تفسير سورة الفجر

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة الفجر من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ

﴿ والفجر ﴾ أقسم الله تعالى بهذه الأقسام الخمسة لشرفها وعظمها، ولما فيها من الفوائد الدينية والدنيوية. فأقسم بالفجر وهو الصبح ؛ لما يحصل به من ظهور الضوء وانتشار الناس ابتغاء الرزق. وقيل : هو صلاة الفجر ؛ لأنها مشهودة، يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار. وجواب هذا القسم وما بعده محذوف، يدل عليه قوله " ألم تر " إلى قوله " فصب عليهم ربك " تقديره : ليعذبن. أي الذين
كفروا بالله وأنكروا البعث.
﴿ وليال عشر ﴾ وأقسم بعشر ذي الحجة، أو بالعشر الأواخر من رمضان. أو بالعشر الأوائل من المحرم
﴿ والشفع والوتر ﴾ وأقسم بيوم النحر ويوم عرفة. أو بالصلاة المكتوبة شفعها ووترها. وقرئ بكسر الواو.
﴿ والليل إذا يسر ﴾ وأقسم بالليل وقت أن يسرى فيه. وإسناد السرى إليه مجاز ؛ على حد : ليل نائم، أي ينام فيه. وحذفت ياؤه عند الجمهور وصلا ووقفا. اكتفاء عنها بالكسرة ؛ للتخفيف ولتوافق رءوس الآي. وأقسم به في هذه الحالة لما فيه من الستر الذي قد يقتضيه الحال.
﴿ هل في ذلك قسم لذي حجر ﴾ الحجر – بكسر أوله - : العقل ؛ لأنه يحجر صاحبه ويمنعه من التهافت فيما لا ينبغي. قال الفراء : يقال إنه لذو حجر، إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها. والمشار إليه ب " ذلك " هو الأمور الخمسة المقسم بها. والاستفهام للتقرير ؛ أي هل فيما ذكر من هذه الأمور مقسم به لذي عقل يراه حقيقيا بأن يقسم به إجلالا وتعظيما. والمراد : تحقيق أن الكل كذلك، وتقرير فخامة شأنها، وكونها أمورا جليلة خليقة بالإعظام والإجلال عند العقلاء ؛ توصلا إلى أن الإقسام بها أمر معتد به، خليق بأن تؤكد به الأخبار ؛ فيدل ذلك على تعظيم المقسم عليه وتأكيده بطريق الكناية. وفائدة هذا القول بعد القسم بما ذكر : زيادة التأكيد والتحقيق للمقسم عليه ؛ كمن ذكر حجة باهرة ثم قال : أفيما ذكرته حجة ؟
﴿ ألم تر كيف.. ﴾ ذكر الله تعالى في هذه الآية ثلاث أمم متمردة طاغية، كذبت الرسل فأهلكها الله تعالى، وجعلها أحاديث عبرة لأمثالها من المكذبين. وعاد هو : عاد بن عوص بن إرم بن سام نوح عليه السلام، سمى أولاده باسمه ؛ كما سمي بنو هاشم هاشما. وقيل لأوائلهم – وهم الذين أرسل إليهم هود عليه السلام - : عاد الأولى تسمية لهم باسم أبيهم، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ؛ والتسمية باسم الأب والجد شائعة مشهورة. وقيل لمن بعدهم عاد الآخرة. و " إرم " بدل أو عطف بيان ل " عاد " ومنع من الصرف باعتبار القبيلة، وصرف عاد باعتبار الحي. وقيل : إن " إرم " قبيلة من عاد وهي بيت ملكهم ؛ فهي بدل من " عاد " بدل بعض من كل.
﴿ ذات العماد ﴾ صفة لقبيلة " إرم " ؛ أي ذات الأعمدة التي ترفع عليها بيوت الشعر ؛ إذ كانوا أهل خيام وعمد، ينتجعون الغيوث ويطلبون الكلأ حيث كان ؛ ثم يعودون إلى منازلهم. وقيل : ذات الرفعة والعزة.
﴿ لم يخلق مثلها... ﴾ صفة أخرى لها ؛ أي لم يخلق في بلادهم مثلها في الأيد والشدة وعظم الأجسام، وهم الذين قالوا : " من أشد منا قوة " ١ وامتن الله عليهم لقوله : " وزادكم في الخلق بسطة " ٢.
