هذه السورة مكية، قال ابن عطية بإجماع. وفي التحرير، قال مقاتل : إلا آية وهي :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾.
ومناسبتها لما قبلها أن في ما قبلها ﴿ ذَرْنِي وَالْمُكَذّبِينَ ﴾، وفيه ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ﴾ فناسب ﴿ يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾، وناسب ذكر يوم القيامة بعد، وذكر بعض المكذبين في قوله :﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ﴾.
قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني، نزلت ﴿ يا أيها المدثر ﴾.
ﰡ
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٥٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤)
إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩)
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ».
النَّقْرُ: الصَّوْتُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أُخَفِّضُهُ بِالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُهُ | وَيَرْفَعُ طَرْفًا غَيْرَ خَافٍ غَضِيضِ |
أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إِذْ جَدَّ النَّقْرُ يُرِيدُ النَّقْرَ، فَنَقَلَ الْحَرَكَةَ، فَالنَّاقُورُ فَاعُولٌ مِنْهُ، كَالْجَاسُوسِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّجَسُّسِ.
عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْسًا وَعُبُوسًا: قَطَّبَ، وَالْعَبْسُ: مَا تَعَلَّقَ بِأَذْنَابِ الْإِبِلِ مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا.
قَالَ أَبُو النَّجْمِ:
كَأَنَّ فِي أَذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ | مِنْ عبس الضيف قرون الإبل |
صَحِبْنَا تَمِيمًا غَدَاةَ الْجِفَارِ | بِشَهْبَا مَلُومَةً بَاسِرَهْ |
تَقُولُ مَا لَاحَكَ يَا مُسَافِرُ | يَا ابْنَةَ عَمِّي لَاحَنِي الْهَوَاجِرُ |
وَتَعْجَبُ هِنْدٌ إِنْ رَأَتْنِي شَاحِبًا | تَقُولُ لِشَيْءٍ لَوَّحَتْهُ السَّمَائِمُ |
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
سَقَتْنِي عَلَى لُوحٍ مِنَ الْمَاءِ شَرْبَةً | سَقَاهَا بِهِ اللَّهُ الرِّهَامَ الْغَوَادِيَا |
مُضْمَرٌ تَحَدَّرَهُ الْأَبْطَالُ | كَأَنَّهُ الْقَسْوَرَةُ الرِّيبَالُ |
إِذَا مَا هَتَفْنَا هَتْفَةً فِي نَدِيِّنَا | أَتَانَا الرِّجَالُ الصَّائِدُونَ الْقَسَاوِرُ |
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ، فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِإِجْمَاعٍ. وَفِي التَّحْرِيرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا آيَةً وَهِيَ:
وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي مَا قَبْلَهَا ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ «١»، وَفِيهِ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ «٢»، فَنَاسَبَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، وَنَاسَبْ ذِكْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَعْدُ، وَذَكَرَ بَعْضَ الْمُكَذِّبِينَ فِي قَوْلِهِ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.
قَالَ الْجُمْهُورُ: لَمَّا فَزِعَ مِنْ رُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرُعِبَ مِنْهُ، رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي دَثِّرُونِي، نَزَلَتْ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
قَالَ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وعائشة: نُودِيَ وَهُوَ فِي حَالٍ تَدَثُّرِهِ، فَدُعِيَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَدَثَّرَ فِي قَطِيفَةٍ. قِيلَ: وَكَانَ يَسْمَعُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا كَرِهَهُ، فَاغْتَمَّ وَتَغَطَّى بِثَوْبِهِ مُفَكِّرًا، فَأُمِرَ أَنْ لَا يَدَعَ إِنْذَارَهُمْ وَإِنْ أَسْمَعُوهُ وَآذَوْهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ لِلنُّبُوَّةِ وَأَثْقَالِهَا، كَمَا قَالَ فِي
(٢) سورة المزمل: ٧٣/ ١٩. [.....]
قُمْ فَأَنْذِرْ: أَيْ قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أَوْ قُمْ بِمَعْنَى الْأَخْذِ فِي الشَّيْءِ، كَمَا تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ يَضْرِبُ عَمْرًا، أَيْ أَخَذَ، وَكَمَا قَالَ:
عَلَامَ قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ أَيْ أَخَذَ، وَالْمَعْنَى قُمْ قِيَامَ تَصْمِيمٍ وَجِدٍّ، فَأَنْذِرْ: أَيْ حَذِّرْ عَذَابَ اللَّهِ وَوَقَائِعَهُ، وَالْإِنْذَارُ عَامٌّ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَبَعَثَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: أَيْ فَعَظِّمْ كِبْرِيَاءَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاخْتَصَّ رَبُّكَ بِالتَّكْبِيرِ، وَهُوَ الْوَصْفُ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَأَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. انْتَهَى.
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، قَالَ: وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كَانَ فَلَا تَدَعْ تَكْبِيرَهُ. انْتَهَى. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّرَهُ النُّحَاةُ فِي قَوْلِكَ: زَيْدًا فَاضْرِبْ، قَالُوا تَقْدِيرُهُ: تَنَبَّهْ فَاضْرِبْ زَيْدًا، فَالْفَاءُ هِيَ جَوَابُ الْأَمْرِ، وَهَذَا الْأَمْرُ إِمَّا مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَإِمَّا الشَّرْطُ بَعْدَهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي فِيهِ عِنْدَ النُّحَاةِ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَيَقْبُحُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ الْمُؤْمِنِ نَجِسَةً، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا الثِّيَابُ حَقِيقَةً هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَابْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنْ ثِيَابِ الْمُصَلِّي. وَقِيلَ: تَطْهِيرُهَا: تَقْصِيرُهَا، وَمُخَالَفَةُ الْعَرَبِ فِي تَطْوِيلِ الثِّيَابِ وَجَرِّهِمُ الذُّيُولَ عَلَى سَبِيلِ الْفَخْرِ وَالتَّكَبُّرِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
ثُمَّ رَاحُوا عَبِقَ الْمِسْكُ بِهِمْ | يُلْحِفُونَ الْأَرْضَ هُدَّابِ الْأُزُرِ |
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، لَا جَنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ، مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ».
