ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المدّثروهي مكية بإجماع من أهل التأويل.
قوله عز وجل:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
اختلف القراء في الْمُدَّثِّرُ على نحو ما ذكرناه في الْمُزَّمِّلُ [المزمل: ١]، وفي حرف أبيّ بن كعب الْمُدَّثِّرُ ومعناه المتدثر بثيابه، و «الدثار»، ما يتغطى الإنسان به من الثياب، واختلف الناس لم ناداه ب الْمُدَّثِّرُ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال: زملوني زملوني نزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله. وروي أنه كان يدثر في قطيفة. وقال آخرون: معناه أيها النائم. وقال عكرمة معناه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ للنبوة وأثقالها، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الآيات. وقال الزهري والجمهور هو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١] وهذا هو الأصح. وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك. وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ بعثة عامة إلى جميع الخلق. قال قتادة، المعنى أنذر عذاب الله ووقائعه بالأمم، وقوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ معناه عظمه بالعبادة وبث شرعه.
وروي عن أبي هريرة أن بعض المؤمنين قال: بم نفتتح صلاتنا؟ فنزلت وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. واختلف المتأولون في معنى قوله وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور:
هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب، ومنه قول الشاعر [غيلان بن سلمة الثقفي] :[الطويل]
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر | لبست ولا من خزية أتقنع |
لاهم إن عامر ابن جهم | أو ذم حجّا في ثياب دهم |
إذا ناقورهم يوما تبدى | أجاب الناس من غرب وشرق |
أمنا زرارة بن أوفى فلما بلغ في الناقور خر ميتا.
وروي أن النبي ﷺ قال لأصحابه: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ» ففزع أصحاب النبي ﷺ فقالوا: كيف نقول يا رسول الله؟
قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا». ويَوْمٌ عَسِيرٌ معناه في عسر في الأمور الجارية على
قوله عز وجل:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١١ الى ٢٥]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)
قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وعيد محض، المعنى أنا أكفي عقابه وشأنه كله. ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، فروي أنه كان يلقب الوحيد، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته، فذكر الوحيد في الآية في جملة النعمة التي أعطي وإن لم يثبت هذا، فقوله تعالى: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه منفردا قليلا ذليلا، فجعلت له المال والبنين، فجاء ذكر الوحدة مقدمة حسن معها وقوع المال والبنين، وقيل المعنى خلقته وحدي لم يشركني فيه أحد، ف وَحِيداً حال من التاء في خَلَقْتُ، والمال الممدود: قال مجاهد وابن جبير هو ألف دينار، وقال سفيان: بلغني أنه أربعة آلاف دينار وقاله قتادة، وقيل: عشرة آلاف دينار، فهذا مد في العدد، وقال النعمان بن بشير هي الأرض لأنها مدت، وقال عمر بن الخطاب:
المال الممدود الربع المستغل مشاهرة، فهو مد في الزمان لا ينقطع، وشُهُوداً معناه حضورا متلاحقين، قال مجاهد وقتادة: كان له عشرة من الولد، وقال ابن جبير: ثلاثة عشر، والتمهيد: التوطئة والتهيئة، قال سفيان: المعنى بسطت له العيش بسطا. وقوله تعالى: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ وصفه بجشع الوليد وعتبة في الازدياد من الدنيا، وقوله تعالى: كَلَّا زجر ورد على أمنية هذا المذكور، ثم أخبر عنه أنه كان معاندا مخالفا لآيات الله وعبره، يقال بعير عنود للذي يمشي مخالفا للإبل. ويحتمل أن يريد بالآيات آيات القرآن وهو الأصح في التأويل سبب كلام الوليد في القرآن بأنه سحر، و «أرهقه» معناه أكلفه بمشقة وعسر، وصَعُوداً: عقبة في جهنم، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب، والصعود في اللغة: العقبة الشاقة. وقوله تعالى مخبرا عن الوليد إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآية، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه، ثم سمع كذلك مرارا حتى كاد أن يقارب الإسلام، ودخل إلى أبي بكر الصديق مرارا، فجاءه أبو جهل فقال: يا وليد، أشعرت أن قريشا قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولا يرضيهم، ففتنه أبو جهل فافتتن، وقال: افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن، فقال: أقول شعر ما هو بشعر، أقول