١ آية ١٥ فصلت..
٢ آية ٦٩ الأعراف..
﴿ جابوا الصخر... ﴾ قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا بوادي القرى بالحجر بين الشام والحجاز ؛ كما قال تعالى : " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " ١ ؛ من الجوب، وهو القطع والخرق.
١ آية ١٤٩ الشعراء..
﴿ وفرعون ذي الأوتاد ﴾ ذي الجنود والعساكر الذين يشدون ملكه ؛ كما تشد الأوتاد الخيام. وقيل لهم ذلك لكثرتهم وكثرة خيامهم التي يضربون أوتادها في معسكراتهم. أو ذي الأبنية العظيمة الشاهقة التي تشبه الجبال.
﴿ فصب عليهم... ﴾ أنزل بكل منهم نوعا ولونا من العذاب عقوبة لهم. والسوط في الأصل : مصدر ساط يسوط، إذا خلط، ثم شاع استعماله في الجلد المضفور الذي يضرب به. وعبر عن إنزال العذاب بالصبّ وهو الإفراغ والإلقاء ؛ للإيذان بكثرته وتتابعه. وسمى ضروب العذاب النازلة بهم سوطا تسمية للشيء باسم آلته.
﴿ إن ربك لبالمرصاد ﴾ المرصاد في الأصل : المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه. والمراد : أنه تعالى يرقب عمل كل إنسان ويحصيه عليه، ويجازيه بالخير خيرا، وبالشر شرا ؛ ولا يفوته من الناس أحد ولا من أعمالهم شيء. ومنهم أولئك الجبابرة الطغاة الذين أفسدوا في الأرض أكثر أفساد، وأضرابهم في ذلك ككفار مكة.
﴿ ابتلاه ربه ﴾ اختبره وامتحنه بالنعم. ﴿ فأكرمه ونعمه... ﴾ بالمال الوفير، والجاه العريض، وأسباب القوة والعزة، فيقول : ربي فضلني بذلك ؛ لمزيد استحقاقي له، وكوني له أهلا. ولا يخطر بباله أنه فضل تضل به الله عليه ؛ ليبلوه أيشكر أم يكفر.
﴿ وأما إذا ما ابتلاه.... ﴾ أي اختبره بالحاجة وضيق الرزق ؛ ليرى هل يصبر أم يجزع. ﴿ فيقول ربي أهانن ﴾ ولا يخطر بباله أن ذلك اختبار وليس من الإهانة في شيء ؛ بل التقتير قد يؤدى إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما.
﴿ كلا ﴾ ردع للإنسان عن قوليه المحكيين عنه، وتكذيب له فيهما ؛ فإن الإكرام والإهانة لا يدوران على سعة المال وضيقه. فقد يوسع على الكفر وهو مهان، وقد يضيق على المؤمن وهو مكرم ؛ للاختبار والامتحان حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية. والواجب على الإنسان في حالتي السعة والضيق أن يحمد الله تعالى على سائر نعمه التي لا تحصى، ويشكر عند الغنى، ويصبر عند الفقر. ﴿ بل لا تكرمون اليتيم ﴾ التفات إلى كفار مكة الداخلين فيما سبق دخولا أوليا ؛ لتشديد التقريع والتوبيخ. أي بل لكم أحوال أشد شرا مما ذكر ؟ وأدل على تهالككم على المال وشحكم به ؛ فلا تبرون به أشد الناس حاجة إليه، وهم فقراء اليتامى.
﴿ ولا تحاضون.. ﴾ أي لا يحث بعضكم بعضا على إطعام المساكين ؛ ومن لازم ذلك أنهم لا يطعمونهم من أموالهم. والحض على الشيء : الترغيب فيه.
﴿ وتأكلون التراث ﴾ أي المال الموروث﴿ أكلا لما ﴾ أي شديدا لا تتركون منه شيئا، لا فرق بين حلال وحرام، ولا بين ما يحمد ومالا يحمد. والمراد : أنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم. وكانوا لا يورثون الصغار والنساء. ﴿ حبا جما ﴾ كثيرا مع حرص وشره. يقال : جم الماء في الحوض، إذا كثر واجتمع ؛ ومنه الجموم للبئر الكثيرة الماء.