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الثِّيَابَ هُنَا مَجَازٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: تَطْهِيرُهَا أَنْ لَا تَكُونَ تَتَلَبَّسُ بِالْقَذَرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا: كَنَّى بِالثِّيَابِ عَنِ الْقَلْبِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تنسلي أَيْ قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ وَعَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْقَذَرِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
إِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ غَادِرٍ | لَبِسْتُ وَلَا مِنْ خِزْيَةٍ أَتَقَنَّعُ |
لاهم إِنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ | أَوْ ذَمَّ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ |
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ وَقَالَ آخَرُ:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طُهَارَى نَقِيَّةٌ | وَأَوْجُهُهُمْ بِيضٌ سَافِرٌ غِرَّانِ |
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ فَلَا نَرَى | لَهَا شَبَهًا إِلَّا النَّعَامَ الْمُنَفَّرَا |
وَيَحْيَى مَا يُلَائِمُ سوء خُلْقٍ | وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ حُرُّ |
وَقِيلَ: الْكَسْرُ لِلْبَيْنِ وَالنَّقَائِصِ وَالْفُجُورِ، وَالضَّمُّ لِصَنَمَيْنِ أَسَافٌ وَنَائِلَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ: لِلْأَصْنَامِ عُمُومًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرُّجْزُ: السُّخْطُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ، وَالْمَعْنَى فِي الْأَمْرِ: اثْبُتْ وَدُمْ عَلَى هَجْرِهِ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: الرُّجْزُ: الْإِثْمُ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: الْعَذَابُ، أَيِ اهْجُرْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا تَمْنُنْ، بِفَكِّ التَّضْعِيفِ وَالْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِشَدِّ النُّونِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: لَا تُعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَّ إذا أعطى. قال
لَا تَقُلْ دَعَوْتُ فَلَمْ أُجَبْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: لَا تُدْلِ بِعَمَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِنُبُوَّتِكَ، تَسْتَكْثِرُ بِأَجْرٍ أَوْ كَسْبٍ تَطْلُبُهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَمْنُنْ عَلَى اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرُ أَعْمَالَكَ وَيَقَعُ لَكَ بِهَا إِعْجَابٌ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مِنَ الْمَنِّ تَعْدَادُ الْيَدِ وَذِكْرُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ مَا حَمَّلْنَاكَ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، أَوْ تَسْتَكْثِرُ مِنَ الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: حَبْلٌ مَتِينٌ:
أَيْ ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: وَلَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا رَائِيًا لِمَا تُعْطِيهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَسْتَكْثِرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي الرَّفْعِ أَنْ تُحْذَفَ أن وَيَبْطُلُ عَمَلُهَا، كَمَا رُوِيَ: أَحْضَرُ الْوَغَى بِالرَّفْعِ. انْتَهَى، وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، وَلَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْهُ مَعَ صِحَّةِ الْحَالِ، أَيْ مُسْتَكْثِرًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ تَمْنُنْ، أَيْ لَا تَسْتَكْثِرُ، كَقَوْلِهِ:
يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ «١» فِي قِرَاءَةِ مَنْ جَزَمَ، بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: يَلْقَ»
، وَكَقَوْلِهِ:
مَتَّى تَأْتِنَا تُلَمِّمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا وَنَارًا تَأَجَّجَا |
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنْ تَسْتَكْثِرَ، بِإِظْهَارِ أَنْ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ: أَيْ لِوَجْهِ رَبِّكَ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ، فَيَتَنَاوَلُ الصَّبْرَ عَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، وَعَلَى أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ، وَعَلَى أَذَى الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، فَكُلٌّ مَصْبُورٌ عَلَيْهِ وَمَصْبُورٌ عَنْهُ يَنْدَرِجُ فِي الصَّبْرِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا نُقِرَ لِلتَّسَبُّبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَوْمٌ عَسِيرٌ يَلْقَوْنَ فِيهِ عَاقِبَةَ أَذَاهُمْ وَتَلْقَى عَاقِبَةَ صَبْرِكَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ فِي فَذلِكَ لِلْجَزَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ انْتَصَبَ إِذَا، وَكَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقَعَ يَوْمئِذٍ ظَرْفًا ليوم عَسِيرٌ؟ قُلْتُ: انْتَصَبَ إِذَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، عَسَرَ الْأَمْرُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالَّذِي أَجَازَ وقوع يومئذ ظرفا ليوم عَسِيرٌ أَنَّ الْمَعْنَى: فَذَلِكَ وقت النقر
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٦٤.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: فَإِذا، إذا متعلقة بأنذر، أَيْ فَأَنْذِرْهُمْ إِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورَةِ، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
يَجْرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَخْفَشُ أَنْ تَكُونَ إِذَا مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ فَذَلِكَ وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ. فَأَمَّا يَوْمئِذٍ فَظَرْفٌ لِذَلِكَ، وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْكَافِرِينَ بيسير، أَيْ غَيْرُ يَسِيرٍ، أَيْ غَيْرُ سَهْلٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ مَعْمُولِ الْعَامِلِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ غَيْرُ عَلَى الْعَامِلِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُهُمْ فَيَقُولُ: أَنَا بِزَيْدٍ غَيْرُ رَاضٍ.
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً: لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي مَالِهِ وَشَرَفِهِ فِي بَيْتِهِ. وَالظَّاهِرُ انْتِصَابُ وَحِيدًا عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ، أَيْ خَلَقْتُهُ مُنْفَرِدًا ذَلِيلًا قَلِيلًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدٌ، فَآتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَالَ وَالْوَلَدَ، فَكَفَرَ نِعْمَتَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِدِينِهِ.
