي المانع، ويظهره للناس فيعلمهم بمن له شفقة على عباده من غيره، لأن المال ماله والأغنياء وكلاؤه عليه وخزانه له، والفقراء عياله، ولأن كثرة المال تقسي القلب وتغرقه في حب الدّنيا، فأراد الله تعالى بالتصدق منه تقليل ذلك الحب لئلا تنهمك نفسه في شهوات الدّنيا ولذاتها فيهلك، ولأن المال من أول أسباب البعد عن الله تعالى، والتصدق به من أول أسباب التقرب إليه. ولا يقال هنا أن الدّين يسر ولا حرج فيه ولا يكلف الله نفسا الا وسعها الى غير ذلك من التمسك بحجج الجشعين بالمال المتكالبين عليه، لأن الله لم يكلف رب المال التصدق بكل ما عنده أو بنصفه أو عشرة حتى يكون مدار للاحتجاج، وانما كلفه بشيء يسير منه لا عسر في أدائه عليه ولا كلفة، وهو في نطاق الوسع، لأن الخارج عن الوسع هو ما لا قدرة للمرء على القيام به. ولو علم المتصدق ماله عند الله من الأجر وكانت نفسه طاهرة لأحب التصدق بما يفضل عن حاجته فضلا عن إعطائه ما فرضه الله عليه وهو ربع العشر، تطييبا لقلوب الفقراء المتعلقة قلوبهم بما في أيدي الأغنياء لينالوا نصيبهم من الانتفاع به، فيحصل على دعواتهم الخيرية، ورب دعوة صادفت وقت اجابة فينال عند الله ما هو خير من الدّنيا وما فيها. أخرج النّسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا تحلّ الصّدقة لغني ولا لذي مرّة (سوي قوي). وأخرجا عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات، فسألاه منها فرفع فينا نظره
وخفضه فرآنا جلدين، فقال ان شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. أي لا يحل لكما أخذ شيء
الصنف السّابع البر لعموم اللّفظ كتكفين وتجهيز ودفن الموتى الفقراء، وبناء الجسور والحصون والمساجد والمكاتب التي يدرس فيها القرآن العظيم والفقه والحديث وما يتفرع عنها، ودور المرضى والمجانين لقلة وجودها في هذا الزمن، ولا سيما ما يأوي اليه الفقراء والمنقطعون في البوادي، وطريق الحج وغيره، وعلى المتصدق أن يختار في صدقته الأصلح ولا سيما طلبة العلم لقلة الرّغبة فيه، وبهذا الزمن للترغيب في طلبه والسّفر إلى من يأخذوا عنه إذا لم يوجد في بلده من يعلمه. وهم قليل ولا سيما في هذه الأيام، وقد سهل السّفر إذ تقاربت البلدان بسبب السّيارات والطّيارات وتعبيد الطّرقات إلى أي بلدة شاء. ويطلب من المتصدّق أن يتحرى موضع الحاجة في صدقته، ويقدم الأولى فالأولى، ولا يعطيها فروعه وأصوله وزوجاته وكلّ من تلزمه نفقته، والأولى أن يصرفها لفقراء بلدته ومن فيها من الأصناف، ويجوز أن ينقلها لمحل آخر يقصد دفعها للأحوج والأصلح والقريب الفقير، قال صلّى الله عليه وسلم اختاروا لنفقاتكم كما تختارون لنطفكم، ويرجح الفقراء من أقاربه على غيرهم، لأن الصّدقة عليهم صدقة وصلة. هذا وإن فضل الصّدقة قد بيناه في الآية ٢٩١ فما بعدها من سورة البقرة فراجعها تقف على جميع أصنافها وثوابها.
قال تعالى
إذا ما بدت ليلى فكلي أعين | وإن هي ناجتني فكلي مسامع |
مطلب ظهور المنافقين وفضحهم وعدم قبول أعذارهم
وروى ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوبا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللّقاء. قاتله الله يريد حضرة
وأنصبائهم من الدّنيا وشهوتها، وآثروها على الآخرة ورضوا بها، ولم ينظروا إلى العاقبة. وسمي النّصيب خلاقا لأنه مما يخلقه الله للانسان ويقدره له مثل القسم «فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ» أيها المنافقون الفجرة والكافرون
قال تعالى بمقابل الآية السّالفة «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» والفرق بين هذه الجملة والجملة المصدرة به الآية السّالفة هو أن اتفاق المؤمنين كان على تقوى من الله ورضوان بتوفيق الله وهدايته، لا بمقتضى هوى النفس والطّبيعة الخبيثة كالمنافقين والكافرين المشار إليهم فيها، الّذين كانت موافقتهم بعضهم لبعض بتقليد رؤسائهم، فلهذا قال بحقهم بعضهم من بعض، وبحق المؤمنين أولياء بعض «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فيما بينهم أنفسهم وبين غيرهم راجع الآية ١١٣ الآتية «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم «سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (٧١) في تدبير أمور عباده، لا بشوب تدبيره نقص ولا خلل، ومن عزته أنه لا يمتنع عليه من أراده، فلا يغالب ولا يتابل «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذه بمقابل الآية السّابقة عد (٦٧) «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» زيادة على مساكنهم في جناتهم، لأن عدن دار الأصفياء عند الله تعالى، وهؤلاء بلا تشبيه كالمترفين من أهل الدّنيا عندهم تصور في بلادهم وقصور في مصايفهم.
واعلم أن مرجع العطف في هذه الآية إلى تعدد الوعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع، أو إلى تغاير وصفه، أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها، فتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، وصفه بأنه محفوف بطيب عار عن شوائب الكسورات التي لا تخلو عنها أماكن الدّنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين لا يقربهم فيها فناء ولا تغير، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو الزيادة الأخرى المبينة بقوله عند قوله «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» من ذلك كله ومن كلّ شيء، لأنه غاية المقصود ونهاية المطلوب «ذلِكَ» العطاء الجزيل والعطف الجليل «هُوَ
(٧٢) في الآخرة لا فوز أعظم منه، والخير الكثير الذي لا أفضل منه. روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة يا أهل الجنّة، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول هل رضيتم، فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول ألا (أداة لاستفتاح الكلام وتختص بالمستقبل وتكون للطلب بلين ورفق وضدها هلا الكائنة للعنف والشّدّة وتدخل على الماضي والمستقبل) أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ» وشدّد بالجهاد والإرهاب «عَلَيْهِمْ» في الدّنيا أنت وأصحابك بمعونتنا ونصرنا «وَمَأْواهُمْ» عندنا في الآخرة «جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (٧٣) هي لأهلها قال ابن مسعود دلّت هذه الآية والدّلائل السّمعية على أن جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالحجة، والآية عامة لم يذكر فيها كيفية الجهاد، فلا بد من دليل واضح يقيدها بما قاله ابن مسعود ويصرفها عن ظاهرها، وإلّا فلا دليل فيها يخصصها بما قاله، وإنما عدل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل بقية المنافقين لا لأنه علم من هذه الآية أن جهادهم بالحجة، بل لأن من تكلم بالكفر سرا وجحده علنا وقال إني مسلم يحكم بإسلامه في الظّاهر شرعا، والله يتولى السّرائر، وإلّا لفسد الكون، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) الآية (٩٣) من سورة النّساء المارة، وقال صلّى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد أشققت قلبه؟ راجع تفسيرها، ولولا هذه الآية والحديث لفتك بكثير من المسلمين بحجة أنهم كافرون باطنا، أو أنهم أسلموا ليخلصوا أنفسهم من القتل، ويأبى شرع الله ذلك، ولقائل أن يقول إن من المنافقين ممن علم الله ورسوله بأنهم يموتون على نفاقهم كعبد الله بن سلول وثعلبة الآتي ذكرهما، فلماذا لم يقتلهم رسول الله؟ فالجواب عن هذا أنه لا يقتلهم حرمة للشرع المعمول بظاهره لآخر الزمان ولئلا يتذرع بعض الولاة أو غيرهم بذلك فيقتل من يشاء ويترك من يشاء بتلك الحجة، ولقد أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه دفعا لما يترتب على ذلك من المفاسد، ومن هذا الباب
مطلب في فضايح المنافقين وإسلام بعضهم وما قيل في الأيام وتقلباتها والصّحبة وفقدها.
قال ابن عباس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين الشّيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال تشتمني أنت وأصحابك، فأنكر، قال فأحضر أصحابك، فانطلق فأتى بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم، وقد أعلمه الله بهم وبما قالوه «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» لأنهم أرادوا اغتيال حضرة الرّسول وهم المار ذكرهم في الآية ٦٥، وإنما جاء ذكرهم هنا لأنه تعالى عدد في هذه السّورة أحوال المنافقين المتنوعة في الأقوال والأفعال وقصّها على رسوله وأصحابه على ملأ النّاس ففضحهم فضاحة كبرى لدى الخاص والعام، حتى بلغ أخبارهم وفضائحهم أهل البوادي والقرى، فلم تبق لهم قيمة ولا عبرة عند أحد «وَما نَقَمُوا» هؤلاء الاثنا عشر رجلا الّذين كمنوا له على الطّريق ليغتالوه والّذين أنكروا عليه أعماله الطيبة التي لا يعرفون مغزاها، وأفعاله الكريمة التي يجهلون مرماها، وعابوا عليه شمائله الشّريفة حسدا ونجاسة «إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» فجعلوا موضع شكرها كفرا وجحودا، وعملوا بضد ما هو واجب عليهم، لأنهم كانوا قبل مقدم الرّسول صلّى الله عليه وسلم المدينة في ضنك عيش وعداوة شديدة فيما بينهم وذل كبير بين مجاوريهم، فوسع الله عليهم ببركة رسوله وألف بينهم، وأظفرهم بأعدائهم، وجعل لهم عزة ومكانة بين النّاس وعلى معنى الآية قول الشّاعر:
ما نقم النّاس من أمية إلّا | أنهم يحلمون إن غضبوا |
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم ومن شأنه الكرام الّذين تأسوا به، أدام الله الكرام.
الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس، وأين هم الآن، يا حسرتاه!
ولما شاب رأس الدّهر حزنا | لما قاساه من فقد الكرام |
أقام يميط عنه الشّيب غيظا | وينثر ما أماط على الأنام |
ألا إن أخلاق الفتى كزمانه | فمنهن بيض في العيون وسود |
فلا تحسدن يوما على فضل نعمة | فحسبك عارا أن يقال حسود |
مضى زمن وكان النّاس فيه | كراما لا يخالطهم خسيس |
فقد دفع الكرام إلى زمان | أخسّ رجالهم فيهم رئيس |
تعطلت المكارم يا خليلي | فصار النّاس ليس لهم نفوس |
وتركي مواساة الأخلاء بالذي... حوته يدي ظلم لهم وعقوق
وإني لأستحي من الله أن أرى... بحالي اتساعا والصّديق مضيق
وقد صار الأصدقاء كما وصفهم القائل:
كم من صديق مظهر نصحه... وفكره وقف على عثرتك
إياك أن تقربه أنه... عون مع الدّهر على كربتك
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لابنه الحسن إياك ومصاحبة الفاجر، فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب، وهؤلاء إخوان هذا الزّمن، فلا حول ولا قوة إلّا بالله القائل «وَمِنْهُمْ» الّذين يظهرون خلاف ما يبطنون «مَنْ عاهَدَ اللَّهَ» أمام رسوله وأكد ميثاقه بالقسم فقال «لَئِنْ آتانا» الله تعالى شيئا «مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» منه بما فضل عن حاجتنا في طرق الخير والبر «وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» (٧٥) فيه بأن نخرج صدقة كاملة عن طيب نفس ولا نبخل بما يمن به علينا «فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ» كلّه فلم يعطوا منه شيئا حتى الزكاة المعروفة، ونقضوا عهدهم الموثق بالأيمان ونكثوه ولم يوفوا بشيء منه «وَتَوَلَّوْا» عن طاعة الله ورسوله «وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (٧٦) عنهما ولم يلتفتوا إلى تعاليمهما ولهذا «فَأَعْقَبَهُمْ» الله «نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» بأن ورثهم البخل ومكنّه فيهم وجعله مستمرا ثابتا فيها «إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ» في الآخرة وحرمهم من التوبة «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ» من التصدق إذا أغناهم وقد وفى الله تعالى وهم نكثوا به «وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (٧٧) في قولهم لحضرة الرّسول ووعدهم له بالتصدق والصّلاح قال تعالى «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ» مع بعضهم من الطّعن بحضرة الرّسول وقولهم فيما بينهم سرا ما الصّدقة إلّا أخت الجزية أو هي غرامة وضعها علينا «وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (٧٨) لا يخفى عليه شيء مما أسروه وأعلنوه، ومن هؤلاء المنافقين ضرب آخروهم «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ»
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود البدوي قال: لما نزلت آية الصّدقة كما نحمل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا هذا مرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع، فنزلت هذه الآية «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» فيقولون هؤلاء الأغنياء لا عقول لهم، إذ يبذرون أموالهم، وهؤلاء الفقراء لا عقول لهم إذ يتصدقون وهم محتاجون، وصاروا يهزأون بالفريقين، فوبخهم الله بقوله «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ» وأهانهم وأذلهم وجازاهم على فعلهم هذا الذم والهوان في الدّنيا «وَلَهُمْ» في الآخرة «عَذابٌ أَلِيمٌ» (٧٩)، وللمتصدقين ثواب عظيم، لأنهم لم يتصدقوا إلّا لمرضاة الله طلبا لثوابه، وكلّ متصدق يتصدق على قدر طاقته قال صلّى الله عليه وسلم تصدقوا ولو بشق تمرة. وجاء في حديث آخر فضل درهم ألف درهم، في تصدق فقير بدرهم وغني بألف، لأن الغني يتصدق عن سعة، والفقير عن حاجة. وقال تعالى (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) الآية ٩ من سورة الحشر المارة. وقال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) الآية ٩ من سورة الدّهر المارة أيضا.
مطلب قصة ثعلبة وما نتج عنها وحكم وأمثال في البخل والطّمع والجبن وغيرها:
وخلاصة القصة هو أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء ذات يوم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال صلّى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة،
فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها المدينة، فتركها ونزل واديا منها، وصار يصلي الظهر والعصر مع الرّسول، وبقية الأوقات في محل غنمه، ثم تباعد بها عن المدينة فصار لا يشهد إلّا الجمعة مع حضرة الرّسول بالمدينة، ثم تباعد بها حتى صار لا يشهد جماعة ولا جمعة، فذكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن غنمه نمت حتى صارت لا يسعها واد، فتباعد بها عن المدينة، فقال يا ويح ثعلبة، حيث ألهته غنمه عن حضور الصلوات مع حضرة الرّسول، فحرم من مشاهدته ومن ثواب الجمعة والجماعة وفضيلة المسجد بسبب ما طلبه، وهذا ما كان يتوخاه حضرة الرّسول فيه، فسوّفه مرارا ليعدل عن طلبه ولم ينجح به، فدعا له فكان من أمره ما كان، ولما حان جمع الصّدقات بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يأخذ الصّدقة وكتب لهما ما يجب أخذه، وقال لهما مرّا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما، فجاءا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله، فقال ما هذه إلّا جزية، عودا علي إذا فرغتما، فجاءا السلمي وقد سمع ما قاله ثعلبة، فقام وأعطاهما خيار ماله، وقال لهما إن نفسي طيبة بذلك، وبعد أن جمعا صدقات النّاس وعادا بها مرا عل ثعلبة، واستقرأهما كتاب رسول الله ثانيا وقال ما هذه إلّا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، فلما أقبلا على رسول الله، قال لهما قبل أن يتكلّما يا ويح ثعلبة، وهذه معجزة منه صلّى الله عليه وسلم، إذ أخبره الله بما وقع منه، وقاله لعمال الصّدقة ثم أخبراه بما فعل، فأنزل الله هذه الآيات، فذهب رجل من أقاربه فأخبره بما نزل فيه، فأتى رسول الله وكلفه أن يقبل صدقة، فقال قد منعني ربي من قبولها، فطفق يحثو التراب على رأسه، فقال صلّى الله عليه وسلم قد أمرتك فلم تطعني. فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أتى بصدقته إلى أبي بكر فلم يقبلها، فلما ولي عمر أتاه بها فلم يقبلها أيضا وكذلك
ثم ذكر نوعا آخر من مثالبهم، فقال جل قوله «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» ولم يذهبوا معه إلى غزوة تبوك التي هي آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم، وكان عليهم أن يأسفوا ويحزنوا لما فاتهم من صحبته في هذه السّفرة الطّويلة ويتأثروا على مخالفة أمره وهم بالعكس راق لهم البقاء في المدينة «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مع رسوله وأصحابه لإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعدائه ونصرة أوليائه واختاروا الرّاحة والقعود مع أهليهم وأولادهم وأموالهم على مرافقة الرّسول وتكثير سواده، «وَقالُوا» لبعضهم يقصد تثبيطهم وتنفيرهم «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» فتهلكوا «قُلْ» لهم يا سيد الرّسل إن كان حرّ الدنيا يمنعكم عن الجهاد في سبيل الله، فتربصوا فإن مأواكم في الآخرة «نارُ جَهَنَّمَ»
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول يا أيها النّاس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النّار يبكون في النّار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تقطع الدّموع، فتسيل الدّماء، فتفرغ العيون فلو أن سقنا أجريت فيها لجرت. فتأمّلوا رحمكم الله في هذا واعقلوا ما يراد منكم، فالعقل هو الإمام الحق والصّاحب الوفي والنّور المضيء، والشّاهد الذكي المميز الحق من الباطل، والخير من الشّر، والصّدق من الكذب، المشوّق الى العلم والحكمة، والآلف من الدّناءة والخسة، وبه توجد السّعادة العظمى والسّلامة في الآخرة والأولى، فالسعيد من جعل همه في معاده ولم يخض بما لا يعنيه، ولا يترك الخوف في أمنه ولا بيأس من الأمن في خوفه، وتدبر الأمور في علانيته وسرّه، ولم بذر الإحسان في قدرته، وحادث النّاس فيما يجهل، فإن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب، وتسريحا للهم، وتنقيحا للأدب. وعليه فليأخذ ما استطاع من كلامه ففيه المزالق، وقيل فيه:
إذا فكّر الإنسان ألفى لسانه | عدوا له يجني عليه بما يجني |
فإن هو لم يطلقه الفاء مطلقا | وإن هو لم يسجنه ألقاه في السّجن |
احفظ لسانك أيها الإنسان | لا يلدغنّك إنه ثعبان |
كم في المقابر من قتيل لسانه | كانت تهاب لقاءه الشّجعان |
واحذرها فإنها تقمصت بجلد الشّاة على قلب الذئب، قال أبو نواس:
ألا كلّ شيء هالك وابن هالك | وذو نسب في الهالكين عريق |
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشف | له عن عدو في ثياب صديق |
يا طالب الطّب من داء أصيب به | إن الطّبيب الذي أبلاك بالداء |
هو الطّبيب الذي يرجى لعافية | لا من يذيب لك الترياق في الماء |
يا ويح من جعل المطامع قائدا | يقتاده نحو الرّدى بزمام |
من كان قائده المطامع لم يفر | يوما بعيش مسرة وسلام |
وراعي الشّاة يحمي الذئب عنها | فكيف إذا الرّعاة لها ذئاب |
(٨٤) خارجون عن طاعتهما، وهذه الآية تشير إلى إهانتهم بعد الموت كما كانوا قبله، وقد وصفهم الله بالفسق بعد الكفر، مع أنه داخل فيه، لأن الكافر قد يكون عدلا يؤدي الأمانة ولا يسيء إلى أحد، وقد يكون مع كفره على ضد ذلك خبيث النّفس ماكرا مخلدعا غشاشا. ولما كان المنافقون جامعين لهذه الصّفات القبيحة المخزية، نعتهم الله تعالى بالفسق بعد الكفر، وكلاهما خيثان.
