تفسير سورة التوبة

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه

تفسير سورة سورة التوبة من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ
﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿بَراءةٌ مِن اللهِ وَرَسُولِه﴾، إلى قوله: ﴿أرْبَعَةَ أَشْهُر﴾:
هذه الآية ناسخةٌ للعهود البعيدة الأجل التي كانت للمشركين.
قال ابنُ عباس: كان لقومٍ من المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - عهود إلىأوقات، فأمر اللهُ - جلَّ ذكرُه - نبيّه صلى الله عليه وسلم - أن يُؤَجِّلَهُم أربعةَ أَشهُرٍ يتصرفونفيها، وإن كانت عهودُهم إلى أكثر من أربعةِ أشهر، وذلك من بعد يومالنحر إلى عشر من ربيع الثاني؛ لأن عليَّاً رضي الله عنه نادى بسورة براءةفي بوم النحر، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: وكان قومٌ لا عهودَ لهمفأُجِّلوا خمسين يوماً - (عشرين) يوماً من ذي الحجة والمحرم -.
وقال مجاهد والسُّدِّي: هم قوم كان لهم عهد إلى أكثر من أربعةأشهر، وقوم (كان عهدُهم) إلى أربعة أشهر، فردَّ الجميعَ إلى أربعة أشهر، ونسخ ما زاد على أربعة أشهرٍ، ونسخَ أمانَهم إلى البيت وطوافهم به عُراة.
وقال الزهري: الأربعةُ أشهر: أولها: شوال. إلى آخر المحرم.
وقيل: إنما نَبْذُ العهد إلى قومٍ نقضوا عهداً كان بينهُم وبينرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُجِّلوا أربعةَ أشهر، فأما من لم ينقض العهدَ، فيبقىعلى عهدِه بدليل قوله: ﴿فَمَا استَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧]. قال: ومن لم يكن له عهدٌ أُجِّلَ خمسينَ يوماً من (يومِ) النَّحر الذي نادي فيه عليٌّ - رضي الله عنه - ببراءة.
قال أبو محمد: وكان حقُّ هذا ألاّ يُدْخَل في الناسخ والمنسوخ لأنهلم ينسخ قرآناً متلوّاً، إنما نسخَ أمراً رآه النبي - عليه السلام - وأشياءَ كانواعليها مما لا يرضاه الله. والقرآن كُلُّه ناسخٌ لما كانوا عليه، إلاّ ما أَقرَّهم النبيعليه. لكنا ذكرناه وأشباهَه اتباعاً لمن تقدَّمنا؛ إذ أكثرُهُم ذكرَه ونَبَّهْنا على ما(ذكرنا لتعرفَ) حقيقةَ النسخ الذي قصدنا (إلى بيانِه).

﴿ فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿فإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكِين﴾ الآية:
هذه الآيةُ محكمةٌ عند أكثر العماء ناسخةٌ لجميع ما أُمِرَ به المؤمنونمن الصفح والعفو والغفران للمشركين، وقد ذكرنا ذلك.
وعن الحسن: أنها منسوخةٌ بقوله: ﴿فَإِمَّا منَّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً﴾، وقال لا يحلّ قتل أسيرٍ صبراً - وهو قول الضحاك والسُّدِّي وعطاء -.
وقال قتادةُ: هذه الآيةُ محكمةٌ ناسخةٌ لقوله: ﴿فإِمّا منَّاً بَعْدُ وَإِمَّافِدَاءً﴾، وقال: لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل، ولا يُمَنُّعليهم ولا يفادى بهم.
وقد روي عن مجاهد أنه قال: إما السَّيْفُ وإما الإِسلام في الأسارى.
وقال ابنُ زيد: الآيتان محكمتان غيرُ منسوختين ومعنى آية براءة: أنه- تعالى ذِكرُه - أمر بقتل المشركين حيثُ وجدوا، ثم قال: ﴿وخذوهم﴾: يعني أسارى للقتل أو لِلْمَنِّ أو للفداء.
والإِمام ينظر في أمور الأَسارى (في ما هو أَصلَحُ للمسلمين) من المنِّ أو القتلِ أو الفداء، وقد أتت الأخبارُ أن النبيَّ - عليه السلام - فعلَهذا كُلَّه، فقتل من الأسارى النَّضْرَ بنَ الحارث وعقبة (بن أبي) معيطيومَ بدر، بعد أن أخذهما أسيرين، ومنَّ على قوم، وفادى قوماً.
قال أبو محمد: وهذا أولى بالآية وأصحُ في معناها إن شاء الله.
وقيل: الآيةُ مُخَصَّصةٌ بترك قتل أهل الكتاب إذا أَعطوا الجزيةَ لأنهم مشركون (بدَلالة) قوله: ﴿اتّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرباباً مِن دُونِ اللهِوالمسيحَ ابنَ مَرْيم﴾ [التوبة: ٣١]، أي اتخذوا المسيح ربّاً، ولا شركَ أعظم مناتّخاذ ربٍ من دون الله، وهي مُخَصَّصةٌ أيضاً بقوله: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عنالذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة: ٨] - الآية -.
(وهذا على) قول من قال: (إن) الآيةَ نزلت في قوم منالمشركين لم يقاتلوا المؤمنين، وهم: خزاعة، وبنو عبد الحارث بنُ عبدمناف كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فأمر الله المؤمنين أن يُوفوالهم بعهودهم - وهو قول الحسن - وسنذكر ذلك في موضعه - إنشاء الله -.
وقد قال ابنُ حبيب: إن قوله: ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْوَخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] - الآية - منسوخٌ ومستثنى منها بقوله: ﴿فَإن تَابُواوأقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقال بعد ذلك: ﴿فَإِخْوَانُكُمْفِي الدِّين﴾ [التوبة: ١١].
قال أبو محمد: ولا يجوز في هذا نسخٌ؛ لأنها أحكامٌ لأصنافٍ من الكفار حَكَم الله على قومٍ بالقتل إذا أَقاموا على كُفْرِهم، وحكَم لقومٍ بأنهم إذا آمنوا وتابوا أَلاَّ يُعْرَضَ لَهم وأخبر بالرَّحمةِ والمغفرة لهم وحكم لمن استجار بالنبي - عليه السلام - وأَتاه أن يُجِيرَه ويُبْلِغَه إلى موضع يأْمَنُ فيه، فلا استثناء في هذا؛ إذ لا حرفَ (فيه) للاستثناء، ولا نسخفيه، إنما كُلُّ آيةٍ في حُكْمٍ منفردٍ وفي صنفٍ غيرِ الصِّنْفِ الآخر، فَذِكْرُ النَّسخِ في هذا وَهْمٌ (وغَلَط) ظاهر، وعلينا أن نَتَبَيَّنَ الحقَّوالصَّواب.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَعَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
قال جماعةٌ: هذه الآيةُ نَسَخَت ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صالَحهُم عليه منأن لا يُمْنَعَ أَحدٌ من البيتِ والمسجدِ الحرام والحرَم، (بقوله) ﴿بَعْدَ عَامِهِمْهَذَا﴾ يعني: بقيةَ سنة تِسع، فَمُنِعوا مِن الدُّخولِ بعد سنة تسع، وكان قدصالَحهم على أن يَدخلوا ولا يُمْنَعوا.
ومذهبُ مالكٍ أن يُمْنَعَ المشركون كُلُّهُم وأهلُ الكتاب من دخولالحرم ومن دخول كل مسجد - وهو قول عمر بن عبد العزيز وقتادة -.
ومذهبُ الشافعي أن يُمنعوا من الحرَم، ولا يُمنَعوا من سائر المساجد.
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه دخول أهل الكتاب خاصة الحرَمَ وسائرَالمساجد، ويمنعُ ذلكَ كُلَّه غيرَ أهل الكتاب.
قال أبو محمد: وهذه الآية كالتي قبلها كان حَقُّها ألاَّ تُذكَرَ فيالناسخ والمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآناً.

﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الذِينَ لا يُؤمِنونَ باللهِ ولاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾الآية:
هذه الآيةُ ناسخةٌ للعفْوِ عن المشركين مِن أهل الكتاب وغيرهم.
وقيل: هي ناسخةٌ لقولِه: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣٦] فأَمَر بقتلالمشركينَ خاصةً دون أهل الكتاب، ثم أمرَ بقتال المشركين مِنأهل الكتاب وغيرِهم، فنسخت تخصيصَ الأمر بالقتال للمشركين(وغيرِهم). وهذا القولُ غيرُ صواب لأنه يلزم منه تركُ قتالِ المشركين.
ولكنْ إِنَّما نسخَت مفهومَ الخطاب في قولِه: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾لأَنَّه فُهِمَ منه تركُ قتالِ أهل الكتاب لِتَخصيصِه المشركين، ثم نسخَ ذلك قولُه تعالى: ﴿قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] إلى قوله:﴿مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾ [التوبة: ٢٩]، فأباح قتالَ أهل الكتاب المفهوم في الآيةالأولى ترك قتالهم حتى يعطوا الجزيةَ، فكُلُّ كتابيٍّ مشركٌ، وليس كُلُّ مشركٍ كتابياً. فالمرادُ بقوله: ﴿وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣٦] يعني: الذين ليسوا مِن أهل الكتاب.
وقيل: هو تبيين أَنَّ المرادَ بقوله: ﴿وقَاتِلُوا المُشْرِكِين﴾: يريدُ غيرَأهل الكتاب، وقولُه: ﴿قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بالله﴾ - الآية - (مرادٌ به)أَهلُ الكتاب، لقوله تعالى: ﴿مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾، فالآيتانمحكمتان إحداهما مُبَيِّنةٌ للأخرى.
وقد قيل: إنَّ قولَه: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] ناسخٌلقوله: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾، وهذا إِنَّما يجوز إذا جعلتَ "كافةً" حالاً من الضمير في قوله ﴿قاتِلُوا﴾ فأَمَّا إن جعلته حالاً من المشركين، فلا يحسن فيه هذا، لأن قتالهم كُلَّهُم لازمٌ واجب.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

قوله تعالى: ﴿والّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ الآية:
عمَّ الله في هذه الآية، فأمر (بإِنفاق الأموالِ) في سبيل الله، وتواعَد مَنْ كَنَزَها ولم يُنْفِقْها (في سبيل الله) (بعذابٍ أليم).
فَرُوِيَ عن عُمَرَ بن عبد العزيز وعراك بن مالك أنهما قالا: هي منسوخةٌبقوله - عزَّ وجَلَّ -: ﴿خُذْ مِن أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] - الآية - فلم يُوجِب إنفاقَالأموالِ كُلِّها، وأمر أن يُؤْخَذَ منها صدقةٌ وهي الزكاة، فكُلُّ مال لا تؤدىزكاتُه فهو كَنْزٌ. قال عُمَر بنُ عبد العزيز وعراك بن مالك: مَن أَعطى صدقَته فليس مالُه بكنز. وروي عن ابن شهاب مثل قول عمر فيالآية.
ومن الواجب حمل قوله: ﴿ولاَ يُنفِقُونَهَا﴾، على معنى: (ولا)ينفقونَ الواجبَ عليهم منها، قال: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في الزكاة.
قوله تعالى: ﴿إلاّ تنفروا يُعَذِّبْكُم عَذَاباً ألِيماً﴾ [التوبة: ٣٩].
قال ابن عباس: نسخها ﴿ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقال الحسنُ وعِكرمة: وهذا على الأُصولِ لا يَحْسُنُ نسخُه؛ لأنه خبرٌفيه معنى الوعيد، والمعنى: إذا احتيجَ إليهِم نفروا كُلُّهُم، فالرواية عنهمبذلك لا تَصِحُّ. فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، ومعناها: إلاَّ تنفروا إذا احتيجَإليكُم يُعَذِّبْكُم.