وَقِيلَ: حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ النَّصْبِ فِي ذَرْنِي، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ ذَرْنِي وَحْدِي مَعَهُ، فَأَنَا أَجْزِيكَ فِي الِانْتِقَامِ مِنْهُ أَوْ حَالٌ مِنَ التَّاءِ فِي خَلَقْتُ، أَيْ خَلَقْتُهُ وَحْدِي لَمْ يُشْرِكْنِي فِي خَلْقِي أَحَدٌ، فَأَنَا أُهْلِكُهُ لَا أَحْتَاجُ إِلَى نَاصِرٍ فِي إِهْلَاكِهِ. وَقِيلَ: وَحِيدًا لَا يُتَبَيَّنُ أَبُوهُ. وَكَانَ الْوَلِيدُ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ دَعِيٌّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «١»، وَإِذَا كَانَ يُدْعَى وَحِيدًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ وَحِيدًا لَا نَظِيرَ لَهُ.
وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمَّا لُقِّبَ بِذَلِكَ صَارَ عَلَمًا، وَالْعَلَمُ لَا يُفِيدُ فِي الْمُسَمَّى صِفَةً، وأَيْضًا فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي الْكُفْرِ وَالْخُبْثِ وَالدَّنَاءَةِ.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ له بين مكة والطائف إِبِلٌ وَحُجُورٌ وَنِعَمٌ وَجِنَانٌ وعبيد وَجَوَارٍ. وَقِيلَ: كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ وَضَرْعٍ وَتِجَارَةٍ. وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ:
الْمَالُ الْمُدُودُ هُوَ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا مُدَّتْ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ الرَّيْعُ الْمُسْتَغَلُّ مُشَاهَرَةً، فَهُوَ مَدٌّ فِي الزَّمَانِ لَا يَنْقَطِعُ. وَقِيلَ: هُوَ مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ وَاضْطَرَبُوا فِي
أي حضورا معه بمكة لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ لِغِنَاهُمْ فَهُوَ مُسْتَأْنِسٌ بِهِمْ، أَوْ شُهُودًا: أَيْ رِجَالًا يَشْهَدُونَ مَعَهُ الْمَجَامِعَ وَالْمَحَافِلَ، أَوْ تُسْمَعُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا يُتَحَاكَمُ فِيهِ وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهِمْ، فَذُكِرَ مِنْهُمْ: خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَعِمَارَةُ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَالْوَلِيدُ وَالْعَاصِي وَقَيْسٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَ نُزُولِهَا فِي نَقْصٍ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ.
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً: أَيْ وَطَّأْتُ وَهَيَّأْتُ وَبَسَطْتُ لَهُ بِسَاطًا حَتَّى أَقَامَ بِبَلْدَتِهِ مُطْمَئِنًّا يُرْجَعُ إِلَى رَأْيِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَّعْتُ لَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ إِلَى الشَّامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَهَّدْتُ لَهُ الْمَالَ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا يُمَهَّدُ الْفِرَاشُ. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ: أَيْ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ. كَلَّا: أَيْ لَيْسَ يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ بِالنِّعَمِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إن كان محمدا صَادِقًا فَمَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ إِلَّا لِي.
ثُمَّ يَطْمَعُ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اسْتِبْعَادٌ لِطَمَعِهِ وَاسْتِنْكَارٌ، أَيْ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا أُوتِيَ كَثْرَةً وَسَعَةً، كَلَّا: قَطْعٌ لِرَجَائِهِ وَرَدْعٌ. انْتَهَى. وَطَمَعُهُ فِي الزِّيَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَبْشَعِهِ وَحُبِّهِ لِلدُّنْيَا. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً: تَعْلِيلٌ لِلرَّدْعِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: لِمَ لَا يُزَادُ؟ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ يُعَانِدُ آيَاتِ الْمُنْعِمِ وَكَفَرَ بِذَلِكَ، وَالْكَافِرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَزِيدَ وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً إِلَى آخِرِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِهِ فِي الْقُرْآنِ وَزَعْمِهِ أَنَّهُ سِحْرٌ.
سَأُرْهِقُهُ: أَيْ سَأُكَلِّفُهُ وَأُعْنِتُهُ بِمَشَقَّةٍ وَعُسْرٍ، صَعُوداً: عَقَبَةً فِي جَهَنَّمَ، كُلَّمَا وُضِعَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْإِنْسَانِ ذَابَ ثُمَّ يَعُودُ، وَالصَّعُودُ فِي اللُّغَةِ: الْعَقَبَةُ الشَّاقَّةُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ عَنِيدٍ فِي سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ:
رُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ حَاجَّ أَبَا جَهْلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ، فَخَالَفُوهُ وَقَالُوا: هُوَ شِعْرٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ هَزَجَهُ وَبَسِيطَهُ، قَالُوا: فَهُوَ كَاهِنٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهَّانَ، قَالُوا: هُوَ مَجْنُونٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْمَجْنُونَ وَخَنْقَهُ، قَالُوا: هُوَ سِحْرٌ، قَالَ: أَمَّا هَذَا فَيُشْبِهُ أَنَّهُ سِحْرٌ وَيَقُولُ أَقْوَالَ نَفْسِهِ.