مطلب موت ابن أبي سلول وكون العلة لا تدور مع المعلول، وأسباب التكرار في الآيات وعدم زيادة (ما) ولا غيرها في القرآن:
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال لما مات عبد الله بن أبي سلول دعى له رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام صلّى الله عليه وسلم وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا: كذا وكذا أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال أخّر عنّي يا عمر، فلما أكثرت عليه قال إني خيّرت فاخترت. أي خيرت في آية الاستغفار عدد ٨٠ المارة لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت، وهذا من كرم أخلاقه صلّى الله عليه وسلم وعظيم عفوه وكثير صفحه عمن أساء له، وشدة حرصه على من ينيب اليه، لأن هذا من أشد النّاس عداوة له صلّى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي ما أحلمك يا رسول الله. واعلم أيها القارئ أن هذا لا يعارض قوله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) الآية ٨ من سورة المنافقين المارة، لأن هذا الاستغفار مخير فيه لا منهي عنه، والفرق بينهما واضح، تأمل. وقد علم صلّى الله عليه وسلم بطريق الوحي أنه لا يغفر له، قال فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلّا يسيرا حتى نزلت الآية، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله يومئذ، وهذا الحديث مقيد بحديث سأزيد على السّبعين الذي يفيد الوعد المطلق، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وتقيد وتخصص أيضا، كالآيات القرآنية، والله ورسوله أعلم. وقد أخرج هذا الحديث الترمذي وزاد فيه، فما صلّى صلّى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله، وفي رواية جابر للبخاري ومسلم أنه ألبسه قميصه ونفث عليه،
(٨٥)
وهذه نظير الآية ٥٥ المارة وتفسيرها تفسيرها، وقد يكرر الله بعض الآيات في سورة واحدة لحكمة يعلمها، لأن تجدد النّزول له شأن في تقرير ما أنزل وتأكيد له ولئلا يغفل المخاطب عنه وليعتقد أهميّته وخاصة فيما يتعلق بالأموال والأولاد، الآتي ذكرهما في أكثر السّور، لأنهما أشد جذبا للقلب من غيرهما، ولهذا حذر الله تعالى من الانهماك بهما المرّة بعد الأخرى مبالغة في التحذير من الانشغال بهما عن أمور الآخرة. واعلم أنه قد يوجد تقارب بين الآيات الكريمة، قد لا يحس بها، فهذه الآية صدّرت بالواو الاستئنافية إذ لا علاقة لها بما قبلها، ولم تزد فيها (لا) بعطف الأولاد، دلالة على عدم التفاوت بينهم وبين المال في المحبة عندهم، وصدرت الأولى بالفاء المفيدة للعطف على ما قبلها وهي لا ينفقون إلّا وهم كارهون الآية ٥٤ المارة لشدة محبتهم بالمال وزيد فيها (لا) لزيادة التأكيد الدّال على أنهم معجبون بها وإعجابهم بأولادهم أكثر وجاء فعل يعذبهم مقرونا باللام مع العلم بأن التعليل في أحكام الله محال وفي هذه بلفظ ان دون اللام وان حرف التعليل فيها بمثابة ان قال تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) الآية (٦) من سورة البينة المارة أي ما أمروا إلّا أن يعبدوا الله، وجاء في الأولى في الحياة الدّنيا تبينها على أن حياتهم كلا حياة وهنا في الدّنيا فقط إشارة إلى أن حياتهم بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق الذكر ولا تسمى حياة لذلك انتصر في ذكرها وقدم الأموال على الأولاد فيها لشدة الحاجة إليها مع أن الأولاد أعز منها لأنها تصرف في سبيلهم كما أنهم يفارقون أنفسهم بطلبها ومهما كان في الولد عز فالفقر أذل في عزة الأولاد لهذا فإن من لم يتفكر في الآيات يظنّ أنها مكررة حرفيا مع أنها قد لا توجد الآية كلها مكررة بعينها أما الجمل في الآيات والكلمات فيها فهو كثير ولكن كلّ لمناسبة أخرى وقد بيّنا بعض أسباب التكرار في الآية الأخيرة من سورة الكافرين في ج ١ ولا يخفى أيضا أن التكرار واقع في بيان التوحيد وأحوال القيامة وقصص الأنبياء، وذلك أن العرب كانوا وثنيين ينكرون هذه الأشياء ومثلهم أهل الهند والصّين والمجوس
قال تعالى «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ» من القرآن آمرة «أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» قدم الإيمان لأن الجهاد بدونه لا يفيد «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ» الأغنياء القادرون على الجهاد مالا وبدنا الواجب عليهم فيها «وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» (٨٦) المعذورين عن الجهاد. قال تعالى موبخا لهم على قولهم هذا «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ» لضعف إيمانهم وقلة يقينهم وزيادة جبنهم وكثرة خوفهم وكان عليهم لو كان عندهم مروءة أن لا يرضوا لأنفسهم ذلك الخزي والهوان ويعدون أنفسهم من قسم النّساء والصّبيان ومن هو في حكمهما من المرضى والعاجزين بل عليهم أن يسارعوا إلى ما فيه عزهم وفخارهم ويلبّوا أمر رسولهم طاعة لربهم ولكنهم عدلوا عن ذلك كله «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» (٨٧) مراد الله في الجهاد ولا يعلمون أنه لمصالحهم واعلم أنه لم تدخل ما بعد إذا هنا لاحتمال تطرق النّفي فيما بعدها ومثلها في الآية (٣٠) من سورة محمد عليه السّلام المارة لأن ما لا تدخل بعد إذا مطلقا كما يفعله بعض من لم ينظر إلى ما بعدها حتى أن كتبة هذا الزمن تجدهم يدخلونها بصورة مستمرة غير ناظرين إلى المعنى الذي يتخيل منها لقلة معرفتهم بالعربية واغترارهم بالقاعدة (إن ما بعد ذا زائدة) ولا يعرفون أن الزائد لا يكون في كتاب الله كما لا يوجد النّاقص فيه وسنبين لك هذا البحث مستوفيا في الآية ١٢٣ الآتية بعد وقد بينا بعضه في الآية ٩٣ من سورة المائدة المارة فراجعها قال تعالى «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» لا يستأذنون ولا يرضون لأنفسهم
أقول لها وقد طارت شعاعا | من الأبطال ويلك لم تراعي |
فإنك لو سألت بقاء يوم | على الأجل الذي لك لم تطاع |
فصبرا في مجال الموت صبرا | فما نيل الخلود بمستطاع |
مطلب في المستثنين من الجهاد، والفرق بين العرب والأعراب وأول من آمن وخبرهم، وتقسيم المنافقين، وعذاب القبر:
قال تعالى «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ» بتشديد الذال ومن شدد العين معها فقد أخطأ، لأن الذال تدغم مع العين للتضاد، ولم يقل أحد بتنزيل التضادّ منزلة التناسب، وقرىء المعتذرون أي طالبي العذر، لأن التاء للطلب على أن الأصل المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، وذلك لما رأوا أن سقط في أيديهم، ولم يروا أن الأرض تسعهم مما لحقهم من الخجل ممن كان من أصحابهم مع حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم، وهم «مِنَ الْأَعْرابِ» الّذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بعد أن عاد منها حضرة الرّسول وصاروا يعتذرون إليه بأن عدم خروجهم معه كان خوفا من أن بغير أعداؤهم على أموالهم وذراريهم حالة غيابهم وطلبوا منه «لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» بقبول عذرهم والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له، وهؤلاء الّذين تخلفوا كسلا، وأما المتخلفون نفاقا فهم المذكورون
ثم بين تعالى المعذورين الغير مكلفين بالجهاد فقال «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ» المسنين الهرمين ومن دون البلوغ من الصّبيان والنّساء لعدم تكليفهم ولضعفهم ورقة قلوبهم «وَلا عَلَى الْمَرْضى» وذوي العاهات والزمنى «وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ» بالغزو من السّلاح والزاد والرّاحلة «حَرَجٌ» إثم إذا تخلفوا عن الجهاد، أما إذا خرجوا طوع أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وحفظ متاعهم وتهيئه ما يتمكنون عليه من الخبز والتضميد والتنظيف ومداواة الجرحى، فلهم الثواب العظيم، لأن الله تعالى أسقط عنهم الوجوب ولم يحرم عليهم الخروج، فإذا أقاموا في البلد لا إثم عليهم، بل يؤجرون إذا نظروا إلى أولاد وأموال المجاهدين ورعايتها وحفظها، وهذا مغزى قوله جل قوله «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» بأن حافظوا على ما ذكر وقاموا بحوائج ذراري وأهالي المجاهدين ما استطاعوا عليه بصدق وأمانة وإخلاص، ولا سيما إذا أوصلوا الأخبار السّارة إلى أهالي المجاهدين وردوا أراجيف المرجفين وكتموا أسرارهم ولم يفشوها لأحد، فهذا كله من الإحسان للمجاهدين وأهليهم وداخل في معنى النّصح الذي ذكره الله، لذلك قال «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» يلامون عليه أو يعاتبون فيه وقد سماهم الله محسنين فيكفيهم فضلا على غيرهم وأجرا على ما وصفهم الله به وتقديرا عند رسوله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تخلف منهم «رَحِيمٌ ٩١» بهم يثيبهم بحسب نيتهم «وَلا» حرج ايضا «عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» فبلغوا معك تبوك لقتال عدوك «قُلْتَ» لهم «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» وكانت الشّقة بعيدة في هذه الغزوة لا يمكن المشي فيها على الأقدام بصورة مستمرة «تَوَلَّوْا» أعرضوا بظهورهم عنك وهو جواب إذا «وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ»، واعلم أن هذا التعبير يقع في علم البلاغة بمكان عظيم، لأن العين جعلت هنا كلها دمعا ويعبر عن مثل هذا في البلاغة