﴿ ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً﴾:
عمَّ الله بالأمر بالنفير الجميعَ، ثم نسخَ ذلك بقوله: ﴿ومَا كَانَالمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢] - وهذا القولُ مرويٌّ عن ابن عباس -.
قال عكرمة: أول آية نزلت من براءة: ﴿انفِروا خِفافاً وثِقالاً﴾. ونسخها بقوله: ﴿وما كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ - الآية -.
قال ابنُ زيدٍ: الخفيفُ: الذي لا عيالَ له ولا ضَيْعَة. والثقيل: الذي لهعيال وضيعة، ودليل ذلك قوله: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَاأمْوَالُنَا وأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١].
وقيل معناه: انفروا شباباً وشيوخاً.
وقيل معناها: انفروا ركباناً ومشاةً.
وقيل معناه: انفروا نشاطاً وكسالى، وفيه أقوال غيرُ هذا.

﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ الآيات الثلاث:
قال ابنُ عباس: نسخَ هذه الآيات الثلاث (قولُه تعالى): ﴿فَإِذَااسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذِن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].
وقال الحسنُ وعكرمةُ: إنّ قولَه: ﴿لاَ يَسْتَأذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللهِواليَوْمِ الآخِر﴾ [التوبة: ٤٤]. نسخه قولُه: ﴿فَإِذَا استَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأنِهِمْ فَأْذَن لِمَنشِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].
وعن ابن عباس أنه قال: الثَّلاثُ الآيات محكمات، وإنما هو تعييرٌ وتوبيخ للمنافقين حين استأذنوا النبي - عليه السلام - في القُعودعن الجهاد بغيرِ عُذْر، وعذَرَ اللهُ المؤمنين فقال: ﴿فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِشَأْنِهِمْ فَأْذَن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾.
قال أبو محمد: وهذا قولٌ حَسَنٌ، فلا ينسخُ جوازَ الاستئذانِللمؤمنين منعُ الاستئذان للمنافقين، لأن استئذان المنافقين لغير عذر كان، واستئذان المؤمنين لعذر، (فهما) استئذانان مختلفان، لا ينسخ أهدُهماالآخرَ، وهو الصَّواب إن شاء الله.
وأيضاً، فإن استئذانَ المنافقين، إنما كان في أَن يتخلفوا عن الخروجمع رسول الله إلى الجهاد، واستئذانَ المؤمنين إنما هو في أمر يعرِض لهم فيحال قتالهم والمكافحة للمشركين، وقد رُوِيَ أن المؤمنين إنَّما استأذنواالنبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض حوائجَ يقضونها ويرجِعون، وهم يحفرون الخندقحولَ المدينة.

﴿ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِين﴾ الآية:
بيَّن اللهُ - جلَّ ذِكرُه - في هذه الآية (أَنَّى توضعُ) الصَّدَقاتُ منالزّكَوَات وغيرِها.
فقيل: إنها نَسَخَتْ كُلَّ صدقةٍ في القرآن - وهو قولُ عِكرمةَ وغيرِه ورواهابن وهب عن خالد بن عمران عن القاسم وسالم -.
والذي يوجبه النظر أنها مبيِّنةٌ للمواضع التي توضع فيها الصدقاتُ غيرُناسخةٍ للصَّدقات، إنما النَّاسخُ لِلصَّدَقات المأمورِ بها في كل القرآن فرضُالزكاة بإجماع.
وهذا من النسخ الذي نحن مخيرونَ في فعل المنسوخ وتركِه، وفعلُهأَفضلُ وأعظمُ أجراً عند الله.

﴿ ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أو لاَ تَسْتَغْفِر لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] الآية:
قال جماعةٌ من العلماء: هذا تخييرٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لهموتركِه، وهي منسوخةٌ بقوله: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْعَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: ٨٤] وقيل: نسخه قولُه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦].
وعن ابن عباس أنه قال: لما نزل على النبي - عليه السلام - ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾ قال النبي: لأزيدنَّ على السبعين فنسخ ذلك قولُه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيهِم أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾.
ورُوِيَ أَنَّ عبدَ الله بنَ أُبي بنَ سَلول المنافق لما مات جاء ولَدُهفَرغَبَ إلى النبي في الصَّلاةِ عليه، وفي أن يُغْطِيَه قميصَه لِيُكَفِّنَه فيه، فأَعطاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قميصَه وأَتى للصَّلاة عليه، فلما ذهبَ لِيُصَلِّيَ عليهأخذ به عُمَرُ وقال قد نهاك الله (أن) تُصَلِّيَ على المنافقين، فقال: إنما (خَيَّرني) بين الاستغفارِ وتركِه، فَصَلَّى عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -فأنزلَ اللهُ: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً﴾ - الآية، فتركالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليهم.
وقد رُوِيَ أن النبي لم يُصَلِّ على المنافق المذكور.
وقال جماعةٌ - وهو الصَّوابُ إن شاء الله -: إنّ الآيةَ غيرُ منسوخةٍ، إنما نزلت بلفظ التهدُّدِ والوعيد (في أنهم) لا يغفرُ اللهُ لَهم، وإن استغفرَلهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُبِح الله تعالى لنبيّه عليه السلام الاستغفارَ لهم(بهذا اللفظ، بل أَيأَسَهُ مِن قَبول الاستغفار لهم فلا نَسْخَ) فيه لجوازالاستغفار لهم.
وقولُه: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِه﴾ ناسخٌ لما رُوِيَ أن النبيَّ - عليه السلام - قامَ على قبر عبدِ الله بن أُبَيِّ بنِسَلول المنافق، وصلَّى عليه إذْ رَغِبَ إليه في ذلك (عبدُ الله ابنه)، وكان ابنُه من خيّار المؤمنين.
قال أبو محمد: وحقّ هذا أَلاَّ يُذْكَرَ في الناسخ والمنسوخ لأنه لمينسخ قرآناً، إلاَّ أن يقول قائلٌ: هو ناسخٌ لما فُهِمَ من قوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أحدٍ مِنْهُم﴾، وذلك أنه فهم منه أنه صلَّى عليهم، فقيل له: لا تُصَلِّ(على أَحدٍ مِنهُم)، فَنُهِيَ عن أَن يعودَ إلى مثل فِعْلِه، فإن حُمِلَ على هذا حَسُن أن يُدْخَل في الناسخ والمنسوخ على أنه قرآن نسخَ مثلَه.