وَرُوِيَ هَذَا بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ هذا وَيَقْرُبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى،
وَفِيهِ: وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْكَذِبِ؟ فَقَالُوا: فِي
وَرُوِيَ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أَعْجَبَهُ وَمَدَحَهُ، ثُمَّ سَمِعَ كَذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى كَادَ أَنْ يُقَارِبَ الْإِسْلَامَ. وَدَخَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِرَارًا، فَجَاءَهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا وَلِيدُ، أَشَعَرْتَ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ ذَمَّتْكَ بِدُخُولِكَ إِلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَزَعَمَتْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَقْصِدُ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامَهُ؟ وَقَدْ أَبْغَضَتْكَ لِمُقَارَبَتِكَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ، وَمَا يُخَلِّصُكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا الْكَلَامِ قَوْلًا يُرْضِيهِمْ، فَفَتَنَهُ أَبُو جَهْلٍ فَافْتَتَنَ وَقَالَ: أَفْعَلُ. إِنَّهُ فَكَّرَ: تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. قِيلَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّهُ فَكَّرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً، بَيَانًا لِكُنْهِ عِنَادُهُ وَفَكَّرَ، أَيْ فِي الْقُرْآنِ وَمَنْ أَتَى بِهِ، وقَدَّرَ: أَيْ فِي نَفْسِهِ مَا يَقُولُ فِيهِ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، قُتِلَ: لُعِنَ، وَقِيلَ: غُلِبَ وَقُهِرَ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:
لسهميك في أعسار قَلْبٍ مُقَتَّلِ أَيْ مُذَلَّلٌ مَقْهُورٌ بِالْحُبِّ، فَلُعِنَ دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ وَغُلِبَ، وَذَلِكَ إِخْبَارٌ بِقَهْرِهِ وَذِلَّتِهِ، وكَيْفَ قَدَّرَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ قَدَّرَ مَا لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ وَمَا لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَدِّرَهُ عَاقِلٌ؟
وَقِيلَ: دُعَاءٌ مُقْتَضَاهُ الِاسْتِحْسَانُ وَالتَّعَجُّبُ. فَقِيلَ ذَلِكَ لِمَنْزَعِهِ الْأَوَّلِ فِي مَدْحِهِ الْقُرْآنَ، وَفِي نَفْيِهِ الشِّعْرَ وَالْكَهَانَةَ وَالْجُنُونَ عَنْهُ، فَيَجْرِي مَجْرَى قَوْلِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ: قَاتَلَ اللَّهُ كُثَيِّرًا، كَأَنَّهُ رَآنَا حِينَ قَالَ كَذَا. وَقِيلَ: ذَلِكَ لِإِصَابَتِهِ مَا طَلَبَتْ قُرَيْشٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: ذَلِكَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ حِكَايَةٌ لِمَا كَرَّرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، تَهَكُّمًا بِهِمْ وَبِإِعْجَابِهِمْ بِتَقْدِيرِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِقَوْلِهِ، وَهَذَا فِيهِ بَعْدُ. وَقَوْلُهُمْ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّهُ يُقَالُ عِنْدَ اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ الْمَبْلَغَ الَّذِي يُحْسَدُ عَلَيْهِ وَيُدْعَى عَلَيْهِ مِنْ حُسَّادِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِي كَيْفَ قَدَّرَ فِي مَعْنَى: مَا أَعْجَبَ تَقْدِيرَهُ وَمَا أَغْرَبَهُ، كَقَوْلِهِمْ: أَيُّ رَجُلٍ زَيْدٌ؟ أَيْ مَا أَعْظَمَهُ.
وَجَاءَ التَّكْرَارُ بِثُمَّ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَةَ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى لِلتَّرَاخِي الَّذِي بَيْنَهُمَا، كَأَنَّهُ دَعَى عَلَيْهِ أَوَّلًا وَرَجَى أَنْ يُقْلِعَ عَنْ مَا كَانَ يَرُومُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَدَعَى عَلَيْهِ ثَانِيًا، ثُمَّ نَظَرَ:
أَيْ فَكَّرَ ثَانِيًا. وَقِيلَ: نَظَرَ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ: أَيْ قَطَّبَ وَكَلَحَ لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْحِيَلُ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ. وَقِيلَ: قَطَّبَ فِي وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَدْبَرَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقِيلَ: أَدْبَرَ عَنِ الْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ، قِيلَ: تَشَارَسَ مُسْتَكْبِرًا، وَقِيلَ: اسْتَكْبَرَ عَنِ
وَكَانَ الْعَطْفُ فِي وَبَسَرَ وَفِي وَاسْتَكْبَرَ، لِأَنَّ الْبُسُورَ قَرِيبٌ مِنَ الْعُبُوسِ، فَهُوَ كَأَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ وَالِاسْتِكْبَارِ يَظْهَرُ أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِدْبَارِ، إِذِ الِاسْتِكْبَارُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ، وَالْإِدْبَارُ حَقِيقَةٌ مِنْ فِعْلِ الْجِسْمِ، فَهُمَا سَبَبٌ وَمُسَبِّبٌ، فَلَا يُعْطَفُ بِثُمَّ وَقَدَّمَ الْمُسَبِّبَ عَلَى السَّبَبِ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ لِلَعَيْنِ، وَنَاسَبَ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ وَكَانَ الْعَطْفُ فِي فَقَالَ بِالْفَاءِ دَلَالَةً عَلَى التَّعْقِيبِ، لِأَنَّهُ لَمَّا خَطَرَ بِبَالِهِ هَذَا الْقَوْلُ بَعْدَ تَطَلُّبِهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ نَطَقَ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَمَهُّلٍ.
وَمَعْنَى يُؤْثَرُ: يُرْوَى وَيُنْقَلُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَقُلْتُ مِنَ الْقَوْلِ مَا لَا يَزَا | لُ يُؤْثَرُ عَنِّي بِهِ الْمُسْنَدُ |
أَيْ لَا تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقِيَ فِيهَا، وَلَا تَذْرُ غَايَةً مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَوْصَلَتْهُ إِلَيْهِ.