وأنت لما ولدت أشرقت ال | أرض وضاءت بنورك الأفق |
فنحن في ذاك الضّياء وفي | النور وسبل الرّشاد نخترق |
واعلم أن الأعراب هم الّذين يتبعون في البوادي مساقط الغيث ومنابت الكلأ، يخيّمون هنا يوما، وهنا أياما بحسب وجود الماء والمرعى، ويقال للواحد منهم أعرابي مفرد أعراب ومن استوطن القرى والمدن يقال له عربي مفرد عرب، وعليه فإن المهاجرين والأنصار من العرب لا من الأعراب، وإنما وصفهم الله بالكفر والنّفاق لكثرة تصلّبهم بهما وبعدهم عن معرفة حقيقة الإسلام مع ما هم عليه من كرم وشجاعة، وإقراء الضّيف وإغاثة الملهوف ومعونة ذي الحاجة والمروءة والغيرة، وأوصاف أخر قد لا يتحلى بها كثير من النّاس لا كما يقوله البعض بأنهم أجلاف كلا بل أشراف، ولكن مع الأسف لا حظ لهم في الآخرة إذا لم يؤمنوا.
قال تعالى «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات الواجبة عليه بمقتضى الدّين الحق «مَغْرَماً» يعدها كغرامة وهي التزام ما لم يلزم، فلا يعتقد وجوبها وهي أحد أركان الإسلام، ولا ثوابها ولا يعطبها إلّا خوفا أو رياء «وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ» أيها المؤمنون «الدَّوائِرَ» تقاليب الزمن بما يحوك في صدورهم من الحقد عليكم بسبب أخذ الصّدقة منهم، وينقلبوا عليكم فينتقموا منكم عند أول سانحة، ولذلك فإنهم يتحينون الفرص السّيئة لينقضوا عليكم ولكن «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» تدور وينقلب الزمن بسوء عليهم لا عليكم، فلا يرون فيكم إلّا ما يسوءهم، ولا ترون فيهم إلّا ما يسركم «وَاللَّهُ سَمِيعٌ» لما يقولونه فيكم أسرّوا فيه أم جهروا «عَلِيمٌ» (٩٨) بما ينوون من السّوء عليكم ويتمنون وقوعه فيكم، نزلت هذه الآيات في أعراب أسد وغطفان وتميم، ثم استثنى منهم جماعة بقوله جل قوله «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ» من الصّدقات «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» لأنهم يعطونها عن طيب نفس «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» أدعيته صلّى الله عليه وسلم لهم يتخذونها أيضا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى | تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا |
وما بلغ الحاجات في كلّ وجهة | من النّاس إلّا من أجدّ وشمرا |
فلا ترض من عيش بدون ولا تنم | وكيف ينام اللّيل من كان معسرا |
جمعت مالا ففكر هل جمعت له | يا جامع المال أبوابا تفرقه |
المال عندك مخزون لوارثه | ما المال مالك إلّا يوم تنفقه |
إن القناعة من يحلل بساحتها | لم يلق في ظلها عمّا يؤرقّه |
ولم أر بعد الدّين خيرا من الغنى | ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر |
ورويا عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار مواليّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله. وإنما مدح هؤلاء حضرة الرّسول لكمال يقينهم وحسن نيتهم وصدق عقيدتهم وأدائهم زكاة أموالهم طيبة بها أنفسهم. قال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فسلكوا سبيلهم بالإيمان واقتفوا آثارهم بالأعمال الصّالحة إلى يوم قيامتهم على هذا الشّرط الذي شرطه الله عليهم، فهؤلاء «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» بحسن نيّاتهم وبما أنعم الله عليهم من خيره الفيّاض «وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ» الفضل الذي منحهم الله إياه هو «الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١٠٠) من الرّب العظيم والفلاح الجسيم والنّجاح الذي ما بعده نجاح، وهؤلاء هم الّذين صلّوا إلى القبلتين وأهل بدر وأهل بيعة الرّضوان، ويدخل في عموم الآية جميع الأصحاب نسبيّا، وتشمل من حذا حذوهم أيضا، أما من لم يتبعهم بإحسان ولم يقتف آثارهم فليس منهم، ولا ينال ما نالوه، ولا يدخل في عدادهم، والنّاس بعدهم مراتب. واعلم أن أول من آمن به صلّى الله عليه وسلم من النّساء خديجة الكبرى رضي الله عنها، ومن الصّبيان علي كرم الله وجهه ورضي عنه، ومن الرّجال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ومن الأرقاء بلال وزيد بن حارثة رضي الله
والأخيريّة النّسبية موجودة حتى الآن وما بعدئذ بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلم لا يأتي يوم إلا والذي بعده شرّ منه، وما يقع من الأخيريّة فهو من تنفسات الزمان. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. والقرن من مئة إلى مئة وعشرين سنة، وهو مستوى عمر الإنسان لو عاش سالما من تخم الأكل المهلكة وتحفظ من الحر والقر المدمّرين للانسان، ومن الجوع المفرط وما يعتريه بسبب
ثم قسم الله المنافقين ثلاثة أقسام ذكر الأوّل بقوله عز قوله «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ» المحيطين بالمدينة «مُنافِقُونَ» يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وهم من مزينة وجهينة وأسجع وغفار وأسلم أي القليل منهم، بدليل لفظ من التبعيضية، والكثير منهم ممدوحون كما مر في الحديث السّابق عقب الآية (٩٩) المارة الدّالة على مدحهم، وفي هذا القسم المذموم الممقوت المذكورون في قوله تعالى «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» منافقون «مَرَدُوا» تمرنوا واعتادوا «عَلَى النِّفاقِ» وهم من الأوس والخزرج، وأنت يا سيد المرسلين «لا تَعْلَمُهُمْ» لأنهم يظهرون لك الإيمان والإخلاص والصّدق والطّاعة والحمية ولكن «نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» لأنا مطلعين على ما تكنّه صدورهم من الكفر والغش والبغض والكذب والعصيان ولهذا فإنا «سَنُعَذِّبُهُمْ» على تزويرهم هذا، وخداعهم لك «مَرَّتَيْنِ» الفضيحة والخزي والهوان والعار والشّتار في الدّنيا، والعذاب الدّائم المقيم مدة البرزخ في القبر وكلا هذين العذابين في الدّنيا، لأن مدة البرزخ من أيامها، وعلى هذا عامة المفسرين يؤيده قوله تعالى، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» (١٠١) في الآخرة لأنها محل ردّ كل الخلق فإنه مكان مكافآتهم ومجازاتهم، وهذه الآية من الآيات الصّريحة الدّالة على عذاب القبر، راجع الآية ٤٦ من سورة المؤمن المارة في ج ٢. واعلم أن هذه الآية تشير إلى أن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، وأن كلّ ما يخبر به هو
وتشير هذه الآية على قبولهم، ولذلك لم يذكر الله ما يدل على عقابهم. روى الطبري عن ابن عثمان قال: ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية، وذلك لأن ظاهرها يفيد أن مجرد عمل صالح وجد من الإنسان مع أعمال سيئة يرجى له الخير، وقد لا يخلو مسلم من عمل خير مهما كان شريرا والحمد لله، راجع الآية ٦ من سورة الرّعد المارة وما ترشدك إليه من المواضع ترشد لما تريد، واعلم أن الخلط هنا عبارة عن الجمع المطلق كاختلاط النّاس والأواني وغيرها بعضها ببعض،
الجملة مكررة كثيرا في القرآن المكي والمدني، وقوله صلّى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. فيه تسامح بذكر هذه الآية فقط، لأن السّياق والسّياق ينافيه، ويأباه تخالف انتظام الآيات وتناسبها وأسباب نزولها، والحق الاقتصار على الآية الثانية والحديث لاحتمال وقوعها في السّنة الثانية، وقد ذكرنا في الآية ٢٦١ و ٢٦٥ من سورة البقرة المارة الدّالة على فرض الزكاة بعموم أنواعها صراحة فراجعها، وراجع الآيتين ٩٧ و ٩٨ قبلها أيضا ليطمئن قلبك ويتبقن صحة ما ذكرناه لك، والله أعلم. قال تعالى «وَقُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء التائبين وغيرهم، لأن اللفظ عام، وقد ذكرنا أن العام لا يتقيد بخصوص السّبب «اعْمَلُوا» عملا صالحا تأييدا لتوبتكم هذه «فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ» عيانا فيرحمكم ويجازيكم عليه جزاء
مطلب سبب اتخاذ مسجد الضّرار ومسجد قباء وفضله، والترغيب في الجهاد وتعهد الله للمجاهدين بالجنة، وعدم جواز الاستغفار للكافرين:
قال تعالى حكاية عن بعض أعمال المنافقين السّابقة فاضحا سرائرهم في أفعالهم كما فضحها بأقوالهم ونياتهم، فقال «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً» بأصحاب رسول الله أهل مسجد قباء «وَكُفْراً» بالله ورسوله «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» الّذين يصلون فيه بأمر من حضرة الرّسول «وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» اتخاذهم ذلك المسجد والمراد بهذا هو أبو عامر الرّاهب وقد أعده له، هؤلاء المنافقون مناوأة للمسلمين الّذين أعدوا مسجدهم لهم ولرسولهم «وَلَيَحْلِفُنَّ» لك يا سيد الرّسل الّذين بنوه وهم وديعة بن ثابت وخزام بن خالد الذي أخرج المسجد المذكور من داره، وثعلبة بن حاطب المار ذكره، وحارثة بن عمر وولداه مجمع وزيد، وشعيب بن قشير، وعبادة بن حنين، وأبو حنيفة بن الأذعر، ونفيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان ومخرح القائلين بحلفهم لك لتصدقهم ما «إِنْ أَرَدْنَ» ببنائه «إِلَّا الْحُسْنى» أي إلّا الإرادة الحسنة
محل للقول الذي نقله النّسفي رحمه الله بأن القياس أن يقال منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ومن لابتداء الغاية في المكان، لأن الله أعلم بما ينزل من الألفاظ الموافقة للمعاني المقصودة، وإني لأعجب كلّ العجب من جرأة بعض المفسرين على مثل أقوال هكذا، مع علمهم بأن مصدر العلوم العربية التي يتبححون بها ويدعون معرفتها كلها مستقاة من القرآن العظيم، وإن ما كان منها مخالفا له لا قيمة لها ولا عبرة، فالذي جعل من بمعنى ما وما بمعنى من ألا يجعل منذ بمعنى غاية المكان، ألا يجعل من لابتداء الغاية في الزمان كيف يقال هذا من هذا الرّجل وهي قد أنزلت على منبع الفصاحة ومصدر البلاغة، ومع هذا يتطاولون ويقولون القياس كذا وكذا، أيعترضون على الله الذي هو أعلم بما ينزل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله، راجع الآية ٦٧ من سورة يونس ج ٢، والآية ٥ من سورة الحج المارة وابتهر بجرأة المفسرين لهما واستغفر الله والزم الأدب، فهو «أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ» مصليا من مسجد الضّرار الذي أسس على الكفر استعدادا لحضور ذلك الرّاهب الكافر، لأن هذا المسجد المبارك «فِيهِ رِجالٌ» كرام على ربهم «يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» طهارة كاملة من النجاسة الحسية والمعنويّة، والكلية الظّاهرة والباطنة، ويأخذون فيها بالعزيمة دون الرخصة «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (١٠٨) لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله
وما قيل أن المراد في المسجد المذكور في هذه الآية مسجد الرّسول ينافيه سياق الآية ومغزى الحادثة والتاريخ أن مسجد الرّسول أفضل المساجد كلها بعد المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة. ورويا عن أبي هريرة مثله بزيادة ومنبري على حوض. وأخرج النّسائي عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنّة (أي ثوابت). وجاء في الحديث الصّحيح أن الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره. ثم ضرب الله مثلا لهذين المسجدين مسجد الضرار ومسجد قباء المسمى مسجد القرى بقوله جل قوله «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ» منه تعالى «خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ» متداع للسقوط كما سيأتي بيانه بعد «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» سقط مع بنائه فيها لأنه ظلم نفسه بذلك «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (١٠٩) أنفسهم المسوين بين مسجد التّقوى ومسجد الضّرار، أي من أسس بنيانه على شفير واد أكل الماء ما تحته فصار هائرا أو واهيا متداعيا للسقوط مثله كالرمل الذي ينهار لرخاوته وعدم تماسكه. وهذا الاستفهام المصدر فيه جاء
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» في هذه الدّنيا «أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» في الآخرة بدلا منها، ثم بين هذه المبايعة بقوله «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» بأموالهم وأنفسهم «فَيَقْتُلُونَ» أعداءه وأعداءهم «وَيُقْتَلُونَ» في طاعته وطاعة رسوله ابتغاء مرضاته. قال كعب بن زهير:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم | قوما وليسوا مجازيع إذا نيلوا |
لا يقع الطّعن إلّا في نحورهم | وما لهم من حياض الموت تهليل |
ونحن النّازلون بكل ثغر | نريق على جوانبه الدّماء |
ونحن اللابسون لكل مجد | إذا شئنا ادّراءا وارتداء |
ولو كان العداء يسوغ منا | لسنا النّاس كلهم العداء |
شمّر وكافح في الحياة فهذه | دنياك دار تناحر وكفاح |
وانهل مع النّهال من عذب الحيا | فإذا رقا فامتح مسح المتّاح |
وإذا ألحّ عليك خطب لا تهن | واضرب على الإلحاح بالإلحاح |
وخض الحياة وإن تلاطم موجها | خوض البحار رياضة السّبّاح |
وما نيل المطالب بالتمنّي | ولكن تؤخذ الدّنيا غلابا |
وما استعصى على قوم منال | إذا الإقدام كان لهم ركابا |
فرسمت بعدك للعباد حكومة | لا سوقة فيها ولا أمراء |
الله فوق الخلق فيها وحده | والنّاس تحت لوائها أكفاء |
والدّين يسر والخلافة بيعة | والأمر شورى والحقوق قضاء |
«وَذلِكَ» الحصول على ما وعد الله به المجاهدين «هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١١١) وهذا جاء مجرى التلطف من الله في الدّعاء إلى طاعته والترغيب إلى جهاد عدوه، لأنا مملوكون لله تعالى، والمشتري لا يشتري ما يملك، ولم يقل جل قوله إن الله
مطلب في إيمان أبي طالب وسبب استغفار ابراهيم لأبيه وكذب ما نقل عن ابن المقفع وقصة المخلفين الثلاثة وتوبتهم:
ومما يدل على إيمانه سر الأبيات التي نقلها عنه أهل بيته وغيرهم في مدح ما علمه حضرة الرّسول وهي:
ولقد علمت بأن دين محمد | من خير أديان البريّة دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبة | لوجدتني سمحا بذاك قمينا |
تسامح، وتشاور مع عزم، ولين مع حزم، راجع الآية ١٦١ من آل عمران تجد ما يتعلق بهذا، قال تعالى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً» بسبب استغفارهم لمشركين «بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ» للايمان، وسبب نزول هذه الآية هو أن الله تعالى لما نهى المؤمنين عن الاستغفار لآبائهم المشركين خافوا عاقبة ما صدر منهم وصاروا يضربون أخماسا بأسداس على ما فرط منهم، فأنزل الله هذه الآية تطمينا لهم بعدم المؤاخذة وتطبيبا لخواطرهم، وإعلاما بأن ما وقع منهم لا يضرّهم ولا يعاقبهم الله عليه، لصدوره قبل النّهي بتأويل منهم، وحاشا رحمة الله أن يعذب قبل أن ينهى أو يريد قبل أن يأمر بالنسبة للظاهرة، ولهذا ختم هذه الآية بقوله «حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (١١٥) الخوض فيه وما يستحبونه
دع المنجم يكبو في ضلالته | إن ادعى علم ما يجدي من الفلك |
تفرد الله بالعلم القديم فلا | إنسان يشركه فيه ولا الملك |
أعد للرزق من أشراكه شركا | وبئست العدتان الشّرك والشّرك |
قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يأمر من فيهما بما يشاء وينهى عما يشاء لا يقيد شيء دون آخر في كلّ ما فيهما وما بينهما وما فوقهما وتحتهما «يُحْيِي وَيُمِيتُ» من فيهما ويغني ويفقر ويعظم ويحقر، لا راد لما يريد، ولا معطى لما منع «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أيها النّاس قويكم وضعيفكم «مِنْ وَلِيٍّ» يلي أموركم غيره «وَلا نَصِيرٍ» (١١٦) يمنعكم منه أو يحول دون إرادة ما قدر إيقاعه فيكم لأن مقدراته نافذة عليكم بآجالها لا تقدم ولا تؤخر ثم أنزل جل إنزاله ما يتعلق بالمتخلفين الصّادقين والثلاثة الآتي ذكرهم، فقال جل قوله «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» وقت غزوة تبوك المار ذكرها لما فيها من بعد الشّقة وقلة السّلاح والرّكوبة فضلا عن أنها كانت زمن الحرّ والجدب «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» على الثبات مع حضرة الرّسول لتلك الأسباب واشتداد الضنك حتى كان العشرة منهم يتعاقبون على الرّاحلة الواحدة في الرّكب وفي الزاد حتى كان الرّجلان يقتسمان التمرة وفي الماء حتى شربوا عصير كروش الإبل وفي الزمن حتى كان الجماعة يظللون أنفسهم بعباءة واحدة من هجير الشّمس، وفي المكان من البعد حتي شارف بعضهم على الهلاك من التعب قيل الوصول المرحلة وفي كلّ شيء في هذه الغزوة عسر ومشقة وقلة لم يلاقوها في جميع غزواتهم، ولهذا سميت غزوة العسرة وامتحن فيها من امتحن فنجى من نجى بحسن نيته وهلك من هلك بسوئها «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» وتجاوز عن زلتهم وخطئهم، وعفا عمّا همّ به بعضهم من ترك الرّسول والتخلي عنه وما اعتراهم من الضّجر، وإنما كرر فعل التوبة لزيادة التأكيد والتطمين لهم بالصفح عما وقع منهم كله من قول وفعل ونية وهم وعزم «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (١١٧) لأنهم من خلص عباده فرأف بهم ورحمهم ودفع عنهم ما لا يطيقون بكرمه وحنانه، ودفع عنهم ما عجزوا عنه بمنه ولطفه وتاب عليهم برده وعطفه. والفرق بين الرّأفة والرّحمة أن الرّجل قد يرحم من يكرهه ولا يرأف به، فالرحمة عامة، والرّأفة خاصة بمن يحب.