﴿ ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأَعرابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾ الآية:
وقوله تعالى: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾.
قال ابنُ حبيب: نسخَ ذلك بالآية التي تحتَها، وهي قولُه: ﴿وَمِنَالأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٩٩] - الآية -.
قال أَبو محمد: وهذا خبرٌ لا يُنْسَخُ ولا معنى للنسخ فيه، لأن اللهأَعْلَمَنا أَنَّ الأعرابَ أصنافٌ، وبيَّن ذلك فقال: (مِنْهُم) مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقمَغْرَماً، ومنهم صِنْفٌ يُؤْمِن بالله واليوم الآخر.
وأخبر عنهم أنهم أَشدُّ كفراً ونفاقاً، وهو لفظ عام معناه الخصوص فيقوم بأَعيانهم دلَّ على أنه مخصوص قولُه: ﴿ومِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ باللهواليَوْمِ الآخِر﴾ [التوبة: ٩٩]، إلى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٩٩]. فَمِنْ للتبعيض، فلا نسخَيَحْسُنُ في هذا لا في المعنى ولا في اللفظ.

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾.
قال بعضُ المؤلِّفين لناسخ القرآن ومنسوخِه: هذا منسوخٌ بقوله:﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً﴾ وهو غلطٌ لأن الصَّلاتين مختلفتان لاتنسخ إحداهُما الأخرى.
وقوله: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: إِنَّما هو أمرٌ بالدُّعاء للمؤمنين الذين (تابوامن تَخَلُّفِهم) عن رسول الله في غزوة تبوك، كأبي لُبابةَ وأصحابه، وأصلُالصَّلاة: الدعاءُ لم يُرِدْ به الصَّلاة على الموتى، ألا ترى إلى قوله: ﴿إنَّصَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُم﴾[التوبة: ١٠٣]، أي: إن دعواتِكَ يا محمدُ تسكُنُ إِليهاقلوبُهُم.
وقوله: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً﴾، إنما هو نهيٌ عن(الصلاة على موتى) المنافقين، فالآيتان مختلفتان في المعنىمختلفتان فيمن نزلتا فيه، فلا تنسخُ إِحداهُما الأُخرى، إلا إن حَمَلْتَالصَّلاةَ على الموتى على أنها دعاءٌ فيحتمل المعنى ذلك فيجوزُ النَّسْخُ على ما ذكرنا.

﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ ٱلْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿مَا كَانَ لأَِهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأعْرَابِ أَنيَتَخَلَّفُوا عِن رَسُولِ الله﴾.
قال ابنُ زيد: نَسَخَها ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢] - وقالهزيدُ بنُ أَسلم -.
وقيل: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ لأنها أَمرٌ للمؤمنين أن ينفروا مع النبي إذا احتاج إليهم واسْتَنْفَرَهُم، ولا يَسَعُ أحداً التَّخَلُّفُ عنه.
والآيةُ الأُخرى نزلت في السَّرايا يبعثُ سريةً وتخلفُ (أُخرىليتفقهوا) في الدين.
وهذا مذهبُ ابنِ عباس والضَّحَّاك وقتادة، وهو الصواب - إن شاء الله -لأن حملَ الآيتين على فائدتين وحكمين أَوْلى من حَمْلِهِما على فائدة واحدة.

سورة التوبة
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (التَّوْبةِ) ارتبَطتِ ارتباطًا وثيقًا بسورة (الأنفال)، حتى ظنَّ بعضُ الصَّحابة أنهما سورةٌ واحدة؛ فقد أكمَلتِ الحديثَ عن أحكام الحرب والأَسْرى. وسُمِّيتْ بـ (الفاضحةِ)؛ لأنها فضَحتْ سرائرَ المنافقين، وأحوالَهم، وصفاتِهم. وقد نزَلتْ سورة (التَّوْبةِ) في غزوتَيْ (حُنَينٍ)، و(تَبُوكَ). وأعلَنتْ هذه السورةُ البراءةَ من الشركِ والمشركين وأفعالهم، وبيَّنتْ أحكامَ المواثيق والعهود مع المشركين، معلِنةً في خاتمتها التوبةَ على مَن تاب وتخلَّف من الصحابة - رضي الله عنهم - عن الغزوِ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ} [التوبة: 118].