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو رَزِينٍ وَالْجُمْهُورُ: معناه مغيرة
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ: التَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ، وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّهُ مَلَكٌ. أَلَا تَرَى الْعَرَبَ وَهُمُ الْفُصَحَاءُ كَيْفَ فَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَلَكٌ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَسْمَعُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمُ الدُّهْمُ، أَيَعْجِزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَبْطِشُوا بِرَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَشَدِّ بْنُ أُسَيْدٍ بْنِ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ فَاكْفُونِي أَنْتُمُ اثْنَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أَيْ مَا جَعَلْنَاهُمْ رِجَالًا مِنْ جِنْسِكُمْ يُطَاقُونَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «٣». وَقِيلَ: التَّمْيِيزُ الْمَحْذُوفُ صِنْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: نَقِيبًا، وَمَعْنَى عَلَيْهَا يَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهَا وَإِلَيْهِمْ جِمَاعُ زَبَانِيَتهَا، فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْعَدَدِ وَمِنَ الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ النُّقَبَاءُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ،
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» ؟
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ نُعُوتِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَخَلْقِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَمَا أَقْدَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ حُكْمًا عَلَى زَعْمِهِ فِي كَوْنِ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تِسْعَةَ عَشَرَ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى الْفَتْحِ عَلَى مَشْهُورِ اللُّغَةِ فِي هَذَا الْعَدَدِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ، كَرَاهَةَ تَوَالِي الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ قُطَيْبٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ قُنَّةَ: بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ حَرَكَةُ بِنَاءٍ عُدِلَ إِلَيْهَا عَنِ الْفَتْحِ لِتَوَالِي خَمْسِ فَتَحَاتٍ، وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا حَرَكَةُ إِعْرَابٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حركة إعراب
(٢) سورة النازعات: ٧٩/ ٣٦.
(٣) سورة القيامة: ٧٥/ ٣٤.
مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ | فَلَمْ أَرَ أَمْثَالًا لَهَا يَوْمَ حَلَّتِ |
وَكَانُوا ثِمَالًا ثُمَّ عَادُوا رَزِيَّةً | لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتِ |
وَيَقُولُونَ هَذَا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ، يَقْوُونَ بِتَعْذِيبِ أَكْثَرِ الْعَالَمِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مِنْ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ جَعَلَ افْتِتَانَ الْكَافِرِينَ بِعِدَّةِ الزَّبَانِيَةِ سَبَبًا لِاسْتِيقَانِ
قُلْتُ: مَا جَعَلَ افْتِتَانِهُمْ بِالْعِدَّةِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْعِدَّةُ نَفْسُهَا هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ فَوَضَعَ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَوْضِعَ تِسْعَةَ عَشَرَ، لِأَنَّ حَالَ هَذِهِ الْعِدَّةِ النَّاقِصَةِ وَاحِدًا مِنْ عَقْدِ الْعِشْرِينَ، أَنْ يَفْتَتِنَ بِهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِحِكْمَتِهِ وَيَعْتَرِضُ ويستهزىء وَلَا يُذْعِنُ إِذْعَانَ الْمُؤْمِنِ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَقَدْ جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ عِدَّةً مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُفْتَتَنَ بِهَا لِأَجْلِ اسْتِيقَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَحَيْرَةِ الْكَافِرِينَ. انْتَهَى، وَهُوَ سُؤَالٌ عَجِيبٌ وَجَوَابٌ فِيهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِلَّا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَهَذَا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عَاقِلٌ وَلَا مِنْ لَهُ أَدْنَى ذَكَاءٍ وَكَفَى ردًّا عَلَيْهِ تَحْرِيفُ كِتَابِ اللَّهِ وَوَضْعِ أَلْفَاظٍ مُخَالِفَةٍ لِأَلْفَاظٍ وَمَعْنًى مُخَالِفٍ لِمَعْنًى. وَقِيلَ: لِيَسْتَيْقِنَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ. وَلا يَرْتابَ: تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ لِيَسْتَيْقِنَ، إِذْ إِثْبَاتُ الْيَقِينِ وَنَفْيُ الِارْتِيَابِ أَبْلَغُ وَآكَدُ فِي الْوَصْفِ لِسُكُونِ النَّفْسِ السُّكُونِ التَّامِّ.
والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: السُّورَةُ مكية، ولم يكن بمكة نِفَاقٌ، وَإِنَّمَا الْمَرَضُ فِي الْآيَةِ: الِاضْطِرَابُ وَضَعْفُ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، أَيْ وَلِيَقُولَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُنَجِّمُونَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بالمدينة بَعْدَ الْهِجْرَةِ:
مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْعَدَدَ لَمْ يَهْتَدُوا وَحَارُوا، فَاسْتَفْهَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَسَمَّوْهُ مَثَلًا اسْتِعَارَةً مِنَ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ اسْتِغْرَابًا مِنْهُمْ لِهَذَا الْعَدَدِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ الْعَجِيبِ؟ وَمُرَادُهُمْ إِنْكَارُ أَصْلِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِعْرَابِ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ، كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ، إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ، فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً، كَلَّا بَلْ
الْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ مَعْنَى الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِضْلَالِ وَالْهُدَى، يُضِلُّ الْكَافِرِينَ فَيَشُكُّونَ فَيَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا، وَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَيَزِيدُهُمْ إِيمَانًا. وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ: إِعْلَامٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ مَا يُتَوَهَّمُ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ بَعْضِ الْقُدْرَةِ لَا عَنْ كُلِّهَا، وَالسَّمَاءُ عَامِرَةٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ سَاجِدًا».
وَما هِيَ: أَيِ النَّارُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَوِ الْمُخَاطَبَةُ وَالنِّذَارَةُ، أَوْ نَارُ الدُّنْيَا، أَوِ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ، أَوِ الْعِدَّةُ التِسْعَةَ عَشَرَ، أَوِ الْجُنُودُ، أَقْوَالٌ رَاجِحُهَا الْأَوَّلُ وَهِيَ سَقَرُ، ذَكَّرَ بِهَا الْبَشَرَ لِيَخَافُوا وَيُطِيعُوا. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ النَّارِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ: أَيِ الَّذِينَ أُهِّلُوا لِلتَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ.