قال نعم، فرفع يديه صلّى الله عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل الله سبحانه وتعالى سبحانه فمطرت فملأوا ما معهم من الأدلية، ثم ذهبنا ننتظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. قال تعالى «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» تاب الله عليهم أيضا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الرّبيع الأنصاريّون، وهم المعنيون بقوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ) الآية ١١٦ المارة، وهذه الآية معطوفة على الآية الأولى، أي لقد تاب الله على النّبي إلخ وعلى الثلاثة إلخ وفائدة هذا العطف هو أن ما ذكر من ضم توبته إلى توبة الرّسول كان دليلا على تعظيمه وإجلاله، وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النّبي صلّى الله عليه وسلم وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد، وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» من شدّة الحزن والهم والغم والجفوة «وَظَنُّوا» تيقنوا وتحنقوا مما رأوا من عدم الالتفات إليهم «أَنْ
لهم يلجأون إليه «مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» وحده لا أحد ينجيهم مما هم فيه إلّا هو تعالى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ» ورحمهم لعلمه بصدق نيتهم فيما سبق في علمه الأزلي وعطف عليهم بقبول التوبة «لِيَتُوبُوا» في المستقبل عما يصدر عنهم كما يتوبوا عما صدر منهم قبلا فيكونون في كلّ أحوالهم تائبين وينيبون لجلال ربهم عن صدق واخلاص ونصح وحسن نية ويرجعوا إلى ربهم وطاعة رسولهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ» على عباده الرّاجعين إليه المنان عليهم من فضله «الرَّحِيمُ» (١١٨) بهم وإن ذكر صفة الرّحيمية بعد صفة التوابية يشير إلى أن قبول التوبة لأجل محض الرّحمة والكرم والفضل لأجل الوجوب عليه إذ لا واجب على الله لعبيده سواء في توبتهم أو في أعمالهم وأقوالهم. وفي هذا يعلم عدم وجوب قبول التوبة على الله. والتضعيف في الثواب يدل على المبالغة أي أنه تعالى إذا شاء قبول توبة العبد عفا عن ذنوبه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر، كما ورد بذلك الخبر إذ له أن يتجاوز عنها ولو كانت من أنواع الجنايات وأعظمها، فهو الجواد على عباده بفنون الآلاء مع استحقاقهم أفانين العذاب. وخلاصة القصة هو ما جاء في الحديث المروي عن ابن شهاب الزّهري عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب قال سمعت كعبا يقول إني لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، وقد طفقت أتجهز ولم أزل أتمارى حتى غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون، ويحزنني أن أرى لي أسوة (أي من المتخلفين) عن حضرة الرّسول إلا رجلا مغموصا بالنفاق أو ممن غدر الله، ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برؤه والنّظر في عطفه، قال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلّا خيرا، قال كعب فلما بلغني قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلم طفقت أقول بم أخرج من سخطه وقد استعنت بكل ذي رأي من أهلي حتى عرفت إني لم أنج بشيء أجمعت صدقه فجاء المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئت، وجلست بين يديه فقال ما خلفك قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك لرأيت إني سأخرج من سخط بعذر لند أعطيت جدلا (قوة) في الحجة وشدة في البرهان وبراعة في الدّليل
وقعدا يبكيان وأما أنا فأشهد الصّلاة وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلم عليه في مجلسه فأقول في نفسي هل حرّك شفنيه برد السّلام اللهم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النّظر أي أطلب غفلة منه لأنظر إليه وأرى هل ينظر إلي أم لا، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا ألتفت نحوه أعرض عني حتى طالت على جفوة المسلمين فتسورت حائط ابن عمي أبي قتادة فسلمت عليه فو الله ماره علي السلام فقلت أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله وكررت عليه مرارا فقال الله ورسوله أعلم فقاضت عيناي وتوليت فبينا أنا في سوق المدينة إذ بنبطي من أهل الشّام دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه [أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله يدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك] قال فقلت وهذه أيضا من البلاء فتيممت به التنور فسجرته به (وهذا من كمال إيمانه رضي الله وإلّا لكان هذا الكتاب مما يهون عليه مصابه وبالخاصة أنه من ملك غسان لو أبقاه تلاه كلما ضاق ذرعه ولتبجح به بين النّاس) قال رضي الله عنه حتى إذا مضت أربعون يوما من الخمسين واستلبث الوحي أرسل رسول الله يأمرنا أن نعتزل نساءنا فقلت لامرأتي الحقي بأهلك حتى يقضي الله قال ثم صليت صبح الخمسين ليلة فبينا أنا جالس على الحال التي ذكرها الله سمعت صوت صارخ يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا لله تعالى وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا فذهب النّاس يبشرونني ورفيقاي فكسوت البشير
مطلب في مدح الصّدق وفوائده وذم الكذب ونتائجه وما يتعلق بذلك والرّابطة عند السّادة الصّوفية:
فقد سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النّصوح فقال هي أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه وهذه نتيجة الصّدق الذي هو قوام أمر الخلق، لأن الكذب لا ينجي، وهو داء عضال لا ينجو من نزل به، ومن صنف الكذبة الحمقى، فإن الأحمق ضال مضل إن أونس تكبّر، وإن أوحش تكدر، وإن استنطق تخلّف. مجالسته مهينة، ومعاتبة محنة، ومجاورته تعرّ، وموالاته تضر، ومقاربته عمى، ومقارنته شتاء. هذا ومن المتخلفين من ندم فلحق به صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من بقي وساوره النّدم، قال الحسن رضي الله عنه: بلغني أنه كان لأحدهم حائط خير من مائة ألف درهم، فقال:
يا حائطاه ما خلفني إلّا ظلك، وانتظار ثمارك، اذهب فأنت في سبيل الله. ولم يكن لآخر إلّا أهله، فقال: يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلّا التفتن بك، فلا جرم والله لأكابدن الشّدائد حتى ألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم: فتأبط زاده ولحق به عليه الصّلاة والسّلام ورضي عنهما، وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ماشيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام لما رأى سواده كن أبا ذر، فقال النّاس هو ذاك يا رسول الله، فقال رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده. وكانت الأوليان وستكون الثالثة يوم البعث إن شاء الله تصديقا لحضرة الرّسول الصّادق صلّى الله عليه وسلم راجع الآية (٣٥) المارة
قال تعالى (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية ٢٤ من سورة الأحزاب المارة، أي في عقد العزيمة ووعد الخليفة. قال تعالى (إِنَّهُ) أي إسماعيل عليه السلام (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ)
الآية ٥٥ من سورة مريم المارة في ج ١، فإذا روعي الصّدق في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنيّة والقول والعمل أدّى ذلك إلى اتصافه بالصدق الخالص، حتى ان مناماته. ووارداته على قلبه تصدق بإذن الله تعالى. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنّة، وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النّار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا. وانظر ما قال تعالى حكاية عن إبليس (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآية ٨٤ من سورة ص في ج ١ فإنه إنما ذكر الاستثناء لئلا يكذب، لأنه لو لم يذكره لصار كاذبا في ادّعاء إغواء الكل، فكأنه استنكف عن الكذب ليكون صادقا في حلفه.