ترتيبها المصحفي
9
نوعها
مدنية
ألفاظها
2505
ترتيب نزولها
113
العد المدني الأول
130
العد المدني الأخير
130
العد البصري
130
العد الكوفي
129
العد الشامي
130

تعلَّقتْ سورةُ (التوبة) بأحداثٍ كثيرة، وهي (الفاضحةُ)؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاْللَّهِ وَاْلْيَوْمِ اْلْأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ اْللَّهِۗ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 19]:

عن النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما، قال: «كنتُ عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رجُلٌ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أَسقِيَ الحاجَّ، وقال آخَرُ: ما أُبالي ألَّا أعمَلَ عمَلًا بعد الإسلامِ إلا أن أعمُرَ المسجدَ الحرامَ، وقال آخَرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضَلُ ممَّا قُلْتم، فزجَرَهم عُمَرُ، وقال: لا تَرفَعوا أصواتَكم عند مِنبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعةِ، ولكن إذا صلَّيْتُ الجمعةَ دخَلْتُ فاستفتَيْتُه فيما اختلَفْتم فيه؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ اْلْحَآجِّ} [التوبة: 19] الآيةَ إلى آخِرِها». أخرجه مسلم (١٨٧٩).

* قوله تعالى: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79]:

عن أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عمرٍو رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ آيةُ الصَّدقةِ كنَّا نُحامِلُ، فجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بشيءٍ كثيرٍ، فقالوا: مُرائي، وجاءَ رجُلٌ فتصدَّقَ بصاعٍ، فقالوا: إنَّ اللهَ لَغنيٌّ عن صاعِ هذا؛ فنزَلتِ: {اْلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اْلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ فِي اْلصَّدَقَٰتِ وَاْلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] الآية». أخرجه البخاري (١٤١٥).

* قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]:

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ لمَّا تُوُفِّيَ جاءَ ابنُه إلى النبيِّ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أعطِني قميصَك أُكفِّنْهُ فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِرْ له، فأعطاه النبيُّ ﷺ قميصَه، فقال: آذِنِّي أُصلِّي عليه، فآذَنَه، فلمَّا أراد أن يُصلِّيَ عليه جذَبَه عُمَرُ رضي الله عنه، فقال: أليس اللهُ نهاك أن تُصلِّيَ على المنافِقين؟ فقال: أنا بين خِيرَتَينِ، قال: {اْسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغْفِرَ اْللَّهُ لَهُمْۚ} [التوبة: 80]، فصلَّى عليه؛ فنزَلتْ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٖ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدٗا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓۖ} [التوبة: 84]». أخرجه البخاري (١٢٦٩).

* قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

عن المسيَّبِ بن حَزْنٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا حضَرتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءَه رسولُ اللهِ ﷺ، فوجَدَ عنده أبا جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ أبي أُمَيَّةَ بنِ المُغيرةِ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «يا عَمِّ، قُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ، كلمةً أشهَدُ لك بها عند اللهِ»، فقال أبو جهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُمَيَّةَ: يا أبا طالبٍ، أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ؟ فلَمْ يَزَلْ رسولُ اللهِ ﷺ يَعرِضُها عليه، ويُعِيدُ له تلك المقالةَ، حتى قال أبو طالبٍ آخِرَ ما كلَّمهم: هو على مِلَّةِ عبدِ المطَّلِبِ، وأبى أن يقولَ: لا إلهَ إلا اللهُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «أمَا واللهِ لَأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك»؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاْلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ اْلْجَحِيمِ} [التوبة: 113]». أخرجه مسلم (٢٤).

* قوله تعالى: {وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اْللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ اْللَّهَ هُوَ اْلتَّوَّابُ اْلرَّحِيمُ} [التوبة: 118]:

نزَلتْ في (كعبِ بن مالكٍ)، و(مُرَارةَ بنِ الرَّبيعِ)، و(هلالِ بنِ أُمَيَّةَ).

والحديثُ يَروِيه عبدُ اللهِ بن كعبٍ، عن أبيه كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لم أتخلَّفْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوةِ تَبُوكَ، غيرَ أنِّي قد تخلَّفْتُ في غزوةِ بَدْرٍ، ولم يُعاتِبْ أحدًا تخلَّفَ عنه، إنَّما خرَجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون يُريدون عِيرَ قُرَيشٍ، حتى جمَعَ اللهُ بَيْنهم وبين عدوِّهم على غيرِ ميعادٍ، ولقد شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبةِ، حِينَ تواثَقْنا على الإسلامِ، وما أُحِبُّ أنَّ لي بها مَشهَدَ بَدْرٍ، وإن كانت بَدْرٌ أذكَرَ في الناسِ منها، وكان مِن خَبَري حِينَ تخلَّفْتُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبُوكَ: أنِّي لم أكُنْ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حِينَ تخلَّفْتُ عنه في تلك الغزوةِ، واللهِ ما جمَعْتُ قَبْلها راحلتَينِ قطُّ، حتى جمَعْتُهما في تلك الغزوةِ، فغزَاها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديدٍ، واستقبَلَ سفَرًا بعيدًا ومَفازًا، واستقبَلَ عدوًّا كثيرًا، فجَلَا للمسلمين أمْرَهم لِيتأهَّبوا أُهْبةَ غَزْوِهم، فأخبَرَهم بوجهِهم الذي يريدُ، والمسلمون مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يَجمَعُهم كتابٌ حافظٌ، يريدُ بذلك الدِّيوانَ، قال كعبٌ: فقَلَّ رجُلٌ يريدُ أن يَتغيَّبَ، يظُنُّ أنَّ ذلك سيَخفَى له، ما لم يَنزِلْ فيه وَحْيٌ مِن اللهِ عز وجل، وغزَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلك الغزوةَ حِينَ طابتِ الثِّمارُ والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطَفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معهم، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئًا، وأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أرَدتُّ، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى استمَرَّ بالناسِ الجِدُّ، فأصبَحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقضِ مِن جَهازي شيئًا، ثم غدَوْتُ فرجَعْتُ ولم أقضِ شيئًا، فلم يَزَلْ ذلك يَتمادى بي حتى أسرَعوا، وتفارَطَ الغَزْوُ، فهمَمْتُ أن أرتحِلَ فأُدرِكَهم، فيا لَيْتني فعَلْتُ، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطَفِقْتُ إذا خرَجْتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسْوةً إلا رجُلًا مغموصًا عليه في النِّفاقِ، أو رجُلًا ممَّن عذَرَ اللهُ مِن الضُّعفاءِ، ولم يذكُرْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى بلَغَ تَبُوكَ، فقال وهو جالسٌ في القومِ بتَبُوكَ: «ما فعَلَ كعبُ بنُ مالكٍ؟»، قال رجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ: يا رسولَ اللهِ، حبَسَه بُرْداه والنَّظرُ في عِطْفَيهِ، فقال له مُعاذُ بنُ جبلٍ: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ اللهِ، ما عَلِمْنا عليه إلا خيرًا، فسكَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو على ذلك، رأى رجُلًا مُبيِّضًا، يزُولُ به السَّرابُ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ أبا خَيْثمةَ»، فإذا هو أبو خَيْثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّقَ بصاعِ التَّمْرِ حِينَ لمَزَه المنافِقون».