قال القاضي أبو محمد: فيحتمل قوله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه الأول ومدحه القرآن، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي ﷺ لأبي جندل بن سهيل: «ويل أمه مسعر حرب»، ومجرى قول عبد الملك بن مروان: قاتل الله كثيرا كأنه رآنا حين قال كذا، وهذا معنى مشهور في كلام العرب، ثم وصف تعالى إدباره واستكباره وأنه ضل عند ذلك وكفر، وإذا قلنا إن ذلك دعاء على مستحسن فعله فيجيء قوله تعالى: ثُمَّ نَظَرَ، معناه نظر فيما احتج به القرآن فرأى ما فيه من علو مرتبة محمد عليه السلام ف عَبَسَ لذلك وَبَسَرَ أي قطب وقبض ما بين عينيه وأربد وجهه حسدا له فأدبر واستكبر، أي ارتكس في ضلاله وزال إقباله أولا ليهتدي ولحقته الكبرياء، وقال هذا سحر، ويُؤْثَرُ معناه يروى ويحمل، أي يحمله محمد عن غيره، وعلى التأويل أن الدعاء عليه دعاء على مستقبح فعله يجيء قوله ثُمَّ نَظَرَ معناه معادا بعينه لأن فَكَّرَ وَقَدَّرَ يقتضيه لكنه إخبار بترديده النظر في الأمر، وقد روي أن النبي ﷺ دعا الوليد فقال له: انظر وفكر فلما فكر قال ما تقدم.
قوله عز وجل:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)
سَقَرَ هو الدرك السادس من جهنم على ما روي، و «أصليه» معناه أجعله فيها مباشرا لنارها، وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ هو على معنى التعجب من عظم أمرها وعذابها ثم بين ذلك بقوله لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ المعنى: لا تُبْقِي على من ألقي فيها، وَلا تَذَرُ غاية من العذاب إلا وصلته إليها، وقوله تعالى: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو رزين وجمهور الناس: معناه، مغيرة للبشرات، محرقة للجلود مسودة لها، و «البشر» جمع بشرة، وتقول العرب: لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسودته، وقال الشاعر [الأعشى] :[الخفيف]
لاحة الصيف والغيار وإشفا | ق على سقبة كقوس الضال |
قوله عز وجل:
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣١ الى ٤٢]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً تبيين لفساد أقوال قريش، أي إن جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطمع في المبالغة ما وقع ولِيَسْتَيْقِنَ أهل الكتاب: التوراة والإنجيل أن هذا القرآن من عند الله، إذ هم يجدوه هذه العدة في كتبهم المنزلة التي لم يقرأها محمد ﷺ ولا هو من أهلها، ولكن كتابه يصدق ما بين يديه من كتب الأنبياء إذ جميع ذلك حق يتعاضد منزل من عند الله، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد وغيرهم، وبورود الحقائق من عند الله عز وجل يزداد كل ذي إيمان إيمانا ويزول الريب عن المصدقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين، وقوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر، أي جاروا وضلوا ولم يهتدوا لقصد الحق فجعلوا يستفهم بعضهم بعضا عن مراد الله تعالى بهذا المثل استبعادا أن يكون هذا من عند الله، قال الحسين بن الفضل: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق فإنما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ أي بهذه الصفة وهذا الرّين على القلوب يضل، ثم أخبر
وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم | بهضاب هامدة كأمس الدابر |
التخفيف في لَإِحْدَى الْكُبَرِ، أن تجعل الهمزة فيها بين بين، فأما حذف الهمزة فليس بقياس وقد جاء حذفها. قال أبو الأسود الدؤلي: [الكامل]
يا أبا المغيرة رب أمر معضل | فرجته بالنكر مني والدّها |
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا | وفتخات في اليدين أربعا |