﴿ كلا ﴾ ردع وزجر عن أفعالهم المذكورة. ﴿ إذا دكت... ﴾ أي إذا دكت الأرض دكا متتابعا ؛ حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من أبنية وجبال، حين زلزلت المرة بعد المرة، فصارت هباء منثورا ؛ من الدك بمعنى الكسر والدق. أو سويت تسوية بعد تسوية، ولم يبق على وجهها شيء ؛ حتى صارت ملساء لا ارتفاع فيها ؛ من الدك بمعنى حط المرتفع من الأرض بالبسط والتسوية.
﴿ وجاء ربك ﴾ هذه الآية من آيات الصفات التي يجب الإيمان بها كما جاءت ؛ من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ؛ على ما ذهب إليه جمهور السلف. وروي عن الحسن : جاء أمره وقضاؤه. وقيل : هو تمثيل لظهور آيات قدرته وسلطانه. ﴿ صفا صفا ﴾ مصطفين أو ذوي صفوف.
﴿ وأنى له الذكرى ﴾ ومن أين له الانتفاع بالذكرى. أو الاتعاظ والتوبة ؛ وقد فرط فيها في الدنيا وأطاع نفسه وهواه.
﴿ يقول يا ليتني... ﴾ أي يقول حين يرى العذاب تندما على تفريطه في الدنيا : يا ليتني قدمت لنفسي أعمالا صالحة لأجل حياتي هذه في الآخر، أو وقت حياتي في الدنيا ؛ لأنتفع بها اليوم. واللام على الأول تعليلية، وعلى الثاني توقيتية.
﴿ لا يعذب عذابه... ﴾ أي لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد. والضمير عائد إلى الله تعالى. وقرئ بفتح ذال " يعذب " وثاء " يوثق "، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر.
﴿ يأيتها النفس... ﴾ أي يقول الله تعالى على لسان ملائكته إكراما للمؤمنين عند تمام الحساب : يأيتها النفس الساكنة، الموقنة بالإيمان والتوحيد، الناعمة بروح اليقين ؛ بحيث لا يخالطها شك، ولا يعتريها ارتياب. أو المطمئنة إلى ما وعد الله، المؤمنة بصدقه.
﴿ إرجعي ﴾ بالثواب الذي أعطاك الله﴿ مرضية ﴾ عنده عز وجل.
﴿ فادخلي في ﴾ زمرة﴿ عبادي ﴾ الصالحين المرضيين.
﴿ وادخلي جنتي ﴾ معهم للنعيم المقيم.
والله أعلم.
سورة الفجر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الفجر) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الليل)، وقد افتُتحت بقَسَمِ الله عز وجل بـ(الفجر)، وجاءت على ذكرِ ما عذَّب اللهُ به عادًا وثمودَ وقوم فرعون؛ ليعتبِرَ بذلك مشركو قريش، وفي ذلك تثبيتٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الدعوة، وخُتمت السورة الكريمة بتقسيم الناس إلى أهل الشقاء وأهل السعادة.

ترتيبها المصحفي
89
نوعها
مكية
ألفاظها
139
ترتيب نزولها
10
العد المدني الأول
32
العد المدني الأخير
32
العد البصري
29
العد الكوفي
30
العد الشامي
30

* سورة (الفجر):

سُمِّيت سورة (الفجر) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بقَسَمِ الله عز وجل بـ(الفجر)؛ قال تعالى: {وَاْلْفَجْرِ} [الفجر: 1].

1. في التاريخ عِبْرة وعِظة (١-١٤).

2. أهل الشقاء وأهل السعادة (١٥- ٣٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /127).

مقصدُ السورة هو إنذارُ قُرَيش بعذاب الآخرة عن طريقِ ضربِ المثَلِ في إعراضهم عن قَبول رسالة ربهم بمثَلِ عادٍ وثمودَ وقومِ فرعون، وما أوقَعَ اللهُ بهم من عذاب، وفي ذلك تثبيتُ النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الدعوة.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /312).