فإذا كان إبليس يستنكف عن الكذب، فالمسلم من باب أولى أن يستنكف عنه.
وتدل هذه الآية الجليلة عل أن إجماع المسلمين يجب الخضوع له، لأن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بالكون معهم، لأن ملازمة الصّادقين تؤثر في من يلازمهم فيكتسب منهم الصّدق وما يتشعب منه كالنصح والإخلاص والأمانة والأخلاق الفاضلة والآداب الحسنة، لأن المجالسة تفيد اكتساب ما هو الأحسن عند المجالس، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم مجالسة العلماء، والقصد من الرّابطة عند السّادة الصّوفية هي تعلق الرّابط بأحوال وصفات المرابط والمحبة له والكون معه، لأن الكون مع الصّادق له تأثير
هذه الآية، إذا لا حجة بالقلة والكثرة، تدبر.
قال تعالى «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً» في سبيل الله «صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً» من شق التمرة فما فوقها «وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً» في ذهابهم وإيابهم «إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ» به عمل صالح مقبول عند الله يثابون عليه «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١٢١) في الدّنيا من الجهاد وغيره وإنهم يؤجرون على كلّ شيء بأحسنه وأكثر ثوابا. تدل هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كانت جميع حركاته وسكناته حسنات مثاب عليها عند ربه. ومن قصد معصيته كانت عليه سيئات معاقب عليها إلّا أن يتغمده الله برحمته.
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد السّاعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدّنيا وما عليها، والرّوحة يروحها الرّجل في سبيل الله أو الغدوة خير من الدّنيا وما عليها، وفي رواية وما فيها. ورويا عن أبي سعيد الخدري قال:
إن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أي النّاس أفضل؟ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. قال ثم من؟ قال ثم رجل في شعب من الشّعاب يعبد الله وفي رواية يتقي الله ويدع النّاس من شره. وروى البخاري عن ابن عباس قال ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النّار. وقال ثابت بن سعيد ثلاث أعين لا تمسها النّار: عين حرست في سبيل الله، وعين سهرت في كتاب الله، وعين بكت في سواد اللّيل من خشية الله. وروى مسلم عن ابن مسعود الأنصاري البدري قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال هذه في سبيل الله، فقال صلّى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة. وأخرج الترمذي والنّسائي عن جريم بن مالك قال قال صلّى الله عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل الله له سبعمائة ضعف. وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا في الآيتين ١٧٤ و ١٧٦ من سورة البقرة فراجعها. واعلم أن مناسبة هاتين الآيتين بما قبلها هو أنه لما أمر الله عباده بالكون مع الصّادقين ومتابعة الرّسول في غزواته ومشاهده كلها أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه، فقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ) إلخ الآية أي ما صح وما استقام لهم فعل ذلك. والأعراب الّذين كانوا حول المدينة المرادون في هذه الآية هم مزينة وجهينة والنّجع وأسلم وغفار، ولكن يستفاد من مغزى هذه الآية تناول جميع الأعراب الّذين كانوا حول المدينة خلافا لما قاله ابن عباس بتخصيص الفرق الخمس المذكورين، لأن اللّفظ عام والتخصيص دون نصّ تحاكم.
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه | وينجو بحول الله من حيث يحذر |
يرى الشّيء مما يتقي فيخافه | وما لا يرى مما يقي الله أكثر |
إذا مرضنا توبنا كلّ صالحة | وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل |
نرضي الإله إذا خفنا ونسخطه | إذا أمّنا فما يزكو لنا عمل |
يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السّماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي الله بآداب الرّوحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصّديقين، أظهروا العلم في قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم، وهذا على القول بأن الطّائفة المتأخرة هي المراد بما تعلم العلم، فيكون المراد منها أنه يجب على كلّ فرقة من فرق البلاد أن يشدّوا الرحال في زمن الرّسول إليه لطلب العلم، والآخرون لجهاد العدو، وبعد زمن الرسول إلى المحل الذي فيه العلماء، فيتعلمون منهم أصول الدّين ويعودون فيعلمون قومهم، لأن هذه الآية تحتوي على أمرين: الأمر بالهجرة، والأمر بالجهاد. وأمر
من معرفة علم الحال كالصوم والصّلاة والحج والزكاة للمتولين. ومعنى كلمة الشّهادة للكل، وفرض كفاية كتعلم ما به يبلغ درجة العلماء ورتبة الاجتهاد وفإذا وجد في البلد واحد من هذا القبيل قادر على الفتيا والتعليم كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلّا فكلهم آثمون. ومثل هذا يصدق عليه الحديث المار ذكره في قوله صلّى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. وقدمنا ما يتعلق في فضل العلم في الآيتين المذكورتين آنفا في سورة المجادلة وفاطر فراجعهما، ومنها ما جاء في فضل تعلمه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنّة. وما أخرجه عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلّى الله عليه وسلم قال العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل (آية محكمة) أي لا اشتباه فيها من تأويل أو تفسير أو اختلاف في حكمها (أو سنة قائمة) أي مستمرة دائمة متّصل العمل بها (أو فريضة عادلة) أي لا جور فيها
ومنه معرفة العقود وما يفسدها أو يبطلها إذا كان يتعاطى البيع والشّراء وغيرهما.
وبصيرة عامة كلّ ما هو لازم له من العبارة والمقالة. وهناك أحاديث تتعلق في هذا البحث كثيرة لا يسعها هذا السّفر فنسأل الله أن يجعلنا من العالمين العاملين به، النافعين لعباد الله، الخالين من شوائب السّمعة والرّياء وحب الجاه ونشر الصّيت ورفع القدر، إنه على كلّ شيء قدير وبالإجابة جدير. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ» لما كان القتال واجبا على المسلمين لجميع الكفرة أمر الله تعالى بأن نقاتل أولا الأقرب منهم فالأقرب لدار الإسلام، إذ ليس من العدل أن يقاتل البعيد ويترك القريب إذ لا يؤمن منه أن ينتهز فرصة غياب القوة الحامية للبلاد الاسلامية وقراها فيهجم على بلادهم وذراريهم ونسائهم وأموالهم فيستولي عليها ويتحصّن بها، فيقتل ويسلب كيف شاء ويعود أو يبقى بها، وهذا من قبيل التعليم والإرشاد من الله تعالى إلى عباده فيما هو من صالحهم، وباب عظيم من أبواب الحرب يعلمه الله تعالى لعباده ليقوا أنفسهم من عدوهم إذا غفلوا عن الأخذ به. هذا ولا وجه لقول من قال إن هذه الآية منسوخة بآية القتال المارة، لأنها نزلت بعد الأمر بقتال المشركين كافة، والآيات قبلها والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وهي آخر آية نزلت في القتال، لأن الله تعالى لما أمرهم بقتال جميع المشركين الواردة في الآية ٢٨ المارة أرشدهم إلى الطّريق الأصوب بذلك بأن يبدأوا أولا بقتال الأقرب في ديارهم، فمن يليهم في البعدية تدريجا ليأمنوا على من وراءهم، لأن قتال الأبعد والأقرب دفعة واحدة فيه خطر الالتفاف والتطويق. وفي قتال الأبعد قبل الأقرب أشد خطرا في التطويق والالتفاف ومظنة قطع المواصلات والتحاق الأطراف بهم، مما يزيد في شكيتهم ويكثر سوادهم ويزيد الخطر على المؤمنين، ولهذا أول ما بدأ صلّى الله عليه وسلم بقتال قومه المختلطين مع أصحابه المتداخلين معهم ليأمن غائلتهم، ثم انتقل إلى العرب الآخرين القاطنين في الأطراف، ثم إلى أهل الكتاب المحيطين في المدينة، ثم إلى الرّوم العيدين عنه، وهكذا أصحابه ومن بعده رضوان الله عليهم أجمعين، إذ بدأوا بقتال أعدائهم
مطلب في ما بعد إذا ومثالب المنافقين ومنة الله على عباده بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلم:
واعلم أن ما توصل بإذا في كلّ ما لا يتطرقه النّفي في الكلام بعدها، أما فيما يتطرقه النّفي كالآية المعطوفة هذه عليها فلا تتصل بها ما، ومثل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ
و (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (انْفَطَرَتْ) وشبهها، لأنك إذا زدت ما في هذه الجمل وأمثالها تطرقها النّفي وهي لا تحتمله فيختل معناها فلا يمكنك أن تقول مثلا إذا ما السّماء انفطرت إلخ إذ يكون على تقدير ما بعد إذا لم تعلم نفس ما قدمت وأخرت، لأن علم ذلك عند وجود هذه الحوادث، وهذا قال تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) وكذلك في بقية الجمل المذكورة، فإن وجود ما بعد إذا فيها تقييد المعنى بتطرق النّفي، أما إذا أمن تطرق لنفي كالآية المفسرة هذه فلا بأس بوجود ما فيها، ويصح تغير القرآن حذفها، مثل قولك إذا قدم الطّعام أكلنا، فإذا زدت ما فقلت إذا ما قدم الطعام أكلنا بقي المعنى على حاله، ومن هنا تعلم غلط بعض الكتّاب الّذين يصلون ما بإذا مطلقا دون أن ينظروا إلى المعنى بعدها، هل يتطرق النّفي أم لا؟