كَلَّا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَلَّا إِنْكَارٌ بَعْدَ أَنْ جَعَلَهَا ذِكْرَى، أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى لِأَنَّهُمْ لَا يَتَذَكَّرُونَ. انْتَهَى. وَلَا يَسُوغُ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهَا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، ثُمَّ يُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ ذِكْرَى، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ: لِلْبَشَرِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ رَدْعٌ لِمَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا. وَقِيلَ: رَدْعٌ لِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى مُقَاوَمَةِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ. وَقِيلَ: رَدْعٌ عَنِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِدَّةِ الْمَخْصُوصَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ صِلَةٌ لِلْقَسَمِ، وَقَدَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِحَقًّا، وَبَعْضُهُمْ بِأَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي آخِرِ سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ.
وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ: أَيْ وَلَّى، وَيُقَالُ دَبَرَ وَأَدْبَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. أَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا يَظْهَرُ بِهَا وَفِيهَا مِنْ عَجَائِبِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِوَامُ الْوُجُودِ بِإِيجَادِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَأَبُو الزناد وقتادة وَعُمَرُ بْنُ الْعَزِيزُ وَالْحَسَنُ وطلحة والنحويان والابنان وأبوبكر: إِذَا ظَرْفُ زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ دَبَرَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ: بِخِلَافٍ عَنْهُمْ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْأَعْرَجُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو شَيْخٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ: إِذْ ظَرْفُ زَمَانٍ مَاضٍ، أَدْبَرَ رُبَاعِيًّا وَالْحَسَنُ أَيْضًا وَأَبُو رَزِينٍ وَأَبُو رَجَاءٍ وَابْنُ يَعْمُرَ أيضا والسلمي أيضا وطلحة أَيْضًا وَالْأَعْمَشُ وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ وَمَطَرٌ: إِذَا بِالْأَلْفِ، أَدْبَرَ بِالْهَمْزِ، وَكَذَا هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: إِذا أَسْفَرَ، وَيُقَالُ: كَأَمْسُ الدَّابِرِ وَأَمْسُ الْمُدْبِرُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْفَرَ رباعيا وَابْنُ السَّمَيْفَعِ وَعِيسَى بْنُ الْفَضْلِ: سَفَرَ ثُلَاثِيًّا، وَالْمَعْنَى:
طَرَحَ الظُّلْمَةَ عَنْ وَجْهِهِ.
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إِنَّهَا عَائِدٌ عَلَى النَّارِ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلنِّذَارَةِ، وَأَمْرُ الْآخِرَةِ فَهُوَ لِلْحَالِ وَالْقِصَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّ قِيَامَ السَّاعَةِ لَإِحْدَى الْكُبَرِ، فَعَادَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَمَعْنَى إِحْدَى الْكُبَرِ: الدَّوَاهِي الْكُبَرِ، أَيْ لَا نَظِيرَ لَهَا، كَمَا تَقُولُ:
هُوَ أَحَدُ الرِّجَالِ، وَهِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ، وَالْكُبَرُ: الْعَظَائِمُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ.
وَقَالَ الرَّاجِزُ:
يَا ابْنَ الْمُعَلَّى نَزَلَتْ إِحْدَى الْكُبَرِ | دَاهِيَةُ الدَّهْرِ وَصْمَاءُ الْغِيَرِ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَإِحْدَى بِالْهَمْزِ، وَهِيَ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَصْلُهُ لَوِحْدَى، وَهُوَ بَدَلٌ لَازِمٌ. وَقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ حَذْفٌ لَا يَنْقَاسُ، وَتَخْفِيفُ مِثْلِ هَذِهِ الْهَمْزَةِ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ جَوَابٌ لِلْقَسَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أو تعليل لكلا، وَالْقَسَمُ مُعْتَرِضٌ لِلتَّوْكِيدِ. انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نَذِيراً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ، كَالنَّكِيرِ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، فَيَكُونُ تَمْيِيزًا: أَيْ لَإِحْدَى الْكُبَرِ إِنْذَارًا، كَمَا تَقُولُ: هِيَ إِحْدَى النِّسَاءِ عَفَافًا. كَمَا ضُمِّنَ إِحْدَى مَعْنَى أَعْظَمَ، جَاءَ عَنْهُ التَّمْيِيزُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَصْدَرٌ نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيِ أَنْذِرْ إِنْذَارًا. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمَ فَاعِلٍ بِمَعْنَى مُنْذِرٍ. فَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِنَّهَا. وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي إِحْدَى، وَمَنْ جَعَلَهُ متصلا بقم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ بفأنذر فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، أَوْ حَالًا مِنْ الْكُبَرِ، أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْكُبَرِ، فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الصَّوَابِ. قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ تَقْدِيرُهُ: عَظُمَتْ نَذِيرًا. انْتَهَى، وَهُوَ قَوْلٌ لَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَحُذِفَتِ الْهَاءُ مِنْ نَذِيرًا، وَإِنْ كَانَ لِلنَّارِ عَلَى مَعْنَى النَّسَبِ، يَعْنِي ذَاتَ الْإِنْذَارِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَعْنِي نَذِيرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ:
لِأُنْذِرَ، إِذْ هِيَ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْتَضِي أَنَّ نَذِيرًا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِ الرفع بالابتداء، ولِمَنْ شاءَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَوَضَّأَ: أَنْ يُصَلِّيَ، وَمَعْنَاهُ مُطْلَقٌ لِمَنْ شَاءَ التَّقَدُّمَ أَوِ التَّأَخُّرَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. وَالْمُرَادُ بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ: السَّبْقُ إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّخَلُّفُ عَنْهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ. انْتَهَى، وَهُوَ مَعْنَى لَا يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وَفِيهِ حَذْفٌ. قِيلَ:
وَالتَّقَدُّمُ: الْإِيمَانُ، وَالتَّأَخُّرُ: الْكُفْرُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى النَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْمَأْمُورَاتِ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ نَفْسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ نَفْسٍ حَقِيقٌ عَلَيْهَا الْعَذَابُ، وَلَا يَرْتَهِنُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَرَهِينَةٌ بِمَعْنَى رَهْنٍ، كَالشَّتِيمَةِ بِمَعْنَى الشَّتْمِ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّهَا بِغَيْرِ تَاءٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، نَحْوُ: رَجُلٌ قَتِيلٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ، فَالْمَعْنَى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهْنٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبْعَدَ الَّذِي بِالنَّعْفِ نَعِفِ كُوَيْكِبٍ | رَهِينَةُ رَمْسٍ ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ |
(٢) سورة الطور: ٥٢/ ٢١.