قال القاضي أبو محمد: هو بيان في النذارة وإعلام أن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر، أي هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره ثم قوي هذا المعنى بقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إذ ألزم بهذا القول أن المقصر مرتهن بسوء عمله. وقال الضحاك: المعنى كل نفس حقت عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا من أهل الجنة إن شاء الله، والهاء في رَهِينَةٌ للمبالغة، أو على تأنيث اللفظ لا على معنى الإنسان وقوله تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، استثناء ظاهر الانفصال، وتقديره لكن أصحاب اليمين، وذلك لأنهم لم يكتسبوا ما هم به مرتهنون، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أصحاب الْيَمِينِ في هذه الآية، أطفال المسلمين، وقال ابن عباس: هم الملائكة، وقال الضحاك: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون وليسوا بمرتهنين، ثم ذكر تعالى حال أصحاب الْيَمِينِ وأنهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عمن غاب من معارفه، فإذا علموا أنهم مجرمون في النار، قالوا لهم أو قالت الملائكة: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟
وسلك معناه: أدخل، ومنه قول أبي وجزة السعدي:
حتى سلكن الشوى منهن في مسك | من نسل جوابة الآفاق مهداج |
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٦]
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٩]. ثم أخبر تعالى أن شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لا تنفعهم فتقرر من ذلك أن ثم شافعين، وفي صحة هذا المعنى أحاديث:
قال صلى الله عليه وسلم: «يشفع الملائكة ثم النبيون ثم العلماء ثم الشهداء ثم الصالحون، ثم يقول الله تعالى: شفع عبادي وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فلا يبقى في النار من كان له إيمان»، وروى الحسن أن الله تعالى يدخل الجنة بشفاعة رجل من هذه الأمة مثل ربيعة ومضر وفي رواية أبي قلابة أكثر من بني تميم، وقال الحسن كنا نتحدث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته، ثم قال عز وجل: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي والحال المنتظرة هي هذه الموصوفة، وقوله تعالى في صفة الكفار المعرضين بتول واجتهاد في نفور كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ إثبات لجهالتهم لأن الحمر من جاهل الحيوان جدا، وقرأ الأعمش:
«حمر» بإسكان الميم، وفي حرف ابن مسعود «حمر نافرة»، وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم:
«مستنفرة» بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، واختلف عن نافع وعن الحسن والأعرج ومجاهد، فأما فتح الفاء فمعناها استنفرها فزعها من القسورة، وأما كسر الفاء فعلى أن نفر واستنفر بمعنى واحد مثل عجب واستعجب وسخر واستسخر فكأنها نفرت هي، ويقوي ذلك قوله تعالى: فَرَّتْ وبذلك رجح أبو علي قراءة كسر الفاء، واختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: «القسورة» الرماة، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: «القسورة» الأسد، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
مضمر تحذره الأبطال... كأنه القسورة الرئبال
وقال ابن جبير: «القسورة» : رجال القنص، وقاله ابن عباس أيضا، وقيل: «القسورة» ركز الناس، وقيل: «القسورة» الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا... أتانا الرجال العاندون القساور
وقال ثعلب: «القسورة» سواد أول الليل خاصة لآخره أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر، وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً معناه من هؤلاء المعارضين، أي يريد كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله، وكان هذا من قول عبد الله بن أبي أمية وغيره. وروي أن
«منشرة» بسكون النون وتخفيف الشين، وهذا على أن يشبه نشرت الثوب بأنشر الله الميت إذا لطى كالموت، وقد عكس التيمي التشبيه في قوله: [الكامل]
ردت صنائعه عليه حياته | فكأنه من نشرها منشور |
أن الله تعالى أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى ونقمه التي لا تدفع لأن يتقى ويطاع ويحذر عصيانه وخلاف أمره، وأنه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتقوه، وروى أنس بن مالك أن النبي ﷺ فسر هذه الآية فقال: يقول ربكم جلت قدرته وعظمته: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله غيري ومن اتقى أن يجعل معي إلها غيري فأنا أغفر له، وقال قتادة: معنى الآية هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب.