فقال كعبُ بن مالكٍ: فلمَّا بلَغَني أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد توجَّهَ قافلًا مِن تَبُوكَ، حضَرَني بَثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ وأقولُ: بِمَ أخرُجُ مِن سَخَطِه غدًا؟ وأستعينُ على ذلك كلَّ ذي رأيٍ مِن أهلي، فلمَّا قيل لي: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أظَلَّ قادمًا، زاحَ عنِّي الباطلُ، حتى عرَفْتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبدًا، فأجمَعْتُ صِدْقَه، وصبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بدَأَ بالمسجدِ فركَعَ فيه ركعتَينِ، ثم جلَسَ للناسِ، فلمَّا فعَلَ ذلك جاءه المخلَّفون، فطَفِقوا يَعتذِرون إليه، ويَحلِفون له، وكانوا بِضْعةً وثمانين رجُلًا، فقَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم علانيتَهم، وبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، ووكَلَ سرائرَهم إلى اللهِ، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمْتُ تبسَّمَ تبسُّمَ المُغضَبِ، ثم قال: «تعالَ»، فجئتُ أمشي حتى جلَسْتُ بين يدَيهِ، فقال لي: «ما خلَّفَك؟ ألم تكُنْ قد ابتَعْتَ ظَهْرَك؟»، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لو جلَسْتُ عند غيرِك مِن أهلِ الدُّنيا، لَرأَيْتُ أنِّي سأخرُجُ مِن سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أُعطِيتُ جدَلًا، ولكنِّي واللهِ لقد عَلِمْتُ، لَئِنْ حدَّثْتُك اليومَ حديثَ كَذِبٍ تَرضَى به عنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسخِطَك عليَّ، ولَئِنْ حدَّثْتُك حديثَ صِدْقٍ تجدُ عليَّ فيه، إنِّي لَأرجو فيه عُقْبى اللهِ، واللهِ ما كان لي عُذْرٌ، واللهِ ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسَرَ منِّي حين تخلَّفْتُ عنك، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمَّا هذا فقد صدَقَ؛ فقُمْ حتى يَقضِيَ اللهُ فيك»، فقُمْتُ، وثارَ رجالٌ مِن بَني سَلِمةَ فاتَّبَعوني، فقالوا لي: واللهِ ما عَلِمْناك أذنَبْتَ ذَنْبًا قبل هذا، لقد عجَزْتَ في ألَّا تكونَ اعتذَرْتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذَرَ به إليه المخلَّفون، فقد كان كافيَك ذَنْبَك استغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللهِ ما زالوا يُؤنِّبوني حتى أرَدتُّ أن أرجِعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُكذِّبَ نفسي، قال: ثم قلتُ لهم: هل لَقِيَ هذا معي مِن أحدٍ؟ قالوا: نَعم، لَقِيَه معك رجُلانِ، قالا مِثْلَ ما قلتَ، فقيل لهما مثلُ ما قيل لك، قال: قلتُ: مَن هما؟ قالوا: مُرَارةُ بنُ الرَّبيعِ العامريُّ، وهِلالُ بنُ أُمَيَّةَ الواقِفيُّ، قال: فذكَروا لي رجُلَينِ صالحَينِ قد شَهِدا بَدْرًا، فيهما أُسْوةٌ، قال: فمضَيْتُ حين ذكَروهما لي.

قال: ونهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامِنا - أيُّها الثلاثةُ - مِن بَيْنِ مَن تخلَّفَ عنه.

قال: فاجتنَبَنا الناسُ، وقال: تغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلَبِثْنا على ذلك خَمْسين ليلةً، فأمَّا صاحبايَ فاستكانا وقعَدا في بيوتِهما يَبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشَبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرُجُ فأشهَدُ الصَّلاةَ، وأطُوفُ في الأسواقِ، ولا يُكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسلِّمُ عليه وهو في مَجلِسِه بعد الصَّلاةِ، فأقولُ في نفسي: هل حرَّكَ شَفَتَيهِ برَدِّ السلامِ أم لا؟ ثم أُصلِّي قريبًا منه، وأُسارِقُه النَّظرَ، فإذا أقبَلْتُ على صلاتي نظَرَ إليَّ، وإذا التفَتُّ نحوَه أعرَضَ عنِّي، حتى إذا طالَ ذلك عليَّ مِن جَفْوةِ المسلمين، مشَيْتُ حتى تسوَّرْتُ جدارَ حائطِ أبي قَتادةَ، وهو ابنُ عَمِّي، وأحَبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمْتُ عليه، فواللهِ ما رَدَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ له: يا أبا قَتادةَ، أنشُدُك باللهِ هل تَعلَمَنَّ أنِّي أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ قال: فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فسكَتَ، فعُدتُّ فناشَدتُّه، فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، ففاضت عينايَ، وتولَّيْتُ حتى تسوَّرْتُ الجدارَ.

