تفسير سورة المدّثر

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة المدثر من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ يدل على وجوب تطهير الثياب من النجاسات للصلاة، وأنه لا تجوز الصلاة في الثوب النجس ؛ لأن تطهيرها لا يجب إلا للصلاة. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى عماراً يغسل ثوبه، فقال :" مِمَّ تَغْسِلُ ثَوْبَكَ ؟ " فقال : من نخامة، فقال :" إِنَّما يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الدَّمِ والبَوْلِ والمَنِيِّ ". وقالت عائشة :" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل المنيّ من الثوب إذا كان رطباً ". وزعم بعضهم أن المراد بذلك ما رُوي عن أبي رزين قال :" عملك أصْلِحْهُ ". وقال إبراهيم :﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ مِنَ الإثم. وقال عكرمة : أمره أن لا يلبس ثيابه على عُذْرَة، وهذا كله مجاز لا يجوز صرف الكلام إليه إلا بدلالة ؛ واحتجّ هذا الرجل بأنه لا يجوز أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتاج إلى أن يؤمر بغسل ثيابه من البول وما أشبهه. قال أبو بكر : وهذا كلام شديد الاختلال والفساد والتناقص ؛ لأن في الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الأوثان بقوله تعالى :﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان هاجراً للأوثان قبل النبوة وبعدها وكان مجتنباً للآثام والعذرات في الحالين، فإذا جاز خطابه بترك هذه الأشياء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك تاركاً لها فتطهير الثياب لأجل الصلاة مثله ؛ وقال الله تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تدع مع الله إلهاً آخر ﴾ [ القصص : ٨٨ ] والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يَدْعُ مع الله إلهاً قَطُّ ؛ فهذا يدل على تناقض قول هذا الرجل وفساده. وزعم أنه من أول ما نزل من القرآن قبل كل شيء من الشرائع من وضوء أو صلاة أو غيرها، وإنما يدل على أنها الطهارة من أوثان الجاهلية وشِرْكِها والأعمال الخبيثة، وقد نقض بهذا ما ذكره بديّاً من أنه لم يكن يحتاج إلى أن يؤمر بتطهير الثياب من النجاسة، أفتراه ظنَّ أنه كان يحتاج إلى أن يُوصَى بترك الأوثان !‍ فإذا لم يكن يحتاج إلى ذلك لأنه كان تاركاً لها وقد أجاز أن يخاطب بتركها، فكذلك طهارة الثوب. وأما قوله إن ذلك من أول ما نزل، فما في ذلك مما يمنع أمره بتطهير الثياب لصلاة يفرضها عليه ؛ وقد رُوي عن عائشة ومجاهد وعطاء أن أول ما نزل من القرآن :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ [ العلق : ١ ].
قوله تعالى :﴿ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ ؛ قال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وقتادة والضحاك :" لا تُعْطِ عَطِيَّةً لتُعْطَى أكثر منها ". وقال الحسن والربيع بن أنس :" لا تمنن حسناتك على الله مستكثراً لها فينقصك ذلك عند الله ". وقال آخرون :" لا تمنن بما أعطاك الله من النبوّة والقرآن مستكثراً به الأجر من الناس ". وعن مجاهد أيضاً :" لا تضعف في عملك مستكثراً لطاعتك ". قال أبو بكر : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جميعها مراداً به، فالوَجْهُ حمله على العموم في سائر وجوه الاحتمال.
سورة المدثر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (المُدثِّر) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (المُزمِّل)، وقد جاء فيها أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخَلْقِ إلى الإيمان، وتقريرُ صعوبة يوم القيامة على أهل الكفر والعصيان، وتهديدُ الوليد بن المغيرة بنقضِ القرآن، وبيانُ عدد زبانية النِّيران، وأن كلَّ أحد رهنُ الإساءة والإحسان، ومَلامةُ الكفار على إعراضهم عن الإيمان، وذِكْرُ وعدِ الكريم بالرحمة والغفران.

ترتيبها المصحفي
74
نوعها
مكية
ألفاظها
256
ترتيب نزولها
4
العد المدني الأول
55
العد المدني الأخير
55
العد البصري
56
العد الكوفي
56
العد الشامي
55

قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]:

عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّرُوني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).

* قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ الوليدَ بنَ المُغيرةِ جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ عليه القرآنَ، فكأنَّه رَقَّ له، فبلَغَ ذلك أبا جهلٍ، فأتاه فقال: يا عَمِّ، إنَّ قومَك يرَوْنَ أن يَجمَعوا لك مالًا، قال: لِمَ؟ قال: ليُعطُوكَه؛ فإنَّك أتَيْتَ مُحمَّدًا لِتَعرَّضَ لِما قِبَلَه، قال: قد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنِّي مِن أكثَرِها مالًا! قال: فقُلْ فيه قولًا يبلُغُ قومَك أنَّك مُنكِرٌ له، أو أنَّك كارهٌ له، قال: وماذا أقول؟! فواللهِ، ما فيكم رجُلٌ أعلَمُ بالأشعارِ منِّي، ولا أعلَمُ برَجَزِه ولا بقَصِيدِه منِّي، ولا بأشعارِ الجِنِّ، واللهِ، ما يُشبِهُ الذي يقولُ شيئًا مِن هذا، وواللهِ، إنَّ لِقولِه الذي يقولُ حلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّه لَمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفَلُه، وإنَّه لَيعلو، وما يُعلَى، وإنَّه لَيَحطِمُ ما تحته، قال: لا يَرضَى عنك قومُك حتى تقولَ فيه، قال: فدَعْني حتى أُفكِّرَ، فلمَّا فكَّرَ، قال: هذا سِحْرٌ يُؤثَرُ، يأثُرُه مِن غيرِه؛ فنزَلتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]». أخرجه الحاكم (3872).

* سورة (المُدثِّر):

سُمِّيت سورة (المُدثِّر) بهذا الاسم؛ لوصفِ الله نبيَّه بهذا اللفظ في أوَّل السورة.

و(المُدثِّر): هو لابِسُ الدِّثار، وفي ذلك إشارةٌ إلى حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّروني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).

1. إرشاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَدْءِ الدعوة (١-١٠).

2. تهديد زعماءِ الكفر (١١-٣٠).

3. الحِكْمة في اختيار عدد خَزَنة جهنَّم (٣١-٣٧).

4. الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرِمين (٣٨-٥٦).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /454).

يقول ابن عاشور عما جاء فيها من مقاصدَ:

«تكريمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وَحْدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهُّر الحِسِّي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد مَن تصدى للطعن في القرآن، وزعم أنه قولُ البشر.
ووصف أهوال جهنَّم.
والرد على المشركين الذين استخَفُّوا بها، وزعموا قلةَ عدد حفَظتِها.
وتَحدِّي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عددَ حفَظتِها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهلِ الصلاة، والزكاة، والتصديق بيوم الجزاء». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /293).