نجز تفسير سورة المدثر والحمد لله كثيرا.
سورة المدثر
سورة (المُدثِّر) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (المُزمِّل)، وقد جاء فيها أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخَلْقِ إلى الإيمان، وتقريرُ صعوبة يوم القيامة على أهل الكفر والعصيان، وتهديدُ الوليد بن المغيرة بنقضِ القرآن، وبيانُ عدد زبانية النِّيران، وأن كلَّ أحد رهنُ الإساءة والإحسان، ومَلامةُ الكفار على إعراضهم عن الإيمان، وذِكْرُ وعدِ الكريم بالرحمة والغفران.
ترتيبها المصحفي
74نوعها
مكيةألفاظها
256ترتيب نزولها
4العد المدني الأول
55العد المدني الأخير
55العد البصري
56العد الكوفي
56العد الشامي
55قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّرُوني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).
* قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ الوليدَ بنَ المُغيرةِ جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ عليه القرآنَ، فكأنَّه رَقَّ له، فبلَغَ ذلك أبا جهلٍ، فأتاه فقال: يا عَمِّ، إنَّ قومَك يرَوْنَ أن يَجمَعوا لك مالًا، قال: لِمَ؟ قال: ليُعطُوكَه؛ فإنَّك أتَيْتَ مُحمَّدًا لِتَعرَّضَ لِما قِبَلَه، قال: قد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنِّي مِن أكثَرِها مالًا! قال: فقُلْ فيه قولًا يبلُغُ قومَك أنَّك مُنكِرٌ له، أو أنَّك كارهٌ له، قال: وماذا أقول؟! فواللهِ، ما فيكم رجُلٌ أعلَمُ بالأشعارِ منِّي، ولا أعلَمُ برَجَزِه ولا بقَصِيدِه منِّي، ولا بأشعارِ الجِنِّ، واللهِ، ما يُشبِهُ الذي يقولُ شيئًا مِن هذا، وواللهِ، إنَّ لِقولِه الذي يقولُ حلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّه لَمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفَلُه، وإنَّه لَيعلو، وما يُعلَى، وإنَّه لَيَحطِمُ ما تحته، قال: لا يَرضَى عنك قومُك حتى تقولَ فيه، قال: فدَعْني حتى أُفكِّرَ، فلمَّا فكَّرَ، قال: هذا سِحْرٌ يُؤثَرُ، يأثُرُه مِن غيرِه؛ فنزَلتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]». أخرجه الحاكم (3872).
* سورة (المُدثِّر):
سُمِّيت سورة (المُدثِّر) بهذا الاسم؛ لوصفِ الله نبيَّه بهذا اللفظ في أوَّل السورة.
و(المُدثِّر): هو لابِسُ الدِّثار، وفي ذلك إشارةٌ إلى حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّروني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).
1. إرشاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَدْءِ الدعوة (١-١٠).
2. تهديد زعماءِ الكفر (١١-٣٠).
3. الحِكْمة في اختيار عدد خَزَنة جهنَّم (٣١-٣٧).
4. الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرِمين (٣٨-٥٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /454).
يقول ابن عاشور عما جاء فيها من مقاصدَ:
«تكريمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وَحْدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهُّر الحِسِّي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد مَن تصدى للطعن في القرآن، وزعم أنه قولُ البشر.
ووصف أهوال جهنَّم.
والرد على المشركين الذين استخَفُّوا بها، وزعموا قلةَ عدد حفَظتِها.
وتَحدِّي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عددَ حفَظتِها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهلِ الصلاة، والزكاة، والتصديق بيوم الجزاء». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /293).