فبَيْنا أنا أمشي في سوقِ المدينةِ، إذا نَبَطيٌّ مِن نََبَطِ أهلِ الشامِ، ممَّن قَدِمَ بالطعامِ يَبِيعُه بالمدينةِ، يقولُ: مَن يدُلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ قال: فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتى جاءَني، فدفَعَ إليَّ كتابًا مِن مَلِكِ غسَّانَ، وكنتُ كاتبًا، فقرَأْتُه، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّه قد بلَغَنا أنَّ صاحِبَك قد جفَاك، ولم يَجعَلْك اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضِيعةٍ، فالحَقْ بنا نُواسِك، قال: فقلتُ حين قرَأْتُها: وهذه أيضًا مِن البلاءِ، فتيامَمْتُ بها التَّنُّورَ، فسجَرْتُها بها.

حتى إذا مضَتْ أربعون مِن الخَمْسين، واستلبَثَ الوَحْيُ؛ إذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُك أن تعتزِلَ امرأتَك، قال: فقلتُ: أُطلِّقُها أم ماذا أفعَلُ؟ قال: لا، بل اعتزِلْها، فلا تَقرَبَنَّها، قال: فأرسَلَ إلى صاحِبَيَّ بمِثْلِ ذلك، قال: فقلتُ لامرأتي: الحَقِي بأهلِكِ فكُوني عندهم حتى يَقضِيَ اللهُ في هذا الأمرِ، قال: فجاءت امرأةُ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هلالَ بنَ أُمَيَّةَ شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تَكرَهُ أن أخدُمَه؟ قال: لا، ولكن لا يَقرَبَنَّكِ، فقالت: إنَّه واللهِ ما به حركةٌ إلى شيءٍ، وواللهِ ما زالَ يَبكي منذ كان مِن أمرِه ما كان إلى يومِه هذا، قال: فقال لي بعضُ أهلي: لو استأذَنْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في امرأتِك؟ فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالِ بنِ أُمَيَّةَ أن تخدُمَه، قال: فقلتُ: لا أستأذِنُ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما يُدرِيني ماذا يقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا استأذَنْتُه فيها، وأنا رجُلٌ شابٌّ، قال: فلَبِثْتُ بذلك عَشْرَ ليالٍ، فكمَلَ لنا خمسون ليلةً مِن حِينَ نُهِيَ عن كلامِنا، قال: ثم صلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خَمْسين ليلةً على ظَهْرِ بيتٍ مِن بيوتِنا، فبَيْنا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكَرَ اللهُ عز وجل منَّا، قد ضاقَتْ عليَّ نفسي، وضاقَتْ عليَّ الأرضُ بما رحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صوتَ صارخٍ أوفَى على سَلْعٍ، يقولُ بأعلى صوتِه: يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشِرْ، قال: فخرَرْتُ ساجدًا، وعرَفْتُ أنْ قد جاء فَرَجٌ.

قال: فآذَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ بتوبةِ اللهِ علينا حِينَ صلَّى صلاةَ الفجرِ، فذهَبَ الناسُ يُبشِّروننا، فذهَبَ قِبَلَ صاحَبَيَّ مبشِّرون، وركَضَ رجُلٌ إليَّ فرَسًا، وسعى ساعٍ مِن أسلَمَ قِبَلي، وأوفى الجبلَ، فكان الصوتُ أسرَعَ مِن الفرَسِ، فلمَّا جاءني الذي سَمِعْتُ صوتَه يُبشِّرُني، فنزَعْتُ له ثَوْبَيَّ، فكسَوْتُهما إيَّاه ببِشارتِه، واللهِ ما أملِكُ غيرَهما يومَئذٍ، واستعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فلَبِسْتُهما، فانطلَقْتُ أتأمَّمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يُهنِّئوني بالتوبةِ، ويقولون: لِتَهْنِئْكُ توبةُ اللهِ عليك، حتى دخَلْتُ المسجدَ، فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ في المسجدِ، وحَوْله الناسُ، فقام طَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ يُهَروِلُ حتى صافَحَني وهنَّأني، واللهِ ما قامَ رجُلٌ مِن المهاجِرين غيرُه.

قال: فكان كعبٌ لا يَنساها لطَلْحةَ.

قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمْتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرُقُ وجهُه مِن السُّرورِ، ويقولُ: «أبشِرْ بخيرِ يومٍ مَرَّ عليك منذُ ولَدَتْك أمُّك»، قال: فقلتُ: أمِنْ عندِك يا رسولَ اللهِ، أم مِن عندِ اللهِ؟ فقال: «لا، بل مِن عندِ اللهِ»، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه، كأنَّ وَجْهَه قطعةُ قمَرٍ، قال: وكنَّا نَعرِفُ ذلك.

قال: فلمَّا جلَسْتُ بين يدَيهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ مِن تَوْبتي أن أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى اللهِ، وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ بعضَ مالِك؛ فهو خيرٌ لك»، قال: فقلتُ: فإنِّي أُمسِكُ سَهْمي الذي بخَيْبرَ.

قال: وقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنَّما أنجاني بالصِّدْقِ، وإنَّ مِن تَوْبتي ألَّا أُحدِّثَ إلا صِدْقًا ما بَقِيتُ.

قال: فواللهِ ما عَلِمْتُ أنَّ أحدًا مِن المسلمين أبلاه اللهُ في صِدْقِ الحديثِ، منذُ ذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسَنَ ممَّا أبلاني اللهُ به، واللهِ ما تعمَّدتُّ كَذْبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجو أن يَحفَظَني اللهُ فيما بَقِيَ.

قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {لَّقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِيِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١١٧ وَعَلَى اْلثَّلَٰثَةِ اْلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة: 117-118] حتى بلَغَ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ اْلصَّٰدِقِينَ} [التوبة: 119].

قال كعبٌ: واللهِ ما أنعَمَ اللهُ عليَّ مِن نعمةٍ قطُّ، بعد إذ هداني اللهُ للإسلامِ، أعظَمَ في نفسي مِن صِدْقي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ألَّا أكونَ كذَبْتُه فأهلِكَ كما هلَكَ الذين كذَبوا؛ إنَّ اللهَ قال لِلَّذين كذَبُوا حِينَ أنزَلَ الوَحْيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، وقال اللهُ: {سَيَحْلِفُونَ ‌بِاْللَّهِ ‌لَكُمْ إِذَا اْنقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْۖ إِنَّهُمْ رِجْسٞۖ وَمَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْۖ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اْللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ اْلْقَوْمِ اْلْفَٰسِقِينَ} [التوبة: 95-96].

قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنا - أيُّها الثلاثةُ - عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حلَفوا له، فبايَعَهم، واستغفَرَ لهم، وأرجأَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى اللهُ فيه، فبذلك قال اللهُ عز وجل: {وَعَلَى ‌اْلثَّلَٰثَةِ ‌اْلَّذِينَ ‌خُلِّفُواْ} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكَرَ اللهُ ممَّا خُلِّفْنا تخلُّفَنا عن الغَزْوِ، وإنَّما هو تخليفُه إيَّانا، وإرجاؤُه أمْرَنا عمَّن حلَفَ له واعتذَرَ إليه فقَبِلَ منه». أخرجه مسلم (٢٧٦٩).

* سورةُ (التوبة):

سُمِّيتْ بذلك لكثرةِ ذِكْرِ التوبة وتَكْرارها فيها، وذِكْرِ توبة الله على الثلاثة الذين تخلَّفوا يومَ غزوة (تَبُوكَ)، ولها عِدَّةُ أسماءٍ؛ من ذلك:

* سورةُ (براءةَ):

وقد اشتهَر هذا الاسمُ بين الصحابة؛ فعن البَراء رضي الله عنه، قال: «آخِرُ سورةٍ نزَلتْ كاملةً براءةُ». أخرجه البخاري (٤٣٦٤).

* (الفاضحةُ):

فعن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبةِ، قال: آلتَّوبةُ؟ قال: بل هي الفاضحةُ؛ ما زالت تَنزِلُ: {وَمِنْهُمْ} {وَمِنْهُمْ} حتى ظَنُّوا أن لا يَبقَى منَّا أحدٌ إلا ذُكِرَ فيها». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

قال ابنُ عاشورٍ: «ولهذه السورةِ أسماءٌ أُخَرُ، وقَعتْ في كلام السلف، من الصحابة والتابعين؛ فرُوي عن ابن عمرَ، عن ابن عباسٍ: كنَّا ندعوها - أي سورةَ (براءةَ) -: «المُقَشقِشَة» - بصيغةِ اسم الفاعل وتاء التأنيث، مِن قَشْقَشَه: إذا أبرَاه مِن المرضِ -، كان هذا لقبًا لها ولسورة (الكافرون)؛ لأنهما تُخلِّصان مَن آمن بما فيهما من النفاق والشرك؛ لِما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولِما فيهما من وصفِ أحوال المنافقين ...

وعن حُذَيفةَ: أنه سمَّاها سورة (العذاب)؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار؛ أي: عذاب القتلِ والأخذِ حين يُثقَفون.

وعن عُبَيد بن عُمَير: أنه سمَّاها (المُنقِّرة) - بكسرِ القاف مشدَّدةً -؛ لأنها نقَّرتْ عما في قلوب المشركين...». "التحرير والتنوير" (10 /96).

وقد بلغ عددُ أسمائها (21) اسمًا في موسوعة "التفسير الموضوعي" (3 /187 وما بعدها).

* أمَر عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه أن يَتعلَّمَها الرِّجالُ لِما فيها من أحكام الجهاد:

فقد كتَب عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «تعلَّمُوا سورةَ براءةَ، وعَلِّموا نساءَكم سورةَ النُّورِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص241).

جاءت موضوعاتُ سورة (التَّوبة) على الترتيب الآتي:

1. نبذُ العهد مع المشركين (١-٢٤).

2. غزوة (حُنَين) (٢٥-٢٧).

3. قتال أهل الكتاب لفساد عقيدتهم (٢٨-٣٥).

4. تحديد الأشهُرِ الحُرُم (٣٦-٣٧).

5. غزوة تَبُوكَ (٣٨- ١٢٧).

6. صفات المؤمنين، وعقدُ البَيْعة مع الله تعالى.

7. أنواع المنافقين، والمعذِّرون من الأعراب.

8. صفات المنافقين والمؤمنين، وجزاؤهم.

9. أصناف أهل الزكاة.

10. فضحُ المتخلِّفين عن الجهاد، وصفاتهم.

11. النفير العام، والجهاد في سبيل الله.

12. علوُّ مكانة النبيِّ عليه السلام (١٢٨-١٢٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /178).

إنَّ مقصدَ السورة الأعظم أبانت عنه أولُ كلمةٍ في السورة؛ وهي {بَرَآءَةٞ} [التوبة: 1]؛ فقد جاءت للبراءةِ من الشرك والمشركين، ومعاداةِ مَن أعرض عما دعَتْ إليه السُّوَرُ الماضية؛ مِن اتباعِ الداعي إلى الله في توحيده، واتباعِ ما يُرضيه، كما جاءت بموالاةِ مَن أقبل على الله تعالى، وأعلن توبته؛ كما حصَل مع الصحابة الذين تخلَّفوا عن الغزوِ، ثم تاب اللهُ عليهم ليتوبوا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /154).