فَأَمَّا الَّذِي فِي الْبَيْتِ فَأُنِّثَ عَلَى مَعْنَى النَّفْسِ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا، أَيْ لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُخْلِصُونَ، لَيْسُوا بِمُرْتَهَنِينَ لِأَنَّهُمْ أَدُّوا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِ الضَّحَّاكِ الَّذِي تَقَدَّمَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُمْ فَكُّوا عَنْهُ رِقَابَهُمْ بِمَا أَطَابُوهُ مِنْ كَسْبِهِمْ، كَمَا يُخَلِّصُ الرَّاهِنُ رَهْنَهُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ فِي جَنَّاتٍ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ: أَيْ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَكُونُ يَتَسَاءَلُ بِمَعْنَى يَسْأَلُ، أَيْ يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ غَيْرَهُمْ، كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُهُ وَتَدَاعَوْتُهُ بِمَعْنَاهُ. وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ كَيْفَ جَاءَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بِالْخِطَابِ لِلْمُجْرِمِينَ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، الْمَعْنَى: أَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَوْ يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ عَنْ مَنْ غَابَ مِنْ مَعَارِفِهِمْ، فَإِذَا عَرَفُوا أَنَّهُمْ مُجْرِمُونَ فِي النَّارِ قَالُوا لَهُمْ، أَوْ قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: هَكَذَا قَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ قَائِلِينَ لَهُمْ بَعْدَ التَّسَاؤُلِ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ طَابَقَ قَوْلُهُ: مَا سَلَكَكُمْ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ لِلْمُجْرِمِينَ، قَوْلَهُ: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ؟ وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ يُطَابِقُ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ؟ قُلْتُ: مَا سَلَكَكُمْ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلتَّسَاؤُلِ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَسْئُولِينَ عَنْهُمْ، لِأَنَّ الْمَسْئُولِينَ يُلْقُونَ إِلَى السَّائِلِينَ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُجْرِمِينَ فَيَقُولُونَ: قُلْنَا لَهُمْ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، إِلَّا أَنَّ الْكَلَامَ جِيءَ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ، كَمَا هُوَ نَهْجُ التَّنْزِيلِ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ.
انْتَهَى، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السَّائِلِينَ هُمُ الْمُتَسَائِلُونَ، وَمَا سَلَكَكُمْ عَلَى إِضْمَارِ الْقَوْلِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَسُؤَالُهُمْ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَهُمْ وَتَحْقِيرٍ، وَإِلَّا فَهِمَ عَالِمُونَ مَا الَّذِي أَدْخَلَهُمُ النَّارَ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِخَصَائِلِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ ارْتَقَوْا مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْأَعْظَمِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «١»، ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «٢». وَالْيَقِينُ: أَيْ يَقِينًا عَلَى إِنْكَارِ يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَيْ وَقْتَ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْيَقِينُ عِنْدِي صِحَّةُ مَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْيَقِينُ: الْمَوْتُ، وَذَلِكَ عِنْدِي هُنَا متعقب، لأن نفس
(٢) سورة البلد: ٩٠/ ١٧.
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ. وَتَخْصِيصُهُمْ بِانْتِفَاءِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شَفَاعَاتٌ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ:
وَهِيَ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ الَّتِي تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، مُعْرِضِينَ: أَيْ وَالْحَالُ الْمُنْتَظَرَةُ هَذِهِ الْمَوْصُوفَةُ.
ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ فِي شِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَآيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حُمُرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْأَعْمَشُ: بِإِسْكَانِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ، شَبَّهَهُمْ تَعَالَى بِالْحُمُرِ مَذَمَّةً وَتَهْجِينًا لَهُمْ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مُسْتَنْفِرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى: اسْتَنْفَرَهَا: فَزَعُهَا مِنَ الْقَسْوَرَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ:
بِكَسْرِهَا، أَيْ نَافِرَةٌ نَفَرَ، وَاسْتَنْفَرَ بمعنى عجب واستعجب وسر وَاسْتَسْخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَمْسِكْ حِمَارَكَ إِنَّهُ مُسْتَنْفِرٌ | فِي إِثْرِ أَحْمِرَةٍ عَهِدْنَ لَعُرَّبِ |
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ: أَيْ مِنَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ عِظَاتِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ،
أَنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ نَتَّبِعَكَ حَتَّى يُؤْتَى كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَّا بِكِتَابٍ مِنَ السَّمَاءِ عُنْوَانُهُ: مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، يُؤْمَرُ فِيهَا بِاتِّبَاعِكَ، وَنَحْوُهُ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «١». وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: إِنْ كَانَ يُكْتَبُ فِي صُحُفٍ مَا يَعْمَلُ كُلُّ إِنْسَانٍ، فَلْتُعْرَضْ تِلْكَ الصُّحُفُ عَلَيْنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صُحُفاً بِضَمِّ الصَّادِ وَالْحَاءِ، مُنَشَّرَةً مُشَدَّدًا وَابْنُ جُبَيْرٍ: بِإِسْكَانِهَا مُنْشَرَةً مُخَفَّفًا، وَنَشَرَ وَأَنْشَرَ مِثْلَ نَزَلَ وَأَنْزَلُ. شَبَّهَ نَشْرَ الصَّحِيفَةِ بِإِنْشَارِ اللَّهِ الموتى، فعبر عنه بمنشرة مِنْ أَنُشِرَتْ، وَالْمَحْفُوظُ فِي الصَّحِيفَةِ وَالثَّوْبِ نُشِرَ مُخَفَفًّا ثُلَاثِيًّا، وَيُقَالُ فِي الْمَيِّتِ: أَنْشَرَهُ اللَّهُ فَنُشِرَ هُوَ، أَيْ أَحْيَاهُ فَحَيِيَ.
كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِرَادَتِهِمْ تِلْكَ وَزَجْرٌ لَهُمْ عَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، بَلْ لَا يَخافُونَ الْآخِرَةَ، وَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنِ التَّذْكِرَةِ لَا لِامْتِنَاعِ إِيتَاءِ الصُّحُفِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
يَخافُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِتَاءِ الْخِطَابِ الْتَفَاتًا. كَلَّا: رَدْعٌ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ، إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ: ذِكْرٌ فِي إِنَّهِ وَفِي ذِكْرِهِ، لِأَنَّ التَّذْكِرَةَ ذِكْرٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَسَلَّامٌ وَيَعْقُوبُ: تَذْكِرَةٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ سَاكِنَةِ الذَّالِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وعيسى وَالْأَعْرَجُ: بِالْيَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَيْوَةَ: يَذَّكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَشَدِّ الذَّالِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: تَذَّكَّرُونَ بِالتَّاءِ وَإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الذَّالِ. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى: أَيْ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى وَيُخَافَ، وَأَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: «يَقُولُ لَكُمْ رَبُّكُمْ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَعَظَمَتُهُ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلُ يُتَّقَى إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِيَ إِلَهًا غَيْرِي فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ».
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يُقْسِرَهُمْ عَلَى الذِّكْرِ وَيُلْجِئَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ مَطْبُوعٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ اخْتِيَارًا.
سورة المدثر
سورة (المُدثِّر) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (المُزمِّل)، وقد جاء فيها أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخَلْقِ إلى الإيمان، وتقريرُ صعوبة يوم القيامة على أهل الكفر والعصيان، وتهديدُ الوليد بن المغيرة بنقضِ القرآن، وبيانُ عدد زبانية النِّيران، وأن كلَّ أحد رهنُ الإساءة والإحسان، ومَلامةُ الكفار على إعراضهم عن الإيمان، وذِكْرُ وعدِ الكريم بالرحمة والغفران.
ترتيبها المصحفي
74نوعها
مكيةألفاظها
256ترتيب نزولها
4العد المدني الأول
55العد المدني الأخير
55العد البصري
56العد الكوفي
56العد الشامي
55قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّرُوني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).
* قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ الوليدَ بنَ المُغيرةِ جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقرَأَ عليه القرآنَ، فكأنَّه رَقَّ له، فبلَغَ ذلك أبا جهلٍ، فأتاه فقال: يا عَمِّ، إنَّ قومَك يرَوْنَ أن يَجمَعوا لك مالًا، قال: لِمَ؟ قال: ليُعطُوكَه؛ فإنَّك أتَيْتَ مُحمَّدًا لِتَعرَّضَ لِما قِبَلَه، قال: قد عَلِمتْ قُرَيشٌ أنِّي مِن أكثَرِها مالًا! قال: فقُلْ فيه قولًا يبلُغُ قومَك أنَّك مُنكِرٌ له، أو أنَّك كارهٌ له، قال: وماذا أقول؟! فواللهِ، ما فيكم رجُلٌ أعلَمُ بالأشعارِ منِّي، ولا أعلَمُ برَجَزِه ولا بقَصِيدِه منِّي، ولا بأشعارِ الجِنِّ، واللهِ، ما يُشبِهُ الذي يقولُ شيئًا مِن هذا، وواللهِ، إنَّ لِقولِه الذي يقولُ حلاوةً، وإنَّ عليه لَطلاوةً، وإنَّه لَمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفَلُه، وإنَّه لَيعلو، وما يُعلَى، وإنَّه لَيَحطِمُ ما تحته، قال: لا يَرضَى عنك قومُك حتى تقولَ فيه، قال: فدَعْني حتى أُفكِّرَ، فلمَّا فكَّرَ، قال: هذا سِحْرٌ يُؤثَرُ، يأثُرُه مِن غيرِه؛ فنزَلتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدٗا} [المدثر: 11]». أخرجه الحاكم (3872).
* سورة (المُدثِّر):
سُمِّيت سورة (المُدثِّر) بهذا الاسم؛ لوصفِ الله نبيَّه بهذا اللفظ في أوَّل السورة.
و(المُدثِّر): هو لابِسُ الدِّثار، وفي ذلك إشارةٌ إلى حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «قال ﷺ: جاوَرْتُ بحِرَاءٍ، فلمَّا قضَيْتُ جِواري، هبَطْتُ، فنُودِيتُ، فنظَرْتُ عن يميني فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ عن شِمالي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ أمامي فلَمْ أرَ شيئًا، ونظَرْتُ خَلْفي فلَمْ أرَ شيئًا، فرفَعْتُ رأسي فرأَيْتُ شيئًا، فأتَيْتُ خديجةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصُبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فدثَّروني، وصَبُّوا عليَّ ماءً باردًا، قال: فنزَلتْ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3]». أخرجه البخاري (٤٩٢٢).
1. إرشاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بَدْءِ الدعوة (١-١٠).
2. تهديد زعماءِ الكفر (١١-٣٠).
3. الحِكْمة في اختيار عدد خَزَنة جهنَّم (٣١-٣٧).
4. الحوار بين أصحاب اليمين وبين المجرِمين (٣٨-٥٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /454).
يقول ابن عاشور عما جاء فيها من مقاصدَ:
«تكريمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وَحْدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهُّر الحِسِّي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد مَن تصدى للطعن في القرآن، وزعم أنه قولُ البشر.
ووصف أهوال جهنَّم.
والرد على المشركين الذين استخَفُّوا بها، وزعموا قلةَ عدد حفَظتِها.
وتَحدِّي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عددَ حفَظتِها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهلِ الصلاة، والزكاة، والتصديق بيوم الجزاء». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (29 /293).