وهل يبقى المعنى على حاله أم لا؟ تدبر «فَمِنْهُمْ» المنافقون «مَنْ يَقُولُ» لصاحيه على طريق الاستهزاء والسّخرية «أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ» السورة المنزلة على محمد «إِيماناً» كما يقوله المؤمنون من أصحابه، فيا سيد الرّسل قل هؤلاء الفاجرين «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسوله وكتابه واليوم الآخر إيمانا خالصا حقيقيا «فَزادَتْهُمْ إِيماناً» على إيمانهم لأنهم بعد أن تأمّلوا معناها وتدبّروا مرماها وتعقلوا مغزاها زادت معرفتهم بالله وما يتحتم عن الإيمان به وبرسوله، وكفى بعوام النّاس اعترافهم بها أنها من عند الله بيقين جازم وإقرارهم بها عن ثفة وتصديق، فكل هذا مما يزيد في قوة الإيمان فمثل زيادة الإيمان القوة تكون في الرّجل، ومثل نقصه الضّعف فيه مع تساويهما في الإنسانية، فلا يقال حينئذ كيف يزيد وكيف ينقص راجع الآية (٥) من سورة البقرة والآية الثانية من سورة الأنفال المارتين تجد ما يتعلق في هذا البحث وفيما ترشدك إليه من المواضع «وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (١٢٤) بنزولها لما يرون من انشراح صدورهم لها ورغبتهم في سماعها وتشوقهم لحفظها والعمل بها طلبا للثواب في الآخرة عند منزلها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة وشبهة في صحتها كالمنافقين والكافرين «فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ» الغاش الغامر على قلوبهم المتغلغل فيها بسبب انغراز الكفر
قبل أن يطلعوا عليكم فينهوكم ويقرّعوكم ويوبخوكم «ثُمَّ» أي بعد أن تواطلوا على الهزيمة «انْصَرَفُوا» من المجلس الذي أنزل فيه القرآن خشية أن يصارحوهم بما وقع منهم «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» عن الإيمان بها وأهمها وأعمها عن التعقّل فيها مجاراة لتهاونهم فيها وجهلهم بعاقبة أمرهم «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (١٢٧) معنى الآيات ولا يفهمون مغزاها، ولا يتفكرون فيما ترمي إليه، ولا يعقلون معناها، لأنهم حرموا لذة الإيمان بها لعدم تخلّقهم على فطرة التوحيد والعرفان وعدم اتعاظهم بما انطوت عليه آيات هذا القرآن، وصرفوا أوقاتهم في اللّغو وهفوات اللّسان وكلّ ما لا خير فيه من الكلام، وليس في قرنائهم من يرشدهم لأنهم مثلهم، قال الإمام الشّافعي رحمه الله:
لا خير في حشو الكلا... م إذا اهتديت إلى عيونه
والصّمت أجمل بالفتى... من منطق في غير حينه
وعلى الفنى بطباعه... سمة تلوح على جبينه
من ذا الذي يخفى عليك إذا نظرت إلى [قرينه] قال محمد بن إسحاق لإخوانه إذا قضيتم الصّلاة فلا تقولوا انصرفنا من الصّلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قد قضينا الصّلاة. والقصد من قوله هذا رحمه الله التفاؤل بترك هذه اللّفظة الواردة فيما لا ينبغي. والترغيب في تلك
راجع الآية ١١ من سورة الحج المارة. أخرج الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون حسبهم بينهم، فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدّية (بضم الكاف وتخفيف الدّال الأرض الغليظة والصّفات الشّديدة العظيمة والشّيء الصّلب بين الحجارة والطّين) من الأرض، فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. وروى مسلم عن وائلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم. وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا. حتى كنت من القرن الذي كنت فيه. وهذا الرّسول أيها المؤمنون «عَزِيزٌ» شاق صعب عظيم شديد «عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي ما تعملونه من المكروه والإثم لزيادة رأفته بكم، وكثرة غيرته عليكم لأنه يراكم بمثابه أعضائه وجوارحه، فكما يشق عليكم تألم شيء منها يشق عليه ما يصيبكم من كلّ سوء،
ملقاة في فلاة، وبالرفع على أنه صفة لله تعالى والله سبحانه هو الكبير العظيم بأسمائه وصفاته وأفعاله، المستحق للتعظيم بأفضاله وآلائه. والمراد من عظم العرش كبر جرمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار، ومنها ما ذكر آنفا، والمراد من وصف الإله بالعظم وجوب الوجود والتقديس والتنزيه عن الجسمية والأجزاء والأبعاض ووصفه بكمال القدرة وكونه مبرأ من أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام. قال أبو بكر وهذه القراءة (أي قراءة العظيم بالرفع) أعجب لأن جعل العظيم صفة للرب العظيم أولى من جعله صفة العرش (أي وإن خصّصها الغير) ويوجد في القرآن أربع سور مختومة بلفظ العظيم: هذه والحديد والواقعة والحاقة. هذا وقد ذكرنا أوّل هذه السّورة أنها نزلت كلها جملة واحدة، كما أشرنا إليه في الآية (٢٧) المارة، وقال الحسن إن هاتين الآيتين الأخيرتين من آخر ما نزل من القرآن وما نزل بعدها قرآن.
والمراد بقوله هذا أنهما نزلتا بآخر هذه السّورة لا وحدهما أما قوله ما نزل بعدهما قرآن، فلا يتجه إذ نزل بعدهما من السّور سورة النّصر، ومن الآيات آية المائدة الخامسة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وآية البقرة ٢٨٢ وهي (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) على أصح الأقوال، ومن قال ان الآيتين الأخيرتين من هذه السّورة نزلتا بمكة قيل لا مبرر له ولا عبرة به ولا قيمة له، وكان هذا القائل نظر لما فيهما من التفريض فقال ما قال، لأن هذه السّورة جاءت بالجزم والعزم ومقام
راجع الآية (٨٢) من سورة النّساء المارة. واعلم أن ما نقل عن حذيفة من قوله أنتم تسمون هذه السّورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركت أحدا إلّا قالت منه (والله ما تقرءون ربعها) فهو نقل كاذب ورواية مفتراة وخبر بهت وقول زور، لأن تصديق الجملة الأخيرة من هذه الرّواية الواهية عبارة عن وجود النّقص في القرآن العظيم الذي لا يحتمل النّقص ولا الزيادة ولا يتطرقان إليه البتة. كيف وقد حفظه الله من كلّ باطل وتعهد بحفظه كما أشار إلى ذلك في الآية (٣٠) سورة الحجر والآية ٩٢ من سورة فصلت المارتين في ج ٢، وهذا القول المختلق يخرج القرآن العظيم عن كونه حجة ولا خفاء، فإن القول بوجود نقص في القرآن باطل لا يقوله إلّا مبتدع زنديق فاسق فاجر، وهو كالقول بأن سورة الأحزاب كانت أكثر مما هي عليه الآن إذ أكلتها الأرضة وهي في بيت عائشة، فإذا أكلتها من بيت عائشة فهل أكلتها من النّسخ التي عند كتبة الوحي، وهل أكلتها من صدور الحافظين الأمينين. ولما نسخ أبو بكر القرآن من اللّخاف وغيرها هلا اطلع على هذا النّقص وهو خليفة رسول الله الأوّل، وهلا سأل من هذا عمر حين ولي الخلافة ونقل الصّحف إلى بيت حفصة، ولما نقل المصاحف زمن عثمان من قبل كتبة الوحي، هلّا اطلعوا على هذا النّقص الواقع في الأحزاب والتوبة، وهم أعلم النّاس بالقرآن بعد المنزل عليه، قاتل الله المفسدين، قاتل الله المرجفين، قاتل الله الزائفين، ألا يعلمون أن القول بهذا كفر صريح لإنكارء ما تعهد الله بحفظه وحمايته، ومن أوفى بعهده من الله، هذا، وقد أسهبنا بالبحث في هذا في المقدمة في بحث النّزول
سورة التوبة
سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].
ترتيبها المصحفي
9نوعها
مدنيةألفاظها
2505ترتيب نزولها
113العد المدني الأول
130العد المدني الأخير
130العد البصري
130العد الكوفي
129العد الشامي
130تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:
* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).
* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:
عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).
* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).
* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:
عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).
* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:
نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).
والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».
فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.
قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.
قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.
فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.
حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.
قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.
قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.
قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.
قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.
قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.
قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.
قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].
قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاْللَّهِ لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].
قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).
* سورةُ (التوبة):
سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:
* سورةُ (براءةَ):
وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).
* (الفاضحةُ):
فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).
قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...
وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.
وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).
وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).
* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:
فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).
جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:
1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).
2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).
3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).
4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).
5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).
6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.
7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.
8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.
9. أصناف أهل الزكاة.
10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.
11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.
12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